جلست رحمة على سريرها تضم ركبتيها إلى صدرها بيديها، وتسيل دموعها على وجنتيها كدماء سالت من جروح عميقة بروحها، مؤلمة حقا ومزهقة لأنفاسها، لا تدرى كيف وافقت على طلب أختها، كيف ستستطيع تلبية رغبتها الأخيرة، كيف ستصبح لهذا الرجل الذي ما تمنت يوما غيره والتي أيضا أدركت منذ زمن بعيد أنها لن تستطيع أن تكون له، كيف؟
نهضت من مكانها تدرك أنها لن تستطيع الحصول على الراحة هنا في تلك الحجرة لتخرج منها باحثة عن الراحة في مكان آخر، مكان لم تكن تحلم بالتواجد فيه ولكن ها هي متجهة إليه، وبكل حزم.
دلفت بشرى إلى حجرتها بعد أن وجدت المنزل ساكنا على غير عادته في مثل هذا الوقت، إنتابتها الحيرة تتساءل عن مكان وجود الجميع، وكيف كان لقاء زوجها برحمة، ورحمة براوية، وإلى متى تنوى رحمة المكوث هنا أم أنها تنوى المكوث طويلا؟أسئلة وأفكار عديدة راودتها، ولكنها كانت مرهقة للغاية فتركت أفكارها جانبا، ربما في الصباح تعرف إجابات تلك الأسئلة فكل ماتحتاجه الآن هو حمام دافئ وساعات طويلة من النوم كي تستعيد نشاطها مجددا، وتنجلى أفكارها، لتدبر لتلك الرحمة مصيبة تليق بها،.
أضاءت نور الحجرة، لتنتفض وهي تجد مراد جالسا في هذا الركن البعيد، ينظر إليها بملامح جامدة، لتبتلع ريقها وهي تقترب منه قائلة: خضتنى يامراد، إيه اللى مقعدك في الضلمة كدة؟ لم يجيبها مراد وإنما سألها بدوره قائلا: كنتى فين يابشرى؟ قالت بشرى بإرتباك: هكون فين يعنى، كنت، كنت عند صفاء، أنا والشلة، حفلة بنات كدة ع السريع، خلصتها وجيت. قال مراد ببرود: ومقلتليش ليه؟ إقتربت بشرى منه قائلة: إتصلت بيك وتليفونك كان مغلق.
نهض مراد قائلا بحدة: يبقى متخرجيش، المفروض إنى لازم أعرف مراتى خارجة فين قبل ما تخرج من البيت وياأوافق ياموافقش، مفهوم؟ إتسعت عينا بشرى قائلة بإستنكار: إيه الكلام اللى انت بتقوله ده يا مراد؟، ومن إمتى الكلام ده، ها؟من أول جوازنا وأنا بخرج ومبقولكش وانت مبتعترضش ومبتهتمش أصلا. اقترب منها مراد قائلا في برود:.
من النهاردة ياستى ههتم وهعترض. من النهاردة ممنوع تخرجى من غير إذنى، كان منظرى وحش أوي أدام يحيى وأنا مش عارف مراتى فين؟ رفعت بشرى حاجبها الأيسر وهي تقول بسخرية: يحيى، قلتلى، بقى الموضوع فيه أخوك الكبير ومنظرك أدامه وأنا اللى قلت جوزى فجأة بقى مهتم بية وعايز يعرف بروح فين وبعمل إيه.
أحس مراد لثوانى بالإرتباك، فبالفعل سؤاله عن مكان وجودها ما جاء سوى من تنبيه أخيه عليه، وشعوره انه مقصر في حياته الزوجية أما في الحقيقة فهو لا يهتم ببشرى أبدا ولا يود أن يعرف شيئا عنها، فهي بالنسبة إليه مجرد زوجة أجبر عليها ولم تستطع أن تكسب قلبه بسبب عنجهيتها وتصرفاتها البغيضة، ليفقد أي إهتمام بها كإمرأة رغم جمالها الرائع والذي يحسده عليه الجميع، فلم يشعر معها بتسارع دقات قلبه مثل هذا الذي حدث معه منذ قليل عندما ضم رحمة إلى صدره، ولم يشعر معها بالراحة كما يشعر مع، شروق.
لا يدرى لما اقتحمت صورة شروق مخيلته الآن، لينفض تلك الصورة وهو ينتبه إلى كلمات بشرى التالية وهي تقول: متحاولش تتعب نفسك، وتدور على كلام تبرر بيه موقفك، وبصراحة انا تعبانة ومش حمل مجادلة معاك وعايزة آخد شاور وأنام، بعد إذنك.
تجاوزته ليمسك ذراعها يعيدها إلى مكانها أمامه، كاد أن تقع فإستندت إلى صدره مغمضة العينين تخشى السقوط ليدعمها بيديه، فتحت عينيها بقوة وهي تشتم رائحة نسائية تعرفها جيدا وتكرهها في آن واحد، فهي تذكرها بصاحبتها التي تكرهها بدورها، وبشدة، تبا إنها تقليدية للغاية تلك الرحمة، حتى عطرها مازالت تحتفظ به، ولم تغيره، ولكن ما الذي أتى به على ملابس زوجها؟، لتنتفض مبتعدة عنه وهي تقول بحدة:.
إيه الريحة دى؟فهمنى جتلك منين؟ عقد مراد حاجبيه قائلا بحيرة: ريحة إيه؟ قالت بشرى بحدة وهي تشير بإصبعها إلى صدر مراد قائلة: ريحة البرفيوم الحريمى دى. أحس مراد بالإرتباك لثوانى وهو يدرك أنها رائحة رحمة العالقة به، ليتمالك نفسه قائلا: راوية أغمى عليها ورحمة من قلقها كان هيغمى عليها هي كمان... قاطعته قائلة بحدة: وإنت طبعا الشهم الهمام اللى لحقتها قبل ما تقع وسندتها، صح؟ قال مراد بحدة:.
بالظبط، زي ما عملت معاكى دلوقتى، فيها إيه دى كمان؟ إزدادت نبراتها حدة وهي تقول: بس أنا مراتك. قال مراد بغضب: وهي كمان مرات أخويا. قالت بشرى بسخرية: كانت مرات أخوك، كانت، تجمدت ملامح مراد وهو يقول:.
رحمة هتفضل دايما مرات أخويا، فبلاش مشاعرك الغريبة واللى مش مفهومة بالنسبة لى من ناحيتها وناحية راوية اللى بتموت ومع ذلك مشفتش منك شفقة ولا عطف او حنية عليها، ياريت تصفى قلبك قبل فوات الأوان، ياريت تبعدى من جواه كل مشاعر الغل والكره اللى بحسهم ماليينه قبل ما تخسرى كل حاجة يابشرى، لإنى بجد زهقت ومليت من تصرفاتك. ليتركها ويغادر الحجرة صافقا الباب خلفه لتقول بشرى بغل:.
مش ممكن قلبى يصفى من ناحيتهم ولايمكن انسى إنى بكرههم، الاتنين أخدوا منى حلم حياتى وحب عمرى، واحدة حبها والتانية إتجوزها، وأنا ورغم انى من دمه زيهم، عمره ما شافنى ولا حس بية، ومش ههدى ولا يرتاحلى بال غير لما أخلص منهم الإتنين. ليظهر في عيونها كل التصميم وهي تدلف إلى الحمام، لتستسلم للمياه وتريح أعصابها فالغد يوم طويل وعليها الإستعداد له، تماما.
دلف يحيى إلى حجرته ليجد راوية مازالت تنتظره رغم تأخر الوقت، نظر إليها نظرة طويلة معاتبة قبل ان يتجه إلى الحمام ليوقفه صوتها الضعيف وهي تنادى بإسمه، التفت إليها لتشير إليه بالإقتراب، ليقترب منها رغما عنه فملامحها الشاحبة بشدة وحالتها الصحية، تملأ قلبه بالشفقة و ترغمه على الإنصياع لرغباتها، جلس بجوارها على السرير دون أن يتحدث، فقط ينظر إليها لتمد يدها وتمسك يده بحنو، لم يبعدها، لتقول هي بصوت هادئ ولكن يحيى إستشعر حزنها الدفين به:.
أنا عارفة إنك زعلان منى عشان طلبت من رحمة ومنك حاجة زي دى من غير ماأرجعلك في الأول وآخد رأيك، بس مكنش ينفع أقولك على رغبتى دى قبل ما آخد موافقتها. قال يحيى بعتاب: وموافقتى يا راوية ملهاش أي إعتبار عندك، ولا رأيي تحصيل حاصل بالنسبة لك؟ إلتمعت عينا راوية بالدموع وهي تقول: تفتكر إن مكانتك عندى قليلة أوي كدة عشان أستخف برأيك؟، كل الموضوع إن أنا حاسة بيك وعارفة اللى في قلبك يايحيى.
أطرق يحيى برأسه قائلا بحزن: إنتى متعرفيش حاجة. مدت يدها ترفع ذقنه لتواجهها عيناه وتقول هي بتقرير: أنا عارفة إنك بتحبها. إتسعت عينا يحيى في صدمة لتستطرد قائلة:.
بتحبها من زمان، وأنا كنت عارفة، ولغاية النهاردة مقدرتش تحب غيرها، بسمعك بتنادى إسمها في أحلامك، لإنك مش قادر تكون معاها في الحقيقة، إتجوزت هي أخوك وإتجوزت إنت أختها، بس القدر أهو بيديلكم فرصة تانية وكأن قصتكم مش مكتوب لها تنتهى بالفراق، وكأن مصيركم إنكم تكونوا لبعض مهما حاولوا يفرقوكم. إنتفض يحيى واقفا وهو يقول: إنتى بتقولى إيه بس، قصة إيه ومصير مين؟إنتى جرى لمخك حاجة؟ إبتسمت راوية بحزن:.
الموت لما بيكون قريب منك بيخليك تشوف كل حاجة صح وبتحاول تصحح حاجات كتير غلط في حياتك وحياة اللى حواليك واللى يهموك، وانا عمرى ماكنت صح أد النهاردة، متحاولش تنكر حبك، اللى بيبان جوة عيونك، في قاعهم اللى حاولت تخبى حبك فيه، وبيظهر فيهم بس لما بتسمع إسمها، وعشان كدة محيته من حياتنا كلنا، عشان بيفكرك بيها، بيفكرك بحبك الأول والأخير.
نظر إليها يترك مشاعره لأول مرة تظهر على وجهه دون أن يواريها كعادته مع الجميع، ليجلس مجددا وهو يقول بألم: هي السبب، هي اللى إتخلت عنى ياراوية وخانتنى، و مع مين، مع أخويا، محت إسمها من قلبى قبل ماأمحيها من حياتنا كلها، ياريت تقفلى على الموضوع ده لأنه بيوجع أوي، الموضوع ده منتهى بالنسبة لى، وبعدين مش انتى مراتى برده، إزاي بس تطلبى منى أعمل حاجة زي دى؟ قالت راوية بحزن:.
لإنى هموت قريب أوي بطلبها منك، لإنى مش هكون موجودة في حياتك وحياة إبننا بطلبها منك، بطلبها وقلبى بينزف بس لازم أكون واقعية وأطلبها منك، لإنى لو مطلبتهاش، وإنت لو موعدتنيش، مش هتعملها يايحيى. نهض يحيى يقول بعصبية: ايوة مش هعملها، لإنى مستحيل هقدر أسامحها، وبعيد عن إنك مراتى وتبقى اختها فالجواز منها أصلا شئ مستحيل افكر فيه لإنها إنتهت بالنسبة لى، فجوازى منها مستحيل هيحصل وده قرارى النهائى ياراوية.
نظرت إليه راوية متفحصة ملامحه وهي تقول: وإن قلتلك إنها هتكون لغيرك من تانى يا يحيى. لم يستطع يحيى إخفاء صدمته التي ظهرت على وجهه رغما عنه وهو يقول: تقصدى إيه بكلامك ده يارواية؟ تأكدت راوية في قرارة نفسها أنه مازال يعشق رحمة ولكنه كبرياؤه الأحمق ما يجعله ينكر مشاعره لتقول بهدوء:.
توفيق إبن خالتى في زيارته الأخيرة لية قاللى إنه قابلها في دبي وإنه لسة بيحبها وعايز يتجوزها وفعلا طلبها للجواز، وأنها طلبت منه يديلها فرصة تفكر، وبتهيألى لو رفضت إنك تتجوزها هتوافق عليه يايحيى. قال يحيى بتوتر غاضب: هي قالتلك إنها هتتجوزه؟ قالت راوية بهدوء:.
قلتلك قالتله هتفكر، بس طبعا لما أقنعتها تتجوزك، بقى الموضوع ده بالنسبة لها منتهى، لكن لو رفضت فتوفيق مستعجل ومش بعيد يقنعها ويتجوزها في أسرع وقت، توفيق عريس كويس وميترفضش، القرار بقى في إيدك يايحيى، والوقت بيفوت بسرعة. تمالك يحيى نفسه الممزقة في تلك اللحظة غضبا وألما وغيرة، ليقول ببرود صقيعي: وقرارى لسة زي ما هو ياراوية، جوازى من رحمة مستحيل، تتجوز اللى تتجوزه، صدقينى مبقتش تفرق كتير.
ليغادر الحجرة مسرعا وكأن شياطين الأرض تطارده، تدحض خطواته الغاضبة برودة لهجته وكلماته، لتقول راوية بألم: مهما حاولنا ننكر مشاعرنا مش هنقدر، في الآخر هنستسلم ليها وساعتها هنعمل أي حاجة، أي حاجة عشان نحميها من الأذى. لتغمض عينيها تشعر بالإرهاق الذي أنهك جسدها وروحها، بشدة.
دلف يحيى إلى حجرة ولده يبغى أن يريح قلبه المتعب برؤياه، ربما وجد صغيره مستيقظا لينسى أفكاره التي تحرقه وهو يداعبه، ذلك الملاك الصغير الذي يعشقه والذي يجعله ايضا يحتمل تلك الحياة وآلامها، ليتوقف في مكانه متجمدا وهو يراها أمامه نائمة على هذا الكرسي الهزاز بجوار السرير، تضم طفله بين ذراعيها، وينام هو على صدرها بأمان، لا يدرى لماذا شعر بقلبه الآن يذوب في صدره، ولما إزدادت حرارة جسده وإشتعل كيانه بالكامل، هل لأن هذا المشهد لطالما راود أحلامه منذ أن شب على حبها ودق قلبه من أجلها، أم لإنها الآن تبدو كصورة مجسدة لجمال ملائكي برئ يخلب الألباب، أو ربما لأنها هي فقط رحمة وهذا الذي بين يديها هو طفله الصغير هاشم، وكليهما قطعة من روحه مهما رفض مشاعره وأنكرها، أغمض عينيه عن تلك الصورة الخلابة ليفتحهما مجددا تصارعه أفكاره من جديد، ترى هل سيأسر رحمة رجل آخر بالرباط المقدس، هل ستكون أما في يوم من الأيام لطفل رجل آخر يتأملها وهي نائمة يضم حضنها صغيره كما يتأملها هو الآن؟، أشعلته الغيرة، وأحرقه غضب شديد سري بعروقه وهو يتخيلها ملكا لغيره، مجددا،.
يشعر بأنه لن يتحمل ذلك تلك المرة، ورغم أنها تستحق الموت لما فعلته به بالماضى، لكن لابد وأن يعترف أنها لازالت تمتلك قلبه، ذلك القلب الخائن العاشق لها حتى الموت، يدرك وبكل ضعف أنه لن يستطيع أن يتركها لغيره، فإما هو أو الموت، ولا خيار آخر أمامها.
تراجع إلى الخلف بحذر، لينظر إليهما نظرة اخيرة قبل أن يغلق الباب متجها إلى حجرته، ليجد راوية مازالت مستيقظة رغم تأخر الوقت، تتطلع إليه في حزن، ليأخذ ملابسه متجها إلى الحمام في صمت ولكن يده توقفت على مقبض الباب للحظة وهو يستدير بجانب وجهه إليها قائلا بجمود: أنا موافق ياراوية. ثم دلف إلى الحمام وأغلقه خلفه، لتتسع عينا راوية لا تصدق أذنها، ثم مالبثت أن زفرت براحة قبل أن تنظر إلى السماء قائلة: الحمد لله.
لتغلق عينيها وتستسلم لنوم عميق، ترتسم على شفتيها لأول مرة منذ سنوات، إبتسامة إرتياح.
قال هشام بسخرية: حبيب القلب هيتجوز بكرة. نظرت إليه رحمة في صدمة قائلة: إنت بتقول إيه؟ إقترب منها يقول بإبتسامة ساخرة باردة الأحرف: بقول إن يحيى فرحه بكرة وتعرفى مين عروسته؟ مزقتها صدمة ذلك الخبر، يحيى سيتزوج غدا، بعد مرور أيام على زواجها من أخيه، ألم يعشقها يوما، ألم يخبرها أنه يذوب في هواها، كيف إستطاع نسيانها بتلك السرعة، كيف؟لتفيق من صدمتها على سؤاله الساخر وهو يقول:.
مش عايزة تعرفى إسم العروسة؟، على فكرة، إنتى تعرفيها كويس. أغمضت عينيها، لا ليست بشرى، تلك التي تكرهها من كل قلبها، تعلم منذ صغرها أنها تكن لها نفس الشعور لتفتح عينيها في ذهول على كلمات هشام التالية: العروسة تبقى راوية، أختك. قالت بنبرات مرتعشة: كددداب، مستتتحيل، راوية؟ أخرج من جيبه كارت دعوة ألقاه بوجهها قائلا: إقريه يمكن ساعتها تصدقينى.
إنحنت تأخذ الكارت من على الأرض، تفتحه بيد مرتعشة لتقع عيناها على إسم العريس، يحيى الشناوي، حبيبها الخائن الذي تزوج بعد أيام من وعده إياها بالزواج، لتصل عيناها لإسم العروس، راوية الشناوي، أختها، أغمضت عينيها في ألم، تدرك أنه يعاقبها على زواجها التي أجبرت عليه، بزواجه من أختها، وياله من عقاب، أفاقت على قبضة هشام التي أمسكت بذراعها وهو يقول بنبرات كالفحيح:.
جوازه نجاه منى، انا كنت خلاص بفكر أقتله بسبب حبك ليه، حتى تصديقه لخيانتك و جوازنا قصاد عنيه وهو واقف مفكرش حتى يعترض، كل ده مقدرش يمحى حبه من قلبك، لكن جوازه خلانى عرفت إنك ولا حاجة بالنسبة له، وبتهيألى انتى كمان عرفتى ده، فالمفروض دلوقتى تنسيه، بإرادتك أو غصب عنك، بس لازم تكونى متأكدة إنك هتنسيه هتنسيه، لإنك مراتى أنا، حبيبتى أنا، مفهوم؟
كان يضغط على ذراعها بقوة، يؤلمها بشدة ولكن ألمها الأكبر نبع من أعماقها التي أدركت بالفعل أنها لم تعنى ليحيي شيئا.
، إستيقظت رحمة تشعر بألم شديد بصدرها، فتحت عينيها لتجد نفسها جالسة على ذلك الكرسي الهزاز تضم هاشم إلى صدرها، شعرت ببعض الراحة بعد أن كانت تشعر بذلك الألم في قلبها والذي يجلبه تجدد تلك الذكرى في أحلامها، نهضت ووضعت الصغير في سريره، ليفتح عينيه الجميلتين وتراهما رحمة لأول مرة، كم تشبه عيناه عينا أبيه، يحيى، ليبتسم وتظهر غمازتيه بدورهما، كتلك الغمازتين الخاصتين بيحيي تماما، لتدرك ان هاشم قطعة من أبيه، أغمضت عينيها عن صورته التي تمثلت أمامها ثم فتحتهما مجددا لترى هاشم قد عاود النوم مجددا، إبتسمت في حنان، ثم ربتت على رأسه ومالت تقبله قبلة خفيفة على وجنته قبل أن تتجه خارجا لتغادر الحجرة، لتتوقف و تلقى عليه نظرة أخيرة قبل أن تغلق باب الحجرة، بهدوء.
ألقى مراد نظرة على بشرى النائمة بعمق إلى جواره، قبل أن ينهض ويتجه إلى شرفة الحجرة، يقف ناظرا إلى الحديقة بشرود، أخرج من جيبه علبة سجائره والتي لا يلجأ إليها سوى عندما يكون في قمة توتره، ليشعل منها سيجارة وينفث دخانها ناظرا إلى الأفق البعيد، لم يستطع النوم بتاتا، يفكر في ما سمعه البارحة من راوية وطلبها من أخيه الزواج من رحمة، ليشعر بقلبه يشتعل نارا، نارا أحرقته مجددا وهو يتخيلها زوجة ليحيي، ماالذى يحدث له؟ألا يكفيهم عذابه الذي عاش فيه لسنوات وهو يدرك انها أصبحت زوجة لأخيه الأصغر هشام، الآن يريدونها زوجة لأخيه الأكبر يحيى؟وماذا عنه، ماذا عن مشاعره التي يحملها لها، نعم لقد أدرك البارحة انها مازالت تحتل قلبه، الذي إستكان بإستكانتها داخل صدره واشتعل غيرة وهو يتخيلها ملكا لأخيه، إذا ماذا سيفعل إن كانت لأخيه فعلا، أطفأ سيجارته في منفضة السجائر، يرفض أفكاره ويبعدها بعيدا، فمن الواضح أن أخاه رافضا لذلك الطلب، ولن يقبل به، لذا فليطمأن قلبه الثائر في صدره، ليعود ويفكر، إن لم تكن ليحيي فيوما ما ستكون لغيره، ربما عليه الإسراع وعرض الزواج عليها، لتظهر صورة شروق في تلك اللحظة ماثلة أمامه، عقد حاجبيه وهو يشعر بالحيرة، يتساءل، ماذا عن شروق؟، هل سيستطيع التخلى عنها من اجل رحمة، وماذا عن بشرى أيضا، هل سترضى ان تكون رحمة زوجته، رحمة التي تكرهها من كل قلبها؟وماذا عن رحمة نفسها هل ستوافق؟أحس بالإضطراب، بحيرة قاتلة وهو لا يجد إجابة لأي سؤال من تلك الأسئلة التي طرحها عقله عليه، ليزفر بقوة ثم يتجه إلى الداخل ليبدل ملابسه وينزل إلى حجرة الطعام، ربما وجد الراحة هناك، مع رحمة، بالأسفل.
كادت رحمة ان تتجه إلى جناح أختها لتطمأن عليها، ولكنها نظرت إلى ساعتها التي تشير إلى السابعة صباحا، تدرك ان الوقت مازال مبكرا وربما كانت نائمة الآن وإلى جوارها يحيى، وعلى الرغم من أنها تدرك أن هذا شئ طبيعي إلا ان مجرد تخيله يمزق قلبها ألما، إلى جانب شعورها بأنها لن تتحمل أن تواجهه بعد ما حدث البارحة ومعرفته بإقتراح أختها، بل وصيتها ورغبتها الأخيرة كما تردد، هبطت رحمة إلى الأسفل، لتفاجئ بمراد جالسا في حجرة الطعام لتبتسم قائلة:.
صباح الخير. خفق قلبه لإبتسامتها ليبتسم بدوره قائلا: صباح النور. جلست إلى جواره قائلة: الظاهر إن مش أنا لوحدى اللى صحيت بدرى. نظر إليها يتأمل ملامحها بطريقة أربكتها قائلا: لأ، مش لوحدك. إبتلعت ريقها قائلة في إرتباك: إحمم، هي، بشرى مراتك فين، وأخبارها إيه؟أصل، يعنى، مشفتهاش إنبارح لما جيت. كاد مراد أن يتحدث ولكن قاطعه صوت بشرى الذي يحمل سخرية داخل طياته وهي تجيبها قائلة:.
موجودة ياحبيبتى، والله فيكى الخير وبتسألى عنى، حمد الله ع السلامة. مازالت بشرى كما هي، حقود، غيور منها، تكرهها وبشدة، هذا ما فكرت فيه رحمة وهي تلتفت إلى بشرى الواقفة أمامها بثبات لتقول بهدوء: الله يسلمك يابشرى، إزيك؟ قالت بشرى بإبتسامة باردة: بخير يارحمة، إيه مش شايفة بنفسك؟ إبتسمت رحمة ببرود قائلة: لأ شايفة طبعا، حقيقى متغيرتيش، لسة زي ما إنتى، بشرى بتاعة زمان.
إبتسم مراد بداخله وهو يتذكر كلمات رحمة عن بشرى والتي ذكرته جملتها الأخيرة بها فقد كانت دائما تقول عنها(بشرى كتلة جنان)، مما كان يثير غيظ بشرى وحقدها على رحمة أكثر لتكفهر ملامح بشرى وتظهر نظرة غل في عيونها كما تظهر تماما الآن، ليبدو أنها تتذكر كلمات رحمة بدورها، كادت أن ترد عليها حين إستمعوا إلى صوت يحيى الذي صرخ بإسم راوية في لوعة، لتنتفض القلوب رعبا وهم يدركون معنى صرخته، لينطلقا بإتجاه حجرته يتآكلهما القلق، فيما عدا بشرى التي تابعتهما، وفى عيونها إرتسمت نظرة إنتصار وعلى شفتيها ظهرت إبتسامة، وهي تقول بهمس:.
وأخيرا.
قالت علا بصوت خافت موجهة حديثها إلى بشرى الجالسة بجوارها تنظر إلى رحمة بحقد: خفى يابشرى، مش كدة، الستات أخدت بالها منك. زفرت بشرى وهي تنظر إلى علا قائلة في همس حاد: غصب عنى، إنتى مش شايفة ستات العيلة عاملين معاها إيه، وكأنها مبعدتش عنهم بمزاجها سنين، وكأنهم نسيوا إنى انا اللى كنت بزورهم وبودهم وبعملهم الحفلات وبجمعهم، سايبينى أنا وقاعدين حواليها بيواسوها، هتشل يا علا، هتشل. قالت علا بهدوء:.
إهدى بس وإسمعينى، هي أخت المرحومة راوية والطبيعى يكونوا بيواسوها اكتر لإنها الاقرب ليها واللى باين حزنها عليها، إنتى مش شايفة دموعها و حالتها عاملة إزاي، دى لا أكل ولا شرب ولا نوم، تحسيها هيجرالها حاجة. نظرت بشرى إلى علا في حدة قائلة:.
حتى إنتى يا علا بتصدقى الحركات بتاعتها دى، هو انا مش ياما كلمتك عنها، دى تمثيلية ياعلا، تمثيلية قصدها تكسب بيها عطف العيلة وشفقتهم، وعطف يحيى ومراد طبعا، دى حرباية وعارفة إزاي تتلون بألف لون. قالت علا بهمس: وأهى خطتها نجحت والكل متعاطف معاها، إتعلمى منها بقى ياحبيبتى ومثلى شوية، الناس بيبصولك.
نظرت بشرى بالفعل إلى محيطها لتجد بعض النسوة ينظرون إليها تبدو على ملامحهم الإستنكار، لتشعر ان علا على حق، يجب ان تبدأ التمثيل الآن وحالا وإلا ستكون سيرتها غدا على كل لسان في تلك العائلة التي تكرهها من كل قلبها، عائلة الشناوي. لتدمع عيناها على الفور وهي تستحضر كل قدراتها التمثيلية، لتصرخ بلوعة قائلة: ياحبيبتى ياراوية، ملحقتيش تفرحى بهاشم جوة حضنك، كنتى أخت، والله كنت أخت، ربنا يرحمك ياحبيبتى يارب.
ظهر الحزن على وجوه الجميع وهم يقولون آمين، وبدأت بعض النسوة تتجه إلى بشرى تطلب منها الصبر وذكر الله، يواسونها على مصابها وهي تبكى وتقول: قدر الله وما شاء فعل، ربنا يرحمها برحمته، وحشتني من دلوقتى.
لتتلاقى عيناها بعيني علا التي ضمت السبابة والإبهام رافعة اصابعها الثلاثة علامة الكمال خفية، لتكاد بشرى ان تبتسم في إنتصار ولكنها أخفت تلك الإبتسامة بسرعة لتلتقط رحمة ما حدث وتهز رأسها في يأس، تمد يدها لتمسح دموعها المتساقطة على وجهها قائلة في ضعف: ربنا يرحمك ياراوية.
، إنفضت النسوة وإنتهى العزاء، لتقترب روحية من رحمة قائلة في حنان: قومى ياست رحمة، كلى لقمة وإرتاحى شوية، كدة مش كويس علشانك. قالت رحمة بضعف: مش قادرة ياروحية آكل، أنا هقوم أرتاح في أوضتى. قالت روحية بإصرار: مينفعشى ياستى، إنتى مكلتيش حاجة من ٣ أيام، مفيش حد يقدر يعيش من غير أكل. قالت رحمة بضعف: مش قادرة احط حاجة جوة بطنى، من فضلك ياروحية سيبينى براحتى. قالت روحية: بس... قاطعتها بشرى قائلة بحدة:.
ما قالتلك مش قادرة، خلصنا بقى، هو إحنا هنترجاها تاكل، ما إنشالله ما أكلت، دى حاجة تإر... هدر صوت يحيى من خلفها مقاطعا إياها وهو يقول: فيه إيه، بتزعقى كدة ليه يابشرى؟ نظر الجميع إلى يحيى الذي دلف لتوه من باب المنزل يبدو عليه الإرهاق بدوره وقد إستطالت ذقنه وظهر السواد حول عينيه، يتبعه مراد، لتقول بشرى متلعثمة: مبزعقش ولا حاجة، أنا بس، أنا...
ليتجاهلها يحيى تماما وهو يلقى نظرة على وجه رحمة الشاحب بشدة، ينتابه القلق من مظهرها الضعيف، يخشى ان تكون بشرى قد ضايقتها بكلامها ويدرك من إطراقة رأسها أنها لن تتحدث، ليقول موجها حديثه إلى روحية قائلا: فيه إيه ياروحية؟ قالت روحية في إحترام: رحمة هانم مكلتش يايحيى بيه وانا كنت بنبهها إنها لازم تاكل قبل ما تطلع اوضتها بس هي رفضت زي كل يوم. إتسعت عينا يحيى في صدمة وهو يوجه حديثه إلى رحمة قائلا:.
إنتى مكلتيش من إمتى يارحمة؟ رفعت إليه عينان ضرب كل من ضعفهما ودموعهما قلبه في مقتل وهي تقول بصوت خافت: مليش نفس، مش عايزة آكل. إقترب منها قائلا بقلق حازم: أنا بسألك سؤال تجاوبينى عليه، مكلتيش من إمتى؟ قالت روحية بسرعة: من ساعة المرحومة راوية هانم ما ماتت، من ٣ ايام يابيه.
نظر يحيى إلى روحية بصدمة ثم عاد بنظراته إلى رحمة التي بدأت تشعر بدوار خفيف، تود في تلك اللحظة ان تهرب إلى أمان حجرتها تدرك ان كل العيون عليها وهذا يصيبها بالتوتر والضيق، خاصة عيون هذا الرجل الواقف أمامها، لتسمع صوت بشرى وهي تقول بحدة: إنتوا مكبرين الموضوع أوي على فكرة، إيه يعنى مكلتش، دلع ماسخ بصراحة. إلتفت يحيى إلى بشرى قائلا بصرامة: إنتى بالذات تسكتى خالص ومسمعش صوتك، مفهوم؟
نظرت بشرى إليه بصدمة ثم نظرت إلى مراد الذي كان يتابع ما يحدث بملامح جامدة صامتة، لتشعر بالغضب يهز كيانها لتضرب الأرض بقدميها في حنق قبل أن تتركهم وتتجه إلى حجرتها بخطوات سريعة غاضبة تتابعها الأعين لينتفض يحيى على صوت روحية وهي تقول برعب: إلحق يايحيى بيه.
ليلتفت يحيى إلى رحمة التي كادت أن تسقط أرضا ليسندها بذراع صلبة قبل أن ينحنى ويحملها بين يديه وقد ظهر الجزع على ملامحه، يدرك أنها أغشي عليها، ليصرخ بروحية قائلا: هاتى بيرفيوم من أوضتى وحصلينى على أوضتها بسرعة ياروحية، رحمة مستحيل تروح منى تانى.
أسرعت روحية تنفذ اوامر يحيى بينما وقف مراد عاجزا، كاد أن يذهب وراءهم ولكن إكتشافه الذي مزق كيانه الآن، أصابه بالذهول ليشعر بالإختناق، ليقرر أنه لابد وأن يذهب إلى المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالراحة، لذا غادر المنزل متجها بكل حسم، إلى شروق.
وضع يحيى رحمة على السرير ثم جلس بجوارها يمسك يدها يفركها بين يديه، هاله مظهرها الشاحب وشفتيها الزرقاوين ونبض قلبها الضعيف، تحاكى ملامحها ملامح الموتى، ولكن أنفاسها التي تخرج من صدرها هو ماجعله يتنفس بدوره ولو قليلا،.
لقد جزع قلبه حقا خوفا عليها وأنبأه ذلك الشعور الذي يشعر به الآن أنه لن يستطيع التخلى عنها أبدا ولا حتى للموت ليرفع يدها إلى شفتيه يقبلها بقوة وهو يغمض عينيه يتوسل قلبه لها صارخا، بالله عليكى لا تتركينى مجددا، ليترك يدها على الفور وهو يشعر بدلوف روحية إلى الحجرة تمنحه زجاجة العطر الخاصة به لينثر بعض منها على يديه ثم يقربها من أنفها، جعدت رحمة أنفها وبدأت في فتح عينيها الدخانيتين واللتين لطالما أسرتاه بنظراتهما البريئة تلك، زفر بقوة إرتياحا، ليقول لدادة روحية دون أن يحيد بنظراته عن رحمة:.
حضريلها لقمة بسرعة ياروحية. فتحت رحمة فاهها لتعترض بضعف ولكن إصبع يحيى الذي وضعه على شفتيها كتم إعتراضها خاصة وهو يقول بنبرة حانية أذابت قلبها: هش، ولا كلمة، هتاكلى وأنا بنفسى اللى هأكلك.
تأملت عيناه بنظرة جعلته أسيرها لثوان، يشعر بإرتعاشة شفتيها تحت إصبعه، إرتعاشة هزته من الأعماق، تجبره على الإقتراب والنهل من شهد شفتيها حد الإرتواء، قبل أن يفيق من هذا الأسر وهذه المشاعر وهو يدرك أنه يقع في سحرها مجددا ليبعد إصبعه عن شفتيها وهو يشيح بوجهه موجها حديثه إلى روحية قائلا في حزم: مستنية إيه ياروحية؟، بسرعة هاتى الأكل. أومأت روحية برأسها وهي تقول: ثوانى يابيه والأكل يكون عندك.
لتسرع بمغادرة المكان بينما عاد يحيى إلى رحمة بنظراته رغما عنه يغرق في سحر تلك العيون التي تبدو في براءة عيون حمل وديع الآن ولكنه يدرك أنها عيون حرباء متلونة، ولكن رغما عنه يغرق فيهما دون إرادة، كالسكير.
كانت شروق تجلس على السرير في حجرتها تتصفح الإنترنت على هاتفها الجوال حين فوجئت بمراد يدلف إلى الحجرة لتترك الهاتف وهي تنهض بسرعة وتتقدم تجاهه وقد هالها مظهره المنهك الحزين، لتحتضنه وتضمه إليها قائلة: مالك ياحبيبى فيك إيه؟ مرغ مراد وجهه في عنقها وهو يقول بألم: تعبان ياشروق، تعبان أوي. زادت من ضمتها إياه وهي تقول بصوت تهدج، تأثرا عليه: سلامتك من التعب ياقلب شروق، ياريت تعبك يسيبك وييجى جوايا أنا.
إبتعد عن محيط ذراعيها وقد أجزعته كلماتها، لا يريدها أن تصاب بأذى أبدا حتى ولو كان أذى نفسيا، ليضم وجهها بين يديه قائلا بلهفة: بعد الشر عنك، متقوليش كدة.
أدمعت عيناها وهي ترى لأول مرة لهفته عليها، تدرك أنه بات يكن لها بعض المشاعر حتى وإن لم يعترف بذلك بعد، فلقد كان إتفاقهما عند الزواج أن تمنحه سكينة لا يشعر بها مع زوجته ويمنحها منزلا وزوجا يرعاها بعد أن كادت أن تلقى في الشارع بلا مأوى لها، من قبل عمها الذي قال لها مباشرة أن أولاده هم أحق بتلك اللقمة التي يمنحها إياها، يإست تماما وقد أصبحت دون أهل أو مأوى، مشت في الشوارع حتى بلغ منها اليأس مبلغه لتلقى بنفسها في وسط الطريق تبغى خلاصا من حياة بائسة، ليكبح مراد فرامل سيارته قبل ان يصدمها مباشرة ويهبط منها، يوبخها بشدة لرعونتها، لتنفجر في البكاء فيشفق قلبه عليها، يشعر بوجود مأساة خلف تلك الدموع، ليأخذ بيدها ويطلب منها ان تحكى له مأساتها لتخبره بكل شئ، لا تدرى حتى الآن كيف باحت له بما لم تبح به لمخلوق، صمت طويلا مفكرا ثم عرض عليها العمل معه في الشركة لتوافق على الفور، منحها مبلغ من المال لتبحث عن مسكن قريب، وفى نفس اليوم تقابلت مع صديقتها نهاد وهي في رحلة البحث تلك، لتسكن معها، وتشعر بالحياة وأخيرا تفتح لها ذراعيها من جديد، ومع مرور الأيام فاجئها مراد بعرضه الزواج منها لتفاجئ اكثر بموافقتها التي أرجعتها وقتها لفضله الكبير عليها، ولكنها أدركت بعد الزواج أنها وافقت على عرضه لأنها أحبته من النظرة الأولى، أفاقت من شرودها على يده الحانية والتي امتدت تمسح دموع سقطت على وجهها دون ان تشعر بها، ومراد يقول بعتاب:.
انا مش قلتلك من أول يوم شفتك فيه إن العيون الجميلة دى مش لازم تبكى وأنا موجود. رفعت يدها تسحب يده إلى شفتيها تقبلها بعشق قائلة: ربنا يخليك لية يامراد وميحرمنيش منك أبدا.
حركة بسيطة وكلمات أبسط منحاه شعور غريب بالراحة والسكينة، شعور لا تمنحه إياه سوى شروق، تلك الفتاة البسيطة رائعة الجمال، والتي منحته ماعجزت عن أن تمنحه إياه بشرى، منحته حب يظهر في تلك العينين العشبيتين، وفى اهتمامها به وبكل ما يحبه ويرغبه، ومنحته راحة في الإستماع إليه وإلى ما يؤرقه ثم بكلمات بسيطة أو لمسات رقيقة تزيح كل ما يتعب قلبه، تمحيه وكأنه لم يكن، ومنحته ملجأ عندما تضيق به السبل يلجأ إليه واثقا بأنه سيفتح له طاقة من نور تنير طريقه المعتم، إنه حضنها الدافئ ومنزله الذي ملأت أركانه دفئا بدوره، هذا ما تمنحه له شروق، لذا لا يستطيع ان يتخيل يوما حياته دونها، ولكن في المقابل ماذا منحها هو؟
قاطع أفكاره صوتها العذب وهي تقول: إرتاح شوية على ما أعملك حاجة تاكلها ياحبيبى. كادت ان تغادر حين أمسك يدها يمنعها من المغادرة ويعيدها إلى مكانها قائلا: مش جعان، خليكى جنبى وبس، أنا كدة مرتاح، وجودك بس جنبى راحة ياشروق. نظرت إليه بلهفة قائلة: بجد يا مراد؟ مال يقبل شفتيها قبلة خفيفة قبل أن يقول هامسا أمام شفتيها: بجد ياشروق.
ليعود إلى شفتيها ثانية مقبلا إياها قبلة دافئة بادلته إياها على الفور ليتعمق بقبلاته آخذا إياها إلى عالمه التي تعشقه وتشعر بين طياته بعشقه الذي يحمله لها، تدرك أنه لم يعترف به حتى الآن لنفسه ولكنها تشعر به في كل قبلة ولمسة حيا بين نبضاته، وهذا يكفيها، مؤقتا.
قرب يحيى ملعقة الشوربة من فم رحمة لتفتح شفتيها رغما عنها وتشربها، رأي يحيى قطرة من الشوربة إستقرت على شفتيها الجميلتين ليمد يده دون وعي منه ويمسحها بحركة خطفت أنفاسها وأرسلت القشعريرة في سائر جسدها، لتتعلق عيناها بعينيه، تشعر بيحيي يعود كما كان قديما، حنونا محبا، لتزداد حرارة جسدها بشدة وتزداد دقات قلبها وكأنها في سباق وتحمر وجنتاها لتغيم عيناه وهو يرى ملامحها التي إزدادت جمالا، وشفتيها المرتعشتان اللتان تجذبانه لها كما تجذب النار الفراشة، ولكن مع الأسف تلك النار تحرقها بالنهاية، ليكبح جماح نفسه بكل قوة، كادت هي بدورها أن تستسلم لعشقها القديم، كادت أن تلقى بنفسها في أحضانه ليضمها ويبعد عنها احزانها ومخاوفها كالماضى ولكنها قاومت مشاعرها ورغباتها بكل ذرة فيها، تدرك أن هذا هو يحيى من ظن بها السوء رغم أنه هو من رباها على يديه، هو من أنشأها على عشقه فلم ترى غيره ولم يدق قلبها لسواه، هو من تخلى عنها وتركها لأخيه تعانى مرارة الهجر وقسوة الغدر وألما يفوق الإحتمال مع رجل سادي أذاقها كل أنواع الألم الذي تحملته فقط لإنها تؤمن ان لكل ظالم نهاية وأن بعد العسر يسرا كما قال ربها وأكد في قرآنه المجيد.
نهض يحيى قائلا في توتر: انا هخلى روحية تيجى تأكلك... قاطعته قائلة: لو سمحت متتعبهاش، أنا هاكل لوحدى. نظر إلى ملامحها الهادئة قائلا: متأكدة؟ أومأت برأسها ليقول مكررا: هتاكلى يا رحمة، قلة الأكل مش كويسة علشانك. وكأنه يهتم إن عاشت أو ماتت، لتقول بعصبية: انا مش طفلة صغيرة على فكرة، ولما أقول هاكل يبقى هاكل، بطل تعاملنى معاملة الأطفال يايحيى، إنت كدة بتخنقنى. إبتسم بسخرية قائلا:.
الاحسن إنى أعاملك كطفلة، صدقينى، ما هو إنى اعتبرك طفلة صغيرة مش عارفة مصلحتها فين، أحسن كتير من إنى اعتبرك كبيرة وواعية ﻹن تصرفاتك دى لو اعتبرتها من واحدة كبيرة فهتنزلك من عينى أوي يارحمة، وأظن مش ممكن تنزلى أكتر من كدة.
أغروقت عيناها بالدموع ولكنها أطرقت برأسها حتى لايرى دموعها وضعفها، بينما هو شعر بالندم فور نطقه لتلك الكلمات وهو يرى شحوب وجهها ولكنه أدرك أنه أراد بتلك الكلمات ان يثبت لها أنه ليس ضعيفا أمام سحرها كما ظهر منه، وأنها لا تؤثر به بتاتا، أراد ان يوضح لها رأيه فيها حتى لا تنتابها الشكوك حول مشاعره ورغم انه أراد ان يبثها كل ذلك إلا أن إطراقة رأسها ومظهرها الضعيف الآن جعلاه يشعر بالندم على تفوهه بتلك الكلمات الفارغة، يدرك أنه إن تركها الآن فلن تأكل وربما حدث لها شيئا وهو لن يسمح بإصابتها بأي سوء، ليعاود الجلوس بجوارها يمسك بطبق الشوربة مجددا، ويمد يده بالملعقة إليها لترفع وجهها تنظر إليه بدهشة إختلطت بالدموع في مشهد فطر قلبه، لينظر إليها بعيون قرأت فيهم ندمه الذي يحاول أن يخفيه عنها لتسامحه على الفور على كلماته القاسية، لاعنة قلبها الذي يذوب به عشقا، لتفتح فاهها وتشرب، لاتدرى مذاق ما تشربه ولكن كل ما تدركه أن يحيى هو من يذيقها إياه لتستشعره في فمها، رائع المذاق.
كانت بشرى تجوب حجرتها جيئة وذهابا، تشعر بالحقد والغيظ يمزقان كيانها، تبغى الإنتقام ممن كانت السبب في أن يصرخ عليها يحيى لأول مرة في حياتها، لا تدرى ماذا تفعل؟لتتوقف في مكانها ترفع يدها إلى رأسها تفركها في حدة وهي تقول:.
فكرى يابشرى، فكرى، إيه، افكارك الجهنمية راحت فين؟دماغك دى صدت ولا إيه؟أكيد من قلة إستعمالها، بقالك كتير راكناها على الرف، لكن آن الأوان تستخدميها عشان تزيحى العقربة رحمة من طريقك، بس هتظبطيها إزاي بس؟ لتزفر قائلة: طول ما أنا عايشة في التوتر ده وهي أدامى مش هعرف أفكر وأدبرلها مصيبة تاخدها من وشى، وأخلى الطريق يفضالى بقى، كل اللى هيحصل إنى هتعصب وأغلط وأزعل يحيى منى وبس. لتلتمع عيناها وهي تقول:.
أيوة، أحسن حاجة أروح لأخو جدى هاشم البلد، أيوة هروح للحاج صالح، هناك هدوء وهعرف أفكر براحتى وبالمرة أجدد علاقتى بيهم، جايز أحتاجلهم في خطتى. لتبتسم بإنتصار قائلة: أما إنتى عليكى دماغ يابشرى، ألماس. لتطلق ضحكة ساخرة، وهي تمنى نفسها بقرب الخلاص نهائيا، من رحمة.
إستيقظ مراد ليجد شروق نائمة في حضنه تضع رأسها على صدره العارى وتحيط خصره بذراعها، تحاوطه وكأنها تخشى ان يبتعد عنها ليبتسم في حنان وهو يمرر يده على خصلات شعرها الحريرية، ثم يرفعها بحذر ويمددها بجواره لتتمطى كقطة وتتمسح به، مال يقبلها على وجنتها بنعومة، يغمض عينيه وهو يستنشق عبيرها الأخاذ، ثم يفتحهما ملقيا على ملامحها الجميلة نظرة أخيرة قبل ان ينهض بحذر، حتى لا يوقظها، فلا طاقة له اليوم برؤية حزنها لرحيله كما يحدث عادة، تظن هي انها إستطاعت ان تواريه عنه ويدركه هو في طيات عينيها الخضراوتين الساحرتين، نافذته التي يستطيع من خلالها رؤية مكنون قلبها، تنهد بحزن، كم ود لو إستطاع ان يبدل قلبه أو يمحى عشق رحمة منه على الاقل كي يستطيع ان يبادلها ذلك العشق الكبير الذي تكنه له، ولكنه للأسف لا يستطيع، رغم انه أدرك مؤخرا حقيقة غابت عنه طوال حياته وهي أن أخاه يعشق رحمة، والمصيبة الأكبر أن رحمة تعشقه بدورها، ظهرت تلك الحقيقة في نظرات رحمة إلى يحيى وكلمات يحيى التي خرجت منه دون إرادة، تلك الحقيقة صدمته وأشعلت كيانه حزنا، فطر قلبه إدراكه أنهم، أولاد عاصم الشناوي، ثلاثتهم أحبوها منذ الصغر، ولكن هي، هي لم تحب سواه، أخاه الأكبر، يحيى، ذلك الذي يحبه كوالد، كأخ أكبر، كقدوة، ورغم أنه وجب عليه ان يتخلص من عشقها الآن بعد إكتشافه ذلك، إلا أنه لا يستطيع، مازال قلبه ينطق بحروف إسمها، مجبرا إياه على التفكير بها، يتساءل ما مصير ذلك العشق الذي يهدم كيانه ويبعده عن كل ما حوله سواها، لينظر إلى شروق النائمة كالملاك متسائلا، وماذنب تلك المسكينة التي تعشقه بكل ذرة في كيانها، وتنتظر يوما يبادلها فيه عشقها؟ليغمض عينيه ألما، فبيده يقبع الحل لكل مشاكله ولكن قلبه يرفض أن يستمع إليه، ليبتعد مغادرا بخطوات ثقيلة، يعلم أنه وحده السبب في عذابه ولكن ما بيده حيلة فالحب في حالته لعنة ولا خلاص منها سوى بالموت، نعم هو الموت، ولا شئ غيره.
دلف مراد إلى حجرته بهدوء يبتهل بكل شدة إل الله ان تكون بشرى نائمة، فلا طاقة لديه اليوم أيضا لمشاجرة جديدة مع بشرى يستشعرها في كل كيانه، عقد حاجبيه بشدة وهو يرى الغرفة الخالية منها، تفقد الحمام فلم يجدها أيضا ليزداد إنعقاد حاجبيه، حتى وقعت عيناه على ورقة بيضاء وضعت على السرير مكتوب عليها إسمه بالخط العريض، تناولها تجرى عيناه على سطورها التي تقول،.
(وقفت ساكت وانا بيتزعقلى عشان خاطر الست رحمة، ملقتش جوزى جنبى يدافع عنى، ومع ذلك انا مش زعلانة منك، لإنى عمرى ما حسيت بوجودك جنبى كداعم لية على الأقل، عموما انا مخنوقة أوي ومش هقدر اقعد أنا وهي تحت سقف بيت واحد، خصوصا وأنا في الحالة دى، عشان كدة أنا روحت لجدى صالح في البلد، هقعد عنده يومين أهدي فيهم اعصابى وهرجع تانى، لو حابب تحصلنى فأنا مستنياك، ولو وراك شغل فعادى، إتعودت على كدة، سلام مؤقت، يامراد).
زفر مراد بإرتياح فإبتعادها في تلك الفترة هو خير بكل تأكيد، ليترك الورقة على الكومود ويتمدد على سريره بملابسه، يستسلم لنوم عميق يرغب به الهروب من كل شئ يحدث حوله، فهروبه الآن داخل أحلامه يبدو الحل الأمثل، على الأقل في الوقت الحالى.