رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والأربعون
لم تنشف دمعتها منذ غادرتها، كيف لها أن تكون قاسيةً عليها هكذا؟ كيف لها أن ترحل دون أن تستمع لجانبها من القصة؟ اكتفت فقط بسماع والدها ثم حكمت عليها بالإبتعاد عنها، هي روحها وهي نفسها، فبعد رحيلها ومقتل يوسف لم يعد لها وطراً في هذه الحياة.
غادرت نسمة المستشفى بسبب اتصالٍ طارئ من والدتها، أوصلها نعيم الذي كان يقف وحيداً على باب غرفة عليا، ولم يهتمّا كثيراً لتركها فعلى جميع الأحوال سيتم نقلها إلى سجن النساء بعد ساعاتٍ قليلة، وقد علمَ جميع من في المستشفى بالخبر فلم يعد هناك إمكانية لهروبها.
دلفت إليها إحدى الممرضات، لاحظت عليا ارتباكها وهي تقرأ التقرير اليومي لها فخمنت أنها جديدةٌ في مهنة التمريض، خطر ببالها خاطرٌ مهم فنادت عليها قبل أن تنهي القراءة: ياابنتي أريد أن أطلب منكِ طلباً صغيراً. اقتربت سلمى منها بابتسامة بشوش هاتفةً: نعم ياخالة اخبربني؟ ازدردت ريقها بوجل وهي تمسح دمعاتها لتسألها: هل لي أن أطلب إليكِ أن تحضري لي شطيرة خبز مدهونةً بزبدة الفول السوداني؟
بدى طلبها غريباً جداً خاصةً لسيدةٍ في وضعها، لاحظت عليا ترددها فتمتمت لتشجعها: أرجوك يابنتي، فكما تعلمين سيتمّ نقلي إلى السجن بعد ساعات، وهناك لن أحصل عليها بالسهل. همست سلمى تسألها بشكّ: ولمَ تريدينها أساساً؟ ابتسمت بخفة وهي تخبرها بنبرة حاولت جعلها صادقةً قدر الإمكان: إنني أحبها وقد منعها الضابط المسؤول عني، ليس لشيئ فقط ليُمعنَ في إذلالي.
ثم امتدت يدها نحو المظروف الورقي لترفعه أمام عينيها مُلقيةً بآخر أوراقها: وهذا المال كله لكِ إن جلبتها لي، أرجوك. فغر فاه سلمى وزاغت أنظارها بطمع عندما رأت المظروف، حاولت أن تختطفه من بين يديها إلا أن عليا كانت أسرع فأبعدته عنها قائلةً بجدية: احضري لي طلبي أولاً. ابتسمت سلمى باقتضاب وهي تحرك رأسها بإيجاب، ثم خرجت من الغرفة مُسرعةً، تاركةً عليا خلفها تشرد لتتذكر يوم مقتل عمار.
Flash Back.
ما إن تأكدت من أن آمال قد غطت في النوم، حتى خرجت مُسرعةً من منزلها الذي لم يكن يحتوي على أي كاميرات مراقبة، كان يوسف بانتظارها بعيداً عن المنزل بعدة أمتار، بعد أن تبعهما مذ خرجتا من القصر.
دلفت إلى السيارة وهي تلهث بخفة، ثم قاد يوسف السيارة متجهاً إلى قصر عمار، التفّ من الجانب الآخر حيث الباب الحديدي الصغير، همس لها وهو يوقف السيارة: أنتِ متأكدةٌ أن لا كاميرات ستلتقط دخولنا، أليس كذلك؟وهل تأكدتي من فتح الباب؟ أشارت له بالإيجاب هامسةً بدورها: نعم أنا متأكدة، لقد فتحته صباحاً ثمّ وضعت فوقه بعض الحشائش اليابسة لئلا يراه أحد.
هز رأسه ثم امتدت يده إلى صندوق السيارة ليخرج مسدسه فوضعت عليا يدها عليه قائلةً: لا، فلنستخدم مسدس عمار لتبدو أنها محاولة انتحار. قطب جبينه باستغراب ليقول: وهل تعلمين مكان مسدسه عليا؟ أشارت له بالإيجاب دون حديث، ثم ترجل كلاهما من السيارة، دلفا إلى المنزل من البوابة الصغيرة بهدوء ودون أن يصدرا أية أصوات، كانت الأضواء مٌطفأةً وجميع سكان القصر قد خلدوا إلى النوم.
خطت عليا بتمهل يتبعها يوسف، سارا عبر الممرّ الذي يفصل المطبخ عن صالة الإستقبال حيث لم يكن فيه كاميرات مراقبة، حتى وصلت إلى غرفة عمار.
تيبست مكانها وقد بدأت تشعر بالخوف مما هي مُقدمةٌ عليه، وضع يوسف يده على كتفها ليحثها على الحركة، فتحت الباب بهدوء مُعتقدين بأنهما سيجدانه نائماً، لكنهما تفاجأا بوجوده مُستيقظاً، مايزال مُرتدياً ملابسه الرسمية جالساً على كرسي من خشب الزان المتين، ويضع كلتا يديه على مسندي الكرسي كأنه كان بانتظارهما. رفع رأسه نحوهما بكبرياء، ثم ابتسم ببساطه هامساً: لقد كنتُ بانتظاركما.
تسارعت أنفاسها بهلع وهي تحدق فيه، إلا أن يوسف تحرك ليمشي نحوه، بينما كان عمار مركزا نظره على عليا، ثم تحدث: ادخلي عليا واغلقي الباب خلفك، فلا أضمن أن يستيقظ أحدهم فيراكِ. ماباله يتحدث بهذه الأريحية؟ وكمن قرأ أفكارها أضاف ساخراً: ليس وكأنك ستقتليني، أليس كذلك؟ وقف يوسف أمامه يتفحص تعابيره بدقه، فالتفت عمار نحوه عندما سأله بشك: أكنتَ تعلمُ بأن عليا ستقوم بقتلك؟ والليلة بالذات؟
تنفس بعمق وهو يدير رأسه ناحيتها متحدثاً: نعم، لقد علمت أنها ستقوم بقتلي. ثم التفت نحوه مجددا ليضيف: بمساعدتك أنت. ضيق عينيه وقبل أن يتحدث أردف عمار: أجل، فأنا أعلم انكما قد تعاضدتما معاً ضدي واعلم السبب أيضا، ولاآبه بهذا كثيرا صدقني. سكت لثانية ثم أشار نحو خزانة ثيابه المفتوحه متابعاً بجدية: مسدسي هناك ومعه كاتم الصوت، اجلبهما وأنهي الأمر بسرعة.
راوده الشك في جديته، لكنه اتجه صوب الخزانة ليتأكد فوجد المسدس بالفعل مع كاتم الصوت، لم يفكر مرتين فثأره لوالده الحقيقي يجب أن يتحقق والليلة، امتدت يده ليخرج من جيبه قفازاتٍ جلدية سوداء، ارتداها مسرعاً ثم حمل المسدس، واتجه نحو عمار يحدثه بتمهل وهو يوصل الكاتم مع المسدس: إذاً، فأنت تعلم أننا هنا لنثأر لوالدي، صحيح؟ أجابه عمار ببرود: نعم أعلم، وأودّ لو تعلما أنني آسفٌ على قتلي لسليم.
ثم أدار رأسه نحوها هامساً برقة لم تلقْ به ومازالت هي على وقفتها: وأودّ لو تعلمي عليا، بأنني نادمٌ على كلّ دمعةٍ ذرفتها عيناكِ بسببي، سامحيني أرجوك. ابتسم يوسف معقباً باستهزاء: الاعتذار للميت لن يعيده للحياة، عمار باشا. ثم أردف بجدية: أين الحقيبة؟
رفع عمار رأسه مخبراً إياه بتحدٍّ: لن أخبرك طبعا، وانا أعلم أنك اختطفت سيمون منذ الأمس لكن صدقني لن يخبرك بمكانها، وأنصحك أن تسرع ليتسنى لك الهرب قبل أن تعود أميرة مع صديقاتها من الخارج. نعم فعلا هو محقّ بجزئيته الأخيرة، لابأس سيبحث عن الحقيبة بتروٍّ وعلى مهل بعد أن يتخلص منه. استدار يوسف ناحية عليا ماداً يده بالمسدس نحوها آمراً: هيا عليا، يجب أن نقتله ونرحل بسرعه.
نظرت إليه تطالعه وكأنها لم تفهم مقصده، زفر بضيق وقد لمح التردد يعتري ملامحها، ليقول وهو يصرُّ على أسنانه بغضب: هيا عليا، لاوقت لدينا. همست له بخفوت وقد تحررت عبراتها: لن أستطيع. توقع أن تجبُنَ عمته عن التنفيذ، لذا لم يتردد وهو يتقدم ليضع المسدس على جبين عمار ويضغط عليه هامساً بغل: توسلني لئلا أقتلك. ابتسم عمار ببساطه وكأنه يحادث شخصاً آخر، فهمس مجيباً: لستُ أنا من يتوسل، أيها الكوبرا.
ضيق عينيه وقد بدا متفاجئا، أبعد المسدس عن رأسه ليسأله: كيف علمتَ أنني الكوبرا؟ تنهد بخفة ليخبره: حقاً لاتعلم؟ أولستَ أنتَ من غوى سيمون وحاول مراراً إقناعه بخيانتي؟ وكذلك قمت بضمه إلى مجموعتك لتضمن ولاءه لك؟ لقد أراني سيمون الوشم وأخبرني بكل شئ، سيمون كلبي الوفي ولن يغدر بي أبداً.
قال آخر كلماته بثقةٍ منقطعة النظير، تدفقت مشاعرٌ حانقةً لتغزو أوردة يوسف، يشعر أنه مهما ظنّ نفسه متقدماً على عمار سيظلّ سابقاً إياه بخطوة، رفع المسدس وقبل أن تلحظ عليا أي شئ أطلق رصاصته فاخترقت رأس عمار لتنثر دماؤه على الحائط خلفه.
انتفضت عليا على منظر الدماء، اتسعت عيناها وتسارعت أنفاسها بفزع، ركضت لتجثو على ركبتيها أمام جسده الذي غادرته الحياة، تأملته بعينين دامعتين ثم دفنت رأسها في أحضانه لتبكي حزناً عليه، رغم كلّ مافعله بها قديماً لكنه مايزال يحتفظ بمكانته ملكاً على قلبها.
زفر يوسف بضيق وهو يرى مشاعرها المُبتذلة من وجهة نظره، فمدّ يده ليرفعها عنه إجباراً، ثم صاح بها من بين أسنانه المُتلاحمة: يكفي عليا، تبكين عليه هو؟ أنسيتي مافعله بك وبوالدي؟
ارتجفت شفتيها وهي تسمع توبيخه فلم تجبه، انحنى ليضع المسدس في كف عمار وأغلق أصابعه عليه، أبتعد عنه ساحباً عليا خلفه خارجاً من الغرفة، لكنها تجمدت أمام الباب وهي تطالع منظر عمار، وقف يوسف أمامها متحدثاً بتبرير: لقد مات وقُضي الأمر، يجب أن أُعيدكِ الآن إلى منزل تلك السيدة لتنامي فيه.
حركت رأسها بالإيجاب وهي تمسح دموعها ثم أضاف بتحذير جاد: إياكي أن تدعي أحداً يشكّ بكِ عليا، أسمعتني؟ وإلا تدمرت خططنا جميعها. نظرت إليه وهي تشير له بالموافقة، ألقت نظرة أخيرة على جسد عمار ثم تنفست بعمق، تبعت يوسف ليخرجا من القصر كما دخلا دون أن يشعر بهما أحد، ثم عادت إلى منزل آمال وهي تقنع نفسها بأنها ثأرت لنفسها وأخيها، وأيضاً ابنتها.
عادت إلى واقعها مع دخول الممرضة سلمى إليها وهي تحمل في يدها كيساً صغيراً، لهثت بخفة وهي تشرح لها: لقد ذهبتُ إلى محلٍ قريب من المشفى لأحضر لك زبدة الفول السوداني، فلم أجدها في مطبخ المستشفى. وقد دفعتُ مبلغاً...
لم تنتبه عليا إلى باقي ثرثرتها حين تناولت منها الكيس لهفة، رأت قطعةً من الخبز المحمص مدهونة بالزبدة التي طلبتها، ابتسمت بخفة ثم رفعت المظروف لتعطيه لسلمى قاطعةً عليها حديثها غير المُجدي لتقول بسرعة: شكراً لك، هذا المال لك خذيه كله.
التمعت عينا سلمى بطمع وهي ترى رزمة كبيرة من المال، سال لعابها بجشع ثم سمعت عليا تضيف بتحذير: اخرجي الآن لكن عديني ألا تُحدثي أحداً بالأمر، وإلا ستكون العاقبة وخيمةً عليكِ.
أشارت لها بالإيجاب وابتسامة عريضة تشق ثغرها، أخفت المال في جيب سترتها البيضاء الطويلة وخرجت من الغرفة، لم تسأل نفسها أهناك من قد يُنفق مبلغاً كبيراً كهذا لأجل الحصول على وجبةٍ صغيرة من زبدة الفول السوداني، فبمجرد أن رأت المال لم يعد لأي شئ أهميةٌ في نظرها.
راقبتها عليا حتى خرجت، تناولت الخبزة لتخرجها من الكيس بلهفة، بدأت تتناولها بشراهة وهي تذرف عبراتٍ متتالية، ظلت تبكي حتى أنهت نصف الخبزة، ثم بدأت أعراض حساسيتها المفرطة ضد المكسرات تظهر تباعاً. باغتها الدوار فجأةً، ازدادت سرعة نبضاتها بشكلٍ مفرط، انقبضت مجاري الهواء لديها وتضخم عنقها بشكلٍ مخيف مما جعل تنفسها يصبح أكثر صعوبةً،.
وفي النهاية حصل معها صدمة حادة بسبب هبوط مفاجئ في الضغط، ماهي إلا ثوانٍ حتى فاضت روحها، وهي ماتزال تشهق بعبراتها.
جالسةٌ في صالة المطار بانتظار النداء لتصعد إلى طيارتها، وسيلةُ هروبها من هنا، صدح صوت المذياع أخيراً ينادي إلى ركاب الطائرة المتوجهة إلى كندا، زفرت بخفة ثم استقامت من مكانها، توجهت نحو الركن المخصص لتنجز أوراقها تصحبها حقيبة ملابس صغيرة وضبتها على عجل، إضافةً إلى أوراقها الضرورية.
توقفت سيارة سمير أمام المطار، ليفتح براء بابه حتى قبل أن تستقرَّ مكانها، ترجل سمير مسرعاً ليسند رفيقه الطائش الذي أصرّ على أن يأتي هو بنفسه إلى المطار ليحادث أميرة ويمنعها عن الرحيل، لقد نهره وعارضه بدايةً ورفض أن يسمح له بمغادرة المستشفى، لكن مشاعره الصادقة التي رآها في عينيه أرغمته على القبول.
قد ينهار صديقه لو غادرت دون أن يردعها، لذى استقلّ سيارته وطار به إلى، وها هو الآن يمشي بجانب صديقه ليدلف داخلاً، كان براء يمشي بصعوبة بالغة ومازال جسده منهكاً بسبب السم، لكن ألم قلبه طغى على كل ألم آخر. جال بعينيه في صالة الانتظار الكبيرة، ثم رفع أنظاره نحو شاشة العرض الكبيرة ليقرأ موعد الرحلة القادمة، لهث وهو ينادي سمير الواقف خلفه: ستغادر إلى كندا.
لم ينتظر أكثر، بل اندفع إلى ممرّ الخروج إلى الطائرة، اعترضه عناصر أمن المطار، ثم مالبث أن سمحوا له بالمرور عندما عرض سمير عليهم بطاقته الأمنية، ترك صديقه خلفه ليقنع أمن المطار بأنهم في مهمةٍ رسمية، ثم واصل مسيره ليدلف إلى الممر الطويل، شاهدها هناك، حاملةً حقيبتها الصغيرة وتسير وحيدةً في الممر، هتف يناديها بأنفاس متلاحقة: أميرة!
تجمدت قدماها عندما سمعت صوته، تلقائياً اغرورقت عيناها بالدموع وهي تجبر قدميها على التحرك، لتخطو خطوتان قبل أن يناديها مجدداً بنبرةٍ معذبة، أغمضت عيناها بجزع ياآلهي، إنه يبكي! سقطت عبراتها وهي تشعر به يتحرك خلفها ليصل إليها، لكن خطواته كانت بطيئة بسبب تعب جسده.
ظلت واقفةً مكانها وهي تشجع نفسها، هيا أميرة، لامفرّ من المواجهة، أخبريه بأنك راحلةٌ لأجله فاجتماعكما سوياً لهو بمثابة معجزةٍ لن تحصل، أقنعيه بأنه لن يستطيع أن يحيا وأنت أمامه لتذكريه بما اقترف والديك في حق عائلته، حتى لو أنه تناسى ذلك، فوجود والده المقعد سيذكركما بالأمر دائماً.
شعرت به خلفها، تنفست بعمق وهي تحضر دفاعاتها التي انهارت بمجرد أن استدارت لتقابل وجهه المُجهد، وعيناه اللتان تناجيانها بكل مايعتري قلبه من مشاعر صادقة بألا ترحل. همس لها وهو يلهث ويسند نفسه ليبقى واقفا بالإجبار: أميرة، لاترحلي. ارتجفت شفتاها دون أن تنطق بحرف فحنجرتها لم تطاوعها، لكن لا مناص من ذلك.
ياآلهي كم هذا صعب، أخفضت عينيها لتنظر إلى يدها التي تعبث بالحقيبة مرددةً: لا أستطيع براء، لاتصعب علي الأمر أكثر. سكتت لتتمالك أنفاسها الهاربة ثم تابعت بهمس: أرجوك، فحياتي أشبه ببركة رمالٍ متحركة، إن خطوت فيها ستغرق لا محالة. هتف يقاطعها بنبرةٍ اخترقت قلبها لتدميه: لماذا أميرة؟ أنا أحبك. ازدردت ريقها هامسةً بكذب وماتزال ناظرةً للأسفل: لمصلحة كلينا، صدقني.
شعر بعذابها هي الأخرى، لقد علم منذ البداية أنها رقيقة كأجنحة الفراشة، ستبتعد عنه لظنها بأنها تؤذيه، تمالك نفسه ليردد بنبرة مُلتاعه: هل ستعودين إليّ ذات يومٍ لتكوني لي؟ أغمضت عينيها لتذرف دمعةً سقطت رغماً عنها، لم تستطع أن تجيبه فلم ترغب بأن تكذب عليه، مُقتنعةً بكامل وعيها بأن الفراق أفضل لهما على حدٍّ سواء، سينساها وستنسى، وسيمضي كلاً منهما في طريقه ليبقى ذكرى جميلة للآخر.
هكذا ظنت، أو هذا ماكانت تأمله حقيقةً.. شعر بترددها وعلم ما يجول في خاطرها، فابتعد عنها خطوتين ليهمس لها: اذهبي أميرة، لكن تذكري بأنني أحببتكِ بكلِّ جوارحي، ارحلي حبيبتي مادام هذا يريحك. شدّدت على أجفانها تعتصرها بقسوة، ثم استدارت لتركض متابعةً طريقها دون أن تنظر إليه وقد علا صوت شهقاتها المقهورة.
راقبها براء حتى اختفت، ثم استدار عائداً بخذلانه إلى صديقه الذي كان ينتظره عند بداية الممر، طالعه سمير بتساؤل لم تنطقه شفاهه، فابتسم له بخفة وهو يتحدث ببساطة: أتعلم أن مُربي طيور الحمام يسمح لها بأن تطير طوال النهار خارجاً دون أن يقلق، أتعلم لماذا؟ قطب سمير جبينه دون أن يفهم مغزى حديثه، تنفس براء بعمق وهو يربت على كتفه هامساً: لإنه يعلم أنها ستعود إليه في نهاية المطاف.
شعر بأوجاعه تزداد فاستند عليه قائلاً بضعف: أخرجني من هنا صديقي، لقد تعبتُ. خرج من المطار وهو يستند على سمير بعجز، حتى وصل إلى السيارة، فتح الباب وقبل أن يستقرّ داخلها شاهد الطائرة وهي تقلع، وقف يشيعها بعينيه كأنه يودعها للمرة الأخيرة.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والأربعون
قلبت أميرة آخر صفحةٍ في حكايتها، رفعت أنظارها الدامعة إلى شادية التي كانت تراقبها بحرص، فتمتمت بابتسامة بلاستيكية: لقد كان وداعنا سهلاً للغاية، بسيطاً ومختصراً. همست شادية تسألها: كيف كان؟ ازدردت ريقها مجيبةً بشرود: ابتدأ بالدموع وانتهى بها، لكنه فهم مابينهما. صمتت لثوانٍ عدة وهي شاردةٌ في نقطة في الفراغ، ذرفت عبرةَ حزن ثم أضافت بنبرةٍ ضعيفة: أتعلمين ماهو الموت؟
- قطبت شادية جبينها بعدم فهم فأردفت: هو أن تقفي أمام من يهوى فؤادك، لتخبريه بكذبة أن الابتعاد هو لمصلحتكما، فيما لاتجرؤين على رفع رأسك أمامه لئلا يقرأ الحقيقة في عينيك. اختنقت في آخر كلماتها، غطت وجهها بيديها واجهشت بالبكاء المرير، مرت لحظات حتى هدأت أخيراً، ثم همست وهي تكفكف عبراتها: منذ أن أتيت إلى كندا لم أسافر، تنقلت مراتٍ كثيرة حتى قررت أن أشتري هذا المنزل لموقعه في حيٍّ هادئ.
سكتت لتتنفس بعمق ثم أردفت: استخدمت اسم ليلى ماهر، والدتي المفترضة في تعاملي مع الغرباء، خشيةً من أن ألتقي بشخصٍ يعرفه. تحدثت شادية: لكنك قمتي بنشر رواياتك تحت اسم بتلة الياسمين، لإنه هو من أعطاكِ هذا الاسم، أليس كذلك؟ ابتسمت بحزن تجيبها: نعم، هذا صحيح، أحياناً أتخيله وقد قرأ إحدى رواياتي، فينظر إليّ ويخبرني بأنها امتلكت الإحساس بالألم.
ساد الصمت من جديد، بقيت شادية تطالعها بمشاعر متخلطة، كم أحبت أميرة وأحبت وجودها أيضاً، لقد مرّ اكثر من شهرٍ منذ أن قابلتها، لكنها تشعر بأنها تعرفها منذ أعوام كثيرة. بدأت تلك النغزات المزعجة تضربها من جديد، لا تشعر بأنها على مايرام هذه الأيام، ربما لأنها باتت في آخر أيام حملها، وقد تأتي صغيرتها إلى هذا العالم بين ساعةٍ وأخرى، تنفست بعمق ثم تمتمت: سؤالٌ اخير.
انتبهت حواسها كلها معها فأضافت شادية: لمَ أسميتي روايتك هذه ( أشلاء )؟ تنهدت بتعب ثم بللت شفتيها لتجيبها: لأنني أشعر بأن قلبي أصبح عبارةً عن أشلاء متناثرة، لم أعد كما كنتُ أبداً شادية. ربتت على كفها المسنود فوق الرواية لتهمس: لاتهلكي نفسك بالتفكير عزيزتي، فما باتت نارٌ إلا وأصبحت رماداً.
ثم وقفت بصعوبة، تبعتها أميرة حتى باب المنزل وهي عاقدةٌ حاجبيها بعدم فهم من جملتها الأخيرة، فتحت لها الباب ثم قالت وهي تتفحص وجهها المتعب: تبدين مُتعبةً جدا، هل أساعدك في الوصول إلى منزلك؟ ابتسمت بخفة وهي تضع يدها على وجنتها مُرددةً: لاعليك أميرة، انا بخير. وقفت أميرة تراقبها وهي تمشي بتثاقلٍ عظيم، كم شعرت بالقلق عليها فهي تعلم أنها قد باتت في أيام حملها الأخيرة.
أغلقت الباب خلفها ودلفت إلى صالة استقبالها ترتبها، حملت أوراقها بين يديها وكلمات شادية الأخيرة مازال صداها يتردد في ذهنها: ماباتت نارٌ إلا وأصبحت رماداً.
استند براء على السور الخشبي لشرفته وهو يتأمل البحر أمامه، كم شعر بالاختلاف خلال الشهر الماضي بسبب حديثه الدائم مع جواد، شعر بأنّ أثقالاً عظيمة انزاحت عن عاتقه، فعلاً إنه مُمتنٌّ له. اقترب جواد منه وهو يرفع علبة سجائر أمام ناظريه، فهتف براء باستغراب: جواد، منذ متى وأنت تدخن؟ ابتسم الأول وهو يخرج سيجارة من العلبة ثم أشعلها، ليخبره: لا أدخن، لكنني آثرتُ أن نحتفل بطريقةٍ مختلفة هذا اليوم.
قطب جبينه بعدم فهم فأردف جواد بمرح: أقصد أننا أخيرا انتهينا من قصتك. ثم أضاف بضيقٍ مُصطنع: ولو أنني منزعجٌ منك ومن والدينا لإخفائكم أمورا كثيرة عني.
ابتسم براء بخفه وهو يمد يده ليأخذ سيجارة ثم أشعلها مرددا كأنه لم يسمعه: أتعلم، بعد أن تحسنت صحتي سلمني سمير الأوراق التي جلبتها أميرة مع القرص، كان فيها أسماء الكثير من المتورطين هنا وفي دول أخرى، سلمناها للإنتربول الذي قام بدوره وألقى القبض على بعضهم، بينما هرب البعض الآخر. أخذ نفسا مطولا من سيجارته، ثم نفث دخانها بتلذذ مُضيفاً: لقد تمّ تكريمنا أنا وسمير وعادل للجهود التي بذلناها في هذه القضية.
سكت للحظة قبل أن يضيف بهمس: لكنهم لا يعلمون كم خسرتُ في المقابل. طالعه جواد بتفحص ليسأله: أخبرني براء، أحقاً كنت متأكدا من عودتها إليك؟ رفع رأسه إلى السماء، أغمض عينيه هامساً: كما أنا مُتيقنٌ من أنني سأجدها يوماً. تفحصه جواد بعينيه، ياله من عاشقٍ جسور، رغم كلّ مامرّ به لم ينقص حبها في قلبه، بل ربما ازداد تجذراً وتأصلاً في ثنايا فؤاده المفطور.
ربت على كتفه هامسا بابتسامة: لا تجهد عقلك بالتفكير براء، إن كانت لك ستعود إليك في نهاية المطاف. أطفأ سيجارته على السور، ثم تحدث بمرح وهو يلقيها من الشرفة مردفاً: والآن اسمح لي أرجوك، يجب أن أذهب لمقابلة ليليا. استدار ليقابله مردداً: هل ستعترف لها الليلة؟
سحب جواد نفساً عميقا ليزفره مرة واحدة، ليجيبه بثقة: نعم وسأطلب يدها للزواج أيضاً، ولن تكون هناك خطبة طويلة، ماإن نوضب المنزل حتى نتزوج، شهر واحد يكفي. تمتم له بصدق: أتمنى لك التوفيق جواد، حقاً.
غادر جواد أخيراً ليترك براء على شرفته بصحبة صديقه الوفي، أخرج هاتفه من جيبه ليعبث به قليلاً، ثم ولج إلى حسابه على آحدى مواقع التواصل الاجتماعي( الفيسبوك ) ليخطّ كلماتٍ صدرت عن قلبه: (( إليكِ، اعتني بنفسكِ جيداً، ابتعدي عن كلّ مايؤذيك حتى لو كنت أنا، حافظي على قلبك من الألم والانكسار وتذكري: أنكِ تعنين لي الكثير)).
نشر ما قام بكتابته ليغلق الهاتف مجدداً، طالع البحر بقسماتٍ مرتخية هذه المرة، وكأن قلبه على يقينٍ بأنها ستقرؤها.
ليلةٌ هادئة تبعث على الارتياح، نسيمٌ باردٌ يداعب أغصان الشجرة القريبة من منزلها، ابتسمت بسعادة لاتعرف مصدرها، تطلعت إلى منزل شادية مازالت الأنوار مُشتعلةً فيه إذاً لم يناموا بعد، قطبت جبينها بقلق فهيئتها لم تكن مُريحة لكنها واصلت الإدعاء بأنها بخير، ربما لايجب عليها أن تكون قَلِقةً لهذه الدرجة فالمرأة حامل وهذا طبيعي في حالتها.
تذكرت لتوها صديقتها ملك، فهي الأخرى في أيامها الأخيرة من الحمل كما أخبرها محاميها في الشركة هناك، لقد مرّت فترة طويلة دون أن تحادثه، منذ أن أذعنت له وألغت فكرة بيع الشركة وتصفية كل أعمالها كما فعلت مع الأفرع الأخرى، حيث أوكلت محامياً أخر لتولي بيع جميع أفرع شركتها خارج لبنان. خطر ببالها سؤال، ترى هل أنجبت ملك أم لا؟ وإن كانت قد أنجبت فماذا أسمته؟ أو بالأحرى يجب أن تطرح سؤالاً ما جنسُ المولود؟
زمّت فمها بتفكيرٍ جدّي، كيف لها أن تصل إلى الخبر اليقين؟ الوقت متأخر في لبنان فلا تستطيع الاتصال بالمحامي وسؤاله، فلتنتظر حتى الصباح.
، سحبت الغطاء لتدثر نفسها لكنها انتفضت بقلق، لا لن تستطيع الانتظار، أمسكت هاتفها لتعبث به قليلا، ولجت إلى حساب ملك على موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك )، آخر ما نشرته كان معايدةً لوالدتها منذ أيام، شعرت بالقلق عليها فقررت البحث عن حساب سمير، وكم كان الأمر سهلاً فحسابيهما مرتبطان ببعضهما، لكنها صُدمت وهي ترى آخر منشورٍ قام بمشاركته.
قاومت عبراتها وهي تقرأ كلمات براء، والتي شاركها سمير على صفحته الشخصية، كانت الكلمات موجهةً إليها بلا شك، أغمضت عينيها بقوة لتحرر دمعة حزن، إلى متى سأبقى هكذا أبكي على الأطلال؟ ألم نتفق على أن ننسى لنعيش حياتنا ونمضي قُدُماً؟ صرخ قلبها لتتعاضد معه روحها، إلى متى؟
أصبح ينام بانتظام مؤخراً، ربما لأنه يجد في النوم سبيلاً لرؤيتها. استيقظ على صوت رنين هاتفه المزعج، إنها الواحدة بعد منتصف الليل، ترى من ذا الذي يتصل به في هذا الوقت؟ أشعل الضوء بجانب سريره، رفع هاتفه عن الطاولة الصغيرة ليرى المتصل، إنه سمير أصابه القلق فأجاب فوراً ليخبره الأخير بأن ملك على وشك الولادة وأنه متوترٌ بشدة، فلم يجد سواه ليتصل به ويقف معه في هذه المحنه.
لايعرف كيف ومتى أبدل ثيابه واستقلّ سيارته ليصل إلى المشفى حيث تلد ملك دون أن يقوم بحادث ما، وصل إلى الطابق المنشود ليتفاجأ بصراخها وقد ملأ الرواق، وسميرٌ يقف هناك في الزاوية وهو يبتهل إلى الله في جزع. حث خطاه نحو صديقه وماتزال صرخات ملك الغير مفهومة تصدح عاليا، لكنه استطاع تمييز مسباتٍ نابية ألقت بها زوجها.
لايعرف لمَ أغراه هذا الموقف بالضحك، ربما بسبب ألفاظ ملك المضحكة أو بسبب القلق الذي اعترى وجه صديقه. ربت على كتفه هامسا بابتسامة متسعه: هدّء من روعك سمير، ستخرج إليك بعد قليل وهي تضحك. همس سمير بتردد وهو ينظر إلى الباب العريض حيث اختفت ملك مع طبي: أنا قلقٌ للغاية براء، ترى هل ستكون بخير؟ اعتدل في وقفته واضعاً كلتا يديه في جيبه: أنا متأكد من أنهما سيكونان بخير كلاهما، فقط اهدأ.
نظر إليه سمير بامتنان قائلا: أشكرك لوقوفك بجانبي براء، أنا ممتنٌ لك فعلاً. ثم أضاف ساخطاً: أتعلم؟ لقد هاتفتُ النذل عادل لكنه لم يجب على اتصالي؟ قهقه براء بخفة ثم أردف ساخراً: لربما نسي هاتفه المحمول في كيس حفاضات ابنته شفق.
ابتسم الآخر رغماً عنه فيما أضاف براء بجدية: لاتتحامل عليه سمير، فهو أيضاً منذ أن ولدت سلاف ابنتهما شفق الشقية وهو يساعدها في تربيتها، خاصةً أن كلاهما مازال يعمل في السلك، أي أن وقته المتاح لرؤيتها والجلوس معها محدود جداً.
هز سمير رأسه متفهما قم مالبث أن اتسعت عيناه وتسارعت أنفاسه عندما خبى صوت صراخ ملك فجأة، ارتبك سمير بشدة وهو يستدير نحو الباب هامساً بخوف حقيقي: مالأمر براء؟ لمَ لمْ أعد اسمع صوتها؟ لاينكر براء أنه شعر بالريبة أيضاً لكنه حاول أن يهون على صديقه فوضع يده على كتف سمير مردداً بنبرة شابها القلق: اهدء سمير سيخرج أحدهم الآن ليطمأننا. كادت تتوقف نبضات قلبه فعلياً، قبل أن يسمع كلاهما صوت صراخ طفل ملأ الرواق.
غفت فوق أريكتها من التعب، لكنها الليلة تشعر بالاختلاف وكأنها تحيا من جديد، لقد رأته في حلمها كالعادة، لكن اليوم كان حلماً مختلفاً ويبعث الراحة في نفسها، رأته يتقدم نحوها حاملاً في يده زهرةَ ليلكٍ بيضاء ندية، وقف أمامها يتأمل قسماتها ثم نطق بنبرة ثابتة غير تلك المُعذبة التي كان يناديها بها في باقي أحلامها: اشتقتُ إليك. رفع بعدها الزهرة أمام عينيها لتأخذها منه وهي تتأمل وجهه.
استفاقت من حلمها على صوت طرقاتٍ خافتة على باب منزلها، عقدت حاجبيها باستغراب ثم نظرت من النافذة لترى إن كان النهار قد بزغ أم لا، لكنها انتفضت بقلق عندما لمحت سيارة الإسعاف تقف أمام منزل شادية، هرعت لتفتح الباب لراشيل التي هتفت تناديها باللغة الإنكليزية: آنسة أميرة أرجوك، بدلي ثيابك بسرعة فالسيدة شادية على وشك الولادة. لم تستوعب أميرة ماتحدثت به راشيل فأردفت: ولمَ تريدين مني أن أبدل ثيابي؟
تحدثت الأخرى بلهفة: السيدة شادية تصرّ على عدم الذهاب دونك، هيا أرجوك آنستي. رغم استغرابها الأمر لكنها أشارت لها بالإيجاب وتحركت من فورها داخلةً إلى منزلها وبدلت ثيابها على عجل، خرجت بعد دقيقتان لتغلق بابها واتجهت إلى منزل شادية بخطواتٍ راكضة سبقت بها راشيل.
وصلت إلى المنزل لتجد طاقم الإسعاف يخرجون الحامل الطبي بحذر وشادية فوقه، وقد بدت عليها علامات الإجهاد والتعب وتعرّق وجهها بشدة، ابتسمت بهدوء عندما رأت أميرة، وما إن استقرت داخل السيارة حتى مدّت يدها ناحيتها تشير لها بالصعود، نظرت الأخيرة إلى إحدى المُسعفات في الداخل تستأذنها فأشارت لها بعينيها.
صعدت إلى سيارة الإسعاف لتجلس بجانب شادية التي كانت تلهث بخفة وهي تنظر إليها مبتسمةً، ظلت طول الطريق تهمس لها بكلماتٍ مُطمأنه لتخفف عنها، رغم عدم خبرتها بما قد يُقال في هذه اللحظات المصيرية، وتمسح لها العرق البارد الغزير الذي تجمع على جبينها وتضغط على يديها بدعم، يتبعهم هاني برفقة راشيل بسيارته الخاصة، ومعهما حقيبة فيها مستلزمات الطفلة كافة.
وصلوا إلى المشفى أخيرا، أدخلوا شادية إلى قسم الولادة فوراً وبقيت أميرة برفقة راشيل في الرواق، فيما كان هاني يزدرع الرواق ذهاباً وإياباً وهو يشعر بالقلق تجاه زوجته وابنته.
ولدت ملك صبياً وسيماً، يحمل تقاطيع وجه والده السمراء، حمله سمير بسعادة لكنه كان يرتجف مع كلِّ حركةٍ تصدر عنه، أخبره الطبيب بأن يؤذن له في أذنه، نظر إلى براء بتردد ثم هتف: اسمع براء، مارأيك أن تؤذن له أنت؟
نظر براء إليه باستغراب، ولم يمهله سمير لاستيعاب الأمر بل ناوله الصبي فالتقطه منه بارتباكٍ عظيم، زال بمجرد أن تطلع إلى الصبي وتأمل ملامحه العربية، ابتسم بخفة ثم رفع الصبي بين يديه وأذن في أذنه. تحرك سمير ليجلس بجانب زوجته التي بدى عليها الإجهاد والتعب، قبلها على رأسها ليخبرها بأنه أخبر عائلتها شقيقتها وأنهم في الطريق إليها. ماإن انتهى براء من الأذان للصبي التفت نحوهما سائلاً: ماذا ستسميانه؟
التفت الزوجان إلى بعضهما ثم نطقت ملك بابتسامة صغيرة: سنسميه أمير. أصابه الجمود لثانية، ثم اتسعت ابتسامته وهو يوجه نظره إلى الصبي هامساً له برفق: أهلا وسهلا بقدومك إلى عالمنا، أمير.
لاحقاً حضرت عائلة ملك وأيضاً اجتمعت عائلة براء ترافقهم ليليا، وهناك أعلن جواد وليليا الخبر السعيد، سيتم زفافهما بعد شهرٍ من الآن.
وضعت شادية ابنتها ذات الملامح الجميلة والتي شابهت والدتها في معظمها، دخلت أميرة إليها مع هاني و راشيل، وبعد التهنئةِ والمباركة بسلامتها وسلامة الصغيرة، اتجهت راشيل حاملةً لثياب الطفلة معها لتلبسها في غرفةٍ خاصة.
كانت شادية ماتزال مُتعبةً وقد بان ذلك جليّاً على وحهها، ابتسمت بتعب لأميرة التي جلست بجانبها وهي تتأمل وجهها، همست لها بتردد وقد كانت على وشك البكاء فخرج صوتها مُتحشرجاً: هل تألمتِ كثيراً؟ لم تهتزّ ابتسامتها وهي تجيبها بخفوت: نعم، لقد تألمتُ كثيراً، بل وشعرت بأن روحي ستفيض بعد قليل.
عبست أميرة عندما سمعت مقالها، لكن الأخرى أردفت بنبرة ذات مغزى: لكنني ماإن سمعتُ صوت بكاء ابنتي حتى نسيتُ آلامي كلها وكأنها سحبتها مني لتواسيني. ابتسمت بخفة وهي تربت على كفها هامسةً: حمداً لله على سلامتكما سوياً. في هذه اللحظة دخلت راشيل وهي تدفع عربة الطفلة بعد أن ألبستها ثياباً ورديةً لائمت بشرتها الناعمة كأنه صُنع لها.
تحدثت عن قوة الصغيرة وهي تحملها لتضعها في حجر والدتها التي ابتسمت بسعادة وهي تقبلها على جبينها. حضر هاني هو الآخر بعد أن حادث الطبيبة خارجاً، اتجه إلى زوجته يقبلها على رأسها ويقبل صغيرته سألتهما راشيل بلغتها الإنكليزية: إذا، ماذا ستسميان الأميرة الصغيرة؟ ابتسمت شادية وهي تتأمل ملامح ابنتها الرقيقة، ثم رفعت انظارها لتقابل غابات أميرة، التي التمعت ماإن سمعت كلماتها: سأسميها براءة.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون والأخير
قررت أميرة أن تقضي الليلة بجوار شادية والصغيرة براءة، بعد عودة هاني إلى المنزل ليوصل راشيل أيضاً. وضعت الصغيرة في مهدها بعد أن أرضعتها والدتها، دثرتها جيداً ثم وقفت لثوان تتأملها بنظراتٍ شغوفة، تلك الصغيرة اسم على مسمى، كتلةٌ من البراءة والنقاء وقد اقتحمت قلبها لتسكنه دون سابق إنذار.
ابتسمت بخفة عندما تبسمت الصغيرة أثناء نومها، وللصدفة فقد كان لها غمازتان على جانبي خديها، تماماً كتلك التي يملكها براء. تنهدت بعمق ثم التفتت نحو شادية التي كانت تراقبها بحنان، تقدمت نحوها لتجلس بجانبها على السرير قائلة بحماس طفيف: أتعلمين؟ ابنتك تشبهك كثيراً. بادلتها شادية ابتسامةً سعيدة وهي تنظر إلى مهد صغيرتها بجوارها لتردف: أجل لقد لاحظت ذلك. ثم أضافت بنبرة ماكرة: لكن لديها غمازتان، هل لاحظتيهما؟
لم تتبدل تعابيرها السعيدة عندما اجابتها بثقة: نعم لقد رأيتهما. ثم أردفت بنبرة ذات مغزى: وهما شبيهتان بتلك التي يملكها براء بالمناسبة. هتفت شادية بتعجب وقد رفعت حاجبيها للأعلى: أرى أنك بدأتِ تقرأين الأفكار؟ اتسعت ابتسامتها ثم حركت رأسها بإيجاب مجيبةً بتسلية: من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم.. قهقت شادية بسعادة لتشاركها أميرة وهما تنظران نحو الصغيرة.
ساد الصمت للحظات قبل أن تنطق شادية بحذر: مالذي تنتوين فعله الآن أميرة؟ قطبت جبينها بعدم فهم لتعقب: لا أفهم مقصدك؟ تنفست شادية بعمق، ثم قررت أن تدفع أميرة لاتخاذ القرار الصائب لمتابعة حياتها، لذى قررت المخاطرة فتحدثت: لقد فهمتي قصدي جيداً. تجهم وجهها و قد فطنت لما تريده فنكست رأسها للأسفل، فيما أضافت الأولى بجدية: يجب أن تتخذي قرارك عزيزتي.
رفعت أنظارها الدامعة إليها لتجيبها بضعف: لقد اتخذت قراري منذ عامين شادية ونفذته بالفعل، أم تراكِ نسيتي؟ قاطعتها بنبرة قوية رافعةً كفها في وجهها: هذا ليس قراراً أبداً أميرة بل هروب، كيف لكِ أن تكوني ظالمةً ومستبدةً إلى هذه الدرجة؟
قاد براء سيارته ليوصل عائلته وليليا إلى منزلهم، بعد قضائهم اليوم بأكمله برفقة الأمير الصغير، كم كان براء سعيداً به خاصةً أنه حمل اسم حبيبته، ترى هل علمت أن صديقتها قد أنجبت أم أنها لم تسأل عنها أصلاً؟ أوقف السيارة أسفل البناء، ثم ترجل ليساعد والده على النزول منها يعاونه جواد، ثم دفعه الأخير متجهاً به نحو المصعد، حدثته زينب بتردد: ما رأيك لو أنك تدخل لتشرب معنا بعض الشاي؟
استدار ناحيتها لتتابع علّه يقبل عرضها: هناك بعض الكعك كنتُ قد أعددته صباحاً قبل أن نذهب إلى المستشفى. ثم أخفضت صوتها: ما رأيك بني؟ ابتسم لها بصدق وهو يشير لها بالإيجاب، ابتسمت بسعادة ثم استبقته إلى الداخل ليتبعها. دخل الجميع إلى المنزل، ثم توجهت زينب إلى المطبخ من فورها صائحة: سأصنع الشاي. صاح براء خلفها بودّ: لا أمي، بل أريد عشاءً لو سمحتِ؟
استدارت نحوه تنظر إليه بعدم تصديق لترى ابتسامته المُتسعة وهو يجلس إلى جانب والده، غمرتها السعادة لمرآه وقد بدأ يستعيد عافيته بحق، ثم دخلت إلى المطبخ تصحبها ليليا.
بعد انتهاء العشاء اقترح جواد أن يلعبوا الشطرنج كونه ذكياً في هذه اللعبة، أو هكذا كان يظن. فبمجرد أن ابتدأت اللعبه جلست زينب بجوار براء، فيما جلست ليليا بجانب خطيبها وكان الطبيب محمد عادل اقترح أن يبقى حكماً.
فوجئ جواد بأن براء بارعٌ في هذه اللعبة أكثر منه، تعالت أصواتهم المشاكسة حين يتهمه بالغش رغم يقينه أنه لم يفعل، ليعود براء ويتهمه بالمثل، فيما زينب وليليا تضحكان عليهما وهما يتبادلان الاتهامات بالغش، حتى صدح صوت والد براء غاضباً فأغلق اللعبة بغضب، ساد الصمت لثوان قبل أن ينفجر الخمسة بالضحك السعيد.
كم كان براء سعيداً بعودته إلى عائلته وهو يستطيع أن يبتسم ويضحك، كأن قلبه يُنبأه بخبر سعيد سيصله عمّا قريب. في نهاية الجلسة أعلن براء خبره المُفرح، سيعود إلى الأمن الجنائي ليمارس مهامه التي تركها منذ مايقارب العام.
طالعتها بصدمة حقيقية وقد تشكلت لآلئ على طرف عينها، لم تنكر دهشتها واستغرابها من هذا الاتهام المُجحف في حقها، فهتفت باستنكار: أنا ظالمةٌ ومستبدّة؟ رغم الخوف الذي اعتراها مما قد تحدثه هذه الكلمات من آثرٍ داخلها لكنها قالت بتصميم: نعم، أنتي. انتفضت من مكانها واقفةً لتصيح بها مُتناسيةً موقعها: لقد ابتعدتُ عنه لئلا أظلمه وأوجعه وأنتي تخبريني الآن أنني ظالمة؟
لم تجبها شادية بل بقيت ترمقها بنظرات حذرة، فيما تابعت الأولى بنبرة شبه ساخرة: تحملتُ الألم وعذاب الوحدة فقط لأعطيه فرصة أن ينسى ماحصل له بسببي، وأنتي تتهمينني الآن بالظلم والاستبداد معاً؟ انهمرت دموعها وهي تحرك رأسها بإنكار مضيفة: أبعد كل ما عرفته وأخبرتك إياه أكون أنا الظالمة في هذه القصة؟ كيف؟ تحولت نبرتها إلى الهمس وقد تهدل كتفاها بتعب وهي تعقب: بحق الله أخبريني كيف؟
ارتخت معالم وجهها الواجمة وهي تشير لها بالاقتراب فأذعنت، عادت لتجلس بجانبها فوضعت شادية كفها على كف أميرة ومسّدته بحنان قائلة: أميرة، أنتِ تحملين نفسك مالا طاقة لكِ به.
كفكفت أدمعها بيدها الحرة، فامتدت أصابع شادية لترفع رأسها لتقابل غاباتها المُعذبة لتتحدث بتمهل: حبيبتي، لو أنّ براء حمّلك مسؤولية أفعال والديك أو كانت لديه رغبة بالانتقام منك لفعل منذ زمن، منذ أن علم الحقيقة وتذكرك مع والدتك، أليس كذلك؟ تنهدت أميرة لتجيبها بتعب: أعلم أنه لا يريد الانتقام مني، لكن ذلك لايعني أنه قد نسي ماحدث وأنه تجاوزه.
ابتسمت شادية بخفة مضيفةً: هل تذكرين جملتي التي أخبرتك بها بالأمس؟ هزت رأسها إيجابا لتقول مُرددةً كلماتها: ماباتت نارٌ إلا وأصبحت رماداً. نعم، هي تلك. عقدت حاجبيها تسألها: لكنني لم أفهم مقصدك منها؟ عقدت شادية يديها أمام صدرها ورمقتها بتفحص جلي للحظات، ثم انفرج ثغرها عن سؤال: دعيني أسألك بدايةً، هل سألتي عنه من قبل؟ متأكدةٌ من أن لكِ تواصلاً مع أحدهم هناك، صحيح؟
أخفضت نظرها لتهمس بحرج: نعم، لقد سألتُ عنه ذات مرة، وقد علمتُ أنه اشترى منزلاً على شاطئ البحر، وأنه في إجازة طويلة من عمله. هل تزوج؟ رفعت رأسها كطلقة رصاص عندما سمعت سؤالها، طالعتها بحاجبٍ معقود وأنفاسٌ لاهثة بغيرة: لا، لم يتزوج، لمَ هذا السؤال الغريب؟ رفعت حاجبيها مرددةً بمكر: ولمَ تضايقتي؟ إنه سؤال طبيعي؟ ردت عليها بحدة غير مقصودة: لا ليس طبيعيا البته، إنه يحبني أنا فكيف له أن يتزوج؟
ابتسمت بخبث وقد حصلت على مرادها فأخبرتها؛ إذاً، إن لم ترغبي بأن يتزوج سواكِ فلمَ تريدين منه أن ينساكِ؟ صدمة مهولة ضربت رأسها وقد انتبهت لكلمات شادية، علمت الآن كم أنها أنانية أو أنها تائهة، كيف لها أن تطلب أن ينساها وفي الوقت ذاته لا تريد منه أن يتزوج؟ قالت لها بابتسامة: سأخبرك ماقصدته من جملتي تلك.
انتبهت إلى حديثها فأردفت شادية بنبرة صادقة حملت معها الحقيقة: مهما بلغ حجم تلك المأساة في قلب براء، لكنّ حبه لكِ قد غسله، وبرهاني على ذلك تمسكه بك حتى آخر لحظة. وضعت يديها على كفها لتتابع: إن كان قد أخذ إجازة طويلة من عمله واشترى منزلاً على البحر فهذا معناه أنه يشعر بالوحدة، عزيزتي إنه بحاجتك الآن، فلا تتخلي عنه. أخفضت صوتها لتضيف بهمس: براء مازال يحبك، أنا مُتيقنةٌ من هذا.
نعم هي ايضاً مُتيقنةٌ من ذلك، أغمضت عينيها بيأس ودفنت رأسها بين يديها، فيما توسدت شادية فراشها متظاهرةً بالتعب، بعد أن لفتت نظرها نحو أمر غفلته، أو ربما تغافلته عمداً، أو إنه نتيجة تفكير انهزامي بدل المواجهة، علمت شادية أن كلاً من براء وأميرة دواء وشفاء للآخر.
نهضت من مكانها لتتجه إلى سرير آخر في الطرف الآخر من الغرفة، توسدته هي الآخرى وغطت نفسها جيداً، ثم غرقت في التفكير، خطر لها خاطرٌ قاومته كثيراً فأخرجت هاتفها لتلج إلى صفحة ملك الشخصية في موقع ( الفيسبوك )، بحثت عن صور زفافها على سمير علّها تجد صورةٌ له لكنها لم تجد.
أعملت تفكيرها فتجرأت أن تلج إلى صفحته هو، لتطالعها فوراً صورة أمير الصغير، تأملت صورة الصبي فعلمت أنّ ملك قد أنجبت عندما كتب أسفل الصورة اسم الصبي كاملا. توقفت أصابعها عن العبث بالصفحة عندما يأست من أن تجد له صورةً ما، فهو ليس من هواة الصور، لكنها سُعدت كثيراً لإنجاب ملك وفرحت أكثر باسم الصبي.
ألقت الهاتف بإهمال لتعود إلى خواطرها، أعتقدت أنها ستنساه، نعم كانت تعلم أن الأمر لن يكون سهلاً لكنها ستفعلها بعد مُضيِّ فترة وستمضي في حياتها قُدُماً، لجأت إلى طبيبةٍ نفسية لكنها لم تساعدها كثيراً، لم تستطع أن تخبرها قصتها كاملةً رغم كل محاولاتها فاقترحت عليها فكرة الكتابة، ظنّت أنْ الكتابة ستساعدها على النسيان أو ربما يخفف معاناة قلبها، لكنها اكتشفت أن فؤادها ازداد تعلقاً وهياماً به، أغمضت عينيها أخيراً، لتكون على موعدٍ جديد معه.
خرجت شادية في اليوم التالي من المشفى برفقة صغيرتها، تزيّن المنزل لاستقبالها وقد كان هناك عددٌ من زملائها في المشفى، ظنّت أن أميرة ستنزعج ولن تحبذ الاختلاط معهم، لكنها تفاجأت ببقائها بل وساعدت راشيل في توزيع الحلوى والمشروبات الساخنة، كم كانت سعيدة لمرآى ضحكتها فعلمت أنها قد اتخذت قرارها بالحياة أخيراً.
عاد براء إلى عمله قوياً ذكياً كسابق عهده، سُعِدَ أصدقاؤه وعائلته بعودة الحياة إلى مُحياه، غرقت عائلته في التجهيز لزفاف جواد وليليا، بعد إصرار الأخيرة بأن يعيشا في منزل والدها رغم رفض جواد في البداية لكنه عاد ورضخ تحت إلحاحها.
كان براء يشاركهم على قدر استطاعته ووقته المُتاح، وكم كان يشترك مع ليليا بتحضير مقالب مضحكة بجواد، عادةً ماتنتهي بانقلاب ليليا ضده لصالح زوجها المستقبلي، حتى أقترح عليهما أن يتمّ زفافهما في حديقه منزله المُطلّة على الشاطئ، وقد وافق جواد دون تفكير حتى. كان والده يراقب أفعاله بسعادة، وفي نفسه شئ من الارتياح، حدسه ينبأه بسعادة وحيده القريبة.
تحسنت صحة شادية حتى بات بمقدورها الاعتماد على نفسها في قضاء حاجات ابنتها لوحدها، رغم ذلك لم تتخلَ عن مساعدة راشيل فقد تعودت عليها.
قرعُ الجرس وانشغال راشيل في المطبخ أجبرها على وضع ابنتها على الأريكة، فتحت الباب فأطلت أميرة من خلفه بابتسامة مشرقة وقد عادت الحياة لتنبض في مُحياها، أدخلتها إلى الصالة بسرعة لتغلق الباب خوفاً من أن تمرض صغيرتها، دلفت أميره من فورها لتداعب براءة التي بلغت شهراً واحداً، وقد بان الشبه الكبير بينها وبين والدتها، أدمنت أميرة القدوم إليها يوميا لتداعبها.
جلست شادية بجانبها تشاهد طريقتها في اللعب مع الصغيرة، تبدو مختلفةً اليوم لكنها لن تسأل ففي النهاية ستخبرها أميرة لوحدها، وقد صدق حدسها عندما التفتت نحوها لتخبرها بابتسامة عريضة: لقد قررتُ أن أنشر روايتي أشلاء. ابتسمت شادية بسعادة هاتفةً: هذا أمرٌ رائع عزيزتي. أردفت بسرعة قاصدةً أن تقاطعها: بإسمي الحقيقي، أميرة الفايد.
اتسعت عيناها بدهشة ثم مالبثت أن عقدت حاجبيها لتسألها بتفحص بعد أن لاحظت ترددها وكأن هناك أمر آخر لتخبرها به: حسناً، ومالذي تخفينه عني أيضاً؟ ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيبها وقد اشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر: لقد قررتُ العودة إلى لبنان. تنفست بعمق وهي تضيف بهيام: إلى حبيبي براء. ظلت لثوان تناظرها كأنها لم تستوعب ماقالته، ثم قفزت فجأة صارخةً بسعادة وهي تقبلها بقوة: أخيراً، لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة.
بادلتها أميرة ضحكاتها وقد كانت أشدّ سعادةٍ منها، لتردف قائلة بثقة: لقد كنتي على حق، آن الأوان لأن اتخذ قراري بالعودة إلى الحياة. ربتت على كتفها قائلةً بدعم: نعم عزيزتي، آن الأوان. ثم أضافت بنبرة حزينة: ولو أنني تعودتُ وبراءة على وجودك في حياتنا. ابتسمت باقتضاب مُعقبةً: سآتي دوماً لزيارتكما أعدك، ولن أبيع منزلي لأجل هذا الغرض.
كان وداعهما زاخراً بالمشاعر الصادقة والدموع الحزينة لافتراقهما، لكن ماواساها بأنها ذاهبةٌ للقاء حبيبها لتحيا الحياة التي تليق بها.
امتلأت الحديقة بالطاولات المُستديرة المُزينة بشرائط بيضاء، كان العريسان موفقين في اختيار اليوم للزفاف، فطقس الربيع وهواء البحر المنعش أضافا لمسةً سحرية على الحفل فغدى أكثر بهاءً، تواجد هناك أيضاً عددٌ من الشبان والفتيات يرتدون زيّاً موحداً يقومون على خدمة الضيوف بشكلٍ راقٍ يليق بمكانة صاحب الزفاف.
زيّن براء سيارته وقد أصرّ بأن يذهب بنفسه لإحضار ليليا من صالون التجميل، كان جواد يدور في صالة المنزل يزفر بضيقٍ جليّ ينتظر خروج براء من غرفته علّه يعدل عن قراره، خرج أخيراً وهو يرتدي بذلةً سوداء ذات ماركة عالمية، كان قد اختارها مشابهةً تماماً لبذلة جواد مما زاد الأخير حنقاً. هتف ليستفزه أكثر وهو ينظر لانعكاس صورتهما على المرآة: إذاً جواد، أخبرني مارأيك؟
احتقنت أوداجه ليجيبه بنبرة ساخرة: ماشاء الله، كأنك أنت عريس الليلة؟! قهقه براء على تعابير شقيقه الساخطة، وقد عرف ماوراءها لكنه لم يعبأ به، بل لبس ساعته ليتمم بها مظهره الشبابي الصارخ بالوسامة، ثم تناول مفاتيح سيارته ليقول له بلا مبالاة: هيا أيها العريس، اذهب وانتظر عروسك بجانب المأذون فأنا ذاهب لأحضرها.
ثم فرّ من أمام جواد الذي كاد ينفجر غيظاً، ألقى سبةً بذيئة في حق براء عندما دلفت زينب لتسمعه، ابتسمت وهي تعلم سبب غضبة ابنها، فتقدمت نحوه لتجذبه من ذراعه هاتفةً به بلوم: تعال بني، يجب أن تساعدنا في استقبال الضيوف ريثما يحضر براء وليليا. أذعن لأمر والدته إجباراً ثم خرج لاستقبال الضيوف، وقد كان والد براء يساعد في استقبالهم على كرسيه المتحرك.
حطت الطائرة تحمل على متنها أميرة التي هاتفت محاميها لتعلم منه عنوان منزل براء، فقد قررت أن تعرج عليه فور وصولها، ماهي إلا دقائق وقد أصبح العنوان في حوزتها، ابتسمت بسعادة وهي تُمني نفسها بلقاءٍ لن يُنسى. كانت هناك فرقة عراضة لبنانية في انتظار العروس، التي أصرّت هي الأخرى بأن يقوم براء بتقديمها إلى عريسها بعد أن استأذنت عمها في الأمر.
صدح صوت العراضة وهي ترحب بالعروس التي وصلت للتوّ، فخرج الأغلبية ليستقبلها عند البوابة، ترجل براء ليلتف فوراً حول سيارته ويفتح الباب للعروس الجميلة ويساعدها على النزول، تزامناً مع وصول سيارة أجرة تحمل أميرة التي تفاجأت بالمنظر، تسارعت أنفاسها باضطراب واتسعت عيناها بصدمة حقيقية، هل هي الآن تشهد زفاف براء على أخرى سواها؟، وقفت لثوان تشاهد السعادة على وجه براء ومنظره الذي كان يوحي فعلاً بأنه العريس، خاصةً وأن ليليا قد تأبطت ذراعه بحنوّ.
ظلّت لثوانٍ تطالع سعادته الواضحة، نزلت دموعها تلقائياً وقد تهدل كتفاها بخذلان، ثم استدارت لتعدو راكضةً بعيداً عن هذا المشهد المؤلم، غافلةً تماماً عن والده الذي رآها وقد قرأ أفكارها، فهمس لسمير الواقف بجانبه بأن يدفع كرسيه ليخرج من هذا الازدحام.
لم تبتعد كثيراً فقدماها لم تساعداها، وجدت مقعداً خشبياً فجلست عليه وهي تبكي بحرقه، أهذا من كانت تراهن على حبه ووفاؤه لها؟ تركته عامان ونيّف لتعود إليه فتجده يحتفل بزفافه؟ متى تعرّف إلى هذه العروس؟ بل بحقّ الله متى استطاع أن ينساها؟ رحمتك يا آلهي لقد غابت كل هذه الفترة لتعود في يوم زفافه؟ كأن القدر قد أقسم بألا يرحمها وأن يظلّ يسقيها من أنهار المرار والحرمان.
أخرجها من أفكارها السوداوية اقتراب صوت رجلٍ ما منها، كفكفت عبراتها ثم التفتت للخلف لترى والد براء يدفعه سمير الذي تفاجأ بوجودها، أشار له الطبيب محمد عادل بأن يتركهما لوحدهما، فأدارت وجهها للأمام وهي تبتسم بسخط، ربما هو من أرسل والده ليخبرها بأنه ملّ انتظارها، وربما يقدم عذراً مقبولا. وصل الطبيب محمد عادل إلى جانبها فسمعها تهمس له بحشرجه: لقد خسرتُ فرصتي، أليس كذلك؟
لم يجبها، فسقطت دمعة منها مسحتها مسرعة لتضيف: أهو من أرسلك؟ ظنت أنه لم يسمعها فالتفتت نحوه لتراه يبتسم باتساع، وكم كانت ابتسامته مشابهةً لابتسامة ابنه الخائن، ربت على كتفها هامساً: عزيزتي، ليس لأحدٍ سواكِ أية فرصة معه، فأنت من ملك فؤاده. ابتسمت بسخرية وهي تشيح بوجهها عنه فسألها: أجيبيني ياابنتي، لمَ رحلتي في البداية؟ ولمَ عدتي الآن؟ أجابته دون أن تنظر إليه: ومانفع جوابي لك؟ لقد انتهى كل شئ.
سألها مجدداً بإصرار: أجيبيني أولاً، لماذا؟ ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيبه بصدق وقد شردت في مياه البحر: غادرتُ عندما ظننتُ أن وجودي بجواره يؤذيه. صمتت لعدة ثوان فصدح صوته ثانيةً: ولمَ عدتي؟ ذرفت دمعة حزن لم تقاومها وهي تضيف: لأنني ظننتُ أن كلينا هو شفاء الآخر. هل تحبينه؟
عاد سمير إلى الحفل فوجد ليليا تجلس في المكان المخصص للعروسين، والذي زُين بأكاليل وردٍ جمعت الأبيض والوردي، وقد بدأ عقد القران وكان براء أحد الشاهدين، إضافةً إلى ابن عمّ ليليا. كان المأذون قد بدأ بإلقاء الجمل المعتادة لعقد القران وقد جلس على أحد جانبيه عمّ ليليا، وعلى الطرف الآخر جلس جواد ينتظر انتهاء عقد القران بحماس آثار ضحك الحاضرين.
حانت من براء التفاته صوب سمير الذي كان يبتسم باتساع، ثم أخفض نظراته عندما التفت بعينيٍ براء ومسح على رقبته من الخلف، ساوره الشك خاصةً مع غياب والده عن التواجد، مرّت ثوانٍ قبل أن يستوعب الأمر، ما أكد إحساسه أكثر هو نبضات قلبه التي تسارعت بشكلٍ مفرط فعلم أنها هنا، نعم فرياح البحر التي اقتحمت أنفه هذه المرة كانت مُختلطة برائحتها، رائحةٌ لن يخطأها مهما طال به الزمن.
انتفض فجأة بشكلٍ أثار استغراب الحضور متوجهاً بخطواتٍ مُتسعة نحو سمير، وقف أمامه وهو يتفحص وجهه وفي عينيه سؤال قرأه رفيقه ببراعة، فأشار له بالإيجاب ثم ربت على كتفه هامسا وهو يشير إلى الناحية التي جلست بها مع والده: هيا صديقي، لا داعي لأن تضيع وقتاً أكثر.
اتسعت عيناه بصدمة، ثم عدى بخطواتٍ راكضة يسبقه قلبه إليها، ماإن خرج من محيط منزله حتى لمحها تجلس هناك مع والده، جرى نحوهما مهرولاً لكنه تجمد مكانه عندما سمع سؤال والده لها: هل تحبينه؟ وقف ليتمالك أنفاسه اللاهثة وقلبه يرغب بسماع إجابتها، فهو لم يسمعها منها قبلاً رغم معرفته بها، لكن سماعها تعترف بها سيكون لها طعمٌ آخر، طعم النعيم.
تنفست بعمق وهي تجيبه بهمس وصل إليه: نعم، أحبه، بل أعشقه وكأنني خُلقتُ منه ولأجله. يقسم أن فؤاده يكاد من بين ضلوعه ليجري إليها عندما سمع كلماتها، كانت كالسحر مرّت على جراحه فداوتها. ابتسم والده عندما شعر به خلفهما، ربت على كتفها ليخبرها: هذا ليس زفاف براء. التفتت صوبه بسرعة وقد فتحت فمها بدهشة، فأضاف: نعم، إنه زفاف أبن زوجتي.
لم يمهلها لاستيعاب المفاجأة فالتفت للخلف ففعلت المثل لتراه، واقفاً خلفها بشخصه وهيبته ووسامته القاتلة، نهضت من مكانها بتفاجأ لتقابله بجسدها وقد كان الفاصل مابينهما ثلاثة أمتار فقط، لم يشعر بوالده الذي انسحب بصعوبة بسبب كرسيه المدولب.
توقف الزمن عندهما في هذه اللحظة، تلاقت العين بالعين، والدمعة بالدمعة والاشتياق بالاشتياق، تسارعت أنفاس كليهما وهو يتقدم نحوها بتثاقل حتى وصل إليها، رفع كفه ليضعه على وجنتها كأنه يتأكد أنها موجودة قبالته حقاً وليست من صنع خياله الهائم كالعادة.
تلاقت يده بوجنتها الناعمة فلم تغمض عينيها، ابتسم من بين دموعه عندما تأكد من وجودها فابتسمت بالمقابل وذرفت دمعة اشتياق، ظلّ يرمقها باشتياق لن تستطيع أن تبادله إياه مهما بلغ شوقها إليه، تمالك أنفاسه الهاربه من لقائها، تنفس بعمق ثم سحبها إلى أحضانه بعنف، لم تمانع عنفه بل تشبثت به بكل قوتها، هو فعلاً طوق نجاتها.
شدّد على أحتضانها وهو يغمض عينيه بقوة و يستنشق رائحتها ليعبأ رئتيه بها، مُستغنياً عن الهواء ليكتفي برائحتها، إنها ملاذه الوحيد، بين ذراعيها فقط يشعر بأن لحياته معنى. شعرت بالأمان الذي افتقدته طويلاً بين ذراعيه، لن تنكر أنها الآن فقط، شعرت بخافقها يهتف بسعادة مُطالباً إياها بأن تدفن نفسها في أحضانه أكثر، هو حِرزُها وحِصنُها، هو مُعتَصَمها ولا تريد سواه.
قرّر جواد أن يردّ له دينه في يوم زفافه، فهاهو الآن يجلس بجانب أميرة في سيارة براء التي تزينت للمرة الثانية خلال أقل شهر، وصلت العروس أخيرا ليصدح صوت مزامير العراضة مُرحبةً بالعروس الفاتنة، وكان عريسها ينتظرها في آخر السجادة الحمراء التي امتدت لتخطو عليها أولى خطواتها نحو سعادةٍ تأمل أن تكون أبديةً.
لم تفارق السعادة مُحياه منذ عودتها، واليوم تبدو أكثر إشراقاً وهو يرى من آسرته منذ صغره تُزَفّ إليه بفستانها الأبيض الذي زادها بهاءً. حضرت شادية وعائلتها بدعوة خاصة من أميرة وبراء، وأيضاً كان في مقدمة الحضور ملك وزوجها وابنهما الأمير الوسيم، الذي ماإن رآى ابنة شادية حتى ابتسم لها فبادلته براءة بأخرى جذابة.
بعد عامين. قاد جواد سيارته وبجواره والدته زينب التي كانت تتشحُ بالسّواد الكامل حداداً على وفاة زوجها، الذي فارق الحياة منذ تسعة أشهر، وأقسمت على ألا تنزع السواد حتى تنجب أميرة. دخلت إلى غرفة أميرة لتجد الجميع ملتفين حولها على شكل دائرة كبيرة، شادية برفقة براءة التي بلغت العامين منذ فترة وكانت في زيارةٍ لعائلتها عندما سمعت بخبر إنجاب أميرة.
ملك يصحبها أمير الذي كاد يأكل براءة بعينيه لشدة جمالها، وسلاف التي آثرت ترك شفق الشقية في المنزل برفقة شقيقتها جوليا، ليليا وهي تحمل ضياء ابنها الذي لم يكمل بعد عامه الأول، وبالطبع كان براء يجلس بجانب زوجته يقبلها على جبينها سعيداً بسلامتها. استغربت زينب هذا التجمع، فشعرت بالقلق ثم هتفت بصوتٍ مرتجف: مالأمر؟ لم هذا التجمع؟
ابتسم براء عندما رأى والدته، وابتعدت النساء عن طريقها لتفاجأ بتوأمٍ من الأولاد وفتاة واحدة، ألجمتها الصدمة بداية فقد كانوا يعلمون أن أميرة حاملٌ بتوأم والآن هي ترى ثلاثة! استقام براء من مكانه متجهاً إلى والدته ليهمس لها وهو يشير إلى أطفاله: أمي، رحبي ب محمد وعادل وزينب. ضحكت من بين دموعها ثم عانقت براء بحماس ولهفة شاكرةً إياه على حُسنِ مافعل.
((( من رحم الألم يولد الحب، ومن جوف المخاطر تولد الشجاعة ))) بهذه العبارة وقعت أميرة روايتها التي صدرت مؤخراً، وقد كان الاهداء موجهاً إلى زوجها، وهي الجملة ذاتها التي كانت تهديه إياها كلّما أصدرت رواية جديدة. طالعت الكلمات التي خطتها بكل حب وامتنان، ثم أردفت لتوقع بكلمة تعلم أنه يعشقها. (( أميرة الفايد، بتلّةُ ياسمينك )). تمت نهاية الرواية أرجوا أن تكون نالت إعجابكم