رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الحادي عشر( شتاء دافئ )خرج الطبيب من الغُرفة بعدما انتهى لتوه من فحص " تهاني " بدقة، راح يقول بنبرة رسمية:- هتمشي على العلاج دا لمدة اسبوع لحد ما تجي لي العيادة وأشوفها، وياريت صورة تحاليل كاملة وأشوفها في الاستشارة إن شاء الله.أومأ يوسف بصمتٍ وهو يسير معه كي يوصله إلى الخارج شاكرًا إياه، عاد إلى الغرفة مجددًا وولج إلى داخلها، نظر إلى والدته بصمت وهي كذلك، التزم صمتهُ بينما قال همام بصوتٍ أجش:- أنا خلاص مابقتش مأمنلك يا تهاني، رغم كل اللي كنتِ بتعمليه ورغم إسلوبك الزفت، إلا إني كنت باقي عليكِ لكن أنتِ طلعتي جاحدة ومعندكيش قلب، معقولة هان عليكِ البنت؟ ليه بتنتقمي من مين؟ من واحدة ماتت في بنتها؟ مش معقولة أنتِ مش طبيعية..!أغلقت عينيها بضيق هاربة من نظراتهُ، بينما تتأفف بضجر وهي تواصل بنبرة مستفزة:- ضغطي عالي أنا مش ناقصة، مجرد ما أقدر أقف على رجلي هسيب لك الدنيا كلها وأمشي وإشبع بيها أنت وإبنك وربنا يهنيكوا!صرّ سعد على أسنانه غاضبًا، مازال حديثها فظا غليظا؟!لم يلين قلبها المتحجر، لم تُهد كونها مرضت!تتمسك بأخلاقها البشعة، تهند يوسف بيأس تام من إسلوب والدته وفقد الأمل فيها بحسرة، حسرة تجتاح قلبه حيث أنها ستبقى أمه مهما فعل هي أمه، كيف يراضيها ورضاها فيه عذابه؟لم ينتظر أكثر من ذلك وخرج من الغرفة مختنقا، تبعه همام وهو يضرب كفا بكف بغضب قاتل، نادى على إبنه بنبرة متعبة:- يوسف..التفت يوسف إليه وراح يقول بنبرة متكلفة:- نعم؟تابع همام في صرامة:- مريم فين؟أجاب يوسف ببساطة:- عندي في البيت، اللي كنت قلت لك عليه قبل كدا، أنت عارف إني كنت بجهزه..همام وهو يحك ذقنه قليلًا بينما يرد كاظمًا غيظه:- أها، بتعمل إيه يعني عندك مش فاهم؟ مريم ترجع النهاردة تمام؟حرك رأسه بنفي قاطع قائلًا بجدية تامة:- مريم مش هترجع هنا تاني، أرجعها إزاي؟.. مستحيل طبعا خلاص أنا وهي هنعيش هناك..اقترب همام من إبنه يهتف بصرامة:- مش عاوز استهبال، تعيشوا هناك لوحدكم إزاي؟ .. إيه التهريج داااا، لسه الدخلة ما تمتش دا مجرد كتب كتاب!- تتم..قال يوسف كلمته بنبرة ذات معنى وتابع بلا مبالاة:- إيه مشكلتك دلوقتي، الدخلة وهتم فيه طلبات تاني؟مسح على وجهه بضيق فيقول:- تتم بأصول مش منك لنفسك، ولازم تخرج من عندي هنا زيها زي أي بنت وبعدين تبقى حر أنت وهي إنما كلامك دا ميمشيش معايا تمام؟يوسف بغير رضا:- لا مش تمام، مريم مش هتدخل البيت دا تاني مش هضمن أسيبها دقيقة واحدة هنا، وكدا كدا هي خرجت من عندك أصلا برضوه يعني في إيه بقى؟- فيه استظرافقالها جازا على أسنانه، بينما يستكمل:- أنت تسمع اللي بقولك عليه، على الأقل اسبوع واحد وبعدين نعلن جوازكم وتغور تروح على بيتك بعد كدا ومش عاوز نقاش..زفر يوسف مع قولها المتجهم:- ماشي بس لما صحة مريم تتحسن شوية وكمان الوضع هنا يهدى شوية، أنا ماشي..انصرف على ذلك وترك والده يشتم سرًا في غيظ..جلست يسر جوار أمها في صمت وهي تتردد في النطق بتلك الكلمات التي تريد قصّها على والدتها..تنهدت بعمق قبل أن تتحرر من صمتها قائلة بهدوء:- حمدلله على سلامتك يا أمي، بإذن الله هتكوني بخير..اكتفت تهاني بهز رأسها دون أن تنطق، فقط ملامحها كانت متجهمة بشدة..- ماما ممكن أتكلم معاكِ شوية بعد إذنك؟أردفت يسر، لتثبت تهاني بصرها عليها رغم ضيقها الشديد، قالت بضجر؛- عاوزة إيه؟تابعت يُسر بنبرة متزنة بينما ابتسامة عذبة تغزو شفتيها:- ممكن أفهم ليه بتكرهي مريم بالدرجة دي، فهميني بس، أنا عارفة إن مامتها الله يرحمها كانت مش بتحبك أو حاجة زي كدا بس مريم ذنبها إيه؟ وإيه المشكلة لو عاملتيها زيّ؟تنهدت تهاني بثقل وهي تشيح بوجهها عنها ناظرة للجهة الأخرى في غضب،وساد الصمت بينهما لدقائق قبل أن تقول تهاني بنبرة محملة بالألم:- لأن أمها كانت بتكرهني من غير سبب، كانت بتحب همام وهي متجوزة!، يعني بتخون جوزها وأنا كنت بموت لما بشوف نظرات الاعجاب الواضحة في عنيها، زائد إنها في مرة حاولت تقتلني! أه تقتلني متستغربيش، أخو همام كان من الناس اللي على نياتها أوي وعشان كدا كانت بتستغفله وتبص لهمام، وكانت عاوزة تخلص مني عشان الجو يخلى ليها! بس ربنا قادر على كل شيء ماتت قبل ما دا يحصل في الحادثة..تابعت يُسر في تفهم:- وبابا كان إيه موقفه منها؟ كان بيبادلها النظرات؟حركت رأسها نافية بجدية:- الشهادة لله لأ..يُسر بابتسامة ودودة:- طب دي حاجة كويسة جدا، المفروض تعتزي ب بابا دا العمر كله لأنه مخلص والمخلصيين قليليين دلوقتي يا ماما..صمتت تهاني وهي تمسح على وجهها بكفها، بينما تتابع يُسر بهدوء:- وبعدين يا ماما مريم مش زي أمها خالص، متستاهلش كل اللي شافته منك، مريم طالعة لبابها الله يرحمه، مش أنتِ بتقولي أنه كان طيب؟.. والله مريم ما فيه أطيب منها.. جربي تفتحي لها قلبك وهتعرفي أد إيه هي كويسة وبريئة أوي..ردت بتهكمٍ:- البنت بتطلع لأمها دايمًا، مافيش بنت مش بتطلع لأمها، دا حتى في الأمثال الشعبية بيقولوا " إقلب الأدرة على فمها تطلع البنت لأمها"ضحكت يُسر بتعجب من هذه الخرافات، لتواصل حديثها باتزان؛- دا مجرد مثل يا ماما مالوش أي أساس من الصحة، مش لازم البنت تطلع لأمها، يعني مع إحترامي ليكِ يا ماما أنا مطلعتش زيك، مش بقول إنك لا سمح الله وحشة وأنا حلوة، بس أنتِ ليكِ طبع وأنا لي طبع واحنا الاتنين مختلفين أنا حتى بحب اللبس المحتشم وأنتِ بترفضي دايما، وليا أسلوب حياة مش بيعجبك يعني دا أكبر دليل على إن البنت مش بتطلع لأمها.. بلاش تحكمي عليها من غير ما تعرفيها كويس..تشوش تفكير تهاني للحظة، ورغم أنها قاربت على الاقتناع بحديث ابنتها المتزن، إلا أنها زمجرت معنفة إياها بقسوة:- قومي روحي أوضتك، أنا عاوزة أنام!استيقظت من نومها لتجد نفسها وحيدة في الغرفة، نهضت جالسة بارهاق وهي تنظر حولها بحثا عنه، انكمشت ملامحها بعبوس وهي تترحل من سريرها بتمهل، خرجت إلى بهو المنزل لتجد السيدة " عطيات " تجلس وهي غافية..اقتربت تربت على كتفها برفق مع قولها:- دادة!فتحت عينيها تطالعها بلهفة مع سؤالها:- إيه يابنتي محتاحة حاجة؟قالت مريم بهدوء:ليه منمتيش يا دادة وقاعدة بتنامي على نفسك كدا؟ وفين يوسف؟أجابتها بابتسامة صافية:- قعدت يمكن تصحي وتحتاجي حاجة، والأستاذ يوسف قال خارج شوية وزمانه راجع، أعملك حاجة تاكليها؟حركت رأسها بنفي وهي تقول متنهدة:- شكرًا يا دادة، أنا هخرج الجنينة أستنى يوسف، وأنتِ قومي نامي وارتاحي..أومأت السيدة قائلة بلطف:- تصبحي على خير يابنتي..بادلتها ابتسامة لطيفة كذلك مع قولها:- وأنتِ من أهله يا دادة..خرجت إلى الحديقة وهي تحكم شالها عليها، فالجو شديد البرودة لكنه رائع بالنسبة لها، أخذت تتنفس بعمق وهي تحتضن نفسها بذراعيها تملأ رئتيها بالهواء ونسمات الشتاء المُحببة لها، مشت حتى وصلت إلى شجرة التوت التي لم تطرح ثمارها الآن، ابتسمت باتساع ابتسامة عاشقة سعيدةً لتلبية طلبها، تمنت أن يأتي موسم التوت فتتفتح الشجرة وتزدهر بالثمار لتتناول حباتها مع حبيبها وحدهما..أفاقت من شرودها على شيء دافئ اقترب منها، وبذراعين يضمناها بحنو، أغمضت عينيها دون الالتفات له وافتر ثغرها بابتسامة واسعة، ومن ثم همسهُ الحانِ:- واقفة في البرد ليه؟أجابته بنبرة دافئة وهي تلتصق به:- أنا بحب البرد، وقت أستناك!أدارها إليه كي يتمكن من رؤية وجهها الحبيب، يلثم وجنتها بتمهل مع قوله المثير:- بعدين الجميل ياخد برد وأموت أنا!ضحكت بخفوت وهي تردف نافية بثقة:- لا مش هاخد اطمن!قهقه ضاحكا مع قوله:- أحبك وأنت واثق من نفسك يا صغنن..شاركته ضحكاته وهي تضع رأسها على صدره تَسمع دقاته المتتالية النابضة بحبها، توقفت وتوقف..ضمها متنهدًا بحب جارف، سمع صوتها وهي تسأله:- إنت كنت فين؟فأجابها بايجاز:- كنت بقضي كام مشوار كدا عشان كنت لسه مخلصتش شغل..كادت تتحدث مرة أخرى فقاطعها وهو يداعب وجنتها هامسا:- وحشتيني على فكرة، مافيش كلام حلو هسمعه النهاردة ولا إيه؟حركت رأسها نافية بمشاكسة ودلال، ليحملها فجأة قائلًا بغمزة من عينه:مش عاوز، أسمعك أنا..ضحكت بشدة وهي تركل بقدميها الهواء في سعادة من غزله وتدليله الوافران، دخل بها إلى غرفتهما وهو يقول بخبث:- هتنامي جنبي النهاردة..شهقت فاغرة شفتاها بصدمة وهي تقول باعتراض:- مش هينفع يا يوسف، بتهزر؟يوسف متصنعا الجدية:- ليه بقى إن شاء الله؟أجابته بتوتر:- عشان إحنا لسه ما إتجوزناش يا دوبك كتب كتاب، وكتب الكتاب مش يديك الحق تنام جنبي ولا حتى تيشلني دلوقتي ولا أي حاجة، يُسر فهمتني كدا وأنا وعدتها إني مش هخليك تعمل كدا، نزلني بقى أنا كنت نسيت، نزلني يا يوسفضحك بتسلية على تعابير وجهها وهو يقول مراوغا:- تدفعي كام؟- ولا مليم مش معايا فلوس..ضيق عينيه بمكر متابعا:- مش عاوز فلوس أصلا!قالت ببلاهة:- أومال عاوز إيه؟!تأملها مليًا، قبل أن يهمس مازحا:-أعطيني قُبلة! ..
رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثاني عشر( أحبك للنهاية )نجحت في الفِرار منه دون تلبية طلبهُ، وبدلالها خضع لها بالطبع! فهي من تأسره بعشقها الآخاذ..لكنهُ لم يكُف عن مُغازلته لها وتدليله الخاص..- طب كويس إنك بتسمعي كلام يُسر، ليه ما تحاوليش تعملي زيها؟أردف يوسف بتلك الكلمات بنبرة ثابتة، وابتسامة عذبة تٌزين ثغره، فتابعت مريم متساءلة بعدم فِهم:- إزاي؟أجابها بتنهيدة عميقة ولهجة تحمل البساطة:- أقصد يعني في لبسها، جميل ومحتشم وفي نفس الوقت شيك، أنا مش هضغط عليكِ ولا عاوز أضغط بس أنا مش عاجبني لبسك يا روما ولا عاجبني إنك مش محجبة أصلا! بس سايبك على راحتك فترة..زمّت شفتيها في هدوء قبل أن تخبره بعفوية:- بس أنا لبسي مش ضيق، بسمع كلامك وألبس واسع، الحجاب خطوة حاسة إنها كبيرة عليا وممكن مأعملش بيه وربنا ممكن يغضب عليا لو ماعملتش بيه!منحها ابتسامة خفيفة وهو يردف موضحا:- ربنا هيغضب عليكِ عشان أخدتي خطوة في رضاه؟، مش صح طبعا، الحجاب طاعة لوحده ولو أخدتيها هتؤجري عليها، مافيش حاجة اسمها لازم أعمل بيه، فيه حاجة اسمها دا هيسترني وهيرضي ربنا وتقولي ربنا يقدرني أكتر وأطيعه في كل حاجة، فهمتِ؟هزت رأسها بإيجاب بينما تواصل:- أيوة، طيب أنا مش عندي لبس زي بتاع يسر، أعمل إيه؟يوسف وقد رد هادئا:- أشتريلك اللي تشاوري عليه يا روما، بس كدا؟ وبالمرة نشتري لاوازم الفرح والحاجات الحلوة بتاعة العرايس دي..أنهى جملته بغمزة وقحة من عينه، فصعدت حُمرة الخجل إلى وجنتيها بتدفق، وفركت كفيها معا في توتر وهي تستطرد:- أنا مش عارفة هجهز إزاي للفرح يا يوسف، يعني أعمل إيه وأبدأ منين مش عارفة..أطال النظر إليها مبتسما، هو يعلم أنها لا تفقه الكثير عن مطلبات الزواج والتجهيزات اللازمة، وهو سيصعب عليه ادراك حاجة الفتيات في هذا الوقت، لذا بادر يقول وهو يمسح فوق شعرها برفق حنون:- يُسر هتكون معاكِ وتجهزوا مع بعض، اه وصحيح دادة عطيات هديكِ من خبرتها برضوه اسأليها واستعيني بيها، وطبعا أنا معاكِ يا حبيبي بس الحاجات دي مش بفهم فيها أوي بس لو عاوزاني أفهملك مخصوص يعني وكدا..تعالت ضحكاته وهي تلكزهُ في ذراعه بقبضتها، بينما يتورد وجهها بشدة جراء غمزاتهُ ونظراته، تنهدت بضيق رغم قربه الذي يجعلها وكأنها تطير فرحا، أخبرته بحزن لمع بعينيها الواسعتين:- هنتجوز إزاي ومامتك مش موافقة يا يوسف؟.. أنا خايفة..لم يرد بأن تُفسد لحظته معها ولهذا قال بإيجاز:- متخافيش، هي ميسرها تعرف الصح، ومسيرها تهدى بالله وتعيش مع الأمر الواقع وتنسى الماضي، بس عاوزك متفكريش كتير، وسبيها على الله وطالما أنا جنبك خلاص ماحدش هيقدر يعملك حاجة، وبالمناسبة بابا طرد نهال من البيت وخلاص هتبعد تماما..صمتت تتنهد بحزن دفين، فرفع ذقنها بأصابعه إليه وأخبرها بنبرة حنون:- ممكن الجميل مايزعلش، عشان أنا مش بحبه يزعل! وكمان لازم الجميل يعرف إني بحبه للنهاية وهفضل أحبه مهما حصل، ممكن؟!افتر ثغرها عن ابتسامة سعيدة وهي تومئ برأسها مع قولها بامتنان وصدق:- هفضل أحبك لحد آخر نفس فيا.. صدح هاتفها عاليًا ينبئ عن اتصال، التقطه بضجر وهي تنظر إلى شاشته متأففة، فقد كانت نهال وهي تمر بمرحلة مرهقة نفسيا وجسديا وتلك تثرثر كثيرًا رغم أنها تحبها..لذا لم ترد فأعادت نهال الاتصال مرارًا وتكرارًا، اضطرت لأن تجيب عليها، فوضعته على أذنها بعد أن ضغطت زر الاجابة، أردفت مغمضة العينين بتعب:- أيوة يا نهال..تابعت نهال بتمردٍ منها معتاد:- فينك يا أنطي، مش بتردي ليه على اتصالاتي كل دا؟أجابتها تهاني باختصار:- ما أنتِ عارفة إني تعبانة، وأكتر الأوقات مبقدرش أتكلم!تنهدت نهال بلا اكتراث بينما تواصل:- ألف سلامة، أخبار يوسف إيه؟ خلاص مش هنقدر نكمل الخطط بتاعتنا؟ترد تهاني بضيق شديد:- الظاهر إن النصيب أقوى من خططنا يا نهال، خلاص مبقاش عندي طاقة أعمل أي حاجة، إبني مصر عليها وهمام هيطلقني، خلاص أعمل إيه تاني!.. أنا هبعد عن حياتهم كلهم بكرامتي وهعيش بعيد وأنتِ سبيني في حالي..أغلقت الهاتف ما أن أنهت الحديث، لتحدق في الفراغ بنظرة حزينة، لا تعلم أهو حزن أم ندم؟ وهل عادت تهاني إلى رشدها؟ ..مر إسبوعين، استعادت مريم جزءً كبيرًا من عافيتها وحيويتها ووميض روحها المرحة، أما عن يوسف فكان بجانبها دائمًا رغم حنق السيد همام والده والذي وبخه بما يكفي وأحيانا كان يقذفه بنعله غير مباليا بمن حوله، والأخير كان يقهقه ضاحكا فوالده يبدو كوميديا دائما رغم عصبيته المفرطة...لكنه يستطيع دائما تهدئته بأسلوبه الخاص..وها هو معه داخل أكبر محلات الملابس الرجالي الكلاسكية ذات الماركة، ينتقي بذلة تليق به استعدادًا لزفاف ابنه على ابنة أخيه، ولابد بأن يظهر بمظهر يليق بهمام الرجُل الخمسيني الوقور ذا الروح الشبابية..وقف أمام المرآة يتطلع إلى هيئته وهو يسأل بجدية تامة وملامح جامدة:- ها يالا كدا حلو ولا أشوف واحدة غيرها؟يوسف وهو يتجول بعينيه على بذلته الأنيقة صعودًا وهبوطًا بابتسامة استفزته، لينهره همام قائلًا بغضب:- ما تنطق، ساكت ليه؟!ضحك يوسف مندهشا وهو يقول من بين ضحكاته:- أديني فرصة، بدرس الأمر عشان أديك قرار نهائي يا حاج..- تدرس؟ تدرس إيه يا بغل، ما تنجز في ليلتك!قهقه يوسف مجددًا وهو يقول متعمدًا إغاظته:- مش حلوة، شوفلك غيرها حاسك مراهق كدا وأنت لابساها..كظم غيظه وهو يعود ينظر إلى المرآة بحنق واحباط، ليهتف بضجر:- بس أنا شايفها حلوة ومناسبة، ولا أنت خايف ليقولوا أبو العريس أحلى من العريس نفسه؟يوسف وقد رفع أحد حاجباه متابعا ؛- دا شيء يسعدني يا حاج همام، بس أنت فاهمني غلط وخلقك ضيقك، خليك رويح كدا، أقولك خدها مبروك عليك وخلاص..همام بضيق:أنت بتهاودني وخلاص؟يوسف بملل:- حلوة وبعدين أنا العريس ولسه ماجبتش بدلتي، أنت مستوعب؟همام بنبرة ثلجية متعمدة اغاظته:- أنا أهم..تركه يوسف وأخذ يتفحص المكان قائلًا:- طب مع نفسك بقى..ضحك همام وهو يقول جملته المعتادة:- ماشي يا جزمة!في اليوم الموالي..طرقت يُسر باب غرفة والدها الذي فتح بابتسامة عريضة يقول بنبرة مرنة:- صباح الخير يا حبيب بابا..بدا وجه يُسر شاحبا وهي تناظره بخوف بينما تهتف:- بابا..، ماما مش في البيت، شكلها مشيت وسابتنا، دورت عليها في كل البيت مش موجودة!صدمت ملامحه قليلًا، لكنه حافظ على اتزانه وهدوئه وهو يقول:- يمكن راحت عند أختها!..أردفت يسر نافية:- كلمتها مراحتش، مش عارفة أنا قلقانة عليها أوي يا باباهمام بتفهم يقول بهدوء:- إهدي، أمك مش صغيرة وهي محتاجة تبعد لعلها تعيد حسابتها يا يُسر!رتبت أشيائها في ضلفة خزانتها بسعادة عارمة والتي قامت بشراءها ليلة أمس بصحبة يُسر والسيدة عطيات، التي ألقت عليها النصائح وما يجب فعله في حياتها الزوجية بما فيها من واجبات عليها ونهج تسير عليه، وأنصتت مريم لها باهتمام ثم شكرتها ممتنة لها، كان يتابعها بعينين مشعتين حبا وهو يستند إلى الباب مبتسما، ما إن انتهت هي التفتت إليه تبادله ابتسامته العذبة تلك، اقتربت منه وهي تسأله بدلال قاصدة إياه:- بتبص على إيه؟أرجع خصلة من شعرها خلف أذنها وراح يهمس بمراوغة:- على حاجاتي..رفعت حاجبيها مندهشة تسأله بتذمرٍ طفولي:- حاجاتك إيه؟ دي حاجاتي أنا!ضحك مستمتعا ليواصل غامزًا:- لا الحاجات اللي في الدولاب دي بتاعتي أنا، بما إنك هتلبسيها ليا تبقى ليا!تخضبت وجنتاها بحمرة الخجل سريعًا وهي توكزه في معدته قائلة:- بطل بقى يا يوسف، بتكسفني بكلامك!راح يُقبل جبينها بحُب،بينما يخبرها:- بحبك؟افترت شفتيها بابتسامة ناعمة وصمتت، فعاد يكرر بتنهيدة حارة:- بقول بحبك؟أطلقت ضحكة خجلة وهي تخبره كذلك:- وأنا كمان!زمّ شفتيه قائلًا:- لا مش كدااا!ضحكت بدلالٍ وأخبرتهُ ثانيةً:- بحبك..اليومِ الموعود، اليوم المنتظر، ها هي الصغيرة أصبحت عروس في غاية الجمال، تأسر من ينظر إليها صغير كان أو كبير..جمالها آخاذ توهج عقب ارتدائها فستان الزفاف، لتبقى أميرة يتحاكى عنها الجميع بانبهار بالغِ..أما عنه فكان تائهُ وكيف لا يتيه، فالأميرة تتألق بابتسامتها الناعمة التي وهجت مشاعره الجياشة، فغر فاهُ وعيناه قد فُتحا بانبهار وهو يقترب منها رويدًا حتى وصل إليها، بينما يهمس متنهدًا وهو يستعيد ثباته:- فين روما؟ مشوفتهاش؟ضحكت بخفوت وبصوت لا يسمعه إلا هو همست:- مين روما دي؟التقط كف يدها بين راحة يده وراح يضغط عليه برفق مع اعترافه:- حتة من قلبي، حبيبتي الصغيرة ودلوعتي، بنت جميلة وجمالها هلكني، والليلة بقت ملكتي!ضحكت بنعومة وهي تمنحه ابتسامة عاشقة بينما تتشبث به مردفة:- طب الناس بتتفرج علينا وأنت بتقولي الكلام الحلو دا..جعلها تتأبط في ذراعه وهو يوعدها بحب:- نتقابل في بيتنا لسه ورانا ليلة كبيرة أوي!وصلوا إلى القاعة الذي سيقيم بها الحفل، استقبلوهم استقبالا حسنا مبهجا، كان السيد همام بجوارهما سعيدًا بتلك السعادة التي تجتاح إبنه وإبنة أخيه، لكنه كان يبتسم بحزن بين الفينة والأخرى، فزوجته لم تحتضر زفاف إبنها ولم تكن راضية وجانبه بهذا اليوم، تنهد بعمق محاولا عدم التفكير بما يعكر صفو هذه الليلة، بينما ينظر إلى إبنته ويجذبها نحوه يعانقها ويقبل رأسها داعيا لها..ومر وقت ممتع للغاية، ولم تكتمل الصورة بعد بغياب تهاني...تمُر بضعة دقائق أخرى وتدخل من باب القاعة في تردد، فقد أكلها الحنين لمساندة إبنها في يومه المميز، واشتعلت مشاعر الأمومة بداخلها رغم كبريائها وجبروتها، لتتجه صوبهم بنظرات مُهتزة، تقف وتنظر إلى ابنها ببسمة حزينة، والأخير بادلها بابتسامة عريضة تنم عن فرحه بوجودها وشيء ما يخبره بأنها مؤكدًا أعادت الحسابات، اقترب منها فعانقته بمحبة أم، بادلها كذلك وهو يقول لها بسعادة:- نورتي الفرح يا أمي..ربتت على كتفه قائلة بهدوء:- ألف مبروكنحت ببصرها إلى مريم لتبتسم لأول مرة وهي تحدثها:- ربنا يسعدك مع إبني يا مريم، وألف مبروك..ابتسمت مريم باتساع وهي ترد عليها:- الله يبارك فيكِ..انتقلت تهاني إلى همام، الذي كان يتابع بصمت هادئ، فتقول بتنهيدة حملت في طياتها الكثير:- أنا أسفة يا همام، أرجو إنك تسامحني وخلينا نبدأ صفحة جديدة..رفع همام أحد حاجبيه متصنعا الجدية، ليقول بصوت أجش:- وأنا أرجو إنك تكوني إتخليتي عن إسلوبك العنيف دا وتكوني حطيتي عقلك في راسك!أردفت بابتسامة خفيفة:- دا اللي حصل وإلا ماكنتش رجعت يا همام!اقترب يوسف منهما يقول بإيجاز:- خلاص يا حاج همام بقى المسامح كريم، صافي يا لبن؟ضحك همام وشاركته تهاني التي احتضنت ابنتها يُسر معها، لتعمُ البهجة على الأجواء وتسكن السكينة قلوبهم وتكتمل الصورة العائلية أخيرًا..تمتنهاية الروايةأرجوا أن تكون نالت إعجابكم