رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع عشروقلبي كعجوز متهالكة، يتيمة، أرملة، ثكلى، رغم أنني مازلت في ريعان شبابي، هكذا أخبرتني مرآتي وناقضته مشاعري، فأيهما أصدق؟فاجعة عظيمة حلت على ساكني هذا القصر الكبير، سندهم وعضدهم في هذا العالم قد رحل بلا رجعة.امتلأت الصالة الكبيرة بحشود المعزين من النساء، أما الرجال فقد تم نصب سرادق كبير عند مدخل منزل عمار، وكان في مقدمة استقبالهم أدهم ومجد، وكذلك صديق عمار المحامي قاسم.جلست عليا بلباسها الأسود وغطاء الرأس الأبيض تستقبل عزاء السيدات بوجه شارد وروح غائبة، تركتها تحوم حول حبيبها الذي فارقها، عزاءها الوحيد وجود ابنتيه أمامها، ليذكراها بضرورة التماسك لأجلهما، مسحت دمعتها عندما اقتربت منها ريما لتعزيها، قدمت الأخيرة كذلك تعازيها إلى نور التي كانت جالسة بجانب والدتها وتلبس ثيابا مشابهة.جلست ريما على كرسي قريب، لكنها كانت تبحث بعينيها عن أماليا تريد الاطمئنان عليها كما اوصاها أدهم، لم تجدها بين الحاضرين فشعرت ببعض القلق عليها، لمحت إحدى الفتيات وقد بدت أنها من العاملين في المنزل تقدم القهوة المرة للمعزيات، كان قد سبق وأن رأتها في خطبة نور، انتظرت حتى اقتربت الفتاة منها فسألتها ريما بهمس: أين أماليا؟همست سارة بينما تمسح دموعها بنشيج: الآنسة أماليا تحبس نفسها في غرفتها.ضغطت ريما على شفتيها بحزن لتهمس لسارة بخفوت، وعيناها تجول على السيدات بحذر: أين غرفتها؟ أريد أن اعزيها؟استقامت سارة لتشير إليها بأن تتبعها، نظرة أخيرة القتها ريما على عليا وابنتها لتقف وتتبع سارة بحذر، قادتها الأخيرة إلى الطابق الأعلى حيث غرفة أماليا وقبيل وصولهما خرجت هدى من عندها تحمل هاتفها تضعه على أذنها، تباطأت ريما قليلا حتى أوصلتها سارة ثم غادرت قبل أن تطرق ريما الباب، حقا لا تعرف كيف ستكون ردة فعل أماليا لو رأتها الآن، كان أخشى ما تخشاه ظن الأخيرة السيء بأدهم.كانت أماليا تقف في شرفة غرفتها، عبراتها تجري متلاحقة ووجنتيها نديتان، ربطت شعرها الأشقر بإهمال وتلبس كنزة سوداء مع سروال مماثل، استندت على باب الشرفة برأسها وعيناها تسرحان في الأفق البعيد، لم تتحرك عندما سمعت طرقات خفيفة على الباب، إذ أنها ظنت بعودة صديقتها بعد إنهاء المكالمة مع زوجها.ضغطت ريما على شفتيها بتأثر من حالتها، تلقائيا عادت بها ذاكرتها إلى يوم وفاة والدتها، تشعر بنيران أماليا الداخلية فليكن الله في عونها.اقتربت منها حتى وقفت على بعد مسافة مناسبة، ثم همست تناديها: عظم الله أجركم حضرة الطبيبة.اجفلت أماليا لتلتفت صوبها كمن لدغ، بملامح مدهوشة وعينين متسعتين، قابلتها ريما بسمة باهتة لم تصل عينيها لتضيف: فليرحمه الله ويلهمكم الصبر على فقدانه.ظلت ترمقها باستغراب حتى تداركت نفسها أخيرا، لتهمس بنبرة خافتة متأثرة: شكرا لك مدام ريما.أجبرت نفسها على قول جملتها الأخيرة لئلا يعتبر الأمر وقاحة منها، ولو أنها في هذه اللحظة تشعر بكراهية الدنيا ضد ريما، انتبهت بعد حين إلى بقاء الأخرى واقفة، فأردفت بإحراج مشيرة إلى الكرسي بجانبها: تفضلي اجلسي.فتح الباب في هذه اللحظة لتدلف هدى متمتمة بشيء من الانفعال والتذمر: لا يستطيع إمساك الولدين بضع ساعات فقط، ماذا أقول عن نفسي وأنا معهم على مدار الساعة؟قطعت ثرثرتها الفارغة عندما لاحظت لتوها وجود ريما، شعرت بالحرج فعمدت إلى تبسيط الأمور فتحدثت موجهة كلماتها إلى ريما: ألست زوجة السيد أدهم شقيق خطيب نور؟استدارت أماليا للخلف تذرف دموعها بوجع أضيف إلى وجع فراق أبيها، لتجيب الأخرى بقليل من الارتباك، موزعة نظرها بين هدى والاخرى: نعم أنا هي، أدعى ريما.حركت هدى رأسها بتفهم، وأدركت ريما بأن وجودها سيزيد من ألم أماليا، فاستأذنت لتغادر مع احساسها بشعور الغيرة من قبل الأخيرة، أتظن أنها تعيش حياة مثالية مع أدهم؟حقا! شر البلية ما يضحك!استقلت ريما السيارة بجانب أدهم، وهي تشعر بالنار التي تتآكله لبعده عن حبيبته في هذا الظرف العصيب، كان الأحرى به تواجده بجانبها ليخفيها داخل أضلعه عله يسحب ألمها منها، لكن ماباليد حيلة وكل شيء مقدر ومكتوب.أجلت حلقها لتهمس منادية باسمه، همهم بثقل فتراجعت للحظة عن قول ما تريد، لكنها عادت وشجعت نفسها لتقول بتردد ظاهر: اسمع أدهم، لقد أتى أيمن إلى محلي اليوم.قطب أدهم جبينه ليلقي إليها نظرة سريعة قبل أن يعود لينظر أمامه، حرك رأسه بإيجاب ليحثها على المتابعة فأضافت: ابنته مريضة، وترغب برؤيتي.زوى ما بين حاجبيه بتفكير متسائلا باستنكار: ماذا تقصدين بهذا؟ وكيف وجدك أصلا؟رفعت كتفيها مجيبة بإرهاق: لا أعلم لم يتحدث بالكثير، وإيمان جارته في الحي فوجدني بمساعدتها.بدأت سرعة السيارة تنخفض رويدا حتى اوقفها أدهم إلى جانب الطريق، أطفأ محركها ليلتفت صوب ريما متحدثا: ومالذي يريده منك الآن؟بقيت تنظر إليه لثانية دون إجابة، حتى نطقت أخيرا بارتباك: يريد مني زيارة منزله لأرى ابنته المريضة.حدجها أدهم بتفرس متسائلا: وبم أجبته؟اجفلت عيناها للأسفل لتجيب بخفوت كمن ارتكب حماقة: أخبرته أنني سآخذ رأيك.سكتت لثانية تترقب جوابه ثم أضافت: لقد سألت إيمان وأكدت لي أن ريما الصغيرة مريضة حقا واخبرت والدها بأنها تريد رؤيتي.علم أدهم من توترها الواضح رغبتها في رؤية الطفلة، لكنها على ما يبدو تخشى من ردة فعله هو، لم يكن ليفرض رأيه عليها لكن في الوقت ذاته يخشى من القادم وتداعيات الأمر لو وافق، فتحدث بتفهم: اسمعي ريما، أنا لا أريد أن افرض رأيي عليك، لكن ماذا بالنسبة إلى مجد؟ ماذا لو عرف بذهابك مالذي سيحدث؟أجابت فورا كأنها تنتظر سؤاله: سأذهب مرة واحدة فقط لأجل الطفلة ولن يشعر مجد بأي شيء، أرجوك أدهم وافق.زفر بخفة ليفكر للحظة، ريما مظلومة في هذا الزواج أكثر منه كونها حرمت من الأطفال، فحالها كحال أية امرأة تحب أن تصير أما، لذا ليس من حقه أن يحرمها من ممارسة هذا الحق حتى لو كان لمرة واحدة، ابتسم بخفة محدثا إياها: حسنا ريما، الأمر عائد إليك، افعلي ماشئت وأنا سأدعمك.انفرجت اساريرها عن سعادة واضحة وتنفست براحة، وضعت يدها على كتفه لتهمس برقة: شكرا لك أدهم، حقا.بادلها ابتسامة باهتة ليدير سيارته من جديد عائدين إلى المنزل، نظرت ريما إلى ساعتها لقد تأخر الوقت لمحادثته، لا يهم ستحادثه في الغد، شددت الضغط على حقيبتها كأن فيها كنزا ثمينا تخشى ضياعه، ربما مافي داخلها أكثر من كنز بالنسبة لها، بطاقته وعليها رقمه الخاص، خفق قلبها بقوة ولا تعلم سر تلك السعادة، ألأنها سترى ريما الصغيرة ام والدها؟وقفت ريما بسيارتها أمام المبنى حيث منزل إيمان، لكنها لم تعرف بعد أين منزل أيمن، فهي لم تسأل إيمان حرجا، ترجلت من السيارة وأخرجت البطاقة لتسجل رقم أيمن في هاتفها، ترددت بداية في طلب الرقم وارتجف ابهامها فوق الشاشة، حتى عزمت أمرها وضغطت على كلمة اتصال أخيرا وانتظرت ثوان تسمع الرنين.كان أيمن في منزله يحضر بعض العقود التي يجب أن يوقعها اليوم، امسك قلمه وانشغل في كتابة بند إضافي في أحدها، سمع رنين هاتفه فأجاب الاتصال ووضعه على أذنه دون النظر إلى الرقم، ليأتيه صوت ريما الرقيق من الجانب الآخر: صباح الخير.رفع رأسه بغتة وأصابه الذهول للحظة، رفع الهاتف أمام عينيه ليرى رقما بلا اسم، زاغت عيناه بتشتت لم يكن يعتقد بحضورها بهذه السرعة، مالبث أن استعاد زمام نفسه عندما سمع صوتها تعيد الكرة، أجلى صوته ثم أجاب بجمود فظ: نعم؟ من معي؟اشعرها بالحرج والاستغراب في آن كيف قد ينسى صوتها خلال ساعات؟تنحنحت لتنطق بارتباك طفيف: أنا ريما.حرك رأسه بإيجاب كأنها تراه، وأضافت: أنا هنا في الحي، لكنني لا أعرف أين يقع منزلك بالضبط؟وقف من فوره لينظر من نافذة الصالة فوقعت عيناه عليها، كانت تقف على الرصيف وتضع الهاتف على أذنها، تنظر حولها كمن يبحث عن شيء، جالت بنظراتها على المبنى المقابل لها حتى وقعت عيناها عليه، شعر كلاهما بالارتباك ما إن التقت نظراتهما، لم يطل أيمن التحديق بها فتحدث بجمود: الطابق الرابع، استقلي المصعد.أغلق الهاتف والستارة سويا عقب كلمته تلك، حثت ريما خطاها إلى المبنى جبرا، كأن قدماها لا تطيعانها، وكما أخبرها استقلت المصعد كأنها رجل آلي، وقفت أمام باب منزله تطالع اللافتة البيضاء المستطيلة وقد كتب اسمه عليها بخط اليد وكان عربيا منمقا، مررت أصابعها على حروف الاسم بحذر إنه خط يده هي متأكدة من ذلك، أجفلت بارتعاب عندما فتح الباب فجأة، ازدردت ريقها وهي تطالع محيا أيمن الواجم أمامها، اخفى أمارات القلق منه ثم خاطبها ببرود غليظ كمدير يوبخ موظفا: لقد تأخرت.لم تكد تجيبه حتى دلف للداخل تاركا الباب مفتوحا، ضغطت على شفتها تحاول تجاوز فظاظته اللامتناهية، لم تره وهو يقف خلف الباب لينظر من خلال الثقب في أعلاه منتظرا ظهورها أمام بابه، ولم تشعر بضربات قلبه العنيفة عندما رآها تطالع اسمه المكتوب على اللافتة فعلم أنها قد تعرفت إلى خط يده ليسارع بفتح الباب، تبعت خطواته حتى وصل إلى غرفة ما، توقفت خلفه محافظة على مسافة آمنة بينهما، استدار إليها مشيرا بيده ومتحدثا بأنفة: هذه غرفة ابنتي، وهذه الصالة ومن خلفها المطبخ والحمام.أضاف بحاجب مرفوع مشيرا إلى غرفة ما متطرفة: وهذه غرفة نومي و لا أحب دخول الغرباء إليها.قطبت جبينها باستغراب لتتسائل متجاوزة عن معنى كلمته الأخيرة: ما شأني بهذا كله؟ لقد آتيت لأرى الصغيرة فقط ومن ثم أغادر؟فعلا لماذا أخبرها بهذا كله؟ هل أعتقد أنها ستبقى هنا طويلا؟حقا لا يدري، لكنه أراد أن يوصل لها فكرة وحيدة، عدم دخولها إلى غرفة نومه، ابتسم ساخرا من نفسه ولماذا قد تفعل؟تجاهل سؤالها ليفتح غرفة ابنته، كانت الصغيرة قد استفاقت لكنها ما تزال في سريرها، التفتت بضعف نحو والدها وابتسمت بخفة، بادلها والدها بأخرى مشابهة ليتحرك فظهرت ريما من خلفه، تبدلت تعابير الصغيرة في لحظة لتنتفض من مكانها صارخة بفرح: ريما!تناست ريما توترها من أيمن لتسرع بخطواتها نحو الصغيرة، احتضنتها لتجلس بجانبها وتسألها عن حالها، لم تر أيمن وهو يعبث في جهاز ابنته التابلت، ليفتح برنامج تسجيل الأصوات ويتقصد تركه قريبا ليسمع ما يدور بين الريمتين.تحدث أخيرا بجمود لتنتبه إليه كلتاهما: سأتغيب لساعة واحدة فلدي عمل هام، تصرفا على راحتكما.شيعته ريما بنظرة حزينة، ألهذا الحد بلغ نفوره منها؟ لدرجة عدم تلفظه باسمها ولو لمرة؟ حتى اسم ابنته لم ينطقه أمامها؟تنهدت بحزن قبل أن تنتبه لنداء الصغيرة لها، طالعتها بحزن لترسم ابتسامة باهتة على ثغرها، كم رغبت في معرفة مكان والدة ريما الصغيرة، لقد عرفت من إيمان أن أيمن انتقل إلى حيهم بصحبة ابنته فقط، فأين والدتها؟ هل هما منفصلان؟فور مغادرته منزله حادث شقيقته إيناس ليخبرها بعدم ضرورة حضورها اليوم لوجود من يعتني بابنته، لكنه لم يخبرها بوجود ريما تحديدا حتى أن لم تكن تعرفها سابقا، أغلقت إيناس الهاتف وفي داخلها شعور بعدم الراحة، شقيقها أصبح مزاجيا وكثير التقلب هذه الأيام، زفرت بضيق لو أنه يقبل فكرة الزواج من جديد...جلس في مكتبه برفقة العميل الذي كان يقرأ العقد ليتم توقيعه، عندما دلف مجد فانتفض أيمن واقفا متسائلا باستغراب: مجد؟ مالذي تفعله هنا؟زفر الآخر بضيق قائلا بنبرة ضعيفة: جئت أساعدك علك تحتاج إلى شيء ما.ربت على كتفه متحدثا بتفهم: ليس لدينا أعمال كثيرة مجد، سأتولى أنا أمرها انت يجب أن تبقى بجوار خطيبتك.هز رأسه متفهما وكاد يخرج، قبل أن يستدير مجددا ليخبر أيمن: بالمناسبة، أتذكر عندما دعوتك الى حفل افتتاح محل الملابس الخاص بزوجة أخي أدهم؟أشار له أيمن متذكرا تلك الدعوى؛ ليضيف مجد: لقد تم إلغاؤه للأسف.ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه ليردف: لا بأس مجد، فأنا لم أكن سأحضر بجميع الأحوال بسبب مرض ابنتي.حرك مجد رأسه بتفهم ليخرج عقبها، تاركا أيمن لحيرته، ترى مالذي يحدث الآن بين ريما وابنته؟الآن تأكدت ريما أن داخل كل أنثى غريزة الأمومة، فبالرغم أنها لم تنجب أطفالا من قبل لكن تعاملها مع ريما عكس نقيض ذلك، مع عاطفتها القوية ومشاعرها اكتشفت أن الحنان مخلوق في الأنثى وليس مختلقا.مازالت ريما تلاعبها وتمازحها مذ غادر أيمن، والحق يقال تمنت لو أنه يطيل غيابه حتى لايقطع هذه اللحظات المميزة بينهما، لكن هناك مايقض مضجعها، ترددت كثيرا قبل أن تسأل الصغيرة، حتى قررت فعلها اخيرا، فتحدثت بهدوء: أخبريني ريما، أين والدتك؟تبدلت تعابير الصغيرة إلى الحزن، رمت لعبة ( الباربي) من يدها وزمت فمها كمن يوشك على البكاء، ثم همست بخفوت ولغتها الغير سليمة: مامي رحلت.ظنت ريما أنها مسافرة فتسائلت بحذر وهي تخشى أن تنتكس الصغيرة مجددا: إلى أين رحلت؟تنهدت الطفلة لتضيف مشيرة إلى الأعلى: لقد صعدت إلى السماء. دحديثها أصاب ريما بالذهول للحظة، قبل أن تتدارك الأمر عندما رأت عبرات الصغيرة تهدد بالهطول من عينيها الخضراوين، حاولت الابتسام قليلا لتخبرها بعطف كبير وهي تحاوطها بيديها: عزيزتي، تعلمين أنها في الجنة الآن وتراك أيضا.رفعت خضراوتيها تسألها بنبرة طفولية محببة: هل تراني حقا؟ أستطيع محادثتها؟اتسعت ابتسامة ريما وأشارت لها برأسها لتضيف بتفهم ولطف: اسمعي، عندما تنامين ضعي يدك مكان قلبك وأغمضي عيناك ثم قولي: اشتقت إليك يا أمي، حينها ستأتي إليك وتحدثيها.صفقت ريما الصغيرة بيديها بحماس أسعد ريما، رغم بعض الحزن داخلها ليتمها، كم ترى نفسها فيها عندما فقدت والدتها هي الأخرى، تحدثت الصغيرة بتهذيب مشيرة بيدها إلى طاولة قريبة: هل بإمكانك اعطائي جهازي( التاب) لو سمحت؟ سأريك صور أصدقائي.أشارت لها موافقة وتحركت لتجلب لها جهازها من الطاولة، لكنها تفاجأت عندما وجدت الجهاز مفتوحا على برنامج التسجيل، أصابها شلل لحظي عم أطرافها، ألهذه الدرجة بلغ شكه؟ هذا الإنسان غير طبيعي بالمرة، مجنون بمعنى أصح، هل انعدمت ثقته بها إلى هذه الدرجة؟ ألا يعرف ريما وأخلاقها؟ يخاف على صغيرته منها هي؟تجمعت العبرات في عينيها رغما عنها، تصرفه آلمها لدرجة لا توصف، انتبهت على صوت إغلاق الباب الخارجي ك فتنفست بعمق لتكبح دموعها ثم التفتت نحو ريما الصغيرة قائلة بشبح ابتسامة اجبرتها على الظهور: لقد عاد والدك.فتح باب الغرفة فجأة بلا مقدمات، كانت ريما ماتزال تقف عند الطاولة بعيدا عن مرآه، لكنه ورغما عنه بحث عنها فور دخوله حتى وجدها، أجلى صوته ليحدثها بجمود: هل انتهيتما؟لم تجبه، اتجهت إلى حقيبتها المرمية بجانب ريما الصغيرة، قبلتها على جبينها فتعلقت الأخيرة بيدها قائلة برجاء طفولي: تعالي غدا ريما، سأنتظرك لنلعب سويا مثل اليوم.اهتزت ملامح ريما فلم تحسب حسابا لطلب كهذا، اعتقدت أن الطفلة ستكتفي بحضورها اليوم، لكن ظنها قد خاب، مجددا، أضافت الصغيرة بلغتها الإنكليزية الام بإلحاح مربك وملامح طفولية بريئة، وماتزال تتشبث بذراعها: رجاء ريما وافقي، أرجوك أرجوك؟لم تتمكن من الرفض تحت هذا الإلحاح فأشارت لها ريما موافقة بتردد وبسمة صغيرة، مما أسعد الطفلة كثيرا لتقبلها على وجنتها وهي تتمتم: أحبك ريما.مشاعرها الصادقة أججت مشاعر أيمن، يخشى على ابنته من التعلق بهذه السيدة، وهذا آخر مايريده حقا، خرج ينتظر في الصالة حتى فرغتا من الوداع، توسدت الطفلة فراشها فدثرتها ريما قبل أن تلقي عليها نظرة أخيرة، خرجت تقدم رجلا وتؤخر الثانية، لا تريد رؤية تعابيره الحاقدة أبدا، وجدته في الصالة يوليها ظهره كم ودت لو أنها تغادر دون سماع حديثه، اتجهت صوب الباب لكنها لم تكد تخطو حتى التفت نحوها قائلا كأنه يلقي أمره عليها: ستأتين غدا بنفس توقيت اليوم.جزت على أسنانها بغيظ من طريقته فالتفتت إليه بجسدها وكتفت ذراعيها أمام صدرها لتقول بحزم: أولا لي اسم لتناديني به وأنت تعرفه جيدا.ابتسم بسخرية وقبل أن ينطق اردفت دون تبدل ملامحها: ثانيا أنا لا اعمل لديك لتحادثني بهذه الطريقة المتعالية.لا يعلم لما داخله يقيم حفلا لتعابيرها الغاضبة، لكنه حافظ على ابتسامة صفراء مردفا بتهكم: اها، هل انتهيت؟تعلم أنه يريد إغضابها، لكن من الواضح أنه لا يعرفها جيدا، فهي صبورة، صبورة للغاية، تعابيرها الغاضبة بقيت كما هي ثم أضافت بنبرة ذات مغزى: كيف تطلب مني القدوم غدا إن كنت لا تثق بوجودي مع ابنتك لوحدنا؟لوهلة لم يسعفه عقله في تفسير كلماتها، حتى سألته مباشرة بامتعاض واضح: تضع لنا جهاز تسجيل أيمن؟ حقا؟ إنها حيلة قديمة بالمناسبة؟فطن الآن لاكتشافها أمر الجهاز، رغم هذا تحدث ببساطة، مشددا على كل حرف قاصدا أن يوجعها: أمر طبيعي أن احمي ابنتي، خاصة عندما تكون هناك افعى ملونة تحتضنها.رمشت عيناها بصدمة فعلية من حديثه فتحدثت بغيظ يجاهد ليطفو على السطح: أنت من طلب قدومي.ليردف بلا مبالاة: لولا الحاح ابنتي لما فعلت..نبرته جافة جعلتها تشعر كأنها فقيرة تطلب إحسانه؛ أو مذنبة تطلب غفرانه، حاولت لملمة مابقي من كرامتها فرفعت ذقنها بإباء لتقول بجمود: قد لا أتمكن من القدوم غدا.سارع يسألها بسخرية قبل أن تتحرك: لماذا؟ ألا يستطيع زوجك الاستغناء عنك لساعة واحدة غدا؟ أم أن أطفالك يغارون؟بقيت تنظر له لثوان بجمود حتى ابتسمت بمرار على كلماته لتجيب بغصة واضحة: اطمئن، فلا أطفال لدي.أولته ظهرها وتحركت ناحية الباب، لكنها توقفت عندما سمعت صوت ضحكاته الساخرة خلفها، قطبت جبينها بعدم فهم إلا أنها لم تلتفت ناحيته بعد، هدأت قهقهته المستهزئة لتسمعه يتحدث: لماذا ياترى؟ ألم ترغبي بإنجاب الأطفال؟أو ربما خشي زوجك المصون أن تخونيه مثلا وتخطفي أطفاله؟.تظاهر بالتفكير لثانية قبل أن يضيف بنبرة شامتة هازئة لم تخطأها أذناها: اها لقد عرفت، لربما خاف من أن تنجبي له أطفالا تمشي في أوردتهم دماؤك القذرة الفاسدة، صحيح؟لا يعلم كم آلمها حديثه، سقطت كسياط محموم لينهش من روحها المعذبة الملتاعة، أي نوع من البشر هو؟ ألا يعلم أن كلماته تلك ستقتل أي امرأة مهما كانت قوية؟ لا يحق له قول مثل هذا الحديث مهما كان ذنب المرأة التي أمامه، لا يحق له أبدا.سقطت دمعة من عينيها الغزلانية دون أن يهتز جسدها فيما هو يراقب حركاتها، تنفست بعمق لتثبط انفعالاتها، لم تجبه فالتجاهل واللا مبالاة أبلغ جواب لأمثاله، تحركت بخطى ثابتة لتتركه خلفها يميز غيظا، يشعر بنيران حقده تنهش داخله، لو أنها صرخت أو بكت أمامه لأراحت روحه الغاضبة، لكن قوتها المزعومة تحرقه حيا، وتقتله ببطء.أسقط جسده على الأريكة خلفه، دافنا رأسه بين راحتيه، للحظة شعر ببعض الندم، سرعان ماقتله قبل أن يستبد به ويهلكه، لقد تقصد قول تلك الكلمات عله يوجعها كما أوجعت روحه سابقا، مازال يذكر كيف تركته، كان ولدا غرا، انتهت المدارس بعد تقديم الامتحانات النهائية لكنها وعدته باللقاء في العام التالي، وأنها ستتحين كل فرصة سانحة لتراه، قدم لها تلك الكرة الزجاجية كاتفاق بينهما، سيستردها منها بداية العام القادم، وستظل هذه الكرة تنتقل بينهما حتى تعيدها إليه عندما يجمعهما سقف واحد. مرت أشهر الصيف بلا خبر عنها، حتى بدأ العام المدرسي دون ظهورها، سأل إحدى صديقاتها عنها ليكتشف أنها تزوجت ابن عمتها الغني وسافرت إلى المملكة المتحدة لتتابع دراستها هناك.يومها انقلب حال أيمن، اعتقد أنها تزوجت قريبها لثرائه وغناه، أما هو فابن رجل بسيط يعتاش على راتب حكومي ضئيل يكفي حاجاتهم الأساسية بشق الأنفس، انكب على دراسته يلتهم الكتب عله ينساها، حتى نجح بتقدير امتياز، وبعد نجاحه في الثانوية بمجموع عال سنحت له الفرصة السفر إلى أمريكا بموجب منحة مقدمة من إحدى الجامعات هناك، لم يتردد أبدا في قبولها رغم اعتراض والديه وشقيقته، سافر هناك ليلتقي بنتالي والدة ابنته في مقهى صغير كان يعمل فيه، رأى فيها ريما فأوهمها بحبه حتى تعلقت به، منحته كل حبها واهتمامها ودعمها في دراسته، حتى اهدته جوهرته الثمينة الغالية، لكن بالمقابل كل مااستطاع أن يمنحه لها هو مجرد مشاعر مزيفة، ولحظات كاذبة يبثها فيها شوقه وحنينه، إلا أنه حقيقة، كان يتخيلها ريما في كل أوضاعها، كانت ريما بالنسبة إليه مرض عضال لا شفاء منه.شعر بضجيج قاتل داخل رأسه، لينتبه لتوه إلى فوات موعد دواء ابنته، انتفض من مكانه ليذهب إلى المطبخ أولا ليعد لها طعام الغداء ثم دلف إليها، اقترب منها ليجدها نائمة فهتف يناديها برفق دون إجابة منها، قطب جبينه بشك عندما لاحظ تورد وجنتيها، ثم اقترب ليضع يده على رأسها ويكتشف حرارتها العالية.قبيل توجهه إلى سرادق العزاء، أخرج المحامي قاسم أوراق وصية عمار، تنهد بحزن على فراق رفيق العمر، وطالع الوصية بشتات يجب أن يفتحها في الغد، كما أوصاه رفيقه عمار أن تفتح في آخر أيام عزائه، ترى هل ستتقبل بناته وزوجته الأمر؟لم يكن قاسم مطمئن أبدا، لكن لا يسعه فعل شيء، وصية الميت واجبة التنفيذ، فليكن الله في عون بناته على القادم، حقا!
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن عشرأحمق من يعتقد أن مواجهة الماضي أمر سهل، إن أردت الحق هو أصعب ماقد تفعله في حياتك، الأمر أشبه بثور جامح لا يراك سوى لعبة يجب ضربها، والطريقة الوحيدة لتفاديه هي الزحف من أمامه ثم الهرب.عادت إلى منزلها فورا فمحلها مغلق على جميع الأحوال، تحمد الله في سرها لعدم رؤيتها إيمان في الحي وإلا لكانت هلكت من الحرج.دلفت إلى غرفتها لتجد أدهم يجلس على الأريكة محتضنا رأسه بين يديه، رفعه عندما دخلت ريما لتسأله الأخيرة: ما بك أدهم؟ابتسم بخفة قائلا بصوت مرهق: لا شيء، لم استطع الذهاب إلى المصنع فبقيت انتظرك.لم لا تشعر بالارتياح نحوه؟ وميض عينيه يبعث على الشك، لكنها ابتسمت بلطافة وأماءت له برأسها، تفرس في وجهها ليلاحظ آثار بكائها فانتفض واقفا يسألها مباشرة: هل حدث أمر ما بينك وبين أيمن؟ارتعد جسدها بم قد تجيبه؟ لا يمكنها إخباره بحديث ذاك الاخرق فيكفيه ماهو فيه، تحركت لتجلس على سريرها متحاشية النظر إليه، مجيبة بصوت متعب يخفي توترها: لا عزيزي لا تشغل بالك، فقد تأثرت من لقاء الصغيرة.رغم أنه لم يقتنع بما قالت، لكن لم يكن في يده سوى تصديقها، فالكذب ليس من شيمها أبدا. أشار بتفهم ثم خرج دون حديث، تنفست ريما بعمق وضغطت على جانبي أنفها تضغط على عينيها بقوة، لن تذهب مرة أخرى إلى منزله مهما كلفها الأمر، فحقد أيمن قد طغا على تعقله، تخشى من ردة فعل أخرى قد تكون. أسوء من اليوم، لن تراه مجددا قررت وأغلقت الصفحة.وقف أدهم مع مجد وقاسم في مدخل الصيوان المقام في مدخل قصر عمار، لاستقبال الرجال الذين قدموا لتقديم واجب العزاء في الأخير، شعر بالضيق الشديد من تواجده في هذه الأجواء الحزينة المربكة، والتي أعادت إليه ذكرى وفاة والده، زفر من أنفه باختناق وانسحب مبتعدا قليلا، سار بشرود داخلا إلى حديقة القصر الغناء، كانت واسعة وكبيرة وتسر الناظر، خاصة وأن الشمس قد مالت للمغيب فوهبتها منظرا أخاذا، إلا أن أدهم لم يؤخذ بجمالها ن.لم يتعمق طويلا في الحديقة عندما سمع جلبة خفيفة مصدرها القصر، ليلاحظ وجود باب متطرف، في بدايته ممر يمتد من هذا الباب عبر الحديقة إلى باب صغير في السور الخارجي، يبدو أن النساء تستخدمه للدخول الى القصر ليحول هذا دون مرورهن أمام الرجال، كاد أن يتراجع عائدا إلى مكانه، قبل أن يلمح آماليا تخرج من القصر.خفق قلبه بعنف وهفت روحه شوقا إليها حينما رآها، ببشرتها الشاحبة والتي تناقض ملابسها السوداء، كتفت يداها أمام صدرها لتقف أمام حوض من الأزهار البنفسجية، تاركة عبراتها تبلل وجنتيها بانسياب دون تكليف نفسها عناء مسحها، تشعر بكسر عظيم في روحها، رحل والدها ولم تجد من يضمد جرحها ويجبر كسرها بجانبها، مهما كان الإنسان بالغا سيشعر بالكسر برحيل أبيه، شعور اليتم مريع لدرجة مرعبة!لم يكن ينتوي الذهاب إليها وقطع خلوتها يقسم بهذا، إنهما قدماه من تمردتا على أوامر عقله وقادتاه إلى حبيبة الروح، وقف خلفها يطالعها بحزن دون أن ينبس بحرف، شعرت بأحدهم خلفها فتنفست بعمق، اقتحمت رائحة عطره أنفها لتبتسم بسخرية متحدثة بشرود: إحساس الفقدان مؤلم، كفارس وقع عن جواده و كسر ظهره، ولم يجد من يداويه.شعر بألمها ووجعها، فقد عاش حالة مماثلة منذ زمن، لكن خسارته هو كانت أعظم بكثير مما تتخيله هي.تحدث بعد قليل بنبرة خافتة: البقاء لله آماليا، رحمه الله وألهمكم الصبر من بعده.التفتت صوبه بوجه خال من المشاعر، ازدرد ريقه متوقعا صراخها في وجهه، وربما أضعف الإيمان أن ترحل دون تعقيب، لكنها خيبت ظنه عندما سألته بضعف: لن تأتي زوجتك اليوم، صحيح؟قطب جبينه بشك لسؤالها فأشار لها نافيا بحذر، التمعت عيناها بالدموع لتهمس بتأثر: هل يمكنني الاقتراب منك؟ قليلا فقط؟اتسعت عيناه من طلبها العجيب، لكنه لم يمهل نفسه التفكير ليفتح ذراعيه لها، اقتربت منه بهدوء حتى باتت أمامه، ثم استندت برأسها على صدره ولم تزل يداها أمام صدرها، أغمضت عينيها برفق لتحرر أدمعها وفي داخلها حرب ضروس، ماذا تفعلين بالضبط آماليا؟ هل جننت؟ إنه رجل متزوج؟صدح صوت ليخرس صوت عقلها قائلا بتبرير أريد استعادة شعور الأمان، فقط!اسبل يداه بجانب جسده متجمدا مكانه، شلته الصدمة عن أي ردة فعل حتى معانقتها، فرصة كهذه لن تتجدد أبدا، لكنه أيضا لا يريد استغلال الموقف وحزنها فتظن به السوء، تسارع خفقان ساكن صدره بسرعة جنونية، ليتها تشعر بخفقاته المتسارعة، التي تنادي باسمها وحدها، أسدل اجفانه متلذذا بهذه اللحظة التاريخية.لم يلاحظ أيا منهما هدى التي خرجت لتبحث عن رفيقتها، لتجدها بين أحضان شقيق خطيب اختها المتزوج، شهقت هدى بصوت مكتوم وهي تطالع هذا المنظر الصادم، لاحظت أن أدهم لم يحتضنها فظنت أن آماليا فاجأته، تمتمت من بين صدمتها: الحمقاء؟ إنه رجل متزوج أيتها الغبية!لم ترغب باحراجها فانسحبت عائدة إلى مكانها، لكنها لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة كاملة منها.انتبهت لنفسها بعد حين لتعود و تستقيم من مكانها، ضاغطة على فكيها بحرج من ضعفها أمامه، لم ترفع عيناها إليه و تحركت عائدة إلى القصر دون أن تنبس بحرف، تحاول إقناع خافقها المجنون أنها فقط موجوعة، متألمة وكانت بحاجة إلى عناق صغير كهذا، تدخل عقلها في الحوار سائلا بسخرية، حقا!بقي واقفا للحظة لا يفهم تقلبها السريع، لكن السعادة التي تولدت داخله طغت على كل شيء، لأول مرة لا تنفره ولا تنظر إليه بازدراء، بل وتطلب عناقه؟!خلل شعره بيده ولا ينكر ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيه، موقفها هذا بعث في داخله الأمل من جديد، عاد أخيرا إلى مكانه بوجه مشرق وروح حية، وقلب ينبض بأمل اللقاء.استفاقت كعادتها هذا الصباح، لم يكن بها جلد للذهاب إلى المحل، ولا حتى للذهاب الى منزل عائلة نور، مازالت لم تتعافى من حديثه أمس.كان أدهم قد غادر إلى عمله حاله كحال مجد، على يعودا قبل الظهيرة ليتجها إلى قصر عمار فاليوم آخر أيام العزاء، جلست في الحديقة الخارجية وحيدة، تفكر في حديث أيمن يوم أمس، كلماته الجارحة أشعرتها بإهانة غير مسبوقة، ربما تلتمس له العذر بأن يكرهها، لكن لا عذر له أبدا في جرحها بهذه الطريقة الفظة، إنها إنسان في النهاية، بشر من لحم ودم وأحاسيس، إلا أنها مغلوبة على أمرها دائما.فات موعد ذهابها إلى منزل أيمن منذ ساعة وربما أكثر، وقعت بين نارين، إما كرامتها أو الوفاء بوعدها، رغم اشتياقها للصغيرة لكن عنفوانها لن يقبل بالسماح لأيمن بإهانتها كلما سنحت له الفرصة.رنين متواصل من هاتفها ارغمها على الانتباه إليه، ظنت أن المتصل اما أدهم أو إيمان، لكنها تفاجأت برقم غير مسجل لديها، مرت ثوان حتى تذكرته، إنه رقم هاتف أيمن لكنها لم تحفظه في الهاتف، ترددت بداية في قبول الاتصال لكنها عزمت تجاهله، انقطع الرنين لتزفر براحة، مالبث وان عاد من جديد متواصلا بإلحاح، غريزة الأمومة داخلها تنبأت بمكروه حصل للطفلة الصغيرة، جذبت الهاتف عن الطاولة، لتجيب بهدوء يناقض الإعصار داخلها: نعم؟لم تسمع سوى صوت تنفسه في البداية، صاحت بنفس الكلمة مجددا ودون رد، كادت تغلق الهاتف قبل أن يصدح صوته أخيرا: ألن تحضري اليوم؟متعجرف! تردد صدى هذه الكلمة بين جنبات ذهنها، ردت بكبرياء ساخر. : لماذا؟ ألم يزل لديك حديث جارح لم تخبرني به؟ساد الصمت من جديد فابتسمت بسخرية، بالطبع لن يجد مايجيبها به، حركت رأسها للجانبين بخيبة، ليأتيها صوته ويخبرها ما أسقط قلبها بين قدميها حرفيا: لقد انتكست ابنتي مجددا، ارتفعت حرارتها بالأمس عقب رحيلك، ظلت تهذي وتنادي باسمك حتى الفجر..بقيت للحظات ساكتة دون إجابة، ظنت الأمر لعبة منه، لكن صوته لم يكن ممازحا البتة، بل شعرت بحزنه على الصغيرة، تلاحقت أنفاسها بقلق لتهتف قائلة فيما هي تتجه إلى المنزل مباشرة لتبدل ثيابها. : أنا في طريقي.لم تكن ستأتي، هكذا أقسمت في الأمس، لكنها لم تبر بقسمها إلى النهاية.وقفت أمام منزله بتردد، وقبل أن تقرع الجرس فتح الباب بغتة، عادت للخلف خطوة واحدة بخوف طبيعي، تحول إلى دهشة عندما عاينت السيدة التي تقف أمامها، لم تكن إيناس بأقل دهشة منها فهذا الوجه ليس غريبا عليها، رأته من قبل لكنها لم تتذكر أين.انتبهت لوقوف تلك السيدة الغريبة أمام باب أخيها فسألتها بتهذيب: تفضلي؟تمالكت ريما نفسها وقد خمنت هويتها لشبهها الكبير بأيمن، أجابتها ببسمة لطيفة: مرحبا، هل أستطيع رؤية السيد أيمن؟ضيقت إيناس عينيها وقبل أن تسيء الظن اردفت ريما: أنا صديقة له.ابتسمت الأخرى بمجاملة لتتنحى إلى الجانب فسمحت للاخرى بالمرور، دلفت ريما لتجد أيمن خارجا من غرفة ابنته الصغيرة، ارتبك هو الآخر للحظة فلم يخطط للقاء شقيقته وريما، لكن انقذته إيناس عندما أغلقت الباب خلفها، وقفت للحظة تفكر منذ متى وأيمن لديه صديقات؟ربما الأمر طبيعي فشقيقها بالغ راشد ليس طفلا، لكنها في الوقت ذاته لاتستطيع إنكار هذا الوجه المألوف لها، نفضت رأسها للجانبين، لتسرع بالدخول إلى المصعد مغادرة إلى منزلها.وقف يطالعها بنظرات قرأت فيها أمرا غريبا، إنها نظرات معاتبة!ارتبكت في وقفتها أمامه فأمسكت حزام حقيبتها تشد عليه بكلتا يديها، ونكست رأسها للأسفل محافظة على ملامح جامدة لا يعرف ما خلفها، وضع كلتا يديه في جيبي سرواله متحدثا بنبرة هادئة: لم تتأخري.رفعت نظرها له لجزء من الثانية لتجيب بخفوت: لقد قلقت على ريما، لذا حضرت بسرعة.أمال رأسه للجانب قائلا بنبرة ذات مغزى: لو أنك تهتمين لأمرها لحضرت في موعدك كما وعدتها أمس، صحيح؟رفعت رأسها نحوه لتضيق عينيها بغرابة، هل يعاتبها الآن أم يلومها؟اردفت بجبين عال وذقن مرفوع بكبرياء: حديثك أمس كان قاسيا بما فيه الكفاية علي، لأقرر عدم الحضور.ازدرد ريقه بمشاعر مختلطة، كان الحرج أكثرها وجودا، لينطق بلوم: كان بإمكانك عدم التحدث معي، لكن ماذنب ريما؟ لقد تعلقت بك لدرجة غير معقولة!أخيرا! نطق اسمها أخيرا حتى إن لم يكن لها، المهم أنه تلفظ باسمها، تنفست بارتياح طفيف لتشير له بتفهم بلا حديث، تشعر بالذنب تجاه الصغيرة فهي لم تف بوعدها لها، زفر بضيق ليخبرها بنبرة متعبة: إنها بانتظارك.دلف إلى المطبخ لتتحرك هي إلى غرفة ريما، دخلت بحذر لتجد الصغيرة تتهيأ للنوم، لكنها انتفضت بسعادة عندما رأت ريما، لتسرع الأخرى نحوها فتحتضنها، تلمست جبينها لتجد حرارتها طبيعية، هل كان يكذب بشأن مرضها؟لكنها لاحظت وجهها المتعب لتقتنع بحديثه، لماذا قد يكذب ريما؟ لا توهمي نفسك بأنك ذات أهمية لديه، ليختلق هكذا كذبة ليراك.إياك...انفضت جموع المعزين أخيرا ولم يتبق سوى القليل من الرجال داخل السرادق، فالطقس هذا المساء ينذر بأمطار قادمة.وقفت نور في الحديقة ترافقها آماليا لتوديع السيدة هالة صديقة عليا، عندما لمحها أدهم، همس في أذن شقيقه بأن يذهب للاطمئنان على خطيبته، إلا أنه في الحقيقة اتخذ هذا عذرا ليراها، بعد احتضانها له أمس.أغلقت آماليا الباب خلف هالة لتفاجئ بحضور كلا من مجد وأدهم، أربكتها نظرات الأخير المصوبة عليها، أجفلت عيناها بعيدا عن مقلتيه الموترة، لكنها لم تستطع الرحيل وإلا اعتبر الأمر قلة لباقة منها، لأجل مجد ونور على الأقل، فأجلت حلقها واقفة خلف نور كأنها تحتمي بها.وصل كلاهما ليعزياها لترد بكلمات مقتضبة، دفع مجد خطيبته برفق ليبتعدا قليلا متحدثا بخفوت: نور، هل أستطيع محادثتك قليلا؟ازداد ارتباكها عندما وافقت أختها وتحركت مع مجد لتتركها وحيدة معه، كأنهم متفقون، لكن الأمر أسعد أدهم، فهاهو الآن يقف وحيدا معها ليقرأ توترها، فأردف بصوت رخيم: كيف حالك؟حركت رأسها إيجابا دون حديث، وهي تنظر في كافة الاتجاهات عداه، لم يتمكن من كتم ابتسامته المتسلية وكم راقه خجلها، نظر إلى يديها ليجدها تعبث بأصبعيها السبابة والوسطى، تنهد بحنين تماما كما الأيام الخوالي، تشعر بحبات العرق الغزيرة التي غزت فروة رأسها، كأن حرارة الطقس تبدلت فجأة لتشعر كأنها في منتصف آب، كم تمنت لو تجد صوتها الذي خانها وهرب لتهرب هي الأخرى، فتح فمه يريد الحديث قبل أن يقاطعه صوت قاسم من بعيد ينادي باسم الفتاتين، التفت الأربعة نحوه حيث كان يتقدم نحوهم بثقل، وقف بالقرب من نور ومجد، حاملا في يده مغلفا أزرق، ليقول بصوت أجش: أريد أن أتحدث معكما في أمر هام.تبادلت نور وآماليا نظرات مستغربة، رغم سعادة الأخيرة لخلاصها من وقفتها مع أدهم، إلا أن نبرة قاسم لم توحي لها بالخير مطلقا.تحرج أدهم ليطلب الأذن بالرحيل ليرافقه مجد، فتحدث قاسم إلى كلتاهما: هناك أمر مهم يجب أن تعرفاه.التفت نحو آماليا ليضيف: عزيزتي، أخبري والدتك بأنها يجب أن تسمع حديثي أيضا.أشارت له موافقة دون تأخير، لتتحرك من أمامه فورا، تبعها قاسم ونور ليجلسا في مكتب عمار، بعد ثوان انضمت لهما آماليا واخبرت قاسم بأن عليا تقف عند الباب الآخر تستمع إلى حديثه، تحدث قاسم بتنهيدة ثقيلة: اسمعاني أيتها الفتاتين، يجب أن تسمعا وصية والدكما.تبادلت نور مع شقيقتها نظرات مستنكرة، ثم تحدثت إلى قاسم بنبرة مستهجنة: عمي قاسم، أترى هذا الوقت المناسب لهكذا حديث؟كان قد حضر جوابا لسؤالها لذا فقد أجاب فورا: إنها وصية أبيك نور، وهو من طلب هذا.شعور بعدم الراحة سيطر على ثلاثتهن، خاصة آماليا التي شعرت، وهي تنظر بضياع إلى الملف الذي فتحه قاسم، بأن مافي هذه الأوراق مصيبة، بل إنها كارثة بكل المقاييس.رمقهما قاسم بنظرة حذرة قبل أن يتحدث بهدوء: سأتجاوز الصيغة القانونية المكتوبة في البداية لادخل في صلب الموضوع.أجلى حلقه مخرجا نظارته الطبية يضعها على أنفه، ليخبرهما بما عطل عقولهن عن التفكير للحظة، وجلب المصيبة الكارثية على رأس ساكني القصر الهادئ.خرجت ريما من غرفة ابنة أيمن بعدما نامت الصغيرة، تأكدت من حرارتها وتناولها طعامها ودوائها، أغلقت الباب بحذر لتستند برأسها عليه، زافرة باختناق كلما تذكرت كيف وعدت ريما الصغيرة بالحضور غدا أيضأ.استقامت في وقفتها بتعب، استدارت لتضع حقيبتها على كتفها قبل أن تشهق بارتعاب، كان أيمن يقف خلفها بوجه جامد يخفي خلفه قلقه عليها، عندما وجدها واقفة هكذا أمام غرفة ابنته، أغمضت عينيها لتزفر براحة، وضعت يدها على صدرها لتهدئ خافقها المجنون، ازدردت ريقها وهي تسمع سؤاله: هل انتي بخير؟أشارت له بالإيجاب دون أن تنبس بحرف، لتتمتم بعد حين ناظرة إليه بتردد: لقد طلبت ريما أن آتيها في الغد أيضا.أشار لها موافقا بلا حديث، مما زاد من حنقها، مازال يحاذر عدم نطق اسمها، تحركت تريد الخروج قبل أن يوقفها سؤاله بنبرة مترددة: هل ستأتين؟ضغطت على شفتيها بغيظ قبل أن تلتف صوبه، كتفت يديها أمام صدرها لتقول بنبرة محتقنة لا تخلو من السخرية: ألا تعرف اسمي ايمن؟ أم أنه صعب عليك نطقه؟ناظرها بملامح حملت الكثير من الأسى، ليقول بصوت ثابت ناظرا لعمق عيناها العسلية: فعلا، أنت لا تعلمين مدى صعوبة نطق اسمك من جديد.نبرته آلمتها، إنه يتألم وإن لم يخبرها أو يظهر ذلك، اسبلت ذراعيها بجانبها لتردف بنبرة هادئة: أنا لم اختر أن نتقابل من جديد أيمن، حقا، لكن يبدو أن للأقدار رأي آخر.لم تهتز ملامحه ليجيبها بصوت اجوف لا حياة فيه: ولا أنا، لم أسع خلفك ولا حتى من قبيل الصدفة، لم ارغب بأي شيء قد يجمعني بك حتى إن كان من خلف زجاج، لكنها ابنتي.كانت إشارة واضحة منه بأنه لم يبحث عنها أبدا، إذا فهو لم يعرف بعد من زوجها، ولا تعلم أتشعر بالارتياح أم القلق من حديثه، أخبرته بتعب بدى واضحا على محياها: هناك أمور لا تعرفها أنت أيمن، حصلت أشياء كثيرة لا يمكنني البوح بها.أجابها فورا كمن ينتظر كلماتها: وأنا لم أطلب منك أي تفسير، لأنني لم أعد اهتم بشيء عدا مصلحة ابنتي، وابنتي الآن بحاجة إليك، لذا فأنا مضطر للتعامل معك.ربما كان يجب أن ترحل منذ البداية، فكلماته آلمتها بشكل مريع، سيطرت على انفعالاتها لتجيب بإباء: وأنا هنا من أجل الصغيرة، فقط.كان كلاهما يعتقد أنه يهين الآخر، بينما في الحقيقة كلا منهما يهين ويؤلم نفسه، لم تعد ريما تحتمل نظراته القاسية لترحل أخيرا بخيبتها ووجعها، تاركة أيمن خلفها يطالع خيالها الخائن بمزيج من المشاعر، والتي لا يستطيع لها تفسيرا.أنهى قاسم سرد الوصية على مسامع عليا المتوارية خلف الباب، وابنتيها الحاضرتين معه في الغرفة، بدى لهن ما يقوله ضرب من الجنون أو الخيال، أيهما أقرب!انتفضت نور من مكانها صارخة بغضب: ما الذي يعنيه حديثك هذا؟أجابها قاسم برزانة تلائم سنواته الخمسين: كما سمعت نور، لن تحصلي على حق إدارة الشركة وباقي الأملاك حتى تتزوج آماليا، في مدة أقصاها عام واحد.امالت رأسها للجانب لتردف بحذر: وإلا؟طالع وجهها الثائر و أنفاسها الملتهبة، ثم حرك رأسه ناحية آماليا الواجمة بلا حديث، ليتابع بنبرة خشنة ملزمة: وإلا سيتم بيع الشركة وباقي الأملاك في مزاد علني.رفعت آماليا رأسها نحوه كطلقة رصاص، لتسمعه يضيف: بما فيها هذا القصر.!
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشرأشعر أن الماضي دائما مايأتيني مرتديا قناع قط لطيف تائه، وحينما أداعبه وأمسك يده بصفاء سريرتي ينقلب فجأة إلى ذئب شرير، يركض بي محاولا إلقائي في بئر الذكريات، حيث إن سقطت فلا عودة.لم تزل نور كالمهرة الثائرة تصول وتجول ذهابا وإيابا في مكتب والدها مذ غادر قاسم، حديثه مصيبة بكل المعايير، فيما آماليا جالسة على شرودها، واجمة في نقطة في الأرضية الكريستالية، وعليا بجانبها تجلس بكتفين متهدلين، ضجيج رأسها لا يهدأ من كثرة التفكير في فعلة عمار وأسبابها.وقفت نور فجأة أمام والدتها تهتف بصوت محتقن: ما الذي سنفعله الآن أمي؟ كيف سنحل هذه المشكلة؟رفعت عليا رأسها صوب آبنتها، لتحدثها بصوت رخيم ماتزال بحة الحزن واضحة فيه: اهدأي الآن نور، لن نستطيع التفكير في أي حل نافع وأنت في هذه الحال.صاحت بحدة متناسية الظرف المحيط: كيف لي أن اهدأ امي؟ أخبريني كيف ونحن على وشك أن نصبح معدومين ومسلوبين من كل املاكنا؟ ونحن على حافة الإفلاس كيف؟حاولت عليا امتصاص حالة الغضب المسيطرة على ابنتها قائلة برزانة: أخبرتك نور، لن نصل إلى حل وانت هكذا.عادت نور إلى حالتها الأولى بين ذهاب وإياب، تضرب كلتا كفيها ببعضهما بغضب حتى وقفت فجأة لتقول كمن تذكر شيئا: سأطعن بصحة الوصية.قطبت عليا جبينها لتجيبها باستهجان: أجننت؟ ستطعنين بصحة والدك العقلية؟صاحت كمن فقد عقله: لماذا هو لم يفكر في تبعات وصيته قبل أن يموت؟وقفت عليا قبالتها لتنهرها بصوت جاد رغم تعبها وحزنها: لن أرد على حديثك لأنك غاضبة الآن، لكن إن كنت قد نسيتي فعمك قاسم قال إن الوصية مثبتة في المحكمة، لذا لن تستفيدي من الطعن شيئا سوى غضبي عليك.ضغطت نور على فكيها بقوة تكاد تجعل أسنانها تصرخ توسلا بالرحمة، حتى تابعت عليا حديثها بنبرة عطوف وهي تمسح على يدها: اذهبي الآن وارتاحي حبيبتي، في الغد لنا كلام آخر.تأكدت نور أنها لن تجني شيئا من بقائها سوى المزيد من المجادلات والمهاترات التي لن تفضي إلى نتيجة، زفرت بضيق وهي تشد على شعرها الحر، تحركت خارجة تدب الأرض بعصبية، تنهدت عليا بحزن لتجلس مكانها بجانب آماليا التي لم تنطق بحرف حتى الآن، طالعتها بآسى وهي تشعر بما يعتمل داخلها من تخبط، همست آماليا بصوت خفيض وماتزال تنظر إلى الأرض: لماذا أمي؟ لم فعل أبي هذا بي؟زفرت عليا بحيرة ولا تعرف بم تجيبها، مسحت على ظهرها بحنو قائلة بحنان: لا أدري آماليا، حقا لا أعرف بم كان يفكر والدك عندما فعلها.تنفست بعمق لتضيف بصوت مختنق: لكنني على يقين أن مافعله فيه مصلحة الجميع.سقطت دمعة من عينيها لم تقاومها لفراق سندها وما ستتحمله في غيابه، فأغمضت آماليا عينيها لتجهش بالبكاء هي الأخرى، قربتها عليا منها لتدفنها في أحضانها، أسندت رأسها على رأس آماليا لتذرف عبراتها هي الأخرى بصمت، وهي على يقين تام أن الأيام القادمة ستحمل لها ولابنتيها الكثير من المفاجآت.لم تجلس العائلة إلى مائدة الإفطار كالعادة، مذ رحل رب هذا البيت وقد تشتت أهله وانقلب حالهم، قلبت عليا طعامها بملل في طبقها، تطلعت إلى مكان ابنتيها الفارغ، فكلتاهما رفضت تناول الطعام، رفعت رأسها إلى نور التي كانت تهبط الدرج بخطوات سريعة، قطبت عليا جبينها باستغراب لمنظر ابنتها الذي لا يوحي بذهابها إلى الجامعة، فهتفت تناديها لتقف نور كمن تفاجأ بوجودها، فقالت بنبرة عادية: صباح الخير أمي.تحركت عليا حتى وقفت أمام ابنتها تسألها بجدية: إلى أين أنت ذاهبة في هذا الوقت المبكر؟تنهدت نور بقليل من الضيق مجيبة: سأخرج لأتناول الفطور مع مجد أمي، لقد حادثته منذ قليل وهو الآن بانتظاري.رفعت عليا حاجبيها لتردف بنبرة حملت معها اللوم: ولماذا لم تخبريني؟تململت نور في وقفتها متحدثة: ها أنا أخبرك الآن أمي، فهل أستطيع الذهاب؟طالعتها أمها بتفاجأ، هذه ليست نور، منذ أربعة أيام لم تكن هكذا، حسنا لا يجب أن تضغط عليها، ربما رحيل والدها ووصيته التي لم تكن في الحسبان قد أثرت عليها، لا بأس إنها ابنتها وتربيتها في النهاية.تنفست بعمق مجيبة بعطف ممزوج بجدية: لا بأس نور اذهبي، لكن في المرة القادمة ابلغيني لو سمحت.أشارت لها موافقة بلا مبالاة وتحركت من فورها خارجة إلى لقاء مجد، تاركة عليا خلفها تغمض عينيها طالبة الصبر و الجلد من الله على القادم من الأيام، رفعت رأسها إلى الأعلى قبل أن تحث خطاها، لتصعد إلى غرفة آماليا.لم تغمض جفنيها طوال الليل، وهي تدور في حلقة مفرغة، وتسأل نفسها ذات السؤال، لماذا، لم يكن والدها يوما ظالما ولم يفرق بينها وبين نور، فلماذا يفعلها الآن؟لم يضغط عليها للزواج في حياته فلماذا يضعها الآن في هذا الموقف؟ يخيرها بين بيع ممتلكاتهم والافلاس أو الزواج؟نفخت بضيق وهي تدفن رأسها بين كفيها، رأسها يكاد ينفجر وقد يقودها تفكيرها إلى الجنون قريبا، أو ربما إلى الانتحار؟طرقات متتابعة على باب غرفتها أخرجتها من أفكارها السوداء، دلفت عليا لتجد آماليا جالسة على سريرها وماتزال بثيابها منذ الأمس، شحوب وجهها المتعب أخبرها أنها لم تنم، اصطنعت ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيها لتقابلها آماليا بالعبوس، اقتربت منها لتمسح على جانب صدغها قائلة بحنان: لم تنامي عزيزتي، أليس كذلك؟تنهدت آماليا وهي تشير لها برأسها بالنفي بحركة ضعيفة، ربتت عليا على كتفها مضيفة: لا تحملي نفسك الذنب حبيبتي.أغمضت عينيها وهي تخفض رأسها قائلة بتعب: لا أستطيع أمي، بقيت أسأل نفسي طوال الليل علني أصل إلى الإجابة، لكنني دوما أصل إلى طريق مسدود.جلست بجانبها لتمسح على كتفها قائلة: اسمعيني آماليا، أنا حقا لا أعرف لماذا قرر والدك في آخر أيامه كتابة هكذا وصية، لكنني متأكدة أن هناك سببا قويا خلفها.التفتت آماليا نحوها لتقاطعها بحنق: لكن ما فعله غير عادل أبدا أمي، لم يجبرني على الزواج في حياته فكيف له أن يفعلها بعد وفاته؟طالعتها عليا بنظرات متفحصة، لتسألها بعين ضيقة: دعيني اسألك إذا آماليا، لماذا ترفضين الزواج؟أجفلت عيناها إلى الجانب الآخر، تنهدت بتعب ولا تجد لها إجابة، ظلت هكذا لثوان حتى اقتنعت عليا أن ماتخفيه آماليا كبير، كبير جدا ولن تتمكن من معرفته الآن، ربتت على كتفها من جديد قبل أن تستقيم لتحدثها: لن اضغط عليك أبدا لمعرفة السبب آماليا، لكن يجب أن تعرفي أن الأيام القادمة لن تكون سهلة.رفعت رأسها إلى والدتها التي أضافت: أنت تعرفين كم كانت نور متحمسة لاستلام إدارة الشركة، لذا يجب أن تتهيأي لأي رد فعل غير متوقع منها.سكتت للحظة قبل أن تتابع بصوت حازم، واضعة يدها على وجنة آماليا: لكن مهما حدث عزيزتي تذكري، أنها شقيقتك الصغيرة، مهما فعلت لا تسمحي لها بالابتعاد عنك، عديني بهذا آماليا أرجوك؟ناظرتها آماليا بجزع، فأمسكت كفها لتقبل باطنها ثم تمتمت بنبرة متأثرة: أعدك أمي، مهما حدث سأبقى بجانبها.تنهدت عليا بارتياح لتضيف بحبور: والآن تحركي، خذي حماما ساخنا وارتاحي، انفض الحزن عن روحك، فحياتك مازالت في بدايتها.مر الآن أسبوع كامل على وفاة عمار، وأربعة أيام على فتح الوصية، والتي لم تستطع نور تقبلها فحلمها في إدارة الشركة التي درست وتعبت لأجلها مهدد الآن، ذهبت إلى محام آخر يعرفه مجد، ليخبرها بأن الوصية واجبة التنفيذ ولا مجال لكسرها، خاصة أنها مثبتة في المحكمة، وأن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الشركة هي بتنفيذ الوصية بحذافيرها.لم تزل آماليا تفكر كذلك في أمر الوصية، بيد أنها لاحظت تبدل حال شقيقتها معها وهذا زاد حزنها، وإن التمست لها العذر، وقد عادت إلى العمل في عيادتها فقط ومددت إجازتها من المشفى.صدم أدهم بمضمون الوصية عندما أخبره مجد، لكنه وبعد مشاوراته مع ريما عادت الأخيرة لتبث فيه الأمل، خاصة بعدما قص عليها ماحدث بينهما في حديقة قصر عائلتها، لذا فقد قرر أن يحدث آماليا اليوم، سينتظرها خارج القصر في موعد ذهابها إلى عيادتها.استمرت ريما في الذهاب إلى منزل أيمن وقد زاد تعلقها في الصغيرة ريما بشكل أقلقها هي ذاتها، إلا أن أيمن كانت تعاملاته رسمية جادة معها لأبعد الحدود، بمجرد أن تدخل إلى غرفة ابنته يخرج هو من المنزل.خرجت ريما من غرفة الطفلة الصغيرة كالعادة، بعد أن اعطتها دواؤها، لقد لاحظت تحسنا كبيرا في صحتها لذا تعتقد أن مهمتها انتهت هنا، ويجب أن تبتعد عنها حماية لكلتيهما معا.حضر أيمن كالعادة ليجد ريما ما تزال في انتظاره في صالة منزله، ارتبكت في البداية عندما رمقها بنظرة متفحصة، سرعان ما استعادت ثباتها لتقول بصوت متذبذب: أريد أن أتحدث معك في أمر.فزع قلبه بين ضلوعه فقال بلهفة: هل ريما بخير؟لم تستطع منع ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيها مشيرة له بالنفي، ضيق أيمن عينيه بشك مستريب ليقترب حتى أضحى أمامها يفصلهما بضع خطوات فقط قائلا: إذا ما الأمر؟وجوده معها و على هذه المسافة القريبة منها أصابها بخفقة قاتلة، كادت تفقد وعيها على إثرها لكنها تمالكت نفسها، أجلت حلقها لتقول بصوت خفيض: كما تلاحظ، فإن ريما الصغيرة قد تحسنت كثيرا، صحتها باتت أفضل وكذلك نفسيتها، لذا اعتقد أن دوري يجب أن ينتهي قريبا.تجهم وجهه مع بداية حديثها وقد فهم ما ترمي إليه، ناظرها بشكل أقلقها وربما أخافها، ازدردت ريقها لتخفض رأسها بعيدا عن عينيه المخيفة، ولا يعرف هو نفسه ماذا أصابه بعد كلماتها تلك، مايعرفه أنه شعر بالضيق لمجرد اقتراحها فكرة أن تختفي من حياته مجددا.صمته أثار ريبتها فرفعت رأسها إليه بتردد لتجده كالمستغرق في تفكير عقيم، فتمتمت بهمس: هذا أفضل لنا جميعا، كلما زاد تعلقها بي زادت احتمالية انتكاسها من جديد.رمشت عيناه دون أن يتفوه بحرف، فتململت في وقفتها ولم تجد ما تضيفه. حتى استأذنت أخيرا لتتحرك إلى الخارج، لم تكد تمسك بمقبض الباب حتى صدح صوته من خلفها يناديها بحنين لم تصدقه: ريما.كان حريا بها أن تكون سعيدة فهو لأول مرة يناديها باسمها، لكنها شعرت بأمر مريب، قطبت جبينها لتلتفت صوبه، فوجدته مازال يوليها ظهره مما زاد من قلقها، ظل على حاله هذا لثوان حتى استدار ليواجهها، كانت ملامح وجهه وحدها كفيلة بجعل خافقها ينتفض فزعا، تنهد بتعب قبل أن ينطق بصوت ثقيل: لا تغادري حياة ابنتي بهذه الطريقة، فهذا سيحطمها.ثقل صوته أكثر وهو يضيف بنبرة خافتة لكنها صادقة: أنا أكثر من يعرف هذا الشعور.نظراته إليها كانت مزيجا من الرجاء والقسوة مما ارعبها، ليضيف أخيرا ما جعلها تتمنى زوالها حالا: أنت مدينة لي بهذا، على الأقل دعينا نمهد الأمر لها قبلا.كلماته كانت قاسية على روحها أكثر مما قد يتخيل، فعلا إنها مدينة له بتفسير، لكنها لم تعد تملك هذا الحق، غامت عسليتيها أمام العواصف التي تهدد في عينيه، لم تجد ما تجيبه فخرجت دون أن تنبس بحرف، ولاتعلم مافعلته في أيمن بهذا حقا، أسقط جسده على أقرب كرسي ليدفن رأسه بين راحتيه، ضغط جانبي جبينه بقسوة كأنه يعتصره، لماذا تريد خيانة ثقة ابنته كما خانته قبلا، لماذا؟نفخ بضيق من نفسه أولا ومنها أكثر، ليسحب هاتفه ويحادث شقيقته يخبرها بأن تبقى مع ابنته لاضطراره الخروج مساء.لا يدرك أيمن وقوعه في مستنقع جديد، مستنقع ضحل لا يمكن الفرار منه إلا بالغرق داخله!وصلت إلى المنزل تزامنا مع وقت الغداء، لتجد مجد وأدهم قد بدآا لتوهما، لم تتمكن من الهرب فاغتسلت واتخذت مكانها بجانب أدهم، الذي سأل شقيقه محاولا معرفة آخر الأخبار: إذا مجد، ماذا فعلت نور بشأن وصية والدها؟زفر الآخر بضيق مجيبا بنبرة محتقنة لا تخلو من الغضب دون أن يرفع رأسه عن طبقه: لم تفعل شيء وتكاد تجن، مافعله والدها لا يعقل.لوهلة ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه أدهم، سرعان ما استبدلها بالاهتمام متسائلا: ألم تجد طريقة لتنفيذها دون خسارة الشركة والقصر؟تحدث مجد بنبرة مغتاظة: بلى، أن تتزوج حضرة شقيقتها المحترمة والتي لم تبد أي اعتراض على الوصية كأنها قد راقت لها.كور أدهم قبضته وكاد أن يرد على شقيقه، الا أن لمسة ريما الرقيقة على كفه جعلته يتراجع، شعرت ريما بأن أدهم سينفجر في وجه مجد لظنه السيء بأماليا، فأشارت له بعينيها أن يهدأ ففعل على مضض.تنهد مجد قبل أن يرفع الفوطة الصغيرة أمامه ليمسح بها فمه، ثم تحدث ببساطة: بالمناسبة، لقد طلبت من أم ميسر تحضير مائدة معتبرة للعشاء، فقد دعوت أيمن إلى هنا مساء.شرقت ريما في لقمتها فسعلت بشدة كمن سمع خبرا مرعبا؛ وللحق هكذا خبر أكثر من مرعب، ضربها أدهم بخفه على ظهرها، ولم يكن في حال أفضل، قدوم أيمن إلى هنا يعني قدوم المصائب، ستضطر ريما للتواجد معهم وهذا معناه أن يتعرف إليها، ولن يضمن ردة فعله حينها، شربت ريما من كوب الماء الذي قدمه لها أدهم لتقول لمجد بصوت مبحوح: هل سيأتي إلى هنا؟نبرتها الخائفة لم ترق مجد الذي كتف يديه على الطاولة متسائلا بجدية: وهل في قدومه ما يزعجك ريما؟ارتبكت ولم تعرف بماذا تجيبه، فأشاحت بنظرها إلى أدهم الذي انقذها فورا: لا مجد بالطبع ريما لم تقصد، لكن ما عنته أن أيمن حاليا أعزب وقد يشعر بالحرج من ريما.بدى ما يقوله أدهم منطقي بالنسبة إلى مجد، خاصة وأن نبرته كانت ثابتة صادقة، وأضاف أدهم: برأيي أن ندعوه للعشاء في أحد المطاعم، أقصد ليأخذ راحته وكذلك نحن.ساد الصمت لثوان كانت أشق على ريما من شهور، حتى ابتسم مجد بخفة ليتحرك من مكانه هاتفا: فعلا معك حق، سأحجز في مطعم اعرفه ثم سأتحدث مع أيمن وابلغه بالتغيير.تنفست ريما براحة عقب رحيله، ثم التفتت ناحية أدهم باستجداء، أشار لها بأن لا حيلة بيده، فمجد مصر على استحضار روح الماضي إلى العلن.ضاق صبر نور ذرعا بتجاهل والدتها لأمر الوصية وكذلك آماليا، كأن أمر الشركة يهم نور فقط، نزلت إلى الصالة حيث تواجدت عليا هاتفة بحنق: ماذا امي؟ اراك جالسة بأريحية وكأن حياتنا في أفضل أحوالها؟توقعت عليا انفجارا قريبا من ابنتها خاصة وأنها تعرف ما تعنيه الشركة لها، فرفعت رأسها إليها ببطء قائلة بنبرة هادئة: ماذا في يدي لأفعله نور؟ أعتقد أنك سمعت مضمون الوصية جيدا؟كانت آماليا قد ارتدت ثيابها الداكنة تريد الخروج إلى العيادة كالعادة، علها تخرج من قوقعة حزنها وتعود إلى حياتها الطبيعية.كانت تلف الوشاح الصوفي ذو اللون الرمادي حول رقبتها عندما أصبحت عند مقدمة الدرج لتسمع صوت نور الغاضب: إذا فلننفذ الوصية كما هي.قطبت عليا جبينها بعدم فهم متسائلة بشك: ماذا تعنين؟كتفت نور يديها أمام صدرها لتقول ببساطة: فلنجعل آماليا تتزوج.سمعت آماليا كلمتها الأخيرة فثنت حاجبيها باستغراب، لتسمع عليا تجيبها باستنكار: مالذي تقصدينه؟ أنت تعلمين أن شقيقتك ترفض الزواج؟رفعت كتفيها بلا مبالاة قائلة: فلنجبرها إذا.تفاجأت عليا من كلماتها فأردفت بحسم: أياك وقول هذا الحديث الفارغ مجددا نور.تأففت الأخرى بضيق لتحرر يديها مضيفة بنبرة لم تخلو من السخرية المبطنة: أنت معي ام معها أمي؟ أنا ابنتك وليست هي، وأنا المظلومة الوحيدة في وصية أبينا المحترم.نزلت كلماتها كالصاعقة على رأس عليا و آماليا المختبئة، شهقت بدموع عندما سمعت صدى الصفعة التي نزلت على وجنة نور، التي وضعت يدها على مكان الصفعة لتطالع والدتها بصدمة، لم تكتف عليا بفعلتها بل تابعت توبيخها بحزم: اسمعي ما سأقوله جيدا نور لأنني لن أعيده مجددا، إن كنت ابنة بطني فأماليا ابنة قلبي، هناك ولدت وتربت، فلا تخيريني بينكما لأن خياري لن يعجبك أبدا.تسارعت أنفاسها بغيظ متزايد، لم تصدق نور أذنها وهي تسمع حديث والدتها، هل تأخذ صف شقيقتها الأكبر ضدها هي، وهي ابنتها الحقيقية؟صرخت نور في وجه عليا متناسية أنها تقف أمام والدتها: تفضلينها هي علي امي؟ ألست أنا من ستخسر كل شيء بسبب اضرابها عن الزواج؟، وأنا من ستغدو مفلسة في الشارع بسبب عقدة تلك العانس المدللة؟كادت عليا أن تجيبها عندما هبطت آماليا على الدرج، لتقف أمام شقيقتها صارخة بها بحرقة ودموعها تجري بلا رادع: وما ذنبي انا؟ لم أطلب من أبي أن يربط مستقبلك بهذه العانس المدللة.صرخت نور تجيبها: سأخسر كل شيء بسببك، والحل بيدك أنت فماذا أفعل؟لم تجبها شقيقتها الباكية، فتحولت ملامحها إلى السخرية مضيفة بتهكم: طبعا هذا آخر اهتماماتك، فأنت قد ضمنت مستقبلك بوجود أملاك والدتك والعيادة، أما أنا فلأذهب إلى الجحيم لن يهمك الأمر.سكتت آماليا للحظة لتنظر إليها بصدمة، حركت رأسها للجانبين بخيبة امل قبل أن تتحرك إلى الخارج، تحمل خيبتها ووجعها، ولا تدري أي جرح يؤلمها أكثر، شيعتها عليا بشفقة حتى اختفت، لتعيد نظرها الغاضب إلى نور التي صرخت بغيظ، لتصعد إلى غرفتها تدب الأرض بغضب، تنهدت عليا بحزن على حال الاختين لتتحرك وتنظر من نافذة الصالة إلى مدخل القصر، حيث خرجت آماليا تحت المطر غير آبهة ببرودة الطقس، والذي تأمل ان يبرد الاشتعال داخل روحها.لقد صدمتها شقيقتها حرفيا، نعم تعلم كم حلمت نور في اليوم الذي تستلم فيه إدارة الشركة وأن وصية أبيها قد دمرت احلامها، لكن هذا أبدا لا يعطيها الحق بالتطاول والتنمر عليها بهذا الشكل.قطبت عليا جبينها عندما رأت سيارة أدهم تصطف بالقرب من مدخل القصر، زوت ما بين حاجبيها بشك فبقيت تتابع ماسيحدث بينهما.كان أدهم قد قرر مصارحة آماليا بالحقيقة، لذا اعتزم الذهاب إلى القصر وينتظر خروجها الى عيادتها كالمعتاد، ثنى حاجبيه بريبة وهو يراها تمشي تحت المطر دون الاكتراث للعواقب، ترجل مسرعا حاملا مظلته لينادي باسمها، توقفت لتنظر إليه وبالكاد ميزته من بين دموعها وقطرات المياه.فلنكن صريحين، هذا أسوأ وقت اختاره أدهم للظهور أمامها، الآن!تسارعت أنفاسها بغضب يزيد مع كل خطوة يخطوها نحوها، فصرخت به: ماذا تريد الآن؟ اخبرني؟تجمدت قدماه على بعد خطوتين منها، أخفض مظلته ليناظرها باستغراب فلا يعلم لم هي غاضبة منه الآن، فيما أضافت آماليا وهي تقطع المسافة الفاصلة بينهما لتضربه على صدره: ابتعد عني، يكفي مااحدثته في داخلي من خراب، اغرب عن وجهي لا أطيق رؤيتك أيها الوغد الحقير!أطلقت كلماتها في وجهه ثم تابعت مسيرها باكية، حقا تشعر بأن حياتها قد انقلبت منذ ظهوره أمامها من جديد، بينما بقي أدهم ينظر إلى أثرها باستغراب مختلط بخيبة، أعتقد أنها ستعطيه فرصة التبرير بعدما حدث بينهما في الحديقة، هي من طلبت عناقه قبلا، فمالذي حدث الآن؟انتبه إلى ثيابه التي ابتلت بفعل الأمطار، تنهد بحزن فيبدو أن الأقدار ستبقى ضده مهما فعل، عاد أخيرا إلى سيارته غافلا عن عيني عليا التي راقبت ماحدث بينهما، رغم أنها لم تسمع صراخ آماليا، إلا أنها استشفت أن ما بين أدهم وآماليا الكثير من الأسرار، انتبهت من تفكيرها على خطوات نور التي هبطت الدرج بسرعة؛ التفتت لتراها قد ابدلت ثيابها خارجة هي الأخرى، زفرت بحزن إلى مآل عائلتها الصغيرة، رفعت رأسها إلى السماء تدعو لنفسها بالثبات لتهمس بدموع: رحمك الله ياعمار، فقط لو أعرف بم كنت تفكر يومها، فقط!