رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والعشرونياسالبا راحتي ذرني وذكرياتي، علني وأقول علني، أجد فيها مايغفر لك مااقترفته في قلبي من دمار.ازدرعت ريما الرواق جيئة وذهابا أمام غرفة العمليات التي غابت خلفها إيمان برفقة آماليا، تضرب كفها المكور بالآخر، و حيرة عظيمة سيطرت عليها ولم تع بعد ماحدث، مازالت صرخة إيمان تتغلل داخل ثنايا عقلها لتبعثه على الجنون..أخرجها صوت الباب الذي فتح من شرودها، التفتت بلهفة ووجه شاحب ناحية آماليا التي كانت تخلع كمامتها الطبية، قطعت الخطوات القليلة بينهما لتمسك كفها هاتفة بلوعة: أرجوك حضرة الطبيبة أخبريني، مالذي جرى؟ وكيف حال إيمان؟رمقتها آماليا بنظرة جامدة بداية، لكنها ابتسمت على لهفتها، أجابتها بنبرة هادئة: لا تقلقي مدام ريما فإيمان بخير، لكن للأسف لم نستطع إنقاذ الجنين.شهقة مرتاعة خرجت من جوفها واضعة يدها على فمها، ارتسم الألم على ملامحها لتلك الحقيقة المرة، ازدردت ريقها بحزن وهي تطالع وجه آماليا بعسليتين غائمتين، رفرفت بأهدابها لتهطل قطرة ألماسية من عينيها لم تقاومها، استغربت آماليا أمرها وقد بدى لها - بحكم خبرتها الطبية- أن ريما على وشك الانهيار، فوضعت كفها على كتف ريما تسألها بحذر: هل أنت بخير مدام ريما؟لا لم تكن بخير، حركت رأسها للجانبين بحركة خفيفة وهي تطالع الباب خلف آماليا، وقد اعتقدت أنها المتسببة في قتل الجنين، شعرت آماليا بالقلق عليها لتهتف تسألها من جديد: مدام ريما حادثيني، هل تشعرين بشيء...؟لم تكد تكمل سؤالها حتى تفاجأت بريما تكاد تسقط أرضا، واضعة يدها على رأسها فأسندتها آماليا بحركة سريعة، لتحثها على المشي ناحية أحد المقاعد الموجودة في الرواق، اجلستها هناك لتنادي على إحدى الممرضات بجلب كأس من الماء لريما، أسرعت الممرضة بتنفيذ ما طلب إليها فيما آماليا تفحصت ضغط الأخرى التي داهمها الدوار، لتكتشف أن ضغطها قد تهاوى بسبب الخبر الأليم، ولأول مرة طالعتها آماليا بمشاعر مختلفة عن العادة، وشعور الإعجاب كان أبرزها، كم هي رقيقة وحساسة!حضرت الممرضة لتناول آماليا كوب الماء الذي احضرته، فجثت الأخرى على ركبتيها لتناوله لريما التي كانت تذرف دموعها متأملة الأرضية بارتجافة طفيفة، رفعت الكوب إليها فرشفت منه ريما بضع قطرات، تأملت آماليا بتلات خديها الندية، فسألتها باهتمام: ما الأمر؟ لم تبكين؟ارتجفت شفتاها قبل أن تجيب بصوت مبحوح متأثر: لقد أجهضت بسببي.شبح ابتسامة لاح على ثغر آماليا لتعقب على كلماتها: لا، لا ذنب لك أنت، فإيمان نفسها لم تكن تعلم بأمر حملها.حملقت فيها ريما بذهول لتؤكد لها بإيماءة خفيفة من رأسها مضيفة: نعم، فالحمل لم يتعدى الثلاثة أسابيع، وإيمان لم تكن تعلم.رفرفت بعينيها متسائلة باستغراب وحاجبين مقطبين: لكنها صرخت أنها تجهض؟ أي أنها تعلم بحملها؟لم تبرح ابتسامتها الهادئة ثغرها وهي تجيب: إيمان أجهضت مرتين قبلا، لذا هي تعرف علامات الإجهاض وألمه.حركت رأسها بتفهم، تنفست بعمق لترسم ابتسامة باهتة على شفتيها هامسة: شكرا لك حضرة الطبيبة.بادلتها آماليا بسمتها قائلة وهي تعتدل في وقفتها وتضع يديها في جيبي معطفها الطبي: لا داع لشكري، ثم أن اسمي آماليا.أشارت لها موافقة لتردف بنبرة ذات مغزى: وانا أدعى ريما، فلا داع للرسميات فيما بيننا.ابتسامتها الهادئة زينت ثغرها لتوافقها بإيماءة من رأسها لتضيف قبل أن تتجه عائدة إلى غرفة العمليات: ستخرج إيمان بعد قليل.راقبتها ريما حتى اختفت خلف الباب الأخضر، تنهدت بتأثر لخسارة صديقتها، وماأشنعها من خسارة!طالع أدهم هبوط الليل بردائه الأسود بعينين تقدحان غضبا، طالع ساعة معصمه ليكتشف أن الوقت تعدى التاسعة دون عودة ريما إلى المنزل، وآلاف من الأفكار الغريبة عليه تداهم عقله المتعب.لقد ذهب وقت الظهيرة إلى المحل ليدعوها إلى الغداء فيعتذر منها على إساءته، لكنه تفاجأ بالمحل مغلقا، ظن أنها عادت إلى المنزل لكنها لم تكن هناك أيضا، مما ضاعف الشعور بالريبة داخله.بدأ ذهنه يتخيل أسوء الممكن، ربما فعلته الخرقاء معها جعلتها تمقته؟ ماذا لو أن ريما قررت التخلي عنه وعن مجد وأرادت الهرب؟لكن ليست ريما من تفكر بهذه الطريقة، وعن أي هرب يتحدث؟ فهي خرجت صباحا إلى محلها كالمعتاد، ثم أنها لم تأخذ ثيابا ولا حتى جواز السفر، لكن أين هي الآن؟مسح أدهم على وجهه نافخا بضيق هامسا لنفسه بغيظ، بحق الله ماهذه الأفكار؟انتفضت خلايا جسده دفعة واحدة كما عقله عندما مرت على ذهنه خاطرة مريبة: هل تكون مع أيمن إلى الآن؟ وفي منزله؟لا، لن يرضاها لها لو كان مايفكر فيه صحيح، إنها بهذا تخطئ بحق نفسها أولا قبل أي أحد، تسارعت أنفاسه بغيرة على عرض وليست غيرة على حبيبة، فهي بمنزلة شقيقته، ربما هو السبب وأوجعها بغلطته، لكنه كان مغيبا، ولا يحق لها أن تلقي بنفسها في الهاوية انتقاما منه!صوت إغلاق الباب الخارجي للمنزل أيقظه من أمواج أفكاره العاتية، والعجيبة في بعضها، ليطالع وجهها المتعب بملامح جامدة، ارتجفت ريما تلقائيا حينما وقعت عيناها عليه، ازدردت ريقها بوجل وهي تراه يقف من مكانه متقدما نحوها بخطوات متمهلة، وعيناه الرمادية قد ثارت فيهما زوابع ترابية، زاغت عيناها بتشتت تبحث عن تواجد أحد سواه في المنزل لكن الخيبة كانت من نصيبها.وقف أمامها مباشرة ليسألها بجدية وهدوء مريب: أين كنت؟ابتلعت ريقها مجددا لتشعر بجفاف حلقها، كادت تجيبه لكنه كان الأسرع، حيث قبض على ذراعها يعتصره بقسوة آلمتها، لكنها لم تكن كألم روحها عندما هتف بها بنبرة ارعبتها: إياكي والكذب علي ريما واخبريني الصدق، هل كنت برفقة أيمن؟اتسعت عيناها بصدمة على إثر اتهامه الموارب لها، مع ذلك حاولت تجاوز صدمتها لتهمس له بدموع تحجرت على طرف عينيها: أنت تؤلمني أدهم، اترك يدي.رغما عنه استجاب لدموعها، فحرر ذراعها على مهل ليقف منتظرا إجابتها، فركت عضدها لتجيب وهي تحاول إخراج نبرتها طبيعية: لقد كنت مع إيمان في المستشفى.اهتزت حدقتاه إثر حديثها، فيما تابعت وقد رفعت رأسها لتقابل رماديتيه: لقد أجهضت، وهي الآن في منزلها وحيدة.شعر أدهم بالخزي يداهم أعماقه لظنه السيء بها، ووخزات ضميره أتعبته، فيما لم ترغب ريما بإحراجه اكثر، خاصة أنه تهرب من مدى نظراتها، فأردفت بشبح ابتسامة وهي تضمن جوابه: سأبدل ثيابي وانت تأهب لتوصيلي.سكتت لثانية لتردف بمكر: فأماليا ستتواجد هناك خلال دقائق.ألقت كلماتها الموحية لتسير مبتعدة عنه متجهة إلى غرفتها، أما أدهم فقد بقي متصنما مكانه يحاول استيعاب كلماتها، رغم كل شيء هي ريما الرقيقة، تفكر في غيرها أكثر مما تفكر بنفسها، تنهد بشوق وشبح ابتسامة طفيفة لاحت على ثغره، ربما هناك امل في لقاء الحبيبة!مذ غادر أيمن منزله بعد مشاركته شقيقته وابنته طعام الغداء لم يعد، ثم اتصل بإيناس ليخبرها بضرورة بقائها عند ريما الصغيرة بسبب تأخره في العمل ليلا، مما أعطى الفرصة لإيناس بتفحص غرفة شقيقها، بعد نيتها المبيتة مسبقا بتنظيفها، وبعد أن أنهت ترتيب الغرفة وتنظيف غبارها، اتجهت صوب الحمام، كانت تنظف علبة الإسعافات أعلى الخزانة المعلقة على حائط الحمام، عندما وقعت يدها بالصدفة على الصورة العائلية التي تجمعه مع زوجته الراحلة وابنته، وتلك الصورة نفسها سبق وافتقدتها عن حائط الصالة.استغربت وجودها هنا ولماذا قام أيمن باقتلاعها من مكانها؟رفعت الصورة الكبيرة نصب عينيها لتحدق في وجه نتالي، لتكتشف مدى الشبه الكبير بينها وبين تلك السيدة الغريبة التي قابلتها مرتين للآن، لا تستطيع التصديق أن الأمر مجرد صدفة، محال أن تشابه تلك الصديقة المفترضة زوجة أيمن بل وتحمل نفس اسم ابنته وهذا كله يكون من قبيل الصدفة!زفرت من أنفها وهي تعيد وضع الصورة مكانها أعلى الخزانة بغيظ، خرجت بعد انتهائها، لتوجه نظرها إلى صورة أخرى تخص نتالي وحدها مسنودة على الطاولة الصغيرة بجانب سرير أيمن، همست إيناس كأنها تحادث نتالي التي لم تقابلها أبدا: لم أعد أفهم شيئا، فهل تعرفين أنت؟زمت فمها بتفكير وقد ضيقت عينيها وشردت في نقطة في الفراغ، طرقت بسبابتها على طرف ذقنها تستذكر اسمها: ريما الدهان؟ لا لا، ريما ماذا ياايناس تذكري، اسمها ريما، ريما...اتسعت عيناها بسعادة وابتسامة انتصار عرفت طريقها إلى ثغرها وهي تهتف بتذكر: ريما الرسام، نعم هذا اسمها.حثت إيناس خطاها إلى الصالة حيث تركت هاتفها، حملته لتفتح على تطبيق محرك البحث ( غوغل )، ثم كتبت اسم ريما الرسام في خانة البحث، ماهي إلا ثوان معدودة حتى ظهرت صفحة طويلة تحمل العديد من الأخبار حول ريما، وأغلبها كان عن معرضها الأخير، فتحت إيناس صفحة إحدى المجلات لتقرأ فحوى المقابلة التي سبق وأن أجرتها ريما معهم، كما رأت صورة تجمعها وأدهم.أغلقت خضراوتيها المشابهة لمقلتي أيمن، وإحساس مقيت بالخداع يسري في شرايينها، لا رابط يجمع بين تاجر ومصممة أزياء، إذا فقد صدق حدسها وهناك أسرار خطيرة في حياة شقيقها، أغلقت الهاتف ومسدت بأصبعيها جبينها، فكرت أن تسأل الصغيرة لكنها تراجعت، يبدو ان ايمن يحاول جعلها تبدو حمقاء امام نفسها، وهو الان يلعب لعبة غير محسوبة النتائج، حسنا فليكن، ستلعب بنفس أسلوبه.شقت ثغرها ابتسامة ماكرة وقد راق لها ماخطر في ذهنها للتو!وصلت سيارة أدهم إلى الحي الذي يقبع به منزل أيمن وجارته إيمان، لاحت من ريما نظرة صوب مكان سيارة أيمن فلم تجدها، فتنفست الصعداء لغيابه، ذلك خير من رؤيته لها برفقة أدهم، تأهبت لتترجل من السيارة فاستبقها القابع بجانبها يتفحص الطريق: هل أنت متأكدة من قدوم آماليا؟ فأنا لا أرى سيارتها هنا!التفتت صوبه ببسمتها المنمقة مجيبة بصوت رخيم: بالطبع، فهي من أخبرني بقدومها لتعطي ايمان حقنة الدواء، فهيثم مسافر ولا أحد معها في المنزل.حرك رأسه بتفهم ثم ترجل بدوره ليتبعها، حيث سارت باتجاه منزل إيمان، حاملة في يدها بعض الصناديق متوسطة الحجم لحفظ الطعام.د...ثنت إيمان ساعدها بعدما اعطتها آماليا الحقنة الطبية، ابتسمت لها بشحوب متمتمة بصوت خفيض متعب: شكرا لك حضرة الطبيبة، لقد اتعبتك معي.ربتت آماليا على كتفها لتهديها بسمة بسيطة مجيبة: لا داع لشكري على واجبي إيمان، فأنت وخديجة بمثابة شقيقتي.تنهدت الأخرى بامتنان مستذكرة شقيقتها التي خضعت مؤخرا لعملية تلقيح صناعي على يد آماليا، فلم يخبرها أحدهم بماحدث مع إيمان خوفا عليها، ومع سفر هيثم إلى مدينة أخرى لأجل عمله فلم يبق لايمان أحد، خلا إحدى الجارات التي تطوعت لأخذ الأطفال إلى منزلها هذه الليلة.كانت آماليا توضب الأدوية داخل حقيبتها الطبية ذات اللون البني، كتفت يديها بعد انتهائها لتخبر إيمان بجدية: يجب أن تتناولي شيئا قبل أن تنامي، سأحضر لك حساء الخضار.كادت تتحرك من مكانها حينما قاطعتها إيمان هاتفة بسرعة: لا تتعبي نفسك حضرة الطبيبة، فقد تكفلت ريما بجلب العشاء.التفتت صوبها بحركة مباغتة، ورغما عنها سرت في بدنها قشعريرة غريبة حينما ذكرت اسمها، ربما لارتباطه باسم أدهم دوما، فهمت من حديث إيمان أن ريما في الطريق، لذا فقد أثرت الهرب، تصنعت الابتسام لتسير ناحية حقيبتها محدثة إيمان ببعض التوتر الذي نجحت في إخفائه: إذا يجب علي الذهاب الآن.لكنها وقبل أن تصل يدها للحقيبة سمعت صوت جرس الباب، دمدمت لاعنة حظها من تحت أسنانها فيما هتفت إيمان: لقد وصلت ريما.حملت الحقيبة واتجهت إلى باب المنزل لتفتحه، طامعة في الهرب، لكن أملها تبدد حالما فتح الباب لتكون عينا أدهم العاشقة أول مايطالعها، ازدردت ريقها بوجل وهي تحول انظارها صوب ريما التي هتفت بحماس: إذا فأنت هنا آماليا؟أضافت بنبرة ذات مغزى مشيرة إلى أدهم: لقد بحثنا أنا وأدهم عن سيارتك فظننا أنك لم تحضري بعد.ابتسامة باهتة تلك التي القتها ناحية ريما مجيبة بنبرة هادئة لكنها تخفي خلفها قلقها: في الحقيقة لقد أتيت بسيارة أجرة ولم آتي في سيارتي.تنحت للجانب مضيفة وهي تبعد عينيها عن رماديتين متلهفتين: تفضلا وادخلا، فإيمان بانتظار حضورك.ضيقت ريما عينيها لتلقي نظرة ذات معنى ناحية أدهم عندما استوعب كلاهما أنها على وشك المغادرة، فهتفت ببسمتها الحانية وهي ترفع صناديق الطعام في وجهها: حسنا، وبما أنك هنا فلتشاركينا العشاء.كادت أن تعتذر لكن ريما استبقتها وهي تدلف إلى الداخل لتقابلها، هاتفة بإصرار: لن أقبل بأية أعذار، والآن تفضلي أمامي لو سمحت.ضغطت على شفتيها بحرج فلم تعرف كيف ستتهرب، فيما تحركت ريما ناحية الطاولة لتضع الصناديق عليها، ثم إدعت انشغالها بإفراغ محتوياتها في أطباق جلبتها من المطبخ، تاركة الآخر هائم في وجه محبوبته التي تجمدت قدماها أرضا، كأنما ترفضان الانصياع لأوامر عقلها الذي يطالبها بالهرب.تحرك أدهم أخيرا ليدلف ويغلق الباب، ليقابل بجسده آماليا التي رفعت رأسها إليه، قرأت داخل تلك الرماديتان مشاعرا يختصها بها وحدها، إنها مشاعر الحب الصادق الذي لم تدنسه الأيام، انتبهت هي إلى موقعهما إثر صوت الأطباق الزجاجية، لتنسحب من أمامه نحو ريما التي ابتسمت بلطافتها المعهودة مخاطبة آماليا: صدقيني لن تتناولي يوما طعاما أشهى من طعام أم ميسر، فهي طاهية بارعة.اختلقت آماليا بسمة لم تصل إلى عينيها وهي تومئ لها بالإيجاب، كأنها فهمت حديثها الذي لم تسمع منه حرفا، ساعدتها في توزيع الأطباق أمام أربع من الكراسي المتقابلة، انتهت ريما لتحمل الصناديق متجهة إلى المطبخ، لكنها توقفت لتحادث أدهم مشيرة له بإشارة فهمها: تعال عزيزي أدهم واجلس مكانك.كانت آماليا تسحب الكرسي لتجلس عندما سمعت جملتها، صوبت انظارها نحوها لتراه يتقدم نحو المائدة فهمست بخفوت: سأذهب لأغسل يدي.بهتت ملامح أدهم ولاحقها بنظراته حتى اصطدمت بنظرات ريما، التي ابتسمت له بتشجيع و أشارت له بألا ييأس.خرجت ريما تسند إيمان من خاصرتها، لم تكن بهذا التعب الشديد لكن ريما قد أصرت أن توصلها بنفسها حتى دخلتا الصالة، لتجد أدهم مازال على جلسته وحيدا، زفرت ريما من أنفها فيبدو أن آماليا أعند من أدهم، ابتسمت بتهكم وهي تحرك رأسها للجانبين بحركة خفيفة، حسنا هما يليقان ببعضهما!كانت الأخرى ماتزال في الحمام الملحق بالصالة، فتحت صنبور المياه فقط ليسمع صوت تدفق المياه من بالخارج، لكنها في الحقيقة كانت تغمض عينيها وتضغط بيدها على الحوض الرخامي تستدعي ثباتها الانفعالي، لا يجب أن تضعف، ليس هنا وليس أمامها، رغم أنها لم تفعل لها شيئا مسيئا لكنها لا تستطيع أن تحب ريما غريمتها، رغم أنها تستحق أكثر من ذلك، لكن ماذا تفعل بغيرة الأنثى؟انتبهت لقضائها وقتا أكثر من اللازم في دورة المياه، اقفلت الصنبور لتخرج بعد نفس عميق، اصطنعت بسمتها المزيفة والتي اختفت ماان رأت جلستهم، حيث كانت ريما تجلس بجانب إيمان، فيما بقي الكرسي بجانب أدهم شاغرا، وكم أسعده هذا الترتيب الذي كان بتخطيط مسبق من ريما.أجبرت قدماها على التحرك حينما التفتت ريما نحوها لتحثها على القدوم: هيا آماليا، فنحن بانتظارك.تقدمت لتجلس على كرسيها بتردد، حملت ملعقتها لتجاري البقية الذي بدأوا في تناول طعامهم بشهية مفتوحة، كانت ريما تطعم إيمان بيدها مرفوقة ببسمتها الحنون، وأدهم الذي كان يلقي نظرات عابرة ناحية آماليا الجالسة بقربه، ولا ينكر أن فؤاده يرقص طربا بجوارها، كأنه مراهق في الثامنة عشر من عمره، ينتظر محبوبته لترفع رأسها إليه ليتوه في قسماته البريئة.بضع لقيمات هي كل مااستطاعت إقحامها جبرا في فمها، فيما معدتها تعتصر قلقا وجزعا، ولا تعرف حقا لم؟ لكن رائحة عطره النفاذة زكمت أنفها، فلم تعد تستلذ بأي رائحة أخرى.استقامت ريما لتتجه مع إيمان إلى الحمام، ليستغل أدهم لحظة انفراده بها، توجهت أنظاره إلى آماليا التي كادت تتبعهن، لولا حديثه الهامس: كيف حالك؟رغما عنها غاصت في مقعدها، ازدردت ريقها بتوتر مجيبة باقتضاب و بنبرة مهتزة دون النظر نحوه: بخير.تنهد بحنين يحدثها بدفء توسمته: يجب أن نتحدث آماليا، أرجوك اعطني فرصة؟ابتسمت بتهكم لتردف بهمس وهي تشير بذقنها إلى الرواق الذي اختفت فيه ريما ورفيقتها: زوجتك هنا سيد أدهم، ألا تخشى أن تراك؟امتدت يده ليمسك كفها بحنان معقبا بنبرة عاشقة: لا يهمني سواك آماليا.قطبت جبينها من حركته التي اعتبرتها وقاحة، التفتت إليه تريد توبيخه، لكن لسانها سكن داخل فمها عندما تلاقى البحر بالتراب، داخل مقلتيه عشق فائض عن المعروف، وللمسته على يدها تأثير السحرة، تعطل عقلها من إعطاء أوامر التمرد لها، ليتوه معها في تفاصيل وجه لطالما عشقه، وكلمات اغنيه سمعتها ذات يوم تتردد في الخلفية:عيناه والروح سواء، عهد العاشقين وفاء.يا أصما عن النداء، والوعد رياء.عيناه والروح سواء، عهد حب فيه وقارقلب أصم عن الهوى، والبعد شاء.إذا نسيت عهود القلب تذكر، أنك من أساء.قد جاء إلي معتذرا، ولكن بعد ماذا جاء؟تنهدت بأسى وكأن الشاعر قد كتبها لحالها المتناقض خصيصا:عاشق قد خان الهوى، وحبيب وعد وغدر.إلى أين ياقلب أجب، إلى متى سنبقى ننتظر.حالنا حال الغريب، حقائب هم ووهم السفر.نخفي نار الشوق فينا، ونبكي ذكريات صور.جميعنا في البداية رائع، وفي الختام الكل انكسر.ألا هل من حبيب هنا، سقط القناع والحب اندثر.تلألأت الدموع داخل زرقاوتيها حالما دقت الكلمات الأخيرة ذهنها، أحقا سقط القناع واندثر الحب؟ أم أنها العمياء منذ البداية؟ارتجفت شفتها السفلى فيما تطالع عينا أدهم، والتي كانت كفيلة بإخبارها عن حجم غرامه وحبه الذي لم تغيره السنين، لكن ضحكة ريما الرنانة نزعتها من متاهتها نزعا، ضغطت على شفتيها وهي تسحب يدها من كفه بنزق، حبست دموعها وهي تستقيم هاربة من أمامه، أصابه الذهول لتبدلها، سرعان مااستوعب فتحها للباب، انتفض فؤاده يريد اللحاق بها لكنه أجبر جسده على الصمود مع خروج إيمان وريما، تساءلت إيمان باستغراب: أين الطبيبة؟ازدرد ريقه محاولا الابتسام مجيبا بنبرة مبحوحة: لقد طرأ لديها عمل مستعجل.رمقته ريما بنظرة متسائلة، ليشير لها بالنفي برأسه بخفة، تنهدت بخيبة وهي تجزم أن عناد آماليا، يفوق تخيلها.لو أنها فقط تعطيه الفرصة وتسمعه، لو!أسندت رأسها على زجاج نافذة سيارة الأجرة التي استقلتها، ولم تستطع منع دموعها من الهطول، وتنهيدات الوجع تخترق روحها لتخرج مع شهقات بكائها، انتبه الرجل الاربعيني إلى بكاء تلك الصبية الجميلة، قطب جبينه باستغراب، ثم تحدث بصوت عال ليجذب انتباهها: الحياة معقدة للغاية.انتبهت هي إلى نبرة الرجل العجوز، عدلت رأسها وهي تنظر إلى مرآته حيث تلتقي بعيناه البنية، ليضيف الرجل بنبرة جعلت آماليا تعلم أنها المقصودة: تمضي أعمارنا وتضيع بحثا عن السعادة؛ ولا نعلم أننا نملك مفاتيحها، الأمر يحتاج لأن نفتح انظارنا فقط.تنهدت وهي تمسح دموعها، ثم أجابت بصوت متأثر: وماذا نفعل بجراح الماضي الذي يرفض تركنا؟ابتسم الرجل مجيبا ببساطة وهو ينقل ابصاره بين الطريق والمرآة التي ارتسمت صورة آماليا عليها: فلنتركه نحن إذا، فلندر ظهورنا له ولن يتجرأ على القفز من فوقنا والظهور أمامنا مجددا.رمشت عدة مرات قبل أن تتسائل بهدوء: وماذا نفعل بقلوبنا الحمقاء؟ والحب الذي لم يزل يسكنها؟سكت الرجل لثوان حتى ظنته لم يسمعها، فيما هو كان يفكر في إجابة منطقية يريح قلب تلك الملتاعة، تحدث أخيرا بنبرة ودودة: ماكتب لك يا ابنتي لن يكون لغيرك مهما طال الزمن، وماليس مكتوبا لك فلن تملكيه مهما حدث، فأريحي قلبك الصغير.تنهدت بتعب وقد مستها تلك الكلمات بشكل جعل خافقها المجنون يهدأ قليلا ويرتاح، استندت برأسها من جديد على الزجاج، تراقب الطقس الماطر في الخارج بعيون جديدة، هذه المرة لا تراجع، فلتعيشي الحياة كما ينبغي، فالحزن لا يليق بك سيدتي.
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والعشرونيتوسمون في صمتي الهدوء، وماعلموا أن ازدحام الذكريات في رأسي أخرسني، ففي الصمت ضجيج لا يعرفه سوى من تاه فيه.كان الهدوء هو المسيطر عليهما، وهما في طريق العودة إلى المنزل، رغم أن الفضول يقتلها لمعرفة ماحدث بينهما، إلا أنها أثرت الصمت حتى يتحدث هو، كما أن تلك الرعشة البسيطة التي تسيطر عليها وهي بقربه منذ تلك الليلة المشؤومة لم تزل ساكنة جسدها، تنهدت ريما بتعب لاحظه أدهم، رمقها بنظرة من طرف عينه فهذا اليوم كان طويلا لها ومتعبا.ضغط على شفتيه قبل أن يتحدث ببعض التردد، وعيناه مرتكزتان على الطريق أمامه: ريما، أنا أعلم أنني أخطأت في حقك.جذب انتباهها فاستدارت نحوه بجفلة خفيفة، لذكره تلك الليلة المرعبة لها، فأضاف بنبرة رخيمة لكنها استشعرت ندمه واضحا: اعذري زلتي أرجوك، يومها لم أكن في وعيي صدقيني.تنهدت ريما بسعادة لاعتذاره، فقد أعاد لها ثقتها فيه، ابتسمت بارتياح متمتمة بصوتها الهادئ: لاعليك أدهم، فأنا أعلم أنك لم تقصد إيذائي.أمالت رأسها للجانب مضيفة بنبرة ذات مغزى: ولو أنني اتوق لمعرفة سبب مافعلته يومها.بداية أعتقد أنها تلومه أو ربما تعاتبه، إلا أنها أضافت بنبرة ذات مغزى، وشيء من القلق داخلها: أقصد أنك لم تشرب أبدا في حياتك، فهل لي بمعرفة كيف فعلتها للمرة الأولى،؟ وتلك الليلة بالذات؟لم يرغب أدهم بأن يخبرها عن فعلة أيمن وحديثه، فاكتفى بتنهيدة متعبه مجيبا بصدق وكذب في آن: لقد ذهبت ذلك اليوم لأقابل أماليا أمام منزلها، لكنها خرجت غاضبة باكية و على مايبدو قد تعاركت مع عائلتها.تجعد جبينها باستغراب وهي تذكر حالة نور تلك الليلة أيضا، فصدقته بسهولة خاصة عندما أردف: وهناك صرخت في وجهي وأخبرتني بأن ابتعد عنها.سكت لثانية قبل أن يأخذ نفسا عميقا وبتنهيدة طويلة أردف: لقد كنت آمل أن اعترف لها بكل شيء، لذا لم أستطع أن أفكر بعقل سليم بعد صراخها في وجهي، وهكذا وقعت في المحظور.صدقته ريما لأنها كانت على سجيتها، ولأنه لم يسبق وأن كذب عليها قبلا، شهقت كمية من الهواء بارتياح، بعد تخييب اعتقادها بأن لأيمن يد فيما حدث، سمعت سؤال أدهم التالي: هل سامحتني ريما؟ابتسمت بمكر مجيبة: سأسامحك، شريطة أن تدعوني إلى الغداء يوما ما.تعالت قهقهة أدهم على طريقتها الطفولية في التفاوض، حرك رأسه للجانبين بيأس منها، فيما ارتسمت ابتسامة صادقة على ثغرها، وشعور رهيب بالارتياح سيطر عليها، مااجمل أن تجد شخصا تثق فيه ثقة عمياء.وقف أدهم الشاب ذو الثمانية عشر ربيعا، أمام سيارة والده الحديثة، ويبعث برسالة صباحية مبكرة إلى حبيبته مفادها: سنرحل الان، وسأعد الدقائق والثواني لأصل إلى القرية وأحادثك.ضربة خفيفة من ريما على كتفه نبهته، ارتعب بداية وأسرع بإخفاء الهاتف، لكنه تنفس براحة عندما سمعها تقول بضحكة: أمسكتك أيها العاشق.التفت حوله ليرى والديه وعمته لم يحضروا بعد، استدار إليها قائلا بعتاب هامس: اخفضي صوتك ريما، وإلا سيسمعك أحد.كتفت يديها أمام صدرها تناظره بمكر وحاجب مرفوع، نفخ بضيق مضيفا بنفاذ صبر: حاضر أمري لله، سأشتري لك غزل البنات حين نصل للقرية، جيد؟ابتسمت باتساع لتقول وهي تنكزه في كتفه: نعم جيد سيد عاشق.نفخ مجددا متحدثا من بين أسنانه: بحق الله ريما، سيسمعك مجد ويخبر والدي!قهقهت ريما بخفة على تعابيره المزعوجة، والتي استبدلها فورا حين رأى والديه قادمان باتجاهه، ومن خلفهما كانت عمته والدة ريما تمسك بيد مجد الذي لم يتخطى العشرة أعوام يومها، استقل فارس وزوجته المقعدين الأماميين، وكان مجد في أحضان والدته، أما أدهم وريما فقد تعاركا على الكرسي بجانب النافذة، حتى صرخ بهما والده لتجلس ريما بجانب النافذة وأدهم في المنتصف.كان الطريق إلى قرية والده يستغرق مسافة ساعات في السيارة، حتى توقف فارس والده أمام محطة وقود، توجهت ريما إلى الحمام، كذلك ترجل أدهم ليجلب بعض الطعام لوالدته وعمته واخاه الاصغر، أما فارس فقد اتجه إلى الآلة مع العامل ليملأ سيارته بالوقود، كان مجد مشاغبا للغاية ويحب قيادة السيارات، فما إن صعد فارس مكانه بانتظار ريما وأدهم، حتى قفز مجد في حضنه قائلا بطفولية: أبي علمني كيف أقود السيارة؟رفض فارس في البداية، لكن إلحاح مجد وتضامن عمته ووالدته معه، أجبر فارس على التحرك بالسيارة، ومجد يمسك بالمقود كأنه من يقود فعليا، كانت الباحة أمام المحطة فارغة تقريبا، وفي لحظة طيش، مد مجد قدمه إلى إحدى الدواسات التي أعتقد أنها فرامل، لكنها كانت دواسة البنزين، وفي لحظة لم يعرف الجميع ماحدث، استدارت السيارة بسرعة لتصطدم بسيارة أخرى قادمة من الطرف الآخر...صوت فتح الباب أجفل أدهم الذي انتفض جسده كمن استفاق من كابوس مرعب، شحب وجهه وانخطفت ألوانه، مما فاجئ مجد الذي هتف باستغراب: مابك أدهم؟ هل من خطب؟تنفس الآخر براحة ومسح على وجهه المتعرق، ثم استدار نحو شقيقه متحدثا بصوت متأثر بوضوح: لا تقلق مجد انا بخير.تنفس من جديد بعمق ليشابك كفيه ببعضهما ويضعها على الطاولة أمامه، مضيفا: انت أخبرني، ما الذي تفعله هنا في المصنع؟كان الأخير قد وقف أمام طاولة شقيقه، وتلك الابتسامة الماكرة مرتسمة على شفتيه، انحنى صوبه مستندا بكفيه على الطاولة هاتفا: أريد إذنك لأخذ هادي معي.ضيق أدهم عينيه متسائلا بريبة: تأخذه معك؟ إلى أين؟اتسعت ابتسامته اكثر وهو يتمتم بانتصار: لقد دعوته إلى الغداء، لأعرفه إلى آماليا.تجهم وجهه وعبس من تفكير مجد، فتسائل بوجوم: أما زلت مصرا على رأيك؟أشار له بالإيجاب وهو يعتدل في وقفته، واضعا كلتا يداه في جيبي سرواله الجينز هاتفا بثقة وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة: أكيد، يجب أن اساعد خطيبتي أدهم.أعاد ظهره للخلف محاولا التحكم بأعصابه التي بدت على وشك الانفجار، ليسأله بجمود مصطنع: وهل وافقت أماليا على لقائه والتعرف إليه؟قهقه الآخر ساخرا ثم أجاب: طبعا لا علم لها بمخططي، لقد أخبرتك قبلا يجب أن يبدو الأمر كأنه صدفة.حرر يديه مضيفا: والآن هلا سمحت لي بأخذ هادي؟فتح فمه وكاد أن يتحجج بأي شيء ليرفض، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة وقد التمعت في ذهنه فكرة ماكرة، فلنلعب بنفس أسلوبك مجد.أشار له بالإيجاب فرحل مجد من فوره وقد شق ثغره ابتسامة عريضة، فلم يلحظ ابتسامة أدهم المماثلة وهو ينهض من مكانه حاملا مفاتيحه، واستبق مجد لينزل إلى سيارته، جلس فيها مراقبا مجد وهو يحث المهندس هادي ليركب معه في السيارة، ثم تبعهما دون أن يلاحظه أحدهما.فلتعترف، ليست مرتاحة أبدا لتلك ال- العزيمة- المفاجئة من شقيقتها، خاصة بعد إصرار الأخيرة على احضارها معها بعد إخراجها من المشفى جبرا، ثم التوجه بها إلى هذا المطعم البعيد نسبيا عن مكان عملها، متعذرة نور بأن هذا المطعم جديد وطعامه لذيذ.مضى على جلوس كلتاهما حوالي الخمس دقائق، ولغاية الآن لم تطلب نور قائمة الطعام من النادل، مما جعل آماليا تشعر بالريبة، قررت أن تسأل نور التي كانت تعبث بهاتفها، لكنها قبل أن تفتح فمها بحرف لاحظت شقيقتها ترفع رأسها صوب مدخل المطعم العريض، وقد تبدلت معالم وجهها للسعادة المطلقة، ضيقت عينيها وهي تلتفت بدورها، لتلاحظ دخول مجد مع شاب آخر، كان الشاب وسيما حسن الخلقة، ومن الواضح عليه أنه بعمرها وربما أكبر قليلا، لم يستغرقها الأمر سوى ثوان لتلتفت صوب أختها، تطالعها بفم مفتوح وعينين متسعتين، مدركة لعبة مجد ونور الماكرة.ادعى مجد المفاجأة وهو يتجه صوب طاولة نور وشقيقتها، ليهتف باستغراب مختلق: نور، آماليا؟ مالذي تفعلانه هنا؟كان هادي قد وقف بجانبه ممررا نظراته على الفتاتين، خاصة تلك الشقراء الجذابة ذات البحرين الصافيين، لفتت أنظاره بشرتها الصافية وخلقتها الكاملة، كأنها حورية هربت من مملكتها!في حين هتف مجد مخاطبا إياه: تعال هادي، اعرفك بخطيبتي نور، وهذه شقيقتها الطبيبة آماليا.تابع مجد تعريفهم مربتا على ظهر الآخر بود زائد: وهذا آنستاي المهندس هادي، من أفضل وأكفأ المهندسين في مصنع شقيقي أدهم.لماذا ربطت بين هذه الصدفة المفتعلة والاسم الأخير؟ حقا لاتعلم، ما تعرفه أنها شعرت بالرخص من تلك الطريقة التي تتبعها نور ومعها مجد، لكتها حاولت التماسك أمامهم قدر المستطاع، رغم غليان الدماء في عروقها واختناق الكلمات في جوفها.استفاقت من خاطرتها السريعة على صوت مألوف يهتف بمفاجأة مصطنعة: ماهذه الصدفة الجميلة؟التفت الأربعة ناحية أدهم الذي هتف بابتسامة صفراء، ممررا عيناه عليهم ليسأله مجد بغرابة: مالذي تفعله هنا أدهم؟هتف مجيبا، وهو يسحب الكرسي الملاصق لأماليا ليجلس بأريحية: أتيت لتناول الغداء.ضيق عينيه بشك مستريب ليتسائل مجددا باستنكار طفيف: في هذا المطعم بالذات؟أشار له بالإيجاب، متجاهلا عن عمد تأففها الواضح من قربه منها: لقد سمعت عن هذا المطعم وطعامه اللذيذ منذ فترة، فأحببت أن أجربه.ثم أضاف بنبرة ذات مغزى ملقيا نظرة سريعة نحوها: ولو كنت أعلم بقدومكم إلى هنا لحضرت إليكم.تدارك خطأه سريعا ببسمة بلهاء: أقصد معكم.كتف الآخر ذراعيه أمامه مردفا بشك: أها، تجربه لوحدك؟علم مقصده فأجاب كاذبا وهو يرفع كأس الماء الذي كان موضوعا أمام آماليا، مستلذا بحرق أعصابها: لقد دعوت ريما إلى الغداء، لكن من الواضح أنها مشغولة.رمقه مجد بنظرة شك ولم يصدق حديثه، في حين تلافاه أدهم ليوجه حديثه تاليا إلى نور، قرأ انزعاج أماليا وارتباكها أيضا خاصة مع ذكر أدهم لريما، تسرب إليه الشك ليتيقن أن شقيقه يخفي عنه سرا عظيما، ولا ينبغي له أن يبقى جاهلا به.كان يعتقد نفسه فهلوي زمانه، وذكي عصره، صعد الدرجات الخشبية المؤدية إلى مدخل المنزل، وعلى ثغره بسمة انتصار، كطفل نجح في اختباره الأول.كان مجد قد لحقه هو الآخر بعد انتهاء دوام المصنع، دلف إلى الصالة الكبيرة ليجد شقيقه جالسا وحيدا هناك، وابتسامته تلك لم تخبو مذ غادر المطعم، ضيق عينيه ليتجه نحوه حتى وقف أمامه، رفع الأخير عينيه ناحية شقيقه هاتفا بابتسامة عريضة: لقد عدت مجد!كان صدر الأخير يعلو ويهبط بتناغم، ثم هتف بصوت واضح لا أثر للمزاح فيه: هل من أمر ما لا أعرفه بينك وبين آماليا؟شحب وجه أدهم تزامنا مع سؤاله، والذي كان معناه واضحا لا مجال الشك فيه، تسمرت عيناه على وجه أخيه الذي لم يكن يمزح أو يشكك، بل هو متيقن من كلماته.بلل شفتيه مجيبا ببسمة متوترة، ونبرةحاول قدر الإمكان جعلها حقيقية: كيف استنتجت هذه التخيلات مجد؟تفرس في ملامحه قائلا بجدية اخافت أدهم حقا: لا تظن أنني أبله أو أعمى، لقد لحقت بنا إلى المطعم، وتعمدت الجلوس بجانبها، صحيح؟رمشت عينا أدهم بحركة لا إرادية، ضاق نفسه من اكتشاف شقيقه حتى شعر كأن الصالة قد نفذت من الهواء، بينما عينا مجد مسلطتان عليه كملك ظالم ينفذ حكم القصاص بسجين بريء.كعادتها حضرت المنقذة، دلفت ريما لتجد الشقيقين يقفان ندا لند، ربما لم تعرف مالمشكلة لكنها لم تطمئن لتلك المواجهة، تلاحم حاجبيها هاتفة باستغراب: ما الأمر مجد؟لم يجبها أو يلتغت، لتستدير صوب الآخر مضيفة بنبرة سؤال: أدهم؟كأن صوتها قد أعاد عقله إلى صوابه، تدارك أدهم نفسه ليتشنج وجهه بتزييف، ثم صاح بوجه مجد باستنكار: ماالذي تهذي به مجد؟ أجننت؟أجابه الآخر وهو يبدو على وشك الانفجار: لا لم أجن بعد، منذ فترة وأنا أشعر بتغيركما.زادت عقدة حاجبيها وهي تراقب مايحدث بعدم فهم، ثم استمعت إلى ماتفوه به مجد: كما أنا متأكد من أن هناك ماتخفيانه عني، ولن يطول الأمر حتى أعرفه.ثم همس متوعدا بقسوة: حينها سأريك الجنون الحقيقي.خرج عقب كلماته تلك، غير آبها بنداءات ريما خلفه، وقد شعرت بالقلق لحالته تلك، كم كانت مشابهة لحالة أخرى دخل بها يوم كانوا في بريطانيا، أعادت انظارها إلى أدهم لتراه على وقفته نفسها، مطالعا فراغ مجد بصدمة حقيقية، زادت حالة أدهم من قلقها، ما بالهما اليوم؟سارت إلى حيث اسقط أدهم جسده، ومازال الذهول مسيطر عليه، جلست بجانبه وهي تربت على ذراعه بخفة، حتى همس بخفوت: سيعرف كل شيء ريما.تطلع ناحية وجهها الذي بانت عليه علامات عدم الفهم، ليضيف بصدر يعلو وينخفض بجزع: مجد سيكشف الماضي بأسراره.ربما نجحت خطته في إبعاد هادي عن آماليا مؤقتا، إلا أنه لم يستطع منع الأخير من التفكير بتلك الحورية الشاردة عن قطيعها، خاصة وأنها التزمت الصمت مع ابتسامة صغيرة معظم الأحيان، إلا من كلمات قليلة شاركت بها حديثهم الودي، تنهد هادي ملقيا بجسده على أقرب أريكة في صالته الصغيرة، تطلع إلى السقف بنظرات شاردة، ليرتسم وجه آماليا على الثريا القديمة المعلقة فيه، مع ابتسامتها الهادئة لتكتمل اللوحة الإلهية بجمالها البراق.اعتدل في جلسته فجأة، مقطب الجبين بتفكير، يريد أن يعرف كل شيء عمن سلبت عقله، لكن كيف السبيل؟أضاء ذهنه بفكرة، سيسأل مجد غدا عنها، ليعرف كافة التفاصيل التي تخصها، لقد تفحص يدها اليوم، فلم ير مايزينها، إذا فهي على الأغلب غير مرتبطة، ابتسامة سعيدة زينت محياه، ليلقي بنفسه مجددا على الأريكة، وضع ذراعه فوق جبينه ليغمض عينيه، ثم تاه في خيالات كثيرة رسمها فؤاده الذي وقع غريقا في بحريها من نظرة أولى.عاد مجد بثورته الى المكتب، معتقدا بأنه سيجده فارغا، إلا أنه تفاجأ بوجود أيمن هناك رغم أن الظلام قد حل منذ قليل، رفع الأخير أنظاره إلى مجد هاتفا باستغراب: ماذا تفعل هنا في هذا الوقت مجد؟تنفس مجد بعمق محاولا ضبط أعصابه، حسنا إنها فكرة غبية من الاساس أن يأتي إلى المكتب ليفكر بهدوء، فقد أخبره أيمن بوجود بعض المشاكل العالقة وقد يتأخر في المكتب، لكنه حقا تائه لا يعرف إلى أين قد يلجأ.تصنع الابتسام مجيبا بهدوء عجيب: لقد أتيت لأرى إن كنت بحاجة إلى أية مساعدة.رغم عدم تصديقه، لشعوره باختلاف مزاج مجد عن العادة، إلا أنه أشار له بتفهم، وقبل أن يتحدث بشيء تفاجأ بشقيقته إيناس تدخل إلى المكتب حاملة في يدها حافظة طعام صغيرة.استقام من مكانه متفاجئا بقدومها لأول مرة إلى مكتبه، هتف باستغراب: إيناس؟ مالذي أتى بك إلى هنا في هذه الساعة؟اتسعت عيناه بارتعاب مضيفا وقد توارد إلى ذهنه أفكار مريبة: هل أصاب ابنتي مكروه؟تبسمت من قلبها لحبه الواضح لصغيرته وخوفه الدائم عليها، فأجابته بهدوء: لا تقلق أيمن ريما بخير.كان مجد متجها ليجلس على كرسيه، عندما سمع اسم ريما، استدار ناحية أيمن وشقيقته بحركة عصبية، ليستمع إلى باقي جملة إيناس التي أضافت: لا تقلق عليها إنها مع زوجي والأولاد في الحديقة القريبة.تنفس براحة لكنه قطب جبينه بتساؤل، وقبل أن يسأل فعلا اردفت إيناس وهي ترفع العلبة البلاستيكية أمامه: لقد صنعت بعض الكعك، ورغبت بأن تتناوله ساخنا.بالرغم من أنها تبدو حجة غير مقنعة، لكنه ابتسم لها بصدق محركا رأسه بتفهم، فطن لتوه إلى وجود مجد، التفت إليه ليجده عاقدا حاجبيه بوجوم، وانتبهت إيناس كذلك إلى وجود شاب يبدو في بداية عمره معهما في المكتب، حمحم أيمن بإحراج لينقل بصره بينهما معتذرا لمجد بداية: آسف مجد لم أعرفك، هذه إيناس شقيقتي الكبرى.التفت نحوها ليجدها تتفرس في وجه مجد ليضيف: إيناس أعرفك إلى مجد بهاء الدين، شريكي في المكتب.رفعت رأسها نحوه لتضيق عينيها باستغراب، وقد بانت علامات المفاجأة عليها بوضوح، عادت لتنظر إلى مجد من جديد، وشعور بعدم الراحة يتغلغل داخلها، فيما ابتسم مجد بمجاملة ليرحب بها، استأذن ليغادر بعدها، تحت أنظار إيناس.أخذ أيمن العلبة من بين يديها، متجها إلى كرسيه وهو يتمتم بحديث لم تفهم أغلبه، كان هدفها من هذه الزيارة أن تتأكد من تواجد ريما في مكتبه، حتى لو لم تجدها لعلها تستحصل منه على ما يشفي غليلها، وتعرف حقا ما هي طبيعةالعلاقة بينهما، لتفاجئ اليوم بوجود مجد هنا، وكانت قد عرفته من مقابلة ريما مع المجلة، وربطت بين الإسم واللقب.استفاقت من شرودها على صوت أيمن يحثها على الجلوس ومشاركته، تقدمت حتى جلست، ثم شردت فيما يخفي اخاها، لاتعلمه حقا لكنها متأكدة أنه ليس بالأمر الجيد...شهقت ريما بخفة، كورت يدها ووضعتها على شفتيها بجزع، بعدما انتهى أدهم من سرد ماحدث في المطعم، فيما هو كان ينظر الفراغ بضياع يستشعره للمرة الأولى منذ سنين.همست ريما بلوم: كيف تفعل كل هذا أدهم؟وأمام عيني مجد؟ مالذي دهاك؟كان صعبا عليه في البداية أن يعترف بالسبب الحقيقي، لكنه نظر إليها ليجيبها بصدق: أعمتني الغيرة ريما، صدقا لم اتحكم بأفعالي.لا داع لأن يخبرها، فهي أكثر من يعلم هذا، ربما يبدو الأمر جنونيا، لكنها تغار!تغار من زوجة أيمن المتوفية لدرجة لا تصدق، وكلها فضول لأن تراها ولو عن طريق صورة، لكن الغريب أنها لم تجد لها أية صورة هناك.أعادها أدهم إلى واقعها، عندما هتف بصوت مرتجف، وكأنه يعلم ماسيحدث لاحقا: مجد ذكي ريما، وإذا كشف المستور، فلن يحدث خير أبدا.نعم لن يحدث ماهوخير أبدا، خاصة بعد حادثة المطعم اليوم، ومجد لن يرتاح حتى يقضي على ماتبقى من آمالهم...
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والعشرونأحيانا يجب أن تقطع أجنحة الشوق، قبل أن يحلق بك في السماء السابعة، فعلى قدر السعادة سيكون السقوط المؤلم.لم يغمض جفنه طوال تلك الليلة، ظل ساهرا حتى ضربته أشعة الشمس، يفكر في عقبات معرفة مجد للحقيقة، لكنه لم يستطع أبدا تخيل إلى أين قد يصل بهم الحال، نفخ بامتعاض ماهذه المعضلة؟ قلبه أم شقيقه؟ حبيبته أم أخاه الذي رباه كأنه ابنه؟تقلبت ريما على جانبها الأيمن، واضعة يدها تحت خدها، وقد ظهرت على محياها علامات الأرق، فحالها من حال أدهم، تلاقت اهدابها الطويلة لتغطي تلك العسليتين الغزلانية، سرعان ماسحبتها الذكريات، ذكريات يتمها وفقدانها لأمها.لم تنشف دمعتها بعد على والدتها وزوجة خالها، واللتان فارقتا الحياة فور اشتعال السيارة بمن فيها، فبعد أن صدمتها سيارة ظهرت في باحة المحطة من العدم، فقد فارس السيطرة على سيارته لتنزلق حتى اصطدمت بماكينة تعبئة الوقود وتنفجر فورا.استطاع فارس أن يفتح بابه بصعوبة ليقذف بابنه الصغير على الأسفلت، فيما بقي هو يجاهد ليحرر اخته او زوجته، لكنه اختنق بالدخان وأصيب بحروق كثيرة في مناطق متفرقة من جسده، حضر جميع من كانوا داخلا ليشاهدوا الحدث الفظيع، وكان كلا من أدهم وريما معهم، صرخت الأخيرة برعب عندما رأت النار تلتهم سيارة خالها، أما أدهم فقد صدم حرفيا من المنظر المريع، لاحت منه نظرة ليرى شقيقه الصغير جالسا على الأرض، يصرخ بخوف من المنظر المتمثل أمامه.هرول أدهم إلى مجد ليتفحصه أولا، وجد أن يده بها بعض الحروق الخفيفة، إضافة إلى جروح وسحجات في منطقة جبينه، صرخ على ريما التي أخرجها صراخه من صدمتها، فجرت بدورها لتحتضن مجد بحماية، وادمعها تسيل كالأنهر للمصاب الجلل.حاول البعض منهم مساعدة فارس والأخرتين وكذلك فعل أدهم، فيما اعمل بعضهم عقله ليجلب بعض قوارير النتروجين للمساهمة في إطفاء الحريق.لكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، فلم تكن النيران تزداد إلا جنونا واشتعالا، إلا أنهم تمكنوا من إخراج فارس، ومازال جسده ينبض بالحياة رغم احتراقه.أعلنت وفاة كلا من والدة أدهم وعمته والدة ريما، بعد تفحم جثتيهما داخل السيارة، فيما تم نقل البقية إلى المستشفى القريبة، أودع فارس في غرفة العناية المشددة، بعد إصابة جسده بحروق من الدرجة الثانية والثالثة، أما إصابة مجد فكانت طفيفة، لذا تم إيداعه في غرفة مخصصة في قسم الأطفال ومعه ريما التي رفض أن يتركها مجد.جلس أدهم على الكرسي الأزرق في رواق المشفى، واضعا كلتا يديه الملفوفتين بشاش طبي في حجره، منكسا رأسه وعلى زاوية عينه تحجرت دمعة تبحث عن منفذ للخروج، لم يصدق بعد ما آلت إليه حال عائلته، خسر شخصين عزيزين على قلبه، والدته وعمته، ووالده الآن في شبه غيبوبة.رفع رأسه عندما لمح خيالا طغى عليه، فرأى من بين نظراته الدامعة رجلي شرطة، يطلبان الحديث معه ومع ريما حول الحادثة.طرق باب الغرفة التي كان مجد داخلها فانتبهت ريما الباكية له، فتح الباب ليظهر من خلفه أدهم برفقة أحد الرجلين، فيما بقي رفيقه خارجا.وقفت ريما بعد ان مسحت عبراتها، وقد انقبض قلبها بجزع حالما رأت بذلة الشرطة، تقدم أدهم ليهمس في أذنها عندما لاحظ أن شقيقه نائما: ريما، سيادة الضابط يريد أن يتحدث معنا حول الحادث.بلعت ريقها المرير بصعوبة وهي تشير له بالإيجاب، تحركت مع أدهم ليخرجا برفقة الضابط، فلم يلحظا استفاقة مجد وقد سمع همس أدهم.لم تكد تقف خارجا لثوان لتسرد للضابط أين كانت عندما حدث الاصطدام، حتى سمع الجميع صوت صرخات مجد، هرولت لتفتح الباب يرافقها ادهم، ليجدا مجد يصرخ بهسترية، وقد ألقى بغطائه ووسادته أرضا، متكورا على نفسه يصرخ باسمها بنبرة ارعبت كل من سمعها، ولم يهدأ نحيبه حتى احتضنته ريما، ليتعلق بها كمن أضاع أمه ثم وجدها.أجفلت ريما بخفة عندما سمعت صوت إغلاق باب غرفة الملابس، اعتدلت في جلستها لتنظر إلى أدهم الذي بادرها بالحديث كأنه يعتذر: لقد طرقت على الباب أكثر من مرة، لكنك كنت نائمة.زفرت بخفة وهي تمسح على وجهها، ثم رفعت رأسها إليه مجيبة بتعب واضح: لم أنم أصلا أدهم.سكتت لثانية قبل أن تضيف بشبح ابتسامة مشفقة: ويبدو أنك لم تفعل أيضا، صحيح؟أشار لها بالإيجاب وهو يدلك طرفي جبينه، تنهد بعمق مجيبا: لا، لم استطع أن أغفل حتى لثانية.تحرك يريد التوجه إلى الحمام، قبل أن تصيح ريما باسمه، التفت بوجه متعب إليها لتضيف بهدوء: يجب أن تتوخى الحذر أدهم، آخر ما نريده الآن أن يكتشف مجد الحقيقة بسبب خطأ غير محسوب.طالعها لثوان وعيناه مجهدة من السهر وفرط التفكير، تنفس وهو يشعر بأن الهواء ثقيل على صدره، لتتابع ريما: يجب أن نمهد له الأمر قبلا.لم يكن به من طاقة ليناقش فكرتها، رغم تيقنه من استحالة إقناع مجد او تمهيد الأمر له، إنه ببساطة لن يتقبل فكرة انفصال أدهم عن ريما لتأتي أخرى وتحل محلها، ليس الأمر مقتصرا على آماليا، بل لن يقبل بأي أنثى أخرى قد ترتبط بشقيقه، التفت ماشيا ناحية الحمام لينفض عن رأسه أفكار الليلة السالفة وذكريات الماضي الموجع، وفي داخله تضاءل الأمل في اللقاء، حتى تلاشى نهائيا، لكن الحب لا يتلاشى، بل يزداد تعمقا وتجذرا...تابعته حتى اختفى لتتنهد بوجع، لا تلبث تواسي أدهم وتسعى بكل ماهو متاح لتهون عليه البعد والفراق، وتعمل على جمعه بحبيبته الوحيدة، لكن من ذا الذي يهون على فؤادها الهجر والشقاق؟دلف هادي إلى المطعم الذي واعد مجد فيه ليلتقيا، في حين ابتسم مجد بمكر وقد علم ماوراء هذه الدعوة، واستشعر قرب نجاح خطته.جلس هادي قبالة مجد بعد أن صافحه، شبك كفيه ببعضهما ليحمحم بحرج طفيف إلا أن الكلمات اختنقت في جوفه، فتحدث مجد بعدما لاحظ ارتباكه: مالأمر هادي؟ أراك مرتبكا متوترا، هل هناك مااستطيع المساعدة به؟ابتسم الآخر بتوتر ليجيب: أستاذ مجد، في الحقيقة هناك ماأود سؤالك عنه.التزم مجد الصمت، في حين تابع الآخر حديثه ببعض التردد: أستاذ مجد، كنت أود سؤالك عن شقيقة خطيبتك.التمعت عينا مجد بسعادة، واتسعت ابتسامته الخبيثة وقد نجح هو في جذب انتباه هادي إلى آماليا، بل وهو الآن يفكر بها، إذا لن تطول المدة قبل أن تنفذ وصية عمار.بعد أن حدث هادي بكل ما يعرفه عن آماليا، هاتف خطيبته ليحدثها بآخر التطورات، ولتكون أيضا على إطلاع تام بما يحدث، كانت سعادة نور لا توصف في تلك اللحظات، أخيرا ستنفذ وصية أبيها، فهادي شاب وسيم ويبدو أنه قد أعجب بآماليا، وسيوقعها في شباكه أكيد، فقد يحتاج إلى بعض المساندة.كانت أماليا في المشفى، عندما رن هاتفها برقم غير مسجل على قوائم اتصالها، استغربت الأمر بداية فرفضته، لكن الرقم عاد للاتصال وبإلحاح، فقطبت جبينها لتفتح الهاتف، أتاها صوت هادي مرحبا وقد عرفته على الفور، رمشت بعينيها باستغراب قبل تسأله: أستاذ هادي! كيف حصلت على رقم هاتفي؟أتتها الإجابة المتوقعة: لقد حصلت عليه من السيد مجد.أغمضت عيناها بخيبة، وقد داهمتها مشاهد لقاء أمس، كادت أن تغلق الخط قبل أن يردف الآخر بسرعة: في الحقيقة كنت أود سؤال حضرتك، لقد كنت أرغب في عمل بعض التحاليل في مشفاكم، وكنت آمل في مساعدتك.؟إنها حجة غبية ألا تتفقون معي؟لكنها كانت كافية بالنسبة إلى آماليا لتعلم أنها مجرد عذر ليراها، كادت أن توبخه وتغلق الخط في وجهه، لكنها تمهلت وتروت، تذكرت حديث سائق سيارة الأجرة منذ ليلتين، ومعه الحق كله، فلترمي الماضي خلفها، ولن تلتفت إليه أبدا، قلبها يستحق بعض الراحة، بعد عذاب تلك السنوات وانتظار شخص من الواضح أنهما لن يجتمعا، شخص يبدو أنه ليس نصيبها في هذه الحياة.مرت أيام عدة، ابتعد فيها أدهم عن كل طريق قد يؤدي به إلى آماليا، مجبرا قلبه على العودة إلى جهاد الأيام الخوالي، يقضي ليله يحاول إقناعه بأنها ليست نصيبه، رغم تمرد هذا القلب عليه معظم الأحيان، بيد أن علاقته مع مجد لم تتحسن كثيرا خلال هذه الفترة نهائيا.حاذرت ريما أيضا في تحركاتها وذهابها إلى منزل أيمن، كأنها هي الأخرى تعرف استحالة جمعها به، لذلك بدأت في تقليل مرات ذهابها إلى منزل الأخير، تمهيدا لقطع علاقتها به وبابنته، رغم أنها لا تعرف حقا كيف ستفعلها، خاصة وأن حب الطفلة قد تغلغل داخل شرايينها وتمكن منها.اما آماليا، فلم تكن في حال أفضل من كليهما، خاصة وأنها فوجئت بعد يومين من الاتصال المدبر برؤية هادي في المشفى حيث تعمل، وقد زعم أنه في صدد عمل تحاليل طبية لنفسه على سبيل الاطمئنان، كما أنها رأته غير مرة في المطعم الذي دعت هدى إليه ذلك اليوم، كثرت الصدف وتتالت بشكل عجزت عن تفاديها، أو لنقل أنها لم ترغب في تفادي اقتراب هادي منها، رغم أنها تعامله برسمية كما كانت تفعل مع البقية، الا أن هادي لم ييأس، ويبدو أن عناده تجاوز رأسها اليابس، حتى شعرت أنها بدأت تستسلم له، ولمشاعر الحب الواضحة في عينيه...حتى أتى ذلك اليوم، الذي قد يغير كافة المقاييس، وكعادته، قام القدر بقلب الطاولة على رأس الجميع.عاد مجد ليلة أمس وكانت السعادة واضحة في عينيه وعلى تقاسيمه، وقد انتبه كلامن أدهم وريما إلى هذا، جلس ثلاثتهم إلى مائدة الإفطار، تبادل أدهم مع ريما نظرات متعجبة، فمجد هذا اليوم جلس معهم، على غير العادة، فهو منذ أن تجادل مع أدهم منذ شهر ونيف لم يجلس معهم على طاولة واحدة.شعر أدهم بالريبة منه، فيما هتفت ريما تتساءل بحبور: أراك سعيدا عزيزي مجد، فهلا أسعدتنا معك؟ابتلع مجد مافي جوفه من طعام، ليبتسم باتساع مجيبا: نعم ريما انا سعيد، أخيرا وبعد مجهود شهر كامل نجحت خطتي.ربما لم تفهم مالأمر، لكن نبرة مجد تبعث على الشك، نظرت إلى أدهم الذي تشاغل بتناول طبقه زاعما أنه لا يهتم بالحديث الدائر، لتعيد أنظارها إلى الآخر متسائلة باستغراب: ماذا تعني بحديثك هذا؟ ماهي تلك الخطة؟مرر مجد نظراته على شقيقه المشغول، لينطق بتمهل كمن يتشفى بهزيمة أحدهم: هادي سيتقدم لخطبة آماليا.رفع رأسه إليه بغتة كمن لسع، شحب وجهه واتسعت عيناه، ولم تكن ريما في حال أفضل، حيث نظرت إلى أدهم وقرأت في ملامحه مشاعر كثيرة، امتدت يدها لتتمسك بكفه، كأنما تدعمه، أو تخشى تهوره، فعادت لتسأل مجد بنبرة حاولت جعلها ثابتة رغم اهتزازها خوفا من الإجابة: وهل وافقت آماليا؟اتسعت بسمته الخبيثة أكثر، ليدير رأسه ناحيتها مضيفا بانتصار: ستوافق، أؤكد لك هذا.استقام واقفا في اللحظة التالية، ليردف بثقة غير آبها لتلك النيران والعواصف الترابية: فهادي كما تعلمين شاب متكامل، وهو حلم كل فتاة، وقد استطاع إقناع آماليا بنفسه، ولن يطول الأمر حتى يتزوجا.رحل بعد كلماته الحارقة ليصعد إلى غرفته، تاركا شقيقه الأكبر يحترق كمدا مكانه، كور قبضته بغضب حتى اختنق الدم في عروقه، راقبته ريما بحذر وقد بدى على وشك الانفجار، فهمست بخفوت: أدهم، لا تصدق حديث مجد، إنه يتلاعب بأعصابك.زفر من أنفه متطلعا إليها، وقد أرعبها مارأته في عينيه، إنها نيران متعاظمة قد تلتهم وتهدم كل شيء، أجابها أدهم بعصبية مكتومة: لا ريما، مجد يلعب بالنار، وسنحترق جميعنا بها، ولن يجد من يقف بجانبه هذه المرة.انتفض عقبها بسرعة أسقطت الكرسي خلفه على الأرض، فانتفضت ريما برعب من مغزى كلماته وحديثه، لتراقبه وهي تراه يحث خطاه مسرعا إلى خارج المنزل برمته، مررت كلتا يديها فوق خصلاتها نافخة بضيق، ثم رفعت رأسها إلى الطابق العلوي حيث اختفى مجد، لتهمس داخلها: إلى أين تنتوي الوصول بنا يا مجد؟ إلى أين؟!عبث مجد بخزانته الحديدية، والمخبأة بين ملابسه في خزانة ثيابه، أخرج منها بعض المال، وقبل أن يقفلها وقعت عيناه على ذلك المغلف الأخضر، قطب جبينه باستغراب كأنه يراه للمرة الأولى، نفخ بامتعاض كيف نسي أن يتخلص من تلك التقارير والأشرطة؟حسنا لا يجب أن يبقيها هنا، سيتخلص منها فور أن تتاح له الفرصة، فلا يجب أن يراها أحد أو تقع بين يدي ريما او أدهم، وإلا سيتبعثر كل شيء بناه خلال تلك السنوات...لم تذهب ريما إلى منزل أيمن منذ أيام ثلاث، فأخبرت الصغيرة أباها برغبتها برؤية ريما، ثم اقترحت عليه أن يدعوها إلى الغداء.بدت له تلك الحجة منطقية للغاية، وقرر اتخاذها كذريعة لرؤية ريما فقد اشتاقها هو الآخر، رغم رفضه بالاعتراف حتى أمام نفسه، والله وحده أعلم كيف مرت عليه تلك الليالي دون أن يراها.جعل ابنته هي من تحادثها، ومع سفر شقيقته خارج المدينة، إذا هذه فرصة قد لن تتكرر يوما، وبعد موافقة ريما على الحضور، تناقش مع طفلته بشأن ما سيطلباه للغداء، فهو لن يطهو بالتأكيد كونه فاشل أساسا..بعد مناقشات كثيرة وقع الاختيار على مطعم يقدم أطباقا هندية، وقد لاقت الفكرة استحسانه كونه وابنته يعشقان الأطعمة ذات التوابل الظاهرة، خاصة الحريفة منها.كانت ريما الصغيرة نشيطة هذا اليوم، فقد تركت فراشها وساعدت والدها في ترتيب الطاولة، كانت تضع الأطباق الفارغة مكانها عندما سمعت صوت الجرس، هرولت بسعادة قبل خروج والدها من المطبخ لتفتح الباب لريما، وقد ألقت بنفسها في أحضانها، عانقتها ريما بكل مودة تزامنا مع خروج أيمن من المطبخ وهو يجفف يداه، عندما رأى تلكم الغزالتين، كأنهما والدة وابنتها، وابتسامة ريما الرقيقة قد زادت محياها الغزلاني نضارة، وقف للحظات يرمقها بنظرات غير مفهومة، تلك الغزالة ستهجره من جديد، لكن هذه المرة ابنته ستتألم معه، اعطفي على العاشق وابنته، ايتها الغزالة الشاردة!رفعت أنظارها إليه لتجده يناظرها بطريقة استغربتها، هل قرأت في عينيه حنينا؟لم تعرف حقا، فقد أشاح بنظراته عنها قبل أن تفهمها، قائلا وهو يشير إلى الطاولة والأطباق المتراصة فوقها: تفضلي واجلسي.مررت ريما نظراتها على الاطباق الهندية العديدة، وقد تمكنت من تمييز رائحة التوابل النفاذة عن بعد، حتى انقبضت معدتها جبرا عندما لمحت حبة الفلفل الأحمر الكبيرة في أحد الأطباق، كونها أصلا تعاني حساسية في معدتها من الفلفل الحار.كادت أن تنطق وتعتذر عن مشاركتهما الطعام، قبل أن تسحبها الصغيرة من يديها إلى كرسيها قائلة بنبرة طفولية محببة: تعالي ريما وشاركينا الطعام، فقد انتقيت الأطباق بنفسي.لم تستطع الرفض، خاصة أن الصغيرة قررت إطعامها بنفسها، ولم تتمكن من تخييبها أو إحزانها، فقررت مشاركتهما ببضع لقيمات.جلس الثلاثة في الصالة بعد الغداء الحار، ورغم أن ريما لم تكثر من الأكل، لكن يبدو أن معدتها لن تصمد طويلا، فقررت الرحيل بعد شرب الشاي، قبل أن يتأزم حالها.كان أيمن يخشى من تبعات لقاء ريما بهذه الكثرة منذ البداية، والآن يجد نفسه بحال أسوأ وهي تقلل من زياراتها، سيما وأن فؤاده بدأ يغدر به بل ويتمرد على عقله، ليجد نفسه يدور في مدارها من جديد كجرم تائه.اما هي فلم تكن في حال أفضل، أضف إلى أنها لم تنسه للحظة، لقد زاد مقدار حبه داخلها لتسميته ابنته باسمها، وكم ودت لو أنها رأت زوجته من قبل.كانت قد شردت في ضحكته الآسرة وهو يداعب ابنته بحنان وعفوية، أجفلت عيناها فجأة حالما رفع خضراوتيه إليها، لتشيح بصرها عنه وهي تعض على شفتيها بحرج، ولم يخف ذلك عن أيمن، الذي ابتسم بسعادة نغصها عليه عقله وقد هتف يزجره بغلظة: ترو أيمن ولا تنسى، إنها الآن امرأة متزوجة!تجهمت قسماته وأخفض عيناه عنها مع تلك الخاطرة المقيتة، مهما حاول تناسي تلك الحقيقة فلن يستطع إنكارها أبدا.كانت الصغيرة تجري في الصالة، تزعم أنها تطير مع مجسم طائرة، عندما اصطدمت بالطاولة التي تتوسط الصالة عن طريق الخطأ، انتفضت ريما واقفة من مكانها برعب، بينما هب أيمن ليسرع إلى صغيرته وقلبه قد سقط بين قدميه، ضمها إليه في البداية، ثم تفحص جبينها ليجد أنها قد أصيبت بجرح طفيف في جبينها.نهج صدرها في جزع وهي تراقب خط الدماء الرفيع الذي نفر من جبين الصغيرة، ثم سمعت أيمن يهمس بعدما تفحصه: لا شيء يستدعي القلق، إنه جرح صغير.ثم رفع رأسه إليها طالبا بأدب: هل أستطيع أن أطلب منك أن تجلبي علبة الإسعافات الأولية؟وجهت عيناها الدامعة نحوه ليضيف مشيرا بعينيه وهو يحتضن الصغيرة: إنها في حمام غرفتي.أشارت له بالإيجاب عدة مرات بحركة سريعة، ثم خطت ناحية غرفته بخطى متعجلة، وبسبب عجلتها لم تتفطن إلى أنها دخلت غرفته، غرفته هو!،.دلفت من فورها إلى الحمام لتأخذ العلبة من الخزانة الوحيدة هناك، إلا أن سرعتها وتلبكها ساهمت في تحرك الصورة العائلية المسنودة أعلى الخزانة، لتسقط على الأرض فيتهشم زجاجها، شهقت ريما بفزع لكنها تجاهلتها رغم استغرابها من وضعها هنا، تابعت مسيرها لتتجمد خطواتها خارج باب الحمام بخطوة واحدة.كان أيمن يداعب صغيرته ويضحكها لينسيها آلمها، لكنه انتفض برهبة عندما سمع صوت تكسير الزجاج، وضع رأس ريما الصغيرة على السجادة، ليفر مسرعا ليرى الأخرى.رأت صورة زوجته نتالي المسنودة على طاولة صغيرة قرب سريره، جحظت عيناها برعب مما رأت، لقد كادت تجزم أنها صورتها هي، لولا لون الشعر والعيون المختلفة.سقطت علبة الإسعافات من يدها لترتطم بالأرض، و تلقائيا استدار رأسها للخلف ناحية الصورة الأخرى والتي انكبت على وجهها، انحنت لترفع الإطار الذي كسر زجاجه وتقلب الصورة، تزامنا مع دخول أيمن لغرفته، نظر إليها ليراها وقد رفعت صورة عائلته الصغيرة بين يديها، تجمد جسده عن أي ردة فعل أخرى سوى الوقوف ومشاهدة رد فعلها هي.شهقت ريما بصوت مسموع، ووضعت يدها على فمها، رمشت عيناها بعدم تصديق، ومشاعر كثيرة داهمتها تلك اللحظة، أحاسيس لا تستطيع وصفها، هذا الشبه الكبير بينهما يستحيل أن يكون صدفة، تساقطت عبراتها وقد ارتجف جسدها حينما شعرت به يقف خلفها، ولا تعرف حقا كيف ستنظر إلى عينيه.التفتت صوبه بهدوء، حتى تلاقت عيناهما، فقرأت داخل مقلتيه ندم وحب، ولا تعرف أيهما اختصها بها، ران صمت قاتل بينهما مشحون بمشاعر كثيرة، حتى همست هي بخفوت: هل أخبرتها عني؟لم يجبها، فأضافت بنشيج: هل كرهتني؟ظل جامدا وجهه غير مقروء الملامح، لتضيف وهي تشير إلى صورة نتالي: يستحيل أن تقبل الزواج منك لو علمت مدى الشبه بيننا، صحيح؟اهتزت شفتاها متابعة بخيبة وهمس: لقداعتقدت أنك نسيتني وأحببتها، كان هذا لأرحم على قلبي من هذه الحقيقة الموجعة.ألقت بالصورة أرضا لتتحرك من أمامه، بينما هو كان يقف مكانه دون حديث، حتى نطق قبل أن تصل إلى الباب، : لم أستطع التحرر من حبك.تجمدت مكانها لتلتفت نحوه، وظهره مقابلا لها، لم تفهم ما يقصده حتى استدار نحوها، لتقرأ الأسى والحزن الذي ارتسم على محياه، فيما عيناه قد احتقنتا بغيوم تنذر بمطر وشيك، ليضيف بنبرة غلفتها القسوة: ماكان لك أن تلعبي على قلبي وتخدعيه، لطالما تمنيت أن أتحرر منك لكنني فشلت، حتى ظلمتها معي.رمشت عيناها ومع كل حركة تتساقط دموعها ألما، منه وعليه، هي لم تخدعه بل أحبته بكل جوارحها ومازالت للآن، لكن مابيدها حيلة على الواقع والقدر، ظلت تناظره بعينيها الغزلانية، وقد أقلعت سماؤها فتحجرت الدموع على زاويتها، ابتلع أيمن غصة حادة ليضيف بصوته المتعب: حرريني أرجوك، يكفي ماعانيته من حبك إلى الآن.رفرفت بأهدابها وهي تزدرد ريقها بصعوبة بالغة، تنفست بعمق لتمنع غصة بكائها من خنقها، ثم تمتمت بصوت هامس: وأنا أيضا أتمنى لو أتحرر من حبك.ابتلعت ريقها المر مجددا، لتضيف بنبرة اقتلعت قلبها قبله: انسني أيمن وأرح قلبك، فأنا أحررك من غرامي.ألقت كلماتها ثم تحركت من فورها ولم تستطع البقاء اكثر، بقي أيمن ينظر في فراغ مكانها وقد حرر أدمعا أنهكته، أغمض عينيه بألم وهو يعترف لنفسه لأول مرة، بأن قلبه قد رحل معها...أصعب من الجرح الأول، أن تعيد فتحه لتتعمق في الجرح...