رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الرابع عشر
-انتي فين يا ماما؟ سألت وسام الحانقة فأجابتها والدتها موبخه: -في الطريق خلاص خمس دقايق وهبقى عندك. -ماما انتي في الطريق بقالك ساعتين، دي لو خالتي جيبالك عريس مش هتعملي كده. -بطلي لماضه وقله أدب واتنيلي اقفلي، محمد ابن خالتك موصلني جهزي نفسك عشان تسلمي عليه.
أغلقت "وسام" الهاتف في تذمر فدونًا عن كل الأيام تختار والدتها اليوم لزيارة شقيقتها منذ الصباح الباكر، خرجت منها صرخة طفيفة وانتفضت في رعب تملك كل ملامحها عندما أغلق "بيجاد" الباب بقوة هزت جدران المنزل معلنًا عن دخوله. ولكن ما جعل فرائصها ترتعد في خوف هي عيناه المخيفة المشتعلة بنيران الغضب. -كنتي مخيباه في بيتي؟
خرج صوته غريب كالفحيح وهو يتحرك نحوها فتصلبت في مجلسها غير قادرة على التنفس لا تصدق إنه اكتشف الأمر بهذه السرعة. اقترب منها وهبط لمستواها واضعًا وجهه الجامد صوب وجهها الشاحب مستكملًا في غموض: -كنتي مخبياه ليه؟ لمعت عيونها بالدموع وارتعشت ملامحها مهددة ببكائها السريع، ولم تستطع اجابته حتى لو رغبت لم تكن لتقدر فحلقها جاف ممتلئ بطعم العلقم المر ونفسها ضاق حتى صار من الصعب عليها سحبه لرئتيها: -آآآآه.
خرج منها تأوه يعبر عن ذعرها عندما ضرب بكفيه على مسندي مقعدها صارخًا في وجهها: -ردي عليا، مش بتردي ليه؟ -أنا كنت خايفة عليك. خرجت جملتها مهزوزة بمشاعرها ومختلطة ببكائها بينما تحيط ذراعيها فوق صدرها في ارتعاب واضح.
دوت ضحكته الساخرة المكان وهو يستقيم فتابعت وسام عضلات جسده المشنجة الصارخة بعصبية بالغة قبل ان يمد ذراعه نحوها ليوقفها في مكانها في حده هاتفًا في استنكار: -ياه قد أيه أنتي عظيمة وبتحبيني، بتحبيني لدرجة انك تستغفليني وتخليني زي العيل الصغير قدام الناس كلها.
بصق كلماته المليئة بالحقد في وجهها، فتعلقت عيون وسام المصدومة بملامح الاشمئزاز فوق وجهه لتخبره في دفاعية هشة كالمجنونة لا تعي ما يخرج من فمها من شده ارتباكها: -أيوة عملت كده عشان بحبك، وانت اللي خلتني الجأ لكده بوحشيتك وهمجيتك.. زاد ضغطه فوق ذراعها دون أن يشعر وقد الهبه حديثها فانتقلت عيناه من أسفلها لأعلاها ليعلن في استحقار وندم: -مهما حبيتك او عملتلك هفضل بردو متوحش وهمجي في نظرك.
دفعته وسام المتألمة بفعل أصابعه دون جدوى فصاحت في وجهه في اعتراض وقوة تخالف دموعها الملطخة لوجنتيها: -حب؟ فين الحب ده يا بيجاد؟ انهي حب يخليك معيشني في جحيم اني ممكن افقدك في اي لحظة.
كان يطالعها بخيبة أمل وكأنها خانت ثقته فيها بكلماتها تلك، فاندفعت تمسك تلابيب ملابسه في غضب بعد أن هالها عسر موقفها فبدأت أعصابها تنفلت مزمجره: -ايوة خبيته منك وهكررها ألف مرة طالما انت أناني وحيوان. دفعها "بيجاد" بعيدًا عن جسده في قوة أكثر مما ينوي عادت بسببها وسام المصدومة خطوتين للوراء، كان عابسًا يتصبب عرقًا من فرط الغضب لكلماتها المستفزة. فكان كمن أصابه سحر أسود يتحكم به فلا يري من يشاحنه بل ما يراه ويسمعه هي الخديعة والخيانة وهي بكل غباء تشعل أسوأ شياطينه.
علا صوته المستنكر وهو يجذبها من ملابسها نحوه وكأنه لم يدفعها بعيدًا عنه منذ ثوان: -أناني وحيوان؟! مخبية راجل في بيتي وقاعده معاه لوحدكم من الصبح ويا عالم كنتوا بتهببوا ايه وانا الاناني وحيوان ده أنا هموتك بأيدي!. -أخرس خالص متكملش، إياك تفكر فيها او تتهمني بحاجه زي دي يا بيجاد، لانها بجد هتبقى باللي بينا... -باللي بينا؟
واحنا في ايه بينا غير ضحك على الدقون، من يوم ما عرفتك وانا بخدع نفسي وبخفي طبيعتي عشان أقدر اتعامل معاكي كأنك ورقة خايف عليها تتكرمش في ايدي، عمري ما حسستك بالوجع من اهانتك ليا أو بالغضب اللي بيدمرني كل ثانية من جوايا. هزها "بيجاد" في عنف كأنه يدفع بكلماته الصلبة داخل عقلها، وهو ذاته غير قادر على وصف النيران التي تضغط فوق صدره وتحول روحه إلى رماد. تجاهل "بيجاد" المغيب تأوهاتها المتألمة في اعتراض مستكملًا في بغض: -ولما حبيتك، كافئتي حبي بأية؟
انك تستغلي حبي ليكي عشان تخدعيني وتستغفليني ! صرخ في نهاية جملته بنبرة قاتلة حامله كل ما يشعر به من ألم وتحطم: -استغفلتيني عشان بحبك وأنا زي الحمار جريت على حضنك من غير تفكير زي العيل الصغير. -أفهمني عشان خاطري، والله عملت كده عشان بحبك. همست مبررة لهجة مذبذبه مليئة بمشاعرها المضطربة المتناثرة لليمين والشمال ما بين التوسل والغضب عليه.
فخرجت منه ضحكه ساخرة وهو يتركها تتخبط في استنكار من كلماته، عائدًا ببطء للخلف هامسًا للفراغ في مُقت: -انتي كسرتي رجولتي جوا نفسي. تقدمت منه رغم التشنج القابع داخل معدتها تبكي مستنكرة شاعرة بالظلم فهتفت كمن تلبسها الجنون: -دي مش رجولة مش لازم اسيبك تعمل اللي في دماغك عشان تبقى راجل. الرجولة إنك تخاف على نفسك عشان اللي منك زي ما الراجل اللي كسرت عضمه عمل عشان خايف على نفسه وعلى أهله.
عض شفتيه يشعر بكل ذرة تعقل تنتفض هاربة من جسده ليسأل في استهجان غير مبالي بصوت الدقات الصادحة بشكل متوالي فوق باب المنزل الخشبي: -أنا مش راجل وهو اللي راجل مش كده؟ اقترب منها في خطوات مهددة بينما تبتعد هي عنه متجاهلة صوت والدتها المنادي من الخارج مستكملة في عنادها: -أيوة مش راجل عشان.. صرخت في ألم عندنا اندفع نحوها وانغلق كفه خلف رأسها يجذب شعرها في غضب هاتفًا: -أنا مش راجل فعلًا عشان اتجوزت واحدة خاينه زيك.
صدحت تحذيرات والدها داخل عقلها فتحركت دن تفكير، فرفعت ذراعيها في مدافعه غريزية تلاطم جسده في غضب وهجوم مماثل لاقترابه متناسيه انتفاخ بطنها ومتناسيه عواقب غضبه الهادر بينما تصرخ في وجهه: -والواحده الخاينة دي مش عايزة واحد مش راجل زيك. شد خصلاتها أكثر يحاول كبح حركاتها حتى تقابل كفها مع وجهه، فلم يشعر "بيجاد" سوى بيده ترتفع وتستقر فوق وجنتها في صفعه مدوية حركت كامل جسدها ليتقابل مع الحائط جوارها.
وقف الزمن بينهما ومرت الدقائق عليهما متثاقلة كأنها ساعات، كانت الدماء تفور في جسد "بيجاد" وتتصاعد في حرارة كأنين في أذنيه. فوقف لاهثًا لا يرى أمامه سوي هيئة زوجته المنكمشة في ذعر ووجهها المصدوم بينما أصابعها لتغطيه وجنتها المطلية بلون أحمر غاضب بفعل صفعته، ثم تابع كفها الاخر يستقر فوق بطنها في خوف صريح وكأنه وحش كاسر سيمزقها هي وجنينها.
انغلق حلقه باختناق يشعر كمن يسقط من فوق الهاوية، فأخيرًا انتصرت زوجته ووالدها لأنه أقتنع تمامًا في هذه اللحظة إنه ذلك الكائن المتوحش، عديم المشاعر والرحمة التي تصفه به دائمًا، ذلك الكائن الأعمى بالغضب، الذي يستحق الحب أو الحياة مع أحد. انفرج باب البيت في قوة فقد زعزع الصمت الذي ساد بعد صراخهما مخاوف والدتها التي دفعت بأبن شقيقتها لكسر الباب، ليندفع منه "محمد" بعد محاولات إلى الداخل وخلفه والدتها الراكضة نحو ابنتها في ذعر متسائلة: -وحدوا الله يا ولاد، انا دمي اتصفى من صوتكم اللي جايب أخر الشارع.
لامست ابنتها تتفحصها ثم انتقل نظرها فوق وجهها الباكي المتعلق بزوجها "بيجاد" الذي لم ينزح بنظره الغامض عنها هو الآخر فهمست مرتعبة: -يا حوستي، حصل أيه يا ولاد؟ تركت ابنتها التي لم تفييدها أو تنطق بحرف ثم اتجهت نحو "بيجاد" المتشنج في صمت، متسائلة وحدسها يخبرها بكارثة قادمه: -في ايه يا بيجاد؟ -طلقني... خرج صوت "وسام" بلهجة غريبة منخفضة موجه في تعب نحو "بيجاد": -لو راجل بجد طلقني! -انتي طال...
وضعت والدتها كفها فوق فمه تمنع كلماته مولوله في صدمه: -اخرسي يا بنت الموكوسة، اعقل يا حبيبي ووحد الله، فكر في اللي في بطنها دي واحده صايعة. أبعد بيجاد يدها عن فمه قاذفًا بينما يرمق زوجته باتهام: -أنا وبنتك مش نافعين لبعض يا خالتي.
انفجرت وسام في صرخاتها وعلا صوتها بكلمات بذيئة معترضة متتالية غير مفهومة وقد خرجت عن طور عقلها مع اقتراب مخاوفها فأقترب محمد منها يمنع حديثها بوضع يده فوق شفتيها كي لا يزداد غضب "بيجاد" بجنون كلماتها فيقتلهم جميعًا. إلا أن "بيجاد" اندفع نحو محمد يجذبه في غضب ضاربًا بجسده في الحائط صارخًا في وجهه: -متمدش ايدك عليها. -اهدي يا بيجاد هو ميقصدش.
بررت والدة وسام التي ضربت كفاها فوق صدرها في خضه قبل أن تلتحم معهما تحاول إبعاد أصابع "بيجاد" من حول عنق ابن شقيقتها التي كاد يفقد أنفاسه: -ولا يقصد يا ماما ده بني ادم مريض نفسي، مجنون مفيش فايدة منه انا بكرهك يا بيجاد خلاص وبكره اليوم اللي شوفتك فيه، أبعد عني وأبعد عن حياتنا اللي دمرتها.
صرخت وسام في اتهام فدفع "بيجاد" جسد قريبها عنه وقد انطلقت كلماتها كالسهام السامة تخترق جدران قلبه، فتراجح للخلف بأنفاس لاهثه ومشاعر عنيفة ثائرة داخله كالبركان. أغمضت عيناه يخفي احمرارها المجنون ليلتفت بعد ثوان في استسلام نحو باب المنزل مغادرًا في صمت بقلب منطفئ، فأسطورة الوحش انتهت حين التهمته نيران الاحبة.
فتحت وسام شفتيها لإخراج مزيد من الكلمات لكن كل ما خرج منها هو أنفاسها العالية حتى انفجرت في البكاء صارخة في غضب مجنون حتى سقطت أرضًا فاقدة للوعي غير قادرة على تحمل منحنيات الواقع.
بعد مرور أسبوع فاقت أيامه كآبة الزهور في الخريف، وصل "ريان" أرض مصر أخيرًا ممسكًا بأصابع شقيقته "ليان" النحيلة خارجًا بها من المطار باحثًا عن سيارة أجرة تعيده إلى طفليه وقد كان يشعر باشتياق شديد لكليهما وكأنه غاب سنوات طويلة. -تاكسي.
رمق جسد شقيقته التي القت رأسها بجانب نافذة السيارة مغمضة عينيها في تعب وارهاق واضح ما ان استقلا السيارة، جز على أسنانه يكبح غضبه من الاشتعال وهو يطالع الآثار الحائرة بين الحمرة والزرقة المغطية لجانب وجهها بفعل لكمات نادر الحقير! زفر في غضب فحتى بعد أن لقنه درسًا قاسيًا لا يزال يشعر بالغضب يندلع في صدره كلما رأى الشقاء في عيون شقيقته، فعلى ما يبدو انه غير قادر على حماية أحد من أحباءه ويفشل بجدارة في تلك الأمور.
مال جانب فمه لأسفل كان عليه الإجابة على مكالماتها فمهما فعلت لا تزال ليان شقيقته الصغرى التي تقيم في الغربة وتحت سيطرة رجل غريب حتى وان كان زوجها. الله وحده يعلم ماذا كان سيحدث لها ان لم يرسل صديقه لنجدتها حتى يصل إليها، ولن ينسى ابدًا شعوره عند رؤيته لوجهه المكدوم في المشفى فقد تملكه الذنب كالوحش يأكله من كل الجوانب.
شعرت ليان بنظرات شقيقها المشفقة فاستمرت في تصنع النوم كي تتفاداه، تشعر كأنها عادت طفلة صغيره لا حول لها ولا قوة من جديد، بل تشعر كطفلة مشاكسة لا أحد يرغب في مرافقتها أو الاقتراب. هي لا تستحق مساعدته بعد أن خدعته لكنه كان أول شخص لجأت إليه حين هجم عليها نادر مفرغًا شحنه غضبه عليها لأنها ساومته على تقليل المبلغ، ليتركها الجبان هاربًا حين سقطت مغشيه عليها وسط دمائها، تركها تموت وحيدة دون اهتمام.
حاولت تنظيم تنفسها كي لا ترتبك مشاعرها وتبدأ في البكاء من جديد فقد فعل لها شقيقها ريان الكثير حين حرص على أخذ حقها فلم يعود بها إلا ومعها ورقة طلاقها رسميًا من نادر الذي رضه لمطلب شقيقها الذي أغراه بضعف المبلغ المتفق عليه بينها وبينه. وبالفعل أعطاه ريان المبلغ ولكنها شعرت بشماته ورضا وهي تتذكر ما اخبرها به صديق ريان الذي أوصلها للمشفى بأنه ما ان اعطاه ورقتها حتى هشم ريان وجه نادر تمامًا كما كاد يفعل في وجهها.
رفعت أصابعها دون شعور تلامس جانب وجهها تتذكر رغمًا عنها كيف أمسك شعرها وكرر ضرب رأسها في الباب بجنون لأنها رفضت اقترابه منها مشمئزة وهو يساومها على الأموال الناقصة. -تاخدي مسكن تاني؟ فتحت عيناها بتلقائية لكنها لم تنظر نحو شقيقها الذي ترجم اشمئزازها على إنه موجه ألم لكنها اكتفت بهز رأسها بالنفي هامسة: -لا مبقتش توجع زي الأول، أنا اسفة تعبتك معايا.
أغمض ريان جفونه ثم حرك رأسه في قلة حيله وهو يسمع نبرة الانكسار في صوت شقيقته، مد ذراعه يقربها منه ليضمها بنصف جسده قائلًا في صدق: -أنا اللي أسف لأني مقدرتش ألملم نفسي بسرعه واسامح. هربت عبراتها الصامتة عندما شعرت بدفء أخويته فمدت ذراعها تضمها إليها في قوة وحاجه سامحه لذاتها بالبكاء بين ذراعيه لأول مرة منذ الحادثة. مرر ريان أصابعه بين خصلاتها يربت على رأسه تارة وعلى ظهرها تارة حتى هدأت وعاودت الاعتذار: -انت ما تستحقش مني لا أنت ولا ريم اللي عمل...
قاطعها ريان وهو يقبل جبهتها مؤكدًا: -الموضوع ده تنسيه من دماغك، أنا خلاص نسيته وحابب اننا نتخطاه عشان نقدر نكمل حياتنا صح، هتبقي عملتيلي خدمة كبيرة لو عملتي كده، ممكن؟ ابتسمت في حزن لكنها حركت رأسها في موافقة وتمنت لو يكون الأمر بهذه السهولة، تتمنى لو تعود ليان الصغيرة الخرقاء التي ظنت نفسها تعسه. كم هو غريب الإنسان فهي تشتاق لتلك الليالي التي امتلكت فيها السعادة دون أن تشعر وكانت تظن وقتها انها من التعساء، لا تعلم كيف غفلت "ليان" لكنها استيقظت حين هزها ريان قائلًا: -يلا وصلنا.
نظرت حولها ثم اتسعت عيناها في ذعر لتخبره: -ده بيتك انت وريم! -ايوة، مالك في أيه؟ حدثها ريان في تعجب فأجابته: -أنا كنت فاكرة هقعد عند بيجاد؟ -لا هتقعدي معايا الفترة دي وبعدين قرري عايزة تقعدي مع مين. جذبها ريان من السيارة كي ينطلق السائق بعيدًا بعد أن فرغ حقائبهما وبعد ان حملها ريان وتحرك للمبنى نظر خلفه ليجد شقيقته تقف مكانها كالتمثال فسأل: -مالك يا ليان؟
امتلأت عيونها بالدموع وهزت رأسها في رفض معلنه: -عشان خاطري يا ريان مش هقدر اشوفها بعد اللي عملته فيها. -انتي عارفه ريم كويس يا ليان مش هتعملك حاجه، تعالي نطلع دلوقتي وبكره هنتكلم في الموضوع أكتر. -ريان... حاولت من جديد فقاطعها ريان بشيء من الحده: -ليان خلاص دلوقتي الساعة اتنين الفجر، واحنا جايين طيران فوق العشر ساعات ومش شايف قدامي خلينا نطلع نرتاح الأول وبكره يحلها الحلال.
اخفضت ليان رأسها وانطلقت باستسلام خلف شقيقها، خائفة وبائسة فقد كانت ولا تزال الشرير في رواية ريم، هي بدئت الخديعة والجبن ولا تستحق منها سوى الاستحقار لكنها لن تتحمل نظرة العتاب والقهر إن رأتهما في عيون ريم. صعدت خلفه تضع خطوة بعد الاخرى في ثقل وكأنها متجهه لنهايتها، تشعر بالقُبح والذنب وترغب في الهروب، وقفت تتابع ريان يفتح الباب ليتقابلا بالظلام والهدوء عدى ضوء خافت قادم من بعيد.
حمدت الله انهم نائمين ودلفت خلفه في هدوء بقلب يدق في توجس، اشار لها ريان بالبقاء في الردهة ثم انطلق يتفحص غرفة ريم ليتفاجأ بها وصغيره نيام فوق الفراش، أغلق الباب في خفة واشار لليان لاتباعه نحو غرفة عمر هامسًا: -تعالي نامي في أوضة عمر، هما نايمين هنا.
تحركت في سرعة خلفه وهي تفكر بأن الأمر ليس بهذا السوء ربما ان اغلقت الباب عليها لن ترى أيا منهم حتى تذهب إلي منزل أخيها الأصغر، تنفست في بطء متعجبة كل هذه الحيرة والتيه المتملكان لمكنوناتها، لقد خدعت نفسها بالنضوج المبكر وبانها قادرة على المواجهة وحدها بنصاحة أفكارها... فإلى أين أوصلتها أفكارها الرهيبة الآن ؟ فكرت ساخرة وهي تغلق الباب وتناظر الغرفة من حولها في حزن وقد عاد لذاكرتها تفاصيل خيانتها من جديد.
-يا بنتي بالله عليكي كلي حاجة، أنا مش هفضل في الهم ده كتير كفاية عليا هم بيجاد. قالت والده وسام في حرقة، فالتفتت وسام تبعد وجهها الشاحب كورقة بيضاء مزينه بدوائر سوداء حول عيناها وهي تحرك أنامله فوق بطنها المتألمة بعد أن تملك قلبها انقباض قاتل ما أن سمعت أسم زوجها لتخبرها وسام في حزن: -لا ما تقلقيش عليا يا ماما. -بنت انتي عنيده زي ابوكي ليه؟ -هو محمد راح الجيم انهارده؟
سألت وسام مغيره محور الحديث فلوت والدتها شفتيها في خيبة أمل مؤكده: -ايوة بردو مقفول زي ما هو من أسبوع وبيجاد مالوش أثر. رفعت وسام يدها فوق عينيها تخفي الدموع التي انهمرت في قهر وقلق، فزفرت والدتها مستغفره الله ثم ربتت على ابنتها مواسية بقولها: -وحدي الله واهدي وان شاء الله خير، متعرفيش اخوه هيرجع امتى؟
حاولت وسام تجفيف دموعها وهزت رأسها بالنفي مردفه: -لا كلمت ريم وقالتلي مكلمهاش غير مرتين مرة من المطار ومرة من المستشفى، ومش عارفة عنه حاجة عشان في مشاكل مع اخته ولسه مفضاش يكلمهم. -عيني عليك يا بيجاد يا ضنايا، مالكش حد في الدنيا. تمتمت والدها في قهر وهي ترمق وسام عن قصد فأبنتها أخطأت ويتوجب عليها كأم تنبيهها إلى أفعالها كي لا تكررها من جديد، نظرت لها وسام في غضب لتخبرها في غيظ: -ماما متبوظيش أعصابي، أنا متمرطة نفسيًا اصلًا.
-أحسن تستاهلي، بقى في واحدة متربية تعمل كده وتقول الكلام الزفت ده لجوزها يا مؤمنة. وأنا اللي كنت فاكرة نفسي مربياكي أحسن تربية، أخص عليكي. -يا ماما أرجوكي كفاية، أنا مغلطش لوحدي هو كمان مد ايده عليا وانا بطني مليانه. -طيب يمين بالله لو انا مكانه لكنت كسرت كل عضمه في جسمك وما همنيش اللي في بطنك حتي، عشان تبقى تخبي رجاله غريبة في بيتك يا صايعة.
أخبرتها والدتها وهي تجز على أسنانها محركه كفها كتأكيد للعنف الذي يعتريها فهتفت وسام التي توشك على البكاء من جديد: -يا ماما حرام عليكي بقى كفاية عرفت اني غلطت أكتر منه، ممكن نركز في اللي حنا فيه ونلاقي الأول! -ولما انتي هتموتي نفسك عليه كده، بتغلطي ليه؟ -يوووة. قالت وسام في حرقة وقلبها يتمزق في ندم وخوف على زوجها المختفي منذ أسبوع كامل ولا أحد يعلم إلى أين ذهب.
عادت بذاكرتها إلى ثلاثة أيام ماضية حين كانت غارقة في بغضها عليه مفكرة كيف ستتعامل مع الموقف مصره على فكرة الانفصال في عناد، لتتسرب أفكارها حين دلفت عليها والدتها تخبرها وقد ارهقها الصمت بأن بيجاد لا وجود له منذ طردته. وقتها صدمتها والدتها باختفائه وحاولت وسام التريث وعدم التفكير في الأمر والتركيز على مشاعر الغضب والنقم عليه، ولكن بعد مده من بحث ابن خالتها ووالدتها وانغلاق هاتفه ليومين كاملان تملكها الرعب والتوجس.
فهي تخشى على زوجها من جنون أفعاله وتلوم نفسها لأنها لم تستطع لجمه أو التعامل معه بشكل جيد، تكفي كلمات والدتها المحللة والساخرة لتقتنع بأنها حطمت قلبه كليًا. -جربتي تتصلي بيه؟ خرجت من أفكارها على سؤال والدتها فحركت وسام رأسها للأعلى وللأسفل قائلة: -اه أول امبارح اتصلت عليه خمس مرات. -من تلفونك؟ -لا من تلفونك انتي، معيش رصيد.
ضربت والدتها بكفيها فوق بعضهما أمام وجهها وكأنها ترغب في اللطم مستنكره: -مستنيه أيه يعني، ما تتنيلي على عينك اشحني واتصلي يمكن يرد عليكي انتي! -الله مش هو اللي مش بيرد، مجاش في بالي اصلًا، بطلي تزعقيلي! -يا ميلة بختي يا اني يا امى ووكستي في بنتي، وقفت تجذب حجاب الصلاة قائلة من بين أسنانها: -هنزل ابعتلك رصيد واتصلي بيه أول ما يوصل انتي سامعة، ولو رد وتتأسفي وتراضيه وتبوسي ايديه كمان ... فاهمه!
كانت لهجة والدتها أمره وكأنها طفلة صغيرة تؤنب على أخطائها، فهزت رأسها في موافقة لأنها ستفعل كل ما يطلبه منها الأمر كي تسمع صوته فدقات قلبها تتوق إليه، شعرت بغصة تقبض قلبها فهي تشتاق لزوجها كثيرًا وترغب لو تركض بين ذراعيه متوسله معتذرة عسى أن يسامحها. -يارب ترد عليا وتريح قلبي.
همست في خفوت فلا أحد يشعر بذلك الإحساس المتملك لجوارحها، أو بشعور الذنب المحاوط لأفكارها كالسجن الممتلئ بشتى ألوان العذاب، فهي ستموت حرفيًا إن فقدته وقرر الابتعاد عنها لأنها بالتأكيد تستحق هذا العقاب الشديد منه... عضت شفتيها في قهر، ودعت الله أن يحفظ حبها داخل قلبه كما يحفظ حبه داخل قلبها... فهي مجنونة وتفوق زوجها جنونًا وقت غضبها لكنها نادمة ... نادمة بشدة...
رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الخامس عشر
خرج ريان من المرحاض بجسد غارق في التعب والإرهاق، لا يزال مبلل برذاذ الماء من حمامه البارد إلا أن ذلك لم يمنع الابتسامة الكبيرة التي ارتسمت على وجهه المشاكس في لهفه أثناء اقترابه من زوجته النائمة كالملائكة، طالع جسد صغيره المبعثر في كل اتجاه جوارها واتسعت ابتسامته وكم يتمنى النوم والصحو على هذا المشهد كوال العمر.
مسح رأسه وأعلى صدره مرة أخيره بالمنشفة قبل ان يلقيها ويستلقي ببطء بجوارها في رضا كمن أمتلك الحياة. انكمشت ريم ما أن لامسها بجسده البارد نسبيا فتابع القشعريرة التي سرت في سرعة بجسدها الصغير وملئت عنقها الرائع المغري لكنها ضغطت فوق جسد عمر تقربه منها مطالبة بالدفء.
خرجت منه ضحكة خفيفة بعد أن عانقها يقرب جسدها منه بعيدًا عن طفله في رغبة شريرة بطفوليه لامتلاكها وحدة فعمر ينعم بأحضانها منذ زمن، استقر برأسه فوق عنقها يستنشق رائحتها على أمل ارضاء الشوق المشتعل داخل صدره. وتنهد بحرارة لقد أشتاق لها بجنون وكأنها المرة الأولى التي يبتعد فيها عنها.
رفرف قلبه بعد مرور دقائق ساكنة حين دفعت بظهرها نحوه مستمتعة بالحرارة المستجدة التي ألهبت جسده ما ان أقترب منها، فرفع ذراعه الذي لا يزال ملفوف حول خصرها ليضع كفه أسفل رأسها يرفعه نحوه قليلًا قبل أن يميل ويطبع قبلات صغيرة مبعثرة فوق وجنتها. تململت ريم لكنها لم تستيقظ حتى حين استقر بشفتيه فوق عنقها يدمغها بأشواق قبلاته الحارة ا، تحركت منزعجة من حرارة تلك الأنفاس التي تداعب أسفل أذنها لكنها لوت عنقها في تطلب وهي تشعر بفمه يداعب مشاعرها مطالبة بالمزيد ولم يبخل هو.
تأججت نيرانه بقوة فمرر ذراعه الاخر من أسفل كتفها كي يضغط بكلا ذراعيه حول جسدها فيحتويها أكثر داخل أحضانه في غرام وشعر بسيطرته تنساب مع الرياح فتنهد هامسًا بين قبلاته: -ريم... -امم.. خرج أنينها كالموسيقى فضغط على جسدها أكثرًا لاثمً عنقها بقبلة قوية أخيرة مؤكدًا بأنفاس لاهثة غير قادر على إبعاد شفتيه عن بشرتها الناعمة: -اصحي قبل ما نروح في داهية عمر جنبنا.
انفتحت جفون ريم تطالع الغرفة امامها في ذهول ثم قطبت حاجبيها في تعجب تحاول التركيز لاستيعاب ما يحدث خلفها: -انا رجعت من السفر. همس ببطء، فأفرجت عن صراح حاجبيها وشهقت تلتفت نحوه قائلة بصوت يشوبه النوم وهي تلامس وجهه تتأكد انها لا تحلم به كما كانت تفعل طيلة الأيام الماضية: -ريان انت رجعت بجد؟ -وحشتيني...
ارتمت ريم في احضانه دون تفكير تعانقه في قوة ثم قالت في عتاب: -لو وحشتك كنت اتصلت بيا، اقصد بعمر أصل انت كنت واحش عمر أوي. -معلش مكنش عندي وقت اجيب شريحة جوال، بكره هفهمك كل حاجة، وبعدين عمر بس اللي كنت واحشه؟ -وليان عملت ايه؟
قالت في حرج تغير الموضوع وهي تبتعد عنه قليلًا لا تريد الخضوع والاستسلام سريعًا، فصمت يطالع عيناها القلقة قبل ان يبلل شفتيه مخبرًا إياها: -اتطلقت من جوزها ونزلت معايا. -نزلت معاك مصر. سألت بتلقائية بلمحة حزن فجزء منها شعر بعدم راحة لأنها مقتنعة بأن ما حدث لليان كان عقاب غدرها، سعل ريان قبل ان يرد في توتر: -في أوضة عمر.
اتسعت عيون ريم التي اشتعلت بمشاعر جمه غير قادره على تحديدها ولكنها بالتأكيد ليست سعيدة، انتهت صدمتها سريعًا قبل أن تدفع كتفه تحاول إبعاده عنها ليردف في تعجل: -أنا عارف انك زعلانة منها بس دي أختي والظروف جيت عليها جامد، انتي شايفة كان ينفع اسيبها وهي محتاجاني؟ -حاجة متخصنيش، أعمل اللي تعمله.
أجابته في حده وقد بدأت مشاعرها في التخبط فهي لم تتوقع ان تأتي المواجهة أقرب مما تتوقع فعوده ليان يذكرها بقبح فعلتها وتدميرها لحياتها، حاولت ريم الإفلات من بين أصابعه المطبقة على جسدها لكنه رفض مؤكدًا: -طيب ممكن ناخد بريك انهارده وننام، والصبح هخليها تمشي لو ده هيريحك ؟ عقدت حاجبيها ترمقه في غضب وحنق لأنه يعلم جيدًا انها لن تتركه يطرد شقيقته من منزله وقت محنتها حتى وان اذتها بشدة. -يخربيت الطيبة اللي في دمك دي.
قال ريان بنبرة مرحه مستمتعًا بمشاعرها الفياضة ثم قرب وجهه منها عنوة يحاول تقبيلها فجزت على اسنانها قائلة: -ريان متستفزنيش، دي مش طيبه انا بس انسانه طيبعيه أكيد مش هخليك ترمي اختك! قرب شفتيه يحاول ملامسه شفتيها فسارعت بإخفاء رأسها في صدره هامسة في رفض: -ريان، ممكن أفهم انت نايم جنبي ليه؟ يعني هو في حاجه جديدة فاتتني في علاقتنا؟
-شكلك مكنتيش حاسه بنفسك ولا ايه، انتي اللي اول ما جيت قولتيلي خودني في حضنك يا ريان وحشتني يا ريان، بوسن... اخبرها ريان في مشاكسه بينما يحرك ذراعه في الهواء يعبر عن هول أفعالها، فوضعت كفها فوق فمه تمنع حديثه الوقح بوجه أحمر ليقبل الوقح كفها مرات متتاليه حتى هربت منها ضحكاتها ناتجة عن دغدغاته لتوبخه: -ريان، بطل هزار.
ابعد كفها ومال دون انذار سارقًا انفاسها في قبلة عميقة يبث بها مشاعره لها ثم أبتعد متنفسًا بالندم هامسًا: -اعملي نفسك بتحلمي وسبيني انام كده وانتي في حضني. لم تعارضه ريم وقد انقطعت انفاسها بسحر غرامه وذاب المنطق خلف جفنيها فتركته يضمها إلى احضانه غير قادره على الحركة او الاعتراض. همهم ريان في رضا واغلق عيناه مطالبًا النوم في سلام بينما أغمضت هي جفونها تشعر بالأمان اخيرًا منذ أيام.
في الصباح الباكر جلس أحمد فوق مكتبه يهز ساقه في عنف وتوتر وكل دقيقه تمر عليه تؤكد له بأن ريم باعت قضيته وأن ريان انتصر بسرقتها منه. -ردي بقى! هتف في غضب وهو يعاود الاتصال بها دون جدوى، لمعت عيناه بشر وكم يتمنى بأن يرى البغيض اتصالاته غير مبالي بموقف ريم وقتها، زفر في حده فكم يشعر بالحقد والكره تجاه ذلك الرجل، فهو يملك امرأة محبة لا يستحقها وطفل صغير نعم حقير لكنه لا يستحقه ايضًا...
غامت عيناه في حقد فريات يملك أيضًا القوة والإصرار والمواجهة والقدرة على التحكم في حياته... وجميعها اشياء عاجز هو عن امتلاكها، ضرب بقبضته فوق ساقه دون اهتمام برد فعل العاملتان المتعجبتان من حركته المفرطة، فمالت احداهما هامسة: -اتلحلحي قبل ما ريم ترجع وتخطفه منك او يتجنن من غيرها، أيهما أقرب ! -اتلحلح ايه اكتر من كده أيه!
ده بارد اجيله يمين اجيله شمال عينه ما بتترفعش نحيتي. قالت الفتاة في حقد وغيظ فضحكت صديقتها مردفه: -روحي قوليله يشرب ايه وافتحي البلوزه دي شوية، فكي عن نفسك وعلى الراجل يا بهيمة.
تنهدت "دعاء" في استسلام ثم خلعت أول زرين بقميصها في توتر لتتتقل بأناملها فوق وجنتيها تقرصها كي تزيد حمرتها أثناء تحركها بعزم نحو " أحمد" الغارق في عالمه الخاص، فسألت في صوت رقيق غنج نوعًا ما: -صباح الخير، تحب اعملك قهوة يا أستاذ أحمد شكلك مضغوط انهارده. لم يرفع أحمد رأسه او يرمقها بطرف عينه حتى واكتفى بقوله المقتضب: -اعمليها سادة لو سمحتي. -طيب تحب تفطر معايا انا و...
قاطعها أحمد في ملل يرغب في التفكير بمفرده: -دعاء مش عايز حاجة، شكرا ليكي القهوة كفاية. احمر وجهها بحرج لكتها ابتعدت تجرر اذيال الهزيمة نحو صديقتها التي تمط شفتيها لليمين واليسار في حنق، حدقتها "دعاء" بنظره قاتله هامسة: -عجبك الكسفة والتهزيق ده! -ابن الايه، أنا عمري ما شوفت راجل مش هامه الستات بالطريقة دي أيه حجر. -لا يا اختي بيهمه بس ريم وبس.
اخبرتها دعاء في حقد واتجهت تحضر قهوته في غيظ مرير. خطف أحمد نظرات مغيظه نحوهن فهن لا يملن من محاولاتهن الساذجة في لفت انتباهه، ابتسم في سخرية فقد تعلم درسًا قاسيًا لا يود تكريره مرة أخرى. فهو يتعمد تجاهل جميع النساء منذ الموقف الأسود الذي تعرض له في مقتبل عمره، انكمشت ملامحه في غضب وقهر لا يزال يتذكر التخبط الذي تملكهُ حين لم يستطع إكمال معصيته مع تلك العاهرة في الليلة المشؤومة التي تحداه فيها أصدقاءه بأن يذهب معها للغرفة. لقد رفض وقتها في تعنت لكنهم اتهموه بأفظع الاتهامات والجُبن واتهام واحد فقط نجح في اخترقته ودفعه ليدلف مع العاهرة وهو قول احدهم بأن والده قتل رجولته.
عاد بأفكاره لتلك اللحظة حيث كانت الأمور تجري في سلاسة وكم كان منغمسًا بين ذراعيها كالمجنون يحاول اثبات أمر لا يعلمه هو، حتى صدح صوت والده من حوله فانتفض جام جسده كمن تلبسه شيطان أقبح من شيطانه. تعجبت السيدة من تحوله الحاد من الحرارة للبرودة التامة فلم يتحمل حاجبها الرفيع المرفوع بتساؤل ساخر، فهرع مبتعدًا في ذعر عنها.
لملم ملابسه يرتديها أثناء خروجه من الغرفة وإلى خارج المنزل بالكامل دون الالتفات لأصدقائه الضاحكين خلفه وللحين لا يقدر على نسيان تهكماتهم القبيحة. فرك عينيه يحاول نسيان شعوره الكريه ورجولته المتألمة المنكسرة في قسوة. لا يدري كيف استطاع تجاوز الأمر وقتها لكنه بالتأكيد عانى الكثير من الاحباط والقهر فالاحتفاظ بهذا السر بعيدًا عن الجميع كان يقتله ببطء فهو ليس مختلف عن أي رجل شرقي يخشى نظرة المجتمع ولن يتحمل معرفة أحد بالأمر. -انا وثقت فيكي انتي يا ريم وعرفتك بأسوأ مخاوفي، بلاش تخذليني.
تمتمت في حزن فلا أحد على هذه الأرض يعلم بسره سواه هي وتلك العاهرة، ريم جعلته يشتهي الحب والرفقة الحنونة، جعلته يعتقد بأن حياته يمكن أن تكون مختلفة عن طابع الوحدة المتوقع فقد أخذ قرار بعدم الزواج غير قادر على إحباط روح أخرى معه وتعذيبها بعجزه. اما ريم فكانت مختلفة كانت رفيقه حياة وروح، جعلته يؤمن بأن هناك أمور أهم من الجسد جعلته يؤمن بالاختلاف ونسيان الواقع، جعلته يقتنع بأن الانثى ليست هي من تحدد رجولة الرجل بل هو من يحددها باحترامه وعطاءه. ريم بالنسبة له كانت شعاع الأمل من أجل حياة طبيعية يتمناها وعليها فهو يكره ريان بشدة لأنه سرق فرصته في تلك الحياة...
في منزل "ريان" جلست ليان فوق الفراش تضم وساده في توتر فمنذ سمعت أصوات ريان وريم في الخارج، وهي تتصبب عرقًا كمن يوشك على خوض اختبار مدرسي مصيري، وعقلها يصرخ متسائلًا في حيرة: كيف يا ترى ستقابها ريم هل تكرهها بشكل تام الآن؟ اهناك امل بأن تسامحها بعد اذيتها لها؟ والسؤال الأهم هل ستقدر ليان على قبول رد فعل ريم أيا كانت بالإيجاب أو السلب؟
طرقات خفيفة اخرجتها من أفكارها فعضت أطراف أصابعها تتمنى أن يستسلم الطارق لكنها تنفست عدة مرات تتمالك رباط جأشها حين عاود الطرق من جديد فقالت في نبرة خافتة: -ايوة. -صحيتي؟ أتاها صوت شقيقها الرخيم ببقايا اثار نومه، فأجابته سريعًا وتدعوا بأن يذهب دون ان تضطر لفتح الباب ومواجهتهم بالخارج. -ايوة. ساد الصمت قبل أن ينظر ريان بطرف عينيه نحو ريم التي تحول الأطباق على المائدة تتصنع الا مبالاة ثم التفت نحو باب الغرفة المغلق موبخًا: -ما تفتحي الباب!
عضت ليان شفتيها في غيظ ولكنها اتجهت ببطء تفتح الباب وهي تتعجب أين اختفت تلك الفتاة الوقحة عديمة المشاعر التي تشكلت على يد نادر... اه نعم لقد ابرحها نادر ضربًا حتى خرت هاربة فلم يتبقى سوى ليان التائهة الضعيفة... فكرت في سخريه قبل ان تفتح اخيرًا الباب، مد ريان ذراعه يجذبها للخارج نحو الطاولة في هدوء متجاهلًا ثقل عضلاتها الرافضة. رفعت ريم نظرها نحو ليان لتتسعا عيناها في صدمة وهي ترى مدى سوء وجه ليان المبرح ضربًا، ارتفع كفها يغطي فمها في ذعر، لا تتخيل كيف يمكن لرجل ان يتصرف بتلك الوحشية مع فتاة صغيرة الحجم كليان حتى وان كانت قبيحة الطباع.
تمالك ريان مشاعره المحبطة الجلادة للذات وهو يرى وجه ريم المشفق على شقيقته وتعجب للطيبة وفرط الحب داخلها فتلك طباع ريم ولن تتغير مهما حاولت اظهار العكس. سعل بخفة وداخله تمني واحد بأن تمر الأمور بين ريم وليان بسلام، تصلبت ليان بجواره مثبته قدمها في الأرض تحاول الفرار من قبضته فالتفت إليها متعجبًا من حده رد فعلها ولكنه ذهل أكثر عندما انفجرت ليان باكية تتمتم بألفاظ غير واضحة تتوسل بأن يتركها كي تهرب من عيون ريم المشفقة...
لم تستطع ليان تحمل الشفقة والاهتمام المنبثقة من عيون ريم وشهرت بحقارة لا توصف وكرهت ذاتها أكثر وأكثر فانهارت باكيه لا تقدر على النظر نحوها فهي لا تستحق ان تعاملها ريم سوى بالاحتقار والاشمئزاز. انفلتت من بين اصابع ريان راكضه للداخل من جديد فاتبعها ريان قائلًا: -بتعيطي ليه يا مجنونه، هي كلمتك؟ -مش هقدر يا ريان، أنا مستحقش انها تزعل عليا حتى أنا احقر من كده بكتير. -انا مش قولتلك اللي فات مات ومتفكريش في الموضوع ده من تاني.
اخبرها ريان بنبرة حادة فوضعت كفيها فوق رأسها مستكمله بكائها طالبة: -عشان خاطري وديني بيت بيجاد دلوقتي. زفر ريان في تعب ليخبرها مستسلمًا: -تمام، اديني فرصة استحمى واغير هدومي وهوديكي لبيجاد. وبذلك خرج لمواجهه ريم التي اتبعته داخل غرفتهما ثم اقتربت منه تسأله في قلق صادق: -هي بتعيط ليه، هو وشها لسه بيوجعها؟ -لا الطيبة في عيونك هي اللي وجعتها.
رمشت ريم وهي تطالعه في عدم فهم لم تتوقع قوله، فمال يحاول تقبيل جبهتها لكنها ابتعدت خطوة عنيدة هامسة في حده: -ممكن تبطل لعب بمشاعري وتقولي ايه حصل بالظبط؟ ارتفع حاجبه تعجبًا من حده لهجتها لكنه تعمد تجاهل الوضع ورد يخبرها بما مرت به شقيقته: -اللي حصل ان جوز ليان طلع انسان واطي وليان طلبت منه يطلقها وحصل قبل ما أنا انزل مصر بكام شهر... -وسيبتها ونزلت ليه؟ تسألت ريم في تعجب وهي تجلس قبالته فاخبرها ساخرًا: -عشان مكنتش أعرف كنا مقاطعين بعض. -عشاني؟
سألت في حيرة فحدقها بنظرة ذات معنى مؤكدًا: -لا علشاني وعلشان خاطر ابني وعشان خاطر كدبتها اللي حرمتنا من أغلى حاجة عندنا. حركت ريم جفنيها وازدردت ريقها في بطء تحاول ابتلاع تأثرها بجروح ماضية، فاستكمل ريان كي يبعدها عن منحنى افكارها الحزينة: -نادر مكنش انسان سوي، كان عايز يستغلها بأي شكل فطلب منها مبلغ معين عشان يديها ورقه طلاق وكان بيهددها انه هيردها لعصمته من تاني في اي لحظة لو منفذتش.
صمت وهو يتجه نحو الطاولة يجذب سيجاره يشعلها قبل ان يستطرد: -لحد ما راحلها من أسبوع ولما ملقاش المبلغ كامل اتجنن وزي ما انتي شايفة كده، وقتها بعتتلي مسج من كلمة واحدة صفى دمي حرفيًا "الحقني"، اتصلت بيها زي المجنون لقتها بتعيط ومش قادرة تتكلم وبتقولي ان نادر ضربها... صمت يبتلع غضبه هو تلك المرة فجلست ريم حواره تربت على كتفه مواسية تحثه على الإكمال: -انا مش عارف طمنتها ازاي و قفلت معاها، عشان أكلم صديق ليا يلحقها بعدها اتصلت حجزت أول طيارة ولحظها كانت بعد ساعة، وهناك اديت جوزها فلوسه وخدت ورقة طلاقها ورجعت بيها على هنا.
أخبرها ريان دون التطرق إلى عقابه الخاص والعنيف للغاية للنادر قبل العودة، صمت كلاهما يفكران في غرابة الوضع وغرابة الأحداث في حياتيهما. لما لا يعيشان حياة طبيعية بلا أي مغامرات كباقي البشر؟ كان هذا تساؤل ريم قبل ان تخبره بنبرة هادئة: -طيب تعالي دخلها فطار. -لا انا هوديها لبيجاد. -لو...
كادت تخبره ريم بانها لا تمانع بقائها لكنه سبقها بقوله: -هي مش هتسامح نفسها دلوقتي، سبيها تروح تتعامل مع مشاكلها الأول. هزت رأسها في صمت واتجهت للباب لإطعام طفلها فأوقفها همس ريان الغارق بصدق مشاعره: -أنا بحبك يا ريم. علت دقات قلبها من الصفر إلى مائه في أقل من لحظه عندما وجدت خلفها يرفع اناملها مقبلًا داخل كفها الصغير، لكنها أسرعت تحارب ارتباكها جاذبة يدها قبل ان تهرع في خطوات ثابته تهرب من امامه مغلقة الباب خلفها، وضعت ريم يدها فوق قلبها مغمغمه في اعتراض: -يا ملطشة القلوب يا جلاب المصايب بصحيح!
دوت ضحكة ريان التي خرجت من القلب سارقه من شفتيها ابتسامه صغيره قبل ان تسمع صوت انغلاق المرحاض لتحمر وجنتيها في خجل عندما سرح خيالها في طقوس استحمامه... قليلة الحياء... هزت رأسها موبخه وكادت تتحرك حين قاطعها جرس الباب، اتجهت بتلقائية تفتح الباب، فاتسعت عيناها في صدمة حين وجدت "أحمد" يقف أمامها بنظرة منذرة بالشر: -أحمد انت بتعمل أيه هنا؟ ارتفع جانب وجهه في ابتسامه ساخرة قائلًا في نبرة أشد سخرية: -وأنتي كمان وحشتيني، شكرًا على السؤال...!
التفت ريم في توتر وخوف تتأكد بأن ريان لم يأتي قبل أن تدفع باب المنزل لتخرج مؤاربه إياه خلفها هامسة: -أحمد انت مينفعش تجيلي البيت، ريان هيبهدل الدنيا. -لا والله، أفهم من كده أن ريان هو المهم عندك، رجعتي بالسرعة دي، طيب اتقلي شهرين تلاته واحفظي ماء الوجه قدام نفسك...
عقد ذراعيه وهو يرمقها باشمئزاز واتهام من اسفلها لأعلاها، فأخبرته ريم في حرج واصابعها تفرك طرف ردائها في توتر كتلميذة مشاغبة فكلماته دائمًا تضربها في الصميم: -أحمد لو سمحت مالوش لازمه الكلام ده، ممكن تقولي عايز ايه وتمشي قبل ما تحصل مصيبة. -عايزك وعايز وعدك ليا. قالها أحمد بابتسامه واسعة تخفي الكثير والكثير من الآلام.
في هذه الأثناء فتحت ليان باب الغرفة تقسم بأنها سمعت صوت يهاجم أحلامها، ضيقت عيناها وهي تلمح باب المنزل مفتوح انشًا فوصلتها همهمات لشخصين من الخارج. علت أنفاسها واغمضت جفونها تستمع لألحان صوته القاسي فتستقر داخل احشائها لتحملتها قدمها هناك دون وعي لكنها توقفت في حده حين لطمتها كلماته كالماء الحارق: -عايزك وعايز وعدك ليا. وضعت ليان كفها فوق فمها في ذعر ترغب التفكير في مغزى كلماته خاصة عندما وصلها صوت ريم المرتعب: -جرالك أيه يا أحمد، أيه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي؟
اللي حاصل ده مش ذنبي انا مضحكتش عليك وكنت مستعده اتجوزك فعلا لو كان ريان طلقني. انعقدت تلك المنطقة بين حاجبي ليان وعلت دقات قلبها في توجس، لتتسع عيناها عندما هتف أحمد غير مبالي بقدرة غيرهما على الاستماع: -أنتي كذابة مكنتيش هتتجوزيني من الأول انتي لسه بتحبي ريان والدليل شايفه قدامي. نظرت ريم للأرض في خجل لكنها اكملت في حده: -أنا ست متجوزة، يعني مينفعش أكلم ح...
-طيب ما انتي كنتي متجوزة وكنا بنتكلم عادي ايه اللي اتغير؟ -حاجات كتير اتغيرت وريان مش ممكن يتقبل كلامي معاك بسهولة. أخبرته في نبرة خافته متوجسه: -اقولك انا اللي اتغير يا ريم، أنتي يا ريم، اتغيرتي ومبقتيش الصديقة والأخت اللي اعرفها، أنتي خنتيني وضحكتي عليا. -أنا مخنتكش وعمري ما اتخليت عنك اللي انا فيه ده مش بأيدي..
-لا خنتيني لما توعديني بالأمل والحياة وبعدين تسحبيها بكل قسوة من تحت رجلي تبقي خنتي الأخوة اللي ما بينا. بصق أحمد كلماته في حده وغضب جاهلًا عن ليان التي تناست للحظة الحوار الدائر بينهم وتاهت في حزن مع نبرة الألم المختبئ أسفل غضبه ليتمزق قلبها لا شعوريًا حين أكمل في حاجة صريحة: -انتي عارفة اني لو متجوزتش خلال شهور قليلة ابويا هياخد مني محل شغلي وهيقطعني تمامًا من عيلتي، يعني ببساطه خيارك الأناني الخارج عن ارادتك زي ما بتقولي، هيضيع بسببه حياة شخص وأسرة بالكامل.
خرج صوت ريم مختنق ببكائها غير ثادرة على كبح عبراتها وشعورها بالقذارة وعدم قدرتها على مساعدته يقتلاها: -أنا أسفة والله بس مش بأيدي صدقني أنت أخويا يا أحمد. هز أحمد رأسه في خيبة أمل يتعمد نقل مشاعره المحبطة والسلبية لعينيها الحزينة مستكملًا في حده: -لا بإيدك يا ريم محدش بيجبر حد يفضل معاه لو انتي مش عايزة ريان كنتي هتطلبي منه الطلاق. فركت ريم دموعها في حزن وغضب على الذات لأنه يصرخ بالحقيقة في وجهها.
الصقت ليان أذنها بالباب وقد انكمشت ملامحها في غضب مصدومة من التغيير المقيت في شخصية أحمد فهذا ليس الصديق الهادئ المحبب الذي جلست برفقته دوما مع ريم، لما يصر على ضغط ريم واحباطها فنبراتها تؤكد حبها لشقيقها. -انتي بتعملي ايه؟ شهقت ليان واضعة يدها على فمها ملتفته في خضه مما دفع الباب للانغلاق في قوة رغمًا عنها، طالعت "ليان" شقيقها المتسائل بحاجب مرفوع عن سبب وقوفها المريب وتلعثمت تخبره: -الراجل...
أقصد اه الزباله ... اه ايه ده وشي واجعني اوي مرة واحده ومش قادرة اجيب الزبالة للبواب ممكن تجيها انت. قالت في نبرة مهتزة تحاول تمالك خوفها لكنها تنفسا الصعداء حين ابتلع شقيقها ارتباكها ليهز رأسه في ريبه متجهًا إلى المطبخ. اما في الخارج فقد توقفت دقات قلب ريم داخل صدرها حين انغلق الباب وسمعت صوت ليان وريان، شعرت برعشة تتملكها كمن قبض عليه يرتكب خطيئة ونظرت لأحمد بعيون باكية تتوسل الإنقاذ.
رمقها أحمد في صمت وضاقت عيناه وهو يستمع لصوت امرأة مألوف لتتسع عيناه في معرفة مناظرًا ريم بقسوة اتهاماته لتقبلها وجود الحقيرة سريعًا. انفتح الباب لتتأكد ظنونه حين ظهرت ليان شاحبة الوجه ولكن ملامحه الغاضبة اختفت وتحولت لتعجب حين لمح وجهها المكدوم فطالعها في ذهول صامت متسائلًا ايً من الشقيقين فعل ذلك بوجهها...بالتأكيد بيجاد المجنون...
تجاهلت ليان نظراته المتفحصة لوجهها وانتفض قلبها في صدرها متسائلة هل هو اهتمام أم مجرد فضول ذلك الذي تراه داخل عيناه الغامضة لكنها الجمت أفكارها بمطالعتها لريم هامسة: -ريان طالع دلوقتي، ادخلي بسرعة مفيش وقت، لو سمحت امشي من هنا.
وجهت أخر جملتها لأحمد دون النظر إليه وحين استمرت نظرات ريم المصدومة دون أن تتحرك مدت ليان ذراعها تجذبها للداخل مغلقة الباب في وجه أحمد الساخر. كانت ريم حائرة لا تدري ماذا تنوي ليان فعله لأنها بالتأكيد لن تثق بأي حركة تصدر منها بينما كانت ليان تحاول عدم مقابلة عيون ريم قدر الإمكان، قاطع حربهن الداخلية حضور ريان المتسائل بملامح الشك وحاجب مرفوع: -هو مين هياخد الزبالة، احنا معندناش بواب؟
نظرت الفتاتان لبعضهم البعض لتخبره ريم في توتر واضح وتلعثم: -لا مش بوابه ده ده ... اه اصل لما سافرت السكان جابوا واحد ياخد الزبالة بس أنا مشيته دلوقتي. -ومشتي ليه أنا جبتله الزبالة! -ريحته وحشه. -ريحته وحشه، هو احنا هنناسبه! -في ايه يا ريان ما تسيبها براحتها.
انتقلت أعين ريان المتسعة في تعجب بينهما ألم ترفض كلتاهما التحدث لبعضهما منذ دقائق، والآن يغطيان على أمر ما فحدسه يؤكد له بأن مشاعر عدم الراحة المنبثقة منهما ليست من فراغ. -الفطار جاهز. اخبرتهم ريم الراكضة نحو الطاولة وداخلها كثير من التساؤلات وحدها ليان قادرة على الإجابة عنها، شاكرة حظها لأنها لم تخبر ريان فهي غير قادرة على تحمل إيذاء ريان لأحمد أو العكس يكفي ما تسببت به من خراب للأخير.
أعاد ريان القمامة ثم غسل يديه وعجله أفكاره تدور لليسار واليمين في شك، لمعت عيناه في مكر ثم اتجه نحو الشرفة فلم يجد أحد. حرك شفتيه ربما هو من يفكر أكثر من اللازم تحرك للداخل مستسلمًا ولكن سيارة يعرف مالكها جيدًا انطلق محركها لتتحرك بعيدًا ببطء أمام عينيه، أغمض ريان عينان يخفي قسوة مشاعره ضاغطًا على فكيه بقوة يشعر بالغضب يكتنفه من كل جانب.
رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل السادس عشر
صدح صوت رنين الهاتف فجذبه "بيجاد" في ضيق يطالع اسم المتصل في صمت وعيناه تعكس دائرة الحيرة المسيطرة على أفكاره المتشابكة بين غضب وحزن وألم، زفر في ضيق ثم أغلق الصوت دون إجابه. قطع وصلة رثاءه للذات دخول "رشاد" صديقه قائلًا بصوته الرخيم ذو البهجة الفريدة: -لسه مش عايز تواجه الموقف؟
رفع "بيجاد" انظاره نحو "رشاد" صديقه يتفحص ابتسامته متعجبًا من قوته الداخلية وبهجته المريبة، رمق ساقة المبتورة التي انتهت مسيرته كقائد في الجيش بسبب اصابته في مهمة عسكرية بالعريش أسفرت عن بتر قدمه اليمني. وتساءل كيف يمكن أن يكون مملوء بهذا الكم من التفاؤل والسلام الداخلي رغم ما مر به؟ -أفهم من نظرتك دي انك بتقدرني وبتحترمني؟ قاطعه "رشاد" من جديد وهو يجاوره ويربت على ساقه فارتفع حانب وجه بيجاد متسائلًا في نبرة ساخرة: -ده جزء من شغلك بردو انك تقرأ الافكار؟
ارتفع حاجب "رشاد" لكن ابتسامته لم تهتز وهو يؤكد له: -لا بس احسنلك تكون تقدير واحترام مش اعجاب واستغفر الله العظيم. ألقى "بيجاد" غرض بجواره في وجه رشاد مستنكرًا، فابتسم "رشاد" وهو يلتقطه في سهولة مستكملًا: -ثم انا قولتلك ان شغفي علم نفس والحاجات دي بتستهويني، شاغل تفكيرك بالموضوع ليه يا بارد؟ ثم اني أقدر أقول بفخر ان ربنا ألهمني أندمج في الدراسة دي عشان يجعلني وسيلة لمساعده النفوس المحتاجة حتى لو النفوس دي عنيدة.
ارتبك "بيجاد" لتلميحاته الصريحة وأبعد انظاره نحو هاتفه يعبث به دون هدف لتتقابل قبضه رشاد بكتف صديقه يجذب انتباهه بمشاغبة قائلًا بنصف ابتسامه: -أنت خايف ولا أيه يا كوتش؟ -أخاف من أيه، انا مش بخاف من حد في الدنيا. -غير من نفسك طبعا. اجابه رشاد باعتياديه وابتسامه واثقه فوقف بيجاد يخبره في نبرة معترضة: -رشاد متندمنيش اني وافقت اجي اقعد معاك يومين، بلاش شغل الدكاترة النفسيين ده!
-بس أنا مش دكتور نفسي انا مجرد واحد بيحب صحابه وعاملهم مجتمع خاص بيهم للفضفضه وتحفيز التشافي الذاتي عند كل شخص. عقد بيجاد ذراعيه أمام صدره يحدقه بنظرة ذات معنى فضحك رشاد رافعًا يده باستسلام معترفًا: -خلاص وانا موافق هكتفي انك وافقت تحضر معانا الاجتماعات الليلية لمده اسبوع. -مش عارف قدرت تخليني أوافق ازاي! تمتم بيجاد مستنكرًا فعقد رشاد حاجبيه مؤكدًا بنبرة حاسمة: -انت اللي أصريت تشكرني أنا والشباب على رحلة الصيد أول امبارح، جواك النبيل هو اللي فضح رضاك علينا عشان اصرينا منسبكش تغرق في احزانك وانت لوحدك في الجيم.
اخبره رشاد بنبرة ساخرة مستمتعًا بملاح بيجاد المنكمشة في انزعاج فأكد بابتسامه واسعة: -انت وعدتني يا بيجاد ! -وانا عند وعدي، أنا مش عارف ليه فتحتلكم الباب يومها بس أشوف علاء الكلب لما ارجع. دوت ضحكة "رشاد" ليهبط بكفه الضخم بقوة فوق ظهر بيجاد مردفًا: -وعلاء ماله انا اللي اصريت اعرف مكانك لما رفضت ترد على مكالماتي وكان الجيم مقفول، وهو اعترف انك حابس نفسك في الجيم ومش قايل لحد عشان انا كنت مصر اطلع بيتك أسأل عليك وكلنا عارفين انك مش بتحب حد يختلط بأهل بيتك.
حرك "بيجاد" رأسه يوضح فهمه للوضع وقد عاد تفكيره إلى وسام من جديد وإلى كلماتها التي قتلت داخله مشاعر كثيرة وألقت الحزن فوق قلبه دون مراعاه لأي ود جمعهما يومًا. لكنه لن يلوم كرهها له فقد كان سببًا في ذلك، منذ اليوم الذي خرج فيه عن السيطرة وهو يعلم ان لا أحد يرغب به او يرغب في البقاء في حياته فلما حارب من البداية للاحتفاظ بحبها وجعلها زوجه له، صدح صوت الهاتف من جديد فجز على أسنانه مغلقًا المكالمة في غضب فتدخل رشاد بكل هدوء: -مش شايف أنك المفروض على الأقل ترد تطمنها عليك؟
ظهر شبح ابتسامه تعكس خيبة أمل مريرة على وجهه ليجيب بتلقائية: -ومين قالك انها هي، دي أكيد امها عايزة توصلي، وسام مش هتتصل بيا بعد اللي حصل. -وايه هو اللي حصل؟ سأل "رشاد" بعيون لامعه متأهبة بنبرة هادئة خفيضة كمن يخشى جذب انتباه عصفور فيطير من فوق الشجرة: -وسام بتكرهني خصوصا بعد... صمت بيجاد في حده بينما يطالع صديقه بعيون ضيقة متهمًا: -أيه ده في أيه؟!
أنت أكتر حد عارف مش بحب أتكلم عن حياتي الشخصية. وقف رشاد بإحباط يمط عضلات ذراعيه قائلًا: -براحتك، المفروض اني أقرب أصدقاءك زي ما حضرتك مفهمني، وأنا كنت حابب أساعدك وأفكر معاك في نهاية وحل للمشكلة بدل ما أنت هتتجنن كده. -متشكر، أنا عارف نهاية مشكلتي هتكون ايه. رد بيجاد في اصرار وهو يعدل جلسته المتوترة في تشنج ليستمر "رشاد" في تحذيراته: -خد بالك انت لو اخدت اي قرار الفترة دي هتندم عليه العمر كله.
-خلاص يا رشاد مش هاخد قرار وهكتم في قلبي لحد ما اموت مرتاح كده. أخبره بيجاد من بين أسنانه مستهجنًا نصائحه من الأساس: -لا مش هرتاح هرتاح بجد لو مكتمتش في قلبك وحسيت اني صاحبك بجد وواثق فيا انك تحكيلي مشاكلك، انا بنصحك لاني بحبك بس لو انت مش هتواجه مخاوفك هتدمر حياتك بنفسك. حرك بيجاد اصبعه باتهام في وجه صديقة قائلًا في اتهام: -شايف شغل المرضى النفسيين ده هو اللي بيعصبني ومخليني مش عايز اتكلم معاك.
تنهد "رشاد" في استسلام وهو يفرك ذقنه لكنه أكمل في هدوء يحاول إيجاد مدخل لدواخل صديقه مؤكدًا: -أنا أسف انت مش مريض نفسي أكيد، شوف اتكلم وأنا هسمع مشكلتك ومش هعلق غير بحل ايه رأيك؟ امسك رشاد بعيون بيجاد المذبذبة قبل ان يزفر في استسلام ناظرًا للجه الأخرى متمتمًا: -اما نشوف يمكن تحل عن دماغي. قالها رغم ان داخله يتقلب في اضطراب بين رفضه ورغبته في التحدث والشعور باهتمام أحد به.
سعل بخفة قبل ان يتلوا على صديقه ما حدث في بطء وتأني في البداية ولكنه تدريجيًا وجد نفسه يتحدث ويسترسل في اخباره بعقدة الغضب خاصته بل انه امتد ليخبره عن مقتطفات من حياته بأكملها منذ وفاة والدته. ودون أن يشعر كان يتحدث بانفعال شديد كمن تذوق قطرات الماء بعد ظمأ تشققت له الشفاه...
مر الوقت عليهم سريعًا دون شعور ولكن صوت رنين هاتف ينطلق في إصرار جديد قاطع غفلتهم وكاد يغلقه "بيجاد" مرة أخرى لكنه توقف وانعقد حاجبيه في توجس وهو يرى أسم شقيقه يلمع أمامه. تملكه خوف فليس من طبيعة "ريان" الاتصال إلا في المصاب، ارتبك خوفًا من أن يكون قد حدث سوء لوسام او للجنين في فترة انقطاعه، فرفع الهاتف نحو أذنه مجيبًا بنبرة متحفزة: -ألو؟
-ممكن أفهم انت فين ومش بترد على حد ليه؟ علا صوت ريان الغاضب المستنكر فرد بيجاد في عدم مبالاة لغضبه: -سيبك مني دلوقتي وطمني في حاجة ولا أيه؟ صمت ريان المستشيط غضبًا على شقيقه المجنون المختفي وزوجته المبجلة التي لم تهتم بأخباره عن اختفاء بيجاد سوى وهو متجهه نحو منزله مع ليان. تنفس من أنفه ليتحكم في انفعالاته م أخبره في هدوء وهو يرمق ليان الصامتة بطرف عينيه: -انا رايح على بيتك قابلني كمان نص ساعة، ليان معايا. -ليان؟ هي نزلت اجازة مع جوزها؟ -ليان اتطلقت وقبل ما تسأل هفهمك كل حاجة لما اشوفك واحسن لك ما تتأخرش الموضوع مهم جدًا.
زفر بيجاد يشعر بالاختناق والغضب يقتحمه من جديد، شقيقته انفصلت عن زوج هو لا يعلم شكل ملامحه أو رءاه من الأساس، شعر بغضبه يثور في دمائه فمن البداية والجميع يقوم بتهميشه حتى أشقائه لم يحترما وجوده بأخذ آراءه في تلك الأمور الأساسية، وهو بكل غباء يصمت وينعزل في حين ان عليه الصراخ في وجههم بأن لا حق لهم باتهامه والتنمر على مشكلاته بينما هم غارقون في ذنوبهم. -أنا لازم أرجع في مشكلة حصلت مع اخواتي.
وقف بيجاد يلملم اشياءه فاتبعه رشاد قائلًا في اصرار: -متنساش معادنا الساعة ٧. -ان شاء الله مش هنسى. اخبره أثناء ارتدائه لملابسه بينما هو غارق في تفكير عميق حول رد فعل وسام ووالدتها حين يعود بعد غياب وداخله يقفز في تباين بين خوف وعتاب وشعور ثالث يخالفهما يحارب للتمسك به.
-لما الجهاز العصبي بيتحمل فوق طاقته، بيتعامل مع الأحداث حواليه بطريقة أقرب إلى اللامبالاة، بلاش توصل للمرحلة دي، خليك عاقل فكر واتكلم وقول أي اعتراض، بس حاول تتحكم في نفسك سواء مع اخواتك او مراتك. قال رشاد الذي اتبع بيجاد لباب المنزل فتوقف بيجاد الممسك بقبضة الباب ليخطف نظره خلف ظهره قبل مجيبًا في ذهول: -بطل تبص جوا راسي، كده مش هرجع تاني...
انهي جملته بلمحه مرح تخفي جدية مقولته فأجابه رشاد وهو يصافحه في ثقة: -مستنيك يا صاحبي. حرك بيجاد رأسه في قله حيله لا يصدق ما هو قادم عليه، ثم غادر وهو يحارب داخله للوصول إلي حالة من التأهب النفسي تجعله قادرًا على تخطي القادم متسائلًا: هل كان الوقت كافيً لمعالجة النفوس فتعود كما كانت؟
قدمت والدة وسام المشروبات وجلست بجوار "ليان" تقبل رأسها دون إنذار، تشنجت ليان تناظرها بأعين متسعة غير متوقعة فعلتها تلك فقربتها والده وسام من صدرها غير مبالية بصدمتها قائلة: -نورتي البيت يا ضنايا. لمعت عيون ليان وأحست بحرارة دموعها السائلة فوق وجنتها فقابلت عناقها بترحاب شديد تضمها هي الأخرى كأنها تمتث من حنانها واهتمامها قليلًا غير منتبهه لحديث "ريان" المنغمس جوارها مع "وسام" محاولًا تفهم الوضع وما حدث بينها وبين بيجاد: -ان شاء الله خير، بيجاد طيب وبيحبك متقلقيش.
عضت وسام على شفتيها بخجل وندم فهي لم تخبره بكل ما حدث، خاصة حينما حركت والدتها شفتيها بسخرية متدخلة لتوشي بها: -لا بلاش العشم اوي كده يا حبيبي، هي محكتش كل اللي حصل بالتفصيل. -تقصدي أيه يا حاجة؟ -اقصد يا حبيبي ان انا بنتي متربتش. -يا ماما بقى حرام عليكي هو في كده. -معلش يا ضنايا هي الحقيقة كده بتوجع.
زفرت وسام في حرج وغيظ خاصة عندما رمقها ريان بنظرة معاتبة فهمست في خجل وهي تضع يدها فوق بطنها المنتفخ مبررة: -والله مكنت أقصد دي الهرمونات. -خلي بقى الهرمونات تنفعك يا بنت ابوكي. -يوووه يا ما...
قطعت وسام تذمرها من اتهامات والدتها وعلت دقات قلبها في ترقب تدريجيًا حين سمعت صوت الباب يُفتح معلنًا عن وصول زوجها الذي دخل عليهم بملامح واجمه متعمدًا عدم النظر لها رغم إنه وقف يطالعهم جميعًا الواحد تلو الآخر عداها قبل ان يلقي السلام بمشاعر غامضة: -السلام عليكم. -عليكم السلام، انت كنت فين؟ تساءل ريان بنبرة جامده معاتبة فنظر له بيجاد نظرة تفوح بالصقيع ليخبره في نبرة باردة: -هتفرق معاك في حاجة؟
ادخل في الموضوع على طول، ايه اللي حصل؟ -اكيد طبعا هتفرق معايا، انت بتتكلم ليه كده؟ بلل بيجاد شفتيه وداخله اعصار اهوج من الغضب الخام الذي يفشل في السيطرة عليه فركز على الحاضر مستكملًا: -مش حابب اتكلم دلوقتي يا ريان، قول عايزني في ايه؟ نظر نحو ليان التي تطالعه في ذهول ولمحه من الخوف تسيطر على عيناها البنية فابتسم ساخرًا: -وانتي كمان وحشتيني ومبسوط أكتر اني شوفتك.
تحركت شفتيها في حرج فاتجهت نحوه بوجه أحمر في خجل بينما تبعد خصلاتها للخلف بعيدًا عن وجهها هامسة: -وحشتني فعلًا، انا بس محبتش أتدخل ما بينكم. انفرجت عيون بيجاد في صدمة استبدلت سريعًا بغضب مكبوت وهو يرى أثار الكدمات أسفل عينيها فسمح لها بالاقتراب كي تعانقه وتقبل وجنته في خفه. أغمض عينيه رافضًا فضح مشاعره التي اشتعلت وما فعلته تلك اللمسة الأخوية البسيطة بمكنوناته الضائعة ما بين حنان يرغبه وانتقام ممن فعل بها ذلك. -مين عمل في وشك كده؟
كان سؤاله خافتًا يصرخ بالخطورة التي تهرب من جسده الضخم المشنج وعيناه لاتزال مغمضة يخفي خلفها غضب وحشي فتدخل ريان قائلًا في قسوة: -نادر جوزها ضربها عشان كانت عايزة تطلق منه، أطمن اللي في وش ليان ولا حاجة جنب اللي عملته في وشه. خرجت من ريان ضحكة خفيفة مخيفة مرعبة لا تقل خطورة عن شقيقه وهو يؤكد من بين أسنانه: -يبقى يقابلني لو عرف يفتح عينه الاتنين لشهر قدام.
كيف لاعتراف عنيف دموي كهذا ان يعطيه السكينة لا يعلم ولكنه فعل، هز بيجاد رأسه برضا وقد عدت له بعض السكينة ثم أعاد فتح جفونه ليلقي نظرة لأول مرة منذ دخوله على وسام الواقفة مكانها تطالعه بأعين يشوبها اللهفة والحزن، ترى أهي حزينة لعودته أم انها... رفض التفكير أكثر في الأمر فهو لن يستسلم لقلبه ابدًا من جديد، التفت نحو ليان التي ابتعدت عنه سريعًا واستبدلت مكانها والده وسام تحتوي وجهه وتحتضنه إليها هامسة بصوت يصله هو فقط: -أنا سوتها ليك على الجنبين، فبراحة عليها وغلاوتي عندك.
حرك رأسه دون أن يتحدث ومال يقبل جبينها معتذرًا: -أنا أسف مكنتش برد عليكي، بس كنت محتاج فترة افضي دماغي مع نفسي. -ولا يهمك يا حبيبي، هعملك قهوتك واقعد شوف أخوك عايز ايه. تحركت والده وسام التي اومأت رأسها لابنتها المتصلبة مكانها كي تتحرك وتتجه نحو بيجاد أثناء ذهابها للداخل فأطاعتها وسام تتقدم منه لكن قلبها انفطر وتكسر كالزجاج حين ابتعد بيجاد خطوة للخلف رافعًا ذراعه امامها يمنع اقترابها منه.
انغلق حلقها في اختناق وعلت أنفاسها توشك على البكاء أمام الجميع دون اهتمام لمظهرها العام أمام اخوية خاصة حين تأكدت بأنه يتعمد عدم الإمساك بنظرات عينيها المتوسلة. اندفع "ريان" يكسر الصمت مغتاظ من معاملة شقيقه الابله الذي يحاول خسارة زوجة يعشقها ويعتبرها الشيء الاقدس والاغلى له في نوبة جنونه. -جرالك ايه يا بيجاد، انت المفروض أعقل من كده.
انعقد حاجبي بيجاد في غيظ لنبرة ريان المتهمة فهتف في وجهه غير قادر على تمالك أعصابه أكثر: -وحضرتك يا ريان باشا شايف المفروض ابقي ازاي قول وأنا هنفذ. رد بيجاد ساخرًا، فانكمشت وجهه ريان في غضب هو الآخر ثم اقترب خطوة قوية من اخيه هاتفًا من بين أسنانه: -فوق لنفسك واظبط طريقتك عشان مترجعش تندم. -ما هي المشكلة اني فوقت!
هز بيجاد رأسه في ثقة يؤكد كلماته الساخرة، بينما يمرر نظراته بين ثلاثتهما مستكملًا: -المشكلة اني فوقت لنفسي فعلًا وعرفت ان انا ظالمها بوجودي مع ناس نفسي مش فارقة معاهم. -ليه بتقول ... حاولت ليان التدخل بتلقائية فوضع بيجاد أصبعه فوق فمه يهسهس رفضه لسؤالها الواضح مجيبًا في لهجة ساخرة تحمل الكثير من العتاب واللوم: -انتي بالذات مينفعش تسألي السؤال ده، تقدري تقوليلي اتصلتي بيا كام مرة من يوم ما سافرتي مع ريان.
صمتت ليان عاجزة عن الإجابة بعدد المرات المساوية صفر... فضحك بيجاد دون أي استمتاع بينما يومأ رأسه لليمين والشمال في رفض قائلًا: -أنا شاغلني موضوع واحد ونفسي اسمع اجابه، هو انتي فكرتي لما قررتي تتجوزي تبعتلي احضر معاكي؟ ارتبكت ليان التي حاولت الحديث فأسكتها من جديد مؤكدًا: -لا يا ليان مفكرتيش، مستحيل تكوني فكرتي ان عندك أخ كان نفسه يبقى شاهد على جوازك حتى لو انتي شايفة الأخ ده وحش او مجنون بس هو في الأول والأخير أخ ليكي.
جذب بيجاد نفس عميق يشعر بانسيابيه أفكاره وجنون مشاعره تفور داخل صدره وترفض التوقف كأنها قطار وضع على الخط الحديدي ولن يقف إلا بالوصول إلى محطته فزمجر مشيرًا إلى نفسه: -لما ريان كلمني قالي انك اتخطبتي، انا عملت حسابي على فكرة وكنت بحوش عشان اجيلك الفرح على حسابي ومكلفكيش فلوس. متتخيليش احساسي لما ريان اتصل قالي ان الجواز اتقدم وهيتم في خلال أيام ولما قولت أحضر، فالي ان ليان قالت مفيش فرح.
حرك بأصابعه باتهام مناظرًا ريان تلك المرة باتهام قاسي ينبثق من حدقتيه: -ساعتها حسيت اني منبوذ وكسرتوا قلبي انتوا الاتنين. -أنت مش فاهم اللي حصل وقتها، انا مكنتش عايز اعملك ازعاج ومشاكل لما تعرف التفاصيل الموضوع تم في سرعة بسبب مشكلة بيني انا وليان، انت عارف انك مهم في حياتنا، احنا اخوات وطول عمرنا في ضهر بعض.
تحدث ريان يشعر بغصة قهر في صدره فقد تأكد بأنه أناني باحترافيه وتعجب رغم كونه شقيق أكبر إلا انه فاشل حتى في احتواء أشقاءه وقراءة مشاعرهم. ابتسم بيجاد دون أن تصل الابتسامة إلى عينيه قائلًا بينما يعقد ذراعيه أمام صدره المتشنج: -ريان انا مختفي بقالي اسبوع وانت متصل بيا انهارده لما احتجتلي ! مش شايف اهميتي عندك غريب شوية؟
رفع ريان يده في استسلام مسترسلًا: -ده مش ذنبي، من أسبوع لما حصلت مشكلة ليان انا سافرت في ساعتها ومعرفتش انك مختفي غير الصبح. -وكون أنك مفكرتش تقولي ان اختنا في مشكلة وانك مسافر ده في حد ذاته مصيبة، اعترفوا ان انا مش مهم في حياتكم واني مجرد شخص عاله على مشاعركم محدش متقبله.
-لا يا بيجاد عشان خاطري متقولش كده، الكلام ده، اللي بتقوله ده بسببي أنا عارفه، أنا بتعتذرلك من كل قلبي والله العظيم مقصدتش حرف منه. قاطعتهم وسام التي اقتربت تمسك ذراعيه المعقودين أمام صدره فتوجم وجهه في جمود حصري لها ثم التفت بعيدًا عن لمستها قائلة في حده: -لا كنتي تقصدي كل كلمه وكل حرف، متكذبيش على نفسك، انا طول عمري تحت دايرة الاختبار في علاقتنا والكبام ده كان نتيجة تحليلك بس خلينا نتفق على حاجة وحده.
التفت يواجها متجاهلًا قسوة عينيه المقابلة عيونها الباكية متابعًا في صدق: -انا لعنة في حياة اللي بحبهم ومينفعش افضل فيها. حاولت الاقتراب منه وقد ارتعشت ملامحها ببكائها الحار هامسة: -عشان خاطري متوجعش قلبي بكلامك ده. -لا يا وسام كلامي مش بيوجع كلامك انتي هو اللي وجع.
اغمضت عيونها في قوة وخجل تشعر بقلبها يتمزق لأنها كانت سبب الألم والحزن المنبثق من عينيه ولهجته، علا بكاءها متسائلة: هل جاءت النهاية أسرع مما تتوقع، هل حفرتها بأصابعها وبتعلقها بأفكار مجنونة؟... لا بل أسوأ هي خطت تلك النهاية بأوهامها وقدمت ذلك العشق المهيب الذي زين يوم نظراته نحوها كقربان على محراب الشؤم والشكوك... وها هي تقف أمامه ولا ترى خلف جفنيه سوى اتهام غامض خافي بين ضرفتين من الإرهاق والغضب.
-انا مقتنع بكلامك حقيقي مقتنع، انت عندك حق في كل كلمة قولتها، لأننا قبل ما نعاتبك المفروض نبوص على عيوبنا الأول. قال ريان أثناء اقترابه من بيجاد حتى صار وجهًا لوجه مع شقيقه قبل أن يفاجئه بميله نحوه ويحتويه بنصف عناق رجولي داعم مستكملًا في قوة ضاغطًا على حروفه: -بس ده ميمنعش انك اخونا وانك مهم لينا مهما ظهر ليك العكس، كفاية اني قبل ما أنام مكانك هنا وهنا. حرك اصبعه من صدره نحو عقله لينهي اعترافه في حده: -انا عارف انك مهم وراضي قدام نفسي طالما بفكر فيك وفيها وسط همومي.
حرك ريان رأسه نحو بيجاد ونحو ليان قبل ان يكمل في تساؤل موجه لشقيقته: -اعتقد كده حوار انك تقعدي مع بيجاد مش مناسب الفترة دي ولا انتي شايفة ايه؟ دفعه بيجاد عنه في حده يرمقه في غيظ قائلًا: -لو هي عايزة تقعد معايا ده بيتها قبل ما يكون بيتي، ومش معنى اني مش طايق حد فيكم انكم مش اخواتي. ابتسم ريان نصف ابتسامه مغيظة ليخبره في رضا: -انا كنت بتأكد بس أنك لسه فاكر.
-انا اسفه يا بيجاد انت عندك حق في كل كلمة قولتها، لو مش عايزني انا هتفهم الوضع و... رفع بيجاد يده يخرسها ليهتف من بين اسنانه في غضب: -مفيش حاجه اسمها مش عايزني، انتي جيتي عشان تفضلي معايا واكيد ليكي سببك ومش هتطلعي من هنا غير لما السبب ده ينتهي. انقلبت شفتي ليان في حزن واتجهت في خطوات سريعة تحتضنه في قوة معترفة: -أنا أسفة يا بيجاد، أنا حقيقي أسفة ليك ولريان ولنفسي على الأنانية اللي وصلت ليها.
ضمها بيجاد إلي صدره يربت عليها في حزن متقبلًا اعتذارها الذي اندفع مخترقًا حصون داخله لم يكن يعلم بوجودها من الأساس فانضم اليهما ريان الذي مد أصابعه يجذب خصلاتها في مشاكسة قائلًا: -اللي بيغلط بيتعلم من غلطته، دي مش نهاية العالم وانتي عندك بدل السند اتنين استغليهم صح واتعلمي بسرعة.
رفعت ليان اصابعها تجذب ذراع ريان الممسك بها تقربه منهما هي وبيجاد لتلتف ذراعها الأخرى حوله منغمسة في عناق مزدوج بين شقيقيها التي اشتاقت لوجودهما في حياتها ولن تفكر في السبب الذي منعها منه بعد تلك اللحظة، يكفي عودتها هنا حيث الأمان بينهما وتعجبت كيف وصلت بها الحال لتصديق أوهامها بأن بيجاد سيكون مصدر أذى لها أو أن ريان سيتخلى عن وجودها بعد زواجه.
تابعت وسام الباكية ما يحدث أمام عينيها في حزن وابتعدت للخلف سامحة لزوجها بتلك اللحظة عسى أن تلتئم جروحه التي كانت هي بكل غباء السبب في انشقاقها. انقبض قلبها وجسدها في ذعر ترفض تفسير ذلك الشعور المرعب المتكتل داخل صدرها بأنه لم يعد يحبها، لا لن تفكر ولن تهلع فحتى وان تولد هذا الإحساس داخله هي أكثر من قادرة على المحاربة وقتله في مهده مدافعة عن حبهما وبذرته النابتة داخل احشاءها.
تابع ريان المشهد حوله كاتمًا تأثره وهو يرى انهيار شقيقاه تواليه الواحد تلو الأخر أمام عينيه، رفع ذراعه الآخر يلامس في دعم وجه بيجاد الذي ابتعد عن مرماه يناظره في انزعاج مختلط في خجل رجولي رافضًا المواساة ومشاعر الحب المباشرة بينهما رغم انه يضغط بقوة فوق جسد شقيقتهما وكأنها حبل الحياة. تنهد ريان متسائلًا متى سيأتي عليه الدور للانهيار؟
فهو يعلم ان انهياره سيكون أقسى وأكثر ألمًا لأنه لن يكون داخل بؤر الأمان الاخوية تلك بل سيكون بين ذراعين أصغر وأرق وصاحبتهما كاذبة أفعالها قاتلة تسرق منه الاستقرار قبل السكون بعيون الريم المخادعة خاصتها.