رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامسرفرفت أهدابها عدة مرات، حتى فتحت عيونها، لتحملق فيما حولها، مشوشة لا تدرك أين هى.!؟.حتى تنبهت اخيرا، انها على الفراش، فى غرفة نومهما، والبارحة كانت ليلة عرسها، دعكت عينيها.لتدرك انها لا تحلم، وانها متيقظة تماما، حتى تأكدت انها الان فى كامل يقظتها، عندما وقعت عيناها على محسن، وهو يغط فى نوم عميق على ذاك المقعد، الذى جلس يقرأ عليه مساءا، كانت ملامحه الان، هادئة، وديعة، وهو يسترخى نائما محتضنا كتابه، المفتوح على صدره، ورأسه تميل يمينا، وشعرهالاشعس مبعثر فى فوضى..ابتسمت عندما تذكرت حنانه ووداعته معها بالامس..غادرت الفراش بهدوء، ومشت على أطراف أصابعها.حتى لا توقظه، تتجه خارج الغرفة، تستكشف تلك الفيلا، التى لم تلحظ اى من معالمها بالامس..دارت فى انحاءها حتى عثرت على المطبخ، كم تشعر بالجوع، فهى حرفيا، لم تتناول الطعام منذ البارحةومعدتها تصدر أصواتا قتالية تشبه، سباب ما، على تركها خاوية كل هذا الوقت..فتحت الثلاجة، وشرعت فى اعداد الافطار، واندمجت بكل طاقتها، ورائحة الطعام الشهية، تخدر حواسها كليا، حتى انها لم تستشعر ذاك الذى اقترب من الخلف، ليفاجأها باحتضانها، لتصرخ فى رعب حقيقى وهى تمسك بيدها صحن البيض الذى انتهت من اعداده للتو، فيقفز الطعام، ليلتصق بالسقف..ابتعد عنها، وهو يضحك بشكل هيستيرى، على ملامحها التى اعتلاها، الغضب، و الخجل فى آن واحد..-هل رأيت نتيجة أفعالك!؟، هتفت بصوت حانق تضغط على أسنانها غيظا، وهى تنظر للطعام الطائر بحسرة..-لا عليكِ، سأتسلق الحائط لألعقه ان كان هذا يرضيكِ، قالها، ونوبة الضحك لم تفارقه، فاقترب منها وعينيه تلمع ببريق عابث، واستطرد فى هدوء..أخافها، او، ربما هناك أفطار أشهى بأنتظارى..كان يقول كلماته الاخيرة، وهو يقترب ليضمها، وإذ فجأة، يسقط الطعام المعلق، على رأسه، وكتفيه..ليصمت هو، وتضع هى كفها على فمها، مصعوقهوأخيرا تنفجر ضاحكة، وتهرب مسرعة، من أمامهورنات ضحكاتها، تسبقها، وهى تختبئ خوفا من عقابه، الا انه ما لبث، ان ازال الطعام الملتصق بهواسرع خلفها، وابتسامة كبيرة تغطى وجهه..صرخت عندما ظهر على باب غرفتهما، ووقفت على الفراش تحتمى بعدة وسائد طالتها يديها، انفجر ضاحكا.وهو يندفع للفراش، وهو يهتف بصوت جهورى: - اذن فهى الحرب، ويجمع عدة وسائد فى طريقه، وبدأت المعركة، وكل منهما يكيل للاخر الضربات، كيفما اتفق، والوسائد تتطاير يميناً ويساراً، وصوت ضحكاته وصراخها، يشق الصمت حولهما، حتى كانت أخر وسائدها، فقذفتها فى يأس، لتصطدم برأسه، و، يتوقف هو..ترك وسائده من يده، ووقف فى صمت، يحاول استجماع قوته، ليجابه ذاك الالم الذى بدأ يعتصر رأسه، قفزت هى، تصرخ منتشية بأنتصارها...و هى تضحك فى فرح غامر، حتى تنبهت الى غرابة صمته، الذى ظنت انه مزحة فى البداية، اقتربت، فى خوف، وخاصة عندما بدأ ينهار فجأة، ليسقط على ركبتيه، يحيط رأسه بكلتا يديه، فى الم صامت يهزه هزا، وضعت كفها على كتفه، : - محسن، هل انت بخير..!؟، سألت فى رعب حقيقى..ولم يجبها، فى ساعتها، بل أشار لأحد الأدراج، ففتحته، لتجد دواءا، فتناولته بسرعة، وقدمته له مع كأس من الماء، رفع رأسه بصعوبة، ليتناوله...لقد رأته، عدة مرات يتناول، هذا الدواء، فى اكثر من مناسبة جمعتهما، كانت تلاحظه، يتناوله خفية..ولم تشأ، ان تسأله، شعرت انه امر خاص، وليس من المستحسن ان تتدخل، فقد يشعره ذلك بالحرج..مضت عدة دقائق، فتحرك، من رقدته التى كان يتقوقع فيها على نفسه، وتمدد على الفراش، وهو مغمض العينين، شاحب الوجه، جلست على طرف الفراش، تراقبه، لا تدرى ما يجب عليها فعله، تشعر بالذنب، يعتصرها، فهى السبب فيما يعانى..وضعت كفها، بشكل لا أرادى، على كفه الممدودة بجوارها، فتنبه، وأمسك بها، ليجذبها، ليضعهاعلى جبينه، فتقترب منه مرغمة، لتفعل ما طلبوتترك كفها، حيث وضعها، على مقدمة رأسه.التى تشعر بها، تنبض بقوة، عند احد جانبى جبهتهظلت، على وضعها لا تتحرك، حتى شعرت بتنفسهينتظم، وايقنت انه راح فى نوم عميق، فتحركت ببطء، وجذبت عليه الغطاء، ونزلت للمطبخ، لتنظيف الفوضى الذى خلفها ذاك الافطار الكارثة، وتكلم أخيها، يوسف، لقد افتقدته كثيرا، انها الليلة الاولى التى تبيتها بعيدا عنه...سمعت الرنين على الطرف الاخر، واخيرا، رد يوسف، الذى ما ان سمع صوتها، حتى هتف فى سعادة: - مودة، أوحشتنى كثيرا، جدا...-حبيبى، هل انت بخير، وكل الامور، تريحك..!-اه، نعم، انتِ لم ترى حجرتى بعد، انها رائعة وبها كل ما أتمنى، من ألعاب، و دادة نبيلة، تعتنى بى، وبكل طلباتى، لكن اخبرينى، متى تأتين، فأنا افتقدكِ..-غدا، ابو بعد غد، سنكون عندك، ولن نفترق ثانية ابدا..- المهم ان تكونِ سعيدة، وكيف هو محسن، هو رجل طيب، أليس كذلك..!؟، و يحبك كثيرا أختى..-نعم، هو رجل رائع يوسف، وهو يرسل لك كثير السلام..-حسنا، استمتعا باجازتكما، وانا فى انتظاركما بشوق-حسنا، حبيبى، اعتنى بنفسك، وسلامى لدادة نبيلة..-حاضر دودى، أحبك كثيرا..-وانا ايضا أحبك، وافتقدتك، اعتنى بحالك لأجلى، وداعا...وأنهت المكالمة، ولا يحتل عقلها، وفكرها، غير صورة محسن، وهو يتألم بذلك الشكل، الذى انفطر له قلبها، فقدت شهيتها للطعام كليا، فصنعت لها فنجانا من الشاى، لتشربه على احدى الشرفات..لتطالعها الطبيعة الساحرة التى تحيط بالمكان، فاستنشقت، ما استطاعت ان تملأ به رئتيها، من ذاك الهواء النقى، الذى أعاد لها صفاء ذهنها، وبعض من قوتها..أنهت فنجانها، وقررت المرور على حجرة نومها، لتطمئن على محسن، فتحت باب الغرفة فى بطء شديد حتى لا توقظه، لكن ما ان، اصطدمت عيناها بالفراش، حتى اكتشفت انه فارغ، ففتحت الباب فى عجالة، تنظر حولها، فى قلق، لتصطدم به، وهو خارج من الحمام، يجفف شعره بمنشفته كالعادة..لتقفز للوراء عدة خطوات فى فزع، بينما يرفع هو المنشفة عن رأسه، ولا يحاول ان تلتقى عيونهما، وكأنه يتجنبها...-هل انت بخير..!؟، سألت فى قلق..-نعم، لم يزد عليها، وقالها بلهجة باردة، لامبالية..هل هو غاضب منها، ام ماذا..!؟، هى لم تكن تقصد، ما حدث كان محض صدفة..اما هو، فقد شعر برغبة عارمة، فى نسيان ما حدثلم يكن يتمنى ابدا، ان ترى نقطة ضعفه، لم يكن يتمنى ان ترى، فى بداية حياتهما معا، تداعيات مرضه تسيطر عليه، كان يحتفظ بتلك اللحظات دوما لنفسه، ولم يكن يُطلع عليها اى مخلوق، اى كان..وهى بالذات، لا يريدها، ان تراه، وهو يعانى..لم يكن يتمنى هذا ابدا، لكن تأتى الرياح، بما لا تشتهيه السفن، وسيحاول من الان وصاعدا، ان ينحيها جانبا، فى تلك اللحظات، الغير مرغوب فيها، والتى تفرض نفسها، على حياته، بلا استئذان..-أرتدى ملابسكِ، لنذهب لتناول الغداء بالخارج، أمرها بشكل رسمى، وهو يتناول ملابسه من خزينة الملابس، ويضعها على الفراش، ليشرع فى ارتداءها، لتندفع هى فى خجل، للحمام، وهى تتعجب من ذلك الرجل، ما عادت تدرك، ان كان ذاك الذى تركته فى الغرفة منذ لحظات والذى يمثل محسن ضرغام كما عرفته، وتعرفه، رجل الاعمال.شديد الصرامة، ام، هو ذاك الرجل، الذى حملها لفراشهما فى حنان، بالامس، ليدثرها، ويطبع قبلة المساء على جبينها..انها، لم تعد تدرى، فى الاساس، لما هى مهتمة، لإجابة هذا السؤال، فليكن من يكون...لما تهتم..!؟.ارتدت احد الفساتين التى وجدتها معلقة بعناية فى خزانة ملابسها، أخرجت احداها، كان زهرى اللون، قمة فى الجمال، والعجيب انها وجدته يناسبها تماما، وكأنه صنع خصيصا لها، مثل كل شئ وجدته، من اجلها لقد استطاع شراء كل احتياجاتها، بذوق راقى، ومقاس اكثر من مناسب، نظرت لصورتها فى المرأة، وألقت لها قبلة، وهى راضية تمام عن زينتها.خرجت تبحث عنه، فهى لم تجده ينتظرها فى غرفة النوم، لابد وانه مل، من الانتظار، هبطت الدرجوما ان طلت من علياءها حتى قابلتها زوج من العيون القاتمة التى تفرست فيها بصمت جعل الخجل يتملكها..ولكنه ظل على صمته، ولم يعلق بكلمة على اناقتهابل نهض مادا لها يده، ليلتقط كفها، فى احضان كفهويصعدا العربة..لم يتفوه كلاهما بكلمة واحدة، حتى وصلوا لذاك المطعم الفاخر، الذى استنتجت من معاملة موظفيه.لهما، معرفتهم السابقة بمحسن..حضر الطعام فى سرعة، كانت جائعة جدا فهى لم تتناول افطارها، فالتهمت ما قدم لها، فى شهية..وهى فى غاية الاستمتاع..-هل أعجبك الطعام..!؟، كانت الكلمات الاولى التى تفوه بها، منذ ما حدث صباحا، اخيرا فك أسر لسانه-أه، نعم، انه شهى، شكرًا..-كنت جائعة، على ما يبدو..!؟، سأل فى خبث مشيرا لشهيتها المفتوحة..- صحيح، كنت جائعة جدا، فأحدهما، جعل لافطارى اجنحة، ليطير..انفجر ضاحكا، وقد تذكر ما حدث فى المطبخ صباحاوراح ينظر اليها، نظرات نافذة اربكتها، كما انها، لا تعرف لما شعرت بقبضة باردة تعتصر معدتها، وهى تراه يعاود الضحك والمزاح من جديد، بعد ذاك الجو القاتم من الصمت، الذى شملهما منذ معركة الوسائد، شعور غريب، وكانما مع ضحكاته هلت الشمس لتسطع من جديد، من خلف غيوم الصمت والكأبة، لتدفأ قلبها، الذى اصبح يحيرها كثيرا، منذأصدمت به، للمرة الاولى، وحتى الان..كانوا يتناولا، مشروب خفيف، بعد الغداء، وقد شعرت بالنشوة، بعد ان تناولت ذاك الطعام الشهى..كما فعلت تلك الموسيقى، التى كانت تنساب الان، من حولها، أفاعيلها، فقد بدأت تحرك قدمها طرباشعر هو بقدمها، التى ترقص منفردة تحت فراش مائدتهما، فابتسم، ولم يعلق، وانصت للموسيقىمستمتعا هو الاخر، حتى فرغت من كأسها، فمد كفهليلتقط كفها، ويغادرا فى هدوء..مرت الفترة بعد عودتهما، هادئة لا يتخللها، اى حوار من اى نوع، تركها، وذهب لغرفة المكتبة، ليقرأ، لم تكن تدرى، هل هو بخير، ام عاد لصومعة صمته من جديد، جلست تتطلع، الى شاشة التلفاز، فى شرود تام، حتى انها لم تنتبه ان التلفاز منخض الصوت جدا، حتى سمعت موسيقاها المحببة تصدح من مكان ما، تطلعت للتلفاز مرة اخرى، ورفعت صوته، لكن لم يكن هو مصدر الموسيقى التى سمعتها فى المطعم منذ ساعات..اغلقت التلفاز وتتبعت الصوت، فى فضول، حتى وصلت لغرفة المكتب حيث يعتكف محسن، وحيدا مع كتابه، لم ترد ان تزعجه، فقررت العودة ادراجها..لكن الباب، فُتح فجأة، ليطل منه محسن، مبتسماكأنه يتوقع حضورها، مد يده ليلتقط كفها، وقبل ان تدرك ما يحدث، كانت بين ذراعيه يتمايل بها..أين ذهبت انفاسها، انها لا تستطيع التقاطها من فرط.الدهشة، كانت دقات قلبها تعلو وتهبط، متأرجحة فى سعادة، كان يقزفها بعيدا، ويعود ليجذبها ثانية لصدره، كان راقص بارع، وهى، كانت كالريشة..يتلاعب بها، دون ان تدرى وجهتها..كان يحقق احد احلام يقظتها، فى ان ترقص مع فارسها ذات يوم، على تلك الموسيقى الحالمة..لكن، هل حقا، يحقق حلمها، ام يشوهه..!؟.فهو ليس بفارسها، حتى الحلم، اصبح ممسوخ..لن تستطيع ان تحلمه من جديد، مع فارس أخر..ايقظها ذلك الخاطر، من نشوة الرقص بين ذراعيه..لتتشنج خطواتها، وتكاد قدميها تتعثر..فيدرك ذلك، بسرعة عجيبة، فيقربها من صدرهفى بطء، ويلف ذراعيه حولها، يكاد يحملها، فلا تلامس قدميها الارض، كانت الان، وبفارق الطول بينهما، على تماس تام مع قلبه، تلتصق أذنها بصدره.فتصلها دقات قلبه القوية، المفعمة بالحياة، فيدب فى أوصالها شعور عجيب، جعلها ترتعش، شعور لم تستطع تفسيره، او حتى تعريفه، فهى منذ طالعتها عينيه القاتمتين، وهى تختبر مشاعر وأحاسيس جديدةلم تخبرها من قبل، ولم تكن تدرك من الاساس..بوجودها، مشاعر آسرة، لا تستطيع منها فكاكا..ولا تستطيع تجاهلها، فهى مؤلمة وموجعة، وفى نفس الوقت، لذيذة ومنعشة، لا تعرف كيف تجتمع الاضداد، لكن هذا ما تشعر به، وهى بالقرب منه.يشملها حضوره الطاغى، و تتملكها نظرات عينيه..وتنتفض للمسات يديه..لا تعرف كم مر من الوقت، وهى تتأرجح برقة ونعومة، بين هاتين الذراعين..ولا تعرف كيف واتتها الجرأة، لتجد ذراعيها يتشابكانخلف رقبته..!؟، هالها ما وجدت عليه نفسها، فحاولت التملص بهدوء من أسره، الا انه احكم ذراعيه كالطوق حول خصرها، ليهمس لها: - أهدأى..فأنا لن، أفكر فى أؤذيكِ...-لكن، قالتها مشتتة، لا تعرف ما يجب ان تقول، او تفعل..-أنا لن أرغمك على شئ لا تريديه، فدوما، أفضل المرأة راغبة بين ذراعىّ، مابالك وتلك المرأة زوجتىأحمرت وجنتاها، ليس خجلاً، من تصريحه الوقحبل غضباً، و، و، ماذا!؟، سألت نفسها، لما غضبت من اتيانه ذكر نساء أخريات، مروا بحياته..ماذا يمكن ان نسمى ما يحدث..!؟، عند ذاك الخاطرلم تحتمل اكثر، لتتخلص ببراعة من حصار ذراعيه، و تندفع، بسرعة الضوء، هاربة من تأثيره عليها..لتلتجأ لغرفة نومهما، بعيدا عن نظراته ولمساته..و، ذكرياته البغيضة..تظاهرت بالنوم، وغطت نفسها، من عنقها حتى اخمص قدميها، ومر الوقت، ولم يأتى للغرفة..فتوقعت انه غضب لردة فعلها، فظلت، على حالة ترقب لقدومه، حتى تعبت، وكلت أعصابها المشدودةوغفلت رغما عنها...كان نوما قلقا مليئا بالاحلام، التى تحمل لها الكثير من افكارها وخواطرها المزعجة، التى تقاومها، طوال النهار، لتأتى رغما عنها، تقلقها ليلا..رفرفت أهدابها.، وهى تهمهم، فى ضيق، وتتقلب على الفراش، حتى تنبه عقلها، فاستيقظت دفعة واحدة، تتلفت حولها، منزعجة..حتى سقطت عيناها، على محسن، وهو يجلس جلسة البارحة نفسها، نائم يحتضن كتابه، ممدد القدمينيضع احدهما على الاخرى، متشابكتان، ورأسه يميلعلى كتفه الأيمن، وشعره يتبعثر فى فوضى محببة..وقسمات وجهه.، تحمل الكثير من الوداعة...شعرت بجفاف حلقها، فقامت بهدوء، تسكب لنفسها كأس ماء، من الطاولة القريبة منه..شربت بعضه دفعة واحدة، وعادت ببطء بعد ان عاودت ملءالكأس، لتتركه بجانبها، على الطاولة الملاصقة للفراش، وفى اثناء عودتها، تعثرت فى شئ ما، فاهتز الكأس، لتندفع منه المياه، على وجهها، وصدرها، ولا تكتفى، بل تفقد توازنها، لتسقط مباشرة، فى احضانه، ليستيقظ فزعا، وقد ناله بعض رزاز المياه، جعله يستفيق بالقوة، ويستوعب الامر فى لحظات...ليبتسم فى عبث، وهو يراها، بهذا الوضع الحميمىفيحكم ذراعيه حولها..-هذا ما عنيته تماما، بان تكونِ اكثر من راضية..-انتظر، قالتها متلجلجة، سأشرح لك، فلقد تعثرت قدمى، و..-ومرحبا بكِ، حيث يجب ان تكونىِ، هتف فى مرحكاتما ضحكاته، على ملامح وجهها المشدوهة، كأرنبة وقعت فى الفخ، وتلعثمها الواضح، حتى انها، لم تستطع تجميع جملة مفيدة، تدافع بها عن نفسها..نظر لملامحها المذعورة، وعلى العكس تماما، تعجب من نظراتها المتقدة التى تحمل تحدى غريب، انها خليط عجيب حقا، مزيج من القوة والضعف..الخوف والشجاعة، اللين والحزم، زم ما بين حاجبيهوهو يهمس فى شرود: - قطة برية..-ماذا..!؟، سألت فى تعجب، ونظراتها لازالت فى أسر محكم من نظراته، فتمتم مكررا فى وعى هذه المرة، : - انتِ، قطة، قطتى ذات المخالب الناعمةوالمواء الصاخب، والنظرات النارية..-انا لست بقطتك، انا لست بقطة أحد، ولا تنعتنى بذلك مرة أخرى، قالتها فى ضيق..اثار استغرابه، حتى انه لمح اول ظهور لخيط من الدموع، يظهر على خديها..فك احكام ذراعيه حولها، ليضم وجهها بكفيه، وهو ينظر مباشرة لعمق عينيها، متسائلا..-ماذا هناك، أخبرينى..!؟، كان يرى فى ذاك العمقألما، ووجعا، يصعب مداراته، او اخفائه..وبدل من إجابته، شهقت بالبكاء، لتسقط على ركبتيها.وهى تتسلل بعيدا عن صدره، ليعيدها مرة أخرى..محتضنا إياها فى حيرة..ما الذى قاله، يستدعى كل ذاك البكاء الحار..!؟.لم ينبس بحرف واحد، كان فقط، ينتظرها ان تهدأ..حتى يعرف سبب دموعها، التى قزفتها كالحمم، من اعماق روحها...-انه أبى، قالتها تقريبا، وهى مزروعة الرأس بصدره، مما جعله يبعدها قليلا، ليستوضح ما قالت، : - انه أبى رحمه الله، هو من كان يدللنى بقطتى..وبدأت دموعها الحارة فى الجريان على نهرى خديها من جديد..انها تشتاق ابيها، شعر بغصة فى قلبه، فهو بغير قصد منه، نكأ جراح فراقه، بقلبها، وأيقظ ذكراه..التى لم تمت، فى مخيلتها، انها تفتقده، هذا مؤكد..ضم رأسها مرة أخرى لصدره، وطبع بعض من القبل الحانية على قمة رأسها، وهو يكاد يعتصرها ضماً..-أنا أسف، همس بصدق، لم أكن..قاطعته هى هذه المرة، وهى تبتعد بخجل عن صدره.: - لا عَلَيْك، فقط، لم اسمعها منذ سنوات، وسماعها ايقظ ذكراه، وغيرت الموضوع فورا، حتى لا تغلبها دموعها من جديد، انا الاسفة، فلقد أيقظتك فزعا، والماء يغطيك...ابتسم ولم يعلق، فقد ادرك بذكاء، رغبتها فى تغيير الموضوع الذى ينبش ذكرياتها الدفينة..ومد يده، لتضع كفها فى احضان كفه، كما اعتادت.ليعود بها للفراش مرة أخرى، ويدثرها، ثم، يقول فى وداعة: - سأكون بقربك على الجانب الاخر من الفراش حتى تنامى، هيا..بالفعل ظل بقربها، حتى راحت فى نوم عميق، لتراه فى أحلامها من جديد، لكن هذه المرةفارسا، يصارع هواجسها وظنونها، ويقضى عليهاليعود، ليضمها لصدره منتصرا...
رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادساستيقظ من نومه، ليجدها لاتزل تغط فى نوم عميق..ودموع الامس، قد جفت على خديها، و قد منحتها براءة، مَست قلبه، لقد غلبه النوم، بجوارها، وهو لا يدرى، كان يجلس، يهدأها بعد ثورة المشاعر والحنين، التى اجتاحتها بالامس..ولم يشعر الا صباحا، عندما حاول ان ينقلب بجسده، فوجد عائق ما، ايقظه مذعورا، فاذ به، شعرها، الذى التف بطريقة ما، على احدى كفيه، وذاك الغطاء الذى أعاق قدمه، حمد الله، انها لم تستيقظ، فحل الاشتباك بين خصلات شعرها، وكفه، وكذاك تحرر من أسر الغطاء لإحدى قدميه، و عاد من جديد، يلتفت لتلك الفتنة النائمة، ليشبع منها ناظريه، ويحدث نفسه، معترفا...انه يريدها، يحتاجها، يشتهيها، لكن..لن يكون ذاك الرجل الذى، يحصل على ما يريد، قبل ان يبادر بالعطاء، هى، معذورة فى خوفها..وابتعادها، هى لم تحبنى، وربما لن تحبنى..وعلى الرغم من ذلك، لن اجبرها على ما هو حق لى، قبل ان اعطيها حقها، فى ان ترتاح على الاقل لقربى، اعطيها الوقت، فى ان تعتاد وجودى فى حياتها، وان تتقبله، و فى اللحظة التى يصلنى منها.ما انتظر، ستكون اولى لحظات سعادتى الحقيقة معها، على الرغم من انى لا أنكر، أننى اشعر براحة رائعة، وانا بالقرب منها، روحى فى حالة نشوة عجيبة، لم يسبق ان مررت بها، ماذا فعلتى بى..يا حورية المطر..!؟، سأل فى هيام، وهو ينهض فى تثاقل، حتى لا يوقظها، ندت منها بعض الهمهماتفاستدار، لمواجهتها، ليجدها مازالت نائمة، فابتسم فى وداعة، وخرج من الغرفة..وعاد بعد قليل، محملا بإفطار شهى، جلس على طرف الفراش، وتناول قطعة من الخبز المحمص، وقربها من انفها، وهو يكتم انفاسه حتى لا تفضحه تلك الضحكات التى قد تفلت منه، فتملمت وهى تتمتم بحروف غير مفهومة، فأعاد الكَرة، لترفرف أهدابهاهذه المرة، وهى تقول شبة نائمة، اشم رائحة طعام.يبدو انى جائعة، فتحت الان عينيها، للتسع عن اخرها، وهى تراه، يكتم ضحكاته، وما ان تأكد من استيقاظها، حتى ترك العنان اخيرا، لتنساب ضحكاته مجلجلة، لتنهض فى احراج، تلملم أطرافغطاءها، وتعقد ما بين عينيها، و تشبك ذراعيها امام صدرها فى تحفز، حتى توقفت ضحكاته وشعر بالتهديد: - ماذا هناك...!؟، كنت اوقظك، لتتناولى إفطاركِ، قالها، وهو يجاهد لوأد القهقهاتالتى لم يستطع السيطرة عليها...-هذه طريقة توقظ بها كلبك البوليسي، لا عروس فى شهر العسل، قالتها وهى تجز على أسنانها، ويبدو انها لم تستيقظ بعد بكامل وعيها، لتقول له ذلك، وتعترض بهذا الشكل، لكنه لم يعبء باعتراضها-هل تريدين ان اوقظك بأحدى الوردات، التى أتلاعب بها على خَدَّك..!؟، كما يحدث فى الافلام، واقول، ثم تنحنح يغير من نبرة صوته مقلدا صوت احد الممثلين، استيقظى يا حياتى، جهزت لكِ الافطار، يا عمرى...لم ترد، بل هى فقط، جزت على أسنانها، حتى تظل متمسكة بغضبها، ولا تنفجر ضاحكة، لذاك التقليد البارع، ولكنها فشلت كالعادة، لتنفجر ضاحكة، ويشاركها ضحكاتها، تنهدت بعد ان هدأت نوبة الضحكوقالت فى تعجب: -وما مناسبة هذا الافطارالفاخر..!؟، غيرت الموضوع ببراعة كعادتها، وقرر مجاراتها، فاجاب: -، اعتبريه تعويض عن افطار الامس الطائر..ابتسمت للذكرى، وهى تهتف، متناولة احد شرائح الخبز المحمص التى اغراها برائحته لتستيقظ، وأخذت تقضمها فى شهية، : - تعويض مقبول، وبدأت فى تناول افطارها، باستمتاع كالعادة، وهو يراقبها جزلاًتتراقص الابتسامات على جانبىّ فمه، لعفويتها، فكم من فتاة عرف، تتصرف بمثل تلك البراءة والتلقائية التى تثير جنونه، وتخلب لبه..!؟..تنبهت لنظراته المتفحصة، فشعرت بطعامها، يقف فى.حلقها، فتناولت بضع رشفات من كأس الماء، ثم قالت: - ستتناول افطارك، ام تكتفى بالمشاهدة؟!.اومأ برأسه، وهو يمد يده ليتناول احد شرائح الخبزفينتزع منها، قطعة بيده، ويغمسها بطبق العسل، ويرفعها، لفمها، لتتفاجأ، وتنظر اليه فى استفسارفيبتسم، ويشجعها بإيماءة من رأسه، لتلتقم ما بيدهغير قادرة حتى على مضغه، من أثر المفاجأة..-أول قطعة خبز أضعها بفمك، قررت ان تكون مغموسة بالعسل، حتى لا تتذوقى على يدىّ، غير الشهد، قالها وبريق ما، لم تستطع تمييزه، يسطع من عمق عينيه، ليصل بطريقة ما، ليحتل روحها فى ثوان...الان، حرفيا، تذوقت قضمة العسل، لتشعر بها تذوب فى دمها، لا فى فمها..الان فقط، عرفت ما معنى، ان تدمع عيناها، لمجرد كلمات، هى كلمات، لكن بالنسبة لها فى تلك اللحظة، هى تعويذة سحرية، القاها فى غفلة من قلبها.وعقلها، ليحتل تلك الروح الوثابة، التى تنتشى الان، محلقة، من فرحتها، ببضع حروف..ظلت تحملق فيه، وهى فى متاهة من المشاعر، التى أسرتها كليا، ليشعر هو، بما تعانى، من حيرة وتخبطليقترب منها اكثر، محتضنا وجهها، بين كفيه، وهو يتطلع بنظرة شاملة لمعالم هذ الوجه المتعجبة، ليهمس فى وله، بنبرة خدرتها: - أعدك، ستكون حياتكِ معى..فى طعم الشهد، يا مودتى...كان ذلك فوق طاقة احتمالها، فانحدرت الدموع الحارة الممزوجة بعبق الفرحة، والدهشة، تجرى، على خديها، لتستقبلهم كفيه، وتوأدهم، فى سرعة..وهو يلومها، بنظرات معاتبة، ويحنى هامتها ليقبل جبينها الندى، ويطوقه بحنو بين ذراعيه...ثم يقترب اكثر، ليستقر خدها على كتفه، وتمتد ذراعاه، لتحيط بخصرها، فلا تتشنج كالعادة، بل.يشعر باسترخاءها فى احضانه، فيبتسم فى فرحة غامرة، ويزداد وجيب قلبه المتلهف، فها هى، اللحظة، التى كان بانتظارها، انه على اعتاب السعادة وهى...انها على استعداد للعطاء..مقابل، وعد منه.....بحياة بطعم الشهد..وهو ابدا...لم..ولن، يخلف وعده..كانت لاتزل مستيقظة بين ذراعيه، لم تجرؤ على الحركة، او حتى التنفس، حتى شعرت بذراعيه.يتثاقلان حول جسدها، وأنفاسه تنتظم، دلالة على خلوده للنوم، فتسللت ببطء شديد، متخلصة من أسر احضانه، وبدأت تخرج، من الفراش..تململ هو، لتتوقف باستدارة بسيطة، تتأكد اذا كانقد استيقظ، او مازال يغط فى نومه..لكنه، استدار ليعطى لها ظهره، ويجذب الغطاء علىجسده، وهو يهمهم فى نومه، حسنا، هو لازال، قابعا فى دنيا الأحلام، خرجت من الفراش، ارتدت مئزرها الصوفي، لتخرج للشرفة، وتغلق بابها خلفها.ارتعشت عندما أصدم وجهها، بتلك الريح الباردة فى مثل هذا الوقت من العام..لكن على الرغم من ذلك، شعرت بحاجتها، اليها..فهى بالفعل، تحتاج لبعض الهواء الذى ينعشها قليلاويتسلل الى اعماق روحها، ربما يُطفئ ذاك اللهبالذى يستعر بداخلها..ماذا دهاها..!؟.تشعر انها، وقعت فى الأسر، وأى أسر..!تشعر ان نفسها، تناقض نفسها، وتخاصم نفسها..ولا تعود، مودة التى تعرفها، ولا تتصالح مع ذاتها، الا وهى بين ذراعيه..هناك، حيث ذاك العالم السرمدي من الحنان..هناك، حيث تجد نفسها، وقد عادت، مودة القديمةدون ألم، دون اوجاع، دون حزن، دون معاناة..هناك، هى تلك الجنة التى تمنتها، واعتقدت انها..لن تحصل عليها، ابدا...انه، الفردوس، هناك، بين احضانه..ذاك الاكتشاف، يوترها، يقلقها، يؤرقها..كيف يحدث لها ذلك، وكيف سمحت له بالحدوث!.كانت دوما، تحيط ذاك الخافق فى صدرها، بأسوار فولاذية، لا يمكن اختراقها، كيف، بل الف كيف..فى غفلة منها، تجده هنا، (وضعت كفها على قلبها )، هكذا فجأة دون اى مقدمات..نظرت للسماء الملبدة بالغيوم الكثيفة نذير طقس سئ..وهى تهتف فى وجل: - يا آلهى، ساعدنى، فأنت مقلب القلوب، كيف اجد قلبى هكذا فجأة، لا يخفق الا لمرآه، ولا يحن الا لوجوده، ولا يشتاق الا لقربه..دمعت عيناها، وهى لا تستطيع قول المزيد، فقد عجزت كلماتها، عن وصف حالها، وما يعانيه قلبها، ان روحها تنزف ألما، وسهدا، وعشقا..عقلها، لا يتوقف لحظات عن التفكير، لا يتوقف عن تقريعها، معارضا قلبها فى كل خطواته، التى حتى لم يخطط لها، كيف تعشقين من جعل منك مجرد إمرأةلارضاء رغباته، امرأة مؤقتة، يلهو بها، كدمية لا إرادة لها، يحركها كيفما شاء، لتمتعه وتلهيه..انت بعتِ نفسك، من اجل مال لشفاء اخيكِ، هل انت راضية عن حالكِ، هل انت راضية!، ثم، أخر الاخبار انك، واقعة فى حبه، حمقااااء، انتفضت عندما، وصلها صوت عقلها الحانق، ولم تكن تعرفكيف لها ان تتصرف، فى لحظات وحدتها من دونه..تصر على معاملته، بأسلوب جاف، يعكس مدى حنقها ورفضها، لكن ما ان يطالعها محياه، وتسكن بين ذراعيه، ويمنحها كل هذا الحنان، والتفهم..تنسى كل ما عداه، وتلقى بقرارتها، تحت قدميها..وتصبح اسيرته من جديد..ان ما يخيفها حقا، حد الذعر، هو استعذابها لذاك الأسر، وعدم الرغبة فى الفكاك منه..انها اصبحت تخاف، ترتعب، انه سيتركها وحيدة فى دنياها، من جديد، يا آلهى، هكذا هتفت فى جزع..هى ليس لديها القدرة على تحمل فقد جديد، فهى لم تبرأ بعد، من جراح فقد أبويها، ولا تعتقد انها ستبرأ منها يوميا، وها هو يضاف لها تهديد، بفقد جديد..فقد، لا تعتقد انها قادرة على تحمله، وانسابت عبراتها من جديد، حارة، على خديها الباردين، من جراء الريح التى لا زالت تهدر..ارتجفت، عندما وصل البرد لعظامها، فمسحت دموعها، ودلفت فى هدوء للغرفة، أغلقت النافذة بأحكام..وعادت، لتستدير حول الفراش لتواجهه فى ذاك الجانب الخاص به، فتنحنى فى وله، تستند على ركبتيها، متطلعة اليه فى عشق، تحفظ ملامح وجهه المحببة لقلبها، والموشومة بها روحها، ولم تكن تع انها، مدت يدها، لتتحسس ملامحه، وتمرر بظهر كفها على جانب وجهه، الذى وللعجب، أسترخت قسماته، وفجأة، فتح اجفانه فى تثاقل، ونظر اليها، وابتسامة ناعمة ترتسم بتناقض على ذاك الفم الصارم، فيرفع كفه محتضنا كفها، الذى كان لايزال، على خده، فيقبله فى شوق، وفجأة، يجذبها فى قوة..لتجد نفسها، طائرة بقوة جذبه لها وجسدها معلق فى الهواء لثوان، لتفاجئ بأنها، أصبحت على الجانب الاخر، الخاص بها، من الفراش..وهو يأثرها، متكئ على مرفقه، متطلعا اليها فى نظرات شقية مشاكسة..كانت تلهث من فرط دهشتها، وانفعالها، وهمست مداعبة من بين انفاسها المتلاحقة: - هل تهوى كل ما هو طائر، يا سيد، اولا الطعام، وثانيا، انا..!؟لم يجبها الا بابتسامة، وهو يسأل بدوره، وعيونه لم تفارقها نظراته العبثية: - هل تعرفين، عاقبة العبث..مع سبع نائم..!؟.هزت رأسها نفياً، وقد تضاعف وجيب قلبها..واشتعلت وجنتاها خجلا، ونظراتها تبرق بشعاع عشق، نفذ الى أعماقه...فقال بلهجة تحمل مَرَحا، : - اذن، انتظرى، وسترين..وغابت فى بحر عينيه، وحنان احضانه..كانت تجلس بجواره، داخل العربة فى طريق العودة.من رحلة شهر العسل القصيرة، كانت فى قمة سعادتهافأخيرا، سترى اخيها الصغير، يوسف، لكم اشتاقت اليه، والى البقاء بقربه، لا تنكر ان الايام الماضية التى قضتها بصحبة محسن، كانت من اجمل ما عاشت.فى حياتها، من ايام، رنت منها نظرة سريعة الى من يجلس بجوارها خلف مقود السيارة، وينظر بانتباه مبالغ فيه للطريق، لكن ما ان شعر بنظرتها، حتى استدار ليهبها ابتسامة، هى اروع ما يكون، كانت كافية، لتذيب قلبها، كقطعة سكر، وياليته اكتفى..بل مد يده، ليحتضن كفها، ليعبث بخاتمه الذى لم تخلعه من إصبعها، منذ ان وضعه للمرة الاولى، تحت زخات الأمطار، انتفض القلب الذائب تحت لمساته العفوية، ولم تجرؤ ان تنظر اليه مرة أخرى..ظلت معظم الطريق صامتة على غير عادتها، حتى هو لم يسعى لفتح اى موضوع للمناقشة، وجذب أطراف الحديث، الا انه، قام بتشغيل، احد أسطوانات الموسيقى، لتطالعهم موسيقى حالمة، لطالما أحبتها..فتاهت فى خضم انغامها، وفجأة، شعرت بانه يحاول التركيز على القيادة بشكل، اكثر من المعتاد، حتى انه قطع استرسالها مع موسيقاها، بغلقه لها، مع تقليلهمن سرعة العربة، بشكل ملحوظ...واخيرا، أوقف العربة، على احد جانبى الطريقة..ليستند برأسه على المقود فى إرهاق وتعب واضحين..-ماذا هناك..!؟، سألت فى ذعر واضح..-ذاك الصداع اللعين، انه يشوش على رؤيتى للطريققالها وهو يجز على اسنانه ألما..-هل تناولت دواءك، أحضره لك!؟، سألت فى لهفة، اضطراب..-لقد تناولته بالفعل، لكن مفعوله لم يعد قويا كالسابق..أعطنى حبة أخرى، ربما لو زدت الجرعة اتحسن قليلا، هذا الالم، يقتلنى، و ذاك الغثيان يفتك بى..تناولت دواءه، لتخرج احد الحبات بيد مرتعشة لتضعها فى فمه، وتضع زجاجة المياه على شفتيه، ليرفع رأسه فى صعوبة شديدة، ويتجرع بضع رشفاتيبتلع بها حبة الدواء..نظرت حولها، انها صحراء فى كافة الأنحاء، والطريق تقريبا، قاحلة، لا تمر سيارة واحدة، الا كل فترة طويلة، والوقت يمر، والمساء على وشك ان يهل، والطقس بارد لحد كبير، ارتعشت تلقائيا..لتفاجأ به، يفتح السيارة، ليستدير ويفتح بابها الخلفى، ويدخل ليتمدد على المقعد الخلفى، ويضم ركبتيه لصدره فى وضع جنينى أثار دمعها، فانتفضت تخرج من السيارة، لتستدير وتغلق الباب الذى تركه خلفه مفتوحا، اتقاءا للبرد، وتعود لتركب امام مقود السيارة، منذ متى لم تقد سيارة، وخاصة سيارة بهذه الفخامة، كم شكرت ربها، انها استجابت لإلحاح ابيها.بان تتعلم قيادة السيارات، حتى إجادتها، كانت تقود سيارة ابيها، قديمة الطراز، الصغيرة الحجم، وذاك منذ عدة سنوات، حتى اضطرت لبيعها، حتى تستطيع تدبير امور معيشتها هى وأخوها، بعد تلك الحادثة المشؤومة، وتدبر مصاريف علاج أخيها....همست فى سرها، يا رب، ثم قالت بصوت عال..بِسْم الله الرحمن الرحيم، وأدارت العربة، لتزأر كوحش، فتعاود الكرة، بشجاعة اكبر، وتبدأ العربةلتتحرك فى هدوء..شعر هو بتحرك العربة، فنظر لتلك التى امام المقود نظرة تحمل الكثير من التقدير، والامتنان..وأغمض عينيه، لينعم بالراحة، تغمره الثقة، فى من يملك زمام الامور الان، حوريته..وصلت أخيرا، لحدود فيلته، توقفت، لتستدير لذاك الراقد فى المقعد الخلفى، لتمد يدها، توقظه بهدوء..لكنه، كان مستيقظ بالفعل، وقد تحسن لحد كبير..-لقد وصلنا، بالقرب من الفيلا..تحرك فى هدوء، ليأتى ليستقل العربة مكان المقود بعد ان غادرته هى، كانت بفطرتها تعلم انه، لن يحب ان يراه احدهم فى هذه الحالة، وهى من تقود العربة..كم هى ذكية، ومذهلة، هكذا فكر، احتلت مكانها بجواره من جديد، فنظر اليها، وهو يتناول يدها، ليقبلها فى امتنان..-هل قلت لكِ من قبل، انك استثنائية..!-لا أعتقد ذلك، على ما اتذكر، قالتها وهى تدعى التفكير، بنبرة مرحة، جذبت الابتسامات الى شفتيه.وهو يقود العربة باتجاه فيلتهما..دخلت العربة، بوابة الفيلا، وبدأ حارس البوابة العجوز فى التهليل لوصول العروسين، حتى وصلا لمدخل الفيلا، فقفزت هى، من العربة، لتندفع للفيلا فى شوق لمرأى أخيها، الذى ظهر عندما سمع صوت الحارس مندفع هو الاخر بكرسيه المدولب، خارجا من غرفة على يمينها، لتندفع اليه فى شوق، تحتضنه، ودمعها يسبقها، ظل أخوها فى أحضانها فترة حتى جذب نفسه، ثم جذبها من يدها، لترى غرفته..سارت خلفه، وهى فى قمة سعادتها لرؤية حماسه، فهى لم تره سعيدا بهذا الشكل منذ وقت بعيد..دخلت معه الغرفة، والتى كانت بحق حلم كل مراهق فى سنه، فراش رائع، ألعاب ألكترونية، شاشة تلفاز حديثة، بأختصار هى حلم، حتى ان بها حمام خاص بها، وقد تم تجهيزه، ليوافق احتياجاته ايضايا له من رجل!، فكرت بحب، وامتنان، فى محسن وما فعله، من اجل راحة أخيها..-مرحبا يوسف، قالها محسن بوجه مرتاح القسمات وابتسامة صافية، رغم بوادر الإرهاق التى تشع من عينيه..-مرحبا محسن، اشتقت لك كثيرا، واندفع لاحتضانهفى لهفة، مما أثار دهشة مودة، أخوها كان دوما متحفظا فى إظهار مشاعره للآخرين، لكن مع محسن انكسرت تلك القاعدة، ليصبح هو الاستثناء...انه يحبه، ويقدره بالفعل...خرجا معا من غرفة يوسف لتبادرهما نبيلة بأطلاق.أحد أروع استقبالاتها، والتى كانت عبارة عن وابل متواصل من الزغاريد، حتى أخر أنفاسها، لتدمع عيناها فرحا وهى تحتضن مودة، فى شوق..بينما اطلق محسن ضحكاته، على ذاك الاستقبال الحافل، وهو يحتضن خصر مودة فى تملك أسعدها..-غرفتكما فى انتظار استقبالكما، أرتاحا قليلا، حتى أعد العشاء المخصوص من يد نبيلة، قالتها نبيلة فى زهو وتفاخر..-أه، فأنا بحق اشعر بشوق حقيقى لطعامك الشهى الذى لا يقاوم، أكمل كلماته الاخيرة وهو يجذب مودة معه لأعلى الدرج حتى حجرتهما، وهو لايزل يحتجز خصرها أسير ذراعه..كانت غرفة قمة فى الاناقة والحميمية، أحبتها فورا..وكأنه يعلم ما تحب، من ألوان وأساس، حتى وجدتهبكل التفاصيل التى تفضلها..ذاك الفراش الواسع، والأغطية الزهرية الوثيرة...والستائر الرقيقة، من المخمل، وابسطة الأرضيات.الحريرية، كل تفصيلة كانت رائعة وفى محلها تماما..-أعجبتك الغرفة..!؟، سأل فى نظرة شاملة لملامح وجهها التى شملها الارتياح و السعادة..-نعم، كثيرا، هى رائعة، همست بصدق..-ليس هناك ما هو أكثر منك روعة، همس بها وهو يجذبها لأحضانه، ويطبع قبلة على جبينها..رفعت رأسها لتطلع لملامحه المرهقة، بحب طاغ..يقلقها ذاك البريق الخافت لعينيه، وهذا الالم الساكنفى حدقتيه، انها بحق تتمزق خوفا عليه، ولا تريده.ان يدرك ذلك، فهى تعلم، علم اليقين، ان اكثر ما يثير غضبه، ويشعل ثورته، هو شعوره بالشفقة من ناحيتها، او التى يفسرها هو شفقة، لكنها ليست كذلكهى قلق مغلف برعب حقيقى، على حاله، التى تشعربتدهورها، وهى لا تستطيع أن تحرك ساكناً، وليس بيدها حيلة ما لانقاذه مما يعانى..شعر هو بذاك الصراع الذى يعتمل فى تلك العيون الصافية، التى لا تستطيع مدارة مشاعرها، أوتزييف نظراتها الصادقة، التى لا تعرف الكذب..فأشتد ضمه لها، الى صدره، ولم يفلتها، الا عندما سمع طرقا على باب الغرفة، انتفضت له هى..اما هو فاذن لمن على الباب..فاذا بها نبيلة، وقد أحضرت حقائبهما، وتعلمهم بأن العشاء جاهز من أجلهم، ويوسف بأنتظارهما فى الأسفل على المائدة....استيقظت من نومها على صوت رزاز ماء قادم من الحمام، تطلعت لتلك الساعة الحائطية الرائعة التى تزين احد أركان غرفتهما، لتدرك انها الثامنة تقريبا، خرج كعادته، ينفض الماء عن رأسه بالمنشفة التى يغيب وجهه كله فيها، حتى يخرج من بين طياتهامشعث الرأس، كطفل مشاغب، إلى أين هو ذاهب فى تلك الساعة المبكرة..!؟.-صباح الخير، هتفت وابتسامة تزين شفتيها..-صباح النور، قالها دون ان يلتفت لها، ويكمل ارتداء ملابسه..-هل احضر لك الفطور..!؟.-لا داعى لذلك، فنبيلة بالتأكيد أتمت أعداده، فهى تعرف مواقيتى وعاداتى، قالها مسرعا، دون انيفكر فى النظر اليها، أليس هى الاولى، بمعرفة تلك المواقيت والعادات..!؟، أليست زوجته..!؟.لا، هتف عقلها فى حنق لائما، لا لست كذلك..أنت زوجة مؤقتة، ليس عليك معرفة أى ما يخصهأنت هنا، لفترة محددة، بعدها، هو لن يخصك..وكل ما يتعلق به، سيكون من الماضى، هكذا افضل.ما الداعى، لتتعلقى بمعرفة، لن تورثك سوى الالم فيما بعد..تاهت فى حوار عقلها، ولم تشعر به الا وهو ينحنىليقبل خدها قبلة باردة، ويلقى بالسلام، ويغادر فى سرعة..استلقت من جديد، لعل النوم يزور أجفانها...ويريحها من عقلها الذى يجلدها بأفكاره التى، تمزقهالكن، من أين يأتى النوم..!؟.ووسادتها كجمر مشتعل، وصدرها يستعر بزفراتكاللهب..دفعت عنها الغطاء فى غيظ، وتوجهت للنافذة..تطل منها على الحديقة التى تحيط بالفيلا من جميعالجهات، كم هى جميلة، لم تستطع رؤيتها البارحةفقد عم المساء، عند وصولهم، أما اليوم، فسوفتتفحصها، وتعرف كل جزء فيها، لكن فلتنتظرحتى يستيقظ يوسف، ليقوما بجولتهما معا..فهى حقا، تفتقد رفقته، وتحتاج لمن يشاركها وقتهاحتى لا تعطى نفسها اى فرصة، لمجرد التفكير..فى ذاك الغائب عن عينيها، انها المرة الاولى التىيغادرها فيها، منذ ان جمعهما سقف واحد..تشعر بالخواء التام، بغير وجوده، كمن نزع عنهاروحها بعيدا، وهى لا تقوى حتى على الاعتراضأو حتى، لديها القدرة على استعادتها، من سارقها..تطلعت للأفق، الذى تتوزع فيه السحب، هنا وهناكبغير انتظام، ينذر بطقس غير مستقر، كحياتها..دمعت عيناها، وهى تهتف فى غيظ، : - حمقاء..نعم، ألف ألف حمقاء..كيف سمحت لنفسها ان تحبه..!؟..انها لا تقوى على بعده عدة ساعات من نهار..فكيف سيكون حالها، عندما يرحل بعيدا بلا عودة!؟.يا آلهى، ما العمل الان، همست فى ضعف..كنت دوما، ما اسخر ممن يقول ان الحب كالقدر، لا مفر منه، ولا أختيار فيه، كنت دوما ما أظن، ان قلبى بين يدىّ، وانا وحدى المتحكمة فيه، انا سيده الوحيد، حتى ظهر هو فى حياتى، لأفقد السيطرة التى كنت أدعيها، وأكون أكبر مغفلة فى التاريخ..لأعشق شخص، لا يحبنى، وسيرحل حتما، ويتركنى وحيدة، ألعق جراحا، خلفها، جراح على فقد لن يندمل، وستظل تلك الجراح تنزف للأبد..مسحت دموعها بظهر كفها، فى عزم، وهى تتوجه للحمام، لعل بعض من الماء الدافئ، يسكن بعض منألامها، ويعيد لها ولو بعض من روحها الوثابة، التىتفتقدها، كثيراعبر محسن بوابة الشركة، ليهلل كل من يقابله فى فرح، سعداء بعودته..حتى وصل لمكتبه، فأبتدرته سكرتيرته بالسلام فى.سعادة لقدومه، مهنئة بالزفاف...لم يكد يجلس على مكتبه، حتى انتفض فى سعادةليلقى بنفسه فى احضان صديق عمره، منير..الذى كان فى قمة حبوره، وهو يربت على ظهر صاحبه..-أراك رائعا بحق، غمز منير بأحدى عينيه، فأنطلقتضحكات محسن فى تلقائية..-أنت لن تتغير ابدا، هتف محسن فى مرح، أنا محسن، وسأظل محسن، ما الذى تلحظه وقد تغير، لا شئ، انك تبالغ كعادتك..-التغير يا صديقى، لن يلحظه الا من يعرفك ككف يده.وهل هناك من يعرفك اكثر منى..!، فلأرفع القبعةلمتدربتنا الصغيرة..-أحترس، فأنت تتحدث الان عن زوجتى، قالها محسن بلهجة تحذيرية...-مرحى، هتف منير مقهقها، محسن ضرغام، يشعر بالغيرة، أخيرا، تحركت قطعة الحجر التىتسكن صدرك، وتدعوها قلباً..-للاسف، لكن بعد فوات الاوان، قالها محسن بتحسر واضح، ليتوقف منير عن ضحكاته، وتتغير لهجته للجدية، ويقول فى حرص منتقيا ألفاظه...-فى يدك أن تجعل الاوان لا يفوت، بيدك تجعله الوقت المناسب..-لقد انتهينا من هذا الحديث، وأغلقناه نهائيا منير، أليس كذلك..!؟، هتف محسن فى حنق..-تعلم انى لا أتمنى لك، الا الخير، وكنت أعتقد انك غيرت رأيك، أو حتى أعدت التفكير، بسبب زواجك..-لا شئ سيجعلنى أغير رأيي، لا شئ، ولا أحد، قالها مؤكدا فى عزم، وصلابة..-حسنا، همس منير فى يأس، ثم انتقل لمناقشة ما قد فات صديقه، من امور العمل، حتى يغير من دفعة الحديث عن ذاك الموضوع المصيرى، الذى يرفض محسن مجرد حتى مناقشته..انتصف النهار، ومنير لم يفارق مكتب محسن، وقدانتشرت الأوراق، هنا وهناك، فوق المكتب، وطاولة الاجتماعات الكبرى..أستغرقهما الامر تماما، حتى طلب منير التوقف، لاستراحة قصيرة، وطلب فنجانين من القهوة..لتنعشهمها..توقف محسن، أمام نافذته الزجاجية، وهو يحمل فنجانه، يتصاعد منه دخانه، ليحجب بعض من الرؤيةامام ناظريه، طل على ذاك الرصيف الذى لطالما..وجدها عليه، ترقص كالأطفال فى استقبال المطرابتسم للذكرى، وعلى الرغم منه، شعر بشوق اليها..ورغبة قوية، فى ان تسكن أحضانه الان، انها دافئة.كليلة ربيعية، تدثره كمعطف من مشاعر، لتذيب ثلوج قلبه، تدفعه بتلقائية لأتيان تصرفات، لم يكن يتوقع ابدا، القيام بها، احيانا يشعر انه يعاملها ببعض البرود، هو يعلم ذلك، بل انه يقصده، يشعر انه يحاول، أن يفر كالمذعور من سيطرتها عليه..فى الصباح، كان أخر تلك المرات التى فر فيها..بل انه لم يكن لديه الشجاعة الكاملة، ليواجهها..كان يعلم ان نظرة واحدة إلى ذاك الوجه الصبوح..وتلك الابتسامة الطفولية الفاتنة، التى لا تعلم مدى تأثيرها عليه، كل هذا كان كافيا وزيادة، ليترك العالم كله، يذهب للجحيم، فى سبيل البقاء بقربها، والتنعمبذاك الدفء الذى تشعه عيناها، وتلك المشاعر الفياضة، من الحنان، والذى تمنحه مجانا، وتنشره فيما حولها، كعبق عطر لا يُقاوم، يكسبها جاذبية طاغية، وأنوثة لا محل لها من التجاهل..اندفعت فى تلك اللحظة، زخات المطر، ترحب به.بالطرق على زجاج نافذته، لتخرجه من شروده..فيترك فنجان قهوته، ويلتقط معطفه ليرتديه على عجلومنير يهتف به، : - ماذا هناك..!؟.-سأرحل، الان، فلدى موعد هام..-موعد عمل لا اعلم له!؟، تساءل منير، او ربما، صمت وهو يبتسم فى حبور، وقد شعر ان ذلك الموعد المزعوم، لقاء من نوع خاص، فأتسعت أبتسامته....قاد محسن سيارته فى سرعة، على قدر ما اتاحت له غزارة الأمطار، انه يعلم انها الان، تستقبلها بشوق، وكان يود لو انه كان معها، عند ظهور قطراتها الاولى، ليشهد نظراتها، وانفعالها الطفولى ساعتها..لقد فاتته اللقطة الاولى، لكنه. لن يترك كل المشهد..دون ان يشاهد حوريته من على قرب، ويرى طقوسها الخاصة، فى الترحيب بالمطر..وصل اخيرا لبوابة الفيلا، ففتح له البواب، ليدخل فى هدوء، تاركا العربة، غير عابئ بالإمطار التى بدأتتبلله، ودار حول الفيلا، ليقف مشدوهاً، وهو يشاهدها تقف فاتحة ذراعيها، كمن يستقبل حبيبا بعد طول غياب، لا ينكر انه شعر ببعض الغيرة، ان تلك الحماسة، والروعة فى الاستقبال، ليست من أجله..لكنه تسمر فى مكانه، يستمتع، بتلك الطقوس التىانقلبت الان لوصلة من المرح، والتقافز..لم يستطع ان يقف متفرجا فقط، ولا يشارك فى ذلك المهرجان من السعادة، فاندفع اليها، ليحملها من خصرها، ويدور بها، وهى تصرخ فى دهشة..بينما هو يقهقه فى سرور غامر، يشاركهما أخيها يوسف، ودادة نبيلة، فى ضحكاتهما..واللذان، انسحبا معا، منذ لحظات..-كم هى رائعة نبيلة..!؟، قالها وهو يلهث من فرط انفعاله، وهى لا تزال معلقة بين ذراعيه..-ماذا..!؟، سألت فى تعجب، وهى تنظر حيث كانت نبيلة وأخيها، منذ ثوان، لكنها لم تجد لهما أثرا – لقد أخذت يوسف، ودخلت فى هدوء، لان ما سأقوم به الان، لا تليق مشاهدته لأقل من ثمانية عشرة، قالها بصوت يحمل الكثير من الأثارة، وهو ينزلها، حتى لامست قدماها الارض أخيرا، ولازالت تحت أسر ذراعيه..-ماذا تنوى أن تفعل..!؟، سألت، وهى تطلع حولهافى خجل..-سأقبل كل ما طاله الوحل منكِ، قالها مؤكدا فى مرح عابث..نظرت لنفسها، لترى انها اصبحت كتلة من الوحل، الذى طالها تماما، فتعود للنظر اليه، وهى تدرك الان انه مجنون حتما، حتى يقوم بذلك، تحت الأمطار، وفى قلب الحديقة..-حسنا، أعلنت استسلامها، ليخفف ضغط ذراعيه عنها، لتفك أسرها أخيرا، وتفر هاربة، ضحكاتهاتجلجل، فرحة بانتصارها، وقدرتها على خداعةالا انه، اندفع خلفها، ليسقط فى الوحل، قبل انيستطيع الامساك بها، فيتأوه بقوة..فتندفع اليه مذعورة: - ماذا هناك، هل انت بخير!؟-أمسكت بكِ، هتف منتصرا وهو يجذبها لتسقط معهفى أوحاله، خدعة بخدعة، يا مودتى، قالها مشاكسا أياها، وهو يقترب منها، والجنون يرافق نظراته العبثية، والابتسامة لا تفارق وجهه..أعلنت استسلامها، وما أن هم بتقبيلها، حتى شهقت فى ذعر، وهى تهتف: - حارس البوابة، قادم..ليلتفت هو مصدقا إدعاءها، لتندفع للداخل، تسبقها ضحكاتها الرنانة، معلنة انتصارها فى خداعه، تسابقه على الدرج، وهو يلحق بها، يقسم ان ينال منها، لخداعها إياه، للمرة الثانية..وصلت لباب غرفتهما، وهى تصرخ فى اثارة، خوفا من ان يلحق بها، وما ان همت باغلاق الباب، حتى ظهر على عتبته، يدفع الباب، ليدخل، وضحكاته تخالط صرخاتها، حتى تركت الباب فجأة، دون ان يتوقع ذلك، ليندفع للغرفة فى قوة، ويسقط أرضا..لتضع كفها على فمها، مصدومة، ولكنها فجأة تنفجر ضاحكة، فينظر اليها مغتاظا، يرغب فى تسديد الحساب بالكامل، فينهض، لتندفع هى إلى الحمام تغلق بابه دونه، بالمفتاح، جتى لا يستطيع الوصول اليها، فيقرع الباب فى قوة، رغبة فى الانتقام وأخذ الثأر منها..-أفتحى الباب، مودة، الأن، قالها أمرا..-لا، هتفت بها قاطعة لا رجعة فيها، وانفاسها متقطعة، صدرها يعلو ويهبط، من تضاعف ضرباته المجنونة، وكل ذلك الجو المحموم..-مودة، مودة، أفتحى الان، أرجوكِ، هذا الامر الان لم يكن بنفس القوة، قلقت ان يكون، ليس بخير..لكنها تذكرت كيف خدعها، بالأسفل مدعيا المرض..وهى صدقته، لا، لن تفتح..نزلت تحت المياه الساخنة، تزيل عنها تلك الأوحالالتى ألتصقت بها، وتستمتع بالارتخاء تحت رزاز الماء الساخن، انتهت أخيرا، وهى ترجو من الله..ان لا يثأر منها محسن، على خداعها إياه، عدة مرات، فتحت الباب فى هدوء، تخرج رأسها لترى أين يمكنه ان يكون..!؟، وكيف تستطيع الاحتماء منه، لكن، عوضا عن ذلك، وجدت جسده، ممددا على الارض، اندفعت اليه فى ذعر، تهزه كى يرد عليها، لكن لا فائدة..
رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابعهرولت خارج الغرفة، تصرخ على نبيلة، لتأتى الاخيرة، على عجل..مندفعة، لتصل للغرفة فى ثوان، لتنحنى كل منهما، على جسده المسجى، تحاول إفاقته، دون جدوى..فتتذكر منير، فتهرع لهاتفها، تتصل به، : --سيد منير، الحمد لله انك هنا، قالتها وهى فى قمة توترها، عندما رد على اتصالها...-ماذا هناك..!؟، سأل مذعورا..-انه محسن، لقد سقط فاقد الوعى، ولا اعرف كيفية التصرف، ولا علم لى بطبيبه المعالج، قالتها وانخرطت فى بكاء مرير..-حسنا أهدأى، قالها وهو يشتعل توترا هو الاخر، لكنه لا يحاول إظهار ذلك، أنا فى طريقى إليك بالطبيب...-شكرًا لك، انا فى الانتظار، بسرعة أرجوك..أندفعت من جديد، تساعدها نبيلة على سحب جسده..بالكاد، حتى وصلوا به للفراش، بدأت فى خلع تلك الملابس المتسخة عنه، وهى تنظر لوجه الشاحب..وملامحه الساكنة، ودموعها تسيل انهارنا، شعورهابالذنب يقتلها، هى السبب فيما وصل اليه..لقد كان يستجدى ان تفتح الباب، لكن هى ظنته يخدعهالم تكن تدرى انه يعانى، حد الالم الذى يجعله، يفقد وعيه، يا آلهى، هتفت وسط دموعها، أحضرت منشفة مبللة بالماء الدافئ، وبدأت تمسح على جبينه، وذراعاه، وتخلع عنه حذاءه الموحل..وللمرة الاولى، تسأل، كيف أتى فى مثل ذلك الوقت!، انه منتصف النهار تقريبا، هل كان من المفترض ان يعود فى مثل ذلك الوقت، لينخرط فى عبثها الطفولى، ويرهق نفسه، وتزيدها هى، لذلك المزاح الثقيل، واخيرا، تتركه وحيدا خلف الباب..يستجدى وجودها جواره، وهو يفقد اتصاله بما حولهليسقط، فى تلك الحالة التى هو عليها الان...تركته، لترتدى ما ستستقبل به الطبيب، ومنير، ليصلا اخيرا، فى الثانية التى انتهت فيها من وضع حجابها، وقد سمعت صوت نبيلة وهى تصعد الدرجتدلهم على غرفتهما، فأسرعت باستقبالهما على البابودموعها لم تجف..ألقى منير والطبيب المعالج التحية فى عجلة، واندفعوا لفحص محسن، بينما هى ظلت ترقب الوضع من احد جوانب الغرفة وجسدها ينتفض انفعالا ورهبة، لا تستطيع إيقاف شلال دمعها المنهمر، وإحساسها بالذنب يتضاعف كل لحظة..أنهى الطبيب فحصه فى هدوء، وأخذ يدون بعض الملاحظات، وسأل دون ان يرفع رأسه، منهمكا فىكتابة، ملاحظات فحصه: - هل الصداع، اشتد عليه فى الآونة الاخيرة..!؟.اندفعت مودة لتجيب، : - نعم، لقد اصبح يشكو منه..بشكل كبير، حتى انه اصبح عائق ليقود العربة أحياناكما، وان ذلك المسكن، الذى يتناوله، اصبح ضعيف المفعول، حتى انه اضطر مؤخرا، لمضاعفة الجرعة..-هل لى بمعرفة مدى قرابتك من المريض..!؟، سأل الطبيب، وهو يرفع رأسه أخيرا، ليواجه مودة..لكن منير أجاب فى سرعة عوضا عنها، وهو يرى الاضطراب يتأكلها، : - انها زوجته..-زوجته!، وكيف لم تقنعيه للأن بضرورة الإسراع.فى تلك الجراحة، ان كان ينوى..فقاطعه منير فى تلك اللحظة، متسائلا، و الاضطراب جليا على ملامحه، لاحظت مودة ذلك بوضوح، وأى جراحة تلك التى يتحدث عنها الطبيب، وماذا كان ينوى ان يقول، ولم يمهله منير الفرصة ليكمل حديثه-على أية حال يا دكتور، هل سيكون بخير..!؟.-نعم، حتى إشعار أخر، وصفت له مسكّن مفعوله أقوى، لأن الورم للاسف، يكبر، وذلك بدأ يؤثر على بعض الوظائف الحيوية، على ايه حال، سيستفيق الان، فى أية لحظة..تسلم منير، مدونة العلاج، من الطبيب، ثم شكرهوهو يؤكد عليهم، براحته..ويتبعه للخارج..سارت فى بطء، حتى وصلت لجسده المسجى على الفراش بلا حراك، وعقلها يشتعل بالف سؤال وسؤال، جذبت عليه الغطاء..واندفعت فى عزم، . تلحق بمنير الذى كان فى طريقه.لوداع الطبيب، فطلبت منه البقاء، لأمر هام..سبقته لغرفة المكتب، التى تزين جدرانها رفوف ورفوف من الكتب، وتحمل طابعا كلاسيكيا..حيث الاثاث العتيق، وتوزيع الاضواء داخل الغرفةيوحى بمزيد من الفخامة، والراحة فى ذات الوقت-تفضل سيد منير، فهذا بيتك، قالتها فى صدق نظرا لعلمها بمدى الصِّلة القوية التى تربطه بزوجهاجلس هو، وملامح وجهه تحمل مزيد من الاضطراب.والتوتر، منذ ألقى الطبيب جملته، بخصوص الجراحة المزعومة...-خير..!؟، سأل، وهو يتصنع الهدوء..-أنا أعلم أنك الاقرب لقلب محسن، فأنت صديقه منذ زمن بعيد، وكل اسرار حياته فى جعبتك..-هذا صحيح، أجاب وهو يومئ برأسه تأكيدا..-فبالطبع، وصمتت لثوان، كل ما يخص مرضه، تعلم به، بل أكاد أجزم، انك الوحيد الذى تعلم..كل ما يخص مرض محسن..لم يجب منير، بل اكتفى بإيماءة إيجاب، وهو يعلم إلى أين ستنتهى تلك المقدمة، من محادثة، لم يتوقع حدوثها، لكنه كان يتمناها..-إذا، فهل بإمكانك اخبارى، بالضبط، عن اى جراحة، كان الطبيب يتحدث..!؟.أزدرت منير ريقه فى صعوبة، وصمت للحظات..واخيرا قرر التحدث: - لطالما نازعتنى الرغبة فى اخبارك سرا، ربما يكون لكِ ذاك التأثير، الذى لم أملكه، لجعل محسن يغير رأيه..-يغير رأيه بشأن ماذا..!؟، سألت فى لهفة..-حسنا، سأخبرك بكل شئ، لكن عدينى ان تخبرنى محسن بان الطبيب هو من أخطأ وأبلغك..-حسنا، سيد منير، لك وعد منى بذلك..-الحقيقة، كما تعلمين، ان محسن مصاب بورم فى المخ، هو ما يسبب له كل التداعيات التى نحن بصددهاالان، والتى كنّا نعلم، بقرب حدوثها فى أية لحظة..لان الطبيب أنبأ محسن بها، اذا لم يسارع فى غضون أشهر، بإجراء جراحة حرجة، لاستئصال ذلك الورموطبعا تلك الجراحة، تنطوى على خطورة كبيرة..ونسبة نجاحها منخفضة للاسف، فرفض محسن إجراءها طبعا، مؤكدا انه فى كلتا الحالتين، هو ميتفلما يقضى على الأشهر المتبقاة له، بدل من أن يغتنمها، ليعيش ويتمتع بحياة قصيرة، حاولنا، أنا والطبيب إقناعه بشتى الطرق، بضرورة المجازفة بإجراء الجراحة، لكنه، لم يستمع لكلينا للاسف، وها هو يعانى، ونحن ما بيدنا حيلة لمساعدته..كان يحكى، وملامح الصدمة ترتسم على ملامحها..وتلك الدموع التى جفت عاودت جريانها من جديد..فهى تشعر الان بخليط من مشاعر متناقضة، لم تشعر بها فى حياتها..انه السبب الاول دوما، فى كل ما تخبره من أحاسيساى كان نوعها، فهو له الفضل، والسبق فى احداثهابداخلها..انها لا تعرف، هل تبكى فرحا، ام تصرخ حزنا..تبكى فرحا، ان هناك أمل، حتى ولو ضعيف، فى علاجه، الذى اعتقدته مستحيلا، وانه يمكن ان يشفىويعاود حياته من جديد...ام تصرخ حزنا وقهرا، انه اخفى عنها ذلك، وتركها بلوعتها وحزنها على فراقه الوشيك، انه لم يثق بها كفاية، ليخبرها بسره كاملا، أليس من حقها، ان تعرف، كل ما يخفى، فى هذا الشأن..أخرجها منير من شردوها، وصراع أفكارها، وهو يكمل فى ثقة: - الان، هو دورك، لتحاولى، إقناعهبضرورة اجراء تلك الجراحة، وكلما كان ذلك أسرعكلما كان افضل بالطبع..مسحت دموعها فى عزم، وهى تبتسم فى اصرار، : - هذا ما يجب ان يحدث...ابتسم منير للمرة الاولى منذ وصوله، وهو يطالع تلك النظرة التى يغلفها العزم، والاصرار..واستأذن للرحيل، وهو يشعر، ان تلك النظرات يمكن ان تصنع الكثير، فهل كان على حق!؟..خرجت من غرفة المكتب، بعد لقاءها مع منير، وتلك الحقائق الغائبة عنها، التى غيرت كل ما كان..كانت شاردة الذهن، لدرجة انها لم تنتبه لأخيها يوسف.الا بعدما صعدت عدة درجات فى طريقها لمحسن للأطمئنان عليه، فعادت ادراجها، وقد انقبض صدوها لمرأه فى هذه الحالة من الخزن، كانت عيناه دامعتان، ووجهه ينطق بالأسى، تقدمت اليه، حتى انحنت مستندة على ذراعىّ كرسيه المدولب، الذى ما عادت تسمع صرير عجلاته، فهو كرسى حديث النوع ابتاعه محسن لاجله ويتحكم يوسف فى توجيهه عن طريق يد موجودة فى احد الذراعين..-ماذا هناك، يا حبيب مودة..!؟، لما هذا الحزن المرسوم على وجهك، هل يضايقك شئ ما..!؟.انفجر يوسف باكيا، لدرجة افذعتها، لتنتفض واقفةوتأخذ برأسه بين ذراعيها، ملتاعة لما يحدث..-ماذا هناك يا يوسف، أقلقتني..!؟.-لا أريده أن يموت، أفعلى اى شئ، لكن لا تدعيه يموت، لا اريد لأبى ان يموت مرة أخرى..شهقت عندما وصل بكلماته المتقطعة، والمصاحبة لبكاءه المتشنج، ماذا يقصد..!؟، يبدو ان أمر مرض محسن قد وصله، لهذه الدرجة يحبه..طفقت الدموع من عينيها، وهى تتشبث بأخيها..الذى كان جسده كله يرتج انفعالا، ألهذه الدرجة يحبه، حتى انه شبهه بأبينا، رحمه الله..أه يا محسن، انك لا تتعذب وحدك، بل تعذب من حولك الكثيرين وانت لا تدرى، همست بذلك، وهى تربت على كتف اخيها، وترفع رأسه، لتقول فى ثقة.لا تعلم من أين استمدتها: - لن يموت، باْذن الله، سيكون بخير، لا تقلق، انتبه انت لنفسك وصحتك..اتفقنا..!؟.هز رأسه موافقا، فقبلت جبينه، وتركته لتصعد الدرج للاطمئنان على محسن..دخلت الحجرة فى هدوء، تتطلع للجسد الراقد بين الأغطية، وقد زال شحوب وجهه قليلا، خلعت حجابها، واقتربت منه، تتطلع لقسمات وجهه، لتنحنى وتطبع قبلة على ذاك الجبين العريض..لتنتفض عندما سمعته يهمس: - يا له من علاج، لقد سكن بالفعل آلام رأسى...ابتسمت لعينيه، عندما فتح جفونه ببطء، ليطالع محياها الذى افتقده، مد يده ليلتقط كفها، التى مدتهابدورها اليه، وهى لازالت سارحة فى خريطة وجههالتى تتوه فى تضاريسها، اما عينيه، فكانت قصة أخرى، جلست بجواره، وهى تقرأ تلك الرسائل التى تبعثها، وتفك شفرتها، وتبتسم فى حبور..-ما الذى حدث..!؟، سأل وهو يحاول الاتكاء قليلا للخلف برفع جزعه لاعلى، ورأسه مسندة على احدى الوسائد خلف ظهره، عدلت وضعها مودة بعناية..-لقد فقدت وعيك، وجاء منير بالطبيب، وكتب لك مسكّن أقوى، لم تتفوه بكلمة أكثر، فليس ذلك وقتالخوض فى مسألة حساسة، كجراحته..-حسنا فعل، فأنا احتاجه، بشدة، ولكن أين منير..!؟-رحل، عائدا للشركة، فهناك الكثير من العمل، هكذا قال، عندما عرضت عليه البقاء للعشاء..غيرت الموضوع، لابد انك جائع، هل احضر لك ما تأكله..هز رأسه موافقا، فأبتسمت، وخرجت من الغرفة..دخلت المطبخ، لتفاجأ بنبيلة تبكى فى حرقة..لأبد وانه يوم البكاء العالمي، اولا اخوها، والآن نبيلة، لم تتفوه بكلمة، فقد عرفت انها تبكى لأجل محسن، فكل من بالبيت علم بأمر مرضه..-هل هو بخير الان..!؟، سألت نبيلة فى لوعة..-نعم، وطلب الطعام ايضا، ردت مودة فى هدوء..-اللهم لا اعتراض، همست نبيلة وهى تجهش ثانية فى البكاء، فتقدمت اليها مودة، وأخذت تربت على كتفها، الكل وجد من يواسيه، فى حزنه وتعاسته..الا انت يا مودة، قدرك هو مواساة الجميع، ولا مواساة من احد، رغم جرحك الغائر، وألمك القديم..ونزف روحك الذى لم يتوقف، للحظة..-انه ابنى الذى لم انجبه، ربيته على يدىّ هاتين، بعد وفاة أمه، التى لم يهنأ بحنانها، وابوه الذى انغمس فى.حزنه عليها، ثم فى عمله، حتى بنى تلك الامبراطورية التى أورثها لمحسن، وها هو الان، سيرحل، فى ريعان شبابه، وهو..قاطعتها مودة، فى اصرار: - لن يحدث باْذن الله..صمتت نبيلة فى حيرة، متعجبة من ردة فعل مودة، اعتقدت ان ذلك من اثر حزنها على محسن..-هناك أمل، فى ان يحيا بعد عملية جراحية دقيقة، لو اقنعناه بإجراءها..-حقا!، هتفت نبيلة فى فرحة، واستطردت، ليس هناك من انسان قادر على إقناعه، مثلك انتِ...فأنا لم أراه سعيدا، منذ وفاة والده، مثلما رأيته، منذ ان دخلتى حياته..-حقا..!، كان دورها، لتسأل فى دهشة..- نعم، وللحق منذ أخبرنى عن زواجه بكِ قبل ان ألتقيكِ، قلقت كثيرا، لكن منذ ان رأيتكِ، وقد دخلتى قلبى، وتمنيت ان تكونى بالفعل زوجته، ابتسمت مودة للسيدة الطيبة فى امتنان، هو بالفعل يحبكِ..انتفضت مودة عند سماعها ذاك التصريح، يحبها..!لقد شطحت نبيلة الطيبة كثيرا، معذورة بالطبع، فهى لا تعلم عن صفقتهما شيئا، وتوقعت بطيبتها، انه حب من النظرة الاولى، جعلهم يقدمون على الزواج بتلك السرعة، حب، كادت ان تنفجر ضاحكة، انه حب أعرج، من طرف واحد، طرفها هى، لكن هو، لافرجل الاعمال الذى يمثله، يحسب له دوما مقدار المكسب والخسارة، حتى فى علاقاته الانسانية..وعلاقته بها، لا تزيد عن كونها صفقة ناجحة من وجهة نظره طبعا، وإلا ما كان اقدم عليها..هى فقط المغفلة الوحيدة، فى تلك المساومة، لتدفع مشاعرها واحاسيسها، بل قلبها وروحها، ثمنا، مقابل حفنة من الجنيهات، التى تحتاجها لعلاج اخيها، ما كان يجب ان تفعل، لكن الامر كان خارج سيطرتها تماما، كانت تبحر كسفينة لا تعلم وجهتهافى وسط اعاصير هادرة من مشاعر قدمها لها، اختبارها للمرة الاولى، فهل كان باستطاعتها النجاة..!تناولت الصينية، وعليها بعض أطباق الطعام، وخرجت متوجهة اليه، شاردة، تتأكلها الافكار..لكن فكرة واحدة فقط، هى التى استحوذت على مجامع تفكيرها، كيف يمكنها إقناعه، بإجراء الجراحة..كيف يمكنها، ان تدفعه ليجازف، ويغامر، فى سبيل امل، فى الحياة، نعم الحياة للجميع..ظلت لعدة أيام حبيسة فكرة واحدة، لا تغادر مخيلتهاكيف يمكنها ان تقنعه، بإجراء الجراحة، فى أسرع وقت ممكن، لقد خاصمها النوم لايام، مسهدة..تفكر فى اى طريق، او وسيلة تبلغه بها، انها على علم بأمر الجراحة، وتحاول الضغط عليه، ليقبل بإجراءها، لكن كيف..!؟، ذاك السؤال الذى يحتاج بحق لإجابة عاجلة...كالعادة تسللت من الفراش، فى هدوء حذّر، حتى لا توقظه، لتنزل للطابق السفلى، تعرج على غرفة اخيها، لتطمئن على احواله، لتجده يغط فى نوم عميق، فنستودعه الله، وتخرج للمطبخ، تحضر لها كوب من الشاى الساخن، وتتجه لغرفة المكتب..حيث المكتبة التى تحتل الجزء الأكبر من مساحة تلك الغرفة، لعلها تجد كتاب او رواية، تدفن فيها افكارها.وهواجسها، وتعيش ولو قليلا بعيد عن واقعها الذى يؤثر على أعصابها، وينهكها بمعنى الكلمة..او ربما تجد بين طيات احد تلك الكتب، حل لتلك المعضلة التى تعيشها، وتنتشلها من حيرتها..وتقدم لها الحل الذى تبحث عنه، وكان سببا فى أرقهاوسهادها..بحثت بين أرفف الكتب، لتجدها مقسمة على أساسنوعيتها، والعجيب ان تجد الجزء الأكبر، يتضمندواوين شعر..وهل يقرأ، محسن ضرغام، الشعر ويتذوقه، انها حتى لا تتخيل ذلك، ربما كانت لأبيه، او ربما هىموجودة، كنوع من ادعاء الثقافة، ورغبة فى ان تكون المكتبة شاملة لكل أفرع العلم والأدب، حتى ولم يُقرأ منهم ولا كتاب واحد..وأخيرا وقعت يدها على رواية، فجذبتها لتبدأ فى مطالعتها، وهى ترتشف فنجان شايها الذى بدأ يبردقليلا..اندمجت بسرعة فى الأحداث، حتى انها لم تنتبه لذاك الخيال البشرى الذى يقترب منها، الا عندما اصبح فوق رأسها، تقريبا..-هل تركتينى وحيدا، لتطالعى الروايات..!؟، قالها هامسا بجوار أذنيها، فجعلها تجفل مذعورة، قاذفة الرواية وهى تصرخ..فانفجر ضاحكا كالعادة، فهو يعرف انها تخاف، بل ترتعب بشدة، لكنه اندفع ليأخذها بين احضانه مهدئا إياها...-لا ترتعبى انه انا، يا مودتى..استكانت بين ذراعيه، وهى تلتقط انفاسها، من فرط رعبها..-يوم ما، ستقتلنى ذعرا، قالتها، وهى ترفع رأسها لتطالع عينيه التى يغشاها النعاس..-لا تقلقى، سأكون رحلت قبلها، قالها فى تسليم عجيب، وبنبرة لا تحمل أدنى إشارة لحزن، او رثاء للذات، ألهذه الدرجة، متصالح تماما مع فكرة الموت، وانه لابد راحل قريبا، وأصبح ذلك، حقيقة لا تقبل الشك، او حتى الجدل حولها..جوابه ذلك، اشعرها بمدى صعوبة إقناعه..وأكد لها ان المهمة، بالفعل، ستتطلب منها الكثير..-أرجوك، لا أحب ان تأتى على ذكر ذاك الموضوع..-أى موضوع، تقصدين رحيلى..!؟.امتعضت لتكراره الكلمة، بمعنى أخر، ورفع هو حاجبيه تعجبا، لطلبها الغير مبرر..فغيرت هى الموضوع، وهى تتسلل من بيد ذراعيه..لتتجه لتلك الأرفف التى تعلوها، دواوين الشعر، لتسأل فى فضول: - لمن كل تلك الدواوين الشعرية..!؟-انها لى، اجاب بثقة وهو يتقدم ليمرر كفه على تلك الكتيبات الصغيرة المتراصة، فى محبة، كانما يحيي صديق قديم، لم يزوره منذ أمد بعيد، فلقد استكانتملامحه، و طفقت على قسمات وجهه، تعبيرات..كانت من الروعة، لتجعلها تقف مشدوهة أمامها..ولا تتفوه بكلمة..كان هو من قطع تلك اللحظات النادرة وهو يستطرد فىنبرات دافئة: - انها رغبة سيطرت علىّ منذ أمد بعيد..لكن لا أظن، –وصمت قليلا ربما لينتقى مفرداته هذه المرة –اعتقد ان لا وقت لتتحقق، وتصبح واقع..-أى رغبة..!؟، سألت بفضول من جديد..-أحب الشعر كثيرا، واحفظ قصائده عن ظهر قلب، وكنت أظن أننى، يوما ما سألقى قصيدة لأجل عينى المرأة التى ستخطف قلبى، وتكون جديرة به، وأنا أطلب يدها للزواج، لكن، كل هذا لم يتحقق، ولا اعتقد انه سيحدث..سامحه الله، هكذا همست فى نفسها، وهى تتلقى طعنته بألم، حاولت مداراته قدر استطاعتها..وحمدت الله، انه استدار ليجلس على احد المقاعدمبتعدا عنها..لكنها تمالكت نفسها، ووأدت حزنها، فى اعماق روحها، لتهتف فى عجلة، خوفا من التردد، وقد واتتها الفرصة أخيرا: - لكن، يمكنك تحقيق حلمك..فدوما هناك فرصة ثانية، يمكنك أجراء الجراحة التى ترفضها، و..لم يمهلها لتكمل حديثها، بل انتفض فى غضب..تشعر بتشنج عضلات جسده من مكانها..كانت تتوقع، ثورة، ورعد وبرق، يقصف هنا وهناك، لكن على العكس تماما، خالف توقعاتها..وتقدم اليها حتى اصبح فى مواجهتها تماما، وهى قد تصلبت فى مكانها، لا تقوى حتى على التقهقر للخلف، بل كأن اقدامها ملتصقة للأرض، بنوع من الغراء الشديد الالتصاق، ليمسك ذراعيها، ويهزها فى قوةمتسائلا: - من أخبرك، بشأن الجراحة..!؟.كادت تخطئ من فرط رهبتها، ورؤيتها له، يتحول من تلك الحالة الحالمة التى كان عليها، للحالة المرعبة التى تراه عليها الان، كادت بحق، يُزل لسانها، لتخبره بشأن منير، لكنها تذكرت وعدها له، فهتفت بسرعة بنبرة مرتجفة: - انه الطبيب، عندما كان يعاينك، منذ عدة أيام، أتى على ذكر تلك الجراحة..-حسنا، دفعها بعيدا، وراح يجلس حيث كان، قابعا منذ دقائق، وكأن شئ لم يكن..استجمعت شجاعتها، لتقترب منه، وتجلس عند قدميه فى ود، وهى تراه يضع رأسه مطأطأ بين كفيه، فتضع هى كفها على ركبته، تربت عليها فى حنو، وهى تهمس: - لما لست متحمس لتلك الجراحة..!؟ليرفع رأسه متطلعا اليها، بنظرات نارية، قادرة على تحويلها، لهيكل متفحم فى ثوان..لكنها سارت فى الطريق، ولا عودة الان، فإما الوصول لنهاية الدرب، او التيه..روحها المقاتلة، تأبى الهزيمة امام نظراته المتوهجة..فإما النصر، او الشهادة، فى سبيل هدفها، الحياة..-أعتقد ان لا شأن لك بذلك الامر..!، نبرته الاستنكارية كانت كفيلة بجعلها تتراجع، لكنها تقدمت فى لامبالاة: - أنت مازلت شابا، لما تحكم على نفسك بالموت سلفا، قبل ان تفكر فى اجراء تلك الجراحة، انك لم تأخذ بالاسباب..-لقد وطدت نفسى على قبول أمر الله، وانا راضٍ بقضاءه، ومتقبل له..أخيرا بدأ فى الاسترسال فى الحديث ولو قليلا، هكذا فكرت وهى تستطرد: - لكنك لم تتوكل، انت لم تتقبل قضاء الله، بل استسلمت..-بل رضيت، هتف فى حنق، وهو يقفزمبتعدا، ويستطرد فى غضب هادر، ولا طاقة لى، لأتشبث بأمل كاذب، ولا رغبة لى ايضا، فى مناقشة الموضوع معكِ، أو مع غيرك، ومعك انتِ بالخصوص، فمن أنتِ، لتأتى وتقولى، أفعل، ولا تفعل، انتِ هنا بصفة مؤقتة، أنت هنا، لا لتحاكمينى، وتعدلى من أفكارى، انت هنا فقط لاسعادى، وأرضاء رغباتى، ليس أكثر، ورجاءا، عليكُ الالتزام ببنود صفقتنا، والتى لم يكن من ضمن شروطها، ان تملى علىّ، كيفية التصرف، فى شأن من شؤونى الخاصة...لم يكن هناك من الكلمات ما هو كاف، لوصف حالة مودة فى تلك اللحظات، انها الان مطعونة فى كرامتها، وكبرياءها يعانى حد الموت..انها رخيصة لهذه الدرجة، هى مجرد امرأة متعة فى صورة زوجة..انها بالنسبة له، ليست الا جسد لارضاء رغباته، فى إطار شرعى، وطرح جانبا، روحها وقلبها وعقلها..ان روحها تأن الان، تحت وطأة ألم يسبق لها ان عايشته، تبكى كرامتها المهدرة، وكبرياءها الذليل..وروحها التى تنزف، حد الاحتضار..لم تقوى على النهوض، حيث كانت تجلس منذ لحظات تحت أقدامه فى ود، الان عرفت ان هذا هو مكانها الطبيعى، ان تظل دوما تحت أقدامه، ليس من العقل ان تتطلع، لتصبح يوما، كتفها بكتف بجواره..ربما كان يقصد تلك الفاتنة التى كانت تحاول تقبيله فى حفل زفافهما، تلك التى كان يحلم، ان يعرض عليها الزواج، بقصيدة شعر، حفظها من اجل عينيها..اما هى، فهى، مجرد دمية، لارضاء الرغبات..اجهشت فى بكاء مرير، تفرغ به، كل تلك الحمم، التى اختزنتها بداخلها، تبكى، وتبكى، وكأن ليس للألم حد، وليس للدموع ان تجف، على ما ألت اليه حالها..كان فى حجرته بالأعلى، يزرعها جيئة وذهابا، وهويزفر فى غضب هادر، يكاد ان يحطم، ما تطوله يديه، لكنه، لم يستطع التحكم فى نفسه اكثر، لينفجرضاربا الحائط فى ثورة، بقبضة يده التى كادت ان تتهشم من شدة الضربة، التى أوكلها كل حنقه، وضيفه، والاهم، ندمه..ماذا فعلت أيها الاحمق..!؟، هكذا هتف موبخا نفسهلقد قتلتها، دبحتها، والآن هى تنتحت بالأسفل..على كلماتك التى كان، القتل بالنسبة لها اهون ألما منها، أحمق، كيف طاوعك لسانك، كيف هانت عليك، لتجرح روحها، وتذل كبرياءها بهذا الشكليا آلهى، ما من سبيل لاسترداد الكلمات بعد التفوه بها..!؟، لماذا لا نكبح جماح ألسنتنا، عندما تهم بجرح من يهمنا أمرهم، من يرغبون فى محبتنا بصدق..ومن نحبهم، نحن بصدق، نعم نحبهم، بل نعشقهمحد الالم، نعشقهم للحد الذى، يمكننا ان نجرحهم..حتى لا يتعلقوا بِنَا، حتى نرحل، ونحن فى حل من ذنب أحزانهم، فى حل من ذنب قلوبهم، فى حل من ذنب أرواحهم التى سيقهرها الالم لفراقنا...هى لا تدرى، باننى أتورط فيها، نعم أتورط فى عشق روحها، وأدمان وجودها، والتطلع لكل صباح جديد يحمل عبقها لانفاسى، فتوقظ فى مشاعر ظننت انها ماتت منذ أمد بعيد، لقد اكتشفتنى، كقارة عشق مفقودة، منذ آلاف العصور، فحطت على أرضى، ورفعت رايات عشقها لتحتلنى، حد الجنون..انى لحق أتورط فيها، للحد الذى يوقظ الامل فى قلبى بأن أغامر، من أجل حياة، لا تعاش فى البعد عن ذراعيها، حياة، تمنيتها، لتأتى هى فتوقظ الرغبة فيها، فى الوقت الضائع..لما انت ِ، ولما الان...!؟، أخذ يتسائل بعذاب.أكاد أجن، وانا اعرف انها تبكى الان، ما جنته يداىّ، وهى بعيدة عن مواساتى، فأنا ما ان شعرت بعدم وجودها جوارى، جين تلمست موضعها من الفراش، الا وانتفضت بحثا عنها، لأعود بها، مرة أخرى، إلى احضانى، لتهدأ تلك النفس العليلة، ويشملها الرضا، وتكسوها السكينة من جديد، لكن بدل من ذلك...قذفت بها إلى ابعد ما يكون، حيث لا يمكن استعادتها من جديد، حيث جرح الروح الذى لا يُشفى، ولا يمكن رتقه، وحيث مرارة الكبرياء الذليل، لا تذول، ونزيف الكرامة، الذى لا يطيب...