رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والعشرون
قيل قديما: اتقِ شرَّ من أحسنت إليه. ماإن ولج داخل المنزل الذي كانت تقطنه عليا حتى وضع أحدهم مسدسا على ظهره ليأمره بصوت أجش: ارمِ سلاحك بهدوء. أرخى يده عن السلاح ليستقرّ أرضا. لم يأبه بنفسه بل كان يفكر في مصير حياة وصغيرتها. فازدرد ريقه بصعوبه ليسأل بنبرة حاول جعلها ثابتة: أين حياة وابنتها،؟ ماذا فعلت بها؟
قهقه الرجال من خلفه ليخمن أن عددهم أكثر من اثنين. خشي أنهم قد ألحقوا بهما الأذى فصرخ من جديد: أين حياة وابن... لم يكمل سؤاله عندما تلقى ضربة قوية بواسطة المسدس أسفل رأسه طرحته أرضا. وضع يده مكان الضربة وأغمض عينيه وهو يئن بألم. انحنى أحدهم صوب أذنه ليتمتم له بهمس ساخر: سيدتك حياة أرسلت لك هدية مميزة إكراماً لك لمعروفك معها.
لم يفهم مقصده من تلك الرسالة التي بدت أشبه بالتهديد. ولم يعطوه الفرصة ليفكر فقد انهال عليه الأربعة رجال بالضرب المبرح وتركزت أغلب ضرباتهم له على ظهره ومنطقة حوضه.
بعد نصف ساعه كاملة من الضرب العنيف توقف الأربعة ثم أمرهم قائدهم بأخذه معهم متجهين صوب منزله. سحبوه من قدميه على الأرض الزراعية التي امتلأت بالحصى والعيدان دون أدنى مقاومة منه فقد أنهك الضرب جسده. كان الظلام يلف تلك القرية التي سادها السكون. فالجميع قد أوى الى منازلهم نظرا لبروده الطقس.
وصلوا إلى منزله ليدفع أحدهم الباب، وجدوا المنزل خالياً مما أثار استغرابهم، فأمر أحدهم أن يبحث جيداً، نفذ الأمر حتى وجد براء ووالدته مختبئين في غرفة براء تحت سريره الصغير. جلبهما الرجل ليرميهما بجوار والده الذي كان جسده مُدمىً بشكلٍ وحشي حتى عجز عن الحراك. ارتجف جسده الصغير وهو يرى حال أباه، أما هيام والدته فقد اقتربت لتحاوط وجه زوجها بيديها وهي تبكي وترجوه ليستفيق ويفتح عيناه.
ابتسم قائد الرجال الأربعة بخبث، فغمز لرجاله غمزةً فهموا معناها القذر، ثم تحدث بنبرة لئيمة امتزجت باستهزاء واضح: السيدة حياة أرسلت لكم هديةَ عرفانٍ بالجميل. طالعهم براء بخوف واضح، وارتجفت هيام بتلقائية وهي تقترب من ولدها لتحتضنه بحماية، أما الطبيب محمد عادل فقد فتح عيناه بضعفٍ شديد لكنه لم يستطع تحريك جسده قيد أُنملة.
لاحظت هيام استفاقة زوجها فزحفت باتجاهه ولم تزل مُحتضنةً براء حتى وصلت إليه، لكنها صرخت بهلع عندما...
صمتٌ ثقيل جثى على قلب براء وهو يشعر بعدم قدرته على المتابعة، رمشت سوداوتاه بسرعه، انتصب واقفاً فجأة تحت أنظار جواد المُستغربة ليقول بضعف: فلنتابع غداً. وقف جواد قبالته قائلاً بتصميم: لا براء، لا يجب أن نتوقف الآن! همس له بوهنٍ وهو يحاول أن يتحرك من أمامه: لن أستطيع جواد. أمسكه من ذراعه ليجبره على الوقوف مُتحدثاً بإصرار: بلى تستطيع.
نفض يده عنه صائحاً به وقد بدأ غضبه يتعاظم داخله: جواد اتركني وإلا... قاطعه الآخر صارخاً به وإلا ماذا؟ ستضربني؟ هذا ما أنت قادرٌ عليه الضرب والهرب، أنت تهربُ من ماضٍ عفا عليه الزمن. صرّ براء على أسنانه وهو يكوّر قبضته مُحاولاً تجاوزه ليصيح بتحذير: جواااد.. هتف جواد وهو يقطع طريقه مجدداً بإصرارٍ عنيد: لاتحاول لن أسمح لك بالهرب. صرخ به وقد نفر عرقٌ بارزٌ من جانب رأسه: انا لا أهرب!
صاح جواد باهتياج وقد فقد أعصابه: بل تفعل أيها الجبان. لم يشعر بنفسه إلا وقد هوت قبضته على صدغِ جواد بكل قوته صارخاً بغضب: جوااااد، ابتعد. ترنح الأخير من أثر الضربة المؤلمة، امتدت يده ليتفحص ذاك الخيط الرفيع على جانب فكه ليكتشف قوة اللطمة، ثارت دماؤه ليردّها له بأخرى قوية صارخاً: أيها الجبااان. ردّ براء بأخرى و هو يصيح حتى كادت تتمزق حباله الصوتية: لستُ جباناً. بادله الآخر ضرباته وصراخه: بل أنت كذلك.
تبادلا الضربات والصرخات حتى أدمى أحدهما الآخر. صرخ براء باهتياج: لستُ جباناً. ليصيح به جواد وهو يهوي بقبضته أسفل عين الأول: إذاً أخبرني مالذي حدث بعدها؟ - اغتصبوها! لفظ براء كلمته الأخيرة صارخاً بها بغضبٍ مُتعاظم وقد استند على الحائط خلفه.
ساد الصمت المُفاجئ على ساحة المعركة لا يقطعه سوى صوت أنفاسهما المُتلاحقة، طالعه جواد بحاجبين مُنعقدين وقد بدى مُتفاجأً، ابتلع ريقه الممزوج بدمائه ليسأله بهمسٍ حَذِرْ: ماذا قلت؟
سقط براء على الأرضية وقد نال التعب منه بعد تلك الحرب الطاحنة بينهما، شعر بطعم دمائه داخل فمه، أسند رأسه على الحائط وأغمض عينيه ليهمسَ بوهنٍ شديد وأنفاس لاهثة متقطعه: سحبها أحدهم من قدميها بعيداً عنا وقاموا باغتصابها جواد، تناوب الأربعة عليها كالوحوش الكاسرة، حدث كلّ هذا نصب أعيننا أنا ووالدي.
انهمرت عبراته المُتألمه وهو يبتلع ريقه الدامي ليتابع بقهر: لم يأبهوا بصراخها ولا توسلاتها، لم يكترثوا بأنهم هتكوا شرفها أمام زوجها وولدها الذي بلغ التسع سنوات لتوّه. فتح عينيه ليطالع وجه جواد المُشفق الممزوج بجراحه وكدماته ليتابع حديثه المُوجع بنشيج: لم يكن والدي هو العاجز فقط يومها، بل كنا كلانا عاجزين عن إغاثتها ومُساندتها حتى بالصراخ.
اقترب جواد منه بحذر شديد حتى جلس إلى جانبه، نظر إليه براء من بين دموعه ليهمس بضعف: أنا مُتعبٌ للغاية جواد... فتح له ذراعيه بتلقائية ليرتمي براء في أحضانه ويجهش بالبكاء المرير مما أثار استغراب جواد، تيقن الآن أنّ خلف كلّ ذاك البرود والجمود ألمٌ مكبوت وقد وجد طريقه للخروج الآن.
مسح على خصلاته السوداء بحنان، رغم صراخ جسده من أثر العراك إلا أنه شعر بالقليل من الارتياح، إذ نجح أخيراً في دفع براء ليصرخ بما آلمه وأوجعه طوال تلك السنوات، وهذا بحدّ ذاته خطوةٌ جيدة في طريق العلاج والمضي قدما.
حسب خبرته الطبية استطاع أن يجزم أنّ براء لم يصارح أحداً بما حدث تلك الليلة أبداً، شعر بأنه مايزال عالقاً فيها وفي تلك اللحظة بالذات، شعر بأنه مجرد طفلٍ بعمر التسع سنوات بكى يومها ولم يبكِ بعدها قط. حمدَ الله في نفسه على أنّ المنزلَ خالٍ من والدته وزوجها اللذان رحلا منذ الصباح ولم يعودا حتى الآن، بقي على جلسته تلك حتى شعر بثقل جسد براء فعلم أنه قد غفى من التعب.
من الجيد أنّ أرضية غرفته ممدودةٌ بالسجاد، حرك جسده بحذر وتناول وسادة من سريره ليضعها أسفل رأس براء، ثم تحرك بتروٍ وتأنٍ ليجلب الغطاء ويدثره بحنان، ثم استقام ببطء وجلس على الأريكة المُقابلة له يتأمله، إنه طفلٌ صغير فعلاً.
جلست أميرة تطالع الأمطار في الخارج من خلال النافذة الزجاجية، وقد تدثرت بغطاءٍ سميك واضعة أمامها دفترها وقلمها. شعرت بثقلٍ جاثمٍ على صدرها وكأن قلبها أنبأها بأن توأم روحها يتألم فتعاضد معه فحرمها النوم. ذرفت دمعة لاتعرف ماهيتها، تطلعت إلى دفترها فأخذته وفتحت صفحة فارغة تناولت قلمها لتخط عليها أول ماخطر على ذهنها من كلمات: (( حبيبي، أكتب إليك رسالة قصيرة لأخبرك بأنني مازلت على قيد حبك.
لأخبرك بأنني لم أعد أميرة بل أنا الأن أسيرة هواك، مازال هذا الخافق في يسار صدري ينبض بك ولأجلك. ولأخبرك أيضا أن ذكرياتي هي كل ماتبقى لي منك، أغمض عيني لأسترجعها في أقسى لحظاتي، فأشعر أنها تربت على روحي الملتهبة بهدوء. )) ذرفت دمعة أخرى لم تقاومها فتبعتها دمعة ثانية سقطت على حروفها، ارتجفت يدها فوقع القلم منها وهي تطالع تلك الكلمات التي خطتها. في تلك اللحظة تزاحمت عليها الالاف من الذكريات الموجعه،.
أمسكت قلمها من جديد لتقلب الصفحة وبدأت تكتب بسرعة وبدون ترتيب. عنونت الرسالة من الأعلى بعبارة: رسالة الى الألم. (( أيها ألألم. ألم تملَّ مني؟ ألم تملَّ من دموعي وأوجاعي؟. أرجوك اجمع أشلاءك وارحل، أريد أن أقضي ماتبقى من حياتي بقلبٍ خالٍ منك. أتوسل إليك، جد لنفسك رفيقاً أخر، فأنا اخترت الانعزال عن الجميع، حتى عنك. )).
رمت قلمها مجددا وقد انهمرت عبراتها بغزارة، وتعالت شهقاتها. أغلقت دفترها على تلك الرسالة التي كتبتها له، حالها حال المئات من الرسائل التي كانت تكتبها كلما اشتدت عليها الذكريات فأوجعتها، ثم تعود لتدفنها من جديد، كم تمنت لو أن بها الجرأة لترسلها إليه لكنها أجبن من أن تفعل.
تأمل جواد تلك الفوضى العارمة من حوله، لكنه لن يستطيع التنظيف الآن حتى لايوقظ براء الذي افترش الأرض، ولج إلى حمام غرفته لينظف فوضى العراك عن جسده. خرج بعد قليل وقد طهّر جروح وجهه وكدماته، سمع صوت فتح الباب خارجاً فتوقع عودة زينب والطبيب محمد عادل.
نظر إلى براء ليجده مازال يغطّ في النوم، فتح باب غرفته بكلّ هدوء ليسمع صوتاً قادماً من غرفة والدته، مشى نحوها ليجدَ زينب وهي تخرج بعض الثياب من خزانتها وترميها على السرير أمامها، لفت انتباهه عدم وجود الطبيب محمد عادل في الغرفة. كتف يديه واتكأ على الباب ليسألها: ماذا تفعلين أمي؟
استدارت زينب نحوه بابتسامةٍ سرعان ماخبت عندما لاحظت الكدمات التي ملأت وجهه، شهقت بخفة واتسعت عيناها بذهول وهي تمشي نحوه بسرعة لتسأله بلهفه: مالأمر جواد؟ مالذي حصل لوجهك؟ مدت يدها إلى وجهه فآلمته فابتعد بوجهه عنها ليجيبها بابتسامة بلاستيكية: لاشئ أمي لاتقلقي. - هتفت والدته باستنكار وقد علا صوتها: لا أقلق؟! أنظر إلى وجهك إنه خريطة! ثم أردفت بحزم: أخبرني جواد مع من تعاركت؟
سرعان ماتبدلت نبرتها للقلق وهي تسأل بعيون مُتسعة: أين براء؟ تكلم جواد أرجوك مالذي حدث؟ تنهد بتعب وهو يبتسم ابتسامة فاترة مُجيباً باقتضاب: لقد تعاركتُ قليلاً مع براء. ثم أردف بمرح طفيف وهو يتلمس وجهه: لكن يده ثقيلةٌ جداً فجعل من وجهي خريطة. زوت مابين حاجبيها بعدم فهم فتسائلت بنبرة قَلِقة: تعاركت مع براء؟ لماذا جواد؟ لم تفعلاها عندما كنتما صغاراً فلمَ الآن؟
ثم تابعت بنبرة غاضبة: ومن ثمّ أين براء؟ أتركته يذهب دون أن تعتذر إليه؟ وضع يده على كتفها ليديرها وهو يمشي معها إلى داخل الغرفة مُتحدثاً بتأنٍ: اهدأي أمي أرجوكِ، من ثم أخفضِ صوتكِ قليلاً ستوقظين براء. جلست على السرير وهي لاتكاد تعي شيئاً فأتاه سؤالها المصدوم: براء نائمٌ هنا؟ أين؟ ولمَ تعاركتما أساساً؟ جلس بقربها وهو يتنهد بخفة ليربت على يدها هامساً: لاتقلقي أمي براء بخير، هو نائم الآن في غرفتي.
رمشت عيناها بعدم استيعاب ليضيف جواد بخفوت: لقد كان يروي لي قصته، عندما وصل إلى نقطةٍ حسّاسة أراد الهرب، فاضطررتُ أن أُغضبه ليتكلم. شهقت بخفة وقد فهمت معنى حديثه، فسألته بدهشة: هل، هل أخبرك؟ أومأ برأسه دون حديث، تهدّل كتفاها وهي تنظر أمامها، عادت لتنظر إليه بفخرٍ واضح مُرددةً: أحسنتَ جواد، فعلت مالم يستطع أحدهم فعله! ابتسم باقتضاب ليسألها: أخبريني أمي، كيف تعرفتِ إلى الطبيب محمد عادل وبراء؟
تنهدت بوجل وهي تطالع ابنها بتردد، ليضيف: لقد أخبرتني قبلاً أنكِ عرفتهما عندما حضرا إلى المستشفى الذي كنتِ تعملين فيه، بعد أن توفيت والدة براء بحادث سير وهو سبب عجز والده. اشاحت بوجهها عنه تتمتم بتقطع: لقد، لقد كذبتُ عليكَ جواد، لم أستطع أن أخبرك الحقيقة حينها.
أشار بتفهم متحدثاً: أنا لاألومك أمي، بل وأتفهم سبب عدم إخباركِ لي بالحقيقة، لكن الآن فعلا أنا بحاجةٍ لأن أعرفها لأتابع علاج براء بطريقة صحيحة.
تنهدت بعمق وهي تسترجع في ذهنها اول لقاءٍ لها مع براء وعائلته: اسمع جواد، حدث الأمر منذ عشرون عاما تقريبا، في إحدى الليالي أنهيت مناوبتي فجراً في المستشفى الذي كنت أعمل فيه وانتويتُ العودة إلى المنزل، لكنني لاحظتُ حالةً من الهرج والمرج بين الأطباء والممرضين، اقتربتُ من إحدى الممرضات لأسألها عن الأمر فأخبرتني بنبأ هزّ كياني.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تضيف: امراةٌ تمّ اغتصابها أمام زوجها وابنها ذو التسع سنوات، ذهبتُ إلى الطوارئ وهناك رأيته.
Flash Back. كان براء واقفاً أمام الغرفة التي أُودعت فيها والدته يصرخ بالأطباء الرجال وكلما حاول أحدهم الاقتراب منه كان يقاومه بعدائية شرسة لاتتناسب مع سنواته التسع، حتى أنهم قاموا بتهديده بالضرب لكن تهديداتهم تلك لم تُحرك فيه رمشاً.
كانت زينب تشاهد هذا المنظر الذي تراه للمرة الأولى في حياتها بوجل، علمت من حركاته أنه لا يريد لرجلٍ أن يدخل إلى والدته ليعالجها، فقامت بمهاتفة الطبيبة النسائية التي كانت في إجازة يومها لتحضر، ثم دخلت معها إلى غرفة هيام بعد أن سمح لهما براء.
ذُهلت زينب من منظرها، فلقد كانت في حالٍ يُرثى لها، كانت ترتجف بشكلٍ كلي فلم تستطع مساعدة الطبيبة في عملها، خرجتا بعد قليل وقد قامت الطبيبة بإعطاء هيام إبرة مُهدأ لتنام. حاولت مع براء كثيراً علّه يذهب معها فيتناول شيئاً لكنه كان رافضاً لأن يترك مكانه. غادرت زينب المستشفى مُضطرةً فوالدتها رحلت وسيبقى جواد وحيداً عندما يعود من المدرسة.
عادت مساء ذلك اليوم إلى المشفى بعد أن أمنت جواد عند والدتها، وعرجت بدايةً إلى غرفةِ هيام لتطمئن عليها فلم تجد براء أمام الغرفة، لكنها وجدت الباب مفتوحاً اقتربت قليلاً وياليتها لم تفعل! وجدت براء جالساً على الأرض يُطالع والدته، وياله من منظرٍ ليراه طفلٌ بعمر التسع سنوات! كانت هيام مُعلقةً على شباك غرفتها بواسطة سلك المُغذي الذي كان موصولاً بيدها، لقد شنقت نفسها!
وكان براء ينظر إليها بعيونٍ خاوية لا أثر للحياة فيهما، لم يبكِ يومها ولم يذرف دمعةً واحدةً حتى. لاتذكر بالضبط كيف أخرجوه من الغرفة فهو لم يُبدِ أي ردة فعل، تولت زينب فيما بعد مهمة علاجه النفسي، ربما تحسن قليلاً لكنه أبداً لم يعد كما كان. رفض أن يحدثها بما جرى تلك الليلة، وأيضاً رفض أن يترك والده الذي دخل في غيبوبة لمدة شهر كامل، استفاق بعدها ليعلم أنه قد فقد قدرته على المشي.
لم يُعرف من الذي ارتكب تلك الجريمة الشنيعة بحق عائلةٍ كاملة، ولم يجدوا أيضاً أي أثر لحياة ولا ابنتها. بعد عام واحد تزوج الطبيب محمد عادل وزينب، الطبيبة الأرملة وقد كان عمر جواد حينها ثماني سنوات بينما كان عمر براء عشراً، باع والد براء منزله ذاك وأرضه كذلك، ليستقرّ برفقة عائلته الجديدة في المنزل الذي يقطنون به الآن.
التفتت زينب نحو جواد قائلةً: أرجوك بني، لاتتخلى عنه فما زالت قصته طويلة. أشار بتفهم ثم أردف مُحاولاً تغيير دفة الحديث: إذاً أين والدي؟ ألم يعد معكِ؟ أجابت بابتسامة مقتضبة: لا لقد سنبيتُ لدى صديقه هذه الليلة، وقد حضرت لأخذ لنا بعض الثياب وسنعود غداً مساءً.
أشار إيجاباً ثم تركها وخرج إلى البهوّ الصغير ليجلس هناك وهو يفكر فيما سمع اليوم، كلّ تلك الحقائق كثيرةً ليكتشفها في يومٍ واحد، مشاعر مختلطة شعر بها في تلك الأثناء، مزجتْ بين الشفقة والحزن والسعادة. همس لنفسه بإعجاب: كم كنتَ مُحقاً أيها المُحارب النبيل، فأنت تشبه البحر فعلاً.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون
استفاق براء صباح اليوم التالي وهو يشعر بأن قطاراً اقتحمه حرفياً، وجد نفسه يفترش الأرض في غرفة جواد ومُدثراً بغطاءٍ سميك، عقد حاجبيه بريبة لثانية سرعان مابدأت ومضات سريعه من ليلة أمس تظهر أمام عينيه كأنها شريطٌ سينمائي.
اعتدل في جلسته ليشعر بجسده يصرخ من الألم، تطلع إلى الأريكة أمامه فوجد بعضاً من الملابس النظيفة الخاصة بجواد، تحرك ببطء ليأخذ الثياب مُتجهاً نحو الحمام لينفض آثار الليلة السابقة عن جسده. نظر إلى المرآة المُثبتة في الحمام ليرى كمّ الكدمات والجراح التي طبعتها يدُ جواد على وجهه، تنهد بوهنٍ وهو يُطالع مُحياه المُشوه، كم شعر أنه ينظر إلى النسخة الحقيقية منه، هو هكذا من الداخل مُشوهاً نازفاً.
أغمض عينيه بتعبٍ شديد مُبتعداً عن المرآة ليقف تحت صنبور المياه، تاركاً الماء يجري على جسده بانسياب. خرج بعد قليل وقد ارتدى الثياب النظيفة وطهّر جراحه، فتح الباب برفق لتقابله روائح شهية حفزت معدته الفارغة منذ إفطار أمس. مشى بحذر نحو المطبخ ليجد جواد هناك يحضر الإفطار.
لم ينتبه جواد له فقد كان يغني بصوتٍ عال وكم كان صوته مُزعجاً للآذان، تقدم براء نحوه مُبتسماً من منظره المُضحك وهو يقوم بحركات غريبة مُندمجاً مع كلمات الأغنية الأجنبية التي كان يُدندنها. تأمله لثوان ولم يره جواد بعد، فقطب جبينه بانزعاج مُصطنع ليصيح به بهدوء ساخر: نشاااز. انتبه له أخيراً ليتطلع إليه باستغراب بينما أضاف براء بتهكم وهو يحرك رأسه للجانبين: صوتك نشاز للغاية ومُزعجٌ للآذان.
قهقه جواد من كلماته ليجيب ساخراً: ماذنبي إن كانت أذنك غيرُ طربية؟ شرد براء في وجهه مُتأملاً تلك الجراح التي سببها له، فعقد حاجبيه بضيقٍ حقيقي مُردداً: أنا آسف جواد. لم تغب الابتسامة عن وجه جواد عندما أجابه: لا عليك براء. ثم أردف بمرح: على الأقل امتحنتُ قدراتي في العراك. ابتسم براء بخفه وهو يمشي ناحية الكرسي ليجلس عليه قائلاً بتهكم: نعم، وقد اتضح أنك فاشلٌ تماما.
رفع حاجبيه بدهشة مُصطنعة صارخاً باستنكار: فاشل؟! ثم أخفض صوته وهو ينحني باتجاهه مُضيفاً: هل نظرتَ إلى وجهك في المرآة هذا الصباح؟ قهقه براء مُردفاً وهو يتلمس وجهه: هذا لاشئ مُقارنةً بوجهك. ثم أضاف بمزاح: انظر إليه إنه أشبه بصحن سلطة، نظراً لكثرة الألوان فيه. ضحك كلاهما بمرح ثمّ بدأ جواد برصّ أطباق الطعام على الطاولة ليسأله براء: إذاً أين والدانا؟ ألم يستيقظا بعد؟
أجاب حواد وهو يناوله رغيفاً من الخبز: لا، والدانا لم يعودا، فقد قضيا ليلة أمس في مزرعة السيد نزار. ثم أضاف بمزاح: يبدو أنهما رغبا بتجديد شهر عسلهما بعيداً عنا يا صديقي. ضحك على كلمات جواد المازحة، ليشرعا في تناول الطعام. انتهيا بعد مدةٍ من تنظيف الأطباق ليسأل براء بجدية: هل تودّ بعض القهوة؟ فصرخ جواد بفزعٍ مُصطنع: لا أرجوك، انا من سيصنعها.
استدار نحوه باستغراب ليضيف مازحاً وهو يغمزه: لا أريد شربها بطعم الفلفل هذه المرة. ضحك براء من قلبه هذه المرة، فقد كان جواد ذو روحٍ خفيفة تداويه من أحزانه كالبلسم الشافي. اتجها نحو البهوِّ الصغير ليجلسا هناك، أسند براء كوبه إلى الطاولة وجلس على كرسيه مُتخذاً وضعيته المُعتادة.
كان يوسف يزدرع غرفته المُخصصة في قصر عمار ذهاباً وإياباً وهو يفكر في أي مكان مُحتمل قد يخبأ فيه عمار تلك الحقيبة اللعينة. الأمر لم يعد يحتمل التأجيل، أن يتصل به رئيسه المباشر في تلك المافيا يعني أن صبرهم بدأ ينفد، وماهي إلا أيام حتى يجتمع المجلس الأعلى للجماعة ليأخذ قراراً بشأن الحقيبة، ربما هو لايعرف ماستكون تلك القرارات لكنه على يقين تام بأنها لن تصبّ في مصلحته أبداً.
نفخ بضيق شديد وهو يعتصر عقله، لم يترك مكاناً يخطر على بال الإنس والجن إلا وقد بحث فيه، في مكتب عمار في الشركة وأيضاً مكتبه وغرفته في القصر، منزل ومكتب محاميه ومنزل سيمون، حرفياً لم يترك مكاناً لكنه لم يجد أي أثر لها. وقف فجأةً وقد التمعت في ذهنه خاطرةٌ ما، عليا هي الوحيدة التي تستطيع مساعدته، لكن كيف السبيل للوصول إليها مادام براء يفرض حصاراً خانقاً عليها؟
ضغط على شفتيه بغيظ وقد التمعت عيناه بشرّ، ذلك البراء ليس سهلاً أبدا، خاصةً بعد أن هاتفه جاسوسه في المشفى ليخبره بما رآه من دخول براء إلى مكتب مدير المشفى بعد وفاته، ومااتبعها من تحقيق مع المتواجدين حينها وأيضاً مُحاولته الوصول إلى صاحب الرقم الذي هاتف المدير وخدعه ليخرج من المشفى.
جلس على الكرسي خلفه وهو يهمس لنفسه بغلّ: فعلاً كما وصفتك عليا، ثعلبٌ ماكر وذكيٌّ للغاية براء، حاولتُ إبعادك عن القضية لكنني لم أنجح، أرسلتُ من يقتلك ففشل أيضاً. سحب نفساً عميقا زفره ببطء وهو يضيف: لكن لا، لن تربح هذه المرة أيضاً، لن أقف مكتوف الأيدي وأنتظرك لتصل إليّ. سحب هاتفه ليطلب رقم إحدى الجهات السيادية، وهو لاينتوي خيراً على الإطلاق...
قاد سمير سيارته متجها نحو القسم، بعد أن أنهى غداءه الممتع مع ملك، كان يبتسم بإشراق وهو يتذكر ماحدث بينهما في تلك اللحظات.
Flash Back. أنهى سمير غداءه قبلها لكنه لم يُبين لها ولم يخبرها، فلم يكن يريد أن يخسر فرصة مشاهدتها وهي تتلذذ بطعامها، وتُصدر أصواتاً تعبر عن استمتاعها الكبير بوجبتها. لقد أنهت طبق البيتزا الذي طلبه بالكامل بنهمٍ غريب، فهي لم تتناول شيئاً على العشاء و وأيضاً لم تتناول إفطارها ولم تنتبه لجوعها الشديد حتى رأت الطعام.
وضعت ملك أخر قطعةٍ من البطاطا المقلية في فمها ورفعت رأسها أخيرا، تنفست بعمق وماتزال تمضغ تلك اللقمة الأخيرة، اتسعت عيناها بصدمة عندما لاحظت وجوده أمامها كأنها نسيت وجوده فعلاً. ابتلعت مافي فمها بصعوبة عندما رأت ابتسامته العابثة المرتسمة على شفتيه، حمحمت بارتباك وهي ترفع كأس الماء لترتشف القليل منه كطريقة لإخفاء حرجها، لكنه لم يمهلها الفرصة لذلك فهمس ساخراً: لقد بقيت بعض القطع في طبقي آنسة ملك!
أضحى وجهها كحبةِ طماطم من شده حرجها، لكنها لم تظهره له ولتخرج من هذا الموقف هاجمته قائلةً بحاجبين مُنعقدين: مادمتُ أنا من سيدفع ثمنه فلا حق لك بالحديث. لايُنكر أنها فعلاً أثارت دهشته من ردها العجيب وانقلابها المُفاجئ، ولم تعطه الفرصة ليفيق من صدمته فرددت بثباتٍ غريب وهي تشبك يديها أمامها: والآن هلا أخبرتني من فضلك بكم أدينُ لك لقاء تصليح السيارة؟
رمشت عيناه لعدة مرات ولم يجب، الحقيقة أنه لم يعد يعرف بما يجيبها وقد بعثرت كلماته و ألجمت لسانه بلسانها السليط! انقذه رنين هاتفها وكان المتصل مديرها المباشر في الشركة يخبرها بضرورة عودتها إلى الشركة حالاً.. أغلقت الهاتف مع مديرها لتعود إليه وتكرر سؤالها على مسامعه. استعاد ثباته ليقف مُتجاهلاً سؤالها مُردداً: يجب عليكِ العودة إلى الشركة آنسة ملك.
حسناً الواضح أنهما يلعبان لعبةً ما هنا أشبه بلعبة المطاردة. رمشت عيناها بذهول لكنها سرعان مااستعادت السيطرة على انفعالاتها، فوقفت قبالته لتكتف يديها أمام صدرها قائلةً بإصرار عنيد: سأذهب بالطبع، بعد أن تخبرني بالمبلغ. الآن اقتنع فعلاً أنها أشدّ عناداً منه، هز رأسه بيأس ونفخ بضيق، ثم تحرك من مكانه مُتجاهلاً إياها ليخرج من المطعم بأكمله.
ابتسم بمكر وهو يتخيل ردة فعلها عندما تعلم أنه هو من دفع فاتورة الغداء. طالع شاشة هاتفه بابتسامةِ تسلية وهو يرى رقمها، فعلم أنها ستوبخه على ما فعل، بل وقد تنفجر فيه غضباً، لذا تجاهل اتصالها عمداً. رنّ هاتفه مرةً أخرى، اختفت ابتسامته وهو يرى اسم مؤمن على الشاشة، زوى مابين حاجبيه وهو يجيبه ليخبره مؤمن بخروج براء من عند عليا وهو في حالٍ مخيفةً من الهياج والغضب.
أغلق الهاتف من جديد ليضغط على دواسة الوقود مُشرعاً إلى القسم، فهو يعلم أن براء لن ينزع قناع البرود مالم يكن هناك خطبٌ ما.
قضت أميرة معظم نهارها في غرفتها، لم تخرج منها أبدا فقد كانت ترتب خطواتها القادمة لتعود إلى إدارة الشركة، لكن هذا لن ينفع مالم تتعلم كيفية فعلها، ربما تعلمت من والدها بضعة أمورٍ، لكنها شعرت بأنها لم تعد تفقه شيئاً مما تعلمته. بينما هي كذلك دخل إليها يوسف راسماً على وجهه ابتسامة باردة، تقدم حتى وقف أمامها ثم جلس بجوارها على الأريكة، ليتمتم لها: ماذا تفعلين أميرة؟
حركت كتفيها بلا مبالاة مُجيبةً: لا شئ جو، أُرتب خطواتي القادمة فقط. هز رأسه موافقا ليتابع دون أن تهتزّ ابتسامته ليسألها: إذا أخبريني، ما رأيك لو أننا خرجنا في رحلةٍ ترفيهية؟ عقدت حاجبيها بعدم فهم فأردف؛ أقصد أن نخرج لنقضي يوم. غدٍ خارجاً بدل أن تبقي هنا، ها ما رأيك؟ لاتعرف لما انتابها القلق من عرضه هذا، بينما هو كان يطمح لأن يبعدها عن القصر ليبحث في غرفتها علّ عمار فكر في أن يخفي الحقيبة هنا.
أجلت حلقها لتقول: أنا آسفة جو، ولكنني قررتُ أن أذهب إلى شركة والدي لأديرها، وكذلك لدي جامعتي لذا، انا آسفة. رغم امتعاضه لرفضها لكنه سُعِد بنبأ عزمها على الابتعاد عن القصر ليبحث براحته. ابتسم باصطناع ليومأ لها برأسه ثم تحرك من أمامها ليحسب خطواته القادمة، تاركاً إياها تفكر في غرابة تصرفاته وشعورٌ غير مريحٍ أبداً بدأ يتسلل إليها.
منذ عودته من المستشفى دخل إلى مكتبه فلم يغادره، بل وأمر بعدم إزعاجه أيضاً. اقترب الليل من انتصافه وهو مايزال على وضعيةٍ واحدة، يتوسد الأريكة ناظراً إلى السقف ويكتف يديه على صدره، لم يتحرك ولم يرمش بعينه حتى أتته طرقات على الباب، زفر بعمق مع دخول سمير إليه وهو يتفحصه بتمعن. وقف سمير قبالته ليسأله بجدية: كيف حالك براء؟
تطلع إليه بنظرات خاوية دون إجابة لثوان، اعتدل في جلسته فجأة ليمسح وجهه بيديه هامساً: هل فعلتَ ما طلبته منك سمير؟ تنهد بخفه مجيباً: تقصد جهاز التتبع؟ بالطبع لقد تم وضع واحد في سيارة والدتك. حرك رأسه متفهما وقبل أن يضيف حرفاً آخر دخل إليهم مدير الأمن الجنائي، انتصب براء واقفاً وشدّا ظهريهما وأديا التحية العسكرية. توجه المدير إلى براء ليسأله بجدية: أخبرني براء إلى أين وصلتما في القضية؟
تبادل مع سمير النظرات المترددة ليجيب باحترام: سيدي لقد اعترفت المتهمة عليا حداد بأنها من ارتكب الجريمة، لكنها ترفض الاعتراف بشركائها. عقد المدير حاجبيه ليضيف: هل اعترفت لك أن لديها شركاء؟ أومأ بالنفي ليردف المدير: إذاً فالقضية منتهية. نظر إليه ليسأله: ماذا تقصد سيدي؟ اجابه ببساطة: سيادة الضابط مادامت المتهمة قد اعترفت إذاً فلتقفل القضية.
رد براء بحدة طفيفة: مستحيل سيدي لا نستطيع، وإلا فإن شركاؤها سيفلتون بفعلتهم! حدجه المدير بنظرة غامضة قبل أن يتحدث بتفهم: أنت لاتعرف حجم الضغط الذي أعاني منه براء، ولا تعرف أيضاً كم الاتصالات التي تلقيتها منذ ساعتين فقط لأنهي هذه القضية وتقديم الجانية للعدالة، وأنت لا دليل لديك على وجود شركاء لها في جريمتها أساساً.
-حاول براء أن يسيطر على نفسه فتحدث بتعقل: سيدي، لقد قاموا بإرسال رسالة تهديد إلى منزلي، كما أنهم قتلوا سيمون وحازم وأيضاً قتلو الرجل الذي درّب ذاك الشاب الذي حاول قتلي، هذه كلها ليست مجرد صدف ابداً. بدى المدير فعلاً تائهاً ليردف براء محاولاً إقناعه: عليا هي الوحيدة التي ستوصلنا إليهم سيدي أؤكد لك، فهي على معرفةٍ شخصية بالمدعو الكوبرا والذي أعطى الأمر المباشر بقتلي.
جلس المدير على الأريكة التي كان يجلس عليها براء فقال بنبرة ليّنة: اسمع بني، أنا أعلم أنك من أكفأ ضباط التحقيق عندي، ولكن سبق وأخبرتك هناك كثيرون ممن يتصلون بي ليطلبوا إما تنحيتك أو إنهاء القضية، وأنا فعلا لاأعلم مالسبب؟ أضف إلى هذا أنها لم تعترف على شركائها إذاً فإن كل ماذكرته لايعتبر دليلاً. أجابه برجاء: سيدي أرجوك أمهلني يومان فقط، وأعدك أنني سأعرف شركاؤها.
طالعه مديره للحظات قبل أن يقف أمامهما، وضع يديه في جيبه وهو يرمقهما بحاجبين معقودين، زمّ فمه بتفكير بينما كان براء يخشى أن يرفض فتضيع عليه فرصة معرفة ذراع تلك المافيا هنا، وخاصة الكوبرا ذاك. مرّت عدة لحظات قبل أن ينطق المدير: وأنا موافق. ارتخت تعابير وجهه بانتصار ثم أردف المدير بتحذير: يومان فقط، لن أستطيع المماطلة أكثر. شدّ ظهره ليؤدي التحية العسكرية بابتسامة مقتضبة صائحاً: أمرك سيدي.
ربت على كتفه هامساً له بدعم: أنا أثق فيك براء، وسأدعمك طالما باستطاعتي ذلك. خرج المدير من المكتب ليتنفس سمير الصعداء أخيراً، جلس على الأريكة يراقب تعابير براء بحذر، ليسأله: مالذي تنتوي فعله براء؟ نظر إليه براء بنظراتٍ شاردة مجيباً: غداً سنعود من حيث بدأ كلّ شئ. لم يفهم سمير مقصده ليضيف: سنعود إلى قصر عمار.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والعشرون
أطلّت الذهبية بحرارة كما كلّ يومٍ صيفي، استيقظت أميرة مبكراً وجهزت نفسها للذهاب إلى الشركة، ارتدت قميصاً رسمياً باللون الأزرق الشاحب وتنورة قماشية سوداء تلامس ركبتيها، ربطت شعرها على هيئة ذيل حصان وحررت خصلتان على جانب وجهها، فأعطتها هيئة طفولية مُحببة، و تركت وجهها على طبيعته دون أي مساحيق تجميل.
وقفت أمام المرآة تتفقد هيئتها قبل أن تحمل حقيبتها مُتجهةً نحو الأسفل، وجدت يوسف جالسا وحيداً في الصالة الكبيرة، رفع رأسه إليها يتأملها بحب وابتسامةٍ حقيقية، اتجهت نحوه راسمةً ابتسامة لبقة على شفتيها مُرددةً: صباح الخير. وقف قبالتها فبان الفرق بين طوليهما حيث كان يوسف أطول منها ببضعة بوصات، تأملها بإعجاب ثم امتدت يده ليتلمس إحدى الخصلات على جانب وجهها فارتدت تلقائياً للخلف.
كوّر قبضته وأسبلها بجانبه وقد تجهم وجهه، ازدردت ريقها بتوتر وهي لاتعرفُ حقاً لما فعلت هذا، كل ماتعرفه أنها لم تعد تتقبل لمساته لها مهما كانت بسيطة. لاحظت امتعاضه فأجلت صوتها لتتحدث بابتسامة بلاستيكية: اسمع جو، لقد وكلت محامي والدي ليستخرج التصاريح اللازمة لإستخراج جثته استعداداً لدفنها. شدّ ظهره وهو يقابلها بوجه جاد ليخبرها باقتضاب: لا داعي أميرة، فجثة والدك سيتم إخراجها بعد وقت قصير.
بدت علامات الذهول واضحةً على مُحياها، فيما استطرد حديثه بكل بساطة: لقد جهزتُ لكل شئ، سيتم دفنه فوراً بعد إخراجه. رمشت عيناها لتسأله بحدة طفيفة: كيف فعلتها جو؟ ولمَ لم تخبرني؟ عقد حاجبيه باستغراب من هجومها عليه فأجاب بلا مبالاة: لقد أخبرتك قبلاً أنني سأتولى مسألة إخراج جثة والدك وودفنها، ولقد قمتُ بكافة الإجراءات منذ الأمس، فلمَ أنتي غاضبة؟ رفعت حاجبيها بدهشة مُجيبةً بتهكم: ربما لأنني ابنته؟
نفخ يوسف بضيق وهو يشيح بجسده عنها قائلاً ببرود: وإن يكن؟ هزت رأسها بيأس من تهميشه لها وكأنها لاتعرف كيف تتصرف، فهمست بثبات: لا حق لك بالتحكم في حياتي جو! استدار نحوها مجدداً صائحاً باستنكار: أتحكم بحياتك؟ قابلته بصراخ: نعم تتحكم بحياتي، حتى أنك نصبتَ نفسكَ وصيّاً عليّ منذ وفاة والدي وابتعاد عليا عني، وكأنني طفلة صغيرة لاتفقهُ شيئاً.
تسارعت أنفاسه بغضب فأمسك معصمها يشدّ عليه بقسوة، ليقول وهو يجزّ على أسنانه: أميرة، الزمي حدّك معي ولا تصرخي في وجهي، أفهمتي؟ نفضت يده عنها لتصرخ به كمن فقد عقله: لا جو، بل أنت من يجب أن يلزم حدّه، لاتنفكّ تخبر الضابط براء بأنك خطيبي، أنجزت تصاريح إخراج جثة والدي حتى دون الرجوع إليّ أو إخباري، فماذا تسمي هذا كله؟
اشتعلت نار هوجاء في عينيه الزرقاء ماإن ذكرت براء، وقبل أن يردّ عليها كانت قد تحركت من أمامه لتخرج من القصر، تاركةً إياه يحترق كمداً مكانه، شدّ على كفّ يده بغيظ هامساً لنفسه بغلّ: لقد بدأتِ تخرجين عن سيطرتي أميرة، ونتيجة هذا لن تكون سارّةً أبداً. تنفس بعمق وهو يدير رأسه لينظر للأعلى، إنها فرصته المثالية ليبحث في غرفتها براحته.
خرجت أميرة من القصر وجسدها يرتجف من فرط الغضب، لاتعرف لمَ تشعر بهذا الكمّ من العصبية غير المُبررة نحوه، فهو صديق عمرها، لا يجب أن تعامله بهذه الطريقة. نعم تعلم أنه يحبها، ولكن هذا لا يعطيه الحق بأن يتحكم بحياتها أو أن يتجاوز حده معها.
وقفت بجوار سيارتها المُخصصة، استندت عليها بكفيها وهي تغمض عينيها لتسيطر على غضبها أثناء دخول سيارة براء إلى القصر، رآها هناك وهي تقف كالملاك بهيئتها الرسمية تلك، ابتسم بتلقائية ثم ترجل من سيارته مُتجهاً نحوها. فتحت عيناها مجددا ونفخت بضيق ثم استدارت لتصطدم بوجود احد ما خلفها، شهقت بفزع وهي تضع يدها على صدرها ثم زفرت بارتياح وقد تعرفت عليه.
أما براء فقد ارتعب بشكلٍ فعلي عندما رآى خوفها، فهمس لها وهو يمدّ يده أمامها دون أن يلامسها: اهدأي أميرة، هذا أنا! طالعته باستغراب طفيف وهي ترى لهفته عليها، وقرأت خوفاً حقيقياً في عينيه، فابتسمت بلباقة وهي تتمتم: لا عليك سيادة الضابط، انا بخير. تأملها بشرود لبضع لحظات، كم كانت جميلة وهي على طبيعتها دون تكلف او اصطناع.
مالبث أن انتبه لنفسه فحمحم مُبتعداً عنها ليبتسم باقتضاب مُتسائلاً: إلى أين تنوين الذهاب؟ أليس من المفترض أن تستغرب سؤاله بل وتنهره لتدخله غير المُبرر في حياتها؟ حسناً هي لم تفعل، بل حافظت على ابتسامتها وهي تجيبه بفخر: لقد كنتُ مُتجهةً صوب الشركة. هزّ رأسه متفهما لتردف هي بنبرة ثابتة: إذاً أخبرني سيادة الضابط، هل توصلتم إلى قاتل والدي؟
غابت ابتسامته ماإن سمع سؤالها، عاد خطوة للخلف وهو يهمس: لا آنستي، لم نعرفه بعد. زوت مابين حاجبيها باستغراب من تقلبه المفاجئ، وفي هذه اللحظة وصلت إلى القصر عدة سيارات، كان في مقدمتها سيارة سمير الذي أحضر معه عادل وسلاف يتبعه رجلين آخرين. نظرت إليهم باستفهام مُتسائلة بتوتر طفيف: مالأمر سيادة الضابط،؟ لمَ هذا التجمع هنا؟ تنفس بعمق متحدثاً بابتسامةٍ مقتضبه: إجراء اعتيادي، لا داعي للقلق.
حولت نظرها إليه لتطالعه بغموض لثوان، ثم تحدثت بصدق: أنا لاأقلق بوجودك أبداً. ازدرد ريقه مُحافظاً على ابتسامته المُقتضبة، فلم تخفَ عنه تلك اللمعة الصادقة في مُقلتيها. أخرجه من شروده صوت سمير والبقية، فاستأذنت لتركب سيارتها مُغادرةً تحت أنظاره الوالهة التي لم يخطأها صديقه. انتبه على صوت عادل السائل وهو يطالع القصر: إذاً براء، هلّا أخبرتني مجدداً مالذي نفعله هنا؟
نظر إليه مجيباً بجدية: لنبحث مرة أخرى على أي دليل قد يوصلنا إلى القاتل الحقيقي. عقد حاجبيه بدهشة صائحاً: لكننا بحثنا كثيراً ولم نجد أي شئ. تحولت أنظار براء إلى القصر هاتفاً بشرود: لكنني مازلتُ على يقين أننا نغفل أمراً ما. ثم تحرك من فوره، بينما كان عادل يتبادل النظرات المستغربة مع سمير، ثم لحقه الجميع.
خرج يوسف من غرفتها بعد بحثٍ مطول لكنه لم يجد مايفيده، يكاد يفقد صوابه لعدم إيجاده تلك الحقيبة اللعينة، خاصة وقد هاتفه أحد المسؤولين صباحا ليخبره بأنه سيتم إغلاق قضيه عمار في الغد، أي أنه سيتم إيداع عليا في السجن قبيل تقديمها للمحاكمة، ومن هناك يستطيع إخراجها أو تهريبها بمعنى أصح لتساعده في البحث عن الحقيبة، لكن سؤاله الأهم الآن هو هل سيصبر المجلس عليه حتى يفعل كل هذا؟
كان يهبط الدرج بشرود قبل أن ينتبه على صوت براء في الأسفل، عقد حاجبيه بريبة ثم تابع هبوط الدرجات بسرعه ليصطدم بوجوده مع رفاقه في غرفه عمار وقد تولى كل منهما ركناً معيناً للبحث فيه، تلاقت أنظارهما ليتأملا بعضهما لثوان، تقدم نحوه بعيون متفحصه قبل أن يسأله باهتمام: مالأمر سيادة الضابط؟ هل حدث أمر ما؟
طالعه لثوان دون إجابة، لا يعرف لم يشعر بالريبة منه ومن تصرفاته، عيناه فيهما وميضٌ غريب لا يستطيع تفسيره، اقترب منه عدة خطوات قبل أن يسأله بغتةً: أخبرني مُجددا سيد يوسف، متى قدمت إلى لبنان؟ اهتزت ملامحه لثانية كانت كافية ليراها براء قبل أن يسيطر على انفعالاته، ازدرد ريقه بارتباك وهو يجيبه بجمود: لقد كنت موجودا هنا ساعة وصولي إلى هنا، فلمَ تسألني مجددا؟ ضيق عينيه وهو يجيبه ببرود: مجرد سؤال عادي.
سكت لثانية مُضيفا: لقد أخبرتني يومها بأنك حضرتَ بطائرتك الخاصة قادماً من تركيا، أليس كذلك؟ شدّ يوسف ظهره وقد بدأ يشعر بالقلق من أسئلته الغريبة، فأجاب باقتضاب: نعم بالفعل، باستطاعتك التأكد من خلال السجل المدني في المطار. أومأ براء بشرود وهو لا يشعر بالراحة نحوه بتاتاً، فباغته بسؤالٍ آخر: أخبرني سيد يوسف ماهو اسم والدك؟ ابتسامة ساخرة شقت ثغره مُردداً: هل اعتبر هذا تحقيقا سيادة الضابط؟
رمقه براء بتفحص جلي مجيباً: لا إنه مجرد سؤال عادي آخر. امال رأسه للجانب مضيفاً: ماأعرفه أن والدك لبناني الأصل، لكنني لم أعرف اسمه؟ ربت يوسف على كتفه وهو يتمتم بتهكم: إذاً يجب أن تبحث أكثر سيد براء. ثم استدار ليصعد إلى غرفته تاركاً براء وقد ومضت في ذهنه في ذهنه فكرة تبدو غريبة.
كان سمير يراقب ما يحدث بينهما باستغراب، فما إن ابتعد يوسف تقدم نحو صديقه ليهمس له: مالأمر براء؟ أرى أنك لا تشعر بالارتياح ناحية يوسف هذا؟ تطلع إليه براء بنظراتٍ خاوية، قبل أن يسأله: أتعلم ماهو اسم والد يوسف الحقيقي؟ ورغم غرابة سؤاله إلا أنه أجابه: بالطبع، اسمه سليم خاطر.
عقد حاجبيه اكثر بينما أضاف سمير: لكن يوسف هذا نُسِبَ إلى زوج والدته، لأن السلطات هناك رفضت بالاعتراف بزواج والديه لعدم اكتماله حينها. ظلّ للحظات يرمقه بتفكير، لمَ يشعر بأنه سمع باسم سليم خاطر من قبل؟ لحظاتٌ مرّت قبل أن يستدير نحوه بجسده مُتحدثاً: أخبرني سمير، انت كنت في قسم مكافحة التهريب على الحدود مع سوريا، أليس كذلك؟
أومأ له بالإيجاب ليسأل مجددا: إذاً فأنت تعرف الكثير من المهربين الذي تم القبض عليهم، صحيح؟ أومأ مجددا ليتحدث بريبة: إلى أين تريد الوصول براء؟ سكت لثانية قبل أن يأمره بالتالي: اذهب لمقابلة هؤلاء المهربين وارهم صورة ليوسف وأخبرني بالنتيجة. ظل سمير يطالعه بعدم فهم قبل أن يتحدث باستفهام: هل تشك في يوسف الآن؟ أشار له بالإيجاب مضيفاً: وأثق أيضاً بوجوده هنا ساعة حدوث الجريمه.
بدى الذهول واضحاً على وجه سمير الذي نطق هامساً: أتظنّ أنه دخل الى لبنان خلسةً ليرتكب جريمته ثم عاد إلى سوريا ومنها إلى تركيا؟ حرك رأسه موافقا ليضيف بثقة: تماماً، ومن ثم عاد ودخل إلى هنا بطائرته الخاصة ليوهمنا أنه وصل لتوه. رمش سمير عدة مرات شارداً فيما وصل إليه براء، قبل أن يستفيق على صوته آمرا: تحرك سمير بسرعة وأنبأني بما بما تصل إليه.
مذ وصلت إلى الشركة واستلامها مهامها الإدارية كان أولى قراراتها هو نقل ملك من قسم الشحن وتعيينها في منصب مساعدة لها. نفخت أميرة بضيق وهي ترمي قلمها على الطاولة الصغيرة أمامها، ثم فركت أعلى أنفها وهي تهمس بوهن: يكفي ملك ارجوك، لقد تعبت. ابتسمت ملك باحترام وهي تلملم الأوراق أمامها لتهمس بصوت خفيض: لا بأس آنسة أميرة، بإمكاننا المتابعة غدا إذا شئت.
تنهدت أميرة بخفة وهي تخبرها بقلة حيلة: لقد أخبرتك من قبل، ناديني أميرة فقط، . حافظت على ابتسامتها مجيبة: خارج الشركة نعم، لكن في العمل لا أستطيع، عليّ مناداتك بآنسة أميرة أحتراماً. ضغطت على شفتيها بتفهم ثم وضعت يدها أسفل خدها وسردها بملك وهي ترتب الأوراق لتسألها بغتة: اخبريني قليلاً عن عائلتك ملك؟
وضعت مابيدها ثم اعتدلت في جلستها لتقابلها قائلة: أبي مُدرسٌ مُتقاعد يعيش مع والدتي في قريتنا الصغيرة، وانا جئت إلى هنا مع أختي الكبرى مذ كنتُ أدرس في الجامعة، أي منذ خمس سنوات تقريبا، وبقيت هنا بعد تخرجي وقبولي في شركة والدك، وأزور عائلتي باستمرار في أيام العطلة. ابتسمت بحبور وهي تسألها مجددا: إذاً، فأنتِ تعيشين مع شقيقتكِ لوحدكما هنا؟
أشارت لها إيجابا لتكمل: نعم، شقيقتي مخطوبة الآن وستتزوج في نهاية الصيف. ساد الصمت للحظات قطعته ملك بسؤال: وانتِ؟ أليس لديكِ أي أشقاء؟ تنفست بعمق لتجيب بابتسامة جذلى: لا، والدتي توفيت أثناء ولادتي، وقد رفض أبي الزواج من بعدها. أشارت لها بإعجاب لتردف: إذاً، ألم يعرف المحققون شيئاً عن القاتل؟ اختفت ابتسامتها وهي تشير بالنفي، لتنتبه ملك إلى حزنها فهمست: ، أنا آسفة لم اقصد...
قاطعتها بإشارةٍ من يدها متحدثة: لا داعي لاعتذارك ملك أنتِ لم تخطأي. ضغطت ملك على شفتيها ندماً على تذكيرها بوالدها، ساد الصمت لثوان حتى أخبرتها أميرة بوجه متعب: دعينا نتابع بقية الأوراق..
قلبَ غرفة عمار ومكتبه رأساً على عقب ولم يجد أي شئٍ مريب، لكن مازال إحساسه بأنه أغفل شيئاً مهماً يتعاظم داخله، وقف أمام الغرفة يطالع الرواق الفارغ، عاد إليه ذاك الشعور بأنه مُراقب ولكن لا أحد سواه هنا، استدار يريد الدخول إلى الغرفة عندما استوقفه منظر تلك اللوحات المجاورة للباب.
لوحتان متماثلتان بالشكل ومختلفتان بالألوان، وقف يطالعهما بعينٍ متفحصة، أمال رأسه للجانب وهو يلمح ثقباً صغيراً في إحداهما، تقدم نحوها يدقق النظر في ذلك الثقب الصغير.
في أثناء ذلك كان يوسف قد أبدل ثيابه ونزل يريد الذهاب إلى الشركة لإحضار أميرة، فقد تمّ تجهيز كل شئ خاص بدفن جثة والدها بعد أن أفرج عنها القسم الجنائي، لكنه تجمد مكانه عندما لاحظ وقوف براء أمام باب غرفة عمار، توارى في إحدى الزوايا و ضيق عينيه بتركيز شديد مُراقباً لما يفعله براء. حضر عادل إلى براء ليخبره بأنهم قد انتهوا، ليلاحظ شروده في تلك اللوحة، عقد حاجبيه وهو يقترب منه متحدثا: مابكَ براء؟
لم يجبه بل امتدت يده ليمسك باللوحة بكلتا يديه ثم رفعها حتى أزالها عن الحائط. حبس يوسف أنفاسه وهو يظنّ أنّ خلف تلك اللوحة سيجد براء الحقيبة، ولكن ماوجده كان غير متوقعاً أبدا. ظهر خلف اللوحة ثقب كبير في الحائط وياللمفاجأة! كاميرا تسجيل مثبته فيه، اتسعت عينا يوسف وعادل بصدمة قوية مع اختلاف الدوافع، وابتسامة ماكرة شقت ثغر براء وهو ينظر إلى عادل يرمقه بانتصار قائلاً: والآن، لقد وجدنا الشئ المفقود.
فتح براء عيناه و هو يتنهد بتعب شديد، استمع لصفير طويل صدر عن جواد الذي قال مُبدياً إعجابه بذكائه؛ ياألهي براء، إنك خطرٌ للغاية! ابتسم بخفه وهو يفرك رقبته التي تشنجت من جراء الجلوس لساعات على وضعيةٍ واحدة. استقام من مكانه وهو يحدث جواد: لقد تعبت اليوم، دعنا نكمل غداً. وقف جواد قبالته وهو يربت على كتفه متحدثاً بدعم: طبعا كما تشاء، أذهب واسترح.
لم يعلم جواد أن براء كان يحاول الهرب من رؤية والده أو زينب، فقد خشيَ أن يعودا إلى المنزل في أيةِ لحظة، فيشاهدا وجهيهما المشوهان، لم يكن ليرغب بأن يرى نظرات الاتهام في أعينهما، فلا ذنب لجواد سوى أنه يحاول مساعدته، وياليتهم يعلمون أن ما من أحد في الكون يسعه مساعدته سواها. هي شفاء قلبه وبلسم روحه. هي وحدها. أميرة.