رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامنوصل كلا من أدهم ومجد إلى لندن واتجها فورا إلى الصالة حيث سيقام العرض، فقد انطلقا بعد عودة أدهم من عند أماليا، كان قد بقي على العرض الخاص بريما ساعتين، دلف مجد قبله إلى الكواليس ليجد ريما مرتبكة كما لو أنه عرضها الأول.كانت تمشي بتوتر عظيم بين العارضات اللواتي كن يرتدين تصاميمها اللطيفة، تتأكد من تناسق الاكسسوارات مع التصاميم، تآلف ألوان طيف العيون مع لون الفستان الذي ترتديه كلا منهن.صاح مجد باسمها فالتفتت صوبه وقد اتسعت ابتسامتها وهي تحتضنه بحنان حقيقي، اقترب أدهم ليعانقها لكنها شعرت بأن شيئا ما يقلقه فسلامه كان عاديا.سار أدهم ليجلس على كرسي مكتبها حيث أدخلتها.سألها مجد: هل تناولت شيئا اليوم؟أجابته مساعدتها بسرعة: لا سيد مجد، فالسيدة ريما لم تتناول شيئا منذ غدائها أمس.طالعتها ريما بلوم دون عصبية، فقطب جبينه بضيق فأردف: لا يجوز هذا ريما يجب أن تعتني بصحتك.التفت نحو أخيه الشارد مضيفا: ألا تتفق معي أدهم؟ناظره أدهم كمن لم يفهم لكنه نطق عفويا بارتباك طفيف: نعم، نعم أكيد.استدار مجد نحوها من جديد ليضيف: أرأيتي حتى زوجك يتفق معي.أمسك يدها هاتفا: والآن هيا هيا معي، فلنذهب لتتناول الطعام في المطعم القريب.حاولت ريما التملص منه فهتفت: لا مجد أرجوك لا أستطيع، يجب أن ننهي اللمسات الأخيرة.زوى مابين حاجبيه بعدم رضا فتطلع إلى أخيه الهادئ على غير العادة، ثم صاح: مارأيك أنت أدهم؟نظر إليه بعدم فهم ورمش بعينيه كمن أجفل من شروده، لاحظت ريما كل هذا لتتيقن أن أدهم يخفي أمرا، فحاولت إنقاذ الموقف قبل أن ينتبه مجد فتحدثت: عزيزي مجد صدقني انا لست جائعة.انتبه أدهم لنفسه فاستقام ليشاركهما برتابة: هيا ريما يجب أن تتناولي شيئا، من ثم عودي إلى العمل.سحبها مجد من يدها فيما هي تقاوم ومساعدتها تدفعها من الخلف، ساد جو من الضحك والمرح بينهم فشاركهم ضحكاتهم مجاملة دون أي رغبة.عادت أماليا إلى منزلها فلم تجد أحدا في الصالة، أخبرتها أمينة أن نور قد غادرت مع والدتها إلى الشركة بعد الغداء ووالدها كان نائما بسبب تأثيرات الأدوية، دلفت إلى غرفتها فورا لتأخذ حماما ساخنا تنفض عنها تعب اليوم النفسي والجسدي.استغرقت وقتا مطولا في الحمام، خرجت وقد ارتدت ملابسها لتجلس على سريرها، تزامنا مع دخول والدتها بعد قرع الباب، تحدثت عليا بابتسامة بشوشة: الن تتناولي العشاء معنا أماليا؟لم يكن بها طاقة للخطو خارج غرفتها خطوة واحدة، ناهيك عن الجلوس وتبادل الأحاديث مع أحدهم فهتفت كاذبة: لا أمي، لقد تناولت طعامي خارجا.حركت عليا رأسها بتفهم وهي ترسم ابتسامة متوترة، لاحظتها أماليا فسألتها بشك: أهناك أمر آخر أمي؟مررت عليا يدها بين خصلاتها ثم اقتربت لتجلس بجانبها على السرير، أجلت صوتها ثم أخبرتها بتردد: هل أنتي متعبة جدا؟تنهدت بتعب ثم أجابتها باقتضاب: أمي، تعلمين أني لا احب الدوران حول الموضوع، أرجوكي أخبريني مباشرة مالأمر؟ازدردت ريقها بوجل وهي تتمتم مع معرفتها المسبقة لنتيجة ما ستحدثها به: اسمعي عزيزتي، لقد حادثتني السيدة هبه اليوم.سكتت وهي تراقب امتعاض أماليا من مجرد ذكر اسم السيدة، فيما أضافت عليا بسرعة: وقد قصدتني مجددا لأسألك عن رأيك في...قاطعتها أماليا بجمود: لا.بهتت واعتلا الاستياء ملامحها بينما تابعت أماليا: لا أمي، أخبرتك الف مرة من قبل لا أريد الزواج لا بنبيل ولا بغيره.حاولت عليا الحديث بهدوء علها تقنعها: لكن حبيبتي فكري مجددا، فنبيل محام ناجح وحالته المادية جيدة وأيضا...لم تكن تلك المرة الأولى التي تحادثها عليا بشأن الخطبة من نبيل، لكنها لا تعرف لم شعرت بالحنق والاستياء من تكرارها للأمر فهدرت بانفعال: ما الأمر امي؟ هل تريدين مني الزواج فقط لتتخلصي مني؟عقدت عليا حاجبيها باستغراب من عصبيتها الغير مبررة تجاهها، فيما تابعت أماليا بنبرة شبه متهكمة غير آبهة بمشاعر والدتها: هل مللتي من مكوثي معك في المنزل؟ أم كثرت عليك أعبائي ومصاريفي؟أوقفتها عليا بإشارة من يدها هاتفة بجمود: يكفي أماليا، ما هذا الهراء الذي تتفوهين به؟ أجننتي؟التمعت عيناها بالدموع وهي تتمتم: نعم، نعم لقد جننت وضاع عقلي أيضا.لم تهتز ملامح عليا الصارمة وهي تستقيم من جوارها، رفعت إصبعها السبابة أمامها معقبة: لولا أنني من ربيتك أماليا لظننتك شخصا غبيا، لكنك تملكين من الذكاء والفطنة مايخولك لفهم أن حديثي هذا هو من باب خوفي عليك، وليس الكلام الأحمق الذي تفوهتي به منذ قليل.انهمرت دموعها حزنا وندما في آن، أرادت التحدث والاعتذار قبل أن تقاطعها عليا بحزم: يبدو أنك متعبة جدا الليلة، تصبحين على خير.استدارت لتغادر الغرفة بأكملها، تاركة أماليا خلفها تنهار بالبكاء، لا تصدق أنها تحدثت هكذا مع والدتها فهي ليست قليلة تهذيب، لكنها شعرت بأن كل شيء حولها ينهار منذ أن رأته مجددا، وزاد على هذا ظنه السيء بها وقدومه للمشفى لرؤيتها، دفنت رأسها بين كفيها لتغرق في نوبة بكاء مريرة وهي تلعنه وتلعن فؤادها الأحمق على حد سواء.الطقس في لندن في هذه الأيام قاس، والشمس قلما تزور مدينة الضباب.كانوا الثلاثة جالسين إلى مائدة مستديرة في مطعم قريب من الصالة، كان كلا من مجد وربما يأكلان بشراهة و يتبادلان الأحاديث والأخبار والضحكات، بينما أدهم كان شاردا واجما لا يشارك إلا قليلا.انتبهت ريما إلى شروده فوضعت يدها على كفه المسنود بجانبها تسأله باهتمام رقيق: مابك أدهم؟أجفل من سؤالها فأضافت: لم أنت شارد هكذا ولا تأكل؟ إن لم يعجبك الطعام تستطيع أن تطلب غيره؟أجلى صوته بارتباك وحاول التحدث بهدوء: لا شيء، لاشيء ريما انا فقط لست جائعا.لاحت منه نظرة نحو حديقه صغيرة تابعة للمطعم فهتف محاولا التهرب من أسئلتها: سأذهب لأستنشق بعض الهواء، تابعا طعامكما.نظرت حولها بتعجب، فالمطعم فارغ تقريبا إلا منهم وبضع طاولات أخر، وأصلا تصميمه يسمح بتبديل الهواء فلا تشعر بالضيق من الجلوس داخلا، فما الأمر؟وجهت أنظارها إلى مجد لتسأله: مجد، مابه أدهم؟رفع كتفيه مجيبا ببساطة: لا أعلم صدقيني، فمنذ يوم خطبتي لنور وهو على هذه الحال.ثم أضاف بمكر وهو ينظر إليها بنظرات ذات مغزى: ربما كان مشتاقا لقضاء بعض الوقت الخاص مع أحدهم.واتبع حديثه بغمزة وابتسامة وقحة.اتسعت عيناها من وقاحته فزجرته بتحذير: مجد.وجهت أنظارها حيث وقف أدهم في الحديقه الصغيرة يطالع السماء الملأى بالنجوم، رغم ضباب لندن الدائم، إلا أنه بإمكانك الاستمتاع بمنظر النجوم الصافي ليلا.سحب أدهم نفسا عميقا من الهواء البارد، عل برودته تهدأ البراكين المحرقة في صدره، زفر نفسه ليخرج دخانا من شدة البرد، شعر بيد خفيفة توضع على كتفه فعرف هويتها دون الحاجة للنظر إليها، تسائلت ريما خلفه بجدية: أشعر بثقل صدرك أدهم، ألن تخبرني بما يشغلك؟أغمض عينيه بقوة يكاد أن ينفجر ويحدثها بكل مايعتمل داخله، لكنه عاد وانتبه لموقعهم الآن، استدار نحو ريما وملامحها الجذابة لكنها مرهقة، تذكر كم الضغط الذي تعاني منه بسبب العرض وتحضيراته ولا يريد أن يشغلها أو يلهيها فهو ليس بالأناني، ابتسم بتكلف وهو يضع يده على كتفها متحدثا بهدوء مصطنع: لا تشغلي بالك ريما، بعض الإرهاق والتعب من العمل فقط، وأيضا فرق التوقيت بين البلدين، فقط بعض النوم والراحة وسأكون بخير.رغم أنها لم تصدقه فهي أكثر من يفهمه ويقرأ عينيه، لكنها حاولت التماشي مع كذبته فقالت: تستطيع العودة إلى المنزل وترتاح أدهم، لا مشكلة.هتف نافيا بملامح جادة: طبعا لا، كيف لي أن أفوت عرضك عزيزتي؟أردف بابتسامة بلاستيكية وهو يديرها بعد أن كانت على وشك الاعتراض: هيا هيا الآن فلتذهبي إلى عرضك، يكفي لهوا.لم تستطع مقاطعته وقد وصلا عند مجد الذي وقف بابتسامة متسعه وهو يغمزها مشيرا لأخيه: ألم أخبرك أن به شوقا لك.انحنى ليلملم أغراضه فلم يلحظ النظرات الغامضة التي تبادلها كلاهما، وصل صوته إلى كليهما: لقد دفعت الحساب، فلنذهب حتى لا تتأخري على العرض.وجه آخر كلماته إلى ريما التي ابتسمت باقتضاب ثم لملمت أغراضها هي الأخرى، خرج الثلاثة من المطعم وكل منهم شارد في ملكوت مختلف، تأكدت ريما أن أدهم يخفي عنها أمرا بالغ الأهمية وإلا لما تبدل حاله هكذا.علمت من تهربه أنها لن تستطيع إجباره على الحديث الآن في هذه الظروف، فلتؤجل كل شيء حتى العودة إلى الوطن.خطر لها ألف خاطر، إلا أن يكون أدهم قد التقى الشخص الوحيد، الذي تربع ملكا على عرش فؤاده.نزلت مبكرا على غير عادتها، وجدت عليا ترتب طاولة الإفطار بمساعدة أمينة وسارة، وقفت لثوان قبل أن يخرج صوتها باهتا خافتا قائلة بتردد: صباح الخير.ابتسمت عليا باقتضاب هاتفة بنبرة هادئة: صباح الخير.لم يكن وجهها متجهما أبدا ولا نبرتها جافة، لكن هذا ما خيل إلى أماليا عندما سمعت رد والدتها المقتضب، انتظرت حتى فرغت كلا من سارة وأمنية مما يفعلن وتوجهن إلى المطبخ، استدارت عليا لتلحق بهما إلا أن نداء أماليا المرتبك أوقفها، نظرت إليها باستفهام وحاجبين معقودين بشكل طبيعي، خرج صوتها بنبرة اعتيادية لكن أماليا ظنت أنه ازدراء: ما الأمر أماليا؟ازدردت ريقها بوجل وهي تتطلع إليها، اقتربت منها حتى أضحت أمامها ثم تحدثت بنبرة مكسورة: أمي انا...أغمضت عينيها لثانية لم الاعتذار أمر صعب؟بللت شفتيها ثم اردفت بخفوت: انا أعتذر إليك عما بدى مني أمس.كانت عليا تمتلك قلب والدة حقيقي، يخطأ أولادها في حقها فتحزن بسببهم وربما تجافيهم قليلا، لكنها أبدا لا تتحامل عليهم أو تحمل ضغينة تجاههم بل وتسامحهم عند أول ذرة ندم تراها في أعينهم أو كلمة اعتذار تصدر عن فم أحدهم.لذا ابتسمت ببساطة عندما سمعت أسفها وتعلم أنها تعنيه بالحرف، اقتربت منها فيما أماليا تعقد اصبعيها السبابة والوسطى معا بتوتر، وتخفض نظراتها للأسفل، وضعت يديها على كتفيها وهي تخبرها بتأنيب طفيف: حبيبتي أماليا، أنا أعلم أنك لم تقصدي كلامك أمس لأنني أنا من رباك، وأعلم نقاء قلبك وصفاء سريرتك.تنهدت وهي تضغط على كتفيها لتوصل مغزى كلماتها: تعرفين أنني اعتبرك بكري وباكورة ذريتي، ومعزتك لا تقل عن نور بشيء، لقد عشت طوال عمري وأنا أتمنى أن أراك عروسا ليفرح قلبي باستقرار حياتك قبل أن أموت، إن لم ترغبي بالزواج فهذا حقك، لكن من حقي أيضا بصفتي والدتك أن أعرف السبب؟رفعت أنظارها إليها تزامنا مع كلمتها الأخيرة، ابتلعت غصة حارقة في حلقها وهي تتهرب من سؤالها المتواري، تنحنحت وهي تمسك كفها الأيمن وتطبع قبلة على ظهره مرددة: أطال الله في عمرك أمي، واسفة مرة أخرى.أدركت عليا بفراستها أن أماليا تتهرب من الإجابة لكنها لم تضغط عليها، تخشى إن فعلت تعود الأمور لتتعقد من جديد، فهي شعرت باختلافها وتبدل أحوالها منذ خطبة نور، لو لم تكن من رباها وتعرفها حق المعرفة لظنت أنها الغيرة من شقيقتها، لكنها على يقين أن ما تخفيه أماليا اكبر وأخطر من كونه غيرة، ربتت على صدغها بحنان ثم غادرت لتكمل أعمالها.تنفست أماليا الصعداء ثم التفتت للخلف لترى نور تنزل متجهمة الوجه حاملة هاتفها وقد ثنت حاحبيها بانزعاج جلي، استغربت أماليا الأمر فهتفت تسألها قبل أن تتحدث الأخرى بتحية الصباح: ما بك أنت؟ عاقدة حاحبيك كمن تزوج زوجها؟رفعت رأسها إلى شقيقتها لتهتف بغيظ: بالله عليك أماليا اتركيني في همي.رفعت حاجبها من تلك الكلمات المريبة فسحبت كرسيها وقد سيطر القلق على قسماتها خشية أن يكون الأمر متعلقا بذنب قد ارتكبه مجد والأدهى إن كان خيانة، تسائلت وهي تجاهد بإخراج صوتها طبيعيا: ما المشكلة نور؟ أخبريني؟زمت نور فمها كمن كان على وشك البكاء مجيبة بحنق حقيقي: لقد سافر سيد مجد منذ الأمس مع شقيقه لحضور معرض زوجة أدهم، ولم يكلف نفسه أن يرفع هاتفه و يطمئن علي.رفرفت أهدابها دون أن تجيبها، فتولت عليا هذه المهمة وهي قادمة من المطبخ تحمل بعض الارغفة: وما المشكلة في هذا نور، لربما كان مشغولا بمساعدة زوجة أخيه.هتفت نور بامتعاض: ألا يملك دقيقتين ليتصل بي ويسأل عن حالي؟كتفت يديها أمام صدرها ثم تابعت بحسم: أنا حزينة منه ولن أكلمه ثانية.سحبت عليا كرسيها لتجلس وكادت تتحدث عندما قاطعها رنين هاتف نور، تبدلت ملامحها البائسة فورا عندما رأت اسم مجد يزين الشاشة، ابتسمت بسعادة وهي تجيب الاتصال تصيح بفرحة غريبة: حبيبي.وقفت من فورها لتضعه إلى غرفتها وتتحدث براحتهاة، تبادلت كلا من أماليا ووالدتها نظرات تعجب قبل أن تنغجر كلاهما ضاحكتين على نور وتصرفاتها الصبيانية.جلست مساء تطالع آخر الأخبار الطبية على هاتفها في صالة منزلها، وكانت نور تجلس على أريكة قريبة منها عاقدةحاجبيها كمن يقرأ خبرا هاما على حاسوبها، بعد عودتها من الشركة، نزلت عليا من غرفة زوجها بامتعاض باد على وجهها.رفعت أماليا رأسها نحو والدتها ولاحظت انزعاجها فتسائلت بريبة: ماذا هناك أمي؟زفرت عليا بضيق وهي تقف تستند على الأريكة التي جلست عليها نور ووضعت الأخرى على خاصرتها، ثم أخبرتها بنفاذ صبر: والدك أماليا.بدى الاهتمام واضحا على محياها فيما أضافت والدتها بسخط: يرفض أن يذهب غدا معي لإجراء التحاليل الدورية في المشفى.قطبت جبينها بانزعاج جلي فأضافت؛ لا أمي لا يجوز، يجب أن يذهب.تأففت والدتها ثم تابعت: لا أعلم أماليا أحيانا يتحول عمار إلى طفل صغير، فهو يكره المشافي.أخفضت رأسها إلى ابنتها الصغرى ثم سألتها: مالأمر آنسة نور؟ ارى انك لم تشاركي في الحديث كالعادة؟أشارت لها نور بيدها دون أن ترفع رأسها قائلة: تعالي تعالي أمي شاهدي تصاميم ربما زوجة أدهم.شلت أطرافها لسماع اسمه مقرونا بأخرى وانتبهت للحديث رغما عنها، انحنت عليا نحو الحاسوب فقالت بإعجاب وذهول: واو، فعلا شيء جميل، تعالي أماليا شاهدي روعة التصاميم.اقتربت منهما متظاهرة برؤية الأزياء فيما هي في الحقيقة تبحث عن شيء محدد، تبحث عن صورة لتلك التي فضلها عليها لكنها لم تجدها بعد.هتفت نور: هناك الكثير من الأحاديث عن المعرض، اسمعا (( هذا وقد قدمت مصممه الازياء الصاعدة ((ريما الرسام ))عرضا اقل ما يمكن أن يقال عنه أنه خيالي، حيث تميزت تصاميمها بالبساطه والأناقة في أن واحد، وقد كان لمجلتنا حديثا مميزا معها.س سيدة ريما، نهنئك في البداية على نجاح عرض الأزياء الخاص بك-، سؤالنا الأول: من كان الملهم لك في إبداع تلك التصاميم؟ج شكرا لك كثيرا وانا في الحقيقه مسرورة جدا من نجاح العرض، وأنه قد نال إعجابكم، صراحة ملهمي وداعمي دائما وأبدا هو زوجي السيد أدهم بهاء الدين، فهو صديقي وأخي قبل أن يكون زوجي، وكذلك مجد الأخ الاصغر لزوجي أدهم والذي هو بالنسبة لي ولدي، فأنا اعتني به منذ أن كان في العاشرة من عمره، إنهما من أكثر الأشخاص قربا الى قلبي وأنا ممتنه حقا لوجودهما في حياتي.س-- مدام ريما قد حققت شهرة واسعة بعد العرض الناجح وقد سمعنا بعض الأقوال التي كان مفادها هو عودتك إلى الوطن ومنابعة مسيرتك في بلدك الأم، فهل هذا صحيح؟- حقيقة أجل كنت افكر في العودة منذ بعض الوقت و واخطط لافتتاح مشغل لي هناك ومحل أيضا لن يكون خاصا بتصاميمي الخاصة فقط و...لم تنتبه أماايا إلى بقيه المقال عندما رأت صورة لأدهم، كم كان وسيما ببذلته الرسمية بلون مشابه للون عينيه لكنه لم يكن وحده، بل كانت بجانبه ملاك فاتن خاصة بابتسامتها المميزة وغمزتها أسفل ذقنها، شعور غامض ضرب أحشاءها عندما رأتها بجانبه دون تلامس، وكم خيل إليها أن ابتسامته تلك كانت سعيدة لا تشوبها شائبة، متغافلة عن الحزن والاسى الواضحان في عينيه.قام عقلها الباطني تلقائيا بعمل مقارنة بينها وبين ريما لتجدها بارعة الجمال وقد تتغلب على جمالها هي، قبضة حديدية غلفت قلبها وهي تراجع حديث ريما عنه في المقال لتستخلص أنهما حبيبان ربما حتى قبل أن يعرفها وتعرفه، استأذنت من والدتها لتصعد إلى غرفتها، شيعتها والدتها بقلق حتى اختفت.رمت بثقلها على السرير وهي تطالع السقف، أغمضت عينيها لتحرر دمعة يتيمة هربت من بحرها الذي هاج كلما تذكرت صورتهما سويا ابتلعت غصة حادة في حلقها وهي تغمض عينيها بقوة هامسة لنفسها: كل شيء كان مزيفا، حتى المشاعر.
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسعانتصف الليل وماتزال نور تحادث مجد عبر تطبيق الواتساب فيديو، لم تصمت للحظة وهي تخبره بإسهاب عن إعجابها بتصميمات ريما، خاصة و أن العرض أصبح حديث مواقع التواصل الاجتماعي.قد كان مجد يستند برأسه على يده، وابتسامة ملل ارتسمت على شفتيه مستمعا بكل جوارحه إلى حديث نور، ربما لم يفهم أغلبه لكنه فقط سعيد لأنه يراها ويحدثها.هتفت نور بإعجاب واضح وهي تشير بيديها: ياآلهي مجد كم أعجبتني هذه المجموعة، خاصة ثوب الزفاف، يا آلهي، إنه أسطورة حقيقية.ضحك مجد بخفة فانتبهت لضحكته، عقدت حاجبيها بانزعاج جلي وهي تعتدل في جلستها قائلة بغيظ طفلة: لماذا تضحك؟أبدل ضحكته بابتسامة طفيفة لينظر إليها وقد زادت جاذبيتها فأجاب بهدوء: لأنك منذ نصف ساعة كاملة وأنت جالسة أمامي تمتدحين تصاميم ريما ولم تعيريني انتباهك أبدا.أخفضت أنظارها وهي تزم فمها بانزعاج من نفسها فهو محق، بينما أضاف مجد بنبرة لئيمة: الى الآن لم اسمع كلمة غزل واحدة، ولم تسأليني كيف حالك حبيبي؟ متى ستعود حبيبي؟ اشتقت اليك حبيبي؟احمر وجهها بشدة وهي تنتهره بضعف: مجد.عاد ليضحك من جديد من خجلها اللذيد منه، سألته بعد لحظات: متى ستصل طائرتكم؟أعتقد الساعة الواحدة بتوقيتكم، ولا تنسي أنتي مدعوة إلى العشاء غدا لتتعرفي إلى ريما.تبسمت بخفة وهي تتمتم: تصلون بالسلامة ان شاء الله.ودعها مجد وأغلق الهاتف، استلقى على ظهره شاردا في السقف وعلى وجهه تلك الابتسامة، مستذكرا لقاءهما للمرة الأولى منذ عام تقريبا.Flash Back.كان مجد يشعر بالملل الفظيع في الجامعة، فهو على الرغم من تسجيله فيها منذ ثلاث سنوات، إلا أنه لم يحضر الا قليلا، لم يعد إلى بلاده طمعا في التعلم ولا بسبب الغربة القاتلة كما ادعى وأقنع شقيقه، بل كان جل همه بأن يتخلص من الطبيب النفسي الذي كان يتولى علاجه في لندن، ذاك الأحمق المزعج حسب ادعاءاته ليس طبيبا إنما هو ( خراب بيوت).لذا قام مجد بإقناع أدهم بأن يعودا إلى البلاد ليتعلم في الجامعة التي لم يحضر من محاضراتها الا مايعد على الأصابع، الحقيقة أنه كان يحضر فقط ليظن أخاه بأنه متحمس للدراسة، بينما كان يقضي معظم وقته يتسكع في مقهى الجامعة وحيدا، بعد فشله في إنشاء صداقات.خرج من المقهى بالتزامن مع انتهاء دوام الكلية، وصل إلى حيث ينتظر سائق الأجرة الذي هاتفه مسبقا وهو يلتفت حوله بروتينية، لفت انتباهه فتاة تمشي مسرعة، وهي تتكلم مع أحدهم في الهاتف وتقطع الشارع دون انتباه منها، لاحظ سيارة تتقدم بسرعة تجاهها، خفق قلبه بشدة وقد اختلطت المشاهد في عينيه بين السيارة المسرعة والفتاة المتهورة وذكريات قديمة من حادث سيارة مخيف.رمى كتبه على الأرض، جرى بلا وعي منه وهو يصرخ بها: يا آنسة!تطلعت إليه نور بعدم فهم فيما السيارة تقترب ويبدو أن صاحبها شاب متهور حتى أنه لم يضغط على بوق السيارة لينبه من أمامه، رمى مجد بثقله ليحاوط نور ويرتمي معها على الرصيف.تجمع عدد من الطلاب لرؤية ما حدث، فيما كان مجد يحاوطها بحماية وارتجافة كبيرة بجسده، ونور المحاطة بين أحضانه وهي ترمش بعينيها بدهشة ولم تستوعب بعد ماحدث، تعالت الهمسات من حولهما فتنحنحت نور قائلة بهمس خافت: لو سمحت؟حررها من بين يديه وهو عاقد حاجبيه، أخفضت نظرها بحرج من زملائها الذين تجمعوا حولهما فقط للهمس عليهما دون أن يمد أحدهم يد المساعدة لها، نفضت الغبار عن كنزتها الخضراء و بنطالها الجينز الأزرق، فيما وقف مجد من فوره و أنفاسه تتسابق كمن دخل في سباق، رفعت رأسها إليه عندما انفجر بها صارخا: ألا تنتبهين إلى طريقك؟ كيف تقطعين الشارع وانتي تتحدثين في الهاتف دون الانتباه إلى السيارات؟رفرفت بأهدابها وهي لا تعي سبب انفجاره بها، نعم أنقذها لكن هذا لايعطيه حق الصراخ في وجهها، زمت فمها وكانت على وشك البكاء وهي تتمتم بضعف: أنا آسفة أعتذر.ضغط على شفتيه ثم تحدث من بين أسنانه المطبقة: إياك وأن تعيديها مجددا، فهمت؟إما أن هذا الشاب أحمق أو أنه غبي؟من هو ليتحدث معها بهذه اللهجة الغاضبة؟انتفضت بقوة وقطع سيل أسئلتها لنفسها صراخه بها مجددا: فهمتي؟حركت رأسها إيجابا مرات عدة وهي تردد: نعم فهمت، فهمت.تمالك أنفاسه قليلا، انتبه لتوه لتلك الدموع التي تشكلت داخل عينيها البنية القاتمة، شعر بإحساس عجيب يجتاحه ليشعره بأنه آلمها ويجب أن يعتذر، لم يتحمل دموعها فامتدت يده ليساعدها على الوقوف قائلا بهمس هادئ: هاتي يدك.حتما إنه مصاب بانفصام في الشخصية، هذا مافكرت به نور من تقلبه المفاجئ، ازدردت ريقها وهي تعطيه يدها ليساعدها، ماإن وقفت حتى تمتمت بخفوت: شكرا.نظر حوله ليسدد لأولئك الفضوليين نظرة نارية ثم صاح بهم: هل هناك عرضا ما وقد أتيتم لمشاهدته؟تبادل الشبان والفتيات المجتمعين النظرات المستغربة فيما بينهم، ثم انفض الجمع عندما صاح مجددا وهو يصفق بيديه: هيا تفضلوا من هنا، اذهبوا إلى دروسكم ومحاضراتكم هيا.ظل يناظرها وهي تنفض التراب عن نفسها، ربما انزعجت لصراخه لها لكنها أيضا ممتنة لأنه أنقذها، فلولاه لكانت الآن تجاور والدها الذي تم نقله إلى المستشفى بعد حدوث أزمة قلبية مفاجئة له أثناء عمله.امتدت يده نحوها ليتمتم بنبرة هادئة: أعتذر إليك أولا، و اسمي مجد ثانيا.رفرفت اهدابها للمرة التي لاتعرف عددها وهي تطالع وجهه باستغراب، تنحنحت بحرج عندما لاحظت يده الممتدة، تحدثت وهي تصافحه قائلة: أشكرك جزيل الشكر لإنقاذي، وانا اسمي نور.نور!اسم على مسمى، كتلة من النور والبهاء يراها أمامه وقد نسي يدها داخل كفه، تاه في عينيها منذ ذلك الحين ولم يجد طريقه بعد.أبي، حبيبي، أرجوك يجب أن تذهب معي لإجراء التحاليل!هتفت بها أماليا بيأس وهي جالسة أمام والدها تحاول إقناعه عبثا بالذهاب معها إلى المشفى، فيما كان عمار يعقد ذراعيه أمام صدره ويزم فمه هاتفا بعناد الأطفال: لا أريد أماليا، تعلمين أنني أكره المشافي.أشاح بوجهه إلى الجانب الآخر ليبدو حقا كطفل لم يتجاوز الست سنوات بعد، زفرت أماليا بضيق وهي تمرر يدها بين خصلاتها الشقراء، ضيقت عينيها بتفكير ثم خطر لها بال، ابتسامة ماكرة رسمتها على محياها وهي تقول لوالدها بنبرة خبيثة: سيد عمار، ألن تذهب إلى المشفى معي؟هز والدها كتفه علامة على رفضه، فاستقامت من مكانها لتتجه صوب الباب وهي تضيف مصطنعة عدم المبالاة: كما تشاء أبي، لكنك هكذا ستفوت على نفسك غداء معتبرا.التفت والدها إليها ليسألها مقطبا جبينه بشك: ماذا تقصدين بغداء معتبر؟حركت كتفيها كما فعل هو، مطت شفتيها وهي تخبره ببساطة: لو أنك تذهب معي لأخذتك فور انتهائنا إلى المطعم وستأكل مايحلو لك هناك.سال لعابه وارتخت تعابيره وهو يسألها: حقا أماليا؟نظرت إليه نظرة ثعلب وهي تشير له بالإيجاب، ثم أضافت وهي على وشك الخروج: لكنك لا تريد الذهاب، فأنا سأتركك على راحتك.هتف من خلفها بحماس: لا لا أماليا عزيزتي سأذهب سأذهب.التفتت إليه بابتسامة عريضة وهي تقول مشيرة بيدها: أمهلني خمس دقائق فقط لأبدل ثيابي ثم نذهب بعدها.ركضت أماليا من فورها قبل أن يغير والدها رأيه، اختفت ابتسامته السعيدة بخروجها، أسند رأسه إلى ظهر السرير خلفه، لقد وافقها على مضض، يعتقدون أنه يكره المشافي لأنها تذكره بضعفه فقط؟قطعا لا، فهو يكرهها أيضا لاقترانها بذكرى سيئة له وسعيدة في الوقت ذاته، هناك خسر والدة أماليا عشقه الأول والأخير، بعد ولادتها بيومين فقط، رغم أنه أيضا رزق بأماليا وتعرف هناك إلى عليا الحنونة، لكن مكانة سيدرا لم تتغير في قلبه بمرور السنوات، لذلك رفض أن تنجب عليا بعد زواجهما متعللا بصغر سن أماليا، ولم تأتي نور إلى الدنيا إلا بعد ثماني سنوات كاملة.كلما ذهب إلى هناك يشعر بضعفه وقلة حيلته، يخشى يوم توافيه المنية وهو لم يطمئن بعد على بناته ووالدتهن، ابتسم لنفسه ساخرا: وكأن بيدك حيلة!وصلت عائلة أدهم إلى الديار أخيرا، لم يحادث ريما وهي لم تعاود سؤاله لانشغالهم طيلة اليوم الماضي بتوضيب الأغراض والثياب تمهيدا لعودتهم برفقة ريما.توقفت السيارات أمام الباب الرئيسي للمنزل الضخم، كان مؤلفا من طابقين، غرف واجنحة النوم في الأعلى وفي الأسفل كان المطبخ و وغرفة مكتب وصالة كبيرة لاستقبال الضيوف.توافد العمال والعاملات المنزليات في المنزل لنقل الحقائب الكثيرة إلى الأعلى تحت إشراف( أم ميسر) مدبرة المنزل، التي تعرفت إلى ريما وعرفتها بنفسها ثم أرشدتها إلى الجناح الذي خصص لها ولزوجها.كان جناح ريما كبيرا مؤلفا من غرفتين، إحداها للمبيت تحوي سريرا كبيرا ومرآة وأريكة صغيرة، والأخرى للثياب وداخلها أيضا أريكة أخرى لكنها أكبر، تبدو أقرب إلى السرير منها إلى أريكة، إضافة إلى حمام كبير، تأملت ريما الغرفة بابتسامة رقيقة لا تفارق محياها أبدا، تنفست بعمق وهي تشعر لتوها بمعنى الحياة، هذه المرة الأولى التي تعود بها إلى بلادها بعد غياب اثنتي عشر عاما كاملة.قطع عليها تأملها دخول أدهم حاملا إحدى الحقائب المخصصة للثياب ووضعها بجانب الأخريات، استدارت نحوه فوقف ليخاطبها بجمود: هل أعجبك الجناح؟ إن كان هناك مايزعجك فبإمكاننا تغييره.أشارت له بالنفي متحدثة: لا عزيزي، لا أريد تغيير شيء فيه.أشار باستحسان وهي يردف مقطب الجبين: حسنا، غرفة مجد قريبة من جناحنا، لذا سنضطر لمقاسمته سويا ريثما يتزوج وينتقل بعدها إلى جناحه في الطرف الآخر من الطابق.اكتفت بالإشارة له بالإيجاب ليضيف ببرود: بإمكانك أن ترتاحي ريما، المنزل فيه خدم وفيه أم ميسر وهم سيقومون بكل شيء فلا تتعبي نفسك، ولا تنسي موعد العشاء مع مجد ونور.ألقى كلماته ليستدير خارجا من الجناح، قبل أن يوقفه نداؤها باسمه، التفت إليها باستغراب فتحدثت: أدهم ألا تريد إخباري بما يضايقك؟كاد ان يتحدث لكنها قاطعته وهي تكتف يديها أمام صدرها لتقول بنبرة هادئة لكنها حازمة: وأرجوك لا تخبرني أنه العمل وما إلى ذلك لأنني لن اصدقك.علم أنه لن يستطيع الهرب أكثر، زفر من أنفه بتعب ثم سار نحو الأريكة ليرمي ثقله عليها ويحني ظهره بعجز، تنهد بقوة قبل ان يتكلم بنبرة متألمة مكتفيا بكلمة واحدة: قابلتها.قطبت جبينها بعدم فهم فأردفت: لم أفهم من تقص...قطعت سؤالها تزامنا مع اتساع عينيها ورجفة فكها، وقد اعتلت الدهشة ملامحها وهي تهمس بصدمة: أماليا؟أشار لها برأسه إيجابا ومايزال مطرقا للأسفل، وضعت يدها على فمها لتتحدث بالإنكليزية: ياآلهي!ازدردت ريقها ثم سألته: أين؟ وكيف ومتى؟ابتسم ساخرا وهو يرفع رأسه إليها مردفا: لن تصدقي إن أخبرتك، أماليا هي شقيقة نور الكبرى.زادت دهشتها مرفقة بالصدمة، مررت يدها على رأسها كمن يشعر بالضياع، بللت شفتيها وهي تمشي لتجلس بجانبه مرددة: معقول؟ ياآلهي ماهذه الصدفة العجيبة؟لم يعلق أدهم بشيء، فتحدثت ريما من جديد: كيف تعاملت معك أخبرني؟قهقه بلا مرح على سؤالها الساذج من وجهة نظرهثم أردف بشيء من التهكم وهو يدير رأسه إليها: وكيف تتوقعين معاملتها لي وقد تفاجأت برؤيتي هي الأخرى؟ أتراها أخذتني بالأحضان سعيدة لرؤيتي مثلا؟تحولت ملامحه إلى الخيبة ثم أضاف باختناق و غصة حارقة تشعل صدره: أماليا تكرهني ريما، تكرهني لدرجة أنها لاتطيق رؤيتي أمامها، لدرجة أنها مسحت ذكرياتنا سويا من ذاكرتها.رغم الصدمة التي استولت عليها من حديثه لكنها استطاعت رؤية تلك الدموع التي تحجرت داخل مقلتيه، ياآلهي أدهم يبكي؟لم يفعلها سوى مرتين قبلا والآن الثالثة، ازدرمت ريقها بارتباك وهي تمسح على ظهره بحنو، ثم تحدثت: أخبرني أدهم، أخبرني بكل شيء علك ترتاح.مازال الوجوم هو المسيطر عليهما منذ أن انتهى أدهم من سرد كل ماحدث بينه وبين أماليا في مكتب الأخيرة، حتى تحدثت ريما بنبرتها الهادئة: الحقيقة لا أستطيع لومها، فهي محقة.رفع رأسه إليها كطلقة رصاص يخبرها باستنكار لم يخلو من التهكم: أعلم أنها محقة بالمناسبة، لكننا أحيانا نحتاج إلى من يواسينا ولو بكذبة أمل زائف!نظرت إليه بعتاب وهي تميل برأسها: تعلم أنني لست هكذا.أشاح بوجهه إلى الجانب الآخر، لكنه أعاده إليها مع ملامح دهشة واستنكار معا حينما أضافت بحزم: أخبرها أدهم، أخبرهابكل شيء من البداية.لثوان نظر داخل عينيها ثم ابتسم ساخرا: أخبرها بماذا بالضبط؟رفعت كتفيها ببساطة: الحقيقة أدهم، ربما لو أنها عرفت الحقيقة لعذرتك.مازالت ابتسامته متهكمة وهو يقف أمامها ثم يجيبها باستنكار ساخر: أي حقيقة تقصدين؟ حقيقة أنني تركتها مرغما ولم أستطع نسيانها طوال تلك السنين؟ أم حقيقة أنني كنت جبانا لدرجة أنني فضلت أن أرى الخيبة في عينيها على أن أبرر لها ما لا أستطيع؟قاطعته بحزم وقوة وهي تقف لتقابلة: أخبرها الحقيقة كاملة بلا تسويف أو تدليس.طالعها بجمود فيما أضافت وهي تعقد يديها أمام صدرها: أدهم، من حق أماليا أن تعلم لم تركتها فجأة هكذا دون مقدمات، لاتنسى أنك وعدتها بأنك ستخطبها ثم تعود بعد أسبوع لتخبرها بأنك تزوجت؟ أتعلم مافعلته بها يومها؟أدار لها ظهره بينما تابعت هي بانفعال طفيف: انت ببساطة انتزعتها من سماء الأحلام الوردية لتسقطها إلى الجحيم دفعة واحدة.هز رأسه بيأس وهو على وضعه فتابعت ريما بنبرة ذات مغزى: ولا تنسى أنك ودعتها على الهاتف مع أنها كانت تبعد عنك عدة أمتار فقط، لذا برأيي فهي محقة بالكامل بغضبها منك.شعر أدهم بالغباء لبقائه والاستماع إلى حديث ريما الذي لن يؤتي بنتيجة، مشى خطوتين لتخاطبه بنبرة حملت معها الأمل: لربما إن أخبرتها لسامحتك أدهم، فكر في الأمر.التفت نحوها ليصيح بها بقسوة لم تعهدها منه: أخبرها بماذا بالضبط ريما؟ أأقول لها أنني تزوجت ابنة عمتي فقط لأنها رغبة أبي ومجد؟ أم أخبرها أنني متزوج منذ اثني عشرة عاما وأعيش مع زوجتي كالأخوة؟صاحت ريما بعناد: نعم، حدثها بهذا أليست الحقيقة؟قهقه ساخرا ليعقب: بالله عليك ريما أنتي بوعيك؟أوتظنينها ستصدق حديثي الذي يعتبر ضربا من الجنون؟نطقت بثقة: هي تحبك وستصدقك بالتأكيد.رفع يده في وجهها قائلا بصراخ: هل تسمعين نفسك ريما؟ لو كان أيمن من يقف أمامك وأخبرك بما تقولينه أكنت ستصدقينه؟ارتخت تعابيرها المشدودة بثقة ليحل محله الصدمة، فغرت فاهها وتألم قلبها لمجرد نطقه بتلك الكلمات، فيما تابع هو صراخه غير عابئ بتلك التي ضغط على جرحها دون وعي منه: حسنا وبعد، لنفرض أنها صدقتني ما الذي سيحصل بعدها؟ازدردت ريقها وهو تخفض أنظارها أرضا حتى تمالكت نفسها، ثم رفعت رأسها مجددا وهي تقول بشبح ابتسامة فاترة، متجاهلة حديثه الموجع لها: تتزوجها.قهقه مجددا بلا مرح مردفا: نتزوج؟ كيف؟ أتظنين أنها ستقبل؟اتسعت ابتسامتها الرقيقة لتخفي وجعها وهي تجيبه بكل بساطة: سبق وأخبرتك، هي تحبك وستوافق بالتأكيد.عادت السخرية لتحتل ملامحه وهو يصرخ بصوت عال نسبيا: ومجد؟لوهلة اختفت ابتسامتها وتجمدت عيناها على وجهه كمن فطن إلى وجود مجد، بينما تابع هو: هل فكرتي بموقف مجد من زواجي بها؟ازدردت ريقها بتوتر وهي تشيح بوجهها عنه، ثم سمعته يضيف: يستحيل أن أضع أماليا في موضع شبهات أو أن تكون زوجة ثانية، لذا سنضطر لأن نتطلق، أتعتقدين أن مجد سيوافق بهذه السهولة على طلاقنا؟سكتت دون إجابة، فأشاح أدهم بوجهه إلى الجانب الآخر وهو يزفر باختناق، مرت ثوان حتى نطقت ريما دون أن تنظر إليه بنبرة هادئة ومعاتبة في آن: لولا أنني أعرفك جيدا أدهم لجزمت بأنك تحملني مسؤولية كل ماحدث!تجمد مكانه للحظات، التفت نحوها بوجه شاحب ليراها تبتسم بشكل مريب، ليعلم أنها تتألم وتخفي ألمها خلف تلك الابتسامة.
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل العاشرماااماااااااا.ليست إنذارا من زلزال قادم، بل هي صرخة نور التي قلبت غرفتها رأسا على عقب، كانت أماليا في هذا الوقت قد دخلت لتوها مع والدها بعد أن أجريا التحاليل اللازمة لعمار، سمعت صرختها تزامنا مع رؤيتها لعليا تخرج من غرفة المكتب حيث كانت تقوم بتدقيق بعض الأوراق، فتقدمت نحوهما.جلس عمار بتعب على الأريكة وهو يسأل زوجته بجدية: ماالأمر عليا؟ لم نور تصرخ هكذا؟ابتسمت بخفة وهي تجيبه بقلة حيلة: عزيزي انت تعرف ابنتك، لربنا أضاعت شيئا ما وستسألني عنه.ربتت على كتفه لتضيف: ارتح قليلا عزيزي، وأنا سأصعد لأراها ثم أعود إليك.حرك رأسه باستحسان، فيما استدرات عليا لتصعد إلى غرفة نور، طالعت أماليا والدها بابتسامة بشوشة، ثم انحنت لتقبله على رأسه قائلة: أطال الله في عمرك أبي.صعدت خلف عليا فيما ظل عمار يراقب ابنته الغالية حتى اختفت، عقد حاجبيه بتفكير بطريقة لتتخلص أماليا من عقدتها من الزواج.لقد أخبره صديقه مدير المشفى الذي تعمل فيه أماليا بما توارد إلى مسامعه من خطبة ضياء لأماليا وما تبعه ذلك من مرضه وتركه المشفى نهائيا بعد رفضها.خطرت له فكرة مجنونة وقد تكون أنانية أيضا، لكنه الاحتمال الوحيد الذي سيدفعها دفعا لاختيار قرارها، تبسم بخفة وقد انتوى أن يحادث صديقه الوفي ومحاميه، قاسم.صاحت عليا من خارج الغرفة: خيرا يانور؟شهقت بخفة تطالع حال الغرفة البائس وحالة نور وهي تبحث بين أغراضها عن شيء ما يبدو أنه مهم.رفرفت بأهدابها وهي تقول بصدمة: هل ضرب إعصار ما هذه الغرفة ام ماذا؟وقبل أن تجيبها كانت أماليا هي الأخرى تقف خلفها وتسأل بدهشة: ياآلهي، لم انقلبت غرفتك إلى ساحة مصارعة حرة نور؟أجابتها عليا بتهكم: قولي ساحة حرب ولا تخافي!زفرت نور بضيق من سخريتهما لتنطق بصوت مختنق: أرجوكما توقفا أنتما، فلست بمزاج جيد للمزاح.وجهت كلامها تاليا إلى والدتها تسألها: أمي، هل رأيت الشال الحريري الأسود،؟رفعت عليا كتفيها مجيبة: لا أعلم يابنتي، هل بحثت عنه جيدا؟نفخت نور مجددا ثم سمعت سؤال أماليا: لم تبحثين عنه؟رفعت أنظارها إليها لتخبرها بعين ضيقة متفحصة: لقد دعاني مجد إلى العشاء الليلة لأتعرف بزوجة أخيه.ضغطت أماليا على شفتيها محاولة إخفاء ارتباكها وهي تحرك رأسها بتفهم.زاد شك نور فقابلتها بجسدها وهي ترمقها بشك ثم قالت: أماليا، الشال الأسود لديك، صحيح؟تبسمت بارتباك وهي تتلمس رقبتها قائلة: الحقيقة نعم.صرخت نور بغضب و ركضت إليها فهربت منها أماليا وأصبحتا تدوران حول والدتهما، صاحت نور: لم أخذته؟ تعلمين أنني لا أحب أن يلبس أحدهم من ثيابي؟ضحكت أماليا وهي تحاول الهرب منها: لقد استعرته منك يوم حفلة ميلاد هدى، ونسيت أن أخبرك.هتفت أختها من بين أسنانها وهي تحاول الإمساك بطرف ثوبها: ومنذ متى تلبسين الفساتين؟ردت أماليا مصححة: إنه شال وليس فستانا.ركضت نحو المرآة لتلحق نور بها وهي تقول: شال او فستان لاتلبسي ثيابي.بحركة سريعة ودون أن تلاحظ، كانت نور تربض تحت إبط أماليا تثبتها من رقبتها في حركة قتالية، ثم عبثت لها بشعرها فأصبح فوضوي، و أدارتها الى المرآة لترى نفسها، ثوان حتى انفجرت ثلاثتهن ضاحكات من منظر نور المضحك، حررتها أماليا لتقف أمام المرآة ترتب خصلاتها المبعثرة وهي تتمتم بابتسامة: فعلا كما يقول عنك مجد، أبو علي.تجمدت الابتسامة على شفتيها، مالبث أن تحولت ملامحها من السعادة إلى التجهم، ازدردت ريقها لتقول بصوت حزين وهي تخطو خارجا: سأبعث لك الشال مع سارة.خرجت تحت أنظار نور المستغربة، تلقائيا التفتت نحو والدتها متمتمة: ما بها أماليا؟لم تجبها والدتها بل رمقتها بنظرة لائمة قبل أن تخرج هي الأخرى.استغربت من تبدل حال شقيقتها، فهي دائما ماتلاطف أماليا بكلمات من هذا النوع فلم تقصد التقليل من شأنها، زفرت بضيق حينما دخلت سارة تحمل في يدها شالا حريريا أسود، تناولته نور منها ثم أخذت نفسا عميقا، قررت أن تصالحها وتعتذر منها فور عودتها من عشائها المرتقب.لا يعلم فعلا مادهاه، لم صرخ بها وذكرها بأيمن؟ لم حادثها بهذه القسوة؟حقا لا يعرف بما يجيبها بعدما سمع جملتها الأخيرة، هو أكثر من يستطيع قراءة ريما من نبرتها وحركاتها وحتى ابتسامتها، لقد آلمها حقا.ازدرد ريقه بارتباك محاولا الحديث: ريما أنا...قطعت حديثه عندما التفتت نحوه دون أن تخبو ابتسامتها المزيفة، ثم تحدثت بذات النبرة الهادئة: المشكلة في قصتنا أدهم أن لا أحد له ذنب بما جرى، لا والدك ولا مجد، ولا حتى أنا أو أنت.اكتفى بالصمت في حين تابعت هي: فوالدك كان خائفا علي ومجد كان صغيرا و تحت تأثير الصدمة بعد ذلك الحادث، لذا لا أحد هنا لتلقي اللوم عليه.ازدرد ريقه بصعوبة وهو يحاول الحديث لكنها أضافت بعتاب: أنت محظوظ بالمناسبة، على الأقل لقد كانت لديك الفرصة لتودع أماليا وتنهي علاقتكما، أما أنا فلم تسنح لي الفرصة برؤية أيمن للمرة الأخيرة.نفخ بضيق من نفسه وهو يقترب منها قائلا بنبرة هادئة: أنا آسف ريما، حقا لا أعرف كيف قلت هذا الكلام.ظلت تحافظ على زيف بسمتها وهي ترد عليه: لا بأس أدهم، انا اعذرك فقد كنت غاضبا.تنفس بعمق بعد أن وصل أمامها، ربت على كتفها بابتسامة مقتضبة و هو يضيف: ارتاحي الآن ولا تفكري بأي شيء، ولا تنسي العشاء.أشارت له بالإيجاب فرمقها بنظرة معتذرة، ثم رحل تاركا إياها تنهار على سريرها، لتحرر عبراتها المكبوتة وأخيرا، هي تعلم أن أدهم لم يقصد أذيتها لكنه فتح جرحها القديم، جرح لطالما جاهدت في تجاهله علها تنساه.نزل على الدرج بشرود وتثاقل حتى وقف بمنتصفه، تذكر كل كلمة دارت بينهما ليكتشف كم هو وضيع، نفخ بضجر من نفسه وهو يمرر يده بين شعره، كيف حدث كل هذا وخانته مفرداته؟أغمض عينيه يشدد عليهما بقسوة وهو يتذكر رؤيته لأيمن، فتح عينيه مجددا وقد خطر في ذهنه أن يسأل عنه، مجرد فضول فقط.أعاد نظره للخلف إنها المرة الأولى التي يتشاجران بها ويخطأ في حقها، وعلى مايبدو أنها لن تكون الأخيرة.وقفت أماليا على باب شرفتها وهي مغمضة عيناها، تنفست بعمق رغم البرودة الطفيفة هذا المساء لكنها تشعر بالاحتراق داخلها، لم لم تستطع المضي قدما وتنساه كما فعل هو؟شعور غريب يضرب ساكن يسارها كلما تذكرت صورة أدهم برفقة ريما وكلامها عنه، حديثها يؤكد أنها تعرفه منذ زمن طويل وقبل أن تعرفه هي، فكيف لم تنتبه لوجود شخص آخر في حياته؟أخذت نفسا عميقا طرحته بثقل، فتحت عيناها تتطلع إلى القمر الذي اتخذ شكل الهلال هذه الليلة، ليزيد ظلام الليل من ألمها، كأن القمر أيضا يستكثر عليها أن يضيء ليلتها؟أسندت رأسها وكتفها إلى عضادة باب الشرفة، كتفت يديها و أغمضت عينيها بقوة وهي تغوص في ذكريات قديمة.Flash Back.كانت أماليا دائما الأولى على مستوى مدرستها، حتى انتقل ذات يوم شاب جديد إلى مدرستها الخاصة، و كان أدهم قد انتقل حديثا مع عائلته إلى الحي، فنقله والده إلى المدرسة الثانوية في حيه لإن مدرسته القديمة كانت بعيدة عليه.تحدث الجميع أن هذا الشاب ذكي جدا وكان أيضا الأول على مدرسته.دلف أدهم إلى المدرسة وبرغم أنها المرة الأولى التي يدخلها إلا أنه كان واثقا من نفسه بشكل كبير، أثارت شخصيته المتزنة وكلماته الرزينة إعجاب الفتيات والشباب على حد سواء، ماعدا أماليا التي كانت تنظر إليه بصفته منافسها على لقب( أذكى طالب في المدرسة).مازالت تذكر ذلك اليوم جيدا، كان الطلاب جميعهم قد دخلوا قاعة الصف، ليدخل أدهم بعد قليل برفقة المعلمة التي عرفتهم عليه، ثم التفتت ناحية أماليا لتضيف المعلمة: وهذه يا أدهم أماليا الصاوي، هي أذكى طالبات المدرسة، ولنر إن كان باستطاعتك أن تنحيها عن كرسيها.صوبت أماليا نحوه نظرة غيرة مبررة، أما أدهم فقد التفت حيث أشارت المعلمة ليجد بدرا يوم اكتماله، جذبه بحريها قبل وجهها الصبوح، تأملت رماديتيه لترى فيهما وميضا جمع الذكاء والقوة، اصطادتها عيناه منذ ذلك اليوم، ولما تزل أسيرتهما.صوت بوق سيارة مجد أفاقها من شرودها، تطلعت إلى البوابة الرئيسية للمنزل فرأت شقيقتها وهي تسير باتجاه خطيبها، ترجل مجد ليفتح الباب لنور في حركة نبيلة، ثم عاد خلف المقود متجها إلى المطعم حيث سيلتقيان مع شقيقه وزوجته.تنهدت بحزن وهي تتذكر كيف آلمها حديث شقيقتها، برغم أنها ليست المرة الأولى التي تقولها لها بمزاح لكنها استثقلتها، اعتصرت عيناها بقسوة مالذي يجري معك أماليا؟ لم كل هذه الحساسية والغضب الغير مبرر ممن حولك؟شعرت بالبرد يكتسح عظامها لكن ليس صدرها المشتعل، دلفت أخيرا لتحادث الطبيب المسؤول عن حالة والدها للاطمئنان على نتيجة التحاليل، فقد كانت تصرفاته مريبة اليوم.كانت ريما ذات روح مرحة وسلسة المعشر بنسبة كبيرة، فلم تشعر نور بالغربة أو الخجل منها، كانوا بانتظار التحلية مابعد العشاء حينما سألت ريما نور الجالسة بجانب مجد: إذا نور، لقد سمعت أنك تدرسين إدارة الأعمال تماما مثل مجد؟تبسمت نور بخفة وهي تومئ لها بالإيجاب: نعم صحيح، وأنا الآن أتدرب على إدارة أمور الشركة الخاصة بوالدي على أن أترأس مجلس إدارتها فورا بعد تخرجي.حركت ريما رأسها باستحسان مردفة: هذا جميل، أتمنى لك التوفيق.هزت نور رأسها مجاملة، أشار أدهم لشقيقه بأن يتبعه ثم قام من مجلسه موجها حديثه إلى كلا من نور وريما: عم إذنكما لحظة سيدتي؟تابعتهما نور بحاجبين معقودين حيث وقفا يتهامسان بشيء ما بعيدا عنهما، حاولت نور اختلاق حديث مع ريما لتتعرف إليها أكثر فسألتها: لقد أخبرني مجد أنك لم تزوري البلاد مذ غادرتها قبل اثني عشر عاما، كيف اعتدتي على الابتعاد كل هذه المدة؟ خاصة بعد عودة مجد والسيد أدهم إلى هنا؟تبسمت بخفة مجيبة: لن اقول انه كان أمرا سهلا، لكن اعتقد أن الدراسة ثم العمل ألهياني قليلا، ثم أن مجد وأدهم كانت يزورانني باستمرار كل فترة.استغلت ريما الفرصة فأجلت صوتها لتسألها بدورها:لقد علمت أن لك شقيقة واحدة نور، أليس كذلك؟أولتها جميع حواسها وهي تجيبها ببسمة صغيرة: نعم، أماليا وهي طبيبة نسائية.حركت رأسها بتفهم ثم تساءلت متصنعة عدم الاهتمام: وكيف هي علاقتكما؟ أعني هل أنتما متفقتان أم؟سكتت بطريقة موحية فأجابت الأخرى: لا، اماليأ إنسانة لطيفة وعلاقتنا رائعة للغاية.كتفت يديها على الطاولة أمامها لتقول وهي تتصنع التفاجؤ: حقا؟ لقد شوقتني لرؤيتها والتعرف بها.سكتت مجددا لتعود وتسأل: وهل هي جميلة مثلك؟تحدثت نور بحماس: لا إنها لاتشبهني، أتريدين رؤية صورة لها؟رفعت ريما حاجبيها بانتصار فقد وصلت إلى غايتها، فأردفت بلا مبالاة مصطنعة: هل معك صورة لها؟عبثت نور بحقيبتها لتخرج هاتفها وهي تضيف: أماليا عادة لا تحب الصور ابدا، لكنني أخذت هذه الصورة يوم حضر مجد والأستاذ أدهم لخطبتي.حاولت ريما الابتسام بينما تنتظر نور لتريها الصورة، فهي لم تكن تعرف شكل أماليا من قبل، وحاولت أن تجد لها صورة ما على مواقع التواصل الاجتماعي فلم تجد.حضر مجد وأدهم ليقطعوا على نور ماكانت تفعله، أحبطت ريما لكنها عادت ورسمت ابتسامة فاترة على محياها حينما وضع أدهم يده على كتفها، والتف مجد ليجلس بجانب نور، تحدث أدهم: الحقيقة لدي إعلان مهم.رفعت ربما أبصارها إليه عندما مد يده يدعوها للوقوف بجانبه ففعلت، تبسم بخفة وهو يقول: ريما أنا...قاطعه مجد صائحا: عزيزي أبو فارس بإمكانك أن تتغزل بزوجتك، فنور قد غدت من العائلة.تحرج كلا من ريما وأدهم لحديثه، فتصنع الابتسام وهو يتابع: عزيزتي ريما، الحقيقة مذ أخبرتنا أنك ستعودين للاستقرار معنا هنا بعد العرض، فكرنا أنا ومجد بهدية نقدمها لك.رفرفت بعينيها بعدم فهم، بينما وضع مجد ذراعه حول كتفي خطيبته وهو يبتسم لها بحب فأخفضت نور رأسها بخجل، عادت لترفعه عندما تابع أدهم: لقد وقع اختيارنا على محل رائع، موقعه مناسب وأيضا هناك محل آخر على الجانب الآخر منه مناسب ليكون مشغلك الذي تحلمين.اتسعت عيناها بدهشة بائنة ثم ابتسمت بامتنان وهي تعانق أدهم مرددة: عزيزي لم تكن بحاجة إلى فعل هذا!؟ربت أدهم على كتفها وهو يضيف عندما ابتعدت عنه: لقد نشرنا في الجرائد عن حاجتنا إلى موظفين وفتيات للعمل في المشغل، فقط عليك الاختيار من بينهم بعد حفلة الخطبة ويكون المحل ومعه المشغل جاهزين لاستقبالكم..كانت ريما سعيدة حقا بهديتهما، فهي لطالما حلمت بأن يكون لها مشغلها الخاص فعانقت أدهم مجددا وهي تتمتم: شكرا أدهم، حقيقة أشكرك من كل قلبي.صاح مجد بمزاح: العناق هذا كله للسيد ادهم؟ وأنا أيضا تعبت في شراء المحل معه وتوضيبه بالمناسبة!تبسمت ريما وهي تمد يدها نحوه لتقول بامتعاض مصطنع: تعال هنا أيها الظريف.خرجت ريما من المدرسة ليتبعها أيمن الذي كان يكبرها بعام واحد، صاح يناديها لتقف بتوتر، وقف هو الاخر أمامها ليلتقط أنفاسه ثم هتف بها: ريما لم تهربين مني؟ازدردت ريقها بتوتر وهي تجيبه بتقطع وصوت خافت: أنا، انا لا أهرب البتة، أنا فقط أريد العودة إلى المنزل.لم يصدقها بالتأكيد، فهو منذ أن اعترف لها بحبه وهي تتهرب منه، فقال بنبرة هادئة: أنا أحبك ريما، صدقي هذا أرجوك..كانت ريما في المرحلة الإعدادية عندما انتقلت والدتها الأرملة مع خالها والد أدهم إلى الحي الجديد، لكنها لم تستطع التسجيل في مدرسة الحي نظرا لعدم وجود شواغر، فوقع الاختيار على مدرسة الحي المجاور، حيث التقت هناك بأيمن، شاب يكبرها بعام واحد، كانت نظراته إليها تعبر عن مدى حبه لها، وقد اعترف لها بأنه يحبها بعد ثلاثة أشهر من لقائهما للمرة الأولى، برغم أنها أيضا كانت معجبة به لكنها لم تجرؤ على الإعتراف له بسبب خجلها الشديد وقتها.ازدردت ريقها وهي تشيح بوجهها عنه ثم تمتمت: أيمن نحن مازلنا صغارا على هذا الحديث.مد يده ليلمس يدها لكنها سحبتها بسرعة وقد زادت دقات خافقها بشكل مفرط، تبسم وهو يجيبها بصدق: الحب لا عمر له ريما، صغارا كنا أو كبارا فالحب واحد، وأنا أحبك صدقيني.اشتعلت وجنتاها خجلا وهي تطرق أرضا، في هذه اللحظة حضر أدهم من مدرسته القريبة ليرافق ريما إلى المنزل الجديد كالعادة، فوجدها تقف مع شاب ما، عقد حاجبيه بتفحص لهيئته ثم صاح خلفها: ريما.هربت الدماء من وجهها وهي تقول بارتعاش دون أن تنظر ناحيته: يا آلهي هذا أدهم!حاول أيمن النظر إليه فنهرته بقوة: أياك أن تنظر إليه.ألقت ثانية واحدة ثم قالت: اسمع أيمن، أذهب دون أن تنظر إلى أدهم، سأخبره أنك تسألني عن كتاب ما.زفر ايمن بضيق لكنه لم يشأ الاعتراض فلربما يسبب لها مشكلة هي في غنى عنها.التفتت ريما إلى أدهم ومشت بخطوات مترددة ثم تحدثت بابتسامة متوترة: كيف حالك أدهم؟ضيق عينيه وهو يسألها: من هذا الشاب؟ ولم كان واقفا معك؟حاولت الحفاظ على بسمتها المهتزة ثم أضافت: إنه زميلي في المدرسة، يسألني عن كتاب التاريخ.طالعها بنظرة تنم عن عدم تصديقها، حاولت أن تبعد عيناها عنه لئلا يكشف كذبتها، فتحدث هو بهدوء: أنت فاشلة في الكذب بالمناسبة.أعادت نظرها إليه فوجدته يبتسم باتساع، أشار لها بأن تجاريه في المسير ثم أردف: لو أنه مجرد زميل لك لما تجمدت مكانك عندما سمعت صوتي، ولا أخبرته بأن يذهب دون أن ينظر نحوي.أغمضت عينيها بقوة في حين تابع حديثه: هل اعترف لك بأنه يحبك ام لا؟توقفت عن السير، فوقف بدوره لتنظر إليه بتردد قائلة: اسمع أدهم، أنت صديقي المقرب قبل أن تكون ابن خالي وبمكانة شقيقي الذي لم يولد.توقفت لثانية لتسيطر على أنفاسها المتلاحقة ثم أضافت بخفوت: لقد اعترف لي بأنه يحبني.أردفت بسرعة قبل أن يسيء فهمها: لكنني لم أجبه بشيء صدقني.ابتسم بخفه وهو يربت على كتفها بخفة: أنا أثق بك ريما وأعلم أنك لن تخطئي أبدا، لكن عليك بالحذر، سمعتني؟أومأت برأسها إيجابا وهي تتمتم: شكرا لك.أضافت بمكر: إذا، متى ستعرفني إلى أماليا؟قهقه بخفة وهو يجيبها: لأعترف لها أولا!لكزته في صدره بخفة قائلة باستنكار: جبان.تحركت من أمامه فورا قبل أن يتبعها صائحا باستنكار: أنا جبان!تعالت ضحكاتهما في الشارع وهو يمازحها، يشدها من شعرها حينا فتنتقم منه وتدهس حذاءه اللامع، وتهرب منه ثم تتعالى ضحكاتهما الطفولية البريئة.عادت ريما من ذكراها على حركة أدهم الخفيفة، حيث خرج من الحمام الملحق بعد استحمامه، كانت ريما تلبس ثيابا منزلية محتشمة، تحركت إلى الخزانة المجاورة لتأخذ منها غطاء ووسادة ثم أخذتها إلى غرفة الملابس حيث ينام أدهم على الأريكة الكبيرة، همس لها شاكرا: تصبحين على خير.بادلته بابتسامة مقتضبة ثم خرجت إلى فراشها، تدثرت بغطائها وماهي إلا ثوان حتى غرقت في أحلامها التي كانت في معظمها ذكريات من ماضيها.