نوفيلا كابوس عشق للكاتبة شاهندة كاملة الفصل الخامس
كانت (عشق)تتنقل بين ضيوفها فى حفل عيد ميلاد طفلها كفراشة جميلة رقيقة، تنظر إلى (منير) بين الحين والآخر، تشعر بسعادة بالغة لسعادته الظاهرة على ملامحه وهو يلعب بين أقرانه، إعتذرت لمحدثها بإبتسامة مجاملة قبل أن تتجه إلى طفلها، لتهندم ملابسه التى هالها اللعب، وجدت (تغريد )تجذبها من يدها إلى أحد الأركان قائلة بلهفة: -هو عاصى مش جاي ياعشق؟
طالعت (عشق)ملامحها الملهوفة بدهشة فإستطردت (تغريد)بإرتباك: -أصل، يعنى، بصراحة جعت وعايزين نفتح البوفيه ونطفى الشموع. قالت(عشق)باسمة: -مش هتبطلى طفاسة ياتغريد، عموما أنا كلمته من شوية وقالى إنه قرب يخلص وهييجى علطول.
ظهرت السعادة على ملامح (تغريد)، لتفسر (عشق)سعادتها لقرب حصولها على الطعام وإرضاء معدتها، تتساءل فى حيرة عن سر تلك الفتاة التى تأكل بشراهة ولكن لا يظهر عليها أبدا، قوامها نحيل يشبه قوام عارضات الأزياء، بينما (عشق)تكتسب الوزن بسرعة ماإن تأكل قطعة من الحلويات.
إتسعت إبتسامتها على إثر أفكارها، لتستطرد قائلة: -سيبينى بقى أمشى عشان أشوف منير وهدومه اللى بهدلها دى. إبتسمت (تغريد) قائلة: -آه طبعا ياحبيبتى، إتفضلى. إتجهت (عشق)إلى طفلها، بينما تابعتها (تغريد)بعينين تنهشهما الغيرة. همست(نهى)قائلة ل(مراد): -شوف بتبصلها إزاي!والله ماأنا عارفة إزاي عشق مش شايفة غيرتها منها ولا عينها دول اللى هيطلعوا على جوزها؟
طالع (مراد)(تغريد)قائلا ل(نهى): -ملناش دعوة يانهى، انتى مش نبهتيها، وهي مصدقتش كلامك وإتهمتك إنك مش عايزاها تصاحب غيرك، هي حرة بقى، تستحمل. قالت (نهى)بحزن وهي تسترجع مرارة الذكرى وتلك الكلمات التى قالتها لها( عشق )فجرحت قلبها: -معاك حق، بس هي جت وإعتذرتلى وأنا قبلت إعتذارها، المفروض إنى كصاحبتها...
قاطعها قائلا بحزم: -بقولك إيه!ملكيش دعوة بالموضوع ده تانى يانهى، خليكى بعيدة عنهم زي مانبهت عليكى، والله لولا عاصى أنا ماكنت جيت النهاردة، تغريد من الناس الوحشة اللى بتأثر على اللى معاها وأنا مش حابب تكونى صاحبتها تانى، ومادام هي لسة صاحبة عشق يبقى تبعدى عن الإتنين، ربنا يكفينا شر أمثالها ويهدى صاحبتك قبل ما تضيع حياتها وهي مش واخدة بالها.
نظرت (نهى)إلى (عشق)التى تعدل من هندام طفلها، ثم تنظر إلى ساعتها بقلق وتتجه إلى المكتب، لتتنهد قائلة: -ربنا يهديكى ياعشق وتشوفى حقيقة تغريد قبل فوات الأوان. قالت (عشق)بقلق: -إنت فين يا(عاصى)؟بتصل بيك مبتردش، قلقتنى عليك. قال (عاصى): -متقلقيش ياحبيبتى، أنا لسة فى المستشفى. قالت عشق بدهشة: -فى المستشفى؟لحد دلوقت! قال مفسرا: -حادثة فى الطريق وإستدعونى فى الطوارئ. عقدت (عشق )حاجبيها قائلة:.
-يعنى لسة هتتأخر؟
قال(عاصى)آسفا: - مش هقدر آجى خالص النهاردة ياعشق، مش قبل الصبح طبعا، الحالات كتير والدكاترة أغلبهم آخدين أجازات ومسافرين ومش هيرجعوا قبل بكرة وأكيد الحالات هنا محتاجانى.
ليختم المكالمة قائلا بعجالة: -بيستدعونى تانى، بوسيلى منير وقوليله كل سنة وهو طيب، واعتذرى للضيوف بالنيابة عنى، أنا أخدت أجازتى من بكرة وهعوضكم أكيد. قالت بإحباط: -حاضر ياعاصى، خد... لم تستطع إكمال جملتها وهو يقطع الخط لتستطرد وهي تنظر إلى هاتفها بحزن قائلة: -بالك من نفسك ياحبيبى. تركت الهاتفعلى المكتب ثم غادرت الحجرة، لتجد(تغريد)أمام الباب تنتظرها قائلة: -مالك ياعشق؟هو عاصى مش جاي ولا إيه؟
هزت (عشق)رأسها نفيا قائلة بحزن: -جالهم حالات فى المستشفى، وقاللى أعتذر لضيوفنا. قالت (تغريد) بلهجة موحية: -يعنى مفيش غير عاصى يشيل الليلة، ماأكيد فيه دكاترة فى المستشفى يغطوا الحالات دى؟
قالت(عشق): -مسافرين.
مطت (تغريد )شفتيها قائلة: -كلهم، غريبة، إنتى متأكدة إن ده السبب الحقيقى فى إن عاصى محضرش حفلة عيد ميلاد إبنه ياعشق؟ عقدت (عشق)حاجبيها قائلة: -قصدك إيه؟! قالت (تغريد): -مش عارفة، مش يمكن عاصى يكون بيلعب بديله مثلا او... قاطعتها (عشق)قائلة فى صدمة: -لأ طبعا مستحيل، جوزى لايمكن يخونى، عاصى بيحبنى ياتغريد. مطت (تغريد) شفتيها وهي تقول:.
ثم سبقتها لتتبعها (عشق)، تتسلل كلمات (تغريد) إلى عقلها فتثير الشكوك بداخلها، تحارب بضراوة كي لا تتغلغل إلى قلبها وتتمكن به، تنفض تلك الأفكار السوداء، فزوجها يحبها ولا يمكن أبدا أن يخونها، هذا هو إيمانها الذى لا مساس به..
لتعاود الشكوك إلى رأسها فتظل شاردة ومنير يطفئ شموع ميلاده بينما أطلت من عيون (تغريد)نظرة إنتصار لاحظتها فقط (نهى)، أقلقتها تلك النظرة ولكنها للأسف لم تستطع فعل أي شيئ، تجاه قلقها.
قال عاصى بحنان وهو يتأمل صغيره: -كل سنة وإنت طيب ياحبيبى وعقبال ميت سنة، هعوضك عن غيابى فى عيد ميلادك برحلة مش هتنساها، نام يامنير عشان بكرة ورانا سفر.
لينظر إلى ساعته التى شارفت على السادسة صباحا فيبتسم مستطردا: -بكرة إيه بس؟النهاردة ياحبيبى النهاردة.
مال يطبع قبلة صغيرة على جبين طفله، ثم غادر الحجرة متجها إلى حجرته يريد فقط أن يأخذ حماما ثم يأخذ زوجته بين ذراعيه لينام قرير العين بعد ليلة عصيبة قضاها بالمشفى، جر جسده المنهك بصعوبة حتى وصل إلى الحجرة ليدلف إليها بهدوء حذر كي لا يقلق منام زوجته، رفع حاجبيه بدهشة وهو يراها مستيقظة تجلس فى سريرهما، ملامحها متيقظة وكأنها لم تنل أي قسط من النوم، أغلق الباب بقدمه وهو يقول بدهشة:.
-انتى لسة صاحية ياعشق؟
قالت ببرود أثار حيرته: -مستنياك. عقد حاجبيه قائلا: -خير ياحبيبتى؟ نهضت تقترب منه حتى توقفت أمامه تقول بملامح مكفهرة: -كنت فين ياعاصى؟ إزداد إنعقاد حاجبيه قائلا: -فى المستشفى، ماأنا قايلك ياعشق. قالت فى قسوة: -وإيه البرفيوم الحريمى اللى أنا شماه ده، بتحطوه للعيانين بدل البنج؟ قال (عاصى): -لأ دى (سوزان)، لما تعبت وحسيت بدوخة، الهانم رشيتلى من برفانها... قاطعته قائلة بسخرية:.
-بس ده مش برفان سوزان اللى متعودة عليه ياعاصى. قال (عاصى): -الظاهر إنها غيرته أو... ليقطع كلماته وهو يحدقها بعينيه قائلا بحيرة: -انتى بتسألى كل الأسئلة دى ليه ياعشق؟عايزة توصلى لإيه بالظبط؟ قالت (عشق)بحدة: -عايزة اوصل للحقيقة يادكتور، للسبب اللى خلاك متحضرش حفلة عيد ميلاد إبنك الوحيد، للست اللى خدتك منى ياعاصى. طالعها بصدمة وهو يقول: -إنتى بتشكى فية ياعشق؟!
كادت (عشق)ان تتراجع وهي ترى ملامحه المصدومة ولكن تلك الظنون تقتلها، تجبرها على المضي قدما فى التعبير عن شكوكها، تحتاج لدليل دامغ يمحى تلك الظنون ويوأدها فى مهدها، لتقول بعصبية: -آه ياعاصى، بشك فيك، انت بقالك فترة متغير ومش عاجبك حالى وياإما بتتأخر فى المستشفى كتير يابتبات فيها، ده غير النهاردة والبرفان اللى مغرقك ده، محتاجة أعرف، بتخونى ياعاصى ولا لأ؟محتاجة أتأكد عشان أرتاح.
تبدلت ملامحه الآن إلى برودة صقيعية أثارت قشعريرتها وأخافتها وهو يطالعها للحظات بصمت، بوجه خال من التعبير قبل أن يقول: -للأسف ياعشق، كان ممكن بتليفون صغير للمستشفى تتأكدى إذا كنت بكذب عليكى ولا بقول الحقيقة، بس إنتى إخترتى تشككى فى حبى وإخلاصى ليكى، إخترتى تصدقى الكل وتكذبينى، ودى كانت اكبر صدمة فى حياتى.
كيف لم تفكر فى هذا؟!.. إتصالا واحدا كان ليدحض كل شكوكها، هو محق، لم تؤمن بحبه بدرجة كافية لتثق به، جرحته بعمق، تدرك هذا من عينيه التى تصدعت من الألم خلف قناع البرودة الذى إحتل ملامحه، كادت أن تتحدث ليقاطعها بإشارة من يده قائلا ببرود: -للأسف مش هينفع تعتذرى زي كل مرة وأقبل إعتذارك، مش هينفع ياعشق.
ليبتسم فجأة بسخرية مريرة أدمت قلبها وجعا عليه وهو يقول: -آل وانا اللى كنت عايز أعوضك عن امبارح وأسافر معاكى ومع منير شرم النهاردة، مع الأسف طلعت ساذج أوى، مش كدة؟
لتعود البرودة إلى ملامحه وهو يقول: -أنا هسافر فعلا مع منير وهسيبك هنا لوحدك، يمكن بعدنا عنك يرجع العقل لراسك ياعشق.
حاولت أن تتحدث ولكنه قاطعها مجددا بإشارة من يده قائلا: -جهزى منير عشان هنسافر حالا، أنا كنت ناوى انام حبة ونسافر بعد الضهر بس مع الأسف لا هعرف أنام ولا هقدر أستنى دقيقة واحدة تحت سقف بيت واحد معاكى ياعشق.
آلمتها كلماته بقوة وهدمت كيانها بالكامل، وكأنه رماها بعدة خناجر أصابت أوصالها فمزقتهم بقسوة، رأته يتجه إلى خزانة ملابسهما يأخذ بعض الملابس ثم يتجه إلى الحمام بخطوات غاضبة قبل أن يصفق الباب بقوة ويصفق معه كل باب قد تود أن تدلف منه إلى قلبه، فى الوقت الحالى.
زنزانة الشك مظلمة وعندما ندلف إليها تبتلعنا وتودى بأرواحنا وحياتنا للأبد أما الثقة فضوء شعاع ينير العلاقة ويرسخها ويجعلها لا تقهر الثقة ككوب من زجاج إن كسر قد نستطيع إصلاحه ولكنه لا يعود أبدا كمان.. نحن لا نحزن إن فاجأنا أحبتنا بشكوكهم ولكننا نحزن لإننا لم يعد بإمكاننا الثقة بهم بدورنا بعد الآن نبتعد بصمت كي نحفظ كرامتنا المهدرة، ليكون الفراق هو النتيجة الحتمية، لفقدان الثقة.
فرك (عاصى)وجهه بقوة، يقاوم رغبته الشديدة فى النوم، يتمسك بمقود سيارته بعصبية، يلعن كل شيئ، كبرياؤه الذى جعله يرحل على الفور دون أن ينال قسطا من الراحة قبل سفره، قلبه الذى لا يريد أن ينتظر فتضعفه دموعها او توسلات عيناها، لقد رآها هناك عند النافذة، تراقبهما وهما يرحلان بأعين دامعة، كاد أن يحن إليها، يدعوها للسفر معهما ونسيان كل شيئ قد يحول دون سعادتهما، ولكن كرامته المجروحة أبت أن يترك لها فرصة للإعتذار وطلب السماح، يدرك أنه ضعيف أمامها، يضعفه عشقها ويجعله دائما يحيا، كراهب فى محرابها.
ثقلت جفونه مجددا ليفيق على صوت زمور قوي قبل أن يشعر بإرتطام سيارته بشيئ ما بقوة، حاول التحكم فى سيارته وصراخ طفله يدوى فى عقله، يشعر بالرعب يسيطر على تفكيره قبل أن تنقلب السيارة عدة مرات لتسكن بعدها، ومع سكونها، سالت الدماء.
نوفيلا كابوس عشق للكاتبة شاهندة كاملة الفصل السادس
الردى... عندما يأخذ منك أحبائك، تشعر بالصدمة التى تجمد جميع ذرات كيانك، ثم تبعثرها فتتيه فى غياهب الظلام، تبحث عن مخرج يلملم شتات نفسك فلا تجد... وحين تجده بصعوبة، تجد ذاتك غير قادرة على إستيعاب فكرة عدم وجود هذا الحبيب فى حياتك... تنتابك تساؤلات قد تودى بك إلى الجنون...
ألن أراه مجددا؟! ألن أسمع صدى صوته يتردد بأذنى؟! ألن أرى إبتسامته التى تبعث الضياء إلى نفسى؟! ألن أضمه بين ذراعي وأتنفس عطره بين جوارحى؟! ألن أسمع إسمى من بين ثنايا ثغره فأتلذذ بحروفه؟! هل غاب حقا إلى الأبد؟!
نعم غاب... وهنا، عندما تدرك تلك الحقيقة، تشعر بتحطم القلب وإنكسار الروح، ثم خواء قاتل يهدد بسلامة عقلك، وإن لم تستطع أن تجمع شتاتك، تقودك نفسك إلى الإنهيار، تقودك إلى هاوية، بلا قرار.
كان يقف أمام باب حجرتها بتلك المشفى الخاص، يضع جبهته على الباب مغمض العينان بألم يمزق جوارحه، يستمع إلى صرخاتها بإسم طفله، صرخات تمزق نياط القلب، يود لو دلف إلى الحجرة وأخذها من بين يدي الطبيب والممرضة وأسكنها ضلوعه، يربت بيده على جرحها ويأخذ ألمها بعيدا، ولكن الطبيب منعه من ذلك، فحالتها النفسية لا تسمح برؤية أي أحد فى الوقت الحالى حنى لا تقوم بإيذاء نفسها، لقد منعوا حتى السيدة (منال)من الدلوف إليها، فإنهارت باكية وها هي تجلس بدورها مع زوجها يبكيان فى صمت على إبنتهما التى لم تستوعب صدمة فقدان طفلها فإنهارت كلية...
إختفى صوتها وضعف تدريجيا ليدرك أن الطبيب قد منحها تلك الحقنة المهدئة التى يمنحها إياها منذ ثلاثة أيام، عندما تستيقظ وتنهار كلما تذكرت أن طفلها قد فارق الحياة...
إنتفض على يد وضعت على كتفه، إلتفت إلى صاحبتها فوجدها والدته التى تأملته بشفقة امتزجت بالحنان قائلة: -هي خلاص نامت وهترتاح، تعالى ياإبنى أقعد شوية، إرتاح إنت كمان.
قال بصوت متهدج: -أرتاح إزاي ياماما وهي تعبانة؟قلبى واجعنى أوى، ده ظلم، يعنى مش كفاية إبنى راح منى، ليه هي كمان بتروح منى؟!ليييه؟! قالت (صفاء)بألم: -إستغفر ربك ياعاصى، منير كان أمانة وراحت للى خلقها، وعشق هتهدى مع الأيام وهتبقى كويسة ياابنى، وبكرة تجيبوا طفل تانى وتالت. مشي (عاصى)بخطوات متهالكة حتى أقرب كرسي ليجلس عليه قائلا: -أستغفر الله العظيم.
إقتربت والدته وجلست إلى جواره، ففرك وجهه قائلا بحزن: -عشق خلاص ياماما، مش ممكن ترجع زي الأول، انتى مش عارفة منير كان بالنسبة لها إيه، ولا أنا كمان ممكن أرجع زي الأول، هيفضل إحساسى بالذنب يخنقنى، لو مكنتش خدت منير وسافرت كان...
قاطعته تنهره قائلة: -متقلش كدة ياابنى، ده مقدر ومكتوب، دى ساعته اللى ربك كاتبها، كان هيموت فيها ولو كان فى بيته وفى سريره. نزلت دموع (عاصى)وهو يقول: -بس موته كان بسببى، منير مات وهو جنبى ياأمى، عاندت وصممت أسافر وأنا منمتش وغفلت لثانية ضيعته منى، صوت صرخته لسة فى ودانى. ليضع يداه على أذنيه قائلا بوجع: -زي صرخة عشق ياأمى مش هقدر أخرجهم من دماغى ولا أمنعهم يوجعوا قلبى.
نزلت دموع (صفاء)تشارك ولدها ألمه، ترك (عاصى)يداه تقعان إلى جواره قائلا بحسرة: -للأسف مفيش حاجة أبدا ممكن ترجع زي الأول، أنا خلاص كل حاجة حلوة فى حياتى راحت منى.
قالت (صفاء): -ياخسارة ياعاصى. نظر إليها (عاصى)تائها، فإستطردت قائلة: -مربتكش ضعيف وتستسلم بسهولة كدة أدام أي مشكلة تقابلك، أنا ربيتك على إنك تواجه أي حاجة وتكون أدها، وعمرك ماترضى بالإنهزام بالعكس، تتحدى حتى نفسك وتكون أقوى منها.
أطرق (عاصى)قائلا بألم: -بس دى مش مشكلة ياماما، دى حياتى اللى بتضيع من إيدية، فى الأول إبنى راح منى ويادوبك بفوق من الصدمة لقيت عشق بتروح هي كمان.
قالت (صفاء)وهي تربت على فخذه بحنان: -كل شيئ فى الدنيا بيتولد صغير وبعدين يكبر إلا الحزن بيتولد كبير وبعدين بيصغر، أهم حاجة منستسلمش ليه عشان ميضعفناش، عشق محتاجالك دلوقتى عشان تعدى أزمتها، محتاجة عاصى جوزها اللى هيهون عليها كسرة قلبها، فقدان الابن بيكون أصعب حاجة على الأم، ودور الأب ساعتها يدعمها ويخفف عنها ألمها.
نظر إليها (عاصى)قائلا فى مرارة: -ومين بيخفف حزن الأب، مين يدعمه؟ قالت(صفاء)بحنان: -ربك، ربك قادر يخفف وجعك ويدعمك، قوم إتوضى وصلى ركعتين، إطلب منه يخفف وجعك ويقدرك على اللى جاي، أطلب منه يجبر خاطرك وخاطر مراتك ياعاصى، أطلب منه ومش هيخيب رجاءك صدقنى.
تنهد (عاصى)قائلا: -ونعم بالله ياماما، ونعم بالله. رفع يدها إلى ثغره يقبلها قائلا: -ربنا يخليكى لية ياماما وميحرمنيش منك. ضغطت على أصابعه قائلة بحنان: -ويخليك لية ياحبيبى. نهض (عاصى)ليصلى كما نصحته والدته، فإستوقفه صوتها منادية بإسمه، إلتفت إليها فأشارت إلى حمويه قائلة: -كلمهم كلمتين، صبرهم ياإبنى على اللى هم فيه.
أومأ برأسه مرسلا لها نظرة إمتنان قبل أن يتجه إلى حمويه بخطوات منكسرة، تتابعه (صفاء)بعينيها قائلة: -ربنا يريح قلبك ياإبنى ويصبرك انت كمان على اللى إنت فيه.
فى حجرة منير..
كانت تتشح بالسواد، تجلس شاردة على هذا الكرسي التى إعتادت الجلوس عليه منذ أن عادت إلى منزلها، تمسك بصورة طفلها تضمها إلى صدرها وكأنها تضمه هو، لقد رفضت عرض والديها بالذهاب معهما إلى الضيعة، تتمسك بوجودها فى هذا المنزل الذى يضم ذكرياتها مع منير، تجلس صامتة بالساعات تتأمل جنبات المنزل التى تراه فى كل ركن فيه، تسمع ضحكاته التى تنير المكان وتجلب إلى نفسها راحة مؤقتة لا تلبث أن تزول مخلفة وراءها دموع الفقد، الوحشة، الإشتياق.
لتسرع إلى حجرته التى صارت حجرتها منذ عودتها إلى المنزل، تفرغ مكنون صدرها على وسادته، يصرخ قلبها بلوعة يطالبه بالرجوع، ولكن أنى له بالرجوع، فمايدفن تحت الثرى لا يعود.
أغلقت على نفسها بابا مؤصدا ضد الجميع وأولهم (عاصى)الذى حاول مرارا وتكرارا الحديث معها ولكنها كانت تصد كل محاولاته لتبوء بالفشل، تتعلل بمرضها ولكنها فى الحقيقة لا تريد أن تواجهه فعيناه تذكرها بعيني طفلها الحبيب، يؤلمها فقط النظر إليهما.
أفاقت من شرودها على صوت طرقات على الباب ثم دلوف الخادمة وهي تقول: -تغريد هانم برة وطالبة تشوفك ياستى. مسحت (عشق)دموعها التى سالت حزنا بأناملها قبل أن تقول: -قوليلها نايمة. قالت الخادمة بشفقة: -قلتلها ياستى وقالتلى صحيها، مصممة المرة دى تقابلك. أومأت (عشق)برأسها قائلة: -طيب قوليلها إنى جايالها يانسمة.
اومأت الخادمة برأسها مغادرة الحجرة، بينما نهضت(عشق) تجرجر خطواتها، تذهب إلى حيث تجلس (تغريد)، تضع قدما فوق الأخرى، وماإن رأتها حتى نهضت بسرعة مقتربة منها تحتضنها قائلة: -حبيبتى ياعشق، أخبارك إيه ياحبيبتى. خرجت من حضنها بينما (عشق)تقول لها فى مرارة: -زي ماإنتى شايفة، عايشة ومش عايشة. سحبتها (تغريد )من يدها تجلسها وتجلس بجوارها قائلة:.
-قلبى عندك ياحبيبتى، والله من يوم ماعرفت وأنا بجيلك بس دايما بتبقى نايمة. قالت (عشق): -نسمة قالتلى، المهدئات ياتغريد، مخليانى نايمة على طول. قالت تغريد: -وعاصى أخباره إيه معاكى، أكيد مبيوركيش وشه. عقدت(عشق)حاجبيها قائلة: -ليه يعنى؟!
قالت( تغريد )وهي تتصنع الدهشة: -ليه؟إنتى قصدك إنه بيتعامل معاكى عادى كدة ومش مكسوف من نفسه؟غريبة والله! إزداد إنعقاد حاجبي (عشق)وهي تقول: -قصدك إيه يا(تغريد)؟ماتوضحى كلامك. قالت (تغريد): -قصدى طبعا إنه كان السبب فى موت منير. نهضت (عشق)قائلة بعصبية: -إنتى بتقولى إيه بس؟ده قدره، ربنا عايز كدة. نهضت (تغريد)بدورها قائلة:.
-أيوة بس ربنا كمان بيسبب الأسباب، خلاه يسافر معاه فى العربية وهو متعصب فعمل الحادثة وإتسبب فى موت منير، انتى مش حكتيلى على خناقتكم يوميها.
جلست (عشق)قائلة بصدمة: -أيوة بس لو كلامك ده صح يبقى أنا كمان مذنبة معاه، مش أنا اللى عصبته وخليته يسافر علطول من غير مايرتاح، يبقى دم منير فى إيدينا إحنا الإتنين.
جلست (تغريد)تبث سمومها فى أذن (عشق)قائلة: -ويعنى عاصى صغير مش قادر يتحكم فى نفسه أول ماتعصبيه يتصرف بغباء بالشكل ده، هو أدرى بنفسه، تعبان ومنامش ومتعصب يبقى ميسافرش ولا هي حياته وحياة طفله مش مهمين بالنسبة له.
مزيد من الأفكار السوداء تتخبط بين أركان فؤادها تبعثره، رأت (تغريد)شحوب وجهها، نادتها قائلة: -عشق، يا عشق!
لم تجيبها، لتبتسم داخلها بإنتصار، مدت يدها تربت على يد (عشق)، إنتفضت (عشق)ناظرة إليها فقالت (تغريد) بشفقة مصطنعة: -شكلك تعبان، قومى إرتاحى حبة، وأنا هبقى أجيلك بعدين.
أومأت (عشق)برأسها، فنهضت (تغريد )تقبلها فى وجنتها قبل ان تغادر بخطوات رشيقة، صادف خروجها دلوف (عاصى)إلى المنزل، حياها بجفاء أصابها بالحنق، ولكنها تعلمت الصبر لتنال ماتبغيه، لذا قالت فى نفسها صبرا يا(عاصى)ففى النهاية ستكون لى وسترى.
إقترب (عاصى)بقلق من حبيبته شاحبة الوجه، توقف أمامها قائلا بلهفة: -إنتى كويسة ياعشق؟
نهضت ببطئ، تطالعه بعيون نظرتهما ذبحته بسكين بارد وهي تقول بنبرات باردة كالجليد: -أنا تعبانة وهرتاح فى أوضتى، ياريت محدش يقلقنى.
غادرت تتبعها عيناه بقلب قد أدرك أنها تلقى عليه بذنب لا قبل له به، تتهمه بأبشع التهم، ليصرخ هذا القلب متألما...
بالله لا تفعلى... لا تذبحينى بنظراتك العاتبة.. لاتتركينى وحيدا وتبتعدى هاربة.. لا تستمعى إليها، لا تصدقيها، إنها كاذبة فأنا ضحية مثلك، ملامحى صارت شاحبة.. يقتلنى الحنين ويدمينى الذنب، دوامة من المشاعر لى جاذبة.. تسحبنى إلى أعماقها وحبال مقاومتى تضعف، هزيلة أضحت ذائبة... أحتاجك إلى جوارى، احتاج روحك المحاربة... لا تتركينى وحدى فقد كنتى لى كل شيئ، الحبيبة والزوجة، الأخت والصاحبة.
أتوسل إليك أن تعودى فالروح تذوى حتى أضحت عنى، غائبة.
أقسى أنواع العذاب هو أن يعاقبك محبوبك بالتجاهل.. دون عتاب... دون كلام... يشملك بالصمت والإنشغال الدائم.. وأقسى أنواع الألم ان تتحمل كل ذلك بصمت... ندعى أننا لا نهتم إن تجاهلنا الحبيب وقلبنا يعتصر شوقا لبعض الاهتمام... نتصنع البرودة... ندرك أن ذنب المحب أنه لا يشتاق بدرجة كافية بينما ذنبنا، الإفراط فى الشوق.
طرق بابها ولكن لا مجيب، كعادتها فى الأشهر الأولى بعد وفاة طفلهما، لقد أقصت نفسها عنه، يصحو من نومه فيجدها قد أغلقت عليها باب حجرتها، ويعود من عمله فيجدها قد آوت للنوم مغلقة عليها الباب مجددا، تقول له الخادمة أنها لا تخرج من حجرتها سوى بعد خروجه إلى العمل وتصعد إلى حجرتها قبيل عودته، أدرك أنها تتجاهله متعمدة، لا تبغى رؤيته، حطم ذلك قلبه إلى أشلاء، أغرق نفسه فى العمل حتى ينسى الألم...
رآه رفاقه يذوى، ملامحه دائما حزينة، يكاد أن يقتل نفسه بالعمل ليلا ونهارا، أرادوا الترفيه عنه فأجبروه اليوم على الذهاب معهم إلى هذا النادي الليلي، حاولوا بكل جهدهم أن ينسوه ذلك الحزن الرابض بقلبه وملامحه..
منحوه كأسا من الخمر، رفض بالبداية، فهو لايشرب ولا يقرب حتى السجائر، ولكن ماإن أخبروه أنها ستنسيه أحزانه، بل ستنسيه حتى إسمه حتى شرب كأسه الأول، يتبعه العديد من الكئوس، أسكرته حقا وأنسته همومه، جعلته لايقوى حتى على الشعور، ولا يملك زمام نفسه حتى أنه لم يستطع القيادة فطلب سيارة أجرة أوصلته للمنزل.
وما إن خطا أول خطوة فيه حتى عادت الذكريات تطارده، وأشعل لهيب الشوق إليها قلبه، وجد خطواته المترنحة تقوده إليها، يطرق بابها منذ لحظات، يدرك أنها مستيقظة من هذا الضوء المنبعث أسفل بابها ولكنها تدعى النوم، حسنا لن يدعى الكبرياء بعد اليوم، ولن يقبل بأفعالها، لن يرضى حرمانه منها، سيشبع ظمأه إليها حتى لو كان، رغما عنها.
إبتعد قليلا ثم أسرع بإتجاه الباب يرتطم به بقوة، إنفرج قليلا، ليأخذ نفسا ويركله بقدمة بقوة، فإنفرج على مصراعيه...
رآها تقف أمامه تتطلع إليه بصدمة وهو يقترب منها مترنحا، شعرت بالخوف وهي ترى عيونه التى تتلظى بشوقه الغائم بنظرة غريبة عنها لم ترها فى عينيه من قبل أصابتها برعشة فى أوصالها، قالت بصوت مضطرب: -عايز إيه ياعاصى؟وإزاي تدخل علية بالشكل ده؟
إقترب منها حتى أصبح أمامها تماما، لفحتها أنفاسه المعبقة بالخمر وهو يقول بصوت حتى نبراته أضحت غريبة عنها: -عايزك، حقى، مش جوزك ولا إيه؟ أشاحت بوجهها وهي تضع يدها على صدره تبعده قليلا وهي تقول: -روح فوق الأول وبعدين... قاطعها وهو يضغط على يدها الرابضة على صدره بقسوة قائلا بصوت ثقيل من أثر الشرب ولكنه مفعم بالمرارة: -وأفوق ليه؟عشان أفتكر اللى مش عايز أنساه. نظرت (عشق)إليه بألم:.
-إيدى ياعاصى، وجعتنى. قال (عاصى)بمرارة: -إتوجعى يا عشق، جايز تحسى بالوجع اللى جوايا.
كادت ان تقول شيئا ولكن هجومه الضارى على شفتيها لم يمنحها الفرصة، حاولت التملص من بين يديه، دفعه حتى، ولكنها لم تستطع، فقد أحكم ذراعيه حولها، يقبلها بشوق وقسوة أدمت شفتيها، حاولت التنفس فلم تستطع، كادت ان تختنق وفى تلك اللحظة أطلق سراحها، لتأخذ أنفاسها بقوة، لم يتركها لتستعد قوتها بل حملها بعد أن تملكه شيطانه فى تلك اللحظة ليدع شوقه إليها يعميه عن رؤية ذلك الخوف فى ملامحها وتلك الإرتعاشة فى صوتها وهي تتوسل إليه أن يتركها فلم يدعها ترحل بل وشمها بشفتيه ومشاعره العاتية حتى صارت ملكه، وفى تلك اللحظة فقط أفاق على صوت نحيبها وشهقاتها لينظر لها بصدمة، كانت توارى جسدها بيديها، ترتعش بقوة، أراد ضمها إلى جوارحه ليوقف إرتعاشتها، يتوسل إليها ان تسامحه ولكنه يدرك الآن أنه لن يستطيع أن يقترب منها قيد أنملة، تمزقه الصدمة ويقتله الذنب مجددا فى حضرتها ولكن تلك المرة هو بعيد عن كونه ضحية بل أصبح جانى بالتأكيد، لا يمحى فعلته أي عذر، لا يمحى ذنبه شوقه الشديد لها ولا حتى أنه فعل فعلته تحت تأثير الشراب، فقد عاشر زوجته، رغما عنها.
أشاح بوجهه عنها، يهز رأسه ينفض تلك الفكرة التى تجعله يبغى الموت فى التو واللحظة، نزلت دموعه تنعى روحه التى أذهقها العشق، يصم آذانه عن صوت نحيبها الذى يقطع نياط قلبه، خرج من الحجرة مهرولا وكأن شياطين الدنيا تطارده، بينما مدت (عشق)يد مرتعشة تسحب بها دثارها تغطى جسدها المنتهك، تضم قدميها إلى صدرها تتخذ وضع الجنين، تبكى كما لم تبكى من قبل، تشعر بقلبها ينزف بقوة وروحها تذوى ببطئ.
نوفيلا كابوس عشق للكاتبة شاهندة كاملة الفصل السابع والأخير
قد تصل إلى مرحلة فى حياتك تجعلك تستغنى عن كل مايوجع قلبك حتى إن كان العشق.. فقلة الإهتمام تضعف الحب، وكثرة العتاب تجلب الألم والتجاهل يميت القلب ويصيبه بالقسوة.. تدرك أنك قد عشت دورا لا يليق بك، ترتدى ثوب الخضوع، تصم أذناك عن كل تلك الإنذارات فى عقلك حتى تبقى فقط فى قلب من تحب ويبقى هو فى قلبك، ترضى أن يغتال مشاعرك حتى لا تواجه ذلك الفراغ الموحش عند فراقه..
لتشعر فى النهاية بالسأم، وبالرغبة فى الرحيل.
كان هذا بالضبط مايشعر به (عاصى)الآن وهو جالسا فى حجرة مكتبه المظلمة، بعد أن عاد من الضيعة وقد رفضت (عشق )مقابلته ربما للمرة العاشرة..
تراجع يستند برأسه على كرسيه، يغمض عيناه، فمنذ هذا اليوم البغيض وهو هائم على وجه فى طرقات مدينته يكره ذاته لفعلته، يبغى الموت حقا، بل إنه أراده بكل قوته ليلقى بنفسه أمام سيارة مسرعة ولكن صاحبها إستطاع كبحها قبل أن تمسه ثم إنهال عليه بالسباب، فإبتعد غير آبها لشيئ غير أنه أذى حبيبته ويستحق كل مايحدث له...
ذهب ليلقى بنفسه فى النهر، فأوقفه فى اللحظة الأخيرة صوت آذان الفجر، زلزل كيانه وجعله يخر راكعا فى مكانه، يمرغ جبهته فى الأرض مستغفرا، شعر براحة فى قلبه، ليعود إلى منزله على الفور وكله رغبة فى أخذ حماما والصلاة حتى الغفران، ثم طلب السماح من حبييته، وبالفعل صلى كثيرا وتساقطت دموعه وهو يدعو الله مبتهلا لغفران من كل إثم، ثم ذهب إلى حجرة طفله، تلك الغرفة التى دنسها بأفعاله، ينوى أن لا يغادرها إلا وقد غفرت له (عشق)بدورها.
ولكنه لم يجدها، بحث عنها كالمجنون فى كل حجرات المنزل حتى إستيقظت الخادمة وأخبرته أن سيدتها قد سافرت إلى الضيعة، لحقها على الفور، يقود بسرعة جنونية، حتى وصل الضيعة، فرفضت (عشق)مقابلته، وأخبرته حماته أن يبتعد قليلا فحالتها النفسية لن تسمح لها الآن بمقابلته، عاد خائبا إلى المدينة، يشعر بالألم والحسرة، يحادثها كل يوم فلا تجيب إتصالاته، حتى أنه شعر بالشفقة فى صوت السيدة (منال)وهي تجيبه، ترجوه أن يصبر عليها قليلا حتى تقبل بأن تحادثه مجددا، يذهب لزيارتها عندما يستبد به الشوق إليها، فترفض مقابلته وتعيده لمدينته خائبا متحسرا.
لقد أخطأ فى حقها، يعلم أنه فعل، ولكن ألم يكن فى قلبها ذرة حب تشفع له عندها؟لطالما سامحها فهل قد قلبها من صخر؟! حسنا، قد يستطيع بدوره التجاهل، قد يجعل هذا القلب يقسو، قد يعيد كل شيئ إلى العدم، فلا مزيد من إهدار المشاعر، ولا مزيد من الضعف والعشق.
تأملت (عشق)تلك اللوحة التى رسمتها بصدمة، تبا، لقد رسمت وجهه مجددا فى لوحاتها.. هل إشتاقت إليه حقا؟! هل سامحته؟! هل مازال يسكن روحها فيطل عليها رغما عنها؟! بعد كل ماحدث منه؟! وبعد كل ماصار بينهما؟! كلا، لن تضعف مجددا، أمسكت اللوحة ومزقتها إلى نصفين، لتنتفض على صوت والدتها قائلة من خلفها: -تفتكرى كدة هترتاحى؟وتقدرى تخرجيه من قلبك وعقلك؟!
أطرقت (عشق) برأسها قائلة بألم: -هخرجه ياماما، مع الأيام هخرجه. جلست (منال)إلى جوارها قائلة: -مش هتقدرى يابنت بطنى، عاصى بيجرى فى شرايينك، زي دمك بالظبط، تقدرى تعيشى من غير دم؟ رفعت (عشق)ناظريها تواجه والدتها بعيون زائغة تائهة ممزقة من الألم، لتدرك (منال)أن طفلتها تدرك عشقها ل(عاصى)، يجتاحها الشوق إليه، ولكنها تقاومه، لتطرق الحديد وهو ساخن قائلة: -بتهيألى إنتى دلوقتى هديتى وأقدر أكلمك بالعقل.
-عاصى إغتصبنى ياأمى، فاهمة يعنى إيه راجل يعاشر مراته بالغصب؟
قالت (منال):.
-غلطة كبيرة مبنكرهاش، بس كمان لازم نعرف أسبابها، واحد مراته مانعاه عنها تقريبا من سنة، هو ده مش حرام يا(عشق)؟ربنا ميحاسبكيش عليه؟طب والله واحد غيره كان إتجوز عليكى ودوقك الذل، بس عاصى بيحبك، معملهاش وفضل صابر عليكى، رغم إنه عاشق والعاشق صعب يصبر على بعد حبيبته عنه، شاف منك برود وتجاهل وإستحمل، إستحمل لإنه بيحبك وباقى عليكى، وفى يوم فاض بيه وشرب، غلط ايوة بس حس بغلطته وطلب السماح بدل المرة مية، يبقى ليه متسامحيش يابنتى، ده المسامح كريم وهو ياما سامحك، قمة الحب إن حبيبك لو غلط تسامحيه ياعشق.
رفعت (عشق)إليها عينان مغروقتان بالدموع وهي تقول: -وإبنى ياماما، منير، أنسى إزاي إن هو اللى قتله.
قالت (منال)على الفور: -إستغفرى ربك ياعشق، ده قدره، قدره يموت فى اللحظة دى ولو كان جوة حضنك، ربنا كتب قدرنا كلنا قبل خلق الخليقة كلهم، كتب إزاي هنموت وامتى، وبعدين لو هنتكلم بمنطقك هتكونى انتى كمان مذنبة لإنك كنت السبب فى سفره علطول بخناقتك معاه.
شردت (عشق ) فى كلمات والدتها لتستطرد (منال)قائلة بحنان: -إرجعى لجوزك ياحبيبتى وإبعدى الشيطان عن حياتكم، الرضا بالقدر هو الإيمان نفسه، والحب نعمة مش كل الناس بتلاقيها، وعاصى بيحبك، بيحبك من قلبه ياعشق، متخسريهوش ياحبيبتى، عشان لو خسرتيه هتخسريه المرة دى للأبد وهتخسرى حياتك نفسها معاه. تخسره إلى الأبد؟هل تستطيع تخيل تلك الفكرة حتى؟!ربما، وربما يكون هذا هو الحل لعذابهما معا، الفراق.
قرأت (منال)فى عينيها قرارها البغيض لتقول بألم: -الظاهر إن مفيش فايدة معاكى، عموما روحى بيتك وشوفى عاصى يمكن لآخر مرة، قبل ماتقررى مصير حياتك، عشان متندميش ياعشق. فكرت عشق للحظات، والدتها محقة يجب أن تسافر، ستعود إلى منزلها وهناك ستلملم شتات حياتها، وتتخذ قرارها المصيري ذاك... لتنهض قائلة بحزم: -أنا مسافرة حالا ياماما. نهضت (منال)بدورها وهي تربت على كتفها قائلة:.
-خير مافعلتى يابنتى، إرجعى بيتك وهناك هتعرفى إنتى عايزة إيه، بس متنسيش تفوتى على بيت حماتك الأول وتراضيها، أكيد مصدقتش إنك نايمة لما جت عشان تشوفك، وأكيد دلوقتى زعلانة، ودى ست مشوفتيش منها غير كل خير ومتستهلش منك كدة، خرجيها برة علاقتك بعاصى ياعشق.
أومأت(عشق) برأسها وأسرعت إلى حجرتها تلملم أشيائها، لتمسك شيئا تنظر إليه بدهشة، فهي لم تستعمل هذا الشيئ منذ فترة، وهذا قد يعنى شيئ واحد، لتضع يدها على بطنها تشعر بالصدمة.
دلفت (عشق)إلى المنزل فوجدته هادئ تماما، أدركت أن (عاصى)لم يعد بعد من العمل، كادت أن تتجه إلى غرفة صغيرها، ولكن ذكرياتها الأخيرة فيها جعلتها تعدل عن ذلك، وتقرر النوم فى تلك الغرفة التى تقبع فى الدور الأرضي، مرت بحجرة المكتب لتسمع بعض الهمهمات.
هل عاد(عاصى)؟!
ربما وجب عليها الإسراع إلى حجرتها وعدم مواجهته اليوم، لفت إنتباهها صوت أنثوي تعرفه جيدا تناهى إلى مسامعها، فاقتربت من الباب تصغى جيدا لما يدور بالداخل، إستمعت إلى صوت (عاصى)يقول فى برود: -وأنا قلتلك تنسى اللى فى دماغك ده خالص، أنا مش ممكن هبقى ليكى ياتغريد، عارفة ليه؟
رفعت (عشق)يدها تضعها على شفتيها، تكتم شهقة كادت أن تنطلق من شفتيها وهو يستطرد: -مش عشان أنا راجل متجوز أو لسة بيحب مراته، لأ، أنا حكايتى مع عشق خلاص خلصت، لكن عاصى المنزلاوى مش ممكن يحب واحدة زيك، حقيرة بوشين، معندهاش أخلاق ولا ضمير، شاطرة اوى فى الشر ومبيهماش اي حاجة حتى لو فرقت بين اتنين بيحبوا بعض.
سمعت (تغريد) تطلق ضحكة ساخرة قبل أن تقول: -فين الاتنين اللى بيحبوا بعض دول؟انت بس اللى كنت بتحبها ياعاصى ومعمى بصورتها البريئة، هي لو كانت بتحبك بجد كانت سابتك تضيع من ايديها، عشق دى غبية، مقدرتش تشوف الحب اللى فى عنيك ولا الألم اللى كان بيطل منهم مع جرحها ليك، بس أنا مش كدة ياعاصى، أنا حبيتك بجد وحاسة بيك، صدقنى انا اكتر واحدة ممكن تسعدك ومستحيل أتنازل عنك أبدا.
رفعت(عشق) يدها عن شفتيها، ترتسم فى عينيها قسوة إمتزجت بغضب، بينما يقول (عاصى): -ياما حذرتها منك ومسمعتش كلامى، لو بس شافتك على حقيقتك، مكنش ده بقى حالنا، بتحبينى مش كدة؟اللى بيحب حد مبتسببش فى تعاسته، بيتمناله الخير حتى مع غيره، انتى مبتعرفيش تحبى غير نفسك ياتغريد.
قالت (تغريد )بسرعة: -عاصى أنا... قاطعها دخول (عشق)فى تلك اللحظة ترمقها بغضب، إحتلت ملامح (عاصى)الدهشة والتى إمتزجت بلهفة للحظات قبل أن تعود ملامحه لبرودتها، يطالعها بصمت، بينما احتلت الصدمة ملامح(تغريد)وهي تقول بإضطراب: -عشق، انتى جيتى، أنا... قاطعتها (عشق)قائلة بغضب: -إطلعى برة بيتى. اقتربت منها(تغريد)قائلة: -ياعشق اسمعينى... هدرت (عشق)قائلة: -بررررررة.
أسرعت (تغريد )تغادر المنزل تتابعها(عشق)بعينيها، ثم عادت بناظريها إلى (عاصى)الذى أشاح بوجهه عنها وهو ياخذ هاتفه ومفاتيحه ويغادر متجاهلا إياها تماما، إستوقفه صوتها المتوسل وهي تنادى بإسمه للحظة تجمد فيها كلية، قبل أن يعاود السير مغادرا وتاركا إياها تقف وحيدة تطالع طيفه المغادر بحسرة، شعرت بالألم فى صدرها وهي تذوق من نفس الكأس الذى أذاقته إياه مرارا وتكرارا، جرجرت خطواتها إلى تلك الحجرة التى انتوت النوم فيها سابقا، فهي تشعر بمرارة الصدمة التى أرهقت جسدها بالكامل، وماإن دلفت الحجرة حتى أدركت أن زوجها يتخذها حجرة نومه، فرائحته مازالت عابقة بها، ربما هو بدوره لا يستسيغ النوم فى حجرتهما لما تحمله من ذكريات عشقهما، ولا يرغب بالنوم فى حجرة طفله وذكريات مريرة تقبع بها، تنهدت وهي تبدل ملابسها، ثم تتمدد على السرير، تضم وسادته إليها تستنشق عطره بها، وتتركها تتغلغل فى ثناياها، لا تريد أن تفكر الآن فى أي شيئ، يكفيها ماتشعر به من ألم وحسرة، لتستغرق فى النوم وتصحو على هذا الخبر المفجع...
لقد طلقها حقا... خرج من حياتها للأبد... تركها تعض الأنامل من الندم... ، وقت لا ينفع الندم.
ما أسوأ الندم حين يمر شريط ذكرياتنا بحبيب فارقنا.. نتذكر عنادنا الذى فرق بيننا وبينه.. نتذكر قسوتنا وإنكارنا العشق فى قلوبنا.. نتذكر كم ضحى من أجلنا وكيف قابلنا تضحيته بالنكران.. نتذكر كم أثمنا فى حقه ومنحنا الغفران.. ولكن حين أخطأ، نسينا وأصبحنا له القاضى والجلاد.. فخسرناه للأبد، ليصبح الندم رفيقا موحشا لنفس خاوية لا حياة فيها.. نتمنى الموت فقط، حتى لا نشعر بكل هذا الألم.
تبا، كم يؤلمها الفراق، يسحب الحياة من روحها، لقد تركها حبيبها وذهب، رحل بعيدا بلا رجعة، اذا لماذا تعيش؟ فقد مات الابن ورحل الزوج والباقى خواء لا معنى له، لتنهض بجمود وتدلف إلى شرفة الحجرة تميل على حافتها ملقية نفسها من ذلك الارتفاع الشاهق لتقع جثة هامدة...
انتفضت (عشق )تفتح عيناها بقوة، تتأمل محيطها بدهشة... مازالت حية... مازالت تتنفس... ممددة على سريرها... ومازال( عاصى) بجوارها يتأملها بتلك النظرة الباردة، التى جعلت عيناه أكثر سوادا تغلفهما برودة الجليد، أدركت هى أن طلاقها منه وموتها لم يكن سوى كابوس مزعج، كابوس تشعر به يتكرر من جديد ولكن تلك المرة هو حقيقة على وشك الحدوث، لتقرر وبكل حزم الحول دون ذلك، رسمت بسمة رقيقة على وجهها وهى تقول:.
-صباح الخير ياحبيبى.
علت الدهشة وجه عاصى لثوان ليتمالك نفسه بسرعة وتعود ملامحه باردة وهو يقول بحزم: -إحنا لازم نتكلم ياعشق.. قاطعته قائلة فى لهفة: -حبيبى أنا حامل.
نظر اليها بصدمة، لتنهض هى من السرير بسرعة وتجلس على ركبتيها قبالته، تمسك بيديه فى حنان، يتابعها بدهشة، تأملت ملامحه التى اشتاقت اليها، ونظرت الى عينيه بعشق قائلة: -أنا عارفة إنى غلط فى حقك كتير، كنت أنانية بشكل انا نفسى مكسوفة منه، شيلتك ذنب انت برئ منه، وحملتك فوق طاقتك، عارفة ان اللى راح هو ابنك زى ما هو ابنى، وانك موجوع زيى ويمكن اكتر، أذيتك، جرحتك، عارفة وندمانة، و خلاص أنا فقت.
تأملها (عاصى)بقلب امتزج به العشق بالخوف، الحنان بالقسوة، تتصارع مشاعره التى تهفو إليها مع مشاعره التى تتذكر جراحها ليقول بصوت متهدج: -فقتى متأخر ياعشق...
وضعت يدها على فمه قائلة: -الوقت مبيتحسبش فى الحب ياعاصى، مش انت اللى قلتلى الكلام ده.
تأملها بعيون دامعة فرفعت يدها تحيط بوجهه تمسح بإصبعها دمعة تسللت من عينيه لتقول فى حزن حان: -آسفة، والله العظيم ندمانة، الحمد لله انه فوقنى قبل ماتضيع منى، عشان خاطرى ياعاصى ادينى فرصة تانية. وبوعدك، هعوضك عن كل لحظة وجعتك فيها، هرجع عشق اللى انت حبيتها، هحاول أسعدك أد ما انت بتسعدنى وأعشقك أكتر ما بتعشقنى، بس عشان خاطرى ادينى فرصة تانية عشان أصلح غلطتى وأحقق كل وعودى ليك.
لتمسك يده بإحدى يديها وتضعها على بطنها قائلة: -عشان خاطر الطفل ده ياعاصى، إبننا اللى هيعوضنا عن كل اللى فات.
فتح عيناه يتطلع إلى عسليتيها وهي تضع يدها على وجنته تستطرد بحنان: -الطفل ده رسالة من ربنا، قالنا فيها كلام كتير، قالنا ان مفيش حاجة ممكن تفرقنا، وإن اللى جمعنا ده هو القدر اللى هيفضل يربط بينا للأبد، قالنا ولا تقنطوا من رحمة الله لإنه قادر يعوضكم بأحسن ماكنتوا تتمنوا، قالنا إن إحنا منقدرش نعيش بعاد عن بعض وإن فراقنا معناه موتنا ياعاصى.
مال يقبل يدها المستكينة على وجهه بحنان، لينهض وينهضها معه آخذا اياها فى حضنه قائلا بعشق: -يااااه، مكنتش متخيل انى ييجى يوم وأسمع الكلام ده منك، ولا كنت متخيل انى هضمك تانى لحضنى، انتى متعرفيش عملتى إيه فية دلوقتى، انتى رديتى روحى لية ياعشقي، رجعتينى حي من تانى.
قالت فى همس عاشق: -انتى اللى رجعتلى روحى برجوعك لية ياعاصى. روحى اللى لو فارقتنى أموووت.
زاد من ضمه اياها وكأنه يرفض سيرة الموت التى تبعدها عنه، لتربت على ظهره وهى تزيد من ضمها اياه، تغمض عيناها ودموعها تنزل فى صمت تحمد الله على إلهامها بفكرة الحمل كى تنقذ بها زواجها الذى كاد أن يتحطم، هى لم تكذب عندما أخبرته بحملها فهى بالفعل تشك بذلك ولكنها لم تتأكد بعد، والحمد لله على ذلك الكابوس الذى أفاقها مما كانت فيه، فقد كانت حياتها وسعادتها وقلبها على وشك غبائها أن يدمرهم جميعا، لينقذها كابوس واحد، كابوس عشق.