رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والثلاثون
نيران هوجاء استعرت داخله حينما سمع حديث براء الصادق والذي ينمّ عن عشقٍ لامحدود، خشي من أن يؤثر كلامه على أميرة فتعانده لذا عمد إلى التصرف بسرعة. ابتسم باستخفاف ليقلل من تأثير مقاله فتمتم بحقد: كل ماقلته لاقيمة له عندي، فأنت ميتٌ بجميع الأحوال. سار نحو أميرة ليعطيها المسدس من جديد قائلاً بحزم: هيا أميرة، اقتليه. ابتعد عنها خطوتين وبقي يراقبها، أخفضت نظرها إلى المسدس لتهمس بضعف: لا أستطيع.
أمرها بتصميمٍ مجدداً: اقتليه أميرة، وإلا سأدعكِ تشاهدينه وهو يختنق بالسم حتى الموت. ذرفت دمعة وهي تحرك رأسها بإنكار ولا تجد صوتها، فهمس براء بخفوت وقد بدأ السم يؤثر في جسده بشكلٍ كبير: مالذي ستجنيه إن أجبرتها على قتلي؟ ابتسامة مميتةٌ تلك التي قابله بها وهو يجيبه بكل بساطة: أمرٌ بسيط، أضمن ولاءها التامّ لي.
قطب جبينه بعدم فهم فأردف الآخر: ببساطة، عندما تقتلك فلن يبقى لها سواي، فأميرة لاتستطيع العيش وحيدةً، ستعود إليّ لأنني أحبها وسنتزوج، هذه هي القصه. ثم ألتفت نحوها آمراً: نفذي الآن. ابتسم براء بهدوء ليهمس رغم التنميل الذي سيطر على أطرافه: إذاً، فأنت لاتعرفها أبداً. بينما هي كانت مدهوشةً من لهجة يوسف الدنيئة، يتحدث ويقرر عنها كأنها غير موجودة، فتحدثت بقوة زائفة: ألا تخشى أن أقتلك أنت بدلا منه؟
التفت نصف التفاته إليها مُجيباً بثقة: أشكُّ في أن تفعليها. لم تهتزّ ملامحها كأنها تفكر في فعلها حقاً، فيما أضاف: لإنك ذكيةٌ أميرة ستعرفين وبحسبةٍ بسيطة أن لا أمل لكِ بالخروج حيةً من هنا بوجود رجالي خارجاً. ثم رفع كتفيه بلا اكتراث متابعاً: ومن ثم لأجل من ستقومين بقتلي؟ من أجله هو؟ لم تجبه في حين أضاف بهمس خسيس: لقد خدعكِ حبيبتي، فلو كان يحبكِ صدقاً لأخبركِ بالحقيقةِ كلها دون تزييف.
لم تصدقه في الجزئية الأخيرة فهي على يقين انّ لبراء عذراً غير ما أخبرها به يوسف، لكنه على حقّ فيما خصّ خروجها من هنا برفقة براء، فحتى لو استطاعت تجاوز رجال يوسف- وهي تشكّ في هذا قطعاً- فلن يصمد براء حتى تسعفه إلى أقرب مشفى، لقد مضى على ولوج السم لداخله وقتٍ كافٍ لينتشر في جسده، بالإضافة إلى أنها في منطقةٍ مقطوعه ولا تعرف الطرقات هنا.
أصابها اليأس والإحباط، لتقرر في لحظة تهور الآتي، عادت خطوتين للخلف وهي تناظره بثبات مُصطنع لتهمس بنبرة غادرتها الحياة: إذاً سأقتل نفسي. ثم رفعت المسدس لتضعه على جانب رأسها، ارتعب براء جدياً عندما رأى فعلتها فصاح بها بضعف وقد بدأت أجفانه بالارتخاء: إياكِ أميرة.
بينما يوسف استدار نحوها بكامل جسده ابتسم باستخفاف ليخبرها: لن تفعليها أيضاً، لإنه وببساطة إن قتلتِ نفسك فسأحرص على قتل كل شخصٍ قابلته في حياتك، . ازدردت ريقها بهلع من تهديده الصريح ليضيف وكأنه يتحدث عن قتل حشرةٍ ما: ابتداءً من ملك و شقيقتها، ولن أنسى بالطبع والديه العزيزين. رمشت بعينيها وأسبلت يدها التي تحمل المسدس للأسفل، وهي تطالعه بصدمة.
وضعت زينب كوب الحليب الساخن أمام زوجها الواجم منذ الصباح، جلست إلى كرسي مقابله وهي تسأله بشك: مالأمر عزيزي، لمَ أراك شارداً طول الوقت؟ نظر إليها هامسا بضعف: لقد زارتني هيام في حلمي الليلة. تنبهت حواسها كلها مع مقاله، فانحنت بجسدها صوبه وهي تتمتم باهتمام: ماذا أخبرتك لينقلب حالك هكذا؟ تنهد بتعب وهو يخبرها: لقد أخبرتني بأن احميه من الأفعى.
تجعد جبينها بعدم فهم فيما تابع: إنها تحذرني أن براء في خطر، أنا قلقٌ عليه للغاية زينب. ابتسمت له بطمأنينة لاتملكها لتردف: عزيزي، براء قوي ولايهاب. ناظرها بعينين تبحثان عن الصدق في محياها ليقول بوهن: براء وحيدي زينب، أنا عاجز الآن أخشى أن يصيبه مكروه ولا استطيع أنقاذه. سكت لثوان معدودة يزدرد ريقه بصعوبة ثم واصل حديثه بجزع: كما فشلت في حماية والدته.
لم تملك من الكلمات مايواسيه في هذه اللحظة، فاقتربت منه لتحتضنه وهي تهمس له: لاتقلق عزيزي، براء قوي لاتخشى عليه. أغمض عينيه محاولاً إقناع نفسه بصحة حديثها، هو يعلم أن براء قوي، لكنه وحيده وهو والد في النهاية.
هل سبق وأن عشتَ مع شخصٍ طول حياتك لتكتشف فجأة بأنك كنت تعاشر أفعى؟ هل سبق وأن قابلت إنسياً يستعيذ الشيطان منه؟ هذا باختصار كان حال أميرة وهي تطالع وجه يوسف بصدمة حقيقية، منذ متى وهو يملك هذه الدموية البشعة؟ منذ متى وهو قاتلٌ بأعصاب باردة هكذا؟ حقاً لا تعلم، لقد ظنت بأنها تعرفه حق المعرفة، لتكتشف فجأةً بأنها لاتعرف أحداً حتى نفسها! همست بخفوت وهي تستجديه: أرجوك يوسف، لاتفعل بي هذا؟
اكتسبت تعابيره حدةً غريبة وهو يُصرُّ عليها: اقتليه أميرة، انظري لقد بدأ السم يؤثر في جسده. نظرت إلى براء فرأت الضعف بادٍ في قسماته، بدأت عيناه ترتجف بشكل لا ارادي، وقد بدأت أنفاسه بالتسارع، إضافة إلى وهو جسده وشحوب وجهه، سمعت يوسف يردف؛ فلتريحيه من عذابه ولنخرج من هنا بسرعة.
ازدرد براء ريقه بصعوبة ورغم الضعف الذي أصابه الا أنه أخبره بيقين وثقة لايعرف مصدرهما وهو مُتجي الرأس: لن تخرج من هنا يوسف، لن تستطيع تخطي الحدود أبدا. ناظره بغلّ وهو يستغرب من ثقته بما قاله رغم كل الظروف التي تحيط به، هذا المعتوه لا يفصل بينه وبين الموت سوى شعرة وهو يتكلم بيقين كأن أصدقائه بالخارج.
رفع رأسه ليناظره بثبات غريب مضيفاً بأنفاسه اللاهثة: حتى لو مت انا، فلن تستطيع أن تستحوذ على أميرة ابداً، أتعرف لماذا؟ إزدرم ريقه بوهن ليشيح بنظره إليها مردفاً: لأنها تحبني، وأنا أيضا أحبها، وقلبها مُعلقٌ فيّ أنا. ناظرته بملامح دمجت مابين الفرح والأسى، الفرح لأنها سمعت اعترافه أخيرا، والأسى على الحال التي وصل إليها.
تسارعت أنفاس يوسف بغضب ممزوج بالكره، عدا نحوه بخطوات راكضة حتى وصل إليه، انحنى صوبه ليقبض على عنقه صائحا به: أميرة لي أنا، لي وحدي وأن تكون لسواي أبدا. رأته وهو يشدّ بقبضته على عنق براء، فتيبست اعضاؤها عن فعل أي رد فعلٍ قد يساعده، فهمست بضعف: يكفي يوسف. التفت نحوها وقد زاد غضبه لاهتمامها به حتى وهو في هذه الحال، وهو على مشارف الموت فصاح بها: لم تريدي قتله أليس كذلك؟ إذاً انا من سيقتله.
صاحت بتوسل وهي ترى براء يُجاهد في اخذ أنفاسه الهاربة: أرجوك يوسف كفى. اعتصر عنق براء في قبضته أكثر وهو يصرخ باهتياج: انتِ لي أميرة، ولن تكوني لأحد آخر. رجته مُجدداً ودموعها شلال على وجنتيها: أتوسل إليك يكفي. - لاتتوسليني من أجله! - يكفي!
سمع رجال يوسف المُرابطين في المنزل الآخر صوت إطلاق رصاصتين تباعاً، انتصب خالد في وقفته ثم مشى عدة خطوات قبل أن يأمر رجاله: إنها الإشارة، هيا أيها الرجال تجهزوا. انحنى أحدهم صوب رفيقه ليهمس بسؤال: ماذا يعني بأنها الإشارة؟ تمتم صديقه مجيباً بخفوت: لقد أمرنا السيد يوسف عندما نسمع صوت إطلاق رصاص أن نتجهز للمغادرة. قطب الأول جبينه بعدم فهم فأردف الآخر: هذا يعني أنه قد قتل الضابط ويجب أن نتأهب لنرحل.
أومأ له بالإيجاب قبل أن يأتيهم صوت خالد آمراً: هيا أيها الغبيان، تحهزا لنغادر بسرعة. أومأ كلاً منهما بالإيجاب بعد أن كادت تنقطع أنفاسهما من شدة خوفهم منه، تحركا من أمامه تاركين خالد يراقب المنزل الأخر بحذرٍ شديد.
لاتعرف ماحدث ولا كيف حدث بالضبط، جلّ ماتعرفه أنها رفعت المسدس فأطلقت الرصاصتين تباعاً وهي تغمض عينيها. ساد السكون للحظات، فتحت عيناها بالتزامن مع انخفاض يديها ليسقط المسدس منها، طالعت يوسف الغارق في دمائه، وقد اخترقته الرصاصتان من ظهره من ناحية الصدر، سقط على بطنه ووجهه فزحف فوق الأرض بتثاقل، ظلت تطالعه بفمٍ مفتوح وهي لا تصدق أنها فعلتها، نظرت إلى براء لتجده يلهث بسرعه.
توجهت أنظارها من جديد ناحية يوسف الذي وصل إلى الحائط بصعوبة، استند عليه ثم التفت نحوها واعتدل في جلسته بمشقة، رفع رأسه ليقابل بقهقهة ساخرة وهي يحرك رأسه متفاجئا ثم ردّد بذهول: حقا لقد فاجئتني، لم أعتقد أنك ستفعليها وتقتليني أنا. سالت دموعها وهي لاتعي فعلاً أنها فعلتها، فيما أضاف بتهكم: حقاً أميرة؟ قتلتني انا عوضاً عنه؟ تمتمت بضعف وهي تحرك رأسها بإنكار: أنت من أخبرني يوسف.
تعالت ضحكته الساخرة مجدداً ليقول بغلّ وهو يوجه بصره نحو براء: ظننتك ستقتلينه هو لتريحيه من عذاب السم، لكنك صوبتِ المسدس عليّ أنا! سكت لثانية ليبتلع ريقه الدامي وهو يمد يده إلى بنطاله ليخرج شيئا ما أشبه بهاتف صغير فيه زرٌ واحد، ثم همس: حمقاء أنتٍ لو اعتقدتي أنني سأدعكِ تعيشين بعدي.
ضغط على الزر ليُسمع صوت صفير قصير، اتبعه صوت دقاتٍ خافته أشبه بصوت موقتِ الفرن، ثم تابع حديثه بسخط مريض متقطع: لقد أخبرتك أميرة، إن لم تكوني لي، فلن تكوني لسواي. تثاقلت أجفانه وبدأت أنفاسه بالانخفاض تدريجياً حتى أسلم الروح إلى بارئها. التفتت حولها تبحث عن صوت الموقت لكنها لم تجده، لتسمع براء يهمس بخفوت: أعلى الطاولة.
عقدت حاجبيها باستغراب ثم توجهت نحو الطاولة، وجدت عدة أغراض لاتعرف ماهيتها، اتبعت صوت الموقت نحو صندوق اسود متوسط الحجم، حملته لتفتحه فتفاجأت بأنها، ، قنبلة، ولم يتبقى على انفجارها سوى دقيقةٍ واحدة.
أصابها الجمود حرفياً، لم تعرف ماعليها فعله فتوجهت إلى براء لترمي الصندوق أمامه لتصيح به: انظر براء، إنها قنبلة! زاغت أنظاره من تأثير السم، فلم يعد يركز على الأرقام ولا على الشرائط الكهربائية الرفيعة متعددة الألوان، فهمس لها بقلة حيلة: لا أعلم أميرة، فقد بدأتُ أفقد حاسة بصري.
شهقت بخفة وهي تقترب منه حتى عانقته وما يزال مُكبلاً لتقول، : أرجوك اصمد قليلاً براء، ساعدني لنعطل القنبلة ثم سأخرجك من هنا فورا أعدك. ابتلع ريقه بعسر وهو يهمس لها: لا أميرة لقد فات الأوان على إنقاذي. ابتعدت عنه لتطالعه بصدمة وهو يضيف: لكن انقذي نفسك حبيبتي، اهربي بعيداً. حركت رأسها للجانبين وهي تتمتم: لا براء، إياكَ أن تقول هذا الكلام.
حاول إقناعها علها تتركه لتنقذ نفسها فردد بوهن عظيم: اهربي أميرة، أرجوك ابتعدي هيا. زادت حركتها عصبية وهي تصيح به: لا، لن اتركك هنا وأذهب، إما أن نحيا سويا أو نموت سويا. ثم عانقته لتمنعه من التفوه بكلامٍ غبي لتضيف: أنت حبيبي براء ولا اريد سواك، إن لم تكن تحيا في هذه الحياة فأنا لا أريدها أيضاً.
ابتسم براء بخفه وهو يتلذذ بسماع حديثها، الذي كان بمثابة الترياق للسّم، أغمض عينيه باستسلام لمصيره، أي ميتةٍ أفضل من هذه؟ أليست أمنية كل العشاق أن يموتوا في أحضان أحبائهم؟ ازدرد ريقه براحه وابتسامة بسيطة عرفت طريقها إلى ثغره ليهمس لها: وانا أيضا، لااريد حياةً لستِ فيها.
Flash Back. لم تكن في مزاج رائق للخروج، لكنها الآن تتجول بين محلات الثياب بمللٍ شديد، بعد أن اجبرها يوسف على الخروج معه للتسوق فلم ترد أن تحزنه، لكنها كانت شاردة وتكاد لاترى أمامها. كان يوسف يتجول بين المحلات وهو ينظر إلى البضائع المعروضة على واجهات المحالّ، ويقبض على يدها بحماية وملكية، كأنه يُخبر الجميع بأن أميرة تخصه لوحده.
وقف يوسف فجأةً أمام محلّ ما، تأمله قليلا قبل أن يلتفت نحو أميرة يسألها: ما رأيك في هذا الفستان اميرة؟ التفتت إلى حيث اشار، فكان الفستان قصيراً وذو اكتافٍ ساقطة، رفعت كتفيها بلا مبالاة، ثم ولجا إلى المحل ليطلب يوسف فستانا مشابها باللون الأحمر، وأيضا طلب حقيبة وحذاء باللون ذاته. استغربت أميرة لتسأله: لمَ تطلب أن تكون الأشياء باللون الأحمر؟
تطلع إليها بغموض ثم ارتسمت ابتسامة باردة على شفتيه قائلاً بغموض: أحب اللون الأحمر.
شهقت بخفة وهي تعتدل في جلستها لتنظر إلى القنبلة، فُزِع براء من حركتها العصبية فهمس لها وقد تثاقل صوته: اهربي أميرة هيا كفاكِ عنادا. لم تجبه بل كان تفكيرها كله موجهاً إلى القنبلة، اقتربت منها حتى وضعتها في حجرها، كان الموقت يشير إلى الرقم الخامسة عشر.
تفحصت الأسلاك المتشابكة ببعضها، وكما توقعت هناك شريطٌ واحد احمر دوناً عن البقية، امتدت يدها نحوه وهي ترتجف من شدة التوتر، حاولت اقتلاعه من مكانه بحذر، كان الموقت يشير إلى سته، خمسه، اربعة... توقف الموقت عندما اقتلعت السلك الأحمر بهدوء، تنفست براحه وضحكت من بين دموعها لنجاحها، التفتت نحو براء لتجده يبتسم لها بفتور، اقتربت منه لتعانقه من جديد وهي تقول: حبيبي، لقد نجحت!
لم يجبها، بل شعرت بتثاقل رأسه على كتفها، ابتعدت بحذر من جديد وهي تطالع وجهه الذي زاد شحوبه بقلق، في هذه اللحظة سمعت صوت إطلاق نار انتفضت على أثره، ظنت أنهم رجال يوسف، فاقتربت لتعانق براء الذي دخل في أشبه ما يكون الغيبوبة لانخفاض ضغط دمه وضعف نبضاتِ قلبه بسبب تأثير السم، عانقته بقوة لتهمس له بدعم وهي متأكدة من أن صوتها يُسمع صداه في أعماقه: أنت حبيبي فقط.
صوت خطوات الرجال تقترب، أصوات كثيرة مُتداخلة لكنها استطاعت تمييز صوت سمير الذي ظهر من خلفها وهو يصيح: براء! فتحت عينيها لتطالعه بصدمة كأنها لا تصدق وجوده أمامها الآن، مرّت ثوان حتى انتبهت لصوته السائل وهو يطالع وجه براء بقلق: مالذي حدث؟ تمالكت نفسها لتخبره بسرعه: أرجوك سمير انقذه، لقد حقنه يوسف بسم كوبرا مخفف! نظر إليها باندهاش، ثم مالبث أن عاد إلى رشده ليصيح: عادل!
حضر عادل على صراخ صديقه، ليجد سمير يحاول فكّ أغلال براء ليجدها ذات قفل فردي: تناول سلاحه ثم أطلق رصاصة عليه لينفتح، ساعده عادل في حمل براء إلى سيارة كبيرة تابعة لقوة المداهمة التي جلبها معه، وضع براء في الخلف ليصرخ بأحد الرجال معه: تأكد من أن تمسك بالجميع. ثم اتجه بحديثه إلى عادل وهو يلتف ليستقر خلف المقود: وأنت عادل، افتح لي طريقاً.
استقلت أميرة الكرسي بجانب سمير الذي انطلق بسرعةٍ مهولة، حاول الاستفسار منها عن كيفية حدوث ذلك لكنه لم يجد منها سوى البكاء، حمل هاتفه ليطلب سلاف آمراً؛ سلاف أي المشافي أقرب إلى موقعنا الآن؟ أملته سلاف اسم المشفى بعد بحثٍ بسيط على الإنترنت، فآمرها أن تتصل بهم لتطلب إليهم تحضير ترياق لسمّ أفعى الكوبرا.
أغلق الهاتف ثم توجه بمظره نحو براء النائم كالميت، ليهمس له في نفسه: هيا براء، اصمد وقاوم، انت محاربٌ شجاع فلا تخسر معركتك، إياك أن تفعلها...
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والثلاثون
جالسةٌ في رواق المستشفى الطويل على كرسي الانتظار الأزرق، محاوطةً جسدها بيديها وتحرك جسدها للأمام والخلف بحركةٍ رتيبة مُقلقة، شاردةٌ في نقطة في الفراغ، لا ترمش إلا لتسقط دمعتها الحزينة.
كان سمير ينتظر عند باب الطوارئ وهو يشعر ببركان من الغضب يغلي داخله، يبتهل إلى الله بأن يحمي براء ويساعده، خطا عدة خطوات أمام الباب العريض حيث غاب براء مع عدد من الأطباء خلفه مذ وصلوا، ولغاية الآن لم يتكرم أحدهم ليخرج ويطمئنه. لاحت منه التفاتةٌ نحو تلك الواجمة، أشفق قلبه عليها، لقد كلف عادل بأن يهاتف ملك ويخبرها علّها تأتي وتواسيها، فيما هو يفكر سمع صوت ملك المُنادي: سمير، أميرة!
عدت ملك راكضةً نحو أميرة لتضمها إليها، لكن الأخيرة لم تحرك ساكناً بل ظلت على شرودها مما أقلق ملك، استقامت من مكانها ومشت ناحية سمير تسأله: مالها أميرة؟ لمَ هي على هذه الحال؟ ابتسم باقتضاب وهو وهو يربت على كتفها بخفة: لا تقلقي حبيبتي، هذا من أثر التعب فقط. التفتت نحوها لتهمس كمن لم يصدق: هل رآها طبيب ما؟ لإن حالتها مُخيفة؟
تنهد بتعب وهو يشير برأسه نافياً: لا، لم تقبل بأن يكشف عليها أي طبيب، كان كل همها أن ينقذوا براء. زمت فمها بعدم رضا وهمّت بالاعتراض، لكن قاطعها فتح الباب وخروج أحد الأطباء من الداخل، انتفض سمير من مكانه ليسأله بلهفة: طمأني أيها الطبيب، كيف حاله الآن؟ خلع الطبيب كمامته الطبية ليتحدث بعملية: اطمئن لقد استطعنا إنقاذ حياته لغاية اللحظة، لكنه للأسف دخل في غيبوبة.
شهقة مُرتعبة فلتت من فم ملك، فيما أصاب الجمود سمير ليهتف بجزع: غيبوبة؟ لماذا؟
اعتدل الطبيب في وقفته، ليتحدث بجدية حسب خبرته الطبية: سيدي، سم أفعى الكوبرا يستهدف الجهاز العصبي للإنسان، أي أنه سيؤثر إجباراً على وظائف الجسد الحيوية، لقد تمكن السم من جسد سيادة الضابط مما تسبب في انخفاض معدلات ضربات القلب وانخفاض ضغط الدم، وبالتالي دخل جسده في غيبوبه كإجراء احترازي منه، لم يستطع الإفاقة منها حتى بعد إعطائه المصل المُضاد للسم.
بدى سمير كالتائه وهو يستمع لحديث الطبيب، فتمتم بأسىً: ومتى سيستفيق؟ - سيتم وضعه تحت المراقبة لمدة أربع وعشرين ساعة، لنرى بعدها. رفع يده ليربت على كتفه بدعم: جسد سيادة الضابط قوي، سيقاوم السم فلا تقلق. تحرك الطبيب من أمامه تاركاً إياه شارداً في حديثه، نعم يعلم أن براء قوي، لكن هذا لم يمنع قلقه.
لم تحرك ساكنا مذ خرج الطبيب، فقط توقفت عن حركتها الرتيبة لتستمع إلى ماقاله دون أن ترفع ناظريها إليهم، شعرت بنغزة عظيمة في قلبها حينما علمت بأمر دخوله في غيبوبة، تقدمت ملك لتجلس إلى جانبها هامسةً لها بتقوية: لقد سمعتي الطبيب أميرة، سيكون بخير فلا تقلقي. رفعت رأسها لتناظرها بوجوم، لاتقلق؟ هل من المفترض أن تطمئن بمجرد سماعها لهذه الكلمة؟ توأم روحها مُسجىً في الداخل في غيبوبة وهم يخبروها بألا تقلق!
اكتفت فقط بتنهيدة مُتعبه خرجت من فمها، ثم عادت إلى حالها الأول.
تمّ القبض على رجال يوسف بعد تبادلٍ لإطلاق النيران مع رجال سمير، قُتِلَ بعضهم فيما جُرح بعض رجال الأمن ومامن حالةٍ خطرة، وتمّ نقل جثمان يوسف إلى المشرحة. أُلقي القبض على خالد أيضا، الذي اعترف أنه مسؤولٌ عن تجنيد الشباب لخدمة مصالح الكوبرا، وترويج المخدرات بين الشباب والمراهقين.
كما اعترف أيضاً بأنه قد دسّ وبأوامر مباشرة من يوسف رجلين ليقوما بخطف عليا من المستشفى، وقد التعامل معهما من قبل مؤمن ورفاقه، وايضاً تمّ تحرير زوجة غالب وابنته. أعلم عادل والدي براء بنبأ دخوله المشفى، فأصرّا على ان يذهبا إليه ولم يمنعهما تأخر الوقت.
انتصف الليل وهي ساكنةٌ على حالها، لم تحرك ساكنا ولم تنبس بحرف، فيما ملك تراقبها بقلق وهي مُستندةٌ على الحائط قربها، لا تشعر بالراحه من جلوسها هكذا، حتى أنها كفت عن البكاء. تقدم سمير الذي كان يحمل مشروباتٍ باردة باقتراح من ملك ذاتها، هرولت ملك حتى أخذت منه كوباً من العصير وابتسمت له بامتنان، ثم سارت لتجلس بجانب أميرة، رفعت الكوب أمامها هامسةً لها: أميرة، عزيزتي يجب أن تشربي هذا.
لم تقم بأية ردّة فعل ولم ترمش حتى، لولا صوت أنفاسها لاعتقد الناظر إليها أنها تمثال حجري. كادت ملك أن تعيد الكرّة علّها تقتنعها عندما جذب انتباهها صوت ضجةٍ قريبة، وقفت مكانها وهي تطالع سمير بقلق، ثم وجهت أنظارها إلى الرواق حيث ظهر الطبيب محمد عادل بكرسيه المُدولب يدفعه عادل، وبجانبهما كانت تمشي زينب التي هرولت ماإن رأت سمير لتهتف: أرجوك أخبرني يابني، كيف حاله الآن؟
علمت ملك أنهما والدي براء، فيما تنبهت أميرة لصوت زينب وارتجف جسدها تلقائياً، لكنها بقيت على وجومها. ابتسم سمير باقتضاب ليجيب وهو ينظر إلى والد براء الذي وقف بجانبه للتو: إنه بخير لاداعي للقلق، لقد تمّ إعطاؤه المصل المُضاد، وهو الآن تحت المراقبة. هتف والده بجزع: أرجوك يابني أريد أن اطمأن عليه، لن يرتاح قلبي مالم أراه بعينيّ!
تحدث سمير محاولاً تهدأته: صدقني ياعم إنه بخير، لكنه في العناية المشددة الآن ولن يسمحوا لكم بالدخول إليه . تهدل كتفاه بقلقٍ طبيعي ناجم عن عاطفة أبوةٍ صادقة، ورغم شعورها بالأسى هي الأخرى إلا أنها همست لزوجها وهي تربت على كتفه بدعم: لا بأس عزيزي، المهم أنه بخير. بابتسامة بلاستيكية. رفع رأسه إليها لتهديه ابتسامةً مُطمئنة، فهز رأسه موافقا رغم عدم اقتناعه، لكن مابيده حيلة.
تقدم عادل ليهمس لسمير بأمر ما، ثم حرك رأسه بالإيجاب والتفت صوب والد براء: يجب أن أذهب الآن لنستكمل التحقيق، لكنني سأعود في الغد لأراه.
غادر عادل وسمير المشفى، ليبقى والدي براء وملك التي تعرفت إليهما وعرفتهما بنفسها. لاحظت زينب للتوّ جمود أميرة المخيف، استغربت هيأتها وقد قدرت ، بحكم خبرتها الطبية بأن أميرة قد دخلت في حالة صدمة. تقدمت نحوها بحذر لتهمس: مرحبا. تعرفت على نبرتها المميزة فوراً، رفعت رأسها ببطء شديد، طالعتها بغموضٍ لعدة لحظات قبل أن تهمس بنبرة لاروح فيها: أنتِ لستِ والدته الحقيقية، أليس كذلك؟
رفعت زينب حاجبيها باستغراب فيما أردفت الأولى: لو كنتي والدته الحقيقية لما حضرتي لتحدثيني، وأنا ابنة من دمّر حياتك، صحيح؟ خمنت زينب أن أميرة قد علمت بالحقيقة، استدارت لترى زوجها مُنشغلٌ في الحديث مع ملك، التفتت إليها من جديد وهي تتمتم: هلّا رافقتني لنتحدث خارجاً؟
لم تعارضها، بل وقفت لتمشي بجانبها بخطواتٍ ثقيلة، يُخيل إلى من يراها أنها جثة، تعابيرها غادرتها الحياة، حتى الدموع غادرت عينيها، كأنها لم يعد بها المزيد لتغسل قلب صاحبتها.
وصلتا إلى الاستراحة المُلحقة بالمشفى، والتي كانت في الطابق ذاته، جلست أميرة إلى كرسي ما لتجلس زينب على آخر مقابلها، شبكت يديها على الطاولة أمامها لتطالع وجه أميرة المُجهد، وعينيها التي تبحث عن الحقيقة فتمتمت بجدية: مالذي تريدين معرفته أميرة؟ بللت شفتيها لتسألها بخفوت: هل ماسمعته صحيح؟ هل حقاً والديَّ من آذى عائلة براء؟ عقدت حاجبيها لتتفحصها مُتحدثةً: لا أعتقد أن براء هو من أخبرك، أليس كذلك؟
هزت رأسها نافيةً بخفة فأردفت: لقد علمتُ هذا، لم يكن براء ليخبرك مهما حدث. ازدردت ريقها بتوتر وهي تسألها بتردد كمن يخشى من الإجابة: لمَ لمْ يخبرني؟ رفعت كتفيها بقلة حيلة لتجيبها ببساطة: لا أعلم ولم يخبرني، لكن وعلى حسب معرفتي ببراء، أستطيع أن أجزم أنه خشي عليكِ من الصدمة. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تردد: أي أنه لم يكن يريد الانتقام مني لما فعله والداي، صحيح؟
امتدت يدها لتمسك بيد أميرة مقاطعةً إياها بسرعة: قطعاً لا، عزيزتي براء يحبكِ منذ نعومة أظفارك، لقد تعذب في بُعدكِ كثيراً وعندما وجدكِ لم يكن على استعدادٍ بأن يخسركِ مجدداً أبدا. أخفضت صوتها لتضيف بهمس: لقد خشي أن تبتعدي عنه إن علمتي بماضي والديكِ مع عائلته. همست بصوتٍ لايكاد يُسمع: هل هو من أخبرك بهذا؟ ضغطت على يدها بحنان وهي تشير لها بالنفي: لا، لكنني أعرفُ طريقته بالتفكير جيدا.
ربما هو أيضاً على علمٍ بطريقة تفكيرها، فهي الآن تفكر جدياً في الابتعاد عنه، ربما قد يتعذب بفراقها لكن هذا خيرٌ له من أن يتعذب وهي بقربه، لربما ينساها رغم تيقنها من استحالة ذلك، ولكن فليحاول.
لم يستفق في اليوم التالي، إلا أن الطبيب طمأنهم عنه، وقد أخبرهم بأنه سيتم نقله إلى غرفة عادية بحلول المساء بانتظار استفاقته من الغيبوبة. غادرت أميرة المشفى قبل أن يتم نقله، لم يكن بها الجرأة لأن تراه وهو ضعيف على سرير المرض، ولجت غرفتها لتجلس على السرير بتعب، لمحت حاسوبها المحمول مُلقىً بجانبها إضافةً إلى الحقيبة ومحتوياتها.
حملت الحاسوب لتضعه في حجرها ثم فتحته، ولجت إلى القرص حتى ظهرت المربعات الأربعة، لم تفكر مرتين وهي تطبع أحرف اسم عليا فيها وياللمفاجأة، إنها كلمة السر الصحيحة! لم تتغير تعابيرها الواجمة وهي تتفحص محتوياته، كانت عبارة عن عدة ملفات، أهمها كان رسالة طويلة من والدها موجهةً إليها، فتحتها أولا لتطالع كلماتها دون أي تعابيرٍ على وجهها. (( ابنتي العزيزة.
لاأعلم إن كنتِ قد علمتِ الحقيقة بعد ام لا، وإن كان الاختيار الثاني فسأحكيها لك. لكن اعلمي أولا ياابنتي أنني كنتُ أجبنُ من أن أخبرك الحقيقة وجهاً لوجه، نعم ياأميرتي فأنا جبان.
ولدتُ لعائلةٍ فقيرة، كل أملاكها كان عبارةً عن فرن صغير كان والدي يعملان به، حتى انفجر بهما يوماً ليتركاني وحيداً لعمي الوحيد، كفلني عمي وهو لايجدُ مايسدّ به رمقي ورمقه، مات عمي بعد ثلاث سنوات وفي اليوم ذاته أخرجني صاحب المنزل لأتشرد في الشوارع أتوسل للناس واستجديهم لأجل حفنةٍ من المال. لقد أخبرتك بهذا قبلا أعلم ذلك، لكنك لم تعلمي ماحصل فيما بعد.
لكِ أن تتخيلي ياابنتي، صبيٌّ صغير مشردٌ في الشارع، حافٍ عارٍ وبدون مأوى ينام في شوارع بيروت الباردة في أيام الشتاء، لا يملك مايسد به ريقه، حاولت أن أتسوّل في الشارع، لكن أحدا لم يرأف بي بسبب الأحوال السيئة في بلادي وقتها، لذا امتهنت السرقة)) رفعت أميرة حاجبيها بدهشةٍ حقيقية، رغم كل ماسمعته من حقائق من يوسف بالأمس، لكن يبدو أن لدى والدها مفاجآتٍ أكثر، إنها صدمات أكثر منها مفاجآت.
(( نعم ياابنتي، أعلم أنكِ مُندهشةٌ الآن مما سمعته، ولكن هذه هي الحقيقة دون تزييف، بدأتُ أسرقُ كي أؤمن قوت يومي، حتى تعرفت إلى رجل ذو أخلاق طيبة، آواني في محل الحدادة لديه، وافق على أن انام فيها ليلاً و أعمل نهارا فيها، وكذلك ساعدني على العودة إلى المدرسة، وهناك تعرفتُ إلى سليم خاطر، شاب في مقتبل العمر، رافقته إلى أن انهينا دراستنا الثانوية ودخلنا الجامعة، حينها عرّفني إلى عائلته، والدته وزوجها وابنتهما، كانوا عائلة ثرية.
بعد فترةٍ ماتت الوالدة ليتبعها زوجها خلال أسبوع، ليبقى الفتاة التي علمتُ من نظراتها أنها معجبةٌ بي، وصديقي الطيب الغبي. كانت ثروتهم كبيرة نسبياً، عدد من الأراضي والمزارع والمنازل والمحال التجارية، إضافةً إلى المنزل الكبير الذي يسكنونه.
التمعت عيناي بطمع، وانا الشاب الذي يجاهد نهاره بطوله بين الدراسة و العمل ليؤمن قوت يومه، وهو الشاب الوحيد المدلل كثير السفر والترحال، وقد كان دائماً ما يذهب إلى عمه الثري في أمريكا. أصابتني الغيرة فبدأت أعوده على مصاحبة فتيات ليلِ وأيضا علمته على شرب المخدرات التي كان يؤمنها له صديقُ سوءٍ لكلينا، حتى أصبح يتغيب عن المنزل لأيام.
كنت بدوري أغوي شقيقته لتقع في غرامي، لكنني لم أحسب حساب أن أقع أنا في غرامها. ذات ليلة أخذت سليم إلى الملهى الليلي وهناك شرب حد الثمالة، ثم عدنا إلى المنزل وقتلته هناك، ثم دفنته في الحديقه )) شهقت بهلعٍ مبرر، والدها سارق محتال وأيضاً قاتل؟ وهي من كانت دوماً تتباهى بأنه أباها وانها ابنته؟ فعلاً ياللشرف العظيم!
(( نعم حبيبتي كما قرأتي بالضبط، عدتُ بعدها الى غرفتي والتي خصصها لي ٠سليم في منزله لأنام بها وكأن شيئا لم يكن، مرت فترة على غياب شقيقها حتى اعتادت الشقيقة الأمر ويأست من عودته، وهنا بدأ دوري، أخبرتها بأنني أحبها وأنني أريد الزواج بها، ثم جلبتُ ثلاثة شبان على اساس أنهم رجل الدين و الشهود لنعقد قراننا المزيف، بعد مدةٍ اقنعتها بأن تكتب لي وكالة عامة بجميع ممتلكلتها، والتي آلت إليها جميعاً بعد قتلي لشقيقها، وقد وافقت كونها تحبني.
بعد اسبوعٍ واحد كنتُ قد بعتُ الممتلكات جميعها و تهيأت للسفر إلى أمريكا لأبدأ حياة جديده هناك، كان بإمكاني تركها وحيدة هنا وأسافر، لكنني لم أستطع، شئٌ ما داخلي منعني ولم اعرف يومها بأنني أحبها، لذا وضعتُ لها كميةً كبيرة من المُخدر وسافرتُ برفقتها، ولم يسأل أحدٌ عن سبب نومها الطويل، يكفي أن تظهري مالكِ فيصبح الجميع خدماً عندكِ.
في أمريكا، بدأت فوراً في العمل في الممنوعات، وقد كان تهريب الآثار والمخدرات أبرزها، وزوجتي المفترضة كانت تبقى حبيسة القصر الذي اشتريته بمساعدة صديقِ سوء قديم، وهو نفسه من ساعدني على الدخول في هذا المجال.
صدقيني ياابنتي إن قلتُ لك بأنني لم أكن أعلم ما يحدث لي، كلّ ماأعلمه أنني كنت أستلذّ بضربها وتعذيبها بشكلٍ دائم، حتى أنني أجهضتها مرتين لأنني لم أكن أريد لأحدٍ أن يشاركني فيها، حتى لو كان ولدي ومن صلبي.
حتى حملت بكِ، لم تخبرني حينها، بل طلبت إليّ أن تزور قبر والديها فسمحتُ لها بالعودة إلى لبنان شرط أن يصحبها اثنين من رجالي، لكنها غافلتهما في المطار وهربت منهما، جُنّ جنوني حينما أعلموني بالأمر، ركبتُ سيارتي وقد اعتزمتُ على أن أذهب بنفسي لأبحث عنها.
لكن اعترض طريقي رجالُ إحدى الشخصيات البارزة والتي كنتُ أنافسها، لاأعلم ماحدث بالضبط، فقط أذكر أنني استفقتُ بعد عدة ساعات لأجد نفسي مُحاصراً في سيارتي التي سقطت عن الجرف، اتصلت بسيمون ليأخذني إلى المشفى، وهناك علمتُ أنني لن أستطيع الإنجاب مرة أخرى. )) وضعت كلتا يديها فوق رأسها، ياآلهي ترفق بي أتوسل إليك، هذه حقائق كثيرة لأعرفها في يوم واحد! ذرفت الدموع لتتابع قراءة الرسالة الطويلة.
(( رغم كلّ مااصابني لكنني لم أتوانى في البحث عنها، بعثتُ رجالي في كلّ مكان لكنهم لم يجدوها إلا أنني لم أفقد الأمل، وبعد أربعة أعوام علمتُ من أحد رجالي بأنه قد شاهد تقريراً على قناة محلية في لبنان وقد ظهرت زوجتي فيه، لم أفكر مرتين وأنا أرسل سيمون مع بعض الرجال ليحضروها لكنها لم تكن وحيدةً بل كانت معها طفلة لم تتخطى الثلاث سنوات، أعلمني سيمون بالأمر فظننتُ أنها نتيجةُ علاقةٍ غير شرعية بين زوجتي ومُضيفها وبأنه خليلها، وقد ضربه رجالي حينها حتى تسببوا له بالعجز في أطرافه السفلية وأيضا قاموا باغتصاب زوجته أمامه وبحضور ابنه ذو التسع سنوات)).
انتحبت في صمت وهي تغمضُ عينيها، وتضرب على رأسها بكلتا يديها، إذاً بسبب وجودها هي في الحياة ظنَّ والدها بأنها ابنة الطبيب محمد عادل، فقام رجاله بضربه وهتكِ شرف زوجته بسببها هي. كيف لها أن تنظر إلى عينيّ براء ووالده وهي تعلم أنها سبب دمارهم، كيف؟ فتحت عيناها بعد قليل لتكمل الرسالة، فهي تشعر أن هناك حلقةٌ مفقودة، ( من قتله)؟
(( عندما جلبوها إليّ كنتُ عازماً على الانتقام منها أشد الانتقام، لهروبها مني أولا وخيانتها لي مع رجلٍ آخر ثانياً. لكنها صدمتني بحق عندما اعترفت لي بأن الصغيرة ابنتي وأصرّت على هذا، فجلبتُ طبيباً ليأخذ من الصغيرة عينةً ويقارنها بعينةٍ مني وياللمفاجأة، كنتي ابنتي في الحقيقة.
لاتتخيلين ياابنتي كم شعرت بالسعادة المُطلقه حينما سمعت الخبر، وقد أبدلتُ اسمك إلى اسم أميرة، لإنكِ توجتي نفسكِ أميرةً على قلبي وحياتي رغماً عني. كنتي رقيقةً جميلة في صغرك، حاولت أن أُبعد والدتك الحقيقية عنك لكنني لم أستطع لتعلقك الشديد بها، فأمرتها بأن تربيكي على اساس أنها مربية، بل وههدتها بإنها إن أخبرتك الحقيقة فسأبعدها انا، لهذا سكتت ونفذت الأوامر المطلوبة منها بحذافيرها.
أتعلمين من هي هذه السيدة أميرة،؟ نعم كماخمنتي حبيبتي، إنها عليا هي والدتك الحقيقية. )) لم تعد تحتمل، تشعر بأنها على وشك التقيؤ لكنها قاومت هذا الشعور، لتتذكر لتوها أنها لم تأكل شيئا منذ يومان. كادت تغلق الحاسوب لولا أنها لمحت باقي كلمات رسالة والدها. (( عزيزتي أرجوك لاتغلقي الرسالة قبل أن تنهيها، لتعلمي إن للحكاية بقية. عندما أصبح عمرك سبعة أعوام تعرفتِ إلى يوسف اتذكرين؟
عندما دخل للمرة الأولى منزلنا مع زوج والدته صديقي آنذاك، بدايةً ام أتعرف إليه، لكنني علمتُ فينا بعد بأنه ابن سليم خاطر، شقيق عليا والدتك. كان ولداً غير شرعي، فوالديه الحقيقين لم يكملا مراسم الزواج في أمريكا، فاضطرت والدته لأن تتزوج بشخصٍ آخر عندما اختفى سليم بمدة قصيرة.
لا أنكر إنني حاولت أن اقتل يوسف، خشيت من أن يخبرك بالحقيقة أو أن يتآمر مع عليا ضدي لكنني فشلتُ في قتله، فزوج والدته كان الرجل الثاني في المافيا حيث كنت أعمل، وحتى بعد وفاته تولّى يوسف هذا المنصب. لقد علمتُ يا ابنتي، بأنّ عليا ويوسف قد اتفقا على قتلي ليثأرا مني على قتل سليم، والذي لاأعلم كيف علما بشأن هذا.
اعلمي يابُنيتي أنني أكتبُ لكِ هذه الرسالة قبل موعد عيد ميلادك الواحد والعشرون، وقد أوصيت سيمون بأن يعطيكي إياها لو أصابني مكروه، فقد علمتُ أنهما ينتويان قتلي يوم عيد ميلادك، وقد اكتشفتُ هذا بعد مراقبتي لهاتف عليا، وأنا لاآبه صدقيني، فخيرٌ لي أن أموت على يد من أحببتُ بصدق ولاآبه للطريقة.
آخر ما أريد أن أقوله لك حبيبتي أنني قد استقلتُ من المافيا حيث كنت أعمل، وقد أخذت قبل هروبي مستندات كثيرة تثبت تورط رجال وأسماء كثيرة، اعطها كلها للضابط براء عبدالساتر، ذاك الضابط الذي سبق وقابلته في الحفل. قد تسألين نفسك لم اخترتُ براء حصرا؟ حسنا لأنه يبحث خلفي وقد علم أن لي يداً في انتشار المخدرات بين الشباب، ولهذا أرسل أرسل رجلا ليراقبني.
وأيضا مع هذه المستندات ستجدين أوراق لمنزل عليا، منزل عائلتها القديم، لقد اشتريته لها منذ عودتي إلى هنا. في النهاية سامحيني يا ابنتي أرجوك، أعلم أنتي مُثقل بالذنوب والخطايا، لكنني أحتضر على كل الأحوال، فأنا مريضٌ ياابنتي، مريض بمرض سرطان الدم، وكأن الله ينتقم فني لكل شخص آذيته في حياتي. سامحيني يا ابنتي، واخبري والدتك بأن تسامحني رغم صعوبة هذا لكن فلتحاول. احبك ابنتي. والدك المهم، (( عمار)).
منذ لقائهما الأخير لم تره أو تسمع منه، قام الطبيب بنقلها إلى غرفةٍ عادية بعد أن نفذت من الموت بمعجزة منذ آخر زيارة لبراء لها، بيَدْ أن الممرضة والحرس بقوا ملازمين لغرفتها.
لم تفكر في أمر نفسها كثيراً، بل كان شغلها الشاغل أميرة ويوسف ومصير كلٍ منهما، خاصة وأن براء قد كشف أمر يوسف، من المؤكد لها أنه هاربٌ لحدِّ اللحظة، ودليلها على ذلك الرجال الذين أرسلهم هو لاختطافها من المشفى يوم أمس، وقد علمت بالأمر عن طريق الصدفة، لكن أحداً لم يخبرها بما جرى بين براء ويوسف ومصير أيٍّ منهما.
تنهدت بحزن وهي تسند ظهرها على حافة السرير خلفها، كم اشتاقت لابنتها، خاصةً أنها لم ترها منذ آخر زيارةٍ جمعتهما في المشفى بحضور براء، لاتعلم بعد إن كان براء قد أخبرها بأنها ويوسف من قتلا عمار أم لا، أغمضت عينيها بوهن وهي تبتهل إلى الله داخلها بأن تراها وتطمئن عليها.
كانت نسمة خارجاً عندما دلفت أميرة إليها، جحظت عيناها بسعادة وانشقّ ثغرها عن ابتسامة عريضة، وكأن الله استجاب لدعائها وتوسلاتها، هتفت بفرح اقتحم قسماتها: أميرة، حبيبتي! تقدمت ناحيتها بخطوات ثقيلة، ازدردت ريقها وهي تحدثها بجمود: كيف حالك؟ استغربت برودها معها لتنتبه لتوها إلى ملابس أميرة الداكنة كأنها في حدادٍ جديد، وحالها المُزري ووجهها المُجهد كأنها لم تنم منذ أدهر.
ساورها القلق في شأنها، لكن أميرة لم تترك لها فرصة التفكير حين سألتها بغتةً: هل صحيحٌ أنك من قتل والدي؟ تجمدت حواسها وانقطعت أنفاسها للحظة، طالعتها بصدمة وهي تعتقد أنّ براء من أخبرها، في حين أضافت ابنتها كمن قرأ أفكارها: والدي من أخبرني بالأمر. سكتت لثانية تُعاين تعابيرها المصدومة ثم أردفت ببرود: بمشاركةِ يوسف.
تسارعت أنفاسها باضطراب وهي تبحث عن صوتها، إلا أن أميرة تابعت بقسوة اكتسبتها من أحداث اليومين الأخيرين: لقد علمتُ بالحقيقة كاملةً، عليا. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تهمس بجزع: أميرة. لم تبالي الأخيرة، بل أضافت بذات النبرة القاسية وهي تحدق في عمق عينيها بقوة: هل تعرفين أنني قد قتلتُ يوسف؟ شهقت عليا بصدمة حقيقية وقد حررت دموعها، أزدادت حدّة صدمتها عندما أردفت الأخرى بتمهل: وبراء الآن في المستشفى.
ازدرمت ريقها بمرار قبل أن تضيف: في غيبوبة. حبست دموعها داخل عينيها، تنفست بعمق لتثبط انفعالاتها ثم تابعت بحشرجة: بعد أن حقنه يوسف بسم كوبرا مخفف... صمتت لعدة ثوان ثم همست بخفوت: بسببي أنا. عادت ورفعت صوتها قائلةً بثقة وهي تحرك رأسها بإيجاب كأنها تحدث نفسها: لكنني متأكدةٌ أنه سيكون بخير.
ارتجفت شفتاها بصدمة موجعة وهي تطالع وجه ابنتها ذو الملامح الواجمة، وقد اكتسبت تعابيرها حدّةً وقسوة غير مألوفةٍ لها، وكأن من أمامها هو شخصٌ آخر.
ترجلت ملك من سيارة الأجرة التي استقلتها إلى القصر، لتطمئن على أميرة فهي منذ أن طمأنهم الطبيب عن حالة براء غادرت المشفى ولم تعد إليها. كانت باحة القصر الخارجية فارغة تماماً، حتى لاوجود لسيارة أميرة، خمنت أنها ربما ماتزال في الشركة حيث تركتها قبل أن يختطفها يوسف، حتى الحرس قد غادروا.
وصلت إلى الباب لتضغط على الجرس، انتظرت ثوانٍ حتى حضرت آمال وفتحت لها الباب، طالعتها بابتسامة صغيرة هاتفة: اهلا وسهلا آنسة ملك، تفضلي بالدخول. خطت ملك داخلا لتتحدث وهي تتجه صوب الصالة: شكرا لك آمال، أريد أن أرى أميرة، هلّا أخبرتها أنني بانتظارها هنا؟ تصنمت آمال مكانها وهي تجيب ملك بجبين مقطب: ولكن الآنسة أميرة قد خرجت منذ الصباح الباكر حتى أنها لم تحدثني، لقد ظننتُ أنها قد ذهبت إلى المستشفى.
التفتت ملك نحوها وهي تردد باستغراب: خرجت منذ الصباح؟ رمشت عيناها وهي تقول بدهشة: لكنني لم أرها في المستشفى. زمت فمها بتفكير ثم اردفت بحزم: ربما تكون قد عرجت إلى الشركة قبل أن تذهب إلى براء. تحركت خارجةً وهي تحادث آمال: سأذهب لأراها هناك، وانتي آمال إن حضرت أميرة إلى هنا أبلغيها بأن تحادثني فوراً.
تبعتها آمال وهي تشير برأسها إيجابا، أغلقت الباب خلف ملك وقد بدأ ينتابها الشك، لاتظن أن أميرة قد ذهبت إلى الشركة فهي عندما نزلت صباحاً لم تكن في وضعٍ مُهيأ للعمل، فهناك أمرٌ ما يشغلها، عرفت هذا عندما دخلت إليها بعد عودتها لتسألها إن كانت تريد أن تتناول الطعام، رفضت أميرة أن تتناول شيئا لكن لاحظت آمال أوراق كثيرة متناثرة حولها وقد انكبت على قراءتها باهتمام، استبعدت أن تكون الأوراق متعلقة بالعمل فأميرة لم تجلب معها أية أوراق.
تنهدت بتعب وهي تتحرك ناحية المطبخ، لكن ظلّ عقلها يعمل ويحلل مارأته من وضع أميرة ليلة البارحة.
ساد الصمت للحظات كانت أميرة تحاول استجماع قوتها ثم تابعت حديثها بشقاء: براء في المشفى بسببي، ، كما أن حياته قديماً تدمرت بسببي أيضاً. لم تجد ماتقوله لها في هذه اللحظات، شعرت بأنها لاتعرفها وكأنها غريبةٌ عنها.
لم تأبه أميرة بملامح الصدمة التي اعتلت وجه عليا وقسماته، فأخذت نفساً عميقا زفرته بتمهل، بللت شفتيها وازدردت ريقها، ثم تقدمت نحوها بخطى ثابتة وهي تدسّ يدها في حقيبتها، أخرجت منها ورقة ما ومظروفاً ورقياً ثقيلاً وضعتهما بجانبها، ثم اعتدلت في وقفتها هامسةً بصوت لاأثر للحياة فيه: لقد علمتُ من المحامي أنه سيتمّ نقلك إلى السجن في آخر النهار، ستتم مُحاكمتك بتهمة القتل العمد، وقد كلّفتُ المحامي بأن يتولى الدفاع عنك.
سكتت لثانية لتأخذ نفساً عميقا فالحديث قد أنهكها، ثم تحدثت بآخر جملها قبل المغادرة للأبد: لقد استرجع والدي منزل عائلتك القديم وسجله باسمك، وفي هذا المظروف مبلغٌ من المال يكفيكِ لفترةٍ طويلة، هذا آخر مااستطيع منحكِ إياه قبل رحيلي. ازدردت ريقها بآسىً على حالها ثم أضافت بنبرة ثابتة: أنا راحلةٌ ولن أعود إلى هنا ثانيةً. ترافقت آخر جملها مع شهقة مُرتاعة فلتت من عليا ثم هتفت بهلع: أميرة، ابنتي!
لم تأبه أميرة بندائها ولا بعبراتها التي سالت كالشلال وهي تحرك رأسها بإنكار بحركة خفيفة كأنها لاتصدق بأن تتخلى عنها ابنتها بهذه السهولة، وهي من ذاق الأمرين لأجلها. استدارت خارجةً من الغرفة بعد أن كادت تختنق استندت على حائط الرواق وهي تتنفس بعنف، حررت دموعها وهي تقنع نفسها بأنها فعلت الصواب معها، فوالدتها تتحمل بطريقةٍ أو بأخرى مسؤولية ماآلت إليه حياتها.
كان يمشي في كرم الزيتون القديم، بين أشجاره المعمرة وهو يناظر قريته التي كان يعيش فيها بإعجاب، فقد اكتست القرية وحتى المنازل باللون الأخضر. سمع صوتها مُنادياً خلفه: براء، حبيبي. التفت بعنف ليرى والدته تتقدم نحوه حاملةً بين يديها طبقاً من الخزف أخضر اللون، راسمةً على شفتيها ابتسامتها البشوشة، نظر إلى الطبق الذي تحمله في يدها فرأى فيه قطع من الحلويات التي يحبها.
تقدم نحوها مُهرولاً بسرعه، لكنها فجأة عقدت حاجبيها ونهرته بإشارةٍ من يدها، تجمد مكانه وهو يتابعها بعينيه حتى وقفت أمامه لتخاطبه بغضب: منذ متى وأنت تهرب؟ استغرب مقالها فأضافت هي بحزم: ولدي أنا ليس جباناً. رمشت عيناه وهو يطالع وجهها الذي اشتاقه بشدة ليهمس بضعف: أمي! لم تتبدل تعابيرها الغاضبة وهي تزجره: أنا لم أُربكَ على الضعف والهزيمة.
ظلّ للحظات يناظرها بدهشةٍ بائنة، فجأة ارتخت ملامحها لتعود الابتسامة تُزين وجهها، رفعت الطبق أمام وجهه مُرددةً بحنان: هيا عزيزي، كُلْ من هذه الحلوى، إنها حلواك المفضلة، أتذكر؟
أماء لها موافقا بشرود، رفعت إحدى القطع بين يديها قم قربتها من فمه حتى وضعتها فيه، مضغ اللقمة بتمهل وهو شاردٌ فيها، ماإن انتهى حتى امتدت يدها لتديره من كتفه برويّة، استدار ليرى أميرة واقفةٌ على الجانب الآخر من الحقل، ترتدي ملابس سوداء وتحني رأسها في خزيّ، قُبِضَ قلبه لمرآها في هذه الحال، سمع والدته تهمس له وهي تدفعه من كتفه بهدوء: لاتتركها لتضيع منك مرة أخرى، إياكَ بُني.
ظلّ لثوانٍ يُحدق في وجهها الباكي، لينتبه لتوه إلى كلمات والدته، لم يفهم مغزاها فالتفت إليها فلم يجدها، أعاد نظره إلى أميرة ليجدها موليةً إياه ظهرها وهي تركض هاربةً، حاول اللحاق بها لكنه سقط في حفرةٍ لم يتبينها.
انتفض جسده بخفة ليفتح عينيه فجأة، طالع السقف فوق رأسه باستغراب أغمض عينيه ليفتحهما ثانيةً وهو يدير وجهه يتفحص الغرفة، صوتُ جهازٍ رتيب يصدح قربه، مشبكٌ ما مُعلق على إصبع يده اليمنى، أسلاكٌ عديدة غطت صدره العاري وإبرةٌ مغروزةٌ بيده، استغرقه الأمر لحظاتٍ عدة ليدرك أنه يرقد الآن على سرير المشفى.
ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وهو يشعر بوهنٍ عظيمٍ في جسده، عيناه زائغتان لدرجة لم يتبين والده الجالس إلى يمينه يتلو القرآن الكريم بصوتٍ خفيض، ابتسم بضعفٍ عندما تعرف إليه من كرسيّه المُدولب. استشعر الطبيب محمد عادل حركةً خفيفة من ولده، صدّق ليغلق المصحف ثم ناظر ابنه بابتسامة صغيرة وعينين دامعتين.
أسند الكتاب الكريم على طاولةٍ خشبيةٍ قريبة، ثم حرّك كرسيه حتى أصبح بمحاذاة ولده، رفع كفه المُجعد ليضعه على وجنته هامساً بنبرة متحشرجة: علمتُ أن الله لن يمتحنّي فيك، ليس بعد كلّ ماكابدناه سوياً. ابتسم باقتضاب مردداً بصوتٍ مُجهدٍ وماتزال البحةُ واضحةً فيه: والدي، اشتقت إليك.
اتسعت ابتسامة والده تدريجياً حتى تحولت إلى ضحكاتٍ خافتة، وانهالت عبراته فرحاً بعودة وحيده إليه، انحنى صوبه ليطبع قبلةً على جبينه هاتفاً: حمداً لله على سلامتك يا قلب أبيك.
دلفت ملك لتوها إلى المستشفى وهي تزفر بثقل، قابلتها زينب في الرواق لتسألها بابتسامة صغيرة: مابكِ ملك؟ لمَ تنفخين هكذا ياابنتي؟ ابتسمت ملك لها باقتضاب لتردف: سيدة زينب، كيف حالك؟ وقفت زينب أمامها وهي تحمل دورقاً من الماء كانت قد ذهبت لجلبه من أجل دواء زوجها مجيبةً: أنا بخير ياابنتي، وأنت؟ -هزت رأسها وهي تتمتم: انا بخير. ثم قطبت جبينها سائلةً إياها: هل حضرت أميرة إلى هنا اليوم؟
عقدت زينب حاجبيها باستغراب لتردد: لا، مذ رحلت بالأمس لم تعد إلى هنا، ولكن لمَ تسألين؟ نفخت ملك بضجر وهي تمرر يدها بين خصلاتها، قائلةً بضيقٍ حقيقي: لم أجدها لافي منزلها ولا في الشركة، هاتفها مغلقٌ وآمال أخبرتني أنها خرجت باكرا ولم تكلمها حتى، ظننتُ أنها ربما جاءت لترى براء. تفكرت زينب قليلاً وقد بدأ القلق ينتابها، ثم همست لملك: تعالي لنراها في غرفة براء، لربما جاءت ولم أرها.
هزت رأسها في استحسانٍ للفكرة، ثم تبعت زينب إلى غرفة براء حيث فوجئتا بإفاقته من الغيبوبة.
تفركُ يديها ببعضهما وهي تطالع سمير الذي عكف على قراءة الأوراق التي جلبتها له مع القرص، وضع آخر ورقةٍ من يده، رفع رأسه نحوها ثم وضع يديه على الطاولة شابكاً إياهما ببعض، وتحدث بجدية: آنسة أميرة هذه الأوراق خطرةٌ للغاية، أخبريني من أين أحضرتها؟ ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيب بصوت خفيض: لقد وجدتها في غرفة والدي. رفع حاجبيه بدهشة ثم تمتم كمن لم يصدقها: لكننا بحثنا في غرفة والدك اكثر من مرة ولم نجدها.
عقدت حاجبيها بضيق عندما وصلها شكه فهمست: لقد كانت مُخبأةً في مخبأٍ سري حضرة الضابط، في صندوقٍ سري في سقف غرفة والدي أعلى السرير. هزّ رأسه بتفهم، قبل أن تضيف: هلّا أخبرتني بما يوجد في هذه الأوراق، لإنني قرأتها ولم أفهم منها شيئا؟ ابتسم سمير بخفة مجيباً: إنها تتحدث عن مافيا كبيرة جداً، ومجموعة يوسف أو المشهورة باسم مجموعة الكوبرا هي منبثقة عنها، وهي تتولى إدارة أعمال المافيا في الدول العربية.
هزت رأسها بتفهم ثم تحدثت: وهل هذه الأوراق نافعةٌ القبض عليهم، أليس كذلك؟ - طبعا. ازدردت ريقها بوجل وهي تتمتم مجدداً: إذا، متى ستقوم بتقديم هذه الأوراق سيادة الضابط؟ رمقها بنظرة متفحصه وهو يخبرها، : لن أقوم بتقديم أي شئ، بل يجب عليك أنت أن تقدميها إلى براء عندما يستفيق.
اشاحت بوجهها عنه وهي تغمض عينيها بقوة تحاول أن تمسك دموعها لئلا تنهار أمامه فيكتشف مخططها، فيما هو يتفحصها قاطعه رنين هاتفه، اجاب على ملك لتخبره بأن براء قد استفاق. سيلٌ من المشاعر غزا روحها و هزت كيانها عندما أنتفض سمير من مكانه واقفا يصرخ بسعادة لأن صديقه قد فتح عينيه أخيراً، صاح بملك يخبرها بأن أميرة هنا وسيحضرها معه.
ابتسمت بسعادة وقد تسابقت دموعها في إعلان فرحةٍ باكية، كم اشتاقت للنظر في عينيه لكنها لم تعد تمتلك هذا الحق، كيف لها أن تقابله بعد أن كانت السبب في معاناته؟ نعم ربما لم يخبرها أحدهم بكمِّ العذاب الذي عاناه في السنوات التاليه لتلك الحادثة، لكنها بالتأكيد لن تكون أمراً هيّناً، صبي صغير عمره تسع سنوات يشهد هتك عرض والدته وضرب والده حتى أصابه العجز، من المؤكد أنه عانى وتحمل مالم تحتمله الجبال.
اقتنعت يوم أمس بعد رسالة والدها أن لاحق لها بالتمتع بحب براء وطيبة عائلته، لذا سترحل بعيداً، ستتخلى عن كل شئ حتى قلبها ستتركه بجانبه هنا وترحل، تحمل معي يا قلب قليلاً، لم يتبقى على إقلاع الطائرة سوى وقتٍ قصير، لاتعلم حقاً إلى أي بلدٍ ستسافر، المهم أن ترحل، علّ رحيلها يهديه بعض السلام، فهي من سينتقم له منها.
استفاقت من شرودها على حركةِ سمير أمام وجهها يسألها إن كانت ستحضر معه لترى براء، أعتقد أنها ستطير من الفرح ماإن تسمع بهكذا نبأ، لكنها استقامت بكل برود وهي تردد بابتسامة لم تصل لعينيها: لا بأس، سأذهب وحدي. خرجت من فورها وهي تقاوم دموعها، يجب أن ننهي هذا الوجع، الآن.
قادت سيارتها بسرعة كبيرة متجهةً إلى قصرها، صعدت الى غرفتها راكضة غير آبهةٍ بنداءات آمال خلفها، التي أصابها الذهول عندما صعدت خلفها لتجدها واضعةً حقيبة صغيرة على سريرها وهي تضع ملابسها بإهمالٍ ودون ترتيب. صاحت آمال باستغراب: آنسه أميرة، مالذي حدث؟
رفعت عينيها الدامعه لتقابل وجه آمال السائل، ازدردت ريقها بتوتر وهي تحدثها بصوت متعب: أنا مسافرةٌ آمال، أغلقي القصر بعد رحيلي وابعثي بالمفاتيح إلى المحامي في الشركة.
ألقت كلماتها تلك بعجالة جعلت آمال تقف مصدومة، لم تستفق من صدمتها الا بإغلاق أميرة لحقيبتها، ثم توجهت إلى الطاولة المجاورة السرير لتخرج جواز السفر وبطاقتها وبعض المال، دستهن في حقيبتها ثم توجهت لتخرج، توقفت بجانب آمال طالعتها بغموض للحظة ثم انقضت تعانقها وبكت بكل ماأوتيت من قوة.
رغم شعوره بالريبة والانزعاج من تصرفها البارد، إلا أن هذا لم يمنع ذهابه لرؤية صديقه بكل حماس، دخل المشفى بخطوات راكضة حتى وصل إلى غرفته، فتح الباب دون أن يطرقه ليظهر من خلفه وجه صديقه وهو يبتسم بتحفظٍ شديد، وقد جلس نصف جلسة. وقف للحظات يطالعه باشتياق، ثم مالبث أن هجم عليه يعانقه، انطلقت ضحكات خافتة من براء بسبب تعب جسده هامساً: سمير أيها الوغد، لقد قتلتني.
ابتعد عنه وهو يغالب دموعه ليهمس وهو يربت ع لى كتفه بخفة: حمداً لله على سلامتك أيها البطل، لقد اشتقنا إليك. أهداه ابتسامة فاترة وهو يطالعه بتساؤل، فقد علم من ملك أن أميرة برفقته وستأتي معه، فيما بان التوتر على وجه سمير. سأله براء بجدية: أين أميرة؟ سكت سمير وهو لايعرف بما يجيبه، ساد الصمت للحظات كان براء ينقل نظره بينهم يبحث عنها بين الوجوه، شعر بنغزة تضرب قلبه وقد استشعر حدثاً لايبشر بخير.
همّ بتكرار سؤاله عندما صدح صوت هاتف ملك، عقدت حاجبيها بريبة ثم رفعته لتجيب على اتصال آمال: آنسة ملك أرجوكي ساعديني؟ صاحت بها الأخيرة بلهفة وهي تظن أن مكروها حدث لاميرة: خيراً آمال، مالذي جرى تكلمي؟ اشتدت حواسه كلها مع حديث ملك وقلبه غير مرتاح لاتصال آمال، ساد السكون للحظات قبل أن تنطق ملك بصدمة: أميره ستسافر! توقف الزمن عنده في هذه اللحظة، هل سيفقدها مجدداً؟