لأول مرة منذ ثلاث سنوات تقريباً تستطيع النوم دون بكاء وعويل أو تفكير زائد بالماضي والحاضر و المستقبل، لقد كان لشادية تأثير السحر عليها، فبمجرد أن استطاعت نطق اسمها الحقيقي عالياً بدت كأنها تجاوزت عقبةً كبيرة بالنسبة لها، صحيح أنّه مازال هناك الكثير من العقبات لكنها الآن متفائلة أكثر بأنها ستتجاوزها.
استيقظت هذا الصباح وهي تشعر ببعض الاختلاف وربما القليل من السعادة التي افتقدتها طويلاً، انتظرت قدوم شادية على أحرّ من الجمر وما إن رآتها عبر النافذة تتقدم نحو منزلها حتى جرت لتفتح لها الباب، طالعها وجه شادية المبتسم ببساطة، و بنظرات مترددة جعلت ابتسامتها السعيدة تتضائل حتى اختفت. هتفت شادية بابتسامة مقتضبة: صباح الخير. اجابتها بتردد: صباح الخير.
ظلت شادية تقف بالباب و تتطالعها بقليل من التردد، فأضافت أميرة بضعف مُنكسةً رأسها وهي تشعر بالخيبة: هل مللتي من سماع الحكاية؟ عقدت شادية حاجبيها باستغراب، سرعان مافهمت مقصدها فأردفت: طبعاً لا عزيزتي، ولكنني أودّ أن أدعوك إلى منزلي، وخشيت أن ترفضي. طالعتها أميرة باستغراب فأردفت شادية: لقد لاحظتُ أنك لم تخرجي من منزلكِ منذ قدومك إلى هنا، وأعتقد أن تغيير المكان سيساعدك أكثر على الحديث بأريحية.
بدى عليها التردد ثم أضافت شادية: ولا تقلقي، لقد أعطيت راشيل إجازة لهذا اليوم بمجرد أن تنهي عملها، فلن يبقى في منزلي سوانا. فكرت أميرة للحظات ربما شادية على حق، تغيير المكان سيكون فكرةً جميلة، أماءت لها بالإيجاب فابتسمت شادية بسعادة، غابت أميرة داخل المنزل لدقائق لتحضر الرواية وسترةً جلدية فاخرة، ثم أغلقت منزلها بالمفتاح واتجهت مع شادية إلى منزل الأخيرة.
لم يَزرِ النوم جفنيه طوال الليلة الماضية، حاول عدة مرات لكنه فشل، لم تكد تشرق شمس هذا اليوم حتى ارتدى معطفه، حمل مفاتيح سيارته ثم اتجه نحو منزل والده. هلعت زينب وهي تنظر إلى الساعة عندما استفاقت على قرع الجرس، لم تتجاوز الساعة السادسة والنصف صباحا، هرولت لتفتح الباب ليطالعها وجه براء الشاحب، شهقت بخفة وهي تضع يدها على وجنته قائلة بخوف: مابك براء؟ عزيزي لمِ وجهك متعبٌ هكذا؟
طبع قبلة على ظهر كفها وهو يبتسم ابتسامة فاترة مردفاً: لا شئ أمي، فقط أريد أن أُحدّث جواد. علمت زينب أنه لم ينم بسبب ذكرياته، ابتسمت له بهدوء وهي تومأ برأسها مضيفةً: بالطبع عزيزي، تعال ادخل سأوقظه لك. - ظهر جواد خلفها فجأة مُعقباً: لا داعي أمي، فأنا مستيقظ. نظر إلى براء الذي ابتسم معتذرا: انا آسف جواد أن كنت قد أيقظتك. ربت جواد على كتفه مردفاً: لا عليك براء، فأنا مستيقظ على كل حال، تعال.
مشى براء متجهاً نحو غرفة جواد الذي نظر إلى والدته قائلاً: أمي، هلّا أعددت لنا بعض القهوة رجاء. أماءت له زينب بالإيجاب وتوجهت نحو المطبخ وهي تنظر بحزن إلى براء، بينما أغلق جواد باب المنزل ثم اتجه إلى غرفته.
جلس براء على كرسي امام طاولة خشبية في غرفة جواد، كانت الطاولة قد امتلأت بالأوراق المتناثرة هنا وهناك، دلف جواد خلفه وهو يرمقه بتفحص، اتجه نحو سريره ليرتبه قليلاً قبل أن يسأل ذلك الجالس بوجوم: لم تستطع أن تنام، أليس كذلك؟ أشار برأسه نافيا، ثم أردف: لا، كلّما أغمضت عينيّ أرى وجهها أمامي، لذا أتيتك مُبكراً. ابتسم جواد وهو يجلس على السرير قائلا: لقد خمّنتُ ذلك أيضا، لذلك استفقتُ باكراً اليوم.
تناول هاتفه ليعبث به قليلاً، ودون أن يلحظ براء فتح برنامجا لتسجيل الحديث بينهما، ثم رمى الهاتف بلا مبالاة، كتّف يديه امام صدره قائلا: حسناً، متى أردت تحدّث. مرّت عدة لحظات حتى قدمت زينب وهي تحمل القهوة لتقدّمها إلى براء وجواد، ثم خرجت دون أن تضيف شيئا. وضع براء كوبه على الطاولة أمامه، شبك يديه ببعضهما ثم أسند رأسه للخلف، أغمض عينيه بألم ثم بدأ حديثه.
Flash Back. مرّت ساعةٌ كاملة وهما على ذات الحال، براء يبكي في حجر أبيه الذي شاركه البكاء، وقدْ تفجرت داخلهما ذكريات مريرة حاولا نسيانها كثيرا، ولكنّ للقدر رأي آخر. رفع رأسه دون أن ينظر إلى والده، كأنه شعر بالخجل منه، مسح دموعه بقوة ثم اعتدل في جلسته ليصبح ظهره مواجهاً لوالده المُقعد، قبل أن يأتيه سؤال أبيه بنبرة هادئة: مالذي ذكّركَ بها براء؟
أغمض عينيه بقوة وزفر بصوت مسموع، ثم أجابه ببرود مصطنع: لم أنسها أبدا أبي، لم تغبْ تلك المرأة عن ذهني أبداً. ثم فتح عيناه ليستدير برأسه نحو والده مضيفاً: لقدْ قابلتها. ظهرت المفاجأة واضحة على وجه أبيه، ازدرد ريقه بارتباك وهو يسأله: كيف؟ أين ومتى؟ اخذ براء نفساً عميقا زفره دفعةً واحدة مجيباً: إنني أُحقق في جريمة قتل، وهي متهمةً بمقتل رَبِّ عملها أبي.
توتر والده الذي ازدرد ريقه ليسأله بتقطع: و، وماذا عن،؟ ابتسم بتهكم وهو يقاطعه قائلا بألم واضح في نبرة صوته: أتقصد ياسمين؟ ابتلع ريقه بصعوبة وهو يتمتم: إنها معها، وقد قابلتها هي الأخرى. اشاح وجهه عنه متابعاً: تخيّل أنني لم أعرفها، بل لم أتعرف إلى كليهما معا، . أغمض عينيه مجدداً و هو يضغط عليهما بقوة، شعر بيد والده التي وضعها على كتفه، ليخبره قائلاً: دعِ القضية بني.
استدار نحوه من جديد، ليقطب حاجبيه باستنكار قائلاً: ادعُ القضية؟ لماذا؟ - أجابه والده وهو ينظر إلى عينيه مباشرة: لمصلحتكِ عزيزي. اشاح بوجهه بعيداً عنه بينما تابع أباه حديثه: براء عزيزي، لا أريدك أن تنتكس مجدداً ولا أريد أن أفقدك انت أيضاً. قاطعه براء وهو يقف ساخراً: كما فقدتَ والدتي قبلاً؟ أليس كذلك؟
بقي محمد عادل ينظر إليه بعتاب، بينما أضاف براء وهو يعتدل في وقفته مضيفاً بعزم: لا أبي، لن أعتذر عن القضية ولن أتركها، بل على العكس سأثأرُ لك ولي ولأمي، لن اتراجع ولن أتهاون. اكتسبت نبرته قسوة وهو يتابع قائلاً: لكن أولاً يجب أن أعرف لماذا ومن خلفها. ثمّ استدار خارجاً من المنزل كاملاً، غير آبهاً بنداءات والده المُتوسلة من خلفه، استقلّ سيارته متجها نحو المعمل الجنائي.
دلفت زينب إلى غرفة زوجها بعد مغادرة براء، لم تسأله بل اكتفت بالنظر إليه بإشفاق، فتحدّث زوجها بنبرة متحشرجة: لقد عاد إلى نقطة الصفر، سأفقده مجدداً. اقتربت زينب حتى ضمت زوجها إلى صدرها، وهي تغمض عيناها تقاوم تلك الدموع التي تهدد بالهطول وهي على يقين مما قاله.
دلف براء إلى غرفة مكتبه المخصصة، رفع هاتفه ليطلب عادل وسلاف، مرّت عدّة لحظات حتى دخلا كلاهما، رمقه عادل بنظرات مستغربة فسأله: مالذي حصل في المستشفى براء؟ نظر إليه براء ولم يجب، فأردف عادل: لقد أخبرني الطبيب أنك تسببت لها بذبحة صدرية أخرى كادت تودي بحياتها، لماذا؟ لم يجبه، بل تجاهل ماقاله تماماً عندما سأله ببرود: أين تسجيل الكاميرات؟ أريد أن أراه؟
رفع عادل حاجبيه بدهشة، تبادل مع سلاف النظرات المترددة فأعاد براء سؤاله بانفعال طفيف: أخبرتك أنني أريد رؤية التسجيلات، هلّا أحضرتها من فضلك؟ اماء له بالإيجاب وتحرك من فوره، عندما لاحظ أن صديقه يكتم غضبه حاليا ولا يعلم السبب. توجه براء بالسؤال التالي إلى سلاف: سلاف، أريدك أن تبحثي عن اسم عليا حدّاد في السجلات الرسمية، أريد أن أعرف كلّ شئ عنها مهما كان صغيراً.
أشارت سلاف بالموافقة وتحركت هي الأخرى، تاركةً براء يقف أمام النافذة الزجاجية وهو يحاول السيطرة على غضبه، يعلم إن فقد سيطرته سيذهب إليها ويقتلها دون تردد.
طرقات خفيفه على الباب أخرجته من تفكيره القاتل، استدار ليجد عادل قد حضر، وأحضر معه شاباً في العشرين من عمره يحمل في يده حاسوباً محمولاً، أشار عادل للشاب بأن يجلس ففعل، أشعل الحاسوب بينما تقدم براء نحوه حتى وقف خلفه وهو يطالع الشاشة أمامه بتركيز شديد. راجع التسجيلات منذ صباح يوم الجريمة، لم يجد أي شئ مريب، التسجيلات كلها عادية وأغلبها تصور الخدم وأعمالهم الروتينية، تسجيلات قليلة لعمار وأميرة.
تجمد عندما رأى صورها، شعر بالحنين إليها ولتوّه أدرك لما لازمه الشعور بالغرابه مذ رآهما أول مرة، كان يعتقد أنه يعرفهما ولم يكذب حدسه. اعتدل في جلسته ثم واجهه عادل قائلا: لا شئ مريب البتة، المدخل الرئيسي أُغلق بعد مُغادرة عليا وآمال، تبعتهما أميرة وصديقاتها، ولم يُفتح حتى عودة أميرة في الساعه الثانية صباحاً! لم يُجبه براء، بل دقق النظر في التسجيلات أمامه متحدثاً: لا، هناك أمر غريب.
لم يفهم عادل فأضاف: انظر جيداً، الكاميرات تُسجل المدخل الرئيسي والحديقة، والبهوّ ايضاً، لكنها لاتُسجل الممر بين المطبخ وغرفة عمار ولا غرفة مكتبه. رفع عادل حاجبيه بعدم فهم، رفع كتفيه مجيبا: لا داعي لهذا، فلا يوجد مدخل آخر إلى القصر إلا البوابة الرئيسية، والأسوار كما ترى عالية جداً، إضافةً إلى عدد رجال الأمن الهائل حول القصر.
رفع رأسه متفاجئا كمن تذكر أمرا هامّاً، قطّب جبينه وهو ينظر إلى عادل الذي طالعه باستغراب فسأله: مابكَ براء؟ - رمقه براء بنظرات غير مفهومة، اعتدل في وقفته ثم سأله بجدية: أخبرني عادل، كم عدد الرجال الذين استجوبتهم ليلة الجريمة؟ - رفع عادل كتفيه بلا مبالاة قائلا: أعتقد كان عددهم ثماني عشر رجلاً تقريبا، لمَ تسأل؟ - سأل مجددا: وهل كان من بينهم رجلٌ طويلٌ ضخمُ الجُثة وذو رأس أصلع؟
وقف عادل لثوان يتذكر، ثم حرك رأسه بالإنكار قائلاً: لا، لم يكن بينهم رجلٌ بهذه المواصفات. لم يحتَج لأكثر من هذا ليتيقن أن مرافق عمار الشخصي مفقود، ضيّق عينيه بتفكير لثانية قبل أن يضيف: اتبعني عادل، سنذهب إلى قصر عمار. لم ينتظر اكثر من هذا، بل سارع ليستقلّ سيارته، رغم بعض الخوف الذي اجتاحه بمجرد أن تذكر كيف سيراها من جديد؟
كانت أميرة في غرفتها تحاوطها صديقاتها اللاتي حاولن إخراجها من حالة الكآبة التي هي فيها، بينما دخل يوسف في هذه الأثناء وهو يبتسم بخبث، بعد أن أجرى اتصالاً هاتفياً بأحد المسؤولين رفيعي المستوى ليطلب إليه تنحيةَ براء عن القضية بحجةِ أنه كاد يودي بحياة مواطنة لبنانية لمجرّد شكّه فيها.
وقف بجوار الباب بعد أن استأذن من صديقاتها ليحدّثها، مرت أنجيلا بجواره وهي ترمقه بنظرات هائمة، فهي تعشقه منذ زمن طويل، لكنه لم يُعرها اهتمامه يوماً. أغلق الباب ثمّ استدار نحو أميرة يسألها: كيف حالك الآن أميرة؟ نظرت إليه بفتور لتجيبه بملل: حالي كما هو جو، أنا متعبة للغاية. اقترب منها أكثر وهو يرمقها بتفحص جليٍّ، جلس بجوارها ثمّ مدّ يده ليعبث بشعرها قائلاً بتسلية: مارأيك لو نخرج إلى مكان ما؟
طالعته بدهشة وهي تُبعد رأسها عنه لتقول: أخرج؟ هل تراني في حالة تسمح لي بالخروج؟ هزّ كتفيه بلا مبالاة قائلا: ومالذي يمنع خروجك؟ لا يجب أن تبقي مسجونةً بين جدران القصر، يجب أن تخرجي لتنسي. رفعت حاجبيها بدهشة بائنة وهي تتمتم: لمْ يمرّ على وفاة والدي سوى يومان جو، كيف لي أن أنسى؟ ومن ثمّ هناك مرض عليا وذلك الضابط ذو الدم الثقيل الذي يحتجزها في المشفى ولايسمح لأحد برؤيتها؟
ابتسم بخفه وهو يقول بنبرة ذات مغزى: لاتقلقي، ماهي إلا أيام قلائل وتعود عليا إلينا. لم تفهم مقصده، وقبل أن تسأله سحبها من يدها ليجبرها على الوقوف متجهاً نحو غرفة الملابس قائلاً: هيّا أيتها الكسولة، بدّلي ثيابك لنذهب ونستنشق هواءً نقياً بعيداً عن القصر.
لم يدع لها أية فرصة للرفض فلم يتوقف حتى أوقفها أمام المرأة، فتح الخزانة المجاورة وهو يزمّ فمه بتفكير، امتدت يده لتمسك بفستان رمادي اللون طويل بعض الشئ وذو أكمام تصل إلى ما قبل المرفقين، ناولها إياه وهو يتمتم آمراً: لديكِ خمس دقائق لتلبسيه، وإلا دخلتُ أنا وألبستكِ إياه.
رفعت حاجبيها بدهشة من حديثه، فأشاحت بوجهها بعيدا بخجل، ابتسم هو لنقائها ولمس خصلة من شعرها الكستنائي برقة لا تليق به، ثم خرج من غرفتها، نزل عدة درجات ثم أخرج هاتفه ليبعث رسالة إلى أحد رجاله، ليأمره بتنفيذ ماطلب منه فور مغادرته القصر مع أميرة.
في هذه الأثناء دلف براء إلى القصر برفقة عادل، سأل أحد رجال الأمن عن مرافق عمار الشخصي ليخبره بأن سيمون لم يحضر إلى القصر منذ الليلة التي سبقت الجريمة، والغريب أنّ لا أحد يعلم له مكاناً ولا عنواناً.
دلف إلى داخل القصر متجهاً نحو المطبخ، وقف على مدخله مُلاحظاً وجود ممرّ يتجه من المطبخ مباشرةً إلى غرفة عمار دون المرور في البهوّ الكبير، مشى داخل المطبخ حتى خرج إلى الحديقة، كان يطالع المكان حوله بتفحّصٍ شديد، لا شئ يثير الاهتمام في الحديقة، زهور الليلك منتشرة في كلّ مكان تقريبا، السور عالٍ يصعب تسلقه من الخارج، أشجار كثيفة اصطفت لتحاوط الحديقة، استدار ليعود أدراجه قبل أن يلحظ شيئاً ما بطرف عينه، تقدّم نحو إحدى الأشجار بحذر حتى وصل خلفها ا، لفت انتباهه وجود كومة من الأغصان اليابسة والحشائش في هذا المكان، أزاحها بيده وياللمفاجأة! بابٌ حديدي صغير، قد احتلّ الصدأ معظم أجزائه وقد اختفى خلف هذه الشجرة والأغصان اليابسة، ابتسم بمكرٍّ وقد وجد مدخل المجرم إلى القصر، فقد دخل من الباب ثمّ إلى المطبخ، ومنه إلى غرفة عمار فوراً دون أن تلتقطه كاميرات المراقبة أو رجال الأمن المنتشرين حول القصر.
تجمد الدم في عروقه، توقف قلبه عن النبض لثانية وهو يسمع صوتها الأنثوي يصدح من خلفه متسائلةً عمّا يفعله، التفت نحوها ببطء فإذا هي بطلّةٍ تخطِفُ الأنفاس بفستانها الرّمادي الذي تلائم مع لون بشرتها وشعرها الطويل لتبدو كأنها أميرةٌ حقيقية هربت من كتب الحكايات، طالعها بنظرات مختلفه هذه المرة، دمجت مابين الاشتياق والألم، غافلاً عن عينين تنطقان شرراً من مجرد تحديقه بها بهذه الطريقة.
تبعها يوسف حتى وقف خلفها، ثمّ حاوط خصرها بيده رغم انزعاجها، رمق براء بنظرات متفحصه مبتسماً بخبث، كأنه يوجه رسالةً ضمنيةً إلى براء بأنها ملكه وتخصّه هو وحده.
بقيا يتبادلان النظرات المُتحديّة لفترة لايعلمان مدتها، بينما هي تقف كالأصمّ بينهما، حاولت التملّص من ذراع يوسف والتي حاوطت خصرها بتملّك غريب، لكنها لم تنجح. لم يُغفل براء تلك الرسالة الضمنية، استجمع قواه ثم تقدّم بضع خطوات حتى وقف أمامها وهو يرفع كتفيه بكبرياء، طالعها بنظرات غير مفهومة لها، كاد أن يتكلم قبل أن يأتيه سؤال يوسف بنبرة شبه مُستهزئة: كيف لنا أن نساعدك سيادة الضابط؟
رفع براء أنظاره إليه وهو يطالعه بعين ضيّقة، أعاد نظره إليها مجددا وهو يقول بنبرة هادئة: هل لنا أن نتكلم آنسة أميرة؟ - ابتسم يوسف ليجيبه بتهكم: تفضل سيادتك، نحن نسمعك. لم يتزحزح نظره عنها وهو يضيف غير آبهاً بوجود يوسف: وحدنا؟
هزّت رأسها موافقة ثم تحررت من قيد يوسف متقدمةً إياه نحو مكتب والدها، بينما وقف يطالع براء بكراهية مطلقة، بادله براء بنظرات باردة ثم تحرك من أمامه ليتبعها، تاركاً الآخر يكوّر قبضته وهو يكزّ على أسنانه غيظاً، نظر إلى حيث كان براء واقفاً فلمح الباب الحديدي، ليتأكد من أن براء اقترب اكثر من كشف خيوط الحكاية، إذاً يجب الإسراع في التخلص منه قبل أن يشكل خطراً حقيقياً عليه.
جلست في مكتب والدها وهي مُنكسةٌ رأسها، وقف في المدخل وهو يرمقها باشتياق جليّ، ليحدّث نفسه: لقد كبرت ياسمينتي وأصبحت أميرة ً. رفعت أنظارها لتقابل عيناه الساهمة فيها، رفعت حاجبها باستغراب من هيئته فمالبث أن انتبه لنفسه، تنحنح بخشونه وأغلق الباب خلفه ثم تقدم حتى وقف أمامها، بقي صامتاً لعدة لحظات قبل أن يتمتم هامساً: أنا أعتذر عمّا حصل اليوم.
رفرفت بأهدابها وهي لا تصدق أنه يعتذر إليها، حمحمت وهي تعتدل في جلستها لتقول وهي ترمقه باستغراب: لا، لاتهتمّ سيادة الضابط. ثم أضافت بجدية: لكن هل لي أن أعرف سبب احتجازك لعليا وعدم سماحك لي بزيارتها؟ جلس قبالتها دون أن يفصل نظراتهما، ليقول بهدوء غير معتاد منه: لا تسأليني مالا أستطيع إجابته، على الأقل الآن.
بقيت ترمقه باستغراب، من يجلس أمامها الآن ليس ذاك نفسه من قابلته صباحاً، سألها وهو مازال على هدوئه: إلى أين كنت ذاهبةً في هذا الوقت المتأخر؟ عقدت حاجبيها بعدم فهم، أيسألها هكذا سؤال؟ حقا؟ تحرجت لتجيبه: ؛ لقد كنت سأخرج برفقة جو. - لم يعجبه ذكرها له، فسألها بحاجبٍ معقود: هل أنتما مخطوبان فعلاً؟ هل ضُرِب هذا الشخص على رأسه اليوم؟
كان هذا كلّ مافكرت فيه أميرة وهي تسمع أسئلته العجيبة، ضغطت على شفتيها قبل أن تجيبه بتهذيب: لا سيادة الضابط، نحن لسنا كذلك. ارتخت تعابير وجهه بسعادة، وإن لم يظهرها، فعاد يسألها من جديد: إذاً لمَ ادّعى يوسف هذا أنه خطيبكْ؟ رمشت عدة مرات وهي تحاول أن تستوعب ماخلف أسئلته تلك، ورغم استغرابها إلا أنها أجابت بصراحة: لإنه يُحبني! تمعّن النظر في عينيها ثمّ سأل مجددا بهمس: وأنتِ؟ هل تحبينه؟
ضيّقت عينيها ناظرةً إليه بتمعن، أنحنت بجذعها نحوه لتسأله باستغراب: لِمَ كلُّ هذه الأسئلة سيادة الضابط؟ لم يَحِدْ بنظره عنها وهو يجيبها بصدق: يهمني أن أعرف. - تسائلت بهمس: وبمَ يهمكَ ذلك؟ خشي أن يُفتضح أمره، فعاد إلى الخلف يرمقها بغموض، ثم قطع صمته مجيباً بكذب: من أجل التحقيق. رفعت حاجبيها بدهشة، فلم تتوقع هذه الإجابة، ما دخل التحقيق بسؤاله؟ ضغط على شفتيه قبل يهبّ واقفاً وهو يخبرها: لقد انتهيت.
وقفت قبالته وهي لاتستوعب ما يحدث، تقلباته كثيرة ومفاجئة، لتردف بدهشة بائنة: أهذا كلُّ شئ؟ أشار لها برأسه إيجابا ليضيف: فقط كنتُ أودّ الاعتذار عمّا بدر مني اليوم. لم تصدّق أذنيها، هو يعيد اعتذاره منها مرتين! حتماً هذا لشئٌ عُجاب! وجدت نفسها وبتلقائية تهتف بدهشة: واو! عقد حاجبيه بعدم فهم فأردفت بحرج: أقصد، لم أتوقع أن تعتذر!
أبتسم بخفة وهو يقول بنبرة ذات مغزى: يجب أن نعتذر عندما نُخطئ في حقّ من لا يستحق الخطأ، أليس كذلك؟ هزّت رأسها بالإيجاب دون وعي، ثمّ مدّ يده نحوها وقد اتسعت ابتسامته اكثر وهو يتمتم: إذاً، أصدقاء؟ رمشت بعينيها مرات عدة وهي تتأمل غمازتيه، امتدت يدها لتعانق كفه، فشعر بتيارٍ جارف من الأحاسيس والمشاعر المدفونة داخله، شدّد يده على كفها وهو يتنفس بعمق كأنه يخشى ضياعها من جديد.
اما هي، فقد تتضاعف داخلها شعورٌ بأن هذا الوجه ليس غريباً عليها، تلك الغمازتين وتلك الابتسامة الساحرة لقد رأتهما من قبل، لكنها لا تذكر أين بالضبط. علِمَ أنه أطال النظر في عينيها فخشي أن تفضحه عيناه، قطع اتصالهما البصري بعد أن استأذن ليخرج، تاركاً إياها شاردةً في محاولة تذكر أين رأت تلك العينان.
عقد جواد حاجبيه وهو يتأمل ملامح براء، ثم أردف مُتسائلاً باستغراب: وهل كنتَ تعرف أميرة منذ صغرها أيضاً؟ ابتسم براء بتهكم خفيف مُجيباً: لم أكن أعرفها فقط. فتح عيناه ليطالع السقف بنظرات دمجت مابين الاشتياق والألم: كانت أميرة تشارك قلبي في نبضاته وسكناته، كانت كالداء لي والدواء، وإلى اليوم هي كذلك! - زادت عقدة جواد وهو يضيف: وهي؟ ألم تكن تتذكر عنك شيئاً؟
تنهد بتعب وهو يغمض عينيه مجددا: لا، لا أظنّ هذا. قاطعهما طرقات خفيفه، فُتِحَ الباب بهدوء ثم أطلّت زينب من خلفه وهي تنظر إليهما لتهتف بابتسامة متسعه: هيا أيها الشابان ألستما جائعين؟ ابتسم براء بخفه وهو يمسح وجهه بيديه، بينما أردف جواد بمشاكسة: حسناً لولا أنكِ فتحتِ الباب لما انتبهتُ لعصافير معدتي التي تتقاتل داخلها. ثم أضاف وقد استنشق رائحة طعام جميلة من الخارج: ماذا حضرتي لطعام الإفطار أمي؟
ابتسمت زينب باقتضاب مُجيبةً: لقد صنعتُ بعض المُعجنات. رمقت براء بنظرة ذات مغزى وهي تضيف: بما أنّ براء سيشاركنا الطعام؟! نظر براء إليها، تلك السيدة الصابرة، لقد ساعدته كثيراً في تجاوز محنته وساعدت والده كذلك، ابتسم باقتضاب وهو يجيبها بصدق: طبعاً أمي، لقد اشتقتُ إلى معجناتك كثيراً، سنأتي على الفور.
اتسعت ابتسامتها السعيدة وهي تومأ له بالإيجاب، خرجت من فورها لتدلف إلى غرفة زوجها لتخبره برغبة براء مشاركتهم الإفطار، لأول مرة منذ سنوات خَلَتْ.
. أسندت شادية كوب العصير على الطاولة أمامها وهي تسألها: بمَ كنتي تفكرين حينها؟ عقدت أميرة حاجبيها وهي تجيب بتلقائية: لا أعلم بالضبط، أعتقد أنني لم أصدق حججه الواهية خلف تلك الأسئلة الغريبة، أقصد ماهمّه إن كنتُ أحبُّ يوسف أم لا؟ فهذا لا علاقة له بالتحقيق حينها! - زمّت شادية فمها بتفكير لثانية ثم أردفت: ألم تفكري في احتمال ان يكون قد أحبكِ؟
تنهدت أميرة بتعب وقد لاحت على شفتيها ابتسامة فاترة: حينها لم أضع في حُسباني هذا الاحتمال، فكرتُ في كلِّ شئ وأي شئ، إلا هذا الخيار. هزت شادية رأسها بتفهم وهي تضيف: حسناً، ماذا حدث بعد مغادرته؟ تنفست أميرة بعمق وهي تعود بأنظارها إلى الأوراق، لتتابع قصّ حكايتها على مسامع طبيبتها الجديدة.
Flash Back. خرجت من مكتب والدها الرّاحل بعد مغادرته بقليل، فاصطدمت بيوسف الذي كان يرمقها بنظرات نارية، كان عاقداً لحاجبيه وهو يسألها بانفعال طفيف: مالذي كان يريده منكِ هذا الضابط؟ شعرت بعدائيته غير المبررة نحو براء، كتفت يديها وهي تجيبه ببرود ساخر: لقد سألني بضعةَ أسئلة. - أردف بغضب: وما هو نوع هذه الأسئلة؟ ضيقت عينيها وهي تقترب منه أكثر لتسأله: وما شأنكَ أنت؟
رفع حاجبيه بدهشة ورمش بعينيه وهو يتأملها، مالبث أن عقد حاجبيه اكثر وهو يسألها بنبرة خطرة: أتسألينني أنا ماشأني؟ زفرت بملل وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه قائلة: أرجوك يوسف لا تعد إلى ذات النقطة وتخبرني أنكَ تحبني وما إلى ذلك، فأنت تعلمُ رأيي في هذا الأمر جيداً. كادت أن تتحرك من أمامه قبل أن يقبض على ذراعها مُعيداً إياها لتقف مجددا قبالته وهو يكزّ على أسنانه قائلاً: وما هو رأيك في حبي لكِ أميرة؟
عقدت حاجبيها بضيقٍ منه ولم تجبه، شدّد يده على ذراعها وهو يضيف: منذ سنواتٍ وانا اعترف لكِ أنني أحبكِ وانتِ ماذا فعلتِ ها؟ لم تقابليني إلا بالازدراء كأنني حثالةٌ ترينها على الطريق ولستُ صديقك المقرب!؟ نفضت يدها منه وهي تصرخ به: أنا لم ازدريكَ يوماً يوسف، انت من تحب أن تتظاهر بأنك شهيد الحبّ بينما أخبرتك مراراً بأنني لا أكنّ لكَ سوى مشاعر الأخوة.
ضغط على فكه بقوة حتى كادت تسمع صوت اصطكاك أسنانه ببعض، تدريجياً تحولت ملامحه الغاضبة إلى أخرى متوسلة وهو يضيف: لكنني أحبكِ أميرة! بهتت ملامحها وهي تسمع اعترافه مجدداً، هزت رأسها بيأس وهي تهمس له بضعف: أرجوك جو، لاتضغط عليّ أكثر، فأنا متعبة جداً.
انهمرت دموعها وقد دفنت وجهها بين كفيها وهي تجهش بالبكاء، لانت ملامحه ليقترب منها مُحاولاً احتضانها، لكنها رفضت وهي تدفعه بعيداً ثم ركضت نحو غرفتها، كوّر قبضته بانزعاج وهو يفكر في نفسه، مالذي حدث بينها وبين براء في تلك اللحظات القليلة جعلها في هذه الحال؟ تسارعت أنفاسه بغضب وهو يتوعّد براء بنهايةٍ آليمة إن تجرأ فقط واقترب من أميرته مجدداً.
تناول براء إفطاره مع عائلته، بشهيةٍ مفتوحةٍ هذه المرة، وقد لاحظت زينب هذا، لم تُخطأْ يوماً عندما أخبرته بضرورة أن يجلس مع أحد ما ليحكي له عمّا يختلج في قلبه وعقله من ذكريات جميلة وأخرى مريرة، أفضلُ من أن يكتمها داخله ويبقى منفيّاً داخل قوقعته.
بعد تناول الإفطار عرض جواد على شقيقه بأن يخرجا قليلاً، مشيا سوياً في الأزقة الضيقة في حارات بيروت القديمة، حتى وصلا إلى مقهىً قديم لكنه هادئٌ جدا ً، جلسا على طاولة ما ليطلبا كوبين من الشاي، بينما هما في انتظار قدوم طلبهما كان جواد يفكر في حيلةٍ ليسجل حديث براء دون علمه كما اعتاد، فاجأه براء عندما هتف بلا مبالاة وهو يتأمل الطريق الخالي تقريباً: تستطيع التسجيل على هاتفك جواد، كما فعلتَ صباحاً.
رفع جواد حاجبيه بصدمة، فسأله بدهشة بائنة في نبرته: هل كنتَ تعلمُ بأمرِ التسجيل صباحاً؟ ابتسم براء بتهكم وسحب نفساً عميقا زفره ببطء قبل أن يُجيبه: كنتُ أعلم في كلّ مرةٍ كنت تسجل بها جواد، لكنني اخترتُ التغاضي عن ذلك. رمقه جواد بإعجاب لثوان، ثم أضاف وهو يستند بجسده إلى الطاولة أمامه: حسناً لقد قلتها لك قبلاً وسأعيدها مجدداً، ذكاؤك فاق توقعاتي فعلاً.
اتسعت ابتسامته اكثر، حضر الصبي وأسند كوبي الشاي إلى الطاولة ووضع حولهما وعاءً فيه بعض السكر وملعقة صغيرة بجانب كل كوب ثم غادر بعد أن ابتسم لهما ببشاشة.
عاد براء برأسه إلى الخلف ليستندَ إلى حافة الكرسي الخشبي الذي يجلسُ عليه، أغمض عينيه ثم تنفس بعمق، مرّت ثوانٍ قليلة قبل أن يشرع في تتمة قصته: لم أستطع العودة إلى منزلي فعدتُ إلى مكتبي ولم أنمْ يومها ابداً، كلّما أغمضتُ عينيّ قفزت صورتها لتحتلّ خيالي، بقيت على هذه الحال حتى أشرقت شمس يوم جديد، هاتفتُ بسمة أتأكد من حالة عليا الصحية وإن كانت تسمح لها بالحديث، فأخبرتني بأنّ حالتها مستقرة.
Flash Back. أغلق براء الهاتف ثم استقام من مكانه حيث كان يستلقي على الأريكة المتواجدة في مكتبه، شعر ببعض الألم في جسده من أثر استلقائه الغير مريح لساعات طوال، وبينما هو يهمّ بالخروج من مكتبه صادفه عادل الذي تفاجأ بوجوده، ليعلمَ من هيئته أنه لم يغادر إلى منزله أبدا. تنحنح عادل ثم صاح به: عِمتَ صباحا صديقي، كنت سأهاتفك الآن. - أجابه براء باقتضاب: قل ما لديك عادل.
شعر عادل بجمود صديقه لكنه لم يُعقب، بل اقترب منه حاملاً في يده ورقةً ما وهو يتحدث: انظر لقد صدرت نتائجُ التحليل، وكما توقعتَ تماماً، عليا هي والدة أميرة الحقيقية. لم يبدُ عليه الاستغراب بتاتاً، بل بقي ينظر بجمود في حين تابع عادل: والبصمة الجزئية التي وجدتها على زر سترة الضحية كانت تَخُصها أيضاً. أردف براء ببرود: إذاً فهي القاتلة.
نظر إليه عادل مُضيفاً باستغراب: ولكن كيف؟ يستحيل هذا فهي لديها حجةُ غياب وشاهدة؟! ابتسم براء بتهكم وهو يربت على كتف عادل قائلاً بنبرة ذات مغزى: لاتستعجل عادل، سنعرف الحقيقة كاملة ولاتنسى، أنّ لا جريمة كاملة. هز عادل رأسه متفهما وفي هذه اللحظة انطلق رنين هاتفه معلناً عن ورود لتصال، عقد حاجبيه باستغراب وهو يرى رقم إحدى الجهات السيّادية، أجاب ليخبروه بما أطاح بعقله تماماً، لقد تمّتْ تنحيته عن القضية!
كان كالليث الحبيس يجول في مكتبه، رأسه يكاد ينفجر من كثرة التفكير، شدّ شعره بيده وهو يصرخ داخله غيظاً، في هذه الأثناء دخلت سلاف بعد أن استئذنت تحمل في يدها ملفاً ما، مدت يدها نحوه وهي تقول بتردد: سيدي هذا كل ما استطعت جمعه عن عليا. نظر لها بغموض لثوان قبل أن يردف بسخط وهو يشيح بوجهه عنها: وماشأني انا؟ ألم تعلمي بأنه تم إقصائي عن القضية؟
أسبلت سلاف يدها إلى الجانب وهي تهتف بحذر: سيدي، أمر الإقصاء مقصود. أدار وجهه ناحيتها كطلقة رصاص وهو عاقدٌ حاجبيه، بينما أضافت سلاف بحذر: منذ أن أخبرني عادل عن الأمر، هاتفتُ صديقة لي في مكتب مدير الجهاز، وقد أخبرتني أن هناك أسماء قيادية عُليا أمرت المدير بتنحيتك، وقد تمت تسميتك بالإسم. ضيق عينيه بتفكير، في حين أردفت سلاف: وقد علمتُ منها أن الأمر أتى بحجةِ أنك تشكل تهديداً على حياة بعض المُتهمين.
رفع رأسه متفاجئا كمن أدرك أمرا، نعم فالمقصود هنا هي عليا خاصة بعدما حصل بينهما أمس، تابعت سلاف حديثها وكأنها قرأت أفكاره: أعتقد أن حدسكَ أصاب هذه المرة أيضاً، فعلا يبدو أن عليا ليست وحيدة في هذه الجريمة. ثم وضعت الملف على الطاولة وهي تضيف بنبرة ذات مغزى: لم يتم بعد تعيين من سيأخذ مكانك في التحقيق، وإلى أن يتم اختيار شخص ما فأنت مازلت تمسك بزمام الأمور.
ألقت كلماتها تلك وغادرت بعد أن أضاءت لبراء ماكان غافلاً عنه، فعلاً فهو لم يزل ممسكاً بخيوط القضية كلها، عليا الآن مفصولة عن العالم الخارجي، رجاله ثقة وأيضا الممرضة من طرفه، إذاً لم تعلم بعد بآخر التطورات. نظر إلى الملف المُلقى على سطح الطاولة، سرعان ماحمله وخرج مسرعاً من مكتبه متجهاً إليها.
استفاقت أميرة صباحاً وهي تشعر برأسها يكاد ينفجر، فقد قضت ليلة أمس تبكي لوحدها بلا أنيس، خاصةً بعدما حدث بينها وبين يوسف، وزاد من تعاستها حينما أخبرتها صديقتها أنجلينا بأنها ستعود إلى بلدها اليوم برفقة صديقتها الأخرى، ودعتهن صباحاً وقد تكفل يوسف بإيصالهما إلى المطار بنفسه.
كانت تمشي في حديقة القصر وحيدةً، هذه المرة فعلاً تشعر بأنها وحيدة، دائماً ماكانت عليا تواسيها وتبقى إلى جانبها، ولكن أين عليا الآن؟
جلست على الأرض بالقرب من حوض الأزهار المسنود بجانب مدخل القصر الداخلي، بالرغم من منظر الأزهار الرائع المريح للعين والذي يبعث الطاقة الإيجابية في النفس، إلا أنها تشعر بالاختناق ولا تدري لمَ، ربما لفراق والدها أو ابتعاد عليا عنها وكذلك صديقاتها.
امتدت يدها نحو زهرة ليلك بيضاء، تلمستها برقة بالغة ورغم ذلك فقد سقطت في يدها إحدى البتلات من الزهرة، حملت الورقة بيدها وقربتها من وجهها وهي تتأملها، كم شعرت بأنها مثل هذه البتلة وحيدة لدرجة مرعبة.
قطع تأملها صوت خطوات خفيفة خلفها، انتفضت واقفة لترى فتاة بارعة الجمال ممشوقة القوام، ذات وجه قمحي وعيون عسلية وشعر اسود فحمي مرفوع على هيئة ذيل حصان، هيئتها عملية بحتة خاصة بتلك البدلة النسائية رمادية اللون. قطبت جبينها وهي تتأمل تلك الواقفة أمامها، امتدت يدُ الأخرى نحوها لتتحدث بابتسامة مهذبة: كيف حالك آنسة أميرة؟ انا ملك أعمل في شركة والدك السيد عمار.
لم تجبها بدايةً بل اكتفت بالتحديق إليها، ثم انتبهت إلى يدها الممدودة نحوها فبادلتها قائلةً بحرج: اهلا آنسة ملك. ثم عقدت حاجبيها وهي تضيف بحذر: لكني لا أذكر أننا تقابلنا من قبل؟ زادت ابتسامة ملك وهي تجيب: فعلاً آنستي، فأنا أعملُ في قسم الشحن في الشركة.
هزت أميرة رأسها بتفهم وابتسامة متكلفة ارتسمت على شفتيها بينما أضافت ملك: أتيتُ أُقدّمُ تعازيَّ الحارة بوفاة السيد عمار، إنها لصدمةٌ بالنسبة لي وجميع موظفيه. بهتت ملامحها وازدردت ريقها بحزن ثم أطرقت أرضاً، أما ملك فقد أضافت وهي تُخرج من حقيبتها عدة أوراق مرتبة في مصنف أزرق: هذه أوراق يجب أن يتمّ توقيعها، وبما أنك ابنة السيد عمار فأعتقد انك الوحيدة المُخوّلة لتوقيعها.
تناولت أميرة الأوراق منها، رمقتها بنظرة متفحصه كأنها تقرأوها إن كانت صديقة أو عدوةً، ثم أطرقت تنظر إلى الأوراق وهي تهتف بتردد: لكنني لاأعلم ماهيّة هذه الأوراق ولا كيف اوقعها؟ اتسعت ابتسامة ملك وهي تجيب: آنستي باستطاعتك استشارة محاميكِ أو شخصٍ ذو خبرة ودراية عالية، فهذه الأوراق تخصّ شحنةً خاصة ستصل إلى الميناء الأسبوع القادم، ولن نستطيع استلامها إن لم تُوقع هذه الأوراق، والآن إأذني لي.
ثمّ استدارت متجهةً نحو مدخل القصر، فهتفت أميرة خلفها بتردد: ولكن مهلاً، هل أنت راحلة؟ استدارت ملك نحوها مجدداً وهي تتمتم: آنستي يجدر بي العودة إلى عملي، فكما أخبرتكِ لقد قدمتُ لأقدم تعازيِّ ولأسلمكِ هذه الأوراق. اجابتها أميرة بحرجٍ طفيف: حسناً أشكركِ، ولكن كيف سأوصلها إليكِ بعد أن أدرسها وأوقعها؟ رمقتها ملك بنظرة سريعة وهي تقول: سأعود في الغد لأستلم الأوراق منك، هل هذا مناسب؟
أومأت برأسها إيجابا تاركةً ملك تغادر القصر بعد أن استأذنت من جديد، وقد شعرت أميرة بالراحة نحوها، أطرقت على الأوراق مجددا وهي تفكر فيما ستفعله بها، فهي لاخبرة لها في هذا المجال بعد، ولن تستعين بيوسف بعدما جرى بينهما أمس فقررت أن تهاتف محامي والدها علّه يساعدها وينصحها.
• وصل براء بعد وقت قليل إلى المستشفى، وهناك تأكد بنفسه من عدم تواصل عليا مع أيٍّ كان، لا أحد يدخل إليها الا برفقة بسمة التي لاتفارقها ابدا.
دخل إليها ليجدها ماتزال مُستلقيةً على سريرها وهي تُغمض عينيها وقد شحبَ وجهها، وصوت الجهاز الرتيب طغى على الصمت السائد، أشار إلى بسمة أن تخرج فأومأت دون حديث، مرّت ثوانٍ حتى شعرت بوجود شخص آخر غير بسمة في الغرفة معها، فتحت عينيها بتعب ثم رأته أمامها وقد كان يرمقها بنظرات دمجت مابين الغضب والكراهية المطلقه، اغمضت عينيها مجددا فابتسمت ضاحكةً بخفة في هذه اللحظة، فأتاها صوته الجامد: علامَ تضحكين؟
فتحت عينيها من جديد وهي ترمقه بإشفاق، هي فعلاً لاتعرف لمَ ابتسمت الآن، ربما بسبب مظهره المتعب، أو ربما بسبب تلك النظرات الكارهة والتي يصوبها نحوها، فأجابت بنبرة متعبة للغاية: لا أعلم، لكن هيئتك تبعث على الضحك.
تنفس بعمق ثم تقدم نحوها حتى جلس على الكرسي المقابل لها، رفع رأسه بكبرياء وهو يتحدث ببرود: دعكِ من هيئتي الآن وأخبربني، كيف وضعتِ حبوب المنوم لآمال وغادرتي لتنفذي جريمتكِ، ثم عدتِ إلى منزل آمال لتنامي فيه؟ رمقته بنظرة متفحصه وهي تشعر أنه كشف كل شئ، اشاحت بوجهها عنه وهي تجيب بلا مبالاة: بما أنك قد علمتَ كل شئ، فلا داعي إذاً لأن أخبرك أنا.
ضيق عينيه ثم اقترب بجذعه نحوها وهو يهمس بتهديد: للآسف لا خيار آخر أمامك، وإلا فإني سأضطر لأن أخبر أميرة بحقيقتكِ. استدارت نحوه كمن لُسع، بدت كمن نسي أمر ابنتها، أو ربما فقط لم تتوقع أن يهددها براء بها، رمشت بعينيها قبل أن تقول بصوت مرتجف: لا لن تفعل. ابتسم بمكر وقد عرف نقطة ضعفها، عاد بجذعه للخلف وهو يرمقها بتفحص قائلا بلا مبالاة: ولمَ لا؟ أولستِ والدتها الحقيقية؟وقد قتلتِ أباها؟
ابتلعت ريقها بوجل وهي تتمتم بخفوت: بلى انا والدتها، لكنّ أميرة رقيقة ولن تحتمل هذا الخبر! رفع حاجبه متحدثاً بانتصار: إذاً، أخبريني بكل ماأودّ معرفته، وإلا سأخبرها ولتأتي هي فتسألك. شعرت بأنه يحاصرها وقد وقعتْ فعلاً، ولكن لايهمّ هي المهم أميرة فقط، ازدردت ريقها بتوتر متسائلة بهدوء: مالذي تريد معرفته تماماً؟ كتف يديه أمام صدره متحدثا بمكر: كل شئ، كيف قتلتِ عمار ولماذا؟
ابتسمت بخفه وهي تهمس: سأخبركَ كيف فعلتها، أما لماذا؟ فتلك تحتاج لجلسةٍ مطولة.
رمقها باستغراب بينما هي تحاول الاعتدال في جلستها بصعوبة حتى استطاعت أن تجلس نصف جلسة وهي تستند إلى السرير خلفها، تنفست بعمق وهي تنظر إليه لتقول: إن آمال غبية وقد صدقت أنني أحببتها وأنها صديقتي، ظللت أقول أمامها أنه يجب أن أتعرف إليها أكثر ولكنني لا أستطيع ففي القصر يكون يومنا مليئاً بالأعمال والواجبات ولا تسنح لنا الفرصة، حتى دفعتها قبل ميلاد أميرة بيومين لأن تدعوني إلى منزلها، لكنني اقنعتها أن تؤجل الدعوة حتى يوم الحفلة وقد وافقت دون سؤال.
Flash Back. دلفت عليا إلى منزل آمال البسيط، تأملت أثاثه المتواضع المتواجد في الصالة الصغيرة، بينما خلعت آمال معطفها الصيفي الخفيف، ورمت مفاتيحها على الطاولة القريبة خلف الباب، فهتفت وهي تتجه نحو المطبخ: سأحضر بعض الشاي، مارأيك؟ ابتسمت عليا باقتضاب، بينما هي تتأمل المنزل لفت انتباهها عدم وجود أي ساعات جدارية في المنزل، ابتسمت بخبث فهذا سيخدمها اكثر مما تتوقع.
حضرت آمال بعد ثوان معدودة تحمل في يدها وعاء فيه كوبين من الشاي وبعض الكعك، جلست المرأتين فسألت عليا بحرج مصطنع: هلّا أعرتني هاتفك لأحادث أميرة؟ فقد نسيت هاتفي في المنزل؟ ابتسمت آمال ببشاشة وأخرجت هاتفها لتعطيه لها، ولحسن حظ عليا أن الهاتف لم يكن مغلقاً بكلمة سرّ، تظاهرت بأنها تتصل بأميرة ثم أغلقته بعد ثوانٍ متظاهرةً بأن الهاتف مغلق.
وضعته بالقرب منها ثم بدأت تسأل آمال عن حياتها وسبب وحدتها، لتخبرها الأخيرة بأنها ولدت في ميتم وقد تزوجت فيما بعد، لتكتشف إصابة زوجها بسرطان القولون في وقت متأخر جدا للعلاج، مالبث عدة أشهر حتى مات ولم يكن لها أي أطفال حينها.
تظاهرت عليا بالاستماع إليها حتى تأكدت من عدم انتباه آمال لمرور الوقت، اقترحت عليها بأن تحضرا كوبين من العصير فاستقامت كلتاهما متجهتان نحو المطبخ الصغير، ولم تنسى عليا أن تأخذ معها الهاتف الخاص بآمال.
حضرت آمال لها عصير الليمون المنعش، وقبل أن تجلس إلى طاولة المطبخ طلبت إليها عليا بأن تجلب لها دواءها الذي نسيته في حقيبتها في صالة الإستقبال، ماإن خرجت آمال من الغرفة حتى سارعت عليا في إخراج كوز ورقي صغير من جيبها يحوي بودرة بيضاء، أفرغت محتوياته في كأس آمال وحركته سريعاً حتى ذابت البودرة تماما.
اعتدلت في جلستها كأنها لم تفعل شيئا، دخلت آمال في هذا الوقت لتعطيها علبةً صغيرة، سألتها عن محتوياتها فأجابتها كاذبةً بأنها حبوب خاصة بألم المعدة. مرت لحظات حتى اقترحت عليا قائلة بخفوت: سأتصل بأميرة.
هزت آمال رأسها موافقة ثم استقامت من مكانها لتنظف الأكواب الزجاجية، بينما استغلت عليا الفرصة وعبثت بهاتف آمال قليلا، نظرت الى الشاشة فكانت تشير الى الساعة الثانية عشر تماما، عبثت بالجهاز قليلا ثم اصطنعت المفاجأة وهي تهتف خلف آمال: انظري آمال!لقد أصبحت الساعة الوحدة والنصف!
فتحت آمال عيناها على وسعهما باستغراب، رفعت عليا الهاتف أمامها لتتأكد مما قالته، وقد اجتاحها في هذا الوقت صداع شديد، ساعدتها عليا حتى استلقت في فراشها، لبثت قليلا حتى تأكدت من نومها.
تنهدت عليا بتعب بالغ وهي تتابع: بعد أن تأكدت من نوم آمال، سارعت بالخروج من منزلها واتجهت إلى القصر، وهناك دخلت بوساطة باب حديدي صغير قديم، لم يره أحدهم من قبل حتى عمار، كان يؤدي إلى الحديقة ثم إلى المطبخ، تأكدت أن جميع الخدم قد ناموا، ثم اتجهت نحو غرفة عمار وهناك...
سكتت لثوان وقد تشكلت الدموع في عينيها وهي تضيف بألم: هناك وجدته، كان ينتظرني، كان يعلم أنني سأقتله وفي هذا اليوم تحديدا ً، توجهت إلى مكتبته حيث يحتفظ بمسدسه الخاص بمكان سري، ثم قتلته. نظر إليها براء بغموض للحظات طوال، ثم قطع صمته متسائلاً: كيف عَلِمَ بأنك تنوين قتله؟ هل هددته قبلاً؟
ابتسمت بتهكم وهي تجيبه ساخرةً: لا لم اهدده، لكنه يعلم أنني سأثأر لنفسي ولأخي، تحولت نبرتها إلى الهمس وهي تضيف: وابنتي! سألها مجدداً بغموض: إذاً لمَ بكيتي بعدما قتلته؟ ظهرت المفاجأة واضحة على تقاسيمها من اكتشافه لأمر بكائها في حِجْرِ عمار، ازدردت ريقها بارتباك وهي تجيبه بتقطع: لقد، لقد نَدِمتُ بعد أن قتلته.
لم يصدقها في هذه الجزئية أبداً، ضيق عينيه أكثر وهو ينحني نحوها بجذعه ليهمس أمام وجهها مباشرةً: من شريكك في هذه الجريمة عليا؟ رفرفت بعينيها مرات عدة قبل أن تهمس: لا أحد، قتلته وحدي دون مساعدةٍ من أحد. حرك رأسه للجانبين إنكاراً وهو يقول بنبرة ذات مغزى ألقت الرعب داخلها: لا، لا أصدقك، انا متأكدٌ أن لكِ شريكاً وأعلمُ أيضاً لم تتسترين عليه.
عقدت حاجبيها بعدم فهم بينما أردف براء بنبرة خطيرة: انتي تخشين من أذيتهم لأميرة، لهذا لا تريدين الاعتراف والوشاية بهم، أليس كذلك؟ تسارعت أنفاسها باضطراب لتجيب بتوتر: لا، لقد أخبرتك كنتُ وحدي. عاد بجسده للخلف وهو يرمقها بعدم تصديق لما قالت، لم تكن وحدها هو متأكد من هذا الأمر جداً، تذكر أمرا ما فتحدّث دطوهو ينظر إلى عينيها مباشرةً: إذاً لم تكوني تعرفين بأنّ عمار لم يبقَ له سوى عدة أسابيع ليعيش؟
رفرفت بأهدابها وهي تنظر إليه بدهشة واضحة، بينما تابع براء بانتصار: نعم، لقد كان مريضاً باللوكيميا، ولم يتبقَ له سوى ستة أسابيع. أجفلت عينيها للأسفل وهي تبتلع ريقها بارتباك وقد تفاجأت فعلاً من هذا الخبر، ليتأكد براء داخله أنها لم تكن تعلم، فأردف بسخرية: يبدو أنه استطاع إخفاء مرضه ببراعة. لم تجبه، بل كانت شاردة فيما أخبرها لتوِّه كيف لم تنتبه لمرضه أبداً؟
بينما براء يراقبها باهتمام واضح، وقبل أن يتابع أسئلته رنّ هاتفه المحمول، تطلع إلى الشاشة ليجده هادل، اجاب وهو عاقدٌ حاجبيه، ليخبره بأنهم وجدوا جثة سيمون، مرافق عمار الشخصي وصندوقه الأسود!