نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل الخامسبعد مرور أسبوعين، انشغلت نور بعملها الجديد وانصب تركيزها ونشاطها كاملاً على التدريب، اليوم هو إجازة من التدريب وصادف أيضًا إجازة يوسف من عمله، يا لها من صدفة، فكرت لثواني وهي تبتسم ببلاهة أن ما حدث معها وطريقة مقابلتها له عبارة عن صدفة، اعترفت بداخلها أنها من أحسن الصدف التي حدثت لها، لم تقابل بحياتها رجل مثله، شهم يساعدها بقدر استطاعته.ورغم أنها ممتنة له إلا أنها منذ أن انشغلت بعملها وهي تقتصر معه الحديث، شجعت نفسها مَلِيًا أن هذا أفضل لها بالنهاية هو رجل غريب عنها وسترحل عنه في أقرب وقت ممكن، حتمًا ستفتقد لذلك الأمان الذي بدأ بالإستوطان بداخلها، ستشتاق لحمايته لها حتى وإن كان هذا ظهر في تفاصيل صغيرة، أو مثلًا إن كان هذا من وحي خيالها!، اعتدلت بفراشها تفكر أكثر بعقلانية تحارب مشاعرها المتدفقة بداخلها فور أن تعلق أمر التفكير بيوسف، يجب ألا تخرج عن عقلانيتها، يكفي قرارتها الهوجاء، ولكن لِمَ وقعت بطريقة، لِمَ شعرت بأن هو طريقها لحياة أفضل، هل أخطأت الطريق مجددًا، أم اتخذت أكثر الطرق الصحيحة، هل يعاقبها الله على قرار اتخذته في وقت جنون، أم أنه يرأف بها ورحمته شملتها وجعلتها تقع في طريقه ليأخذ بيدها نحو مستقبل مشرق، غير هذا الذي كان ينتظرها، هل دعواتها استجابها الله، أم مازال ربها غاضب عليها.لا، هي تعلم في قراره نفسها، أن ربها رحمته وسعت كل شيء، وستنجو من ظلام دامس، لنور يملأ الصدور، هي تنتظر رحمه ربها بها، أمل جديد يرتسم أمامها وستخطو خطواتها نحوه، نهضت بحماس ثم وقفت تمشط خصلاتها للخلف وتجذب ورقة وقلم، وقفت أمام المرآة تتدرب كما أخبرها حسام...بصي أقفي قدام المراية، و إتكلمي وإتدربي كتير، علشان متبقيش مهزوزة، وتخيلي أن العميل واقف قدامك وبيطلب منك حاجة...اعتدلت بوقفتها أكثر، وابتسمت بشدة وهي تنظر لنفسها قائلة:أهلاً وسهلاً يا فندم...زفرت بخفه وهي تنهر نفسها بشدة:إيه يا متخلفة أهلاً وسهلاً دي، قولي welcome...أما في الخارج، جلس يوسف بالصالة يتابع هاتفه ويحادث أصدقائه وخاصةً حسام، فضوله أخذة أن يسألة عليها ويطمئن مقنعًا نفسه بأنها تحت حمايته وبنت بلده ويجب أن يقف جانبها، مقررًا أن يتجاهل كل التحذيرات التي بدأت بالإنطلاق بعقله تحذره بشأن انغماسه في علاقة حتمًا سيكتب عليها الفشل، ضغط فوق شفتاه بغيظ عندما أخبره حسام، بذكائها وسرعة تعلمها، وأثنى على تعاملها الطيب مع زملائها، متذكرًا حديثه له.الكل حبها جِدًافهتف لسان عقله على الفور بإستشاطة: حبكوا برص..لم يشعر بالغيرة عليها، هل يعقل أن يكون انجذب لها، ولم هي تحديدا، رأي الكثير والكثير، لم انجذبت كل حواسه نحوها، لم تتأهب مشاعره فور أن تفتح باب غرفتها وتخرج، لِمَ لا يستطيع أن يمنع عيناه المتمردة في مراقبة أدق التفاصيل الصادرة عنها، حتى عقله لا يستطيع منعه من التفكير بها، أسئلة تدور بداخله، لا يجد إجابه عليها، أو لنقل هو يتجاهل إجابتها، ويمنع نفسه من تصديقها لأنه يعرف نهاية إذا قام بتصديقها واعترافه بها، انتبه على رنين هاتفه، فأجاب على الفور عندما طالع اسم المتصل:.ألو..تحدثت ريم بوهن وصوت مجهد:حبيبي أزيك.عقد حاجبيه بقلق:أنتي كويسة؟!انفجرت باكية تقول بيأس استوطن قلبها وانهكها:تعبت آوي يا يوسف، تعبت من العلاج ومن الألم اللي فيا محتاجاك جنبي، أنا حاسة إني هاموت قبل...نهرها بحده وبداخله يتمزق لحديثها: متقوليش كده بعد الشر، أنا قريب جِدًا هاجيلك والله أخلص بس من كام حاجة لو بتحبيني يا ريم اهتمي بأكلك وعلاجك علشان خاطري..خاطرك عندي بالدنيا، حاضر يا حبيبي، أفرح العيال يعني أن خالهم هيجي!آه فرحيهم وقولي لهم خالهم جاي وهاجبلهم كل اللي نفسهم فيه..أراد أن يدخل السعادة في قلب أخته، أو حتى يرسم لها أمل تحييا من أجله...ابتسم بحزن فور صياحها الفرح:بجد والله ناوي تيجي، فرحتني آوي، آوي.أنا مش عاوز إلا فرحتك، علشان خاطري اهتمي بنفسك، ابعتلك فلوس تاني..أبدًا خيرك مكفيني..سلميلي على ولادك وجوزك، واهتمي بنفسك.حاضر..اغلق الاتصال، تزامنًا مع إغلاق عيناه وهو يعود للخلف يستند بظهره، سامحًا لنفسه بأن يغرق في أحزانه، وكلما حاول أن يغوص بها بمحض إرادته تخرجه المستفزة بحديثها في غرفتها، حديث خافت ولكنه يصل إليه بسبب سكون الشقة، زفر بحنق حتى أحزانه تحشر نفسها بها وتفرض نفسها على ذهنه لإشعال فتيل الفضول لديه لمعرفة مع من تتحدث، كاد أن يتصرف بطيش وينهض يقترب من الباب يستمع لحديثها بوضوح أكثر ليرضى فضوله، ولكنه عَنف نفسه:.أنت هتخيب على كبر ولا إيه...انتبه لقرع جرس الباب نهض بكسل، فتح الباب فوجد مالك البناية يقف أمامه ويبتسم ود أن يغلق الباب في وجهه، يا لها من ورطة وقعت فوق رأسه الآنفتح الباب على مصراعيه وهو يرحب به:أهلا وسهلا أتفضل يا شيخنا..دخل الرجل وهو يقول:حبيبي يا يوسف، زوجتك قابلتني أمس وشددت عليا أجى اليوم اقضي وقت لطيف معاكوا...كان حديثه بمثابة كلمة من الشرق على كلمه من الغرب لضعف لكنته المصرية، أما يوسف فإستشاط غضبًا وغيظًا من تلك المعتوهة، أخفي يوسف مشاعره الحانقة ببراعة ورحب به وكأن لديه علم بذلك، فسأله الرجل بفضول:آمال فين زوجتك..ارتبك يوسف للحظات وهو يشير نحو غرفتها:بتجهز، ثواني أناديها..اقترب من غرفتها ببطء خطوه يأخذها للأمام، وعقله يريده أن يرجع بها للخلف لا يصح أبدًا أن يدخل عليها هكذا، ماذا يفعل، يطرق الباب ويخبرها، هو يتعامل مع بلهاء حتمًا ستفضحه أمام الرجل، فكر للحظات أي منهم الأصح، ولكن اهتدى لأكثر الطرق خطأ حينما طرق الباب طرقتان وهو يهتف بصوت مرتفع، جذب انتباه الرجل متعجبًا لِمَ يفعل هذا:حبيبتي أنا داااخل...مط حروف أخر كلمه حتى تنتبه الأخرى، ولكنها ظلت هكذا أمام المرآة مبتسمة مثلما كانت قبل دخوله، وقفت مدهوشة من حديثه المفاجئ لها وخاصةً حينما دخل بسرعة وأغلق الباب خلفه، ورغم أن توبيخه وحديثه اللاذع كان يتسابق بداخله إلا أنه سألها ببلاهة:أنتي بتكلمي نفسك.فور أن وقعت عيناه عليها، ف انتقلت ما بين منامتها وحذائها ذو الكعب عالي، والورقة والقلم التي بيدها، وخاصةً أحمر الشفاه ذو اللون النبيذي الذي رسمته ببراعة فوق شفتاها وعند شفاها انصب تركيزه على تلك الشامة التي زادته آثاره وشغف لم يشعر بهم قط مع امرأة أخرى، ورغم مظهرها الغير منمق إلا أن لون شفتاها أشعل حرارة بصدره صعب إطفائها إلا إذا تذوق شهدهم، انتبه على قربها منها ونظراتها تحتد أكثر فأكثر قائلة بصوت مرتفع نِسْبِيًا:.أنت داخل تعمل إيه في اوضتي...بتر حديثها حينما كتم أنفاسها ووضع يده فوق فمها بقوة يمنعها من الحديث ليقول بصوت خافض:اقعدي ساكتة هاتفضحينااا..تلوت بين يده المحاوطه لخصرها بقوة والأخرى التي تحيط فمها، تحركت بعصبية شديدة فابتعد عنها حينما أدرك اقترابه منها بهذا الشكل، رفع يده لأعلى متأسفًا: آسف، إهدي، مش هقرب، بس متعليش صوتك..فسد أحمر شفاها بفعل يده وحركاتها المتعصبة، فتلطخت المنطقة المحاطة لثغرها، زادته إثاره و إثاره، وفاجأه أعطاها ظهره متمتمًا لنفسه بكلام لم تفهمه، ولكنها استمعت لصوت أنفاسه المتسارعة، غير مدركه لما يحدث لمشاعره وعنفوانها الذي أن استسلم لها وانصاع خلفه، سيوقعه في ملذات مُحرمه، شهق بقوة حينما ضربته بيدها الصغيرة بعنف فوق ظهره فاندفع للأمام بصدمه، التفت على الفور يرمقها بغضب:إيه اللي هببتيه ده!وضعت يدها بخصرها وهي تقول باستنكار: بفوقك أنك دخلت اوضتي يا قليل الأدب.ضرب كَفًا بآخر:والله ما حد قليل الأدب إلا أنتي..أشارت له بيدها وهي ترفع أنفها:اطلع بره حالاً..تصدقي بالله أنا حَالِيًا شياطين الإنس والجن كلها واقفة قدامي، بلاش تجيبي أخرى...استطرد قائلًا بعصبية خفيفة:إنتي إزاي يا هانم تعزمي الراجل على العشا من غير ما تقوليلي وقابليته أمتي.حدقت به قاطبة الجبين قائلة:راجل مين...؟!الشيخ محمد.ضربت جبينها بكفها لتقول:يا نهار أبيض، أزاي مفتكرتش أقولك، إيه ده هو جه.عقد ذراعيه أمامه وهو يهز رأسه وعلي وجهه علامات السخرية..أنا شوفته امبارح وأنا راجعه من الشغل بالصدفة وخوفت يسألني ويتكلم معايا ف ابهدل الدنيا وانت تزعق، فتوترت وعزمته على العشا..نفخ بضيق ليقول:أخلصي غيري لبسك واغسلي وشك وتعالي ورايا نشوف هنعمل إيه..أنهى حديثه وغادر الغرفة معتذرًا:معلش تأخرت عليك...قاطعه الرجل وهو ينهض محدثًا شخص ما في هاتفه:آوك، آوك.اغلق الاتصال قائلًا:يوسف في مشكلة هالحين بالمكتب، أروح وساعة أو ساعتين وهجيلكوا تاني، أسف بس..ارتاح يوسف قليلًا عندما علم كذلك فقال سريعًا:لا طبعًا روح أنت، وأحنا هنستناك، أوعى متجيش.وقف الرجل على أعتاب الباب يقول:لا طبعًا هاجي، أنا متشوق لأكل مصر كثير..في انتظارك...اغلق يوسف الباب بإرتياح، فخرجت هي تبحث عن الرجل بعينيها قائلة بسعادة:.أنت طرقته..لا في مشكلة باين في مكتبه هيروح ويجي بعد ساعة وساعتين بالكتير...صفقت بيدها وهي تتجه نحو المطبخ تقول: حلو آوي الحق أروح اعمل حاجة..أوقفها بصوته:مفيش حاجة تعمليها، كسلت أجيب خزين المطبخ، هانزل أجيب بسرعة.هآجي معاك.هتف بعند:لا خليكي...وافرض جه هاقعد معاه لوحدي!هتفت بمكر، فتراجع هو عن قراره وهو يشير لها:ورايا، خلينا نخلص..ولجا معًا للمتجر كلما ذهبت بإتجاه، جذبها بقوة يمنعها من الذهاب به، وفي نهاية الأمر تنصاع لأمره، غير موافقة بالمرة على قرارته واختياراته، حتى وضع يده فوق معلبات التونة فمنعته قائلة:يمين الله ما أحنا عاملين مكرونة بالتونة، ده حتى عيب في حقنا كمصريين.أنا اللي هاعمل الأكل وأنا اللي هاقرر.هتفت بعند:لا أنا اللي هاعمل، أكلك دِلِع..أبعد يدها بعنف:والله ما حد دِلِع غيرك، مالكيش دعوة..مالكش أنت دعوة، أنا هجيب فراخ وبتنجان وكوسة وفلفل، هاعمل محشي.انطلقت صوب قسم الخضروات، فأوقفها وهو يضع العربة عائقًا أمامها:محشي، لا أنا مبحبش المحشي، وبعدين مش هتلحقي.تحركت في اتجاه آخر بخفه وهي تضحك: محدش قالك تاكل، وبعدين تراهني..ذهب خلفها وقد تزايد شعور بالغيظ منها، واضعًا معلبات التونة بعنف في العربة، سار خلفها بملل وهي تنتقي الخضار بعناية مستغربًا لطريقتها، من يراها لأول مرة يظن أنها فتاة مدلله، لا تجيد الطبخ، وخاصةً عنايتها بأظافرها، أظافرها!، انتبهت لأظافرها يا يوسف، حَقًا الآن تستحق الشفقة على حالك حتى أظافرها لم تبعد عيناك المتمردة عنهما، انتهت مما كانت تريد أخذه، وهي تقول بإرتياح:يالا بينا نحاسب علشان نلحق!وقبل أن تتقدم خطوة آخرى لاحظت أخر شخص كانت تريد رؤيته، صديقتها آلاء وفتاة أخرى معها، هي لا تريد رؤيتها قط، تراجعت بخوف حتى اصطدمت بيوسف التفتت تنظر له وهتفت بذعر:يالا نروح من هنا..لاحظ ذعرها فقال مستفهمًا:في إيه..قبضت فوق يده تجذبه بالاتجاه الآخر بارتباك:يالا أبوس أيدك.نظر في وجوه المارة قائلًا:في إيه مالك، في حد أنتي خايفة منه.ضغطت فوق يده أكثر هاتفه بنبرة أشبه للبكاء:.أبوس أيدك، نمشي بس من هنا...هامشي بس، النهارده لازم توضحلي كل اللي بيحصل..هتفت بعجالة وهي تنظر للخلف بخفه: طيب..هي لا تريد أن تتذكرها، كلما رأتها أمامها ستتذكر ما أقنعتها به، ستتذكر فعلتها السيئة وما جعلها تهرب من عائلتها بل غادرت بلدها بأكمله، لا مفر من ماضي يركض خلفها كالظل، ماضي قد ظنت أنها ستخفي رماده بباطن عقلها، ولكن في الحقيقة هي فشلت وبشدة، فكلما حاولت النجاة تعود للصفر مجددًا.وقفت تجلي الأطباق وعقلها شارد فيما سيحدث بعد قليل، يوسف لن يسمح لها بالفرار أو الهرب كحال كل مرة كاد أن يكشف سرها، صور لها عقلها بأن تختلق حجج هاوية حتى تخرج من ذلك المأزق دون أن تفقد قيمتها لديه، يكفي نظرته لها منذ أول لقاء لهما، ولكن لم يعد لديها القدرة على الاحتفاظ بذلك الضجيج بداخلها، أحيانًا ودت أن تصرخ وتخرج ما لديها ولكن لا يوجد أحد يستمع لها، وها هي الفرصة الآن لديها، هل يا تُرى إن أخبرته سيعطيها عذرها، أم سيجلدها بسوط قوي يهبط فوق ضميرها الذي لم يهدأ قط منذ قرار هروبها من مصر، انتهت من جلي بعض الأطباق، بعدها انتقلت نحو الأطباق الأخرى تفرغ الطعام المتبقي ومازال بركان مشاعرها يثور بداخلها ناهيك عن تخبط أفكارها، حالتها إن شعر بها سيشفق عليها، نعم هي في أمس الحاجة للشفقة أو الرأفة دون أن يجلدها أحد، تبحث عن الاحتواء، سئمت من الجفاء وعدم التقدير زفرت بخفه وهي تنتقل في المطبخ بخفه تنظفه وترتبه حتى لا يتذمر يوسف عليها، ابتسمت بخفه حينما تذكرت عصبيته وهو يقف عليها مشرف في الطهي متحفظًا على طريقتها، كتمت ضحكاتها بصعوبة وهي تتذكر عندما وضعت صحن المحشي أمامه وأصرت أن يأكل منه رغم علمها بعدم حبه له، انتابها حاله من الضحك وهو يقوم بمضغ الطعام وعلي وجهه علامات الامتعاض، وحديثه لها أمام صاحب البناية..أكلك زي الفل يا حبيبتي...آه داخلية كتمتها، وهي تغلق عيناها للحظات، تستمتع بنطقه لكلمة حبيبتي، رغم أنها مزيفة ومصطنعة، ولكن لها مذاق خاص من شفتاه، رغم أنها لم تعجب بأحد، أو دق قلبها المسكين لرجل من قبل، ولكن قدرها أجبر قلبها على الخفقان له، دق قلبها لرجل يستحيل أن تربطهم حياة، اعترفت بداخلها بحبها له، اعترفت بانجذابها له وما باليد حيلة، هربت من ماضي كانت ترفضه، ليوقعها قدرها جبرًا مع رجل وقعت صريعة في غرامه منذ اللحظة الأولى، خرجت من رحم عقلها على صوته الجاد من خلفها، صوته لا يحمل النقاش بتاتًا..سيبي اللي في أيدك وتعالي ورايا..ألقت بكل شيء وذهبت خلفه وهي تستعد لأصعب مواجهة قد تمر عليها، جلست والتوتر يأكل ما تبقى لديها من ثبات...أنا سبتك كتير على أساس أنك تيجي وتيجيلي، بس الواضح أنك بتهربي مني بالمطبخ..مدت أصابعها تعيد خصلاتها للخلف بارتباك، وهي تعض فوق لحم شفتاها من الداخل بتوتر، ليتابع هو حديثه:ها بقي، إيه اللي أنتي مخبياه، وليه خلتيني نمشي بالشكل ده من الماركت..خرج صوتها متلعثمًا وامتلأت عيناها بالدموع ف أخفضت بصرها للأسفل:أنا هاقولك أنا بتمني أنك تتفهمني ومتبصليش بصه وحشه، أنا جيت بس هربت من أهلي علشان...!صمتت للحظة تستجمع حديثها أو قوتها، فسارع بحديثه وهو يقول بنبرة حاول إخفاء غضبه أن صحت ظنونه:أنتي هربت من مصر مع واحد صح..!
نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل السادسليت هذه المواجهة لم تأتي ليتها لم تريّ تلك اللعينة صديقتها فهي الان جعلتها بموضع شك، اغمضت عينيها بحزن شديد هي لم تكن تريده ان يعلم عنها شيء يكفي انه لم يتقبل فكرة انها فتاه وحيده تعيش معه بل الان اصبحت هاربة تعيش معه...نظرت له وهي تحاول ان تتكلم وبالفعل اخذت نفس عميق ثم، خرج صوتها متلعثمًا وامتلأت عيناها بالدموع ف اخفضت بصرها للأسفل: أنا هقولك أنا بتمني أنك تتفهمي ومتبصليش بصه وحشه، أنا جيت بس هربت من أهلي علشان...!صمتت للحظة تستجمع حديثها أو قوتها، فسارع بحديثه وهو يقول بنبرة حاول إخفاء غضبه إن صحت ظنونه:أنتي هربت من مصر مع واحد صح..رفعت بصرها تهتف بنفي قاطع:لا طبعًا مش، إيه اللي أنت بتقوله ده!شعر بالراحة قليلًا، ولكن مازالت حواسه تتأهب لسماع قصتها، فحثها بعينيه حتى تتحدث أخذت نفس طويل تعود بذاكرتها للماضي، هذه المرة سمحت لنفسها بأن تغوص في بحر ذكرياتها المؤلمة لتقول بصوت ضعيف مهزوز:.أنا بابا وماما ماتوا وأنا عندي ١٢ سنه، كنت صغيرة أوي على أني أتقبل موتهم هما الاتنين ورا بعض، بابا وبعدها بشهر ماما، صحيح أنا عايشة مع أعمامي في نفس البيت، بس كل واحد له شقته وأولاده وأنا كنت لوحدي، في شقتنا من غير حد، مفيش حد يحتويني، أو قريب مني أعمامي بعدوا عني، لدرجه أنهم مبقوش يحسوا أن ليهم بنت أخ فوقهم...صمتت للحظات وسمحت لنفسها بالبكاء، برغم أنها حاولت وجاهدت أن تظهر قوتها، ولكنها فشلت فبكت تخبره من بين شهقاتها:بقضي أيامي لوحدي نجاحي فشلي تعبي، كل فين وفين لما حد يفكر يسأل عليا ويفكر مثلًا أنه يعزمني عنده، كل واحد كان مهتم بحياته وبيته..قاطعها بصدمة:للدرجه دي!مسحت دموعها ثم قالت بنبرة مرتجفة:مفيش حد احتواني، مفيش حد كان بيقولي الصح فين والغلط فين، كل اللي كانوا بيقولوه نور متخرجيش، نور ذاكري في البيت، نور بلاش تروحي مدرستك كتير، نور كليتك على قد محاضراتك، طب ليه؟!، علشان لو عملتي حاجة غلط هتجيبي لينا العار..صمتت لبرهة ثم قالت بعصبية:مرات عمي قالتلي، أمتي تتجوزي أعمامك شايلنك فوق دماغهم خافيين أوي لتجبيلهم العار، ليه أنا عملتلهم إيه، أنا كل اللي كنت بعمله أني كنت بسمع كلامهم وبس، بس لا خلاص مبقتش قادرة، مش هسمع كلامهم ولا هوافق أني أتجوز أي واحد يجبوه علشان يخلصوا مني!هما كانوا هيجوزوكي...ابتسمت بسخرية ومازالت عيناها تفيض بالدموع:.آه تخيل أول ما خلصت الكلية، لقيت عمي بيقولي أن في عريس وعاوز يجي يتقدم وهما موافقين، موافقين وأنا ماليش أي قرار..قاطعها يوسف يسألها بضيق:نور مش معقولة للدرجه دي، طب هما عاوزينك تتجوزي ليه، كده كده مبيسألوش فيكي، مش فارقه يعني!نهضت بغضب وهي تقول:لا معقولة، عمي الكبير كان طمعان في شقة بابا وماما لابنه علشان يتجوز فيها، فكان عاوز يخلص مني ويرميلي قرشين واتجوز واهو يبقي خلصوا مني...ضرب يوسف كَفًا بآخر مستعجبًا:لا حول ولا قوة إلا بالله، طب وجيتي هنا أزاي؟!تقدمت نحو النافذة تنظر لفراغ وكأنها تنظر لخواء روحها من قسوة معاملتهم قائلة بحزن: آلاء، كانت صاحبتي الوحيدة عرفتها من على النت، وشوفتها مرتين تلاته في الكلية صاحبتها آوي، كنت بحبها وبأمنلها، بحكيلها على كل حاجة، وفي نفس الوقت كانت بتحكيلي على سفرها لدبي، وعن الحرية اللي عيشاها، حسيت أن نفسي أبقى زيها، أعيش بحرية من غير ما حد يخنقني، أو أحس أن عاله عليه، وفي وسط كلامنا...انهارت بالبكاء وهي تحادث صديقتها بالهاتف: شوفتي يا آلاء سمعت مرات عمي بتقول لمرات عمي التانية، أنهم ما مصدقين العريس يجي، وأنهم هايقروا فاتحة على طول، ده كله علشان الشقة الزفت دي!هتفت آلاء محاولة تهدئتها تستمع لأدق التفاصيل بتركيز:معلش يا حبيبتي محدش يقدر يجبرك، هو أنتي حيوانه بيجروكي وراهم، أنتي ليكي كيانك وحريتك، ومحدش يقدر يعملك حاجة..التوى فمها ساخرة:.لا هما يقدروا، عند مصلحتهم هيغصبوني، أنا عرفاهم كويس..طيب وهاتعملي إيه؟!هتفت من بين شهقاتها:وهعمل إيه، بإيدي إيه يا آلاء، كان نفسي أعيش حياتي وحريتي، كان نفسي أبقى زي بقية البنات، البس اللي أنا عاوزاه واخرج وأسافر..هتفت آلاء بحماس بعدما وصلت نور لنقطة التي تريد أن تدخل منها وتبث سمها في أذنها: ما أنتي لسه فيها، الحقي انفدي برجلك وعيشي حياتك، كده كده أنتي هاتخسريهم، خسارة بخسارة يبقى تكوني مبسوطة، وصدقيني هاتطلعي من الحكاية دي كسبانة حريتك.طب اعمل إيه، أروح فين، حتى أنتي هتسافري دبي لأخوكي، مينفعش أجيلك.ابتسمت الأخرى بخبث قائلة:إيه رأيك تيجي معايا...مسحت نور دموعها قائلة بصدمة:دبي، أجي معاكي دبي، أزاي.زي الناس يابنتي في إيه مالك، فتحي دماغك.نهضت من فراشها، تتحرك بغير هدى وهي تستمع لحديث آلاء، الخبيثة تخبرها بأن تبيع قطعة الأرض التي ورثتها عن والدتها، وتسافر معها، حاولت إقناعها بشتى الطرق فقالت: وملكيش دعوة بأخويا يابت، هو مش فاضي لينا أصلًا، احنا هننطلق بقي مع بعض فسح وحياة تانية، حياة عمرك ما شفتيها..ابتلعت ريقها وهي تعود من شرودهااا قائلة بحزن ونبرة منكسرة:.بعت فعلا الأرض بتاعت ماما من وراه أعمامي، هي كانت مساحتها صغيرة، فلوسها مكنتش كتير، بس كانت مكفياني أن أسافر، واقعد شهر ونص مع آلاء واخوهااا.رفع أحد حاجبيه ليقول بصوت خشن قوي: وقعدتي معاهم يا نور!هزت رأسها بإنكسار وأخفضت بصرها أرضًا تقول بصوت خافت:آه، في الأول كانوا مرحبين بيا معاملتهم كانت لطيفة، بعدها بدأت تتغير وكل حاجة بدأت تبان...ابتسم باستهجان وهو يعود بظهره يستند على الأريكة قائلًا:.وطبعًا كانوا عاوزينك تشتغلي في شغل مش تمام..رفعت بصرها ترمقه بتعجب:إيه عرفك!هتف بحدة وخرجت حروفه غليظة:أنتي مجنونة ما هو أكيد كانوا بيجروا رجليكي، أنتي أزاي مشيتي ورا صاحبتك دي عقلك كان فين يابنتي أنتي للدرجة دي ضايعه..نهضت تقف بعصبية قائلة:يوسف أبوس أيدك أنا مش ناقصه كفاية اللي جوايا، مش ناقصه كلام يوجعني..وقف أمامها ينظر بعيناها مباشرةً يعنفها:.لا لازم أقول وأقول، لازم أفوقك يا نور، لازم تعرفي اللي أنتي عملتيه ده مصيبة ومش أي مصيبة، أنتي أزاي متهورة كده، حرية إيه وزفت إيه اللي بتدوري عليهم، أنتي ياريتك هربتي من محافظة لمحافظة ده من دوله لدوله، من حياة لحياة تانية، وليه أصلاً فكرة الهروب، ما هو كان ممكن تتكلمي معاهم تقنعيهم ترفضي...صرخت بوجهه لتقول بصوت مبحوح: حاولت، حاولت والله وكانوا بيسكتوني، رافضين الكلام معايا، حسيت اني بشحت حريتي منهم، مع أنهم مالهمش حق!لا ليهم، دول أهلك، دول سندك...شددت على خصلات شعرها قائلة ببكاء: مكنوش سند مكنتش بحس أن حد يحبني، أنا كنت بشحت الحب من عيونهم مش من كلامهم، أنا كنت باكل وبشرب لوحدي، بقعد لوحدي، بنام لوحدي..مش مبرر يا نور، اللي عملتيه كان غلط وأكبر غلط، أنا لو عندي بنت عملت كده هادبحها، للأسف دي كلها أسباب واهية أقنعتي نفسك بيها..التوى فمها بتهكم:أسباب!، بس أهو ده السبب اللي خلاني مرجعش في مصر هموت، وهنا عايشة بس من جوايا ميتة أنا غلطت ومعترفة، بس مبقاش في فرصه أن أرجع، هكمل ولوحدي زي ما كنت عايشة في مصر...نظر لها غير مصدقًا من تفكيرها ليقول:.يعني هو ده الحل، نور اللي مكانك يندم بعد اللي شافه ويرجع لأهله يطلب منهم السماح ويعيش وسطهم...جلست فوق الأريكة تضع يدها فوق رأسها هاتفه بخفوت ونبرة حزينة:مبقاش ينفع صدقني، يا يقتلوني يا يطردوني بره، في الحالتين أنا ضايعة يا يوسف يبقي أكمل كده هياخدوا شقتي، مش بعيد يكونوا أخدوها، أنا واثقه من كده، أنا هاكمل لوحدي..سألها متعجبًا:.لوحدك هتكملي لوحدك، هتقدري تعيشي لوحدك من غير ما يكون ليكي حماية، الحياة صعبة الرجالة هنا بتتفرم، ما بالك بالبنت..رفعت بصرها ترمقه بتحدٍّ وكأنها تخفي خلفه زعزعه ثباتها الذي كلما ذكرها يوسف بالوحدة التي ستعيش بها، يتزعزع ثباتها قليلًا، لا شك أن مكوثها معه عوضها عن مشاعر افتقدتها في غياب أهلها وحتى في وجودهم...هكمل يا يوسف وأنا مش خايفة ومتحاولش أنك تخوفني، أنا أخدت أكبر قرار خوفت منه وتخطيته، الباقي كله سهل..ابتسم بسخرية:مجنونة ومتهورة، شوفت في عينك من اللحظه الأولى تهورك، وعلي فكرة يا نور حطي كلامي ده دايماً قدامك، أنتي متعدتيش قرار سفرك وهروبك، بالعكس أنتي لست عايشة عواقبه، ولسه منتهتش..وقفت نور تنهى الحديث يوسف يضغط بقوة على جراحها، وهي الآن في أمس الحاجة أن تتفادى أي حديث آخر قد ينكأ جراحها المتألمة، فقالت:أظن أنك عرفت قصتي، يعني مبقاش في أسئلة غامضة من ناحيتي، أنا مازالت ممتنة ليك ولكل اللي أنت عملته، وفي أقرب وقت هلاقي سكن وهامشي من هنا..استدارت تتجه نحو غرفتها تمنع دموعها من الهبوط مجددًا، أما هو فقبل أن تدخل غرفتها هتف بصوت حاد:مشكلتك مبتسمعيش إلا اللي أنتي عاوزه تسمعيه..التفتت له تطالعه بنظرة حاولت إخفاء انكسارها لتقول بجفاء وقوة:أنا إتعودت طول عمري اسمع نفسي، جاي دلوقتي وعاوزني اسمع رأي حد تاني، صعب آوي، عن إذنك.دخلت وأغلقت الباب خلفها، أغلقت آخر باب أمل لديها، يوسف كان الأمل الأخير، لطالما شعرت تجاهه بمشاعر كانت تتوق لتشعر بها، الآن وبعد معرفته بحقيقتها ونظرته لها انغلق ذلك الباب، ارتمت بجسدها فوق الفراش تبكي بإنهيار، لِمَ الألم زاد الضعفين، هل بسبب نظراته لها، أم كلماته اللاذعة بحقها، تساءلت ماذا كانت تريد، هل كانت تريد منه مواساتها مثلاً ووجدت العكس لذلك خابت آمالها، وبخت نفسها فهو في النهاية رجل شرقي، حتمًا سيكون شأن تخطيه لواقع فتاة هربت من أهلها أمر غير مقبول، يجب أن تبتعد عن هنا بأقصى سرعة، لا يجب أن تسمح لنفسها بالتمادي في علاقة دثرتها بين ثنايا قلبها، الابتعاد هو الحل الأول والأخير، وكأن الابتعاد والهرب وقع كالقدر فوق رأسها في كل طرق حياتها...بعد مرور أسبوع، وقفت بشرفة غرفتها تحاول التقاط أنفاسها الهائجة من فرط غضبها، اليوم سيء منذ بدايته، وتحديدًا عندما القت تحية الصباح على يوسف وتجاهلها، بدأت نيران غضبها تشتعل أكثر فأكثر، واكتمل اليوم بمصادفتها ل ألاء صديقتها وأخيها في الفندق، اللعنه على تلك الصدف التي تضعها دائمًا في مأزق، كلما حاولت الفرار تعود وتصطدم بواقع مرير، هزت رأسها عدة مرات تحاول ابعاد تلك اللحظة التى وقعت فيها عيناها بمقابل أعين الاء...مستر حسام، لو سمحت!وقف حسام والتفت بجسده ينظر لها بإستفهام مبتسمًا:ايوا يا نور، خير!نظرت له بخجل ثم هتفت بأسف:أنا أسفة لو كنت عطلت حضرتك، بس انا كنت عاوزة أسألك على حاجة.لا طبعا، قولي..فركت يدها بتوتر لتقول:انا كنت عاوزة حضرتك تساعدني الاقي سكن في اقرب وقت ممكن، السكن اللي قاعدة فيه مش مرتاحة وعاوزة اسيبه!هتف بتعجب:سكن!هزت رأسها تجيبة:.ايوا، أنا عرفت من يوسف أن ليك علاقات كتير اوي ف قولت يمكن تعرف، أي غرفة في سكن مع بنات..وضع يده بجيب بنطالة قائلًا:هو انا مجربتش ان اسال على حاجة زي دي، بس هاوعدك ان ابحث في الموضوع ده!اتسعت ابتسامتها الجميله ونظرت له بامتنان قائله:شكرًا اوي اوي..العفو، بس أنا عاوزك تركزي أكتر في الشغل علشان تطلعي بسرعة، ناوية كتير تفضلي في الكافية..حاضر هحاول..يالا على شغلك..انطلقت نور صوب عملها تشعر بحماس كبير، متجاهلة شعور غامض لديها بشأن تركها شقة يوسف، شجعت نفسها أن تصب تركيزها فقط على عملها، حتى ترتقي بمستوياته، اخذت الصينية واتجهت صوب طاوله بالقرب من المسبح، تقدم المشروبات عليها، انصب تركيزها على المشروبات حتى لا تتعثر بشيء ما، وخاصة قامتها المستقيمة كما علمتها رئيستها، وابتسامة فوق ثغرها، وضعت الاكواب برفق، رفعت عيناها ببطء فقابلت أعين صديقتها، اهتزت يدها للحظات قائلة بصدمة: الاء..؟!التوى فم الاخرى بسخرية وهو تشير لأخيها عماد الجالس بجانبها يرمق نور بحسرة على جمالها: شوفت يا عماد، آخره اللي مبيسمعش كلامي فين، اخرتها بتقدم مشاريب..قبضت فوق الكوب بغضب حتى كادت ان تهشمة، تجاهلت حديثها واعتدلت بوقفتها مقررة أن لا تتجادل معها بشيء، هي صفحة وقد اغلقتها أو بمعنى أصح مزقتها من حياتها وفور أن استدرات، هتفت الاء بصياح:استني خدي بقشيش..التفتت نور حولها بحرج عندما جذب صوت الاء انتباه من حولها، فقالت بلهجة غليظة: شكرًا مش عاوزة..ما ان انهت كلماتها كان اقترب منها حسام بصفتة رئيس ادارة الفندق ليقول:خير في حاجه يا فندم!وضعت الاء ساق فوق الاخرى ورمقت حسام بتعالي وهي تشير نحو نور:كانت عاوزة بقشيش فكنت بديها..ايه؟!قالها حسام بصدمة وغضب ناظرًا نحو نور، وخاصةً أن ذلك ضد بروتكول الفندق، أحتقن وجه نور من فعل الاء فتحت فمها حاولت تصحيح موقفها:أبدًا والله يا مستر، انا لا يمكن اعمل حاجة زي دي!حولت الاء وجهها نحو حسام قائلة:يعني أنا بكدب..هز حسام رأسه بنفي أزهل نور:لا يا فندم..فتحت فمها مرة أخرى تحاول توبيخ الاء، فقال عماد بهدوء:خلاص حصل خير...هتف حسام بعملية:اكيد حصل خير..استطرد موجهًا حديثه لنور:.يالا على الشغل، وياريت متتكررش.انطلقت نور بسرعة نحو المرحاض، تمنع دموعها من الهبوط، اللعنه على عملها، واللعنه على الغربة أيضًا وما بها من قسوة وجفاء، هي من أوقعت نفسها بتلك الدائرة ومهما حاولت النجاة ستقع مجددًا تتذوق مرارتها الذي كان بمثابة العلقم، ولكن ما بيدها حيلة، ستخرج وعلى وجهها ابتسامتها حتى تستطيع مواكبة عملها دون خسارته، وبالفعل خرجت لتعود لعملها وكأن شيء لم يكن، وقبل أن تخطو لبهو الفندق وجدت أمامها عماد، رمقته بغضب وحاولت أن تتخطاه، ولكن منعها عندما قبض فوق يدها قائلًا: انتي رايحة فين انا جاي اعتذرلك على اللي الاء عملته فيكي.حاولت الابتعاد عنه، قربه منها بهذا الشكل يؤذيها فقالت بلهجة عنيفه:ابعد ايدك دي عني..اقترب خطوة أخرى ليقول بنبرة تفوح منها الخبث:خسارة جمالك يشتغل هنا، خسارة انتي مكانك في حتة تانية، لازم يتقدر صح، ألاء ضيعتك بغبائها..وبكعب حذائها دعست فوق قدماه بقوة، حتى ابتعد عنها مجبرًا، فقالت:الله الغني عن شغلكوا القذر أنت وأختك، اياكوا أشوفكوا في طريقي تاني..عادت من شرودها على طرقات الباب، استدرات بجسدها تعجبت بداخلها، تُرى ماذا يريد منها في هذة الساعة المتأخر، فتحت الباب ووجها عابس، فأشار اليها يوسف حتى تخرج دون أن يتحدث، خرجت خلفة وعلى وجهها علامات الاستفهام، فقال يوسف فجأة وبدون أي مقدمات:ايه اللي حصل في الفندق النهارده..نظرت له بعدم فهم، ثم هتفت ببلاهه:نعم!، مش فاهمة.احتدت ملامحه أكثر ليقول:.لا انتي فاهمه كويس، مين الناس اللي طلبتي منهم فلوس دول، وبعدها نفس الراجل واقف ماسك ايدك وكلمك، ياترى في ايه ياهانم..وانت مالك..قالتها نور بحدة، ولكن عادت أردفت بإستفهام: ثواني بس مين قالك على كل ده، انت بتراقبني!براقبك!، وسعت منك دي!زي ماهي وسعت منك علشان تيجي وتقولي كده!، وبعدين وانت مالك، ده يديك الحق انك تيجي وتخبط على باب اوضتي وتكلمني كده..وفي لحظه كان يقبض فوق يدها بغضب هاتفًا بنبرة خرجت حادة من بين أسنانه:المفروض تجاوبيني، علشان يا هانم حسام متصل بيحكيلي، وبيقولي أن المفروض تاخد بالها من تصرفاتها شوية علشان محدش يشتكي منها..أبعدته عنها بعنف وانفجرت باكية:.تصرفاتي!، مالها بقى هو كان سألني مين دول، ده حكم عليا بدون ما يسألني، اللي كانوا قاعدين دول الاء وعماد اخوها، وكانت بتحاول تستفزني وتعملي مشكلة علشان الجأ ليها تااني، واخوها كان بيحاول يقنعني وانا كلمتهم بهدوء مع أن انا غلطانه كان المفروض اديهم بالجزمة...جلس مكانه عندما استمع لجوابها وقد هدأت نيرانه قليلًا ولكن لن تهدأ نهائيًا الا اذا إنفجر بها، رفع بصره يهتف بضيق:.تستاهلي، تستاهلي كل حاجه انتي غلطانه من الاول، غلطانه في كل حاجة، بتلومي على مين على حسام اللي ميعرفكيش ما له حق، الراجل كلمني علشان عارف أنك قريبتي، غير كده كان زمانه طردك، شوفتي اخرة تصرفاتك، شوفتي اخرة طريقك..صرخت بوجهه قائلة:بس بقى، اقعد ساكت مش كل شوية، تسمني بكلامك ده، ارحمني..وقف مقابلًا لها يهتف بغضب ونبرة مرتفعة: وانتي مرحمتيش نفسك ليه، لما اخدتي قرارك المتهور ده..أشارت على نفسها بعصبية قائلة من بين دموعها:ضحكت عليا، وفهمتني حاجه ولقيت حاجه تانية..اتجة نحو غرفته حتى يمنع نفسه من التعاطف معها:متعلقيش أخطائك على شماعة غيرك انا وصلتلك رسالته، وحافظي بقى على شغلك..دلف غرفته وأغلق الباب خلفه بقوة، افزعها في وسط بكائها ونزيف قلبها المتألم...مر أسبوع أخر على تلك المحادثة، محادثه أوقدت جمرات الغضب والحنق والحزن، مشاعر متضاربة لكل منهما وخاصةً هو، هو من يعاني ويجاهد نفسه، صراع قوي نشب بين عقله وقلبه، قلبه الذي أيقن وأدرك أنه وقع كالأحمق في حب فتاة طائشة، وعقله يحثه على الابتعاد هي ليست من نمطه، رجولته لا تتوافق مع تصرفاتها الهوجاء لاحظ بُعدها عنه، حتى لحظاتهم على مائدة الطعام يسود الصمت بينهم، هي ليست بقادرة أن تتخطى نظراته لها وكلماته اللاذعة، وهو حاول أن يهضم ما فعلته ولكن في نهاية الأمر لا يستطع، رغم أن عقله الباطن مازال مُصر على إقحامها داخل أحلامه، وحتى بيقظته يفكر بها اللعنة عليها هي مثل السحر أو التعويذة التي إذا وقعت على أحد لن تتركه حتى نهايته، ونهايته سيكون صريعًا لغرامها، خرج من غرفته بعدما قررت معدته التمرد وإعلان حاجتها للطعام، فقرر أن ينهض ويطهى شيئاً خفيفاً، وقف بالمطبخ تائه للحظات ينظر حوله بتفكير، انتبه على صوت أنين خافت يأتي من غرفتها، رفع بصره يضيق عيناه بتركيز هاتفًا بهمس: هي بتعيط ولا أنا متهيألي..ركز أكثر حتى انتبه لصوت بكائها وأنينها، فاندفع بقلق نحو غرفتها يطرق بسرعة:نور مالك..خرج صوتها ضعيف هاتفه:مفيش شوية تعب.هتف آمرًا:افتحي، بسرعة.دقيقة، اثنتان، حتى فتحت هي تمسك بطنها وعيناها منتفختان من شده البكاء ووجهها شاحب اللون، جسدها يرتعش بين كل ثانية والأخرى، فور أن وقعت عيناه عليها بهذا الشكل، وضع يده فوق جبينها يتحسسه بقلق، فابتعدت هي خطوتان للخلف بحرج، حتى كادت أن تفقد توازنها وتقع أرضًا، أمسكها يوسف من مرفقها:حاسبي..أبعدت يده بضعف بعدما استعادت توازنها واستندت بيدها على مقبض الباب:متقلقش هكون كويسة.زم شفتاه بضيق ليقول ساخرًا:.واضح إنك هتكوني كويسة..استطرد حديثه بآمر لا يحمل الجدال:ادخلي البسي فورًا، و يالا هاوديكي المستشفى!هتفت بوهن:مالوش لزوم صدقني..زفر حانقًا مردفًا:بتموتي وتجادلي أخلصي يابنتي، أنتي مش شايفه نفسك.حسنًا لن تجادله هي حاربت الآمها اليوم بقدر ما استطاعت، انصاعت لأمره بعدما شعرت بمعدتها تنكمش بقوة، فتعتصرها وكادت تخرج روحها، أبدلت ثيابها بصعوبة وهي تجاهد لالتقاط أنفاسها، وعرقها يتصبب بغزارة، سمحت له بأن يمسك يدها ويساعدها على السير، لم تكن بحالة أن تبتعد وتجادل معه، ودت أن تصرخ بأعلى صوتها لتعبر عن شدة آلامها ولكن كتمت بداخلها واستطاعت ضبط نفسها لأقصى درجة، أما يوسف فكان يشعر بها، تعجب لقدرتها على تحمل آلامها غريبة تلك الفتاة عبارة عن خليط غريب من القوة والضعف، الحزن والسعادة، مشاكسة ومسالمة، تجاهل تلك الغصة التي وجعته عندما علم بأمر مرضها المفاجئ وانغمس في اكتشاف شخصيتها العجيبة...وصل بها إلى المشفى بعدما فقدت وعيها لا شك أنه في هذه اللحظة انسحبت روحه خوفًا عليها، وضعها على السرير المتنقل وعيناه أبت أن تبتعد عنها، وكأنها تواسي قلبه المتعلق بها..حل الصباح، وبدء يوم جديد وهو مازال هنا جالس بجانبها بعدما قاموا الأطباء بواجبهم وتقديم علاج فورًا لها بعدما أخبروه أنها قد تعرضت لحالة تسمم شديدة وجسدها الضئيل لم يقاوم، لم يرفع عيناه من عليها وكأنه يشبع روحه وعقله منها، حفر بعقله ملامحها وخاصة جمال شامتها، شجعه شيطانه كثيرًا بأن يلمس شفتاها متذوقًا رحيقها، ولكنه جاهده وحاول ألا ينغمس في ملذات قد حرمها الله، رفع بصره للأعلى متنهدًا ماذا يفعل معها وجودها يجعله يحارب جمالها الفاتن، ناهيك عن روحها التي دخلت واستوطنت قلبه، ابتسم بلطف حينما أدرك أنه يشتاق لمشاكستها وحديثها الأرعن معه، رغم أنه كان سبب قوي في بداية الأمر حتى ينفر منها، ولكن انقلبت الآية عليه، وأصبح يعشق مشاكستها وتلك الحالة التي أضفت على حياته روح جديدة...فتحت عيناها ببطء، تجاهد فيهم أن تفرق بين جفنيها، نور أبيض ساطع وغرفة غير غرفتها، حولت بصرها في أرجاء الغرفة، وقع بصرها عليه يجلس بجانب السرير، ناظرًا للأعلى بتفكير فقالت بوهن:يوسف.هبط ببصره فورًا مبتسمًا بإطمئنان:الحمد لله أنك فوقتي، ده كله نايمة، هو أنتي مكنتيش بتنامي في البيت ولا إيه!هو أحنا أمتي ولا في إيه.حاولت أن تنهض وتعتدل في جلستها، فنهض يوسف متمتمًا:أساعدك.أشارت له بيدها قائلة بنفي:.لا شكرًا..وضع إحدى الوسادات خلفها وهو يقول: حضرتك، باين عليكي أكلتي حاجة ملوثة، وحصل تسمم وعشان أنتي ضعيفة وعندك مشاكل في القولون مستحملتيش، الدكتور قالي من الأفضل تقعدي هنا يوم ويطمنوا عليكي..اكتفت بقولها وهي تنظر للأمام:الحمد لله..اقترب بالكرسي منها هاتفًا بقلق:أنتي فيكي حاجة، زعلانه من حاجة، حسام أو حد مضايقك في الشغل..حولت بصرها له ودت أن تقول أنت من يحزنني، نظراتك تذبح ما تبقى من روحي!، خرج صوتها ضعيفًا يحمل بين طياته الحزن والأسى:بالعكس مستر حسام محترم جِدًّا، وعاوز مصلحتي على طول، رغم إن أنا لوحدي في الغربة بس ربنا موقفلي ولاد حلال زيك وزي مستر حسام، وقفتكوا معايا عمري ما أنساها..بلهاء، لِمَ واو الجماعة تلك، فعل كل هذا حتى ينقسم الفضل بينه وبين حسام، انتبه على حديثها وهي تقول بخجل:.يوسف أنا عارفة أني طولت عليك في السكن وكان أخرى شهر وامشي، بس طولت، يعني أنا قربت..صمتت لبرهة تفرك يدها بتوتر قائلة:إن شاء الله قربت ألاقي.قاطعها وهو يقول بوجه جامد:إن شاء الله..واكتفى بالصمت، وبداخله كان يثور ويتمرد حتى يمنعها من قرار ذهابها، ولكن مازال عقله يلجم لسانه من الكلام، مكتفيًا بكلمة أوحت لها أنها ليس إلا عبأ وثقل فوقه ويتمنى أن يتخلص منها، فبدا في حاله تضاد غريب، يظهر شيء للعلن ويخفي سر بداخله، تعجب لحاله بعدما أيقن أنه أوقع نفسه فيما يسمى ب تضاد الحب...
نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل السابع والأخيرأدخلي براحة..هتف بها يوسف وهو يساعدها في الدخول للشقة، ابتسمت بلطف، ورفعت بصرها إليه وهي تقول بمزاح خفيف:أنا مش عاملة عملية يا يوسف، ده تسمم عادي يعني...جلست فوق أقرب مقعد ومازال جسدها يعاني من الإرهاق والتعب فجلس مقابلها يهتف بحنق زائف:تصدقي أنا غلطان، يالا قومي خدي الشقة كله مسح وتنضيف...وعلى ذكر الشقة حولت بصرها في أرجاءها بحزن، هي تعلم أن فترة مكوثها قليلة، ولكن شعرت بها بمشاعر لم تعهدها من قبل حتى وهي وسط عائلتها، رغم جفاء الغربة وقسوتها، إلا أنها هنا شعرت بالدفيء والاحتواء، شعرت بالمأمن والسكينة، سكينه احتلت قلبها لم تشعر بها قط، فظهرت إبتسامة جميلة فوق ثغرها، تقابلت نظراتها معه، فتدفقت الدماء لوجهها خجلاً، وضعه هكذا وهو جالس بأريحية فوق الكرسي المقابل لها ينظر لها بقوة جعلها ترتبك وتهتز ابتسامتها، فقالت بهدوء:.في إيه، مالك!أشار نحو ثغرها ليقول بحنو:ابتسامتك دي متتخليش عنها..ارتجفت يدها توترًا فوضعتها فوق وجنتاها تتحسسهما برفق قائلة بمزاح يُخفي خلفه خجل:ليه محسسني أنك بتتكلم عن بنت أختي يا يوسف، ضحكة إيه اللي متخلهاش عنها..وبخها بضيق:يا باردة، أنتي فاهمة قصدي كويس...رمقته بعدم فهم، فقال هو موضحًا:.أصل ليكي ضحكة لما بتضحكيها بيبقى نفسي الزقك في أي حيطة، أنا متخيلتش نفسي أبدًا أن في حاجة ممكن تنرفزني زي ابتسامتك الملعونة..انفجرت ضاحكة ضحكة خرجت من القلب، وقد هجرتها لفترات طويلة، ضحكة خرجت من أعماقها للحظات نسيت ماضيها ومستقبلها وحاضرها، وكأن العالم من حولها توقف وتبقى مشهدهم معًا، راحة ما بعدها راحة ملأت صدرها، ودت أن تنغمس أكثر وأكثر، تمنت ألا تنتشلها أحزان الماضي مجددًا من لحظة جميلة قد لا تكرر ثانيًا، لحظه أجمل ما بها وجوده معها...عم الصمت بعد حديثه، أكتفي يوسف منذ دخولها بعد نوبة الضحك تلك بالنظر إليها، وكأن روحه كانت تكتشف شيئاً جديداً بها، شعرت بالخجل من نظراته فقالت بتوتر:أنا عارفة أني عطلتك عن شغلك...ابتسم بهدوء:عادي أخدت أجازة..نهضت تقول بحرج:إيه اجازة علشاني، لا روح طبعًا، علشان ميتخصمش يوم كامل منك..اتجه نحو غرفته وهو يقول منهيًا الأمر: الصراحة أنا بتلكك، يالا غيري هدومك، وأنا هاعملك غدا..ردت خلفة بدهشة:.وكمان غدا!وقف والتفت لها ليقول بهدوء:إيه في إيه مالك مصدومة آوي كده ليه، هو أنا قصرت في حاجة قبل كده!هزت رأسها بنفي والتزمت الصمت، فقال هو قبل أن يغلق باب غرفته:طيب ادخلي ارتاحي، وأنا هاعمل الغدا واناديكي، ومتخافيش مش هعملك مكرونة بالتونة..أنهى حديثه بغمزة من طرف عيناه، وبسمة مشاكسة لها، فضحكت نور بخفة واتجهت لغرفتها، شعرت بصفاء بداخلها، ذلك النقاء التي كانت تبحث عنه وسط غيوم الماضي بدأ في الظهور، هل سيسطر على مشاعرها المضطربة أم ستظل غيوم الماضي تفرض سيطرتها الأبدية!، فضلت أن تعطى ذهنها وقتًا من الراحة، لقد أرهقته بالفعل بالتفكير، وأرهقت روحها بمشاعرها المضطربة!رغم إرهاقه، وتعب جسده، يوم كامل لم يذق طعم النوم به، بسبب جلوسه معها بالمشفى إلا أنه يقف الآن بالمطبخ ويطهو لها الطعام بكل صدر رحب، أمس كان لا يكترث لأحد غير نفسه وأخته، والآن ها هو أضاف شخصًا جديداً لإهتماماته، وضعها القدر أمامه جبرًا كان بيده الفرار من واقع غرامها، ولكن وقع به متجاهلاً كل حبال النجاة، الحب يأتي فجأة دون مقدمات، يقتحم مشاعرنا في لحظات، فنقع به كالحمقى بدون استئذان، مقولة قد رأها من قبل وابتسم ساخرًا بعدها، ولكن الآن يبتسم ساخرًا على حاله حينما أدرك صدقها...انتهى أخيرًا من إعداد الطعام، لأول مرة يستغرق ساعة ونصف في إعداد وجبه، ولكنه اهتم بها جيدًا وخاصة مذاقها، حتى لا تعلق الكونتيسة تعليق سخيف مثلاً الأكل دلع أوي، أبقى زود ملح، ولا أنت بخيل ...ألقى منشفة يده بهدوء مبتسمًا واتجه صوب غرفتها وقبل أن يدق بابها، ارتفع رنين جواله، استدار مرة أخرى واتجه صوب الطاولة، جذبه وهو يطالع اسم المتصل، أجاب على الفور عندما وجده حسام..ألو، أبو الشباب أخبارك!حبيبي أنت كويس!.جِدًا..يوسف ممعكش رقم تاني لنور، أو تعرف عنوانها فين، تليفونها مقفول!رفع يوسف بصره فورًا نحو غرفتها، وبعد ثوان من الصمت هتف يوسف بهدوء:رقمها اللي معاك هو ده بس اللي معها، خير في حاجة عاوز تقولها..مفيش مجتش الشغل، بس أنا عديت اليوم ده خلي بالك أنا بعمل ده كله علشانك..هتف يوسف بإرتياح:حبيبي تسلم هي كانت تعبانه جِدًا وقالتلي أبلغك ونسيت.ألف سلامة خليها ترتاح وهي بكره اجازة، بس قولها بعد كده تتصل وتبلغ، وخليها بقي تكلمني ضروري لو أنت بتشوفها!عقد يوسف حاجبه ليقول:تكلمك ليه، في إيه؟!.هتف حسام بلامبالاة:مفيش، كانت طالبه مني سكن غير اللي هي قاعدة فيه، لأنها مش مرتاحة فيه، وأنا لقيت بس هيفضى بعد يومين، خليها تكلمني افهمها التفاصيل، قولها بس تفتح تليفونها.طيب.رد مقتضب مناسب جِدًّا لما يشعر به الآن، أغلق الاتصال معه وبدأت تتوهج نيران غضبه، حتمًا لو طالتها ستحرقها وتجعلها مجرد رماد لذلك الشعور الذي بدأ بالوخز في عقله وصدره ألا وهو الغيرة، شعور صعب السيطرة عليه وخاصةً أن اكتملت أركانه، لهذه الدرجة تقدمت علاقتها بحسام، التوى فمه متهكمًا حينما تذكر سببها لترك الشقة عدم راحتها! الوقحة لِمَ لا تشعر بالراحة بها، ماذا فعل حتى تقول هذا، لم يصدر منه أي فعل قد يزعجها، زفر بحنق وهو يقف كالأبله بمنتصف الصالة يفكر بها وبأسبابها الواهية التي قد افتعلتها لترك الشقة، وبخ نفسه ليقول بهمس:.وأنا متضايق ليه، ما تولع..انتشل من أعماق تفكيره على صوتها حينما خرجت من الغرفة مبتسمة:أنا شميت ريحه الأكل قولت اطلع أسليك لغاية ما تخلص!هتف بغيظ هامسًا:ده انا هتسلي عليكي وأنا بقتلك.وقفت أمامه تجهل تمتمته مبتسمة:بتقول إيه!مبقولش..هتف بها بضيق، فقالت هي متعجبة من عبوسه:في إيه!مفيش!التفت نحو المطبخ، فأوقفته بقولها:يوسف، أنت بس من كام ساعة كنت كويس معايا دلوقتي مضايق، في إيه!انفجر يوسف بوجهها هاتفًا بحنق:.في إيه أنتي، لغاية أمتي ناوية تفضلي كده مش ناوية تتغيري للأحسن، ولا هو مفيش أمل.عادت خطوة للخلف تقطب ما بين حاجبيها قائلة:أمل إيه إيه الجنان ده هو أنا عملت إيه المرادي...اقترب منها خطوة يقول بعصبية:أيوه اعملي نفسك مظلومه، وكل الناس جاية عليكي حتى أنا، للدرجة دي أنا مسببلك إزعاج مفيش راحة هنا..جعدت جبينها أكثر تحاول فهم حديثه فقالت:أنت بتقول إيه إزعاج إيه، ما تفهمني.أنتي مروحتيش وطلبتي مساعدة من حسام يدورلك على سكن علشان مش مرتاحة هنا، حقيقي مستغرب تعاملك كله مع رجاله بس!.أخرس!هتفت بصوت مبحوح:متتعداش حدودك معايا، مش معنى أني اعتبرتك أخ ووثقت فيك، يبقى تقول عليا كده..وسبتي دبي كلها ورايحة تسألي حسام، ويا ترى ليه؟!، أخ بردوا!.حقيقي أنا مستغرباك ومستغربة طريقتك معايا، مالك أنت أسال ده ولا مسألش ده يخصك في إيه!حدق بها والشر يتطاير من عيناه:تصدقي صح يخصني في إيه اهتم بواحدة زيك ليه، بواحدة سابت أهلها لأسباب مريضه في دماغها..كانت قد وصلت إلى ذروة غضبها، لم تعد تعي أي شي، ولا تهتم بما سيحدث لها رغم ألام معدتها الشديدة، فقط هو، هو من سبب لها كل الانزعاج والغضب:.أنت بتخليني أندم على كل لحظة قولتلك فيها سري، أنا كرهت اليوم اللي قعدت هنا فيا..عقد ذراعيه أمامه ليقول بنبرة جافة باردة: أنا مش ماسكك براحتك، عاوزه تقعدي او تمشي براحتك..أنفاسها المتقطعة جعلت صدرها يعلو ويهبط بسرعة عجيبة، استعادت شجاعتها الزائفة، وانتفض عقلها كما لو كان لدغها عقرب فقالت:أنت صح، وأنا هامشي الليلة ومش هاقعد هنا ثانية واحدة، حتى لو نمت في الشارع أهون عندي من أن اقعد معاك..أنهت حديثها وانطلقت بسرعة نحو غرفتها تغلق الباب خلفها بقوة، أما هو فظل واقفًا مكانه وبداخله صراع قوي ما بين تركها حتى تذهب بعيدًا عنه، أو الذهاب خلفها، جلس مكانه بتفكير، كل طريق منهما له عواقبه على مشاعره، أي منهما سيتخذ بدأت أجراس الإنذار تنطلق بعقله بشأن تماديه في مشاعره المتدفقة نحوها، ولكن ها هو يقف عاجزًا أمامها تَبًّا لتلك المشاعر التي بدأت تتدفق به كالمياه فتجرف معها كل أفكاره السلبية نحوها، آه لو تعلمين يا نور ماذا يوجد بداخلي تجاهك حتمًا ستشفقين علي، ولكني أَحيَانًا أنا أشفق عليك من عنفوانها، أمم حسنًا نحن الاثنين نريد الشفقة لِمَ نمر به..أما بالداخل فكانت تتوالى الشتائم بداخلها عليه، كان الغضب قد بلغ أشده معها، لم تعد تتحمل أكثر من ذلك فجلست تنفجر باكية تشهق بخفوت كالأطفال، إلى متى ستُحاسب على قرار قد اتخذته في لحظة تهور، لِمَ لا يرحمها أحد، قدرنا لا نختاره بل نسير وفقاً لدربه، داخلنا مجبر له حيث لا فِرار من ماضي أهوج، ماضي ترك لدينا فجوة عميقة، تبتلع روحنا وتجعلنا عاجزين أن ننجو منها...أكثر ما يؤلمها نظرات الناس لها، وخاصةً نظراته هو، تستشف رؤيتهم لها من خلالها، ودت الصراخ بأعلى صوتها لتقول أنا لست بتلك الباردة التي ترونها، علني يظهر لكم برودتي وداخلي يغلى كحمم البركان، أنا أبالي بكل شيء حولي، أنا أتوجع لماضي أبى أن يغادرني، ومستقبل أجهله، وحاضر يذبح روحي، حتى الآمي المستترة خلف ابتسامتي المصطنعة أنا أتعذب بسببها، أنا أظهر للجميع بأني لا أكترث وأنا أكترث وأكترث، لم تجد أمامها سوى النهوض وأن تلملم بقاياها المبعثرة يكفي تألمها إلى هذا الحد، والغريب هنا أن ما يؤلمها ليس ماضيها بقدر ما يؤلم قلبها، حبه الذي وشم فوق قلبها دون إراده منها، حاولت مقاومته وفشلت، ستحتفظ به بداخلها، ستجعله سلاح قوي تحارب من أجله شدائد الحياة ومحنها الصعبة..نهضت بثقل وتجاهلت آلام جسدها ومعدتها، وقررت أن تترك المكان الليلة وبالفعل جمعت كل شيء قد يخصها ورتبت الغرفة كما كانت، وقبل أن تغادر ألقت عليها نظرة أخيرة تودعها، جلست بشقتها في مصر لأعوام طويلة وحدها وحينما قررت الهروب لم تلتفت خلفها لثانية، تركت كل شيء بصدر رحب على الرغم من أن فترة مكوثها هنا أقل ولكن تتعذب لترك تلك الغرفة التي طالما شعرت بها بمشاعر أسعدت قلبها ولو ثواني، قلب لم يذق معنى السعادة، قلب عانى من الجفاء وقلة التقدير وأحيانًا الحسرة...خرجت من الغرفة وجدته أمامها يجلس واضعًا يده فوق رأسه، مسحت أخر دمعه متبقية بوجنتها، قررت أن تظهر قوتها له، اقتربت بخطى ثابتة تجر خلفها حقيبتها الكبيرة، رفع بصره فورًا وجدها أمامه تقف بشموخ نظراتها تحتد له وخلف تلك الحدة ضعف وخوف من مستقبل قد تجهل عواقبه...أنا ماشية وبشكرك على حسن استضافتك ليا...وضعت يدها بحقيبتها الصغيرة وجذبت ظرف متوسط الحجم، ألقته بإهمال فوق الطاولة مشيرة نحوه:.ده إيجار المدة اللي قعدتها، وفوقهم فلوس الأكل اللي اكلتوا، وكمان مصاريف المستشفى..البلهاء وضعت ما تبقى معها من مال في ذلك الظرف، مقنعة نفسها أنها بتلك الطريقة تحافظ على ما تبقى من كرامتها..مش هرد عليكي، شيلي فلوسك دي!حركت رأسها برفض لتقول:لا طبعًا ده حقك، وبعدين انت تصرف عليا وتتحمل حاجه فوق طاقتك وانا حيالله مخصكش في حاجه، انا مجرد واحدة غريبة..عندما وجدت صمته قد طال وعيناه المتنقلة بينها وبين ذلك الظرف نظراته جهلت تفسيرها ولكن أدركت معظهما ساخرة وغاضبة، حسنًا لن تقف كالبلهاء وتفسر نظراته، خطت بخطواتها تجاه باب الشقة، وقلبها يحثها على الالتفات والنظر إلية و لو لمرة واحدة، نظرة تحتفظ بها بقلبها شهقت بصدمة حينما وجدت يده تقبض فوق يدها قبل أن تفتح الباب، رفعت بصرها تأمره بنبرة قوية:لو سمحت أبعد..لا..هتفت باستهجان:.هو إيه اللي لا، بقولك أبعد.قبض أكثر فوق يدها وهو يقترب منها أكثر فأكثر رجعت هي للخلف تلقائيًا حتى اصطدم ظهرها بالباب، ركز ببصره بقوة فوق عيناها ليقول بخفوت:متمشيش.وضعت يدها الأخرى فوق صدره تحاول دفعه بعيدًا عنها:بقولك أبعد، ميصحش تقرب كده مني..ظل جسده ثابتًا لم يتزحزح للخلف كما أرادت فقال:هو يصح تمشي في وقت زي ده!التوى فمها ساخرًا:لا كتر خيرك بجد، بس عادي بليل الصبح مش فارقة كتير بالنسبالي..جذبها نحوه لتصطدم بصدره العريض أكثر:لا ما هو أنتي مش هتمشي خالص، أنتي هاتقعدي هنا على طول..توترت بشدة من درجه اقترابهم، رفعت بصرها تحاول إدراك ما حدث له، لِمَ يتعدى جميع حدوده بهذا الشكل، ولكن ملامحه القريبة منها لجمت لسانها حتى عيناه أربكت مشاعرها، حثها عقلها على الابتعاد والخروج من تلك الحالة التي وقعت بها، ابتعدت خطوة تقول بنبرة مهزوزة:.مينفعش اقعد هنا هقعد بصفتي إيه، إذا كنت قعدت في الأول كان لسبب قوي وهو ان مكنش فيه مكان بس حتي لو مفيش مش هق...لم يتحمل مزيد من الترهات ف قاطعها قائلاً:أنا قررت اعطف عليكي واتجوزك.تعطف وتتجوزني!قالتها باستنكار شديد، فهز رأسه مبتسمًا، أغاظها إبتسامته تلك فقالت بنفي وبداخلها جزء من مشاعرها كانت تتراقص لحديثه:لا طبعًا، بقي أنا أهرب من مصر علشان مرضاش اتجوز واجي هنا علشان اتجوز!يتمنعن وهن الراغبات..ضحكت ساخرة تحاول أن تخفي مشاعرها: راغبات إيه يابني بجد، هو أنت مجنون بقي أنا اتجوزك أنت..أنهت حديثها حينما أرجعت خصلاتها للخلف بكبرياء وابتسامة ساخرة فوق ثغرها، لم يبعد عيناه عنها متأملاً لكل حركه من جسدها:أنتي تطولي تتجوزي واحد قمر زي، وبعدين أنا قررت ألمك واتجوزك، أنتي محتاجة حد يلمك..حدقت فيه، مستغربة فكرة الزواج هذة وردت قاطبة الجبين:جواز إيه لا طبعًا، مش موافقة!هز رأسه بِتَحَدً واقترب منها:هتوافقي.طبعًا مش موافقة، متحاولش تتحايل عليا لأني رافضة.وضع يده حولها يحاصرها ليقول بِتَحَدً وإصرار:هتوافقي..حاولت إبعاده قائلة برفض وداخلها كان يتصارع في حيرة من ذلك الأمر المفاجئ:هو عافية ولا إيه، أنا رافضة أني اتجوز دلوقتي..اتسعت ابتسامته ليقول:بس مش مني!، أنا مترفضش..لم تستطع منع ابتسامتها أكثر من ذلك، فظهرت جليًا له قائلة:.أنت بقيت مجنون، طيب أنت عاوز تتجوزني ليه..اعتدل بوقفته واضعًا يده بجيب بنطاله:من غير أسباب، هتجوزك وخلاص.عقدت ذراعيها أمامها قائلة بمكر:لا طبعًا لازم يكون عندك أسباب، وبالذات بقي أنك أكتر واحد عارف الماضي بتاعي واللي ممكن يعارضك بعدين و وبعدين انت مقتنع أنه أنا غلط.هز رأسه متفهمًا حديثها، وفاجأها حينما قال: ومازالت على فكرة...طيب وإيه اللي غاصبك أنك تتجوزني!أشار نحو قلبه ليقول:المهزأ ده...فغر فاها فقالت متعجبة وتعلق بصرها بقلبه: نعم؟!أومأ إيماءه صغيرة ليعود قائلًا بنبرة بعثرت مشاعرها:المهزأ اللي حبك، تتخيلي أن مفيش واحدة قدرت تخطف قلبي غيرك، غيرك أنتي أعمل فيه إيه بقي، لازم أريحه وأريحك من التشرد ده.انفجرت ضاحكة لتقول بدهشة:يوسف بطل هزارك بجد إيه الجنان ده، تشرد إيه بابني أنا زي الفل وقادرة على التحدي والمواجهة كمان، شكرًا على تعاطفك..عاد يستند بيده فوق الباب محاصرًا لها قائلًا: هي البعيدة مبتفهمش ولا غبية، بقولك خطفتي قلبي، يعني خلاص مبقاش فيه مفر، هتجوزك غصب عنك، وبعدين مواجهة مين ي ام مواجهة أنتي قادرة تتنفسي، احمدي ربنا وبوسي أيدك وش وضهر أن أنا هانقذك من الضياع..ضربت كَفًا بالآخر لتقول متعجبة:حقيقي ده أحقر طلب جواز شفته بحياتي كلها، أنت بتحبني ولا بتهزقني!وبحركة واحدة أغلق باب الشقة بالمفتاح، فحولت بصرها نحو القفل قائلة:.إيه ده!قفلته علشان بكره هتجوزك زي ما أنا قررت، وأول ما تكوني على اسمي صدقيني هأربيكي وهاعلمك الأدب، وبعدين اهدي شوية أنتي هاين عليكي ترقصي من كتر فرحتك بيا، بذمتك أنتي مش بتحبيني...ضحكت بتهكم وأردفت:لا طبعًا.عاد إليها مجددًا يقترب بعدما قد ابتعد بضع خطوات:أنتي مش بتحبيني!.هزت رأسها عدة مرات بنفي ولم يستطع لسانها قولها، فقال هو بعبث:مبتحبنيش، قوليها، قولي مش..هتفت خلفه بِتَحَدً:مش.ليقول هو بخبث بعد ثانية: بحبك يا يوسف.بحبك يا يوسف..ابتسم بمكر ليقول بفخر:عارف..لم تستوعب ما قالته لتو، إلا بعد ابتسامته ونظرته الماكرة لها فقالت بضيق:أنت ضحكت عليا...استدار متوجهًا نحو غرفته قائلًا:يالا ادخلي نامي، وبكره هانعرف مين ضحك على مين..دبدبت بقدمها أرضًا بغيظ:على فكرة بقي مش هتجوزك، ولو على جثتي..قبل أن يغلق غرفته غمز لها:هانشووف..اغلق الباب بوجهها، وظلت هي واقفة مكانها تحاول استيعاب ما حدث، ولكن ضجيج قلبها ودقاته العنيفة التي كادت تكسر قفصها الصدري يمنعها من أي شيء سوى أن تشعر بسعادة زحفت نحو قلبها لتخبره وأنه أخيرًا قد وجد ملاذه، أما هو فاستند بظهره على باب غرفته، أخيرًا أنهى صراعه حينما حسم لقلبه، ضاربًا بكل تحذيرات عقله عرض الحائط، معًا سيتخطى أي شيء قد فعلته، سيقومها، سيعوضها عن ما فقدته، ويشبع روحه بها، غريب الحب له القدرة على تحويل قلبك من ظلام دامس، لقلب يشع بنور لامع تنبض له الأوردة بعنفوان..!حل الصباح سريعًا، ولم يذق جفنيها طعم النوم، لقد أرهقت عقلها بالتفكير، أمر زواجها منه يستحيل، لن تبني حياتها على أسس واهية، ومع أول صدام تقع المصائب فوق رأسها مجددًا، والخاسر الوحيد بهذه الرحلة ستكون هي، لم يعد قلبها في حالة لاستيعاب خسارة مجددًا، يكفي ما تعانيه الآن، ظلت بالصالة هي وحقيبتها تنتظر الصباح بفارغ الصبر حتى تتحدث معه بعقلانية، رفعت يدها تطالع ساعتها بملل، لم يتأخر من قبل في استيقاظه مثل اليوم، ماذا حل به، انتفضت بفزع، عندما فتح باب غرفته بقوة، وضعت يدها فوق صدرها تقول:.بسم الله..إيه اللي مقعدك هنا..اعتدلت بجلستها تبتلع ريقها وهي تشير له: يوسف ممكن تيجي نقعد ونتكلم مع بعض.الناس بتقول صباح الخير يا نكدية..قلد ملامح وجهها العابس، فأشارت له ثانيًا دون أن تنطق بحرف، امتثل لأمرها وجلس بمقابلها، فقالت هي:يوسف، أنت طلبت مني نتجوز امبارح..صحح لها بصيغة قوية:لا أنا مطلبتش، أنا قولتلك هنتجوز، وده اعتبريه أمر، اعتبريه زي ما تعتبريه بقي.ضحكت بسخرية لتقول:.أما أنت غريب، دي حياتي أنا، وأنا اللي أقرر..أشار لها بنفي قائلًا:لا، أنتي واحدة أساسا هبله ومش عارفة مصلحتك، أنا بقي عارف مصلحتك فين وهنتجوز..قررت مجاراته بالحديث فقالت:بالعكس مصلحتنا عمرها ما تتقابل يا يوسف، أنت عمرك ما هتتخطى اللي عملته، ومع أول مشكلة ما بينا أبسط حاجة هاتشك فيا، يمكن أنت انجذبت ليا علشان قصتي، حسيت بتعاطف فحبيت تساعدني..قاطعها مصححًا لها بنبرة جادة:.بتعاطف معاكي فبساعدك مش هاتجوزك، أنتي عارفة يعني إيه جواز، ما هو أصله مش لعبه يا نور الجواز حياة، وأنا خلاص أستقريت على اللي قلبي شاور عليها، مش قولتلك مهزأ.رفعت يدها تشير نحوه بضيق خفيف:أهو شوف بتشتم قلبك علشان حبني..مانتي فعلًا غبية، بقولك أنا بحبك وعاوز اتجوزك أثبتلك أكتر من كده إيه..أنا وأنت مش متكافئين.قالتها بعصبية، فأردف هو بهدوء:هنتكافئ، ميبقاش نفسي فيه وأقول أخيه..زفرت بحنق قائلة:.طيب أنا عرفتك كل حاجة عني، أنا معرفش حاجة عنك، معرفش غير أنك اسمك يوسف...ومصري، وأختي اسمها ريم وأبويا وأمي متوفيين، وريم أختي الوحيدة، وماليش حد غيرها، عاوزة تعرفي إيه تاني!تساقطت الدموع من عيناها بغزارة وهتفت تعبر عن حيرتها:أنا خايفة أوافق ارجع أتكسر تاني، أنا مش عاوزاك تكون ذكرى في ماضي يلاحقني بعدين.اقترب منها ثم أمسك يدها ليقول بنبرة هادئة: تقدري تقوليلي انتي بعدتي عن اهلك ليه وجبتي هنا، تقدري تجاوبيني..أجابته وهي مازالت تبكي فخرجت نبرتها مهزوزة:علشان انا تعبت من الوحدة، كان نفسي يكون ليا سند وضهر، يكون ليا بيت دافي مش واحد بارد، جدرانه عمرها ما كانت امان ليا، علشان ملقتش الحب منهم ملقتش الدفى، ملقتش حد يحتويني، مشيت وقررت ان اكون لوحدي واهرب، أحسن من أن اكون مع ناس نفسهم يخلصوا مني..طبع قبلة فوق كفها ببطء هامسًا بحب:.وانا مش نفسي اخلص منك، بالعكس أنا نفسي تفضلي معايا على طول، رغم جنانك ولسانك الي عاوز قصه، وتصرفاتك اللي عاوزة تتلجم، الا انك ضفتي روح على حياتي اللي كانت شبه بلا روح تقريبًا، يمكن جنونك عدوة وعداني بس انا بقي راضي بيه ومش عاوز ادور على علاجه بالعكس انا هافضل عايش كده، علشان أنا حابب كده، كل اللي انتي هربتي بسببه انا هاعوضك عنه، نور انتي حابة ترجعي واتجوزك منهم انا موافق، اي حاجة أنتي تختاريها انا موافق ومعاكي..هتفت سريعًا وهي تبكي من اثر كلماته التي دخلت قلبها وقيدته بحبه، ولجمت عقلها عن التفكير او الرفض حتى:لا خلاص يا يوسف انا مبقاش ليا أهل، لو فكرت ارجع هايقتلوني، وابسط حاجه هايجوزوني لحد غيرك، أنا مش فارقه معاهم يا يوسف، منزلوش منشور واحد عني ان مثلا ضايعة...ضربها بخفه برأسها ليقول:غبيه، ضايعة ايه وانتي اصلا لامه هدومك كلها، ومشيتي..نظر لحقيبتها بمزاح:دي هدومك ولا شنطة فاضية بتمثلي بيها عليا...ضحكت من وسط دموعها قائلة:لا فعلا هدومي، اقصد انهم عايشين حياتهم، ولاد اعمامي محدش قال حاجه توحي أن انا وحشاهم...قولتلك وهافضل اقولك، ده قرارك متعلقيش اخطائك على شماعة غيرك، والحياة مبتقفش على حد ومش هتقف عليكي، رغم اني مش معاكي في كل اللي عملتيه!؟رفعت بصرها بحزن:.علشان مجربتش تحس انك عاله على حد، مجربتش تشحت الحب بنفسك من حد، الوحدة انت اللي فرضتها على نفسك، متفرضتش عليك غصب، انا كنت ظاهرة للناس من بره إني في بيت العيلة و قد ايه اهلها بيحبوها، ومن جوا مكنش حد بيهتم، أوقات معاش بابا كان بيقصر معايا، من كتر ماهما بُعاد عني، كنت بتكسف اقول تلاجتي فضيت، بلاش اتكلم واقول حاجات كل ما افتكرها تكسرني ألف مرة..مد أصابعه ومسح دموعها برقة:.بس ده رأي انا كمان، نرمي اللي فات ورا ضهرنا، ونبص على حياتنا دلوقتي ونبدأ حياة جديدة، حياة نتعاهد أننا منبعدش عن بعض مهما حصل..أنا مش هابعد يا يوسف، حد يلاقي وطنه وميقعدش فيه ويتمسك بيه بكل قوته...انتظر لدقائق يستوعب جملتها ليقول بعدها بنبرة تحمل مشاعر الحب:حقيقي لو مكتوب كتابنا حالاً، كان زماني ردي هايكون عليكي مناسب، بس حاليًا هاضطر ابلعه واسكت..لم تدرك حديثه، وخاصةً حينما طبع قبله أخرى بيدها، فابعدت يدها تقول بحنق:هي بقت تسلية كل شوية تبوس ايدي!دفع يدها بعيد عنه هاتفًا بمزاح:احمدي ربنا ان رضيت واتنازلت وبوستها..ضحكت وهي تشاكسه:وفر بوساتك لنفسك..ضحك هاتفًا:ده يبقى عيب في حقي..ارتفعت ضحكهما معًا، متناسين أي شيء قد يعكر صفوهما، قد يكون زواجهما متهور، وقد يراه البعض غير منطقيًا، ولكن كل هذا وقع تحت مسمى الحب، والحب كل شيء به مباح، يمر قطار الحياة بنا ونحن ننغمس في آلامنا، مشاعرنا تجعلنا في حالة من الجمود، الا أن أملاً واحد اذا وقعت أعيننا عليه، يخرجنا من دائرة المرار التي استوطنت داخلنا..