رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر
أخبرنى كيف أراك ولا أنساق، لقلب قد نسي قلب إليه يشتاق؟ كيف أمحو ماض يجمعنا، وأمزق كل الأوراق؟ وأقتل خفقات القلب، أجبره على جرح وفراق؟ كيف أبعد الذكريات عن مخيلتى وأنسى أنى كنت يوما من العشاق؟
قال نبيل بهدوء: كدة بقى أنا إتأكدت من إنه خطفها، تليفونه المقفول ده وتليفونها كمان، وسفرها المفاجئ لشرم من غير ما تقولكم قبلها، واللي انتى بنفسك قلتيلى إن ده شئ غريب عليها. تنهدت سها قائلة في حزن: لين فعلا مستحيل تروح مكان من غير ما تقولى، و إحنا تقريبا كنا متأكدين من المرة اللي فاتت إنها مخطوفة، ومع ذلك ولغاية دلوقتى معرفناش نعمل حاجة ولا قدرنا نوصلها. زفر نبيل قائلا:.
أنا مش ساكت ياسها، أنا أجرت تحري خاص عشان يوصل لمؤيد، عن طريق الكريديت كارد بتاعه مثلا، بس مع الأسف لسة مستعملوش، ولسة التحري موصلش لحاجة جديدة كمان. ترقرقت الدموع بعيني سها وهي تقول: مؤيد مش غبى وأكيد مش هيستعمل الكريديت كارد بتاعه، وأنا بصراحة خايفة منلاقيهوش، بجد خايفة على لين منه، هو فاكر إنها باعته، وممكن يعمل فيها أي حاجة تإذيها.
أوجعته دموعها، ليمد يده يضم بها يدها الرابضة على الطاولة قائلا بحنان: متخافيش ياسها، مؤيد مش ممكن يإذى لين، مؤيد لسة بيحبها، واللي بيحب حد ميقدرش يإذيه حتى لو كان عايز ينتقم منه. رغم إرتعاشة يدها بين يديه ورغبتها في هذا الدفء الذي أحاط بها حين لمس يديها إلا أنها سحبتها في خجل، لتشعر على الفور ببرد يحيط بها، ولكنها نفضت هذا الشعور وهي تقول بحزن:.
إنت طيب أوى يانبيل، ومش عارف إن الإنتقام ممكن يعمى القلب والعين ويإذى حتى الناس اللي بنحبهم. نظر إلى عينيها الجميلتين وهو يقول بحنان: انا مش عايزك تخافى أو تقلقى، قبل ما يحصل أي حاجة هنوصلهم، وساعتها هقول لمؤيد اللي عرفته، ما هو لازم يفوق ويعرف إنه هو ولين كانوا ضحية خدعة حقيرة كل هدفها كان إنهم يبعدوا عن بعض. تنهدت سها بحزن قائلة:.
أنا لغاية دلوقتى مش قادرة أصدق إن شاهيناز ممكن تعمل كدة، انا صحيح مبحبهاش بس مكنتش متوقعة إنها بالحقارة دى. قال نبيل: وأحقر من كدة كمان، انا كنت شايفها على حقيقتها من زمان وياما حذرت مؤيد منها بس هو اللي مسمعش كلامى، عموما، نلاقيهم بس وكل حاجة هتتصلح وترجع زي الأول وأحسن. قالت سها بعيون إمتلأت بالأمل: يارب يا نبيل، يارب نلاقيهم قبل فوات الأوان. قال نبيل بتأكيد: هنلاقيهم يا سها، وده وعد منى ليكى.
إبتسمت سها بإمتنان تثق بأنه قادر على تنفيذ وعده، تستشعر رجولته التي تشع من كلماته وتصرفاته، ليبادلها إبتسامتها الممتنة، بإبتسامة حانية، عاشقة.
كان مؤيد يجلس في الردهة يقرأ كتابا قد أثاره في البداية محتواه الذي يتحدث عن تصميمات حديثة في فن العمارة والهندسة يحاول أن يشغل عقله عن التفكير بمحتواه، ولكنه وجد نفسه يشرد كثيرا في تلك الفتاة بالأعلى والتي يعشقها ويكرهها في آن واحد، آلمته كلماتها حقا، تساءل في حزن، أحقا تكرهه إلى هذه الدرجة؟ليتنهد في يأس، يفكر بصمت؟في مشاعرها النافرة القوية تجاهه، ربما لا فائدة ترجى مما يفعله، ربما يجب أن يطلق سراحها، ليس فقط من هذا المنزل بل عليه أن يطلق سراحها من قلبه، عليه أن ينساها ويتركها لحياتها ويتابع هو حياته، لينفض تلك الفكرة رافضا إياها، لا يستطيع تخيلها مع أحد سواه، ترك كتابه جانبا وقد مزقه هذا الشعور، يتساءل بمرارة، لماذا لم تحبه مثلما عشقها هو؟لماذا لم تبادله مشاعره وهو الذي لم تملك قلبه فتاة سواها؟لماذا تكن له كل هذا الكره؟ماذا فعل لها؟لقد عاملها كملكة متوجة على عرش قلبه، هل كل هذا من أجل طفل تود إنجابه؟تبا، وماذا في يده يستطيع أن يفعله ليمنحها إياه؟إنها إرادة الله وقدره، فلا مانع لديهما للإنجاب، فقط لم يكن الوقت قد حان بعد، ثم ألم تكتفى به وبعشقه عن الأطفال كما إكتفى هو بها؟آلمه إحساسه مجددا بأنه غير كامل بنظرها، ربما حان الأوان حقا لأن يكتفى بما أصاب كرامته معها من إهانة وما لاقاه منها من نكران، ربما اخطأ في قدومه إلى مصر يدعى ثأرا لكرامته وهو يخفى رغبة في إستعادة لين، يدرك الآن إستحالة تحقيق تلك الرغبة، ربما حقا وجب عليه ان يطلق سراح لين للأبد...
إتجهت افكاره الآن تجاهها رغما عنه، يتساءل في حزن عنها، يلعن قلبه الذي يخشى ان تكون مازالت منقطعة عن الطعام، لينهض متجها إلى حجرتها يود الإطمئنان عليها، فحتى وإن آذته، سيظل هذا القلب الخائن، عبدا لها، لا يستطيع أن يؤذيها ابدا.
توقف أمام باب الحجرة، تردد قليلا ثم حسم رأيه، فتح الباب ودخل الحجرة بهدوء ليجدها جالسة على السرير تضم ركبتيها إلى صدرها وتستند بجبهتها عليهما وبجانبها صينية طعامها لم تمسها، لم ترفع وجهها إليه، ليقترب من السرير بهدوء يخفى وجع قلبه عليها وهو يراها بهذا الضعف والحزن، جلس بجوارها ومد يديه يمسكها من كتفيها فإنتفضت متراجعة للخلف تواجهه بعينين مذعورتين، هاله خوفها منه البادى بإرتعاشة جسدها ونظراتها الزائغة، يدرك أنها تعانى الخوف والضعف من تجويعها لنفسها إلى جانب تهديداته الفارغة لها، ليقول بهدوء حان:.
إهدى ومتخافيش منى، أنا مش هأذيكى. نظرت إلى عينيه، ربما تبحث حقا عن أمان إفتقدته معه، ليومئ لها برأسه يطمأنها دون ان ينطق، فإرتاح جسدها المشدود قليلا، ليستطرد قائلا: إنتى عايزة تمشى صح؟ أومأت برأسها دون أن تنطق بكلمة، ليقول بهدوء: عشان تمشى لازم تاكلى حاجة، مش هينفع متاكليش كدة، انتى ممكن تموتى من قلة الأكل. قالت بصوت ضعيف حزين: هتفرق في إيه يعنى؟مش انت قلت بنفسك إنها متفرقش معاك.
تبا له ولكلماته التي قالها في لحظة غضب، إنه لا يطيق أن تخدش فكيف بالله يبغى لها أذى، ماذا يفعل ليسحب تلك الكلمات الجوفاء والتي آذتها كما يبدو، مد يده إلى يديها يسحبهما ويضمهما بين يديه بحنان فلم تبعدهما رغم إرتعاشتهما بين يديه قائلا وهو ينظر إلى عمق عينيها:.
كلام وقلته في لحظة غضب، إنسيه، بصى أنا مش هقولك كلى عشان نفسك أو عشان خاطرى لإن من الواضح في اللحظة دى إن إحنا الاتنين منهمكيش بس هقولك كلى عشان خاطر إخواتك اللي بيحبوكى ومستنيينك ترجعى ليهم.
نظرت إلى عينيه بحيرة، ترى بهما عشقا مازال رابضا في عمقهما، تتساءل بعجب، إذا كان حقا يحبها ويهتم بها كما تخبرها عيناه، إذا لماذا خانها بالماضى؟هل كانت نزوة مثلا وأفاق منها، هل ندم عليها؟ربما، وربما وجب عليها مصارحته بمكنون قلبها فربما إنقشع ضباب الغموض عن كل مجريات حياتهما، ربما عادا كما كانا بالماضى بشئ من التسامح، رقت ملامحها، فإشتعل الأمل بقلبه، ليترك يديها وهو يمسك شطيرة من على الصينية يمدها إلى ثغرها قائلا بحنان:.
يلا إفتحى بقك، هأكلك زي زمان.
رغما عنها وجدت نفسها تفتح ثغرها تلقائيا، تقضم الطعام كالمسحورة، بينما غامت عيناه وهو يتذكر الماضى، حين كان يفعل ذلك تماما، ومابين القضمة والقضمة، كان يقبل شفتيها، ينهل من شهدهما ليشعر حقا بالإكتمال، غامت عيناها بدورها وهي تتذكر مثله تلك الأوقات الرائعة بينهما، كاد أن يميل مقبلا ثغرها بقبلة إشتاق لها حد الموت، ليتذكر فجأة أن تلك القبلة لم تعد من حقه، وان لين لم تعد زوجته حقا، ليشعر بغصة في قلبه، أشاح بوجهه عنها، يقاوم ضعفه وضعفها الذي يراه في ثنايا عينيها، ليترك الشطيرة على الصينية، وهو يقول بحزن:.
كملى أكلك يالين، وأوعدك بكرة هرجعك لأهلك. ثم نهض مغادرا، بخطوات مسرعة وكأن شياطين الدنيا تلاحقه، تتابعه لين بعينيها، تدرك أنه يقاوم ضعفه وأنه كان من الممكن ان يستغل ضعفها ولكن هكذا مؤيد الذي عرفته بالماضى، رجلا رائعا حقا، إنها الآن لا تدرى لم إستسلم لضعفه بالماضى وخانها، لما أضاع ما كان بينهما؟ ليظل سؤالها عالقا بالهواء، بلا إجابة.
مدت يدها إلى شطيرتها تسحبها بضعف، تلوكها في فمها دون أن تشعر حقا برغبة في الطعام، ولكنها لابد وان تأكل، فلديها يوم طويل بالغد تنوى أن تصل فيه ﻹجابات عن ماض غامض القسمات، بدأت تشك في مجرياته.
قالت ليلة بحزن: مشت خلاص، لسة مكلمانى في التليفون، انا زعلانة أوى يافراس. قال فراس: وأنا كمان، حاولت أقنعها متسافرش بس للأسف مصممة، ورافضة تسمع أي كلام، بس أنا عاذرها، وجوده أدامها علطول وهي عارفة ومتأكدة إنه مش ليها، ده عذاب في حد ذاته يا ليلة، وهي إتعذبت كتير، قبل ما تلاقيه، وبعدها. قالت ليلة بحزن:.
معاك حق، بس كان عندى أمل تستنى شوية، والله كان هيحس بيها، إنت مشفتوش بقى عامل إزاي، نظرة عينيه رقت، وخصوصا لو جت سيرتها، وبقى سرحان علطول، بوادر حب، مقدرش أقول غير كدة. قال فراس: عموما، أنا عايزك متقلقيش، لو حبهم قدر ونصيب، مفيش حاجة في الدنيا ممكن تفرقهم. تنهدت ليلة وهي تعدل وضع هاتفها على أذنها قائلة: يارب قدرهم ونصيبهم يكونوا مع بعض، يارب فراس. قال فراس: يارب. ثم قال بعد لحظة صمت:.
عملتى إيه في موضوعنا ياليلة؟ قالت ليلة بخجل: كنت هكلم خالد النهاردة بس لقيته متعصب وحاسة إن بينه وبين شاهيناز مشكلة فقلت أستنى لبكرة، يكون راق شوية. أومأ فراس برأسه قائلا: تمام، بس ياريت متتأخريش علية ياليلة، أنا مستعجل اوى. إبتسمت لتظهر إبتسامتها في صوتها وهي تقول: حاضر يافراس، أوعدك أكلمه بكرة علطول، سلام دلوقتى. قال فراس بإبتسامة: سلام. ثم أغلق الهاتف وهو يقول بحنان: سلام يا قلب فراس وعمره كله.
بينما أغلقت ليلة هاتفها وضمته إلى صدرها بقوة، تنتظر أن تهدأ خفقاتها المتسارعة، قبل ان تتركه من يدها وهي تسحب تلك الرواية من أسفل وسادتها والتي يذكرها بطلها، بحبيبها، فراس، تماما.
كان خالد يجلس على مكتبه يضم ذراعيه على طاولته ويستند بجبهته عليهما، يغمض عينيه بقوة، فتتمثل له جورية، رفع رأسه وهو يفتح عينيه لتختفى صورتها، ليزفر بقوة، وهو يضرب سطح المكتب بيده، يريد راحة لن يشعر بها حتى يجدها ويدرك ما يحدث له، لقد ذهب إلى منزلها اليوم، يبغى تفسيرا لما يحدث له ولها، ولكنها لم تكن بالمنزل، ندم كثيرا لإنه لم يأخذ رقم هاتفها، فالآن وحتى يراها بالغد، ماذا يفعل بتلك الأسئلة التي تجتاح عقله بلا نهاية ولا إجابات لها تريحه من عذابه وذلك الصداع الشديد الذي يعانى منه، تبا، لما تحيطه وكأنها ظل ثان له، لما كلما اغمض عيناه تجسدت أمامه وإن فتحهما حامت أفكاره حولها؟لقد أصابته بسحر بالتأكيد.
أفاق من أفكاره على دخول شاهيناز الحجرة، حدق إليها ببرود تجاهلته وهي ترسم على شفتيها إبتسامة، لتقف أمامه تماما تقول: إنت لسة زعلان منى؟ قال لها خالد ببرود صقيعي: وإنتى شايفة إنى مش لازم أكون زعلان؟ دارت حول المكتب لتصبح بجواره تماما، تستند بظهرها إلى المكتب وهي تمد يدها تمررها على وجنته قائلة: خلاص ياسيدى حقك علية أنا فعلا غلطانة، بس أعمل إيه بغير عليك، بحبك، ما إنت عارف.
مد يده يمسك يدها يبعدها عن وجنته وهو يقول: تانى ياشاهيناز؟من إمتى الحب والغيرة دى، ما طول عمرنا عايشين مع بعض، مشفتش منهم حاجة يعنى. قالت شاهيناز: مكنش فيه حاجة تخلينى أغير، طول عمرك بتكره الستات، ومشفتش منك ضعف قصادهم، بس في الفترة الأخيرة إنت مبقتش خالد بتاع زمان. حدجها بنظرات باردة، لتتنهد قائلة: خلاص ياخالد مش هنقلب في الموضوع ده تانى. لتمد يدها إليه قائلة:.
هات إيدك وتعالى نطلع نرتاح شوية، اليوم النهاردة كان مشحون على الآخر. تنهد ثم مد يده إليها يمسك بيدها ناهضا، لتقف على أصابع قدميها، تلمس ثغره بشفتيها قائلة أمامهما تماما: حقك علية مرة تانية، أنا آسفة. لم يجيبها، لتعاود تقبيله ولكن بحرارة أكثر، رغما عنه شعر بصقيع يحيط بجسده فلم يستطع مبادلتها قبلتها، لتبتعد عنه قائلة بحزن: كدة يبقى إنت لسة زعلان منى؟
هز رأسه نفيا بهدوء، فشعت عينيها بالفرحة وهي تقترب منه مجددا بشفتيها تقبله ليغمض عينيه يود لو إستسلم لقدره ونسي جورية ولكن رغما عنه رأى شاهيناز بمخيلته جورية، ليجد جسده يشتعل ما إن تجسدت أمامه، ليجتاحها بقبلاته، ولمساته، لتشعر شاهيناز بفرحة طاغية فمنذ زواجها منه لم يجتاحها بمثل تلك الحرارة والشغف، وكأنه وقع بعشقها بجنون، وهذا ما تريده تماما، لتسيطر عليه.
قال عزيز بحنان: الجميل سرحان في إيه، لحقت مصر توحشك أوام كدة؟ إبتسمت جورية قائلة وهي تتأمل المكان حولها: بالعكس، الوادى هو اللي وحشنى ياجدى، كل حتة فيه، أرضه، سكانه، حتى هواه اللي يرد الروح. إبتسم عزيز قائلا: وإنتى وحشتيه ياحبيبتى ووحشتينى أكتر، مكنتش أتخيل إنى هشوفك تانى منورة المكان ياجورى. إبتسمت جورية إبتسامة باهتة وهي تقول: كل شئ بأوان ياجدى، كل شئ بأوان. قال جدها:.
مش قادر أقولك فرحة علا كانت إزاي لما عرفت إنك جاية وهتحضرى فرحها. إبتسمت جورية قائلة: كدة كدة كان لازم آجى وأحضر فرحها، احنا إتربينا مع بعض ومكنش ينفع مجيش. قال عزيز: أخبار فراس إيه؟مجاش معاكى ليه؟ قالت جورية: وراه شغل كتير، انت عارف الرواية لسة نازلة وبيروجلها ومتابع الطبعة الأولى اللي تقريبا خلصت فهينزل طبعة تانية. قال عزيز: ربنا يعينه، فراس راجل بجد وابن حلال، أخلاق وإبن أصول، و...
قاطعته جورية قائلة في حزم: ومش ممكن هتجوزه لإنى مبحبوش ياجدى، فراس إنسان كويس بس مش هقدر أتجوزه وأنا قلبى مشغول بغيره. قال عزيز: بس غيره ده راح ومرجعش... نهضت جورية فجأة مقاطعة إياه وهي تقول: من فضلك ياجدى، انا تعبانة ومحتاجة أرتاح، عن إذنك. تابعها عزيز بعينيه وهو غير راض بالمرة عن موقفها من الزواج، فهو يريد أن يزوجها ويفرح بأحفاده قريبا، لينتفض على صوت جليلة وهي تقول:.
مكنش ينفع أبدا ياعزيز في أول يوم تيجى فيه جورية تفاتحها في موضوع الجواز كدة علطول. إلتفت إليها عزيز قائلا بغضب: إنتى مش هتبطلى تخضينى كدة ياجليلة، مش عارف بس بتطلعيلى منين؟ نظرت إليه بحنق، فتجاهل نظراتها قائلا بهدوء: عموما، إنتى مش هتعرفى حفيدتى أكتر منى، لو سيبتها مش هتتجوز أبدا، لازم أفضل أزن عليها عشان أفرح بيها. ليعقد حاجبيه مستطردا: بس أنا بجد إتخنقت من عنادها ولازم أشوفله حل.
ثم نهض تاركا المكان، بينما تتابعه عينا جليلة وهي تقول بيأس: ده أنا اللي إتخنقت من عنادك ياعزيز، وفعلا بدأت أيأس منك، ومن إنك تفتح قلبك للحب، وتشوفه أدامك وتقتنع بيه. لتهز رأسها وهي تذهب إلى حوض زهورها، فهو المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالسكينة وراحة البال.
رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الخامس عشر
قد ظننت يوما ان العشق يحمل في طياته املا، بهجة، وضياء. فخاب ظنى حين وجدت نيرانه تحرق اجنحتى، وتسيل الدماء. وقفت أفكر في السبيل لتحرير أسرى، فضاعت كل أفكارى هباء. نظرت الى أسفل قدمى، أتأمل تلك الأرض الكبيرة اليابسة الصماء. ونظرت الى أعلى، الى حلمى البعيد عنى، فسالت دموعى الحمقاء. أدركت أنى لأتحرر يجب أن أتخلى عن عشقى وتلك فكرة مؤلمة، مرفوضة، هوجاء.
أدركت أنى مريضة بعشقى، ولا أدرى حقا أين أجد لى دواء؟
إلتف الجميع حول طاولة الطعام يتناولون طعامهم في صمت مطبق، لم يقطعه سوى صوت الملاعق والسكاكين، لتترك فجأة ليلة الملعقة من يدها قائلة: إنت بعت حد لبيتنا في شرم يشوف لين ياخالد، ويشوف تليفونها كمان مقفول ليه؟ وضع خالد ملعقته جانبا بدوره قائلا: أيوة ياليلة، النهاردة الصبح، الحقيقة أنا كنت هروح بنفسى بس ورايا إجتماع مهم معرفتش أأجله، هشوف حسام بس هيرد علية ويقول إيه وعلى الأساس ده هتصرف.
قالت ليلة بقلق: أنا مش قادرة أصدق إنها قفلت تليفونها وهي عارفة أد إيه ده بيقلقنا. قال خالد بحنق: وعلى الرغم من إنى محذرها فعلا وطلبت منها متعملش كدة، فالتفسير الوحيد اللي أدامى دلوقتى إن تليفونها باظ أو... قاطعه صوت شاهيناز وهي تقول بشرود قلق: أو يمكن مع حد ومش عايزة تعرفنا أو حد خطفها. نظرت إليها ليلة بصدمة بينما نظر إليها خالد بحدة قائلا: قصدك إيه ياشاهي؟حد مين ده؟
أفاقت شاهيناز على صوت خالد الحاد لتدرك أنها تفوهت بتلك الكلمات بصوت عال، لتقول بإرتباك: ها، لأ، مقصدش حاجة. لتقول ليلة موجهة حديثها إلى خالد: لين مش ممكن تخبى علينا حاجة، لو مع حد كانت على الأقل هتقولى، لكن إحنا إزاي مفكرناش في الإحتمال ده؟ممكن فعلا يكون حد خطفها. قال خالد بهدوء حازم: مستحيل، مفيش حد في الدنيا يقدر يقرب لحد من عيلتى، إنتوا إخوات خالد نصار واللي يقرب منكم يبقى كتب نهايته بإيده.
قالت شاهي في نفسها، بل يوجد أيها الغبي، يوجد من لديه الجرأة والقوة لفعل كل ما يحلو له، ولهذا أحببته وسأحبه دوما. تلاقت عيناها في تلك اللحظة مع عيني خالد الحادة المتفحصة لها، لتخشى ان تكون قد قالت كلماتها بصوت مسموع، لتطمئن قلبها بأن هذا مستحيلا، فلو سمعها خالد حقا، ما كانت تجلس الآن بينهم فربما كان قد قتلها على الفور، لتخشى هذا المصير وتقف بتوتر قائلة:.
أنا مضطرة أمشى، ورايا مواعيد وشغل كتير النهاردة في المكتب، عن إذنكم. تابع خالد إنصرافها ببرود، بينما رقت عيناه حين إلتفت إلى ليلة التي قالت بقلق: أنا كمان مضطرة أمشى بس قلقانة على لين ومش هعرف أركز خالص في المحاضرة قبل ما أتطمن عليها. قال خالد بحنان: إتطمنى ياليلة، النهاردة بالليل لين هتكون منورة البيت من تانى.
نظرت إلى عينيه الحانيتين، تستمد القوة من نظراتهما الثابتة الواثقة، لتهز رأسها، ثم تنهض لتغادر الحجرة، قبل ان يستوقفها صوت أخاها المتردد وهو يقول: ليلة، هي، هو... إلتفتت إليه ليلة ليستطرد قائلا بإرتباك: إحمم، هو رقم جورية معاكى؟ إشتعلت عينا ليلة وشعت بسعادة طاغية ظهرت على ملامحها وهي تقول: أيوة معايا. لاحظ خالد سعادتها فقال بهدوء: طيب إبعتيهولى في رسالة.
أمسكت هاتفها وجرت أصابعها على أرقامه بسرعة، قبل أن تنظر إليه قائلة بسعادة: تم ياكبير، قوللى بقى عايز رقم تليفونها ليه؟ قال وهو يحاول أن يظهر بصوته بعض اللامبالاة: عايز أكلمها آخد منها ميعاد عشان نتقابل ونتناقش في موضوع أغلفة رواياتها. شعرت ليلة بالإحباط لتقول: أغلفة الروايات. قال خالد: أيوة ياليلة، أنا عايز أخلص من الموضوع ده بقى. قالت ليلة بحزن: عموما هتضطر تأجل المقابلة دى شوية. عقد حاجبيه قائلا بقلق:.
ليه يعنى؟ قالت ليلة: لإن جورية سافرت لجدها، وهتقعد هناك فترة. سافرت، إبتعدت عنه، إلى أين ذهبت؟ليترجم تساؤلاته إلى كلمات وهو يقول: سافرت ليه ومكان جدها ده فين ياليلة؟ نظرت إلى عمق عينيه قائلة: كانت مخنوقة شوية وحبت تبعد وتريح أعصابها، ومكان جدها هناك، في الوادى ياخالد.
مخنوقة، مم؟شعر بالضيق، ثم توقف وهو يتعجب من حاله، لم يدرى لما دق قلبه عند سماعه تلك الكلمة، الوادى، يتساءل في حيرة، عن مدلولها بالنسبة إليه، يدرك في قرارة نفسه أن هناك علاقة تربطه بهذا المكان الذي لم يذهب إليه مطلقا رغم سفره إلى العديد من البلاد، داخل مصر، وخارجها.
تأمل مؤيد ملامحها الجميلة و التي يعشقها في برود يخفى ألما بقلبه، فاليوم سيتركها تعود لأهلها وسيغلق صفحتها للأبد، فقد يأس من عنادها، ليقول بهدوء: جاهزة؟ اومأت برأسها بهدوء دون أن تنطق، ليستطرد قائلا: يبقى يلا بينا، مفيش داعى نضيع وقت أكتر من اللي ضيعناه. لم يمنحها فرصة للرد وإلتفت مغادرا ليوقفه صوتها المتهدج ألما وهي تقول: مؤيد. إلتفت يطالع ملامحها الحزينة وعيونها التي ترقرقت بالدموع وهي تقول:.
إنت ليه عملت كدة فينا؟ليه فرقت ما بينا وخليتنى عايشة ومش عايشة طول السنين اللي فاتت دى؟ عقد حاجبيه قائلا: أنا، أنا اللي عملت كدة يالين؟، أنا اللي صممت على الطلاق من غير سبب ولما ضغط عليكى عشان أعرف ليه، عايرتينى بإنى مقدرتش أخليكى أم. نزلت دموعها على وجنتيها وهي تقول بمرارة:.
عشان أحمى قلبى منك، عشان أبعدك عن حياتى من غير ما أسمع أكاذيبك اللي هتبرر بيها عملتك، ما هو غصب عنى هصدق كل اللي كنت هتقولهولى عشان متبعدش عنى، عشان مضعفش قصادك كدبت، بس مبقتش قادرة أكدب، محتاجة تفسير لخيانتك لية، محتاجة تقوللى أنا قصرت معاك في إيه؟عشان أكرهك بجد وأكمل حياتى بعدك، حياتى اللي من يوم ما غبت عنها وهي فقدت روحها ونبضها. قال مؤيد في صدمة:.
إنتى بتقوللى إيه، وخيانة إيه اللي بتتكلمى عنها دى؟ قالت لين بمرارة: خيانتك لية واللي شفت الدليل عليها بعينى، شهادة DNA بتقول إن فيه بنت من لحمك ودمك إتولدت، وإنك أنكرتها وأنكرت مامتها لغاية ما ماتت الأم، والبنت إترمت في ملجأ. قال مؤيد بصدمة: إيه الكلام الفارغ ده، ومين اللي قالك عليه؟ قالت لين بألم: حد قريب مننا مقدرش أكذبه وملوش مصلحة في اللي قالهولى. قال مؤيد بغضب:.
يعنى صدقتيه هو وكدبتينى أنا من قبل حتى ما تسألينى، يااااه، للدرجة دى ثقتك فية معدومة، للدرجة دى كان حبك وإيمانك بية ضعيف. قالت لين بحزن: يامؤيد إنت كنت قبل الجواز... قاطعها مؤيد قائلا بغضب:.
إنتى قولتيها بنفسك، كنت، كنت، كنت طايش ومتهور وربنا هدانى على إيديكى، يشهد ربى إنى من يوم ما شفتك ولحد النهاردة مقدرتش واحدة غيرك تلفت إنتباهى او تهز شعرة فية، يشهد ربى إنى حبيتك من كل قلبى ومن ساعة ما عرفتك لغاية النهاردة ملمستش غيرك، يشهد ربى إنى كنت مخلص ليكى وعمرى ما خنتك لا قبل الجواز ولا أثناء الجواز ولا حتى بعده. قالت لين بصدمة:.
إنت بتقول إيه؟يعنى كل الكلام اللي شفته بعينية ده كان كدب، طب إزاي، أنا وديت العينات لمركز طبى بتاع واحدة صاحبتى، يعنى النتيجة مستحيل تكون غلط. قال مؤيد وقد تحولت ملامحه إلى البرود:.
أنا قلتلك اللي عندى بس إنتى قايلة من الأول إن دى مجرد أكاذيب، ومش هتصدقيها، حكمتى علية من قبل ما تسمعينى، ظلمتينى زمان ومصرة تظلمينى دلوقتى، بس أنا هثبتلك الحقيقة، وساعتها بس هخرج من حياتك وأنا مش ندمان، لإنك فعلا متستاهليش حبى. نظرت إليه بألم، تستجدى الحقيقة الظاهرة بعينيه ولكن كلماته الأخيرة أدمت قلبها فصمتت ولم تنطق بحرف ليستطرد هو قائلا:.
ياريت تسبقينى على العربية عشان أوصلك لأهلك، لإنى مستعجل أوصل للحقيقة وأخلص بقى من العذاب اللي عشت فيه سنين طويلة مع واحدة زيك. ثم تركها مغادرا لتنساب عبراتها، تدرك أن لديه كل الحق في غضبه وكلماته المحتقرة لها إن كان بريئا كما يقول، إن كان؟، أمازال لديها شك، تبا لها، فحروفه ومرارتها تنطق بصدقه، لتحتار لين في ماض، لا تدرى من أين جاءت خطاياه وماالذى حدث به وأدى لخسارة اليوم، ويالها من خسارة.
كانت جورية تتنقل بين أحواض الأزهار في الحديقة، لتتوقف عند شجرة الريحان، لتعود إليها الذكريات مرة واحدة، فقد زرعها فهد أو خالد كما إتضح أن هذا إسمه، زرعها قبل سفره بفترة قصيرة، وكانت هي معه لحظة بلحظة تشاركه العمل وهي تستمع إليه وهو يحكى بشغف عن قرائته لفوائد تلك الشجرة العطرية والتي ذكرت في القرآن لما لها من مميزات، لتصبح مهمتها الإعتناء بها فقط لإنها تذكرها به، حتى بعد سفره، لمستها برقة ثم وقفت على أطراف أصابعها لتقطف ورقة منها، قربتها من أنفها وهي تغمض عينيها تستنشق عبيرها الرائع، لتفتح عينيها وهي تنظر إلى تلك الشجرة بإستحسان، تشعر بالإمتنان لخالتها جليلة التي إعتنت بتلك الشجرة بعد إهمالها لها ورحيلها، بل نسيانها أمرها كلية، فلقد إبتعدت عن كل ما يذكرها به، ولكنها عادت مجددا لتعود معها كل الذكريات، حية كما لو كانت حدثت فقط بالأمس.
إنتفضت على صوت جليلة وهي تقول بحنان: إيه رأيك فيها؟ إلتفتت إليها جورية قائلة بإبتسامة رقيقة ممتنة: تجنن ياخالتى جليلة، أنا مش عارفة أشكرك إزاي على إنك أخدتى بالك منها في غيابى، كنت هزعل أوى لو جرالها حاجة. تقدمت جليلة لتقف بجوار جورية تنظر إلى الشجرة قائلة: تشكرينى على إيه بس؟ما إنتى عارفة إن النبات ده عشقى، لو كان بإيدى كنت مليت الدنيا كلها ورود. إبتسمت جورية قائلة:.
من غير ما تقولى، فاكرة طبعا، ومش ممكن أنسى كل مناسبة كانت تمر علينا، كان البيت بيتحول لمشتل مليان بالورود، أصحى ألاقى على سريرى ورد وفى الدولاب بين الهدوم، وفى الحمام وعلى السلم، لغاية ما أوصل لليفنج، ساعتها بقى بكون ماشية في بستان ورود بجد. قالت جليلة بإبتسامة: متبالغيش أوى كدة، ده بيحصل في عيد ميلادك بس. قالت جورية بإبتسامة ذات مغزى:.
وعيد ميلاد جدى، نسيتيه؟ده عيد ميلاده ده بيبقى الورد كله لون واحد، أحمر، وياريته بيفهم. قالت جليلة تنهرها: بس يابنت، إختشى. نظرت جورية إليها قائلة بمزاح: وأنا قلت إيه بس؟مش الحقيقة، حبيبة قلبى جليلة بتحب جدى، وجدى لسة مش حاسس بيها، ده تقريبا كل الدنيا عرفت وهو لسة، بيبقى نفسى أقولهاله، فوق ياجدى وشوف حب خالتى قبل ما تيأس منك وتروح من إيدك. قالت جليلة في حزن: وهروح فين بس ياجورى؟ما أنا قاعدة معاكم أهو.
نفضت جورية مزاحها وهي تقول بجدية: لحد إمتى ياخالتى؟انا شايفة إن كفاية أوى سكوت لحد كدة، لازم تصارحيه، لازم يحس بيكى، ولو متكلمتيش هتكلم أنا. قالت جليلة بجزع: لأ ياجورى، أوعى. قالت جورية بحيرة: يعنى هتفضلى تحبيه وراضية تعيشى جنبه وهو مش حاسس بيكى ولا شايفك أساسا. قالت جليلة بحزن:.
الحب مش بالغصب ياجورى، ومادام مشافنيش ولا شاف اللي في قلبى ليه لحد النهاردة، يبقى مش مكتوبلنا نكون مع بعض كحبيب وحبيبة، وأدينا أهو مع بعض عايشين، مونسنى ومونساه، هعوز إيه أكتر من كدة؟ قالت جورية في شرود حزين:.
كتير، كتير ياخالتى، إزاي بس يبقى أدامك طول الوقت وهو مش حاسس بيكى ولا شايف حبك، إزاي يبقى قصادك وناسى كل حاجة تخصك، غصب عنك هتتعذبى، لإنك هتعوزى نظرة منه تحسسك إنك نبض قلبه اللي عايش بيه زي ما هو نبضك، هتعوزى كلمة تطمنك إنك مش لوحدك وإنك وقت ما تحتاجيه هتلاقيه، محتاجة همسة حب تحنن عليكى قسوة أيامك، وتبدل حزنك بفرح، محتاجة حضنه يضمك جواه، ويضم كل مشاعرك اللي بتناديله في كل ثانية، محتاجاه هو ياخالتى، هو وبس، يعترف إنك روحه زي ما هو روحك بالظبط.
تفحصت جليلة ملامح جورية وهي تقول: إحنا لسة بنتكلم عنى أنا وجدك ياجورى ولا بقينا بنتكلم عنك إنتى وفهد. قالت جورية في مرارة: خالد. عقدت جليلة حاجبيها لتستطرد جورية في سخرية مريرة قائلة: أصل نسيت أقولك إن إسمه مطلعش فهد، طلع خالد، خالد نصار، من أغنى أغنياء القاهرة، ومتجوز كمان. لتتسع عينا جليلة في، صدمة.
كانت شاهيناز تجوب غرفة مكتبها جيئة وذهابا في عصبية، تتساءل عن مكان لين الآن؟وهل حقا ذهبت مع مؤيد أو إختطفها كما تظن أم أن إختفائها هذا عاديا، وكل مايدور في مخيلتها لا أساس له من الصحة؟، ولكن بماذا تفسر أيضا إختفاء مؤيد، فلقد سألت عليه البواب البارحة مجددا فأخبرها أنه لم يعد للمنزل منذ أن غادره، هل هي صدفة بحتة؟تبا، تكاد الأفكار تثير جنونها، تخشى كشف المستور، وفضيحتها التي ستؤدى إلى حتفها، لو كانت فقط إجتمعت بمؤيد قبل أن يرى لين مجددا، لإستطاعت أن تنجح في مسعاها، فبعد أن ترك لين إختفى تماما، حتى ظهر مجددا في الأيام الماضية، تبا، ياله من حظ عاثر ماتعانيه لكي تصل إلى هدفها، حبها الأول والأخير والدائم، مؤيد.
توقف مؤيد بسيارة لين أمام منزل عائلة نصار، تبدو ملامحه جامدة خالية من التعبير تماما وهو يتطلع أمامه دون ان ينطق بكلمة، طالعته لين بشئ من التردد، لقد حاولت طوال الطريق أن تتحدث معه ولكن صمته وملامحه الحادة الغاضبة، منعتاها من التفوه بكلمة، ومن الواضح الآن انه ينتظر نزولها من السيارة، لتقول بتردد: إحمم، مؤيد، أنا... قاطعها قائلا بصرامة دون أن ينظر إليها: إنزلى يالين. قالت بإضطراب: إسمعنى أنا...
نظر إليها قائلا بحدة:.
مش هسمعك، ولحد ما أثبت برائتى أدامك لا عايز أشوفك ولا أسمع صوتك، كل اللي بينا إنتهى بجد في اللحظة اللي عرفت فيها إنك بعتينى فيها عشان أوهام في دماغك، طب كنتى إسألينى، حاسبينى، قوليلى زي النهاردة إنت ليه عملت كدة يامؤيد، لكن لأ، إنتى إخترتى تعيشى دور الضحية، تمام، خليكى عايشاه لغاية ما أثبتلك إنك الجانية وساعتها بس هسمعك، هسمعك وإنتى بتعتذريلى وندمانة على فراقنا اللي كنتى السبب فيه، ندمانة على العذاب اللي عيشتهولى وعشتى فيه، ساعتها بس هتخرجى بجد من حياتى وللأبد يالين.
اغروقت عينا لين بالدموع فشعر بوجع في قلبه، تبا، مازالت دموعها تؤثر فيه، وتوجعه، مازال قلبه ينبض بعشقها، رغم جرحها الغائر لقلبه حين لم تثق به وإستمعت إلى أكاذيب فارغة عنه وإفتراءات، أشاح بوجهه عنها ينظر إلى الأمام يبعد الوجع عن قلبه، وهو يرسم قناعا باردا على ملامحه، بينما تأملته لين للحظات بحزن، لتدرك أنه لا فائدة الآن من الحديث معه، أطرقت برأسها ألما، وكادت أن تهبط من السيارة لتسمعه يقول بصرامة:.
هبعتلك عربيتك أول ما أوصل البيت.
أومأت برأسها ثم هبطت من السيارة تمشى بخطوات بطيئة منكسرة حتى وصلت إلى البوابة، لتسمع صوت إنطلاق السيارة الخاصة بها بسرعة جنونية، أغمضت عينيها ألما ثم فتحتهما وهي تمد يدها تمسح دموعها المتساقطة على وجنتيها قبل أن تدخل إلى المنزل، لحسن حظها لم يكن هناك أحد موجود به، لتصعد إلى غرفتها على الفور، ترتمى على سريرها وتفرغ دموعها التي سالت من عيونها مجددا على وجنتيها، تشعر بأنها اليوم، واليوم فقط خسرت مؤيد.
قالت ليلة بحيرة: مش عارفة ياخالد، من ساعة مارجعت وكل ما أدخلها الأوضة ألاقيها نايمة، شئ غريب أوى، مع إن لين نومها قليل. قال خالد بهدوء: أنا حاسس إنها نفسيا مش متظبطة، عموما، بكرة الصبح هكلمها وأشوف أخبارها إيه، الحمد لله إنها رجعت وإتطمنا عليها. قالت ليلة براحة: فعلا الحمد لله. ثم نظرت إليه قائلة بتردد: خالد، أنا، يعنى، كنت عايزة أكلمك في موضوع مهم. نظر إليها خالد بتمهل. يحيره إرتباكها، ليقول بقلق:.
إتكلمى ياليلة، أنا سامعك. أطرقت برأسها تفرك يديها بخجل قائلة: الحقيقة، فيه واحد متقدملى، وحابب ياخد منك ميعاد عشان... قاطعها خالد قائلا بحزم: مش هينفع ياليلة. رفعت ليلة رأسها تواجهه بنظراتها الدهشة قائلة: هو إيه ده اللي مش هينفع ياخالد؟ نهض خالد ودار حول مكتبه وهو يقول: إن حد تانى ييجى عشان يخطبك منى؟ عقدت حاجبيها قائلة: حد تانى؟ قال خالد وهو يجلس على الكرسي أمامها:.
أيوة حد تانى، الحقيقة كان المفروض أقولك الكلام ده في عيد ميلادك الجاي، بس انتى بقى اللي إستعجلتى، يلا، أهو كل حاجة قسمة ونصيب. إزداد إنعقاد حاجبيها قائلة لى حيرة: أنا مش فاهمة حاجة، إنت تقصد إيه؟ قال خالد بإبتسامة: أقصد إن إبن عمك سمير طلبك منى من سنتين وأنا وافقت بس أجلنا كل حاجة لغاية ما تخلصى جامعتك عشان تركزى في دراستك يادكتورة. نهضت ليلة وهي تقول في صدمة:.
إنت بتقول إيه؟أنا مش موافقة طبعا، سمير مش اكتر من أخ بالنسبة لى ومستحيل أتجوزه. قال خالد بحزم: إهدى كدة، وأقعدى وإسمعينى، سمير دكتور محترم وإبن عمك وهيعيشك في المستوى اللي إنتى عايشة فيه، وهو أولى بيكى من الغريب. نظرت إليه وكأنما نبت له رأس أخرى وهي تقول بحنق:.
إيه الكلام الغريب اللي بسمعه منك ده ياخالد؟بقيت بتتكلم زي شاهيناز بالظبط، آسفة ياخالد، هقولهالك تانى، أنا مش موافقة، اللي هتجوزه لازم أكون بحبه وبما إن الحب برة معادلاتك فعمرك ماهتفهمنى. نهض خالد بدوره يقول بحدة: قلتلك قبل كدة، الحب ده كلام فارغ بيضحكوا بيه الكتاب على عقولكم، الحقيقة مش كدة أبدا، الحقيقة تكافؤ وإتفاق، وساعتها الجواز بينجح. قالت ليلة بسخرية: زي جوازك كدة إنت وشاهى. هدر بها خالد قائلا:.
ليلة، انا مسمحلكيش. قالت ليلة بحدة: وانا كمان مسمحلكش، أنا اللي هتجوز، وده حقى، لازم اختار شريك حياتى وإن كنت مصمم إنى مش هتجوز غير سمير، يبقى أحسنلى إنى افضل من غير جواز خالص وده آخر كلام عندى.
لتتركه مغادرة الحجرة بخطوات غاضبة، يتبعها بعيون حزينة، يدرك أن لديها حق طبيعي في إختيار شريك حياتها ولكنه يخشى عليها من سوء الإختيار، كما فعلت أختها لين تماما، ليزفر بقوة وهو لا يدرى إن كان على خطأ أم صواب ولكن كل مايدركه الآن، أنه يفعل ما يراه صالحا لها، وهذا يكفيه ويريح ضميره.
رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل السادس عشر
أتدرون من أنا؟، أنا أحلام تلك الفتاة، مشاعرها التي تخفيها عن الجميع، أحاول أن أدفعها الى الأمام، فلا أستطيع، تقاومنى بضعفها، بخضوعها، فأخشى أن تضيع، أحاول من جديد، أستميت، أحركها خطوة، فتتراجع، تشعرنى بالصقيع، أخشى أن أختفى يوما، أن يزول عالمى البديع، فخنوعها يقتلنى، وأنا في سن الصبا، سن الربيع.
أسرع نبيل إلى حجرة مؤيد وعلى وجهه تبدو ملامح السعادة وهو يقول: مصدقتش البواب لما قاللى إنك... ليتجمد تماما في مكانه وهو يرى الحجرة محطمة عن آخرها ومؤيد يجلس في أحد الأركان على الأرض يضع كفاه الداميان على وجهه يخفى ملامحه، ليسرع نبيل إليه يجلس القرفصاء أمامه وهو يجذب يدا مؤيد بين يديه يتفحصهما بقلق، فزفر حين رأى أنها فقط بعض الخدوش، ليقول بلوم:.
إيه بس اللي إنت عامله في الأوضة وفى نفسك ده يامؤيد، إيه في الدنيا يستاهل تإذى نفسك بالشكل ده عشانه؟ نزع مؤيد يداه من يدي نبيل وهو يقول بألم: دبحتنى بسكينة تلمة يانبيل، حاكمتنى وحكمت علية، كانت القاضى والجلاد، وبقيت مذنب في نظرها من غير أي ذنب أنا عملته، ظلمتنى بماضية قبلها، ماضى كان غصب عنى وانت عارف، ما أنا إتربيت على ايدين أب مستهتر وطلعت زيه، بس إتغيرت لما عرفتها.
لتقطر المرارة من صوته وهو يستطرد قائلا: بس تعرف ذنبى إيه بجد؟ لم يتفوه نبيل بكلمة، ليقول مؤيد وهو يضرب قلبه: ذنبى إن قلبى ده حبها، قلبى اللي عمره مادق لحد غيرها ولا عمره هيدق لحد تانى بعدها، قلبى اللي لسة باقى عليها وبيحبها لغاية اللحظة دى رغم إن عقلى مصمم إنها متستاهلش الحب ده، ليه يانبيل؟ليه الحب عذاب أوى بالشكل ده؟ليه ميبقاش زي الروايات والأفلام، كله فرح وسعادة ومفيهوش وجع.
قال نبيل بهدوء حزين على صديقه: إنت قلتها بنفسك، الكلام ده بيحصل بس في الافلام والروايات، لكن في الحقيقة، الحب زي الدنيا، فيه الحلو وفيه المر، عايز تعيشه يبقى تحلى مره، وترضى بيه. أسند مؤيد رأسه إلى ظهر الحائط وهو يغمض عينيه قائلا:.
مبقتش قادر أتحمل يانبيل، تعبت، صدمة ورا صدمة، مبفوقش، ياريتنى فضلت فاكر إنها سابتنى عشان تخلف، كان أهون علية من خيانتى اللي رميتها في وشى وكانت مصدقاها، مصدقة إنى ممكن بعد ما حبيتها وإتجوزتها وبقت بالنسبة لى دنيتى كلها، أبقى في الآخر بخونها وخلفت من غيرها كمان. قال نبيل بحزن: إنت عرفت؟ فتح مؤيد عيونه وهو يحدج نبيل بنظرة فاحصة قائلا بحدة: وإنت كنت عارف؟صح؟ قال نبيل بهدوء:.
لسة عارف من يومين بس، لما إختفيت، ربطت إختفائك بإختفاء لين، وكلمت صاحبتها سها اللي كانت قلقانة عليها أوى و حكتلى كل حاجة. لمعت عينا مؤيد وهو يعتدل قائلا: قالتلك كل حاجة؟ أومأ نبيل برأسه ليقول مؤيد: وقالتلك على إيه كمان، ها؟قالتلك إسم الأفعى اللي بخت السم في ودنها. أومأ نبيل برأسه مجددا، ليمسك مؤيد بذراعه قائلا برجاء: هي مين يانبيل؟، قوللى وريحنى. نظر إليه نبيل بنظرة ذات مغزي قائلا:.
هتكون مين يعنى؟، اللي ياما حذرتك منها وقلتلك إنها مش سهلة أبدا، اللي وقعتك في ألاعيبها قبل كدة وبرده ما إعتبرتش ولا خدت حذرك منها، وأهى في الآخر لعبت لعبتها صح، وفرقت بينكم بخطة جهنمية. إتسعت عينا مؤيد في صدمة قائلا: إنت قصدك... وترك جملته معلقة ليقول نبيل بتقرير: أيوة هي، شاهيناز. ليعقد مؤيد حاجبيه بكره وقسوة، تتحول ملامحه المصدومة لملامح باردة صقيعية، وهو يقول بوعيد:.
بقى كدة، إن ما وريتك ياشاهيناز، إن ما دفعتك التمن غالى، مبقاش أنا، مؤيد الحسينى.
كانت ليلة تتجه إلى سيارتها مطرقة الرأس بحزن، ستعود إلى المنزل، فلقد اعتذرت عن حضور باقى المحاضرات، لتنوى أن تطلق دموعها الحبيسة داخل مقلتيها في حجرتها، رافضة عرض صديقتها لبنى القلقة عليها لمصاحبتها إلى المنزل، وهي تلاحظ حالة ليلة الغريبة تلك من الصمت المطبق والشرود الحزين، فحاليا ليلة لا تبغى سوى الوحدة، والوحدة فقط، بعد ان علمت بخطبتها لإبن عمها دون علمها، وإستحالة أن يسحب خالد موافقته على هذا الزواج ويرضخ لرغبتها في الزواج من فراس، من يدق القلب فقط لذكر إسمه، فما بالها بمرآه والإستماع إلى كلمات الحب من بين شفتيه، رفعت رأسها فحانت منها نظرة إلى سيارتها لتتجمد في مكانها وهي ترى فراس يقف أمامها مستندا إلى سيارتها في كسل، يتطلع إلى هاتفه بتركيز، ليبدو كنجوم السينما تماما، كبطل من أبطال رواياتها، قد خرج منها وتمثل أمامها، تبا، ياله من رجل وسيم، ذو أخلاق، شخصية رائعة جذبتها على الفور، لم تجذبها شخصيته فحسب، بل دق لكيانه قلبها، وبقوة.
رفع عيناه في تلك اللحظة إلى حيث تقف تماما فإعتدل على الفور وهو يبتسم تلك الإبتسامة الخلابة التي تسارع من دقات قلبها، لتنفض جمودها وتنحى مشاعرها جانبا وهي تقترب منه بهدوء، لتختفى إبتسامته ويحتل القلق ملامحه، ليبادرها على الفور ما إن وقفت أمامه قائلا: إحكيلى، فيكى إيه، حد ضايقك؟
إهتزت دقات قلبها مع شعورها بقلقه في نبرات صوته وكلماته المهتمة، لم تدرى بما تجيبه؟هل تخبره الحقيقة؟أم تدعى المرض؟لتفضل أن تكون صريحة كما كانت دائما، فلا فائدة من إخفاء الحقيقة عنه، فرغما عنها سيعرفها، آجلا أم عاجلا، حين يطالبها بقرار أخيها في إرتباطهما، لتتطلع إلى عينيه اللتين تجذبانها دائما بنظرتهما الهادئة القوية والتي تبث الأمان في نفسها، قائلة بألم: مش هينفع نتجوز يافراس. عقد فراس حاجبيه قائلا:.
قصدك إيه؟ليه بس مينفعش؟إنتى لغاية إنبارح بس كنتى موافقة، إيه اللي غير رأيك فجأة؟ أغروقت عيناها بالدموع قائلة: أنا مغيرتش رأيي، صدقنى غصب عنى، خالد رفضك. تراجع فراس خطوة للوراء وهو ينظر إليها بصدمة يردد قائلا: رفضنى؟ نزلت دموعها على وجنتيها قائلة: إنبارح كنت أسعد بنت في الدنيا، والنهاردة أنا أتعسهم، حياتى بقت سودة أوى يافراس، ومش لاقية لسوادها ده حل.
تمالك فراس نفسه وهو يراها بتلك الحالة اليائسة تزرف دموعا تقطع نياط قلبه، ليمد يده إليها قائلا: طب إهدى متعيطيش وتعالى معايا نقعد في مكان هادى تحكيلى فيه على كل حاجة، وإن شاء الله ليها حل، طول ما أنا معاكى مش عايزك تخافى او تقلقى.
نظرت إلى يده الممدودة إليها في تردد دام ثوان قبل أن تحسم رأيها وتمد له يدها ليلتقطها ويضم كفها بيده بقوة، تمتزج بالرقة، يخبرها أنه معها وأبدا لن يتركها مهما حدث، لتنظر إلى عينيه وقد إنتقل عزمه وإصراره إليها، ليسيرا متجهين إلى سيارته، بينما تابعت عينان غاضبتان ما يحدث، ليرفع صاحبهما هاتفه يطلب رقما ما، قبل أن يرد عليه محدثه، ليقول بغل:.
خالد بيه، أنا دكتور وليد، الدكتور اللي بدرس لليلة أختك في الجامعة واللي سبق وطلبت الآنسة أختك من حضرتك ورفضت. إنتفض وبدا أن رد خالد الجاف أجفله ليقول بحدة: أنا عارف إنها مخطوبة زي ما حضرتك قلتلى وإن الموضوع خلص وأنا أكيد مش بفتح في مواضيع إنتهت، أنا بس حابب أنبه حضرتك إن الهانم أختك لسة ماشية حالا مع واحد أنا متأكد إنه مش ابن عمها خالص ولا يبقى خطيبها، سلام. ليغلق الهاتف وهو يقول بغضب:.
مش قادرة أنساه يا مهرة، مش قادرة أطوى صفحته من حياتى زي ما خالتى جليلة قالتلى، مش قادرة أمحيه من قلبى وعقلى، إنتى كنتى شاهدة على قصة حبنا يامهرة، أنا مخبتش عنك حاجة، كنت بقولك على مشاعرى أول بأول، وهنا ومعاكى كان وداعنا، يومها قاللى أدامك إنى حياته وإنه مش هيرجع غير ومعاه اللي يخلينى ويخليه مع بعض للأبد، هنا كانت أول وآخر لمسة لمسهالى، فاكرة يامهرة؟فاكرة؟ ... نزلت دموع جورية وهي تقول بضعف:.
قلبى بيوجعنى يافهد، مش متطمنة، دى أول مرة تبعد عنى من يوم ما شفتك. مد يده يمسح تلك الدموع المتساقطة على وجنتيها وهو يقول بحنان:.
متعيطيش ياجورى، مش حابب أسيبك ودموعك على خدك وتكون دى آخر صورة ليكى في قلبى، أنا عايزك جورى المليانة بالأمل والحياة، جورى اللي إديتنى الطاقة اللي قدرت بيها أتغلب على كل اللي حصلى، جورى اللي إبتسامتها بتنور حياتى كلها، يلا بقى، عايز أشوف الإبتسامة دى قبل ما أمشى، ووعد منى مش هتأخر عليكى أبدا.
إبتسمت إبتسامة مهزوزة لم تصل لعينيها الحزينتين، ليستسلم فهد لمشاعره التي قاومها كثيرا، وهو يضم وجهها بين يديه، يقترب من شفتيها فجأة ويأخذهم بين شفتيه، إنتفضت جورية فتلك كانت قبلتها الأولى منه والتي إجتاحت شفاهها العذرية، ورغما عنها وجدت نفسها تقبله بدورها، كانت في البداية قبلة قوية يحاول أن يطمئنها بها وكانت هي تحتاج لهذا الإطمئنان، لترق تلك القبلة بعد ذلك وتنعم، رفعت جورية يدها ووضعتها على صدر فهد القوي بينما أنزل فهد يديه وضمها إليه، فأصبحت القبلة قبلات، كادا أن تضعف مشاعرهما ويقعا في المحظور، ويد فهد تتسلل من تحت بلوزة جورية القطنية تلمس جسدها الرقيق، فتثير فيهما أعتى المشاعر، إحتاج فهد لكل قوته كي يبتعد عن جورية في تلك اللحظة، ينظر إلى ملامحها الغير مستوعبة لبعده عنها، يتأمل شعرها الذي تشعث قليلا، وعيونها التي غامت بالمشاعر، يؤلمه قلبه حد الموت لإبتعاده عنها، يريد فقط العودة إليها والنهل من شهدها مجددا ولكنه يخشى عليها من نفسه فهي أغلى عليه من تلك النفس التي تريدها بقوة، هي، بريئته الجميلة الحبيبة، التي بدات تستوعب الآن ما كاد يحدث بينهما لتتسع عيناها بصدمة، مد يده بسرعة آخذا إياها في حضنه، قاومته في البداية وهي تضربه على صدره، تحاول الإبتعاد عنه ولكنه ضمها إليه بقوة يحتويها، وهو يقول بهمس:.
هش، متخافيش منى، أنا مش ممكن أأذيكى، إنتى روحى ياجورى، فيه حد في الدنيا يإذى روحه، لحظة ضعف منى وراحت لحالها خلاص، وأوعدك إنى مش هلمس شفايفك تانى غير وإحنا متجوزين، وساعتها مش هبعد، لإنى يوم ما هلمس شفايفك تانى مش هسيبهم أبدا. هدأت جورى وإستكانت داخل حضنه، تستمع إلى خفقاته المتسارعة للحظات قبل أن تقول بألم: متسافرش يافهد، هتوحشنى، أنا مش عايزاك تسافر. قال فهد وهو يربت على شعرها بحنان:.
مش هينفع ياجورى، أنا مبقتش قادر أبعد عنك بعد ما اعترفتلك بمشاعرى وإتأكدت إن إنتى كمان بتحبينى، عايزك في بيتى النهاردة قبل بكرة، عايزك في حضنى، عايز أصحى الصبح أشوف وشك الجميل ده على صدرى، وإبتسامتك تنور يومى ياحبيبتى. إبتعدت عنه تنظر إلى عيونه بعشق قائلة: أنا كمان نفسى ابقى مراتك وأشيل إسمك، النهاردة قبل بكرة، بس خايفة، مش قادرة أحس غير بالخوف وبس يافهد.
إبتسم فهد وهو يرفع يده يقرصها في وجنتها بخفة قائلا: متخافيش ياقلب فهد، انتى عارفة عزت، الظابط اللي إتعرفت عليه من شهرين ده، وإدالى رقمه وعنوانه في القاهرة، هروحله وهطلب منه يدور علية في السجلات ومش هرجع غير ومعايا بطاقتى عشان نتجوز علطول ياحبيبتى. ، عادت جورية من ذكرياتها إلى قلب الواقع ثم تنهدت وهي تقول موجهة حديثها إلى مهرة:.
كان قلبى حاسس يامهرة إنى مش هشوفه تانى، ياريته ماسافر، ياريته كان فضل هنا جنبى، كان مش مهم نتجوز بس كان يفضل فهد، حبيبى اللي بيحبنى من كل قلبه، كان يفضل حبيبى اللي مشتاقة لنظرته، ولحنيته، مشتاقاله أوى يامهرة. إنتفضت على صوت جدها وهو يقول: مشتاقة لمين يا بنتي؟ نظرت جورية إلى جدها لتقول بإرتباك: ها، آه، أنا كنت لسة بقول لمهرة إنى مشفتش وليدها ومشتاقاله ياجدى، إيه رأيك توريهولى؟
تأملها عزيز بنظرات متفحصة ثم إبتسم قائلا: تعالى أوريهولك، وأهو بالمرة تسميه، أنا كنت مستنى لما أشوفك عشان أسألك، ها، هتسميه إيه؟ شردت جورية للحظة قبل أن تقول في تصميم: هسميه فهد، فهد ياجدى. لم يرضى الجد عن هذا الإسم الذي يعيد إليه ذكريات ذلك الخائن الذي أحزن حفيدته وأضناها، وربما ذكرها به هذا المولود كلما نادته بهذا الإسم، ولكنه لم يرغب في مجادلتها، يريدها فقط أن تكون سعيدة، لذا قال بهدوء:.
فهد، ماشي، زي بعضه ياجورى، هنسميه فهد. شعت عيون جورية بالسعادة وهي تحتضن جدها برقة ليضمها إليه يغمض عينيه برضا، فيكفيه سعادتها تلك ليدرك أنه على صواب.
ربت فراس على يد ليلة قائلا: إهدى بس ياليلة وفهمينى، إيه الحكاية؟ نظرت إليه ليلة وهي تقول بمرارة: الحكاية إنتهت خلاص يافراس. عقد فراس حاجبيه قائلا: حكاية إيه اللي خلصت؟ قالت ليلة وهي تطرق برأسها حزنا: حكايتنا يافراس. مد يده يرفع ذقنها لتواجهه عينيها المغروقتين بالدموع، قال لها بهدوء يحاول أن يخفى به إضطراب مشاعره: أي شئ في الدنيا أستحمله إلا دموعك، إحكيلى وبإذن الله كل مشكلة وليها حل.
نظرت إلى عيونه للحظات لاتدرى كيف تخبره بالأمر، ثم ما لبثت أن حسمت رأيها قائلة: أنا طلعت مخطوبة يافراس. تراجع فراس في مقعده، تبدو على ملامحه الصدمة، لتستطرد قائلة بحزن: سمير ابن عمى اتقدملى وخالد وافق، وأجل الخطوبة لغاية ما أخلص كلية السنة دى، كل ده وأنا معرفش حاجة، إتفاجئت بس النهاردة بالكلام ده. تمالك فراس نفسه وهو يقول: نفسخ الخطوبة، ويرفض خالد ابن عمك، مفيش جواز بالغصب. قالت ليلة بمرارة:.
ده في الروايات بس يافراس مش في الحقيقة، انت متعرفش خالد، مادام قال كلمته لإبن عمى يبقى مستحيل يرجع فيها، أبدا. قال فراس بحنق: يعنى إيه مستحيل، طب والحب اللي بينا، يضيع كدة عشان كلمة، ممكن تتسحب بسهولة، خصوصا لما خالد يعرف إنك مبتحبيهوش وبتحبينى أنا؟ هزت ليلة كتفيها بقلة حيلة قائلة:.
خالد أصلا مبيعترفش بالحب فمش هيقدر يفهم إحساسنا، الأمل الوحيد اللي كان أدامنا هي جورية، وحبه ليها اللي كان هيخليه يعترف بمشاعرنا، و جورية راحت وراح معاها أملنا. قال فراس في تصميم: مراحش ولا حاجة، أنا مش هيأس أبدا، هحاول مع أخوكى مرة وإتنين وتلاتة، لغاية ما يوافق، أنا مستحيل أسيبك تضيعى منى بعد ما لقيتك. نهضت ليلة تقول بحزن:.
صدقنى يافراس، أنا عارفة أخويا كويس، مستحيل هيرجع في كلمته ومستحيل هيوافق، واذا كنت فكرت للحظة إنى ممكن أقف أدامه ففى اللحظة دى متأكدة إنى مش هقدر، فحاول تنسانى، زي ما هحاول أنا كمان أنساك. أشاحت بوجهها عنه وهي تستدير مغادرة ليستوقفها فراس بكلماته وهو يقول: بالسهولة دى ياليلة بتتخلى عنى؟ أغمضت ليلة عيناها بألم، قبل أن تفتحهما وهي تستدير بوجهها إليه قائلة بحزن:.
مش بسهولة صدقنى، بس أنا أكتر واحدة عارفة خالد، مستحيل هيفضل حد على إبن عمه اللي بيحبه، وعشان مقدرش أكون لحد غيرك، عشان بحبك بجد، مش هقدر أتجوزه، ولا هقدر أتجوزك، يعنى خلاص، إتحكم علية أعيش العمر تعيسة يافراس، تعيسة و وحيدة، فبلاش تظلمنى. أغروقت عيناها بالدموع وهي تسرع بالمغادرة، تتابعها عيون فراس الحزينتان، قبل أن تقسو تلك العينان وهو يقول بتصميم:.
وأنا وعدتك إنى مش هسيبك، وعدتك إنى هفضل جنبك مهما حصل، وأنا عند وعدى ياليلة، حتى لو إضطريت أقف قصاد أخوكى، مش هتردد ثانية واحدة. لينهض واضعا بعض المال على الطاولة، ثم مغادرا المكان بخطوات مسرعة.
كان خالد يزرع الغرفة جيئة وذهابا في غضب، لقد إتصل مرارا وتكرارا بأخته ولكن هاتفها مغلق دائما، يدرك أنها الآن تجالس هذا المدعو فراس، تتحدى تحذيره لها بنسيان أمره كلية، توقف حين رآها تدخل من الباب، يبدو الحزن على ملامحها، نظرت إليه بنظرة خالية من الحياة، ثم أكملت طريقها مطرقة الرأس، لم تلقى عليه السلام أو تمزح معه كعادتها، آلمه ذلك وآلمه ما سيفعله ايضا، ولكنه للأسف مضطر لفعله، ليستوقفها قائلا بحدة:.
إستنى هنا، رايحة فين؟ توقفت وإستدارت تنظر إليه قائلة بنبرة خالية: رايحة على أوضتى. إقترب منها حتى توقف أمامها تماما، يحدجها بنظرة غاضبة وهو يقول: كنتى فين؟ كادت أن تكذب عليه وتخفى الحقيقة، تجنبا لنوبة من التقريع هي في غنى عنها الآن وهي في تلك الحالة النفسية السيئة، ولكنها أبدا لم تكن من هذا النوع الذي يكذب دون أن يغمض له جفن، وخصوصا خالد، لم تكذب عليه قط ولن تبدأ الآن، لتقول ببرود: كنت مع فراس.
حسنا، لم تكذب عليه، مازالت هي ليلة أخته التي يعرفها، ولم يؤثر عليها هذا الفراس بالسلب، ليقول لها بصرامة: وأنا مش منعتك من إنك تشوفيه أو تعرفيه تانى، مش قلت الحكاية دى تنتهى؟ نظرت إلى عيونه مباشرة قائلة بألم تناثر في كلماتها: كنت بشوفه لآخر مرة عشان أبلغه كلامك، كنت بدبحه وبدبح نفسى بسكينة رفضك، كنت بحضر جنازة قلبى ياخالد، قلبى اللي من النهاردة مات مع موت قصة حبى اللي ملحقتش أفرح بيها.
كاد خالد أن يتحدث فأشارت له ليلة بالصمت قائلة: من فضلك، أنا بجد تعبانة، ياريت تسيبنى أعيش وجعى، لوحدى، ياريت تسيبلى فرصة أتعامل معاه، من فضلك، ولغاية ما ده يحصل، ياريت منفتحش الموضوع ده تانى، عن إذنك.
تركته وغادرت متجهة لحجرتها بخطوات سريعة يكاد يسمع شهقاتها، ليدرك أنها تبكى، أغمض عيناه بحزن، لديه شعور يزداد منذ أن رآها، شعور طاغ بأنه لا يفعل الشئ الصحيح، بل يخطئ تماما في حقها وهو يسحب منها حرية الإختيار لشريك حياتها بقبوله لسمير ورفضه فراس، يحولها لتكون مثله تماما، تعيسة غير راضية بالمرة عن حياتها، ويالها من تعاسة لا تحتمل.
كانت شاهيناز تجلس على سريرها، تتأمل صفحة مؤيد الشخصية، وصوره القابعة بها، تمرر يدها على وجهه بعشق، تقول بصوت هامس:.
ليه بس ياحبيبى إخترتها هي ومخترتنيش أنا، أنا قريبتك اللي وقعت في حبك من أول يوم شفتك فيه، حاولت ألفت نظرك كتير بس انت عمرك ماشفتنى، كنت بغير عليك من كل البنات اللي حواليك وياما فرقت بينك وبينهم من غير ما تحس، بس انت مكنش بيهمك، كنت بتلاقى غيرهم كتير، ولما حاولت أوقعك وأخليك مضطر تتجوزنى، نكرتنى وسمعتنى كلام كتير دمر قلبى، إضطريت أشوف حد يستر علية، عرضت الجواز على خالد، وإتجوزته بسرعة وفى ليلة الفرح عرف إنى مش بنت، كان هيطلقنى بس أنا عيطت وحلفته بشهامته يستر علية، وعدته إنى انا وفلوسى هنكون تحت أمره، وفعلا سكت وكملنا، بس كملنا زي الأغراب، ولما عرف إنى حامل، بدأ ينسى شوية، لكن كل فترة بيفكرنى، كل فترة بسمع منه أد إيه كان شهم ومفضحنيش، لما خلاص مليت وزهقت من الحياة الباردة اللي عايشاها معاه وانا مذلولة، لو كنت بس رضيت بية، مكنش ده بقى حالى، كنت عشت معاك الحلم اللي حرمتنى منه وعشته مع لين، نفسى أعرف، فيها إيه لين أحسن منى، فيها إيه مكنش فية، عموما، أنا خلاص مبقتش باقية على حياتى مع خالد، وانا وراك يامؤيد لغاية ما تكون لية أنا وبس.
نزلت من عينيها دمعة واحدة مسحتها وهي تتأمل صوره مجددا، لتنتفض على صوت دخول أحدهم الحجرة، أغلقت الهاتف بسرعة وهي تنظر إلى الباب لتشعر بالصدمة وهي تطالع لين التي تقف بجوار الباب تنظر إليها ببرود ثلجي، أحست شاهيناز بالإضطراب فمنذ أن عادت لين البارحة، وشاهيناز تلتزم حجرتها، تخشى ملاقاة لين، تخشى ان يكون سرها قد كشف، ومن ذلك البرود الذي يكسو ملامح لين تستطيع شاهيناز أن تدرك أن سرها قد كشف بالفعل، لتقول بإرتباك:.
حمد الله على السلامة يالين، تعالى إدخلى واقفة عندك ليه؟ ظلت لين واقفة مكانها وهي تقول ببرود: عندى ليكى سؤال واحد بس ومحتاجاله إجابة. إبتلعت شاهيناز ريقها وهي تقول: سؤال إيه ده؟ قالت لين: فين مكان بنت مؤيد، عايز أعرفه، وحالا؟ قالت شاهيناز بإضطراب: معرفش، قصدى يعنى، آخر مرة شفتها كان في اليوم اللي خدت منها عينة وبعدها مشفتهاش تانى. قالت لين بصرامة: يبقى قومى بينا نروح الملجأ، ما أنا لازم أشوفها، مفهوم؟
تلعثمت شاهيناز قائلة: ما هو، أصل أنا مقلتلكيش، أنا روحت بعدها ولما سألت عليها قالولى إنها هربت وميعرفوش عنها حاجة. حدجتها لين بنظرة لا تحمل أية مشاعر بها، ثم قالت بهدوء: إسم الملجأ ده إيه؟ إبتلعت شاهيناز ريقها وهي تقول: معرفش، قصدى مش فاكرة يالين؟ قالت لين بسخرية: مش فاكرة؟إنتى متأكدة إنك مش مخبية عنى حاجة ياشاهى؟ قالت شاهيناز بإضطراب: أيوة، متأكدة طبعا، هخبى إيه بس؟
لتأخذ طريقة الهجوم خير وسيلة للدفاع وهي تقول بحدة: وبعدين هو تحقيق ولا إيه، مالك يالين؟ما تقولى فيه إيه علطول من غير لف ولا دوران. إبتسمت لين بسخرية وقد تأكدت شكوكها لتقول بهدوء: مش أنا اللي ألف وأدور ياشاهى، أنا بس بدأت أشك في شوية حاجات بخصوص الحكاية دى، بدأت أشك في الماضى كله، وصدقينى يوم ما هتأكد، هتكونى أول واحدة تعرف، سلام.
غادرت الحجرة بهدوء تتابعها شاهيناز بعيون إرتسم فيهم الحقد الشديد وهي تقول بغل: بتشكى في كلامى يالين وبدأتى تدورى ورايا، وده معناه إنى لازم أتصرف، وبسرعة.