رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والعشرون
إنه صباحٌ مختلف، خرج جواد من المنزل باكراً ليقوم ببعض التمارين الرياضية المُعتادة في حيهم الهادئ، ثم توقف أمام الفرن ليأخذ بعض الفطائر الساخنة للإفطار. بينما كان ينتظر طلبه لاحظ مرور ليليا بجوار الفرن، كانت مُرتديةً بنطالاً واسعاً من الجينز الأزرق وكنزة صوفية ذات لونٍ أخضر باهت، وتلف وشاحاً صوفياً بنفس لون الكنزة.
كانت حاملةً لكتبها الجامعية وتمشي بخطىً سريعة، ابتسم بتلقائية ماإن رآها، سرعان مااختفت ابتسامته عندما لاحظ شابين يبدوا أنهما يتبعانها، عقد حاجبيه بريبة وقرر اللحاق بهم دون أن يلاحظوه، فمشى خلفهم مُتخفياً وقد صدق ظنه بأنهم يتبعونها، بل ويزعجونها أيضاً.
استمرّ في ملاحقتهم حتى انزوت ليليا في زقاقٍ جانبي ضيق لتصل إلى الشارع الرئيسي، فتبعها الشابين وزادا من مضايقتها، أسرعا بخطاهما حتى حاصراها فأصبح كلاهما يمشيان على يمينها، ويقتربان منها حتى التصقت بالحائط وعجزت عن الحركة قبل أن تصل للشارع.
ارتخت قبضتيها عن كتبها وزادت ارتجافتها مع ازدياد لمسات أحدهما جراءةً عليها حتى أنها عجزت عن الصراخ، اقترب منها حتى ضربت أنفاسه الكريهة بشرتها فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وهي تغمض عينيها، كاد أن يقبلها من رقبتها عندما امتدت يد أحدهم لتسحبه بعيداً عنها ويرميه على الأرض برفقة صديقه، صارخاً بهما بقوة: أبعد فمك القذر عنها.
فتحت عيناها عندما سمعت هذا الصوت المألوف، إنه جواد الذي تقدم نحوها ليأمرها بصوت جاد وهو ينحني ليأخذ كتبها: عدّلي ثيابك واخرجي من هنا، فوراً. ظلت لثوان ترمقه بنظرات غامضه لم يفهمها، حتى شعر بحركةٍ خفيفةٍ خلفه، التفت ليقابله أحد الشابين بلكمةٍ قوية على وجهه جعلته يلتفّ إلى الناحية الأخرى.
صرخت ليليا بفزع وقد وقف الشابان بمواجهة جواد الذي نفض وجهه بشدة من قوة اللطمة، وقف أخيراً باتزان عندما سمع صوت صراخها، استدار نحوهما وقد أربد وجهه بغضبٍ قاتل.
اقتربت منه غريزياً حتى أصبحت خلفه لتحتمي به، وهي تنظر بهلع إلى الشاب الذي أخرج سكيناً حادة من جيبه، ازدردت ريقها بصعوبة وقد علا صوت أنفاسها، حتى سمعته يخاطبها بنبرةٍ غشيها الغضب، وهو يحدج ذينك الشابين بنظرات لا تبشر بالخير: اخرجي من هنا ليليا، الآن. ارتجف جسدها وهي تومأ بتلقائية، استدارت لتخرج من الزقاق الضيق بخطوات أقرب للركض.
لم تغادر نظراته الغاضبة وجه الشابين الذين بديا كأنهما تجرعا مُخدراً ما، استمع لصوت خطواتها المُبتعدة وتنفس براحة ماان شعر أنها أصبحت في مسافة أمان. هاجمه حامل السكين بضربةٍ تفاداها ببراعة ثم أمسك ذراعه ولواها حتى كادت تنكسر، فهجم عليه الآخر فقام بدفع الأول عليه ليسقطا كلاهما أرضاً وهو يصرخ بهما: اذهبا واعتديا على من هم بحجمكما.
نفض يديه وهو يرمقهما باشمئزاز، ثم مشى عدة خطوات لينحني ويلملم كتبها مجددا، لم يشعر إلا وأحدهما قد طوّق عنقه بيديه ليخنقه، ثم جذبه للخلف حتى أسقطه أرضاً وانهال عليه كلاهما بالضرب، حاول أن ينهض وقد نجح بصعوبة، فأصبحت المواجهة بين ثلاثتهما عنيفة وقوية.
ماإن خرجت ليليا من الزقاق حتى بدأت بالصراخ لتستنجد بالمارة تزامناً مع مرور دورية شرطة في المكان، سمع الشرطيان صراخها فدخلا الزقاق ليجدوا العراك القائم بين الثلاثة، لم تكن مواجهةً عادلة أبدا، حيث كان جواد وحيداً أمام اثنين، تمكن رجلي الشرطة من فض العراك بمساعدة بعض المارة بصعوبة.
خرجت أميرة من حمام غرفتها وهي ترتدي مئزرها الطويل، وتلف شعرها بمنشفةٍ قطنية، اتجهت نحو خزانتها لتخرج لها ثياباً، لكنها غيرت وجهتها عندما سمعت صوت جرس الباب، خرجت لترى من الطارق ولو أنها على يقين من هويته. رأت شادية من خلال زجاج الباب وهي تحمل في يدها علبةً بلاستيكية معتمه، ابتسمت أميرة ببشاشة وهي تفتح الباب لها وهي مُختباة خلفه، فدخلتت شادية بابتسامتها المعتادة قائلة: صباح الخير.
أغلقت الباب خلفها وهي تتجه نحوها هامسةً: صباح الخير. وضعت مابيدها ثم اعتدلت في وقفتها وهي تخبرها بحبور وهي تشير للعلبه: لقد اتصلوا بهاني باكرا جدا حتى أنه لم يتناول إفطاره، فطلبتُ من راشيل أن تعد لنا بعض الفطائر الساخنة لنتناولها سويا، ما رأيك؟ أماءت أميرة لها وهي تتمتم: طبعا، فقط دعيني أبدل ثيابي.
تحركت من فورها الى غرفتها، تاركةً شادية لتجلس في الصالة بتثاقل، لقد دخلت مؤخراً في شهرها الأخير من الحمل، وبدأت نغزات بسيطة متكررة على مراحل متباعدة تضرب أسفل ظهرها.
تنهدت بخفة وهي تنقل نظرها في الصالة، حتى لفت نظرها دفتر صفير أشبه بدفتر مذكرات مسنود على طاولة جانبية صغيرة، توقعت بدايةً أنه دفتر مذكرات أميرة، حاولت أن تتحاشى النظر إليه لكن فضولها غلبها، نظرت إلى الرواق حيث اختفت أميرة ثم تناولت الدفتر لتفتحه لتتفاجأ بمئات الرسائل القصيرة المختلفه.
لفت نظرها أن كل رسالة مكتوبة قد بدأت بكلمة ( حبيبي) فعلمت أنها موجهةٌ جميعها إلى براء، قرأت آخر رسالة كتبتها مؤخراً والتي كان عنوانها ( رسالة إلى الألم)، تأثرت بكلماتها كثيراً، أغلقت الدفتر مجددا وهي شاردةٌ في نقطة في الفراغ، جميع ما سمعته من أميرة حتى الآن لم تجد فيه سبباً مُقنعاً ليفترقا.
توجهت بدايةً للتخمين بأنّ الأمر له علاقةٌ بخيانة براء لها، لكنها الآن وبعد أن قرأت هذه الرسائل اقتنعت أن سبب ابتعادهما أكبر منهما، وأكبر مما قد تتخيله هي. أفاقت من شرودها على صوت إغلاق أميرة لبابها، أعادت الدفتر إلى لمكانه فوراً ثم اعتدلت في جلستها ورسمت ابتسامة مجاملة على شفتيها، حتى دخلت أميرة لتخبرها وهي تتجه صوب المطبخ: سأحضر الشاي.
وقف جواد بجوار سيارة براء خارج قسم الشرطة وهو ينظر في المرآة الجانبية يتفحص وجهه، زفر بضيق وهو يرى الجراح الجديدة التي ملأت وجهه، بينما هو كذلك خرج براء من القسم هو الآخر مُحاولاً كتمان ابتسامته الساخرة، أشاح جواد وجهه بعيدا عنه وهو ينفخ بضجر، فلم يكف براء عن السخرية عليه داخل القسم، وما زاد من ضيقه أن الضابط المسؤول لم يصدق عندما أخبره براء بأن جواد طبيب نفسي وخريج أشهر جامعات العالم، رمقهما بنظرة شك غيرُ مصدق لما سمعه البتة.
وصل براء إلى جواره وهو يمسح على رقبته من الخلف بابتسامة مكتومة، حاول جواد تحاشي النظر إليه لكنه لم ينجح، فرمقه بنظرة مُغتاظة قبل أن يصيح به: والآن ماذا؟ حرر براء ضحكته الساخرة اخيراً وهو يخبره: لم تتمّ بعد أسبوعك الثاني هنا حضرة الطبيب، وهاأنت ذا خارجٌ من قسم الشرطة بسند كفالة بعد ضربك لشابين ثملين؟! اشاح بوجهه بعيدا عنه متمتماً: هذا ماحدث.
رمقه براء بنظرات متفحصه، لم يصدق ماقاله جواد في القسم بأن سبب عراكهما هو أن الشابين حاولا الاعتداء عليه، فسأله بجدية: أخبرني جواد، مالسبب الحقيقي الذي تعاركتما لأجله؟ يعلم بذكاء براء ويعلم أيضا أنه لم يصدق حجته الواهية في القسم، ومع ذلك حاول المراوغة معه فبحث سريعاً عن كذبةٍ يخبره إياها عندما هتف براء باستغراب وهو يحدق في نقطة ما خلفه: أليست هذه ليليا؟
التفت إليه جواد ثم استدار حيث ينظر براء، فوجد ليليا تنظر لهما بتردد. هرول ناحيتها تاركاً براء خلفه يطالعهما باستنكار، استغرقه الأمر ثانيتين ليدرك أن الأمر أساسا له علاقة بليليا وأن جواد لم يذكر اسمها بالتحقيق خشيةً عليها وحمايتها، ابتسم باستحسان على أخلاقه التي لم تدنسها حياة الاغتراب، وصعد في سيارته بانتظاره.
تبعته ليليا دون علمه بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه برفقة الشابين، بقيت تنتظره خارجاً حتى بعد رؤيتها قدوم براء بعد أن قام جواد بمهاتفته من داخل القسم. وصل أليها وهو يسألها بقلق حقيقي: ليليا، ماالذي تفعلينه هنا؟ رفعت رأسها تنظر إليه بتردد ثم همست بحرج: أنا آسفة. استغرب اعتذارها فعلاً فسألها مجدداً: علامَ تعتذرين؟
ترقرقت في مقلتيها عبرات خجل وهي تطالع تلك الجراح التي كانت هي سبباً فيها، فتمتمت: آنا آسفة فأنا سبب ضربهم لك. لاينكر استغرابه من تحميلها اللوم لنفسها، فهتفت بجدية: ليليا، ذينك الشابين هما المُلامين الوحيدين هنا، فهما من تبعاكِ وحاولا مضايقتك، بينما انت متجهةً نحو جامعتك، أي أنه لاذنب لكِ. ابتسمت بخفة وهي تتمتم: شكرا لإنك لم تذكر اسمي في التحقيق.
بادلها ابتسامتها مُتحدثا: طبعاً لن أذكر اسمك، فأنا أعلم أن في هذا إساءة لك وقد يمس سمعتك، وهذا آخر ماقد أودّ به في حياتي. التمست الصدق والاهتمام في نبرة صوته فابتسمت وهي تومئ له بالإيجاب، عرض عليها أن يوصلها برفقة براء فرفضت بلطف، فأوقف لها سيارة أجرة ووقف ينظر في آثرها إلى خيالها المُبتعد.
أيقظه من شروده بوق سيارة براء التي اصطفت إلى جانبه دون أن يلاحظها، انزل زجاج النافذة ليتحدث بسخرية: إذاً حضرة الطبيب، هل ستركب معي لنرحل ام أنك بانتظار شخصٍ آخر لتتعارك معه؟ ابتسم جواد باتساع ليردّ عليه بسخريةٍ هو الآخر: لا حضرة الضابط، أفضل أن أتعارك معك انت. ثم رفع ذراعه يطويها وغيرها بحركة مسرحية مُضيفاً: نريد رجالاً لنتعارك معهم، ليس أطفالاً.!
قهقه كلاهما على كلماته الاخيرة ثم استقلّ السيارة بجوار براء متجهين إلى منزل الأخير.
وصلا المنزل بُعيد الظهيرة بقليل، هاتف والدته ليخبرها بأنه سيبقى عند براء لئلا يثير قلقها. خرج بعد فترةٍ قصيرة من بعد أن اخذ حماماً ساخناً، وارتدى بعض الثياب النظيفة من خزانة براء، خرج للبهوّ ليجد مدبرة منزل براء ترص أطباق الطعام إلى المائدة، فجلس على كرسيه فوراً، وقد حفزت هذه الروائح معدته الفارغة.
حضر براء هو الآخر بعد أن غسل يديه ليجد جواد قد باشر بالطعام فعلاً، فهتف به باستنكار مزيف، : أليس من الأدب انتظار قدوم صاحب المنزل؟ رفع رأسه مُجيباً بلا مبالاة وفمه مملوء بالطعام فتناثرت فتاته أمامه: لم أستطع الانتظار، فقد بذلتُ مجهوداً مضاعفا اليوم. تجعدت تعابيره بانزعاج مصطنع هاتفا وهو يسحب كرسيه: أغلق فمك أيها المُقرف!
أنهيت إفطارهما وخرجا إلى الشرفة المقابلة للبحر، جلس جواد على كرسي ما وهو يتنفس بعمق هاتفا: يا الله كم هي جميلة رائحة البحر! ابتسم براء بخفه ولم يعقب، بل اتخذ وضعيته المعتادة وسرعان ماغاص في تفاصيل الذكريات.
Flash Back. لم ينتظر قدوم بقية رفاقه، بل تركهم في القصر وخرج مُصطحباً معه الكاميرا التي سبق وأن وجدها مُخبأة بجوار باب غرفة عمار. وصل قسم الأمن الجنائي وصعد فوراً إلى مكتبه، طلب أحد الأفراد العاملين في القسم التقني، وأمره بأن يجلب المُعدات اللازمة لفتح ذاكرة الكاميرا، ماان حضر الشاب حتى أمره براء بأن يُباشر عمله.
جلس طارق على الكرسي واضعاً أمامه حاسوبه الشخصي وبعد المعدات الصغيرة والأسلاك، فتح حاسوبه المحمول وأوصل به ذاكرة الكاميرا. وقف براء خلفه وهو يراقب بانتباه وتركيز شديدين، استطاع طارق فتح ذاكرة الكاميرا التي كانت ذات حفظ تلقائي، ضيق براء عينيه وهو يأمره: قدّم الشريط إلى تاريخ حدوث الجريمة.
فعل طارق ماأمره به براء، قدّم المقطع إلى ساعة الجريمة و انحنى براء يراقب باهتمام، لاحظ إغلاق الأنوار، بعد بعض الوقت ظهر خيال شخصين أمام باب الغرفة، ابتسم بمكر عندما لاحظ وجود عليا وشابٌ ما يقف بجوارها، ولكن مهلاً هذا.؟ اتسعت عيناه بصدمة وهو يرى يوسف يدلف برفقتها.
رغم شكه المُسبق فيه لكنه صُدم عندما لاحظ وجوده برفقة عليا، أخرجه من صدمته رنين هاتفه والذي ماكان سوى سمير، فتح الهاتف متحدثاً بأمر: أخبرني إلامَ وصلت؟ أتاه صوت سمير بثقة ممزوجة بإعجاب: لقد تحدثت إلى أحد أشهر المهربين الذين تم إلقاء القبض عليه منذ يومين واحزر ماذا؟ تنفس براء بعمق مجيباً بثقة تامة: هو من أدخل يوسف خلسةً إلى لبنان يوم الجريمة. هتف سمير: نعم صحيح، واحزر ماذا أيضاً؟
- عقد براء حاجبيه بريبه في حين أردف سمير: لقد قمتُ بعملِ بحثٍ عن اسم والد يوسف، سليم خاطر أتعرف من يكون؟ - أتاه سؤال براء بهدوء خطر: من يكون؟ شدّ سمير ظهره وهو يجيبه بانتشاء: إنه شقيق عليا من والدتها! أغلق براء الهاتف وهو يحدّق في نقطة في الفراغ وقد بدأت خيوط الجريمة تتضح أمامه، يوسف ابن شقيق عليا الذي قتله عمار فأراد الانتقام لمقتل والده.
ابتسم بفخرٍ لما وصل إليه، ثم التفت نحو طارق وكاد أن يتحدث قبل أن يلاحظ امراً مريباً، كانت الكاميرا تعرض مشهد وقوف يوسف وعليا أمام غرفة عمار بعد أن قتلاه، صاح بطارق بعجلة: جمد الصورة هنا! نفذ طارق الأمر ليأمره مجدداً: كبر الصورة هنا. أشار له إلى بقعةٍ ما فنفذ، إنها كف يوسف الأيمن وهذا الوشم المميز رقم سبعة ذو ذيلٍ معقوف، لكن لحظة، هذا ليس الرقم سبعه بل في الحقيقة هو...
اتسعت حدقتاه بشدة وهو يرى وشم الكوبرا، ، همس لنفسه بصدمةٍ حقيقية: إنه الكوبرا!..
زفر عادل للمرة الألف ربما وهو جالسٌ في سيارته خارج قصر عمار، بعد أن هاتفه براء آمراً إياه بأن ينتظره هناك عندما كان في طريقه للعودة إلى القسم، وأمره أيضاً بأن يمنع الدخول والخروج منه لأيٍّ كان. انتظر إلى الآن مايقارب النصف ساعة برفقة خطيبته سلاف ورجلين آخرين يعملان في القسم الجنائي. لاحظت سلاف ضيقه فهمست له: اهدأ عادل، لا داعي لكلّ هذه العصبية.
زفر مرة أخرى مُبدياً انزعاجه قائلا: كيف لي أن اهدأ وأنا أقف أمام القصر منذ نصف ساعة ولا أعرف السبب؟ وهو الذي لم يكلف نفسه بأن يخبرني لمَ؟ اعتدلت في جلستها لتصبح قبالته وابتسمت ابتسامتها المميزة لتحدثه برقة: أنت تعلم أن براء لا يلقي أوامره جزافاً، وبما أنه طلب منا الانتظار هنا إذاً لابدّ من أنه وجد شيئاً هاماً. ضغط على شفتيه بتفهم ثم أشاح بوجهه زافراً بملل: المشكلة انني أعرف.
هزت رأسها بيأس منه وماتزال محتفظةً بابتسامتها و أشاحت بوجهها للناحية الأخرى فلاحظت اقتراب سيارة براء بسرعةٍ غير اعتيادية، اختفت ابتسامتها وعقدت حاجبيها عندما رأت سيارتين كبيرتين تابعتين للقسم خلفه، فنكزت عادل في خاصرته لينتبه للأمر هو الآخر. تبادلا النظرات المستغربة ثم ترجل كلاهما من السيارة، تزامناً مع وصول سيارة براء التي أوقفها بعشوائية على حافة الطريق ولم يهتم بإغلاقها او حتى إطفاء المحرك.
تقدم منهما مسرعاً ليصيح بهما وهو يهيئ سلاحه: هل خرج أي أحدٍ من القصر؟ أجابه عادل وهو مُقطبُ الجبين: لا، مذ عدنا لم يخرج أحد، مالأمر براء؟ تجاوزه الأخير وهو يحثّ خطاه نحو القصر غير عابئٍ بإجابته. التفت عادل إلى الرجال الذين تبعوه مع أسلحتهم المُجهزة، تبادل مع سلاف نظراتٍ مُترددة ثم أخرج سلاحه هو الآخر، وانحنت سلاف إلى السيارة لتستخرج سلاحها هي أيضا، ثم تبعا براء ورفاقه إلى الداخل.
دلف براء إلى القصر أمراً رجاله باعتقال كلِّ من تقع عينهم عليه من حرسٍ أو خدم، وتابع صعوده للأعلى وهو يعرف طريقه جيدا، تبعه عادل فوراً، في حين بقيت سلاف مع بقية الرجال في الأسفل لتنفيذ أوامر براء.
وصل للطابق العلوي وفتح كل غرفةٍ تصادفه حتى وصل إلى غرفة يوسف، وقد عرفها من رائحة العطر الرجولي الذي فاح فيها، بحث داخلها فلم يجد أحداً، توجه لخزانة ملابسه وفتحها فوجد الثياب مرتبةً، صرّ على أسنانه بضيقٍ ثم خرج ليتابع بحثه عنه في الغرف الأخرى لكن لا أثر له. كان عادل خلفه وهو حقاً لايعرف عمّن يبحث صديقه لكنه بقي ملازماً له كظله.
لم يجد ضالته في الأعلى فنزل للأسفل وهو خالي الوفاض وعلامات الضيق واضحة على مُحياه، وجد رجاله قد نفذوا أوامره بالحرف، وقد جمعوا كل الحرس والخدم وقاموا بتكبيل أيديهم للخلف. صاح برئيس الحرس بنبرة مخيفة وقد وقف أمامه مباشرةً: أين يوسف؟
ارتبك الرجل المعني عندما رأى غضبه فلم يعرف بما يُجيبه، فانقضّ عليه ليمسك بتلابيبه وهو يعيد سؤاله مرةً أخرى بنبرة أقوى، عندما صدح صوت إحدى الخادمات قائلةً: لقد رأيت السيد يوسف خارجاً إلى الحديقة من باب المطبخ منذ فترةٍ قصيرة. التفت نحوها كطلقةِ رصاص، ضيّق عينيه بتفكير ثم اندفع من فوره إلى الحديقة مُتجهاً مباشرةً إلى الباب الحديدي الصغير والذي سبق وأن وجده مُتوارياً خلف الأشجار ليجده مفتوحاً قليلاً.
ضغط على فكه بقوة ثم ضرب الباب بقدمه صارخاً باستياء: لقد هرب اللعين! تذكر لتوّه أن يوسف كان موجوداً في القصر عندما عاد هو إلى القسم، لربما رآه عندما وجد كاميرا التسجيل بجوار غرفة عمار وهرب من فوره لعلمه بأن أمره قد كُشف. لم ينتظر أكثر فعاد إلى الداخل ليأمر رجاله بجلب الجميع إلى القسم وإغلاق القصر وترك رجلين ليحرساه، وأمر ايضاً بإغلاق الباب الصغير بقفل.
تابع طريقه للخارج فهرول عادل خلفه صائحاً: انتظر براء. التفت نحوه فوقف عادل ليسأله لاهثاً: هلّا شرحت لي مالأمر؟ نفخ بتعب ثم أجابه بنبرةٍ غشيها الغضب: يوسف هو الكوبرا، وهو شريك عليا في جريمتها، وأيضا هو من أمر بقتلي وقتل مدير المشفى. جحظت عينا عادل حتى كادتا تخرجان من محجريهما صارخاً: ماذااا!؟ استغرقه الأمر ثانية ليستوعب ما قيل له، ثم همس له تالياً: ولكن كيف عرفت أنه هو الكوبرا؟
استدار ليقابله بجسده قائلا بجدية: لديه وشم الكوبرا ذاته المرسوم على ذراع كلاً من سيمون وحازم، لكنه أكبر حجماً ومرسوم على كف يده الأيمن، أي أنه ذو مرتبةٍ اكبر من كلاهما. رمش عادل وهو غير مصدّق لما سمعه، بينما أردف براء بسخط: لقد كان أمامي طول الوقت ولم أتعرف إليه! ربت عادل على كتفه متحدثاً: لا عليك براء، سنجده بالتأكيد. ثم أضاف بسؤال: أين هو سمير؟
أجاب بلا مبالاة: ذهب ليبحث عنه في جنازة عمار، وأنا متأكدٌ أنه لن يجده هناك. اشاح بوجهه إلى الجانب فلفت انتباهه وجود سيارة يوسف، جرى نحوها ليجدها مفتوحةً دون إغلاق، بحث داخلها لكنه لم يجد مايفيده، اعتدل في وقفته ليضرب على سطح السيارة صارخاً بغل: أيها الوغد الحقير، سأجدك أينما هربت.
كانت جنازة عمار متواضعةً للغاية، فلم يحضر أيٌّ من المسؤولين أو رجال الأعمال ممن كانوا يُحسبون من أصدقائه، مما أثار دهشة أميرة التي كانت واقفةً برفقة ملك في ركنٍ منزوٍ، مُرتديتان ملابساً سوداء كانت أميرة قد أرسلت عامل التنظيف في الشركة لشرائها.
حضر بعض الموظفين في الشركة إضافةً إلى بعض الحرس، وقفوا بجانب رجل الدين الذي كان يتلو بعض الآيات القرآنية فوق قبر عمار، وما إن انتهى حتى أهالوا فوق جثمانه التراب. بأن التأثر واضحاً على أميرة وقد ذرفت الدموع عندما رأت أباها وهو يُدفن. مسحت عبراتها بمنشفتها الورقية عندما دخل سمير إلى المقبرة برفقة بعض الرجال مما أثار دهشة الحاضرين.
انتبهت ملك لدخوله أيضا وقد وقف يجول بعينيه بين الحضور فهمست لأميرة: أليس هذا هو الضابط الذي تولى قضية والدك؟ نظرت أميرة إلى حيث أشارت لتجد سمير يتجه نحوها حتى وقف أمامها مباشرةً ليسألها بجدية: آنسة أميرة هلّا أخبرتني أين يوسف؟ انتبهت لتوها لغياب يوسف بالفعل عندما جالت بنظرها على المتواجدين بجانب القبر فلم تره، فأجابت بصوت بأن التأثر فيه: لا أعلم سيادة الضابط، فأنا لم أره منذ الصباح.
قطب جبينه بانزعاج ليسألها مجدداً: متى كانت آخر مرة حادثته بها؟ ازدردت ريقها بوجل و تبادلت مع ملك نظرات قَلِقة لتجيب ثم نظرت إليه لتجيب: منذ حوالي الساعة، هاتفني ليبلغني بوصول جنازة والدي إلى المقبرة وأخبرني بأنه سيعرج عليّ لنحضر سوياً، لكن عندما تأخر اضطررت للقدوم إلى هنا بسيارتي.
زفر سمير بضيقٍ جليّ ثم أشاح بوجهه نحو الحاضرين الذين تابعوا إغلاق القبر وردم التراب فوقه، أعاد نظره إليها سائلاً بتحقيق: ألم تتصلي به لتسأليه عن سبب تأخره عنكِ.؟ بدأ القلق يساورها بسبب أسئلته الغريبة بخصوص يوسف، بللت شفتيها لتجيبه على كلّ حال: نعم اتصلت به، لكن هاتفه كان مغلقاً فاعتقدت أنه ربما سبقني إلى هنا.
رمقها بتفحص فقرأ الصدق في مقلتيها فأشار لها متفهماً، تطلعت إليه لثوان قبل أن تسأله بتردد: مالأمر سيادة الضابط؟ لمَ تسأل عن يوسف؟ وقبل أن يجيبها صدح رنين هاتفه والذي ماكان سوى براء، فأجاب بنبرة تحمل الخيبة: نعم براء؟ خفق قلبها تلقائياً عندما سمعت اسمه وشعرت بالأمان ماإن حلّ ذكراه أمامها، فاستمعت باهتمام لحديث سمير الذي أجابه على سؤاله: لا لم نجده، ولم يحضر إلى هنا أساساً.
أغلق الهاتف وهو يزفر بضيق ليلاحظ لتوه وجود ملك التي كانت تتابع مايحدث بانتباه بجانب أميرة، ارتخت تعابيره بتلقائية ليبتسم باقتضاب سائلاً: كيف حالك آنسة ملك؟ رمشت عينيها من تغيره المفاجئ، فأجابته بتوتر طفيف وهي تنقل نظرها بينه وبين أميرة: أنا بخير سيادة الضابط، شكراً لك.
هز رأسه متفهما وهو يرمقها بنظرات متفحصه كأنه يحفرها في خياله، حتى صدح صوت أميرة السائل بنبرةٍ أكثر قلقاً: سيادة الضابط أرجوك، هلّا أخبرتني مالذي يجري؟ ولمَ تسألون عن يوسف؟ تطلع إليها بتردد واضح ثم أجابها باقتضاب: أسرار تتعلق بالتحقيق آنستي، والآن اسمحي لي. تحرك من أمامها فوراً بعد أن ألقى نظرة أخيرة ناحية ملك.
غادر مع رجاله تاركاً إياها في قلقها، زادت نبضاتها وهي تشعر بالخوف، أمسكت ملك يدها وصغطت عليها بدعم، التفتت نحوها لتهمس لها: أنا خائفة ملك، مالأمر برأيك؟ ابتسمت لها ملك بتشجيع مُجيبةً بهمس مماثل: لا تقلقي أميرة، أعتقد أنه امرٌ متعلق بالتحقيقات كما أخبرك الضابط. ازدردت ريقها بوجل وهي تشعر بالخوف والقلق قد تمكنا منها أكثر، تشعر بحاجتها للأمان والراحة لكنها لاتجدها.
بعد انتهاء مراسم الدفن عادت إلى قصرها برفقة ملك التي آثرت ألا تتركها هذه الليلة وحيدةً، لتتفاجأ بوجود حرس غرباء أمام القصر، حاولتا الدخول ليمنعاهما الحارسين لعدم معرفتهما المسبقة بأميرة، فاضطر أحدهما أن يتصل ببراء ليسأله بعد أن نال وابلاً من التوبيخ من ملك الغاضبة.
كان براء قد عاد إلى القسم ليضع خطةً محكمةً للقبض على يوسف واعتقاله، فعمد إلى تعميم اسمه على الحدود كافة، و تمّ الحجر على طائرته الخاصة وسيارته أيضا. وقف وسط مكتبه يعطي أوامره لعادل وسمير بتشكيل حواجز على كافة الطرق الفرعية والرئيسية وتعميم صورة يوسف عليها، فقد كان على يقين بأنه لم يخرج من بيروت العاصمة، وأنه مهما طال اختباؤه سيظهر بالتأكيد، ولأجلها.
تحدث آمراً عادل: أريد مجموعة كاملة لتراقب قصر عمار وشركته، اقسمها لقسمين اجعل قسما منها ظاهراً والآخر مخفياً، يوسف ذكي جداً يجب أن نتوقع منه أي شئ غير اعتيادي.
أشار له عادل بالإيجاب التفت جهة سمير ليأمره بأمر آخر عندما صدح رنين هاتفه والذي كان أحد الحرس المُنوط بهم حراسة القصر ليخبره بأن فتاة تقف أمام القصر تريد الدخول برفقة فتاة أخرى، لوهلة لم يترجم عقله مقصد الحارس، بينما صدح خلفه صوت فتاة غاضبة ويبدو أنها توبخهم، عقد حاجبيه بريبة ليسأله: من تلك التي تصرخ بجانبك؟ أخفض الرجل الهاتف عن أذنه ليسألها بجدية: هلا أخبرتني مجددا من تكونين ياآنسة؟
وضعت يديها على خصرها لتجيب بترفع: أخبره أن اسمي ملك صديقة الآنسة أميرة. سمعها براء بالطبع فضغط على فكه بقوة يالغباءك براء كيف نسيت أمر اميرة؟ أخبره الحارس بما قالته ملك، بينما كانت أميرة تقف بعيدا بخطوات قليلة وهي لاتكف عن ذرف العبرات، عندما رأت الحارس يتحدث مع أحد مرؤوسيه أنبأها قلبها بأنه هو، فتقدمت من الحارس بهدوء لتسأله بتردد: هل أستطيع محادثة رئيسك؟
بدى التردد واضحا على وجه الرجل لكنه أعطاها اياه، ابتعد قليلاً عنه وضعت الهاتف على أذنها لتتحدث بنبرة باكية: سيادة الضابط براء؟
بينما كان هو يبحث عن حلّ معقول ليبعدها عن القصر أتاه صوتها الباكي فهدمت كل حساباته، خفق قلبه بشدة حتى كاد يخرج من مكانه، اختفى صوته لثوان ثم انتبه لوجود عادل وسمير معه، ازدرد ريقه بصعوبة ثم ابتعد عنهما ليقف أمام نافذة مكتبه، أتاه صوتها منادياً باسمه هذه المرة دون تكليف: براء؟!
ابتسم بخفه وهو يستمع لاسمه بنبرتها التي كانت كما المخدر بالنسبة لروحه، مخدرٌ يحفز دوبامين السعادة داخل أحشائه ليجعلها ترقص فرحا، أغمض عينيه وهو يستمع لبحة صوتها المميزة وهي تعيد تكرار ندائها، اخذ نفسا عميقا ثم تحدث بصوت مبحوح: نعم أميرة؟ كان وقع صوته مُنادياً باسمها مختلفاً لدرجة ابتسمت معها تلقائيا فأردفت بصوت خفيض: هؤلاء الرجال يمنعون دخولي إلى القصر، هلا افهمتني مالقصة؟
لثوانٍ طويلة لم يقطعها سوى صوت أنفاسهما، حتى ظنت أن الاتصال قد قٌطِع، فصاحت مجددا: براء؟ هل تسمعني؟ اتسعت ابتسامته اكثر وهو يتمتم: سأكون عندك خلال ربع ساعة. دُهشت من نبرته الخفيضة فأتاها أمره تاليا: اعيدي الهاتف للحارس. امتعض وجهها بوضوح من تقلبه المفاجئ فعادت إلى الحارس لتعطيه الهاتف، ووقفت تنتظر مالذي سيأمر به.
أنهى الرجل محادثته مع براء، ليتجه بحديثه لها قائلا باعتذار: أنا اعتذر آنسة أميرة فأنا لم اكن اعرفك. ابتسمت له بخفة، بينما تابع الحارس وهو يتنحى للجانب: بإمكانك الدخول والسيد براء قادم في الطريق. أشارت له بالإيجاب ثم دخلت إلى القصر برفقة ملك، التي لم تكف عن توبيخهم.
أغلق الهاتف ثم التفت نحو رفيقيه متحدثاً بجدية وهو ينحني ليأخذ محفظته ومفاتيح سيارته: أنا ذاهب لقصر عمار، أميرة هناك مع صديقتها لوحدهما جذبت كلمته الأخيرة انتباه سمير، والذي توقع بحسبةٍ بسيطة أنه يقصد ملك، فانتفض من مكانه صائحاً به: انتظر براء انا قادم معك. عقد براء حاجبيه بريبه في حين أن سمير لم يعطه الفرصة للرفض او حتى السؤال، فخرج مسرعاً من المكتب تحت أنظار صديقيه المستغربة.
وصل براء برفقة سمير إلى القصر وقد قاربت الشمس على المغيب، لم يسأله عن السبب الحقيقي لحضوره معه، فقد توقع - وبحنكته المعهودة- بآنه يعرف ملك. كانت ملك في المطبخ تعد لأميرة كوباً من البابونج لتهدأ أعصابها عندما دلف كلاهما، رأى براء أميرة وهي تجلس في الصالة وحيدةً، في حين بحث سمير عن ملك بعينيه فلم يجدها نفخ بإحباط جلي لاعتقاده أنها ربما رحلت.
توجه صوبها مباشرةً وقلبه يسبقه، وما إن وصل قربها وناداها باسمها رفعت انظارها لتقابل عيناه السوداء، كانت تحاوط جسدها بيديها كالأطفال، ظلت ساهمةً فيه لثوان لاتعرف عددها. قُبض قلبه بشدة عندما رآى عيناها الذابلة ودموعها التي تحجرت في زاويتها، لاحظ شرودها به فاقترب منها بحذر شديد.
وقفت قبالته بهدوء مريب وظلت تبادله نظراته القَلِقة بأخرى جوفاء لا تعابير فيها، ازدرد ريقه بصعوبة وقد اختفى صوته نهائيا حالما رآها. زاد قلقه من هدوئها المخيف، كاد أن يتحدث عندما فعلت تالياً ماصدمه وأوقف نبضاته حرفياً. لقد احتضنته، بل وتشبثت به كرضيع يتشبث بوالدته خشية أن تبتعد عنه.
رواية أشلاء للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والثلاثون
صدمة... بل صاعقة... بل زلزال هزّ كيانه، أيّ كلماتٍ في هذا العالم قد تصفُ ماشعر به في هذه اللحظة؟ شخصت أنظاره بذهول وتجاوز عدد دقات قلبه الألف بقليل، وهي هنا، في أحضانه، تتشبث به كما لو أنها تخشى ضياعه، أو ربما وجدت الأمان قربه. لا يعلم حقاً سبب اندفاعها لاحتضانه هكذا، لكنه شعر بسعادةٍ لا مثيل لها، توهجت ظلاميتاه بعشقٍ طالما جاهد في إخفائه منذ لقاها، لكنه طفى وظهر على ليل مقلتيه الآن.
أغمض عينيه بتمهل ولم يقاوم مشاعره، وأيُّ مقاومةٍ قد تُجدي نفعاً وفؤاده مُتيمٌ بهواها؟ وهي بين يديه الآن؟ رفع يداه ببطء شديد ليحتضنها هو الآخر، وابتسامة سعيدة عرفت طريقها إلى ثغره، أخفض رأسه ليشتمّ عطرها، ياآلهي!، رائحتها كما هي منذ واحد وعشرون عاما. غابت كل الأصوات من حوله، لم يعد يشعر بشئ سوى بصوت أنفاسها يلطم صدره من خلف بذلته الرسمية، باختصار، توقف الزمن عنده في هذه اللحظة.
منذ مدةٍ قصيرة جدا كانت تحيا حياةً مثالية، والدٌ مُحب، ومربية عطوفة، وصديق طفولة وفي. خلال أيام قلائل تركها جميعهم. والدها قُتلَ ولم تعرف بعد قاتله، مربيتها محجوزةٌ في المستشفى ولا تعرف لماذا، صديق عمرها اختفى فجأةً والأمن الآن يبحث عنه وأيضاً، لاتعرف لماذا.
حرفياً كانت تشعر بالضياع، لكنها وبمجرد أن تسمع صوته أو تراه تشعر بزمرةٍ من المشاعر التي لا تستطيع لها تفسيراً، حتى مع والدها لم تشعر بهذا القدر من الثقة والأمان التي تسيطر عليها حالما تراه، ولهذا احتضنته كطفلٍ تائه ثم وجد والدته، تنفست بعمق وهي تدفن وجهها في صدره وأغمضت عيناها بقوة.
ذُهل سمير مما رآه، وقف مدهوشاً يُشاهد رفيقه والذي اشتُهر ببروده وجفاه يُعانق فتاةً تعرف عليها منذ أيام قلائل، انتبه من شروده على شهقة مُفاجآة صدرت عن ملك التي خرجت لتوّها من المطبخ وهي تحمل في يدها كوباً من البابونج لأميرة. طالعها سمير بابتسامة متسعه وهو يشاهدها تقف مذهولةً هي الأخرى لهذا المشهد، تحرك ناحيتها ليمسكها من ذراعها فانتبهت عليه لتطالعه باستغراب هاتفةً: أنت؟
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يهمس لها: تعالي معي. لم ينتظر إجابتها، بل سحبها من يدها بخفة لتتبعه كالمنوّم مغناطيسياً إلى المطبخ، أخذ الكأس منها ووضعه على الطاولة الرخامية التي توسطت المطبخ الفخم، وهي ماتزال على ذهولها. نعم لم تعرف أميرة إلا منذ فترةٍ قصيرة، لكنها علمت أنها فتاةٌ رقيقة و حساسة لأبعد الحدود، وأيضاً خجولة في التعامل مع الغرباء، فأنى لها أن ترتمي في أحضان شخصٍ لا تعرفه؟ ومن هذا أصلاً؟
كانت هذه الأسئلة تدور في رأس ملك بينما سمير يتابعها بتسلية، وكمن قرأ أفكارها اقترب منها ليهمس بجوار أذنها: إنه صديقي براء، شريكي في التحقيق. رفعت رأسها كطلقة رصاص وعلامات الاستغراب واضحةً عليها لتهمس بذهول: صديقك؟ أماء لها موافقا ثم عادت لتنظر أمامها بتفكير، بينما هو تنفس عطرها بشغفٍ، انتبهت لأنفاسه التي ضربت وجنتها فالتفتت نحوه وأبعدت وجهها عنه لتهتف بضيق: لو سمحت سيادة الضابط؟
سيطر الامتعاض على قسمات وجهه وهو يتمتم مُبتعداً عنها: هادمة اللذات؟! رفعت حاجبيها بدهشة حقيقية من كلمته، لدرجة أنها لم تجد كلاماً ملائماً لتردّ عليه، حركت شفتيها بلا فائدة فهزت رأسها بيأس قائلة: أنا خارجة. اعترض طريقها مسرعاً ليهمس بصوت خفيض مُستنكراً: إلى أين؟ وضعت يديها على خصرها مُجيبةً بحاجب مرفوع: إلى أميرة. قطب جبينه بانزعاج ليتحدث بجدية: وتقطعين لقاء العشاق؟!
رمشت عيناها بصدمة هامسةً: أهما حبيبين؟! رفع كتفيه بنفي قائلاً: لا أعلم. تهدلت ملامحها وهي تنظر إليه باستغراب لتتمتم: أذاً لمَ تقول أنهما عاشقان؟ أجاب ببراءة وابتسامة ماكرة تُحارب للظهور: لقد رأيتي منظرهما مثلي تماما، فما تفسيرك لما رأيتي؟ شردت لثوان مُسترجعةً في عقلها مشهد أميرة وهي في أحضان براء، حركت رأسها بشرود هامسةً: معك حق.
تابع حديثه مشيراً لها لتجلس: برأيي فلنجلس نحن هنا وندعهما لوحدهما، ما رأيك؟ رمقته بنظرة متفحصه ثم أشارت له بالإيجاب متوجهةً إلى الكرسي لتجلس عليه، بينما اتجه سمير إلى كرسيٍّ آخر ليجلس بعيداً عنها، لايريدها أن تنزعج من وجوده فتتركه وترحل، لذا آثر أن يبتعد قليلاً ليتأملها عن بُعد.
لكم تمنى أن تطول تلك اللحظات للأبد، كم تمنى لو أنه يفتح أضلاعه فيدخلها فيها ويخبئها حتى عن عيون البشر، أن يختطفها ويرحل إلى لا مكان حيث لا يوجد سواهما، لكنه لا يستطيع مالم يلقي القبض على يوسف، فهو على يقين أن الأخير إن كان سيظهر فمن أجلها هي. تنفس بعمق وهو يرخي يديه عنها فانتبهت هي لموقعها لترفع رأسها إليه بابتسامة مقتضبة خجولة قائلة: أنا أعتذر. ابتسم لها بعذوبة مُتحدثاً: لاتعتذري أميرة.
تنهد بخفة وهو يضيف: لاتنسي أننا أصدقاء، أليس كذلك..؟ إبتسامة جذابة ارتسمت على شفتيها وهي تومئ له بالإيجاب، زادت ابتسامته عذوبة و هو يشير لها لتجلس، فجلس هو أيضا إلى جانبها بينما هي لاتجرؤ على رفع رأسها أمامه، كم شعرت بالحرج والخجل من فعلتها. وكأنه قرأ أفكارها فقرر تخفيف الحرج عنها ليسألها: كيف كان أول يومٍ لكِ في العمل؟
قطبت جبينها باستغراب من سؤاله، أول يوم؟ التفتت نحوه لتسأله بجدية: كيف عرفت أنه أول يوم لي في الشركة؟ ابتسم بخفه وهو يميل برأسه للجانب قائلاً بتسلية: أهذا سؤالٌ يوجه لضابط شرطة.؟ رمشت بدهشة ثم ابتسمت بلطافة وهو تجيبه برقة اخترقت قلبه: كان جيداً جدا مُقارنة أنه اليوم الأول. أشار لها بالإيجاب واكتفى بتأمل بسمتها، لكنها فاجأته بسؤال: هلا أخبرتني لمَ كنتم تبحثون عن يوسف؟
تجهمت ملامحه وتجعد جبينه بانزعاج جلي وهو يفكر في جواب ما.
ظلّ يطالعها وهو يضع يده تحت خده يستند عليه، بإمكانه البقاء هكذا لأيام دون ملل، بينما ملك تفكر بجدية في علاقة براء وأميرة، حسناً فلتكن صريحةً مع نفسها هي لاتعرف براء و بالكاد تعرف أميرة، لكن ما رأته؟ كان حباً حقيقياً من كلا الطرفين!
فيما هي تفكر ضيّقت عينيها بشرود وزمت فمها بفكر جاد، فابتسم سمير ابتسامة مكتومة لمحتها بطرف عينها، عقدت حاجبيها وهي تستدير نحوه بكامل جسدها، فغابت الابتسامة عن مُحياه، ازدرد ريقه بصعوبة وهي ترمقه بنظرات نافذة وتّرته، هي الأولى التي تفعلها وتستطيع إرباكه هكذا. طال الصمت بينهما وهما على تلك الحال حتى قطعته ملك بسؤال: إذاً حضرة الضابط؟
انتبهت حواسّه كلها معها فيما أردفت: ذلك اليوم كان لك دينٌ في رقبتي، أما الآن فأنت مديونٌ لي بإجابةِ سؤالين. قطب جبينه وهو بانتظار أن تتابع، ساد الصمت ثانيةً لفترة وجيزة حتى قطعته هي مجدداً: سؤالي الأول، كم دفعت ثمناً لتصليح السيارة وايضاً فاتورة المطعم؟ ابتسم بخفة وهو يستند بمرفقيه إلى الطاولة الرخامية وشبكهما سوياً مضيفاً بتسلية: أها، والسؤال الثاني؟
نظرت إليه بتمعن تحاول أن تقرأ أفكاره فيما هو يبتسم باتساع، أنحنت بجسدها للأمام قليلاً، استندت بمرفقها هي أيضاً إلى الطاولة واسندت وجهها إلى مرفقها المسنود، ضيقت عينيها لتردف بجدية: لماذا تفعل كل هذا معي أساساً؟ صمت... صمتٌ طويل هو كل ماحصلت عليه منه، فيما كانت تتمعن في عينيه علّها تجدُ إجابتها فيهما.
قطع تواصلهما البصري عندما أعاد ظهره للخلف مُجيباً بجدية: سأجيبك بالطبع آنسة ملك، لكن ليس الآن وليس هنا. عقدت حاجبيها بعدم فهم و تتبعته بعينيها وهو يتحرك عن كرسيه، مشى ناحيتها حتى وقف أمامها مباشرةً و هو يضيف: غداً، بعد انتهاء دوامك، سأنتظرك في المطعم ذاته. ابتسم من جديد مُردفاً: والآن اسمحي لي أرجوك. فغرت فاهها ورفرفت اهدابها بعدم استيعاب وهي تراه يتجه خارجاً، ولم تفهم شيئاً.
أنها كالفراشة الرقيقة، لو علمت أنها سبب أذية أحدهم لابتعدت، يخشى إن أخبرها بجُرمِ يوسف لاضطر أن يحدثها بكلّ مافي جعبته، ولعرفت ماضيها وماضي والديها مع عائلته، وهذا بالضرورة سيجعلها تغادره للأبد، وهو الذي لم يصدق أن وجدها! لذا كان يبحث عن كذبةٍ سريعة يقنعها بها، لاحظت شروده فأمالت رأسها للجانب كما يفعل هو قائلةً: لاتستطيع إخباري أيضاً؟ كما فعلت عندما سألتك عن سبب احتجازك لعليا، أليس كذلك؟
ابتسم بخفه لنباهتها وتنفس براحة وهو يجيبها بصدق: بلى، لاأستطيع إخبارك الآن، لكن أعدك بأنني سأفعل حالما أستطيع. ساد الصمت للحظات، فخشي أن تعتبر حديثه قلة ثقة بها، كاد أن يوضح مقصده عندما ابتسمت بعذوبة وهي تتحدث بنبرة هادئة: لا بأس، فأنا أثق بك. مهلاً لحظة، هل قالت أنها تثق به؟ هل حقاً تفعل؟ ياآلهي هل يمكن أن يكون أكثر سعادة منه الآن؟ فمالكة فؤاده تثق به هو وحده؟
اتسعت ابتسامته وهو يحرك رأسه أيجاباً، ليأتيه سؤالها التالي: هل أستطيع البقاء هنا في القصر؟ أم أن هذا سيشكل مشكلةً بالنسبة لك؟
عقد حاجبيه بتفكير، رغم ضخامة القصر ومساحته الواسعه إلا أنه بات يعرف مداخله كلها، فضلاً عن تواجده في منطقة نائية لا منازل فيها وهذا سيسهل عملية مراقبته كونه في منطقةٍ مفتوحة، وأيضاً سيكن من الصعب على يوسف العودة إليه دون أن يراه رجال المراقبة، فأشار لها برأسه إيجابا متحدثاً: نعم، بإمكانك البقاء هنا.
ثم أردف بتحذير: لكن عديني بأمر، لن تذهبي لمكان مالم تخبريني، وإن حصل ورأيتي يوسف لا تترددي بالاتصال بي. ثم مدّ يده نحوها قائلا: أعطني هاتفك. وبلا تردد أخرجت هاتفها من الحقيبة واعطته إياه، لم يكن مقفلاً برمز فكتب رقمه وثبته باسم براء، ثم أعاده إليها مضيفاً: هذا رقمي أصبح عندك، اتفقنا؟ زفرت بملل وهي تجيبه بطريقةٍ مسرحية: حاضر، أي أوامر أخرى سيادة الضابط؟
ابتسم بخفه مُردفاً: نعم، نادِني براء فقط، ألسنا صديقين..؟ ضحكت بخفوت وهي تشير له إيجاباً، لحظة خروج سمير من المطبخ ليتوجه صوب براء سائلاً: هل انتهيت؟ نظر له لثانية ثم أعاد نظره إليها قائلاً بنبرة ذات مغزى: سأعرج عليكِ لأراكِ غداً. اهدته ابتسامة أخرى وهو يشير لها بالوداع، تتبعته عينيها حتى خرج برفقة سمير.
شردت في لقائهما مُحافظةً على ابتسامتها عندما خرجت ملك هي الأخرى، طالعتها بنظرات غامضه فسيطر الحرج على أميرة وقد تذكرت لتوها وجود ملك هي الأخرى هنا.
كتفت يديها أمام صدرها وهي ترمق مُضيفتها بشرود، كادت أن تسألها عن سرِّ علاقتها ببراء لكنها تراجعت، فهي بالكاد تعرفها منذ فترةٍ قصيرة وقد تُحرج نفسها وتحرجها هي معها، فضلاً عن أنه لاحق لها بالسؤال أساساً، فابتسمت لها بخفة قاطعةً هذا الصمت المُقلق: سأطلب لنا عشاءً. تحركت من فورها فتنفست أميرة الصعداء شاكرةً لها إنقاذها، فهي الآن لاتملك إجابةً بعد للسؤال الذي قرأته في عينيها.
أوصل سمير إلى القسم بعد أن أكّد عليه بزيادة حراسة القصر وجعل قسمٍ منها مُتخفياً. قاد سيارته متجها نحو المشفى، فهناك بعض النقاط التي لم يفهمها ويجب عليها أن تشرحها له، لم يكن الوقت مُتأخراُ جدا عندما دلف إليها ليجدها مُستيقظة. تعترف أنها تفاجأت لرؤيته، لم تعتقد أنها ستراه بعد تلك الليلة، ابتسمت بخفه وهي تحدث نفسها إنه براء في النهاية، وهو كما عهدته ذكياً وعنيداً، وأضف أنه مكابرٌ أيضاً.
جلس على الكرسي بظهرٍ منتصب، رافعاً رأسه بكبرياء ووجهه غير مقروء الملامح. تحدثت وهي تطالعه بابتسامة مقتضبة: أعترف لك أنني مُتفاجئة، لم أعتقد أنك ستعود خاصةً بعد تلك الليلة. نظراتٌ خاوية كانت إجابته لها، ومع ذلك حافظت على ابتسامتها، حاولت معرفة ماوراءه لكنّ جمود ملامحه وظلام عينيه لم يساعداها.
وكمن قرأ أفكارها انحنى فجأة نحوها، أخذ نفساً عميقا زفره ببطء قاتل لها، ثم تحدث بهدوء: أخبريني ماذا حدث بعد عودتك إلى أميركا؟ ثم أمال رأسه للجانب مضيفاً بتسلية طفيفة بعثت الرعب داخلها: لأخبرك سبب عودتي إليكِ. سكت لثانية قبل أن يضيف بهمسٍ مخيف: حياة!