رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والعشرون
لم يكن يجب عليها أن تستهين بذكائه أبداً، فها هو قد عرف الاسم الذي يستخدمه أخطر شخص في المنظمة. حاولت ضبط انفعالاتها لتسأله بهمس مبحوح: أين سمعت بهذا الاسم؟ انفرجت زاوية فمه بابتسامة منتصرة وقد استطاع استدراجها ليسألها بثقة: إذا فأنت تعرفينه؟ أسرعت لتجيبه بصدر متهدج: لأنني أعرفه سأنصحك براء، لاتحاول البحث خلفه وإلا... قاطعها بسخرية: وإلا ماذا؟ سيقتلني كما قتل المدير؟
وبنبرة خطيرة أجابته: صدقني القتل سيكون أسهل مما قد يفعله بك. ثم أضافت بهمس خافت: انه خطير لدرجة لا تتصورها. ابتلعت ريقها ثم أردفت برجاء ممزوج بتهديد: ابقَ بعيدا لتحمي عائلتك.
جلست أميرة في الصالة برفقة ملك التي كانت تتفقد الأوراق لتتأكد من صحة الامضائات، لملمت الأوراق لتقف باحترام هاتفه: أشكرك على وقتك أنسه أميرة وأكرر اعتذاري لعدم حضوري يوم أمس. بادلتها أميرة بابتسامة جذابة مرددة: لا داعي للاعتذار أنسة ملك. همست ملك: أرجوك ناديني ملك فقط، فأنا لاأحبذ الرسميات. اتسعت ابتسامتها مردفة: وأنا أيضا أنفر منها.
أومأت ملك بالايجاب وهي تحمل حقيبتها عازمة على الخروج ليستوقفها صوت أميرة منادية باسمها بتردد: ملك، مارأيك لو تساعديني في فهم كيفية سير العمل في الشركة؟ التفتت ملك صوبها وهي تبتسم باتساع متحدثة: بالطبع انستي، فهذا من دواعي سروري. قاطعتها أميرة رافعة يدها أمام وجهها قائلة: أرجوك فقط أميرة فنحن متقاربتان في السن. ثم أضافت بنبرة ذات مغزى: أفضل أن نكون صديقتين أن لم تمانعي؟،؟
أشارت لها ملك موافقة وهي تمد يدها لتصافحها مجددا: طبعا لي الشرف بصداقتك، أميرة. بادلتها الاخيرة ببسمة بسيطة، ثم تحدثت وهي تخرج هاتفها من جيب سترتها الرياضية: هلا دونتي لي رقم هاتفك سمحت، لربما احتجت ﻹن أهاتفك؟
في هذه الأثناء خرج سمير من غرفة الأمن بعد انتهائه من التحقيق مع الحرس، متجها نحو القصر ليحادث الخدم، فوجد أميرة تقف بالقرب من المدخل الداخلي وكان معها فتاة ما لم يتبينها جيدا، اقترب منهما منادياً: أنسة أميرة أود أن أحادث الخدم لو سمحت؟ انتبهت ملك إلى نبرة صوته المميزة فاستدارت لتقابل وجه سمير هاتفة بدهشة: أنت؟ ولم يتوقع هو ان بصادفها هنا فهتف بها بتعجب: أنتِ؟ ماذا تفعلين هنا؟
وقفت أميرة تراقب كليهما قبل أن تسأل باستفسار: هل تعرفان بعضكما؟ شد ظهره لييجيبها وهو يبتسم بتسلية: الحقيقة لم نتعرف بشكل رسمي بعد. أشارت له أميرة بالأيجاب لترسم ابتسامة عادية على وجهها متحدثة: ملك هذا حضرة الضابط سمير يحقق في قضية قتل والدي. استدارت نحوه قائلة: حضرة الضابط هذه ملك وهي من موظفي شركة والدي. حركت ملك رأسها بتفهم قائلة: اذا فأنت ضابط شرطة.؟
ثم اضافت بابتسامة جانبية: هذا يفسر كيف وصلت الى عنوان منزلي! عقدت أميرة حاجبيها بعدم فهم، في حين أردف سمير وهو يضع يده في جيبه مبتسما بغرور: إن معرفة عنوان منزلك أمر سهل حتى إن لم أكن ضابطا انستي. . ابتسمت بمجاملة لتسأله وهي تعبث بحقيبتها: إذا سيد سمير، أرجو أن تخبرني كم دفعت في الورشة ثمن تصليح السيارة؟، عقد حاجبيه متحدثا: وهل هذا المكان المناسب لهكذا سؤال؟
طالعته بعدم فهم ليضيف: |أعني أنت هنا الآن في عمل وأنا أيضا. ثم اردف بنبرة ماكرة. لكنني قد أقبل بدعوة على الغداء، حينها ربما أخبرك.!؟ رفعت حاجبيها من وقاحة حديثه، لكنها اضطرت للقبول لتدفع له دينه، فتحدثت برسمية متعمدة: طبعا لامانع لدي سيد سمير. ثم أخرجت هاتفها لتعطيه له: هلا دونت لي رقمك لأخبرك عن المكان؟
ابتسم باتساع وهو يشير لها موافقا، تحت نظرات أميرة المتفحصه لكليهما وقد لاحظت في عيني سمير اعجابا واضحا لملك.
لو انها تعلم فقط كم المجهود الذي يبذله لئلا ينقض عليها فيفتك بها لما تجرأت على الحديث معه بهذه العنجهية! وضع براء أصبعه السبابة أسفل شفتيه يحركه برتابة وقد علم من كلامها أنها تعرف الكوبرا شخصيا. ضيق عينيه وانحنى بجذعه نحوها هامسا ببرود ساخر: تقصدين من تبقى من عائلتي، أليس كذلك؟ لم تجبه فأردف ببرود خطير: أخبريني من هو عليا واترك لي أمر حماية عائلتي.
حدجته بنظرة مغتاظة لتصيح به: لم أنت مصر على التضحية بنفسك لهذه الدرجه؟ من أجل من؟ أمن أجل شخص بقذارة عمار؟ قاطعها صارخا باهتياج: لقد حاول قتلي أمس. فغرت فاهها ورمشت عيناها بذهول وهي تحرك رأسها للجانبين بإنكار مرددةً: لا لم يفعل. ابتعد عنها متحدثا بحزم: من هو؟ ازدردت ريقها بارتباك لتجيب كاذبة: إنه رئيس عمار. ثم أصافت مسرعة بتبرير: لقد أخبرتك أنهم منظمة كبيرة.
ساد الصمت لفترة، وقد لاحظ توترها وتسارع انفاسها ليعلم أنها تراوغه فقط، ولن تجيبه بما يريد سماعه بهذه السهولة، أسند ظهره للخلف وهو يحدق فيها بجمود ويفكر في طريقة لدفعها للاعتراف بما يريد. أما عليا فقد شعرت باصراره على أذية نفسه خاصة أن الكوبرا لن يتوانى عن قتله أذا مااقترب براء من كشف هويته، فهمست له بضعف: أتوسل اليك براء، لأجل عائلتك، أترك هذه القضية.
قهقه بسخربة لثوان قبل أن يصمت فجأة ليطالعها بعينين تشتعلان كالجحيم هامساً بغل: أنت أخر من يتحدث عن حماية عائلتي سيده عليا. سكت لثانية ثم اضاف -أم أنك نسيتي ماذا فعلت؟ رمشت عيناه وقد استحالتا ظلاما دامسا وهو يردف بغضب: لقد خنتي ثقتنا ودمرتنا! صاحت به بعصبيه: أنا لم أفعل شيئا! ابتسم بمرار ولم يعقب فأضافت بحزم: حسنا، دعني أخبرك ببقية حكايتي لتعلم أنني لم أخن عائلتك قط.
تجهم وجهه وقد بدأت عليا بسرد باقي قصتها الشائكة.
مرت سبع سنوات على حياتها المعذبة مع عمار في سجنه الكبير، كان يأتيها فقط ليقضي وطره منها ثم يرحل ويتركها كأنها بائعة هوى رخيصة على حافة الطريق. أجهضت خلال تلك الفترة مرتين بسبب الضرب العنيف الذي كانت تناله كلما علم بأمر حملها، حتى حذرتها الطبيبة أنها اذا أجهضت الثالثة فلن تحمل بعدها أبدا.
أغمضت عينيها لتهرب دمعة ثائرة من خضراوتيها متحدثة: كنت انتظر الموت كل ليلة لكنه كان يأبى أن يأتي فيحررني من أسري حتى، صمتت لثانية لتفتح عينيها مجددا تطالع السقف مضيفة: حتى حملت بأميرة.
تنهدت بخفة ثم تابعت: عندما علمت بحملي خشيت على جنيني من بطش والده فلم أخبره بشئ حينها، حتى اقتربت ذكرى وفاة والدي فطلبت منه أن أزور قبريهما هنا، وقد وافق شرط أن يصحبني اثنان من حراسه المؤتمنين، لم أجادله بالطبع فقد كنت افكر في طريقة للهرب ماان أصل الى هنا.
تنفست بعمق مضيفة: حطت طائرتنا على أرض المطار وخرجتُ برفقة الرجلين معي، ولكن ولحسن حظي حصلت مشكلة ما مع احدهما فتأخر في الداخل، فجلست انتظر خروجه في صالة المطار مع الحارس الاخر.
Flash Back. جلست عليا على احد كراسي الانتظار في صالة المطار وهي تتلفت حولها، فارتأت أنها أفضل فرصة لها للهرب نظرا للازدحام الكبير، نظرت للرجل الاخر الذي بقي برفقتها لتخاطبه: اذهب وتفقد رفيقك عله يحتاج للمساعده. طالعها بريبة قائلا: لا أستطيع تركك وحدك.. مدّدت قدميها أمامها وهي تفركهما متحدثة بتعب مصطنع: لن أستطيع التحرك من مكاني فقدماي متشنجتان.
رفعت رأسها لتخبره بمكر: اسمع أنا جائعة، اذهب واحضر لي بعض الطعام. تلفت الرجل حوله ليرى كشكاً لبيع السندويشات على مقربة من مكانهما، فتحدث إليها بجمود: لن أتأخر. أومأت له بالإيجاب وهي تتصنع الوهن الشديد، فابتعد عنها عنها وهو يتلفتة نحوها كل ثانية ليتأكد بأنها لم تزل في مكانها. وصل إلى المحل فأملاه طلبه، ثم التفت نحوها مرة أخرى ليتأكد أنها لم تتحرك.
في هذه الأثناء كانت عليا تنتظر الفرصة المناسبة حتى حال بينها وبينه عربة التنظيف، تأكدت أنه ان يراها فقبضت على حقيبة يدها واستقامت لتركض بأقصى سرعتها لتخرج من المطار حتى أصبحت خارجه. لهثت وهي تبحث عن سيارة أجرة حتى وجدت واحدة استقلتها لتأمر سائقها بأن يتحرك بأقصى سرعته.
تلهى الحارس عنها لدقيقتين، وعندما التفت مجددا نحو مكانها لم يجدها، اتسعت عيناه بهلع وهو يركض إلى حيث كانت تجلس ليكتشف أنها لم تأخذ معها سوى حقيبة يدها، أما جواز سفرها وبطاقتها فقد كانتا بحوزته، فخمن أنها ربما في الحمام. هرول ليبحث عنها هناك لكنه لم يجدها، وبعد ربع ساعة كاملة من البحث تيقن من حقيقة وحيدة، أنها قد هربت!
كان السائق يثرثر بلا توقف، دامجاً العربية مع لغته الإنكليزية الضعيفة لظنه أن عليا سائحاً اجنبياً، خمن هذا من شعرها الأشقر وعينيها الخضراوين وهيئتها التي تشير إلى مدى ثرائها، فهي منذ أن ركبت معه لم تحدثه أبدا.
أشارت له لتوقف أمام إحدى المباني السكنية التي اختارتها عشوائيا، أخرجت من حقيبتها بعض المال أعطته له، ثم ولجت إلى المبنى وبقيت تنتظر حتى تأكدت من رحيله لتخرج مجددا وتستقل سيارة أخرى وامرته بأن يتجول بلا هدف. كانت تحتاج إلى بعض الوقت لترتب أفكارها، وتجد مكاناً لن يخطر على بال عمار لتأوي إليه.
من فرط المجهود البدني والنفسي الذي تعرضت له بدأت تشعر بالإعياء حتى غابت عن الوعي، مما أثار رعب السائق لينطلق بها نحو إحدى المستوصفات الطبية حيث كان يعمل الطبيب محمد عادل هناك. حملها السائق ودخل إلى المستوصف حيث اخذها منه الممرضون وادخلوها إلى غرفة الفحص.
عاد السائق إلى سيارته ليجد حقيبة عليا فيها، التمعت عيناه بطمع، فأمسك الحقيبة ليتفحصها فلم يجد فيها سوى بضع أوراق مالية ولا شئ أخر قد يساعد في معرفة هويتها، اخذ المال من الحقيبة ثم ألقاها بجانب مدخل المستوصف، أدار سيارته وفرَّ هارباً.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والعشرون
أنهى سمير عمله في قصر عمار، لكنه لم يحصل على الكثير من المعلومات التي قد تفيده، لذا قاد سيارته عائداً إلى القسم الجنائي، حين وصل هاتفه مؤمن ليخبره بمقتل مدير المستشفى وأيضا أخبره بدخوله إلى عليا. كان جالساً في مكتبه يُحلل المعلومات التي جمعها عن المدير عندما رن هاتفه برقمٍ غيرُ مسجل لديه، أجاب ليأتيه صوت ملك الناعم: كيف حالك سيادة الضابط؟
عقد حاجبيه بريبة وهو يتفحص الشاشة ليتأكد من الرقم، ثم وضعه على أذنه متحدثاً: آنسه ملك؟ هذا ليس رقم هاتفك، أليس كذلك؟ رفعت حاجبيها لتسأله بدهشة بائنة: وكيف علِمت أنه ليس رقم هاتفي؟ ابتسم بخفه وهو يجيبها بتسلية بدأت تعتادها: احقاً تسألينني هكذا سؤال؟ أغمضت عينيها بغيظ وقد فهمت، ليضيف بتبرير: ماأعرفه عنك أنك ذكية وستعرفين أنه من السهل أن أعلم رقم هاتفك.
زفرت بخفة وضيقت عينيها هاتفةً: إذاً فأنت تعرف بالطبع أين أعمل، أليس كذلك؟ لم يجبها فأردفت: لمَ إذاً ادّعيت أنك متفاجأٌ برؤيتي في قصر السيد عمار؟ ساد الصمت للحظات لم يجبها، حتى ظنت انه تم قطع الاتصال فنادت: الو، هل تسمعني حضرة الضابط؟ تنهد الآخر بخفه ليجيبها: نعم. ثم أضاف ببرود: إذاً، أين سنتناول طعام الغداء؟
رمشت عيناها وهي تستغرب تصرفاته، وكأنه قرأ أفكارها ليضيف بمكر: سأجيب على سؤالك بالطبع آنستي، عندما نلتقي. ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيب بصوت خفيض: نعم سيادة الضابط، حسنا احم، سأرسل إليك عنوان المطعم بالطبع، نلتقي عند الساعة الواحدة والنصف. - حسنا، إلى اللقاء إذن. أغلق الهاتف بكل برود ليتركها تستغرب تصرفاته، وضعت هاتف المكتب من يدها وهي ترمش بعينيها بدهشة، مالبثت أن تحولت دهشتها إلى الإبتسام من غرابته.
فتحت عليا عيناها لترى براء يطالعها بشك، انحنى بجذعه ليستند برسغيه على قدميه متحدثاً: إذاً فأنت لم تعرفي والدي من قبل؟ أشارت له بالسلب مُجيبةً: لا براء، لم أعرفه إلا يومها. تسارعت أنفاسه ليسألها بحدةٍ طفيفة: إذاً لمَ قلتما أنكما قريبان؟ تنهدت بخفة لتجيب بهمس: والدتك كانت تعلم أننا لسنا كذلك، لكنه اضطر أن يخبر سكان القرية أنني قريبته لئلا يثير الشكوك حولي.
أسندت ظهرها إلى الخلف لتغوص مجدداً في ذكريات حاولت دفنها مراراً.
Flash Back. استفاقت عليا لتجد نفسها في غرفة صغيرة ذات جدران بيضاء، وفي إحدى الزوايا كانت هناك نافذة صغيرة مفتوحة وستارة بيضاء شفافة تتراقص مع نسمات الهواء العليل. خفق قلبها بقوة مُعتقدةً أن عمار قد استطاع أن يصل إليها، لكنّ الطرقات المتتابعة على الباب أكدت لها خطأ مافكرت فيه، خاصة عندما فُتِحَ الباب ليطالعها وجه شاب وسيم ذو عينين سوداوين، يلبس رداءً أبيض خاصاً بالأطباء.
اقترب الشاب محمد عادل منها ليحدثها بنبرة مَرحة: صباح الخير أيتها السيدة النائمة. اتسعت عيناها بخوف هامسةً بتلعثم: صباح الخير؟هل نحن في الصباح؟ قهقه الطبيب بخفة وهو يتفقد كيس المُغذي المُعلق مردفا: لا، أنا أمزح معك فقط. ثم نظر إليها متحدثا: مااسمك؟ ازدردت ريقها بتوتر لبثت لثانية تفكر، لتجيب أخيرا: حياة، اسمي حياة.
ابتسم لها مُجاملاً وهو يخرج دفتراً صغيراً وقلماً ليدون شيئا ما مُضيفا: إذاً سيدة حياة، هلّا أخبرتني باسم زوجك؟ ارتجف جسدها بتلقائية وارتعشت شفتيها وهي ترمقه بشكّ، ضيقت عينيها وهي تتمتم: ماشأنك بزوجي حضرة الطبيب؟
بعد هروب عليا من المطار، خرج الرجل الآخر الذي كان برفقتها بعد أن أنهى معاملته وحلّ مشكلته ليتفاجأ بنبأ هروبها، فاضطر أن يهاتف عمار الذي انفجر بهما: أيها الحمقى! كيف تهرب منكما؟ ألم آمركما ألا تغيب عن أعينكما؟ حاول أحدهما الحديث لكنه صرخ بهما موبخاً: أخرس، لا أريد سماع أعذار وحجج واهية.
سكت لثوان حتى هدأت أنفاسه الثائرة ثم تحدث بهدوء خطر وغضبٍ مكتوم: اذهبا إلى مسقط رأسها وابحثا عنها هناك، عند معارفها او أصدقائها القدامى، وأنا في طريقي إليكما. أغلق الهاتف دون أن يسمع منهما وألقاه على الأرض صارخاً بغيظ، ثم صاح بذراعه الأيمن: سيمون، احجز لي للعودة إلى لبنان بسرعة. أشار له سيمون طائعاً وخرج، تاركاً عمار يحدث نفسه بوعيد: الويل لكِ مني عليا، قسماً لأجدنّك وحينها.
ضيق عينيه ليضيف وهو يصرُّ على أسنانه بغضب مُشيراً بسبابته: حينها حتى الموت لن يشفع لكِ عندي.
خشيت أن يكون على معرفةٍ بعمار خاصةً أنه أصبح مشهورا في هذه الأنحاء، فسألته بشك: وماشأنك بزوجي حضرة الطبيب؟ لم تهتز ابتسامته المُجاملة وهو يجيبها بتأنٍ: لا شأن لي به سيدتي، فقط أريد أن أعرف اسمه لأنجز الأوراق التي بحوزتي، فهي تخصك. تنفست بارتياحٍ جزئي وقد علمت أن سؤاله عادياً، أومأت له بتفهم لتهمس وهي تعتدل في جلستها: أريد الخروج من هنا لوسمحت؟
طالعها باستغراب وقد توقف عن الكتابه، سكت لثانية قبل أن يتحدث بتردد: الحقيقة سيدة حياة، السائق الذي أوصلك إلى هنا قام بسرقة محتوى حقيبتك ورماها بجوار باب المستوصف. ازدرد ريقه ليضيف بتمهل: حتى أننا لم نجد فيها ايّ أوراق ثبوتية لك. اتسعت عيناها بذهول وهي لا تصدق ماسمعت، لتتذكر لتوها أنها تركت جواز سفرها وبطاقتها في حوزة رجال عمار.
تلقائيا ادمعت عيناها وهي تفكر كيف ستقضي حياتها، بدون مال ولا منزل ولا حتى أوراق ثبوتية. سحب الطبيب محمد عادل الكرسي ليجلس قبالتها وأمسك بيدها يضغط عليه بدعم متحدثاً: مالأمر سيدتي؟ هل كان في الحقيبة شئ مهم لكِ؟ رفعت عينيها الدامعه نحوه وهي تشير له بالسلب، فهمس مُجدداً: إذاً هل تريدين هاتفا لتحادثي أحداً من عائلتك؟ أو ربما زوجك؟ ابتسم لها بصدق مردفا: سأساعدك لا تقلقي.
استشعرت الصدق في نبرة حديثه وفي لحظة تهور قررت اللجوء إليه، فهي بكلّ الأحوال وحيدةٌ الآن، ضغطت على شفتيها لتتحدث بعدها مُخبرةً إياه بكذبة مُختلقه: لقد توفي زوجي منذ فترةٍ قصيرة، وعائلته تخلت عني ولا تريد جنيني. رفع حاجبيه بدهشة، لكنه أشار لها بتفهم ثم أردف: حسناً، وعائلتك؟ أشارت له برأسها قائلة: لا عائلة لديّ، ولا منزلاً آوي إليه. أجهشت بالبكاء وهي تضيف: والآن لا مال ايضاً.
شعر بالشفقة نحوها فربت على كفها الذي حاوطه بيديه هامساً: هوني عليكِ سيدتي، . سكت لثوان فبدى كمن يفكر، ليضيف بتردد: ما رأيك لو أتيتي لتمكثي معنا ريثما توضبي أمورك؟ أو إذا أردت أن تمكثي معنا حتى تلدين وبعدها تستطيعين الاعتماد على نفسك، مارأيك؟ بدا لها هذا الحل الوحيد المُتاحُ الآن، لكنها لم تعلم أين ستسكن ومع مَن مِن عائلته، فهو تكلم بصيغة الجمع.
شعر بترددها فأضاف مُطمئناً إياها: انا أعيش في قريةٍ ليست بعيدة كثيرا عن هنا. طالعته بريبة ليضيف مبتسماً: لاتقلقي، لستُ وحيداً فأنا متزوج ولديّ ولدٌ بعمر الستّ سنوات، يُدعى براء. لم تكن بحاجةٍ لأن تُعيد التفكير مرتين، فهي لن تحصل على مثل هذا العرض السخي كلّ يوم، فوافقت دون تردد.
استطاع سيمون حجز مقعدٍ في رحلة عائدة إلى لبنان في اليوم التالي وأخبر سيده بذلك. تهيأ عمار صباحاً وأمر إحدى خادمات القصر أن توضب له حقيبة سفره، كان شغله الشاغل أن يجد عليا بأسرع ما يمكن، فقد شعر أنها طعنته في ظهره بهروبها هذا، وهذا مالن يسمح به إطلاقا. نزل من قصره ليجد سيمون يقف بجوار باب السيارة ينتظر قدومه، فتحدث إليه آمراً: سيمون أنت ابقَ هنا لتتابع تطورات الصفقة الأخيرة.
تحدث سيمون بجدية: سيدي، لاتنسى أن الوضع الآن غير آمنٍ خاصةً عليك، دعني أذهب معك لحمايتك. ربت عمار على كتفه وهو يتمتم: لا سيمون، يجب أن تبقى هنا، وأنا سآخذ معي عدداً إضافيا من الحراس. لم يكن أمام سيمون سوى الامتثال لأوامر سيده فأشار بالإيجاب، ثم أشار إلى عدد من الرجال لمرافقة عمار في طريقه إلى المطار.
كان موكبه مؤلفاً من ثلاث سيارات، أما سيارته فقد كانت في المنتصف، شعر بأمرٍ مُريب عندما كان ينظر من نافذة السيارة عندما لاحظ عدداً من السيارات تقتربُ منه بسرعة غير اعتيادية، وما إن وصلت إحداها الى جانب سيارته حتى فُتحت نوافذها ليظهر من خلفها رجلان ملثمان وأمطروا سيارته بوابلٍ من الرصاص.
لا أحد يعلم ماذا حدث بالتحديد، لكن عندما استفاق عمار اكتشف أنه في سيارته التي انقلبت عدة قبل أن تسقط في وادٍ كان - ولحسن حظه- غير عميق. حاول أن يصل إلى هاتفه ليصل إليه أخيراً بصعوبة بالغة، ليطلب رقم سيمون الذي أخبره أنه في طريقه إليه مع الإسعاف.
شعر بجسده كأنه قد انفصل إلى مئة قطعة، وتلك الآلام التي اجتاحته تركزت معظمها في منطقة حوضه، فرجح على الأغلب أنه قد أُصيبَ بعدة كسور فيه، بقي على تلك الحال لفترة لا يعلم مدتها حتى حضر سيمون مع طاقم الإسعاف، وتمّ نقل عمار إلى المستشفى، اما باقي الرجال الذين كانوا معه فقد أُعلنت وفاتهم جميعاً.
وصلت سيارة الاسعاف التي كانت تَقِلّ عمار إلى المشفى وتمّ تقديم الإسعافات المطلوبة له، ليخرج إليه الطبيب بعد قليل ليخبره بنبأ أليم، أنه لن يستطيع الإنجاب أبداً ولا حتى الزواج...
باتت عليا ليلتها في المستوصف تحت رعاية الطبيب الخلوق الذي عرض مساعدتها حتى دون التأكد من قصتها، لكنه فقط شعر بحاجتها للمساعدة فقدمها لها.
في اليوم التالي، تأهبت عليا لتخرج برفقة الطبيب محمد عادل، متجهان إلى قريته المتواضعة، لقد كانت قريته مشهورةً بكثرة الأشجار فيها، خاصةً أشجار الزيتون، كم كانت مسرورةً وهي تتأمل منظر الأشجار في القرية، وتراقب العمال الذين تجمعوا حول أحدى أشجار الزيتون الضخمه ليبدأوا في جمع المحصول منها.
لفت انتباهها طفلٌ صغير وجهه ينضح بالبراءة كان يقفز بين العمال بسعادة، انتبهت إلى الطبيب أنه أوقف سيارته بمحاذاة تلك الشجرة، ماإن ترجل منها حتى أقبل عليه ذاك الطفل مهرولاً وهو يصرخ بسعادة لتظهر غمازاته الآسرة. احتضن براء والده الذي لم يره منذ ثلاثة أيام لعمله في المستوصف، اما براء ووالدته فلم يكونا من هواة المدينة وازدحامها، بل كانا يُفضلان هدوء القرية ونسيمها العليل.
كانت عليا تراقب مُشاغبات محمد عادل مع والده، لاحظت سيدة ما فائقة الجمال من بعيد وهي تقترب منهما حتى وصلت إليهما، فاحتضنها الطبيب بحب، ثم قبلها على وجنتها، همس لها في أذنها أمراً ما فابتسمت وهي تنظر إلى عليا التي لم تزل جالسةً في السيارة، ثم لاحظت اقترابهم جميعاً منها.
زفرت بحرارة وهي تعود لحاضرها، فتحت عيناها لترى ملامح الأسى مُرتَسِمةً على وجه براء رغم محاولته كتمانها، فهمست: هل تذكر ذلك اليوم براء؟ بقي صامتاً دون إجابة، لكنها رأت إجابته واضحةً في سواد عينيه الذي ازداد قتامةً. ساد صمتٌ قاتلٌ بينهما، حتى قطعه براء متحدثاً بنبرة هادئة لكنها تحمل الازدراء والاشمئزاز: طبعاً أذكر ذاك اليوم، يوم أن آوينا في منزلنا أفعى ملساء قبيحة، سممت حياتنا ودمرت أحلامنا.
بقيت تطالعه بنظرات دامعة ممزوجةٍ بشفقة، ألقى كلماته تلك ثم انتصب واقفاً ينتوي الخروج، ماإن استدار ليرحل حتى أتاه صوتها متحدثةً بهمس: لا ترحل براء، يجب أن تعلم الحقيقة. لم يستدر نحوها بل أغمض عينيه بألم ليردف بنبرة ذات مغزى: أصبح الهواء ثقيلاً، دهناك أفعى تضخ سمومها هنا. ماان خطى خطوتين حتى صرخت به: لا ترحل براء، ابقَ لتسمع البقية، تلك السنوات الأربع التي عشتها معكم كانت أنقى سنوات حياتي.
لم يزل على وقفته مولياً إياها ظهره بينما تابعت هي بقهر: لقد اعتبرتُ والدتك صديقتي، أحببتها فعلاً وأحببتك أنت كولدي. استدار نحوها بغتةً ليقاطعها بصراخ: إياكِ، أنا لست كولدك. ابتسمت بمرارة مضيفةً: أنسيت؟ ألستَ من كنتَ تناديني ماما؟ ارتجفت شفتيه ليهمس بغلٍّ وهو يشير بسبابته: للأسف كنت مخدوعاً كوالديّ تماماً.
سكت لثانية ليسيطر على انفعالاته ويعود إلى بروده، حتى أتاه صوتها هامساً: صدقني براء، لم أرد أن أؤذيكم. ازدردت ريقها وهي تشعر بمرارته لتردف بدموعٍ صادقة: لو كنتُ أعلمُ أنه سيجدني لهربتُ حتى أحمي عائلتك من بطشه. ضيق عينيه وهو يقترب منها بخطوات ثابتة حتى وقف أمامها ليهمس: أنتِ من آذى عائلتي عليا، أنتِ. هزت رأسها بالنفي وهي تنظر في عمقِ عينيه مجيبةً بهمس مماثل: لا براء، لقد كانوا رجال عمار.
- تنفس بعمق ليضيف وأنفاسه تلفح وجهها: أليس أنتِ من أرسلهم إلينا؟ هزت رأسها مجددا وهي تهمس بضعف: لا صدقني، حتى أنه وجدني صدفةً. اعتدل في وقفته ليأخذ نفساً مُطولاً ليتحدث بثبات: تابعي. رفعت رأسها بكبرياء واضح لتقول بنبرة هادئة: اجلس براء أرجوك، يجب أن تسمع ماتبقى من قصتي بتروٍ. رمقها بنظرة استحقار ثم جلس على الكرسي مُكتفاً يديه ينتظرها لتتابع سرد حكايةٍ يعرفُ هو أغلب تفاصيلها، او هكذا كان يظن.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والعشرون
ولج سمير إلى المطعم الذي أخبرته عنه ملك قبل الموعد المحدد بقليل، انتقى إحدى الطاولات القابعة بجوار النافذة، ثم أمر النادل بإعداد قائمة طعامٍ خاصة، وجلس ينتظر قدومها بفارغ الصبر. ماهي إلا لحظات حتى دخلت ملك ببذلتها الرسمية ذات اللون الأصفر الشاحب، ابتسم بعذوبة وهو يراها تتقدم نحوه بوجهٍ جامد الملامح، استقام مُستقبلاً لتصافحه برسمية زائدة ثم جلست وهي ترفع رأسها بكبرياء واضح.
طالعها بحاجبٍ مرفوع و هو يجلس على كرسيه مُتحدثاً بتسلية: ما هذا الوجه الناشف آنسة ملك؟ ثم أضاف بنبرة ذات مغزى: حقيقة لن أتمكن من مضغِ الطعام بوجود وجه جامدٍ أمامي كما أنتي الآن. رمشت عيناها بذهولٍ من وقاحته، فبذلت مجهوداً مُضاعفاً للسيطرة على نبرة صوتها الذي خرج بحدة رغماً عنها: سيادة الضابط لو سمحت.
تنفست بعمق وهي تضيف بنبرة جافه مُتعمدة وهي تضغط على كل حرف: نحن هنا لسنا في موعدٍ غرامي، لقد طلبت مني دعوتك لتخبرني بكم أدينُ لك، فهلّا أخبرتني الآن كم دفعتَ ثمناً لتصليح السيارة؟ كان يستمع إليها دون أن تهتزّ ابتسامته، عقد يديه واضعاً إياها على الطاولة أمامه ليتحدّث ببرود غير عابئٍ بكلِّ ماقالت: إذاً آنسة ملك، حدّثيني قليلاً عنكِ؟
اتسعت عيناها بدهشة حقيقية بدى كما لو أنه لم يسمعها أساساً فظلّت للحظاتٍ تُطالعه بصدمة جادة، بينما هو يحدّق في عمقِ أنهار العسل خاصتها بثقة كبيرة، حتى قاطع تواصلهما البصريّ هذا قدوم النادل الذي بدأ برصِّ أطباق الطعام على المائدة أمامهما بخفةٍ وسرعة. نظرت إلى الطاولة أمامها ثم رفعت رأسها إليه، وللمرة الثانية تُطالعه بعيون مُتسعة دهشةً لتسأله بتعجب واضح: كيف...؟
لم تُكمل سؤالها عندما وصلتها إجابته على شكل ابتسامة عريضة، فقد كانت قائمة الطعام التي طلبها تحوي على أطباقها المفضلة. شعرت ملك بالقليل من الخوف منه، لكنها حاولت ألا تظهر هذا أمامه، بينما تناول سمير رغيف خبز ليعطيه لها مُتحدثاً: تفضلي. نظرت إليه بتردد فأضاف: هيا، شاركيني الطعام. ثم أردف بنبرة ذات مغزى: لكن أرجوكي ابتسمي قليلاً، أريد تناول الطعام بشهيةٍ مفتوحة.
ابتسمت بتحفظ لتندهش من استجابتها له كأنها روبوت، أخذت الرغيف منه لتسأله بابتسامةٍ مُقتضبة: هلّا أجبت على أسئلتي سيادة الضابط؟ تناول هو رغيفاً بدوره ليتحدث وهو يأخذ قطعةً صغيرة منه: طبعا سأجيبك آنسة ملك. ثم أضاف وهو يغمز لها بتسلية: ولكن بعد أن نتناول الطعام. ضغطت على شفتيها وأومأت بتفهم، ثم بدأت بتناول طعامها تحت نظراته الماكرة، سرعان مااندمجت في أطباقها متناسيةً وجوده أمامها من الأساس.
الغريب أنها لم تشعر بالخوف منه بل على العكس تماما، شعرت بأنها بأمان طالما هو جالسٌ أمامها.
ساد صمتٌ طويلٌ بينهما وهو بانتظار أن تتابع روايتها، على الرغم من الصراع الذي شبَّ داخله، شعور بالخوف تسلل إليه وهو يعلم أنه في صدد استرجاع ذكريات مريرة جاهد أن يمحوها من ذاكرته، ولكن للقدر رأيٌ آخر. بذل جُهداً مُضاعفاً ليسيطر على انفعالاته وغضبه الذي بدأ يفتك به بلا رحمة، وتلقائياً ماإن بدأت الحديث حتى تعاضد معها عقله الباطني ليرميه مرةً أخرى، وسط تلك الليلة المشؤومة.
Flash Back. منذ ثمانية عشر عاماً، كان براء يعيش حياةً مثاليةً يُحسدُ عليها، والدٌ عطوفٌ ناجحٌ في عمله، والدةٌ حنونه مُحبة مِعطاءة، وهو وحيدهما ومُدللهما. لم يكن ليتمنى أفضل من تلك الحياة، خاصةً بعد قدوم ( حياة ) إليهم وولادة الصغيرة التي أسماها هو( ياسمين) لرقتها التي شابهت زهرة الياسمين فعلاً.
عاشت حياة معهم أربعة اعوامٍ شعرت فيها بالألفة بينهم، فوالدة براء ( هيام ) كانت سيدةً حنونة وغير مُتكلفة إطلاقاً، ولدت حياة صغيرتها التي أسماها براء ياسمين وقد أعجبها ذاك الاسم كثيراً. لمْ تنسَ عمار ومافعله بها، لكنها كانت تنتوي أن تصبر حتى يشتدّ عود صغيرتها قليلاً لتُساعدها في الانتقام منه، لم تحاول التواصل مع أي شخصٍ له علاقةٌ بماضيها لئلا يصل إليها، فهي أكثر من يعلم بذكائه.
تعلقت بعائلة براء جداً، وبه هو على وجه التحديد فكان لايُفارقُ ياسمين ابداً، كان يشعر أنه مسؤولٌ عنها في كلّ خطوةٍ تخطوها، طلبت من والدة براء مُساعدتها في البحث عن منزلٍ لتستأجره وأصرت على الأمر رغم رفض هيام القاطع، فقد كانت حياة تريد أن تعتمد على نفسها وتعمل لتوفر لابنتها حياةً كريمة.
في النهاية خضعت هيام لطلبها، لتعطيها غرفة صغيرة مع مرافقها في كرم الزيتون القريب من منزلهم واخذت منها أجراً رمزياً نزولاً عند رغبتها.
ذات يومٍ، وبينما كانت حياة( عليا) تساعد عائلة براء في قطاف الزيتون حضرت مُراسلةُ قناةٍ محلية لتصور تقريراً عن موسم الزيتون في هذه القرية، اقتربت المراسله منها لتطلب إليها الحديث عن الزيتون وفوائده و كيف تتم التعامل معه بعد قطافه رغم رفضها الحديث معها في البداية وتهربها منها، إلا أن المراسلة واصلت إلحاحها حتى خضعت لها.
لم تكن عليا تعلم أن ظهورها على التلفاز في قناةٍ محلية سيقود عمار إليها، لاعتقادها أنه لن يشاهد هذه القناة وهنا في الشطر الآخر من الكرة الارضية.
لم تعلم أيضاً أنّه قد بثّ عيونه في أنحاء لبنان بأسره ليبحثوا عنها، خاصةً أنه استغرق ستة أشهر ليتعافى من كسوره وسنة كاملة أخرى مُتابعاً للعلاج الطبيعي ليستطيع المشي من جديد، ورغم أنّ الحادث كان من تدبير بعض أعدائه في عمله المشبوه ودأبه على الانتقام منهم، إلا أن هذا لم يُنسِه عليا وهروبها، وهو لايعرف بعد، أنها كانت حاملاً منه وقد أنجبت ابنةً له.
شاهد أحد جواسيسه التقرير المصور والذي ظهرت عليا فيه وعرفها على الفور، قام بإخبار عمار الذي أرسل سيمون وأمره بأن يقتل كلّ من يقف في طريقه المهم أن يجلبها إليه صاغرةً. كانت عائلة براء غافلةً تماماً عمّا ينتظرها.
حتى أتى يوم ميلاد براء التاسع، احتفلوا به في ظهيرة ذلك اليوم بحضور حياة وياسمين بعد عودة والده من عمله، وبعد تقسيم الكعكة رحلت حياة مع ابنتها إلى منزلها الصغير وبقي براء مع عائلته يُنجزُ فروضه المنزلية على أن يلحق بها ليحضر1 الصغيرة مساءً ليلعبا سوياً.
غابت شمسُ هذا اليوم، الشتاء في بدايته ونسائمٌ باردةٌ تُداعب أغصان أشجارِ الزيتون حول المنزل الصغير المتواضع، شعرت عليا بعدم الارتياح فاعتقدت أن شعورها هذا بسبب برودة الطقس، استقامت من الأريكة حيث كانت تجلسُ برفقةِ صغيرتها لتغلق النافذة، لاحظت ظلاً لم تتبينه جيداً يتحرك بين الاشجار اعتقدت بدايةً أنّه براء، لكنها شعرت بانقباضة في قلبها عندما رأت ظلاً آخر يتحرك بعيداً عنه بقليل.
أغلقت النافذة الزجاجية بسرعة، وبغريزةِ الوالدة حملت ابنتها ذات الثلاث سنوات لتضع عليها معطفها، اقتربت من الباب بحذر وهي تنظر للخارج من خلال نافذةٍ زجاجية صغيرة أعلاه فلم ترَ أحداً، نظرت إلى منزل عائلة براء الذي كان يبعدُ عنها مسافةَ مئة مترٍ تقريباً، طالعته بأمل عندما لاحظت حركةً خارجه. ازدردت ريقها بتوتر وهي تهمس لنفسها باطمئنان: لا تقلقي عليا، لا أحد هنا.
أخذت نفسا عميقا زفرته دفعة واحدة وهي تفتح الباب بحذر، ماكادت تخطو خطوة واحدة خارجه حتى انقضّ عليها أحدهم ليكمم فمها بيد ويحاصر جسدها بالأخرى. صرخت طفلتها فانقضّ عليها شخصٌ آخر ليكمم ثغرها الصغير وعليا تحاول مقاومتهم والصراخ لاعتقادها أنهم سارقين، هدأت حركاتها المُقاومة واتسعت عيناها بذهول وهي ترى وجه سيمون الذي لن تخطأه ابداً يظهر أمامها في الظلام.
كان براء الصغير يلبس حذائه و يتهيأ ليذهب إلى منزل عليا ليجلب الصغيرة ياسمين عندما لاحظ حركة مريبة حول منزلها، ثم سمع صوت صراخها اتبعه صمتٌ مفاجئ، فدخل إلى منزله لينادي على والده بلهفة: أبي، أبي، هناك صوت صراخ عند ماما حياة!
طالعه والده بعدم تصديق في البداية، لكنه قطب جبينه عندما لاحظ جديّة ولده بالحديث، تبادل مع زوجته نظراتٍ مُترددة ثم تمتم وهو يستقيم من مكانه قائلاً: ابقَ مع والدتك براء، وأنا سأذهب لأرى مالأمر. وصل الطبيب محمد عادل الى المنزل فلاحظ ان الأضواء مطفأة مما أثار ريبته. ليس من المعتاد أن تنام في هذا الوقت المبكر. اقترب من الباب ليطرقه صائحا: حياة. هل أنتي مستيقظة؟
لم يجبه أحد فزاد من طرقه على الباب مناديا: حياة هل أنتي هنا؟ حياة أجيبيني؟ لم يجد ردا فخشي أن مكروها قد أصابهما فعزم أمره وعاد أدراجه الى منزله ليجلب سلاحه تحسباً.
كان سيمون في الداخل مع خمساً من رجاله يكممون فم عليا وصغيرتها عندما حضر الطبيب وبدأ بالطرق على الباب مناديا باسم حياة. فخمن أنه خليلها خاصة مع وجود الصغيرة في أحضانها، وهو كسيده لا يعلم أنها كانت حاملاً من عمار. فنظر اليها باستحقار هامسا ؛ أهذا من فضلته على السيد عمار؟ فعلا أنك قذرة. لم تفهم لم قال هذا ولم تفكر أصلاً، بل كان جلّ همها ألا يمسوا الطبيب وعائلته بسوء!
استغل سيمون فرصة مغادرته ليخرجها من المنزل مع ابنتها وهما مقيدتان تاركا خلفه أربعة رجال ثم أمر قائدهم قائلا: لقنه درسا قاسيا ليتعلم ألا ينظر الى ممتلكات من هم أكبر منه. أشار له الرجل باحترام ولم يأبه بصراخها المكتوم، أخذها برفقة واحد من رجاله هاربا تحت جنح الظلام.
توقفت عليا عن الحديث فجأة عندما استقام براء مقاطعا اياها هامسا: يكفي هذا. استدار خارجا ليأتيه صراخها قبل أن يبلغ الباب: لقد حاولت حمايتكم أقسم براء، لكن لم تكن لدي القدرة لحماية نفسي حتى.. لم يلتفت نحوها بينما تابعت بضعف: لم أعرف ماذا فعلوا بعائلتك حتى أخبرني سيمون الحقير بهذا بعد عودتنا. - يكفي.
صرخ بها بغضب وهو يصرُّ على أسنانه حتى كادت تتهشم دون أن يلتفت اليها. فتح الباب ليخرج فاصطدم بمؤمن ونعيم اللذين استغربا من هيئته التي تبعث على القلق. خاصة أن عينيه كانتا محتقنتين وقد تلونتا بالأحمر الدامي. لم يأبه بهما بل تابع مسيره حتى وصل الى أحد أروقة المشفى الخالية. توقف هناك لثوان ليلتقط أنفاسه الهاربة استند على الحائط خلفه عله يهدأ. لكن هذا لم ينفع فاستدار ضارباً الحائط بقبضته صارخا بألم.
سمع مؤمن صراخه فهرول الى حيث يقف براء فوجده يضرب الحائط بقبضته حتى أدماها. اندهش مما رآه فأسرع صوبه ليهدأه فصاح باحترام: سيدي! التفت براء نحوه وهو يلهث بسرعة ويشعر أن أنفاسه قد تحرق من أمامه فصاح به وهو يضغط على فكه: عد مكانك مؤمن. لم يستوعب الأخير تلك الحالة التي سيطرت على سيده فأعاد براء صراخه بغضب حارق: أخبرتك أن تعود الى مكانك.
انتفض مؤمن بخوف ليعود من حيث جاء. تاركاً براء خلفه وهو يستند على الحائط ويلهث بعنف. مسترجعا ذلك اليوم المشؤوم.
عودة الى الوقت الحالي. أسند جواد كوب الماء الذي أحضره لبراء إلى الطاولة. طالع حاله الشارد في السقف ليسأله بحذر: مالذي حدث يومها براء؟ لم يحدث أي ردة فعل ولم يرمش حتى، فتابع جواد بهمس خافت ليحثه على الحديث: تابع براء. اذا كنت تريد أن ترتاح تابع ولا تتوقف. أعمض براء عينيه بألم وشد عليهما بقوة. ثم عاد بذاكرته عشرون عاما تقريبا.
Flash Back. عاد والد براء الى منزله ليجلب سلاحه. فقد خشي أن مكروها لحق بعليا وابنتها بعد أن طرق الباب لعدة مرات دون إجابة منها. وقد انتوى أن يخلع الباب اذا اضطره الأمر. وصل إلى منزلها ليتفاجأ ببابها مفتوحاً قليلا. كان الظلام يلف المكان عندما ولج إليه بحذر. لعن تحت أنفاسه لأنه نسي أن يجلب معه مصباحا ليرى خطواته. ماإن خطا داخلا حتى شعر بمن يضع شيئا قاسيا على ظهره فخمن أنه فوهة مسدس ما...