لا بأس أن تبكي أوراق قلبك اللينة لابأس أن تميل أغصان روحك الهينة أنت ماء عذب لتراب الأرض الميتة وتظل الدموع نقاء من الأوجاع النيئة لا بأس بضباب يجتاح الأفكار السيئة فما خبأت منك إلا الذكريات الشقية بقلم، نور محمد.
كانت شاهيناز تجوب الحجرة جيئة وذهابا في غيظ، تتساءل بحنق، لماذا عاد مؤيد من جديد، وماذا يريد من لين؟هل حن لها؟هل إشتاق إليها؟هل نسي كل ما حدث بينه وبين لين؟ترى ماالذى قد تفعله لتحول بينهما مجددا؟ توقفت في مكانها فجأة، تتساءل، ترى أين هو الآن؟وماذا يفعل؟هل عاد لشقته القديمة؟ربما ستذهب إليه الآن لتراه، تتأكد من نواياه، أو ربما تخبره كم إشتاقت إليه...
نفضت أفكارها، تعرف النتيجة مسبقا، فلا داعى لخيبات الأمل المتكررة، هو لن يرضخ لها فهو مازال عاشقا لتلك اللين، وكل ما سينالها منه هو التقريع، وربما تلك المرة أخبر خالد بمحاولاتها الدائمة معه، لذا فالأولى لها الآن أن تحاول التفريق بين لين ومؤيد، يجب أن تمنع لقائهما، يجب أن تحول بينهما بأي ثمن، أما البقية، فستدع الأيام تقرر خطواتها التالية وقراراتها بهذا الشأن، الآن ستذهب إلى خالد تخبره أنها عائدة إلى المنزل فلديها صداع شديد يكاد يفتك برأسها، ستخلد إلى الراحة قليلا كي تستطيع التفكير بهدوء، نعم هذا ما ستفعله تماما.
إتجهت بخطوات حازمة إلى مكتب زوجها لتهز رأسها بهدوء تحيي صفاء مديرة مكتب خالد، قبل أن تكمل طريقها ليوقفها صوت صفاء التي قالت بإحترام: خالد بيه مش في المكتب يامدام شاهى. إلتفتت إليها شاهى عاقدة حاجبيها وهي تقول: أمال راح فين ياصفاء؟ قالت صفاء: مشي من شوية مع آنسة ليلة وصاحبتها.
ليزداد إنعقاد حاجبي شاهيناز وهي تتساءل عن سبب رحيله المفاجئ، ومن تلك الصديقة التي رافقتهم؟ لتومئ برأسها محيية السكرتيرة بهدوء، وهي تغادر حجرة المكتب متجهة إلى خارج الشركة، تمسك هاتفها و تتصل برقم زوجها خالد، مرارا وتكرارا، لكن للأسف، لا مجيب.
قالت ليلة: ماترد على التليفون ياخالد.
لم يجبها خالد وهو يتجاوز تلك السيارة التي أمامه بصعوبة، يسرع بسيارته حقا، يود أن يطوى الأرض طيا ويوصل تلك الجورية التي قلبت حياته رأسا على عقب وشغلت أفكاره بأسرع وقت ممكن، يود حقا لو أغلق صفحتها للأبد، فبينهما بابا يحمل إليه رياحا عاتية، هو مواربا حتى تلك اللحظة وأضراره بسيطة ومحتملة ولكن إذا إتسع أكثر من ذلك ستقتلعه تلك الرياح من الجذور، وستودى به إلى حتفه بالتأكيد.
رن الهاتف مجددا لتحمله ليلة تنظر إلى شاشته وهي تقول: دى شاهى ياخالد، ما ترد عليها، أكيد فيه حاجة مهمة عشان متبطلش رن عليك بالشكل ده. قال خالد في لا مبالاة: لأ عادى، ده الطبيعى بتاعها. أغمضت جورية عينيها بألم، ترفض سماعه وهو يتحدث عنها، عن غريمتها التي حظيت بكل ما حلمت به جورية، حظيت بحبه، بدفئه، بحنانه، بإسمه، بطفلته، أما هي فلم تحظى منه سوى بعذاب الحب فقط، وياله من عذاب.
فتحت عيونها تنظر إلى الأمام، لتقع عيناها على مرآة السيارة، تتقابل عسليتيها مع عينيه الزرقاوتين، رغما عنها لم تستطع الإشاحة بناظريها، لتجمعهما نظرة طويلة، حبست أنفاسهما معا، ليكون هو أول من يشيح بناظريه عنها مركزا على الطريق مجددا ورافضا هذا السحر الذي يجذبه إليها، يجعله ضعيفا خاضعا، يود فقط لو كان هو وهي وحدهما، يزيد هذا السحر من رغبته في ان يتعرف عليها أكثر، أن يعرف تفاصيلها، ماتحب وماتكره، يود فقط لو إقتربت منه وأسكنها صدره، يشعر بأن هذا هو مكانها الطبيعي، تبا، إلى أين تودى به أفكاره، حقا إلى جحيم لا قبل له به...
أفاق من شروده على صوتها الرقيق وهي تقول: العمارة اللي جاية دى لو سمحت. توقف خالد بالسيارة، لتترجل منها جورية على الفور، شعرت بالدوار في نفس الوقت الذي خرجت من السيارة ليلة وأصبحت بجوارها لتسندها بسرعة، ترجل خالد بدوره وهو يراها بهذا الضعف والشحوب، ليقول بقلق: المفروض نروح للدكتور ياآنسة جورية، من فضلك إركبى تانى. هزت جورية رأسها بضعف قائلة:.
قلت لحضرتك الموضوع ما يستاهلش، أنا متعودة على الدوخة دى، شوية وهتروح، أنا متشكرة أوى، تعبتكم معايا، تقدروا تتفضلوا إنتوا وانا هبقى كويسة متقلقوش. قالت ليلة: متشكرة إيه بس ونتفضل إيه، أنا مش همشى غير لما أتأكد بنفسى إنك بقيتى كويسة. قالت جورية بضعف: أيوة بس... قاطعتها ليلة قائلة في حزم: مفيش بس، يلا بينا.
نظرت جورية إليها بضعف، حائرة ماذا تفعل وقد لاحظت ان خالد سيرافقهما، لتهز رأسها في قلة حيلة فهي تشعر بالضعف فعلا وربما حقا تحتاج أحدا بجانبها، حتى لو كان هذا الشخص، هي ليلة وأخيها، خالد.
قالت سها بإبتسامة: خلاص والله يالين، إعتذرتيلى خمسين مرة والغلطة مش غلطتك اصلا، غلطة مرات اخوكى اللي مش عارفة مالها ومالى بس، واخدة بالها منى ليه؟والله ما أنا عارفة اخوكى مستحملها إزاي بس؟ قالت لين بإبتسامة: مش للدرجة دى ياسو، هي صحيح عصبية وحمقية ولسانها أطول منها بس قلبها طيب، إنتى نسيتى مين اللي وقف جنبى في أزمتى، هي طبعا، انا مش حكيتلك هي عملت معايا إيه؟ قالت سها بسخرية:.
والله يالين انا مبقتش فاهماكى، إنتى طيبة ولا هبلة، ذكية ولا عبيطة. قالت لين بإستنكار: مين دى اللي عبيطة؟ما تاخدى بالك من كلامك ياسها. قالت سها: طيب خلاص متزعليش، بس والله إنتى على نياتك اوى لما تقولى على شاهيناز كدة، شاهيناز طيبة؟دى حية وسمها بيلدغ من تحت لتحت، بكرة الأيام تدور وتقولى كان عندك حق ياسها. قالت لين: طيب سيبينا من شاهى ومواويلها وقوليلى، فيه حفلة بالليل في بيت صافيناز، ها هتيجى معايا؟
قالت سها بإستنكار: حفلة تانى، وملل تانى وكعب في الآخر يتكسر وراجل يطلعلى ويفكرنى سندريلا، لأ، شكرا يا ستي. عقدت لين حاجبيها قائلة: كعب إيه وراجل مين، وإيه حكاية سندريلا دى كمان؟ أطلقت سها ضحكة ثم قالت: هو أنا مقلتلكيش؟ إزداد إنعقاد حاجبي لين قائلة: قلتيلى إيه بس؟ قالت سها بإبتسامة واسعة:.
هقولك يالولو، هقولك على ليلة قابلت فيها فارس احلامى وبعبطى كالعادة مشيت، ومسبتلوش أي حاجة يوصلى بيها غير كعب جزمة مكسور، تقريبا كدة زي حكاية سندريلا، بس في الحكاية الأمير لقى أميرته، أما في الحقيقة، فسندريلا بتضرب نفسها بالجزمة إنها مديتلوش رقم تليفونها. قالت لين بحيرة: إنتى بتقولى إيه؟انا مش فاهمة حاجة خالص. ضحكت سها مجددا وهي تقول: تعالى ياأختى نقعد في حتة وأنا أفهمك كل حاجة.
كان خالد يتأمل شقة جورية البسيطة ولكن في نفس الوقت أنيقة تماما كصاحبتها، تحمل حقا الكثير والكثير من روحها، التي ورغم قصر المرات التي قابلها فيها، والتي لا تتعدى المرتين، إلا أنه يشعر أنه يعرفها وكأنها تربت على يديه، يحفظ سكناتها، إنتبه إلى وجود دفتر رسم كبير يقبع على الأريكة، إتجه إليه ببطئ ورفعه ليمسكه بين يديه، تأمل واجهته الرقيقة ليدرك مدى رقة صاحبته، حتى في إختيارها لدفتر رسم بسيط، كاد أن يفتحه لتتوقف يده في الهواء وضميره يؤنبه بشدة، فهذا الدفتر قد يحمل بعض أمورها الشخصية، كاد أن يضعه مجددا في مكانه ولكن فضوله تجاهها غلبه، ليفتحه بهدوء وما إن فتحه حتى تمنى لو لم يفتحه مطلقا، فهناك وبين ورقاته قبع هو في أماكن مختلفة، بجسده وروحه التي لم يعريها لأحد، جسدت جورية كل حركاته وسكناته، ضحكاته التي لم يراها أحد سواه، شروده، نظرات عشق لم ينظر بها إلى أي فتاة من قبل، أهكذا سيكون عندما يعشق إحداهن؟ما هذا؟إنه هو، يقف عارى الجزع، تلفح الشمس بشرته، يتصبب العرق من وجهه، وهو يمسك بالفأس، هل هذه هي صورته كمزراع؟ياالله كم تبدو الصورة حية للغاية وكأنه متجسدا أمامه، إنها فنانة بارعة، لا يستطيع أن ينكر هذا، عقد حاجبيه وهو يرى محيط تلك الصور، يشبه كثيرا محيط تلك الأحلام التي تراوده عن تلك الفتاة، بل تكاد تكون متماثلة، هاهي الطاحونة الزرقاء، وهاهو الكوخ الصغير المجاور لإسطبل الخيل، وها هو ذلك النهر الصغير وتلك الشجرة الكبيرة بجواره، ماالذى يعنيه هذا؟شعر بألم في رأسه، وهذا الصداع يعاوده من جديد، وضع يده على جبهته يدلكها بخفة، ليتجمد في مكانه تماما وهو يستمع إلى صوت ضحكاتها الصادرة من غرفتها حيث تساعدها ليلة على تبديل ملابسها والتمدد في سريرها، إنها تشبه ضحكات فتاة أحلامه، لا، لا تشبهها، إنها هي، تبا، ما الذي يحدث؟، إنه ضربا من الجنون، كاد أن يضع الدفتر من يده، ولكنه توقف حين رأى صورتها معه، كانا يقفان معا يتأملان مشهد غروب رائع، لم يلفت إنتباهه هذا المشهد الخيالي وإنما ما لفت إنتباهه هو لون شعرها، مختلف عن لونه الآن، يشبه تماما لون شعر فتاة أحلامه ومطلقة عنانه مثلها تماما، أما في الحقيقة فدائما ما ترفعه على هيئة ذيل حصان مع تغيير لونه بالطبع، من الكستنائي إلى البني المائل للحمرة قليلا، ليشعر بالرهبة، يتساءل في صمت عن كنه ما يحدث، والذي ليس عنده له تفسير آخر سوى أنه في ورطة كبيرة جدا، وأنه يجب أن يخرج من هذا المكان على الفور، ليعيد جمع شتات نفسه التي تبعثرت منذ أن رآها، والأدهى هذا الدفتر والذي هو عبارة عن تجسيد لأحلامه على ورق، ليتركه من يده، ثم يلقى نظرة أخيرة على باب الحجرة المغلق والذي يضم بين جنباته أخته ليلة وتلك الفتاة التي أربكت حياته بشدة، جورية، ليتجه بعدها إلى باب المنزل، يفتحه ويخرج منه مغلقه خلفه قبل أن يتجه بخطوات مسرعة تجاه سيارته وكأن شياطين الدنيا كلها في إثره.
إبتسمت ليلة قائلة: أيوة بقى ياجورى ياقمر، خلى الضحكة تنور وشك. إبتسمت جورية وهي تتأملها قائلة: إنتى طيبة أوى ياليلة، بجد أنا مبسوطة إنى عرفتك. إبتسمت ليلة قائلة: القلوب عند بعضها ياقلبى، أنا كمان مبسوطة إنى عرفتك، ومبسوطة أكتر إن أخويا حبك إنتى. أشارت لها جورية بالصمت قائلة: بس، أخوكى برة، بلاش الكلام ده دلوقتى. أشارت ليلة برأسها موافقة وهي تشير لفمها بعلامة الصمت، لتهمس جورية بحزن:.
بس عموما الكلام ده كان زمان، دلوقتى... قاطعها رنين هاتف ليلة، لتنظر إلى شاشته وتجد رقم هاتف اخيها لتقول: ده خالد، الظاهر مل من القعدة برة لوحده، أنا فعلا إتأخرت عليه. لتجيب أخيها قائلة: ألو، أيوة ياخالد، خرجالك حال... صمتت وهي تعقد حاجبيها قبل أن تقول: طيب تمام، أنا هروح، آه عارفاه، متقلقش، سلام. لتغلق هاتفها وهي تنظر إلى جورية التي قالت بتقرير: مشي، أكيد وراه شغل. هزت ليلة رأسها نفيا قائلة:.
معتقدش وراه شغل، صوت مية جنبه وكأنه قاعد على النيل، وبعدين فيه حاجة في صوته مش طبيعية، متغير أوى، وكأن فيه حاجة مضايقاه، تفتكرى وجوده جوة شقتك فكره بحاجة من الماضى؟ هزت جورية رأسها بنفي قائلة: معتقدش، فهد، قصدى خالد مجاش هنا قبل كدة، حياتى معاه كانت هناك في الوادى، ومعتقدش فيه حاجة هنا ممكن تفكره بماضينا مع بعض. هزت ليلة كتفيها قائلة: مش عارفة بقى، عموما ياخبر بفلوس، بعد شوية هيكون ببلاش. لتنهض قائلة:.
أنا هقوم بقى وأسيبك عشان ترتاحى حبة وهجيلك بكرة بعد المحاضرات عشان أطمن عليكى. إبتسمت جورية قائلة: مفيش داعى تتعبى نفسك ياليلة، انا بجد بقيت كويسة الحمد لله. رفعت ليلة حاجبيها قائلة بمزاح: إيه ده إنتى مش عايزانى أجيلك ولا إيه ياجورى، قولى بقى إنك زهقتى منى. قالت جورى في عتاب: ازهق منك إيه بس، ده انا ما صدقت ألاقيلى أخت في غربتى دى. إبتسمت ليلة قائلة:.
يبقى ياروح أختك تسيبيلى نفسك خالص بكرة هأكلك أكلة على مزاجى إنما إيه، تستاهل بقك. إبتسمت جورية وهي تومئ برأسها، لتتسع إبتسامة ليلة قائلة: يلا سلام. قالت جورية: سلام ياليلة. غادرت ليلة تتابعها عينا جورية بإبتسامة مالبثت أن إختفت وهي تتساءل عن سبب مغادرة خالد المكان بتلك السرعة دون أن يصطحب ليلة معه، ليظل سؤالها عالقا، دون إجابة.
دخل خالد إلى حجرته في وقت متأخر، يتوقع أن تكون شاهيناز قد خلدت للنوم كعادتها، لتخالف توقعاته وهو يراها مستيقظة، تجلس في السرير، تبدو من ملامح وجهها أنها تبغى أن تفتعل مشاجرة معه وهو غير مستعد مطلقا لمهاتراتها، ليحدقها بنظرة باردة وهو يقول: من فضلك، أنا راجع تعبان ومش حمل أي حاجة تضايقنى، لو عندك حاجة عايزة تقوليها ياريت نأجلها لبكرة، مفهوم؟ نفضت شاهيناز عنها الغطاء قائلة:.
بس اللي عايزة أسألك عنه مينفعش يتأجل لبكرة ياخالد. زفر خالد قائلا في ضجر: خير ياشاهى، عايزة تسألينى عن إيه؟ تفحصت شاهيناز ملامحه وهي تقول: مين صاحبة ليلة اللي خرجت انت وهي معاها النهاردة وإتأخرت بسببها لغاية دلوقتى. حدجها ببرود للحظات قبل أن يقول:.
أولا أنا متأخرتش بسبب حد، أنا سبت ليلة مع صاحبتها من بدرى ومشيت روحت قعدت على النيل شوية، ثانيا، أظن غيرتك علية دى جاية متأخر أوى ياشاهى، يعنى مشفتهاش غير في مكتب دار النشر ودلوقتى، إيه، فجأة لقيتى نفسك بتحبينى وبتغيرى علية؟ إقتربت منه شاهيناز حتى وقفت أمامه تماما لتضع يدها على صدره قائلة في دلال:.
أنا طول عمرى بحبك وبغير عليك ياخالد، ومش معنى إنى مببينش ليك، يبقى مبحبكش، لأ، سميها ثقة في نفسى، لإنى عارفة ومتأكدة إنى متخانش، ده غير إنى عارفة إنك معندكش مشاعر عشان تديها لحد ياحبيبى، طول عمرك وإنت قلبك جامد، رافض تحب وتتحب، وأنا عارفة إنك محبتش في حياتك حد غير إخواتك وريم. قال خالد ببرود: ولما انتى عارفة كدة، وغيرتك محتفظة بيها لنفسك، إيه اللي حصل فجأة وفجرها بالشكل ده؟
رفعت يدها تمررها على وجنته بنعومة قائلة: لإن خالد نصار اللي أعرفه مبقاش خالد نصار من يوم ما رجع من السفر، بقيت بتسرح كتير ووضعك مبقاش مريحنى، بقيت أبرد من الأول معايا، ومعاملتك لية بقت أسوأ، وكأنى مش أم بنتك الوحيدة، تعرف أكتر حاجة صدمانى، هو إن خالد نصار اللي أعرفه، شفته من يومين في عيونه نظرة قلقتنى، نظرة خوف وقلق على واحدة ميعرفهاش، وده جننى، والله جننى.
أمسك خالد يدها التي تمررها على وجنته يوقفها ببرود قائلة:.
على فكرة أنا زي ما أنا متغيرتش، ومش معنى إن الإنسانية جوايا إنتصرت للحظة يبقى إتغيرت، أنا فعلا معنديش مشاعر أديها لحد وقلتلك الكلام ده من زمان، أما بقى سبب معاملتى ليكى إنتى بالذات، فإحمدى ربنا إنى كملت معاكى حياتى أصلا، وده من باب الشهامة مش أكتر، دى بقايا الشفقة اللي جوايا واللي مش عاجباكى دلوقتى، فمن فضلك، ياريت تلمى حواراتك دى، أنا قلتلك إنى تعبان ومش حمل كلام ملوش معنى يضايقنى.
ليتركها واقفة في مكانها ويتجه إلى الحمام، بينما تتابعه عيناها بحنق، تلعن إنكسارها الدائم أمامه، بل تلعن هذا اليوم الذي تركها فيه حبيبها، وتخلى عنها، لتضطر أن تتزوج وتصبح لقمة سائغة في فاه خالد نصار، ذليلة أمامه، تعيش حياة باردة خالية من الحياة، لتقرر وبكل حسم أن تبدل حياتها تلك، وأن تسعى إلى الطلاق ولكن بعد أن تتأكد من أن حبيبها سيتقبلها ولن يرفضها كما رفضها بالسابق، ستعمل على أن تجعله لها وحدها دون غيرها، ستجعله ينسى مجددا حبه القديم ليفتح قلبه لعشقها، وحتى تفعل ذلك ستظل مع الأسف، أسيرة هذا الرجل، زوجها، خالد نصار.
مدقوق بالأوتاد أرضًا بالأربع أتلوى ألمًا مكتوفًا بالعجز أتضوع و صراخي يشق فراغي من المنبع أغلال تنخر رسغاي، آه أتوجع و قفير يحويني وحدي، أين المصرع استغاثاتي تتهدج بصوت متقطع هل من منقذ من هذا السجن المفجع من هذا الحد القاطع يشق الجسد المتمنع من تلك النار الشعواء تكوي جنبي المتضلع من ذاك الجلمود يدثرني بات المهجع فيا ليتني كنت ترابًا من ذوات الأربع لا ألوي على شيء من دنيا و لا مطمع.
أيا غربتي المريرة كيف السبيل إلى خلاص فقد جف المدمع بقلم، ايهاب سليمان.
دخل خالد إلى حجرة الطعام ليجد ليلة ولين جالستان يتناولان طعامهما في صمت، ألقى تحية الصباح بهدوء، ثم جلس يتناول طعامه بدوره في صمت، نهضت لين قائلة بسرعة: أنا ماشية، سلام. توقف خالد عن تناول طعامه وهو يقول: لأ إستنينى يالين، هنروح مع بعض. هزت رأسها نفيا قائلة: مش هينفع، انا مش رايحة الشركة، ورايا ميتنج مهم مع عميلة. قالت ليلة بدهشة: غريبة اول مرة تقابلى عميلة برة الشركة. هزتت لين كتفيها قائلة:.
مش غريبة ولا حاجة، بتحصل بس مش كتير، على حسب راحة العميل، ويلا بقى مضطرة أمشى عشان متأخرش، سلام. قال خالد: سلام. غادرت لين بينما نهضت ليلة بدورها قائلة: أنا كمان همشى، عشان ورايا محاضرة بدرى النهاردة، سلام. قال خالد بهدوء: إستنى ياليلة، أنا عايزك، أقعدى. عقدت حاجبيها بحيرة وهي تعاود الجلوس مجددا قائلة بحيرة: خير يا خالد؟ تراجع خالد في مقعده وهو يقول: الحقيقة فيه موضوع مهم عايز أكلمك فيه.
نظرت إليه ليلة ولم تعقب، ليميل إلى الأمام قائلا بحزم: جورية. إزداد إنعقاد حاجبيها وهي تقول: مالها؟ نظر إلى عينيها مباشرة وهو يقول: مش عايزك تقربى منها، حكايتها خلصت خلاص، وياريت نقفل موضوعها ده خالص. قالت ليلة بحيرة: بس أنا حبيتها ياخالد ومش حابة أبعد عنها، أنا بحسها زي لين وسها بالظبط، انت ليه بس عايز تبعدنى عنها؟جورى طيبة أوى ياخالد، صدقنى، دى ملاك والله.
قال خالد في نفسه، أنها لا تحتاج لأن تقسم فهو يدرك بكل قوة أنها حقا تبدو كالملاك، وأن بها براءة ورقة تجذبانه بشدة، لا تحتاج لأن توضح له ما هو واضح فعلا كالشمس، فها هو ينجذب إليها وبشدة وهو لم يلقاها سوى مرتان، يشعر بأنها خلقت له، وهو خلق لها، يجمعهما شئ روحاني لا يتكرر، فهي تجسيد لأحلامه وربما هو تجسيد لأحلامها التي خطتها على ورق، هذا الورق الذي أربكه، أخافه، وجعله يقرر قرارا مصيريا لا رجعة فيه، سيغلق صفحتها للأبد، فلا مكان في قلبه لضعف يجلبه العشق، لا مكان في حياته للمشاعر، حياته قد رسمها بعناية، وداخل تلك الصورة لا مكان لجورية أبدا، والتي بمجرد ظهورها في حياته، جعلت تلك الصورة باهتة ودون ملامح، ليدرك أنه ليستعيد حياته السابقة، يجب أن ينساها، يمحوها من أحلامه وحياته للأبد، ربما لن يستطع أن يقوم بذلك، ولكنه بالتأكيد سيحاول.
أفاق من شروده على صوت ليلة وهي تقول: بص يا خالد، أنا عمرى ما إعترضت على أي قرار أخدته، وعمرى ما قلتلك لأ على حاجة، بس حقيقى في الموضوع ده مش هقدر، جورية من ساعة ما عرفتها وأنا حسيتها قريبة منى، شبهى، ومش بس كدة، هي غريبة في بلدى وملهاش صاحبات، يمكن أكون أول صاحبة ليها هنا من سنين، ده غير إنها بجد مريضة ومحتاجة حد يكون جنبها وإنت مربتنيش على إنى أتخلى عن حد محتاجلى. لتنهض مستطردة بحزم:.
بعد إذنك، إتأخرت عن المحاضرة وفعلا مضطرة أمشى، سلام. تأملها وهي تغادر بهدوء، يدرك أنها على حق تماما، ولكنه كان يود لو أغلق هذا الباب تماما ليرتاح باله، ولكنه ومع الأسف ظل مواربا، ليخشى أن يفتح على مصراعيه ليدخل منه رياح عاتية لا قبل له بها.
أنهت لين إجتماعها مع العميلة وقد إتفقتا على كل شروط العقد، وإتفقتا على إمضاء العقود أيضا في الشركة في اليوم التالى، خرجت من المطعم وإتجهت إلى سيارتها بخطوات رشيقة، ثم ركبت في المقعد الخلفى وهي تمسك هاتفها تقول لسائقها بهدوء وهي تجرى إتصالا بسها: على الشركة علطول ياعم مختار. إلتفت إليها السائق قائلا بإبتسامة: تحت أمرك يافندم.
تجمدت أصابع لين التي تضغط أزرار هاتفها وهي تستمع إلى صوت السائق تدرك أنه بكل تأكيد ليس صوت سائقها الذي تعرفه، وإنما هو صوت آخر تعرفه، تعشقه، وفى نفس الوقت تهابه، يثير الإضطراب في جسدها ويشعل مشاعرها المتناقضة كلية، رفعت وجهها إليه، لتتسع عيناها بصدمة وهي تطالع عيناه العسليتان لتبتلع ريقها بصعوبة وهي ترى إبتسامته الساخرة ليتوجس قلبها خيفة من الآتى، تدرك أن وراء تلك الإبتسامة شئ غير مستحب بالكامل بالنسبة إليها، كادت أن تتحدث ولكن هذا الرذاذ من تلك العلبة في يده والذي إنطلق في وجهها، جعل الرؤية أمامها غير واضحة، أرادت الصراخ، الإستنجاد بأحدهم، ولكن صوتها لم يسعفها، فقد ثقل لسانها وأحاط بها السواد تدريجيا، لتغرق في سبات عميق، ألقى عليها نظرة تأمل فيها ملامحها الرقيقة الهادئة الآن تماما، لتختفى إبتسامته الساخرة تماما وتظلل ملامحه سحابة من الألم، يكره ما سيفعله بها ولكنه مجبر على فعله، يجب أن ينتقم لكرامته الجريحة، يجب أن يخضعها له، ثم سيخرجها من حياته إلى الأبد.
قال فراس بحيرة: غريبة نزوله فجأة من غير ما ياخد أخته معاه أو حتى يستأذن منكم، ممكن مثلا يكون إفتكر حاجة لما جه البيت هنا؟ هزت جورية رأسها نفيا وهي تقول: لأ طبعا مستحيل، إنت هتقول زي ما ليلة قالت؟، ما إنت عارف إن حكايتنا كلها كانت هناك، في الوادى، وإنى جيت هنا بعد ما إختفى، يعنى البيت هنا مش ممكن يفكره بحاجة أبدا.
هل فكرت ليلة مثله؟، ياالله، حتى معرفته تلك أسعدته، فقد أصبح كل ما يخصها يسعده حتى لو كان شيئا بسيطا مثل ذلك، يتعجب من إنجذابه الشديد إليها رغم قصر مدة معرفته بها، أفاق من شروده على صوتها وهي تقول بحيرة: أنا كمان مستغربة نزوله المفاجئ، ومش قادرة أفسره رغم إنى إرتحت كتير لنزوله، وجوده في المكان كان موترنى، كان مخلينى...
توقفت عن الكلام وعيناها تقع على هذا الدفتر الخاص بها، إنها على يقين من أنها لم تضعه على الطاولة الجانبية تلك، بل تركته على الأريكة بعد أن كانت تتصفح رسماتها التي تذكرها بأيامها الجميلة معه، ترى...؟لا، لا يمكن، إن صح ظنها، فماذا ستقول له وكيف ستواجهه، ربما لن تفعل مجددا، بل يجب أن لا تفعل مطلقا. تابع فراس نظراتها المنصبة على دفتر رسمها ليقول بهدوء أخرجها من أفكارها البائسة: شافه، صح؟
نظرت إليه جورية قائلة بحزن: ممكن، وده يفسر نزوله المفاجئ، يمكن فكرنى واحدة مهووسة بيه، أو حس إن فيه حاجة غلط. قال فراس وهو يرفع حاجبه الأيسر قائلا: ويمكن إفتكر؟ نظرت إليه جورى للحظة في أمل مالبث أن خاب وظهر الحزن على وجهها مجددا وهي تقول:.
معتقدش، خالد لو إفتكر مكنش نزل بالشكل ده، كان هيواجهنى ومش بعيد ياخدنى في حضنه وتتحول ملامحه الباردة اللي بتقتلنى لملامح حبيبى فهد، يردلى روحى الضايعة منى، غالبا هو إفتكرنى مهووسة بيه، وده يفسر تصرفه الغريب يومها. اومأ فراس برأسه وكاد أن يتحدث مجددا حين رن جرس الباب ليعقد حاجبيه قائلا: إنتى مستنية حد؟
هزت رأسها نفيا لينهض على الفور ويتجه إلى باب الشقة ينظر من عين الباب ليرى كيسا أبيضا كبيرا أمامه يخفى ملامح حامله، عقد حاجبيه ثم فتح الباب ليرى ذلك الكيس الأبيض ترفعه حاملته أمام وجهها قائلة بنبرة صوت مرحة خلبت لبه: الديليفرى جه يافندم، شبيكى لبيكى، ليلة بين... لتنزل الكيس وتظهر ملامح وجهها الرائعة وهي تقول بإبتسامة واسعة: إيديكى.
لتتجمد البسمة على شفتيها ثم تختفى وهي تغمض عينيها ثم تفتحهما تتمنى ان يكون هذا حلما وأن من يقف أمامها الآن يراها تلعب هكذا بطفولية، هو شخص آخر غير، فراس.
قالت شاهيناز في عصبية: مستنتنيش الصبح ليه عشان آجى معاك الشركة؟ تأملها خالد في برود قائلا: مكنتش فاضى أستنى سيادتك على ما تخلصى، ساعة بتختارى لبسك وساعة في الحمام وساعة أدام المراية، مش عارف إحنا رايحين شغل ولا حفلة. نظرت إليه في حنق قائلة: لأ جايين الشركة اللي بقابل فيها عملا كتير، ولازم مظهرى يكون كويس أدامهم. تجاهل خالد حديثها وهو يغير الموضوع قائلا:.
على فكرة ريم عندها بكرة أول حفلة ليها في المدرسة وطبعا لازم نحضر، ياريت تلغى كل مواعيدك بكرة الصبح، وتتفرغى للحفلة دى، أعتقد إن الحفلة دى أهم من أي حفلة تانية بتحضريها، ولا إيه؟ وضعت يدها على جبهتها قائلة بضيق: إزاي نسيت بس. لتنزل يدها وهي تنظر إليه قائلة: عندى ميتنج مهم بكرة مع شركة السيوفى، ومش هينفع أأجله. نظر إليها خالد قائلا بلهجة لا تقبل المناقشة: تلغيه، وجودك جنب بنتك في حفلتها أهم، مفهوم؟
قالت شاهيناز بتوتر: مش هينفع صدقنى، أنا طلعت عينى، عشان آخد ميعاد مع مديرهم، لأنه علطول مسافر ولو لغيت بكرة، فده معناه إنى هستنى ٣ شهور كمان عشان نحدد ميعاد تانى وده مستحيل، إحنا محتاجين الماتريال دى من عنده في أسرع وقت عشان نخلص الشغل الجديد وإلا مش هنلحق نعرضه في السيزون الجديد. نظر إليها دون تعبير لثوان، لتشعر هي بالإضطراب، ثم قال بهدوء:.
بالنسبة لى، مفيش حاجة أبدا أهم من بنتي ولا حتى الشغل، مش مهم نعرض الشغل الجديد في السيزون ده، لو معناه متكونيش موجودة مع ريم بكرة، عموما، اللي إنتى شايفاه صح إعمليه، أنا عن نفسى هكون موجود معاها بكرة الصبح. قالت شاهيناز: وأنا هحاول أخلص بسرعة وأجيلكم. تجاهلها خالد وهو ينظر بأوراقه قائلا: براحتك، تقدرى تتفضلى على شغلك.
لم يعجبها صرفه إياها بهذا الشكل وكأنها عاملة لديه، وليست شريكة له، ولكنها غادرت بهدوء، مغلقة الباب خلفها، ليرفع خالد عينيه إلى هذا الباب المغلق، يتساءل بصمت، لو كانت جورية مكان شاهيناز، هل كانت لتترك إبنتها في أول حفل لها بالمدرسة وتفضل العمل؟، مستحيل، فهي ستكون أم رائعة كما يبدو عليها، نفض أفكاره التي تدور حولها، يرفض إقتحامها الدائم لعقله وقلبه، فلقد إتخذ قراره، وإنتهى الأمر.
قالت ليلة وهي تنهض لتضب الطاولة: لو كنت أعرف إن أستاذ فراس هياكل معانا كنت زودت الأكل. قال فراس بإبتسامة: تزودى إيه بس؟، ده أنا مش قادر أقوم من مكانى من كتر ما كلت وشبعت. إبتسمت جورية وهي تنهض بدورها تساعد ليلة في ضب الطاولة قائلة: وأنا كمان، من زمان مكلتش بالشكل ده، الأكل في اللمة حلو أوى، فكرتونى بلمتنا على السفرة في بيت جدى. قالت ليلة بمرح:.
لأ، مادام الحكاية كدة، أنا أجيب الأكل كل يوم ونيجى ناكل مع بعض بقى. قال فراس بلهفة: ياريت. تلاقت عيناها بعينيه ليختفى المرح من عينيها ويسكن فقط الخجل بين طياتهما، بينما عجز فراس عن مفارقة عيونها وهو يتأمل خجلها بقلب زادت دقاته، لتقطع جورية تلك اللحظات السحرية قائلة: إيه رأيكم نشرب القهوة في التراث؟، الفيو من هناك يجنن. إبتسمت ليلة وهي تهز رأسها موافقة، تقول برقة:.
بس انا اللي هعملها، إسبقونى على هناك وأنا هحصلكم. قالت جورية: هاجى معاكى عشان اوريكى مكان الحا... قاطعتها ليلة قائلة بمرح: متقلقيش هعرف أتعامل، بس روحى إنتى وأقعدى مع فراس، قصدى أستاذ فراس، إنتى لسة تعبانة ومحتاجة راحة. هل إزداد إسمه جمالا على لسانها أم يهيأ له ذلك؟تساءل فراس وهو يتأمل تلك الجميلة التي كلما عرفها، أدرك أنه يقع في حبها، وبكل قوة.
إستيقظت لين، تفتح عيونها ببطئ، تتأمل محيطها بدهشة، فقد كانت ممددة على سرير، في حجرة فارغة باردة تماما، إعتدلت وهي تمسك الجسر مابين حاجبيها بأصابعها السبابة والإبهام، تشعر بوجع في رأسها، آخر ما تذكره هو وجودها في السيارة مع...
إتسعت عيناها بشدة، تستوعب ما يحدث، لقد إختطفها وأحضرها إلى هذا المكان المقفر، تتساءل برعب عن أسبابه وما الذي ينوى أن يفعله بها، يرتعش قلبها خوفا ممن كانت لا تأمن سوى بجواره ولكنها الآن وبعد فعلته الأخيرة بها وتخديرها ثم خطفها لم تعد تدرى نواياه وخبايا سريرته، لقد تغير حقا، تغير كثيرا، أو ربما كان هكذا منذ البداية وهي فقط لم ترى حقيقته تلك، لقد كانت شاهيناز محقة حين قالت لها كم مخادع قد يستطيع مؤيد أن يكونه.
إنتفضت على صوت مقبض الباب وهو يفتح، ليظهر مؤيد على الباب، ناظرا إليها بوجه خال تماما من المشاعر، إبتلعت ريقها بصعوبة وهي تراه يقترب منها بهدوء، حتى توقف أمامها تماما، ليقول بإبتسامة ساخرة: نورتى بيتك ياحبيبتى، ياريت الإقامة فيه تعجبك بجد، ما هي لازم تعجبك، لإنك هتنورينا هنا، كتير. لتتسع عينا لين في، جزع...
ما الذي جرى! انه أنا. تريثي ولا تتسرعي الخطى. كنت دربك فيما مضى كيف أمسيت اليوم عنك مشردا. انه أنا من سكبتِ له المدامع وفاق له شوقك حدود الورى. أنا الذي زرع فيكِ جناحين وأطلقك من أرض الثرى. لستُ بغريب انه أنا ألم تهمسي لي في ظلام الليل لولاك ما عرفت الهوى. أين أصبحت أنا وكيف غدوتي متحجره. أين موضعي في رياض جنتك؟ وكيف بتُ اطحن الهم كالرحى! ماعدت أرى حالي كما كنتُ فلا أنا قربك أنعمُ، ولا أنا ميت مقطوع الرجى.
بقلم، سميرة البهادلي.
نهضت لين من السرير بسرعة وهي تقول: يعنى إيه الكلام اللي إنت بتقوله ده؟إنت جرى لعقلك حاجة؟ أمسك ذراعها بقوة آلمتها وهو ينظر إلى عينيها قائلا بصرامة: لأ نحترم نفسنا حبة ونلم لسانا ده، يا إما هتشوفى منى وش عمرك ما حلمتى تشوفيه يالين، مفهوم؟ أحست لين بالألم ولكنها أبت أن تظهر له ضعفها، لتقول بعيون ظهرت بهما قوة لا تشعر بها حقا: لو فاكر إنك ممكن تخوفنى تبقى بتحلم، أنا لين نصار، ولا نسيت يامؤيد؟
نظر إلى عمق عينيها وهو يقول بسخرية: لأ منستش، أنا عارف كويس أوى إنتى مين، وعشان كدة جبتك هنا، لإنى بصراحة حاسس إنك محتاجة تقويم وللأسف مقدرتش أعملهولك وإنتى على ذمتى، فقلت جايز أقدر أعملهولك دلوقتى. نظرت إليه بتوجس قائلة: تقويم إيه، إنت تقصد إيه بكلامك ده يا مؤيد؟ ترك ذراعها وهو يستدير ليجلس على السرير متمددا وواضعا يديه تحت رأسه قائلا ببرود:.
يعنى أنا وإنتى هنقعد هنا لوحدنا يالين، حاجة كدة زي بيت الطاعة، اللي لو كنت طلبتك فيه زمان بدل ما أطلقك، كنت أكيد شفيت غليلى، وبردت نارى وإرتحت. قالت لين بحدة: بيت طاعة إيه وشفيت غليلك إيه؟إنت فاكر إنى ممكن أقعد ثانية واحدة في المكان ده وأسمع الكلام الفارغ ده، مستحيل طبعا، أنا همشى حالا وإبقى ورينى إزاي هتمنعنى. لتغادر المكان بخطوات غاضبة بالفعل، بينما إرتسمت على شفتي مؤيد إبتسامة ساخرة.
قالت ليلة بإستنكار: يعنى إيه ياجورية؟بسهولة كدة هتنسى حبك وتتخلى عن خالد؟أنا مش قادرة أصدق إن اللي يحب بالشكل ده، ميتحداش الكل عشان حبيبه يكون معاه. قال فراس: أنا معاكى في الكلام ده طبعا ياآنسة ليلة، ورافض تصرفها. قالت جورية بألم:.
ما هو مينفعش أعمل غير كدة، إفهمونى بقى، خالد مش فاكرنى، ده غير إنه حتى لو إفتكرنى فهو إنسان متجوز وعنده طفلة، يعنى مينفعش أكون معاه، وجودى في حياته هيبقى عبء وأنا مستحيل أتواجد في حياته بالشكل ده، ده عذاب مقدرش أستحمله. قالت ليلة بحزن: بس هو مبيحبش مراته، وحبك إنتى. قالت جورية:.
كااان بيحبنى، كان ياليلة، الحب ده خالد مش فاكر أي حاجة عنه، ولا عايز يفتكر، ونزوله بالشكل ده المرة اللي فاتت، ملوش أي معنى غير كدة. قالت ليلة بيأس: يعنى إيه؟مفيش فايدة، خالد هيفضل كدة، عايش من غير مشاعر وأحاسيس، قافل على قلبه بقفل من حديد، بعد ماقلت إن في إيدك إنتى مفتاحه ياجورية. قال فراس موجها حديثه إلى جورية: بصراحة إستسلامك ياجورى مش عاجبنى، على الأقل إعملى محاولة ولو فشلت تبقى عملتى اللي عليكى.
تنهدت جورية قائلة: محاولة إيه دى بس اللي ممكن أعملها؟قولولى أنا في إيدى إيه وأنا أعمله. نظرت ليلة إلى ساعتها ثم نظرت إليهم قائلة: الوقت إتأخر وأنا لازم أمشى بس هنتقابل بكرة بعد الجامعة، هجيلكم دار النشر، وساعتها لازم نفكر في حل، تمام؟ أومأوا برءوسهم بينما كاد فراس أن يظهر سعادته الجامحة لمعرفته بأنه سيراها بالغد مرة أخرى، ولكنه أخفى تلك السعادة بحذر كي لا تنكشف مشاعره للجميع، نهضت ليلة قائلة:.
بس خدى بالك ياجورى، أنا بحب الروايات آه، بس كمان بحب النهايات السعيدة ولازم تعرفى إن روايتك مع خالد مش ممكن تنتهى غير بنهاية تليق بقصة الحب اللي حكيتيلى عنها، شغلى مخ الكاتبة ده بقى حبة، وإطلقى خيالها وإكتبيلنا أحداث ونهاية سعيدة، مفهوم؟ قالت جورية بحزن: ياريتها كانت بالسهولة دى ياليلة، ياريت حياتنا تبقى زي الروايات، نتحكم في أحداثها. نهض فراس بدوره قائلا:.
قلتهالك قبل كدة وهقولهالك مليون مرة، إنتى أدها وأدود ياجورى. إبتسمت جورية إبتسامة باهتة، ثم نهضت بدورها تودعهم، ليقول فراس موجها حديثه إلى ليلة قائلا: إنتى هتروحى إزاي ياآنسة ليلة؟ نظرت إليه في دهشة قائلة: يعنى إيه؟ مش فاهمة. كادت جورية أن تبتسم بداخلها وهي تلاحظ إرتباك فراس وتصبب العرق على جبينه وهو يقول: يعنى فيه حد هيوصلك؟ هزت ليلة رأسها نفيا وهي تقول: لأ، هاخد تاكسى، لإن عربيتى عند الميكانيكى.
ليقول فراس بسرعة: لأ، تاكسى إيه بس؟أنا هوصلك. نظرت إليه بخجل قائلة: مالوش لزوم، أنا مش عايزة أتعبك. إبتسم قائلا: تعبك راحة، وبعدين أنا رايح مشوار جنبكم، يعنى طريقى هو طريقك. قالت ليلة بحيرة: إنت رايح المهندسين؟ قال فراس بإرتباك: ها، آه، رايح، يلا بينا.
هزت رأسها موافقة، قبل أن تنظر إلى جورية التي إبتسمت برقة لتبادلها ليلة إبتسامتها، قبل أن تغادر يتبعها فراس، بينما أغلقت جورية الباب وقد إتسعت إبتسامتها تدرك أن قصة عشق أخرى تنسج خيوطها بين فراس وليلة، لتختفى إبتسامتها وهي تخشى أن تؤول قصتهما إلى نفس المصير.
قالت سها برقة: مكتب لين نصار مع حضرتك يافندم. لايدرى نبيل لما بدا هذا الصوت مألوفا لديه ولكنه لم يتوقف كثيرا ليتذكر أين سمعه قبل الآن ليقول بقلق: ممكن أكلم مدام لين لو سمحتى؟
فكرت سها، إن هذا العميل بدوره يسأل عنها، ترى إلى أين ذهبت لين دون أن تخبرها عن مكانها، تلك هي المرة الأولى التي تغيب فيها عن المكتب دون أن تعلمها، فآخر مكالمة بينهما كانت قبل أن تتجه لتلك العميلة في الصباح وأخبرتها أنها سوف تحادثها ما إن تنتهى من إجتماعها، ولكنها أبدا لم تفعل، حسنا ستوبخها ما إن تراها بالتأكيد، أفاقت من شرودها على صوت هذا العميل وهو يقول: ياآنسة، روحتى فين؟ قالت سها بإرتباك:.
أنا آسفة، مع حضرتك طبعا، مدام لين الحقيقة مش موجودة حاليا في المكتب. إزداد قلق نبيل ليقول بصوت حاول أن يجعله هادئا قدر الإمكان ولكنه حمل توتره إلى سها: طب ممكن أعرف هي فين دلوقتى؟ عقدت سها حاجبيها قائلة: ممكن أعرف حضرتك مين؟ إضطرب نبيل، وكاد أن يغلق الهاتف ولكن صوت تلك الفتاة منعه وهي تقول بلهفة:.
من فضلك متقفلش السماعة، إنت تعرف حاجة عن لين؟صوتك متوتر وفيه قلق، من فضلك طمنى، أنا مش بس مديرة مكتبها أنا زي أختها بالظبط وقلقانة عليها أوى.
لم يدرى نبيل بما يجيبها، فهو نفسه لا يدرى شيئا سوى أن مؤيد يضمر سوءا للين، هو لا يهتم بها ولكنه يخشى على صديقه من أن تؤول الأحداث إلى شئ سئ يضر به وبمستقبله، ولكن مهلا، إن تلك المرأة تقول انها صديقتها بل أختها، إذا ربما تعرف شيئا قد يوصله إلى مؤيد المختفى بدوره منذ الصباح الباكر، او ربما إستطاعت التواصل معها، لذا يجب ان يكون بدوره على إتصال معها، ليقول بهدوء:.
الحقيقة لو ممكن نتقابل، هيكون أحسن عشان نعرف نتكلم براحتنا. قالت سها بسرعة: ياريت، حضرتك تقدر تيجى الشركة، انا هستناك في مكتب لين. قال نبيل: مش هينفع، ياريت لو نتقابل برة، في اي كافيتريا قريبة من الشركة. قالت سها بقلق: وليه برة؟ما هنا كويس. قال نبيل بهدوء: كدة هكون مستريح أكتر، لو مش حابة... وصمت يترك لها حرية القرار، لتقول بحزم: لأ تمام، دقايق وهكون في كافيتريا الخليل اللي جنب الشركة. قال نبيل:.
عارفها، طيب هعرفك إزاي؟ قالت سها: أنا لابسة بدلة سودا وأكيد هنكون على إتصال. قال نبيل بحزم: تمام، دقايق وهكون عندك، سلام.
اغلقت سها الهاتف وهي تنظر إليه في قلق، ربما تسرعت بقبولها دعوته، ولكنها بالتأكيد شعرت بأنه يعرف شيئا عن إختفاء لين الغير مبرر، وهي لابد وأن تعرفه لتطمأن على رفيقتها، إلى جانب شعور غريب بالإطمئنان إلى هذا الغريب كلية عنها، فصوته ونبراته توحى بذلك، أو هو فقط خيالها؟، لا يهم، المهم الآن هو أن تسرع بمغادرة المكان والإتجاه على الفور إلى كافيتريا الخليل، لتلتقى بهذا المجهول.
خرجت لين من المنزل لتجد نفسها وسط صحراء قاحلة تمتد على مرمى البصر، لا شئ، حرفيا لا شئ حولها سوى الصحراء وسيارتها التي صفها مؤيد على جنب، إتجهت إليها بسرعة ورغم يقينها من أنه من المستحيل أن يترك مؤيد المفتاح بها إلا أنها كان لابد أن تتأكد، فربما حدث سهوا منه وتركه من حسن حظها، ولكن للأسف خاب أملها تماما وهي ترى مكان المفتاح خاليا تماما، نظرت حولها بيأس، لتدرك أن أملها الوحيد للخروج من هذا المكان هو ان تقنع هذا المدعو مؤيد بتركها وشأنها، وإن لم يرضخ، ستعمل على سرقة المفتاح، نعم، هذا ما يجب أن تفعله تماما...
عادت أدراجها، تجرجر أذيال الخيبة المريرة، لتصعد إلى تلك الحجرة التي إستيقظت فيها لتجده هناك، مازال ممددا على السرير، مسترخيا تماما، وكأنه كان واثقا من عودتها، إنتابها الغيظ منه، لتقول بحنق: قوم رجعنى يامؤيد، وبلاش تلعب بالنار، أخويا لو مرجعتش البيت في خلال ساعتين هيقلب الدنيا لغاية ما يوصلى. إعتدل مؤيد جالسا وهو يقول ببرود:.
قبل الساعتين ما يخلصوا هتكونى متصلة بأخوكى وقايلاله إنك سافرتى شرم تغيرى جو يومين كدة عشان أعصابك تعبانة. كادت ان تعترض، تخبره أن يأخذ كلماته تلك ويضرب بها عرض الحائط فلن تفعل ما قال ابدا، ولكنه قاطعها بإشارة من يده وهو يقول بلهجة حازمة متوعدة: قبل ما ترفضى لازم تبقى عارفة إنك لو رفضتى، وقبل ما تعدى الساعتين دول برده، هتكونى ملكى تانى وغصب عنك، فالقرار قرارك والإختيار ليكى يا حبيبتى...
نهض بهدوء ثم تركها وهي في صدمة من كلماته، تدرك أنه لا يلقى تهديدات لا ينوى تنفيذها، ليقشعر بدنها بالكامل وهي تتخيل أنها ملكه مجددا ولكن تلك المرة لن يظللهما العشق كالماضى، لا، سيظللهما كرها وبغضا وإنتقاما أسودا، على الأقل من جانبه، فهي تدرك أنها مازالت تحبه، حتى وإن إدعت العكس.
قالت ليلة برقة وهي تشير إلى فيلا قريبة من السيارة: البيت هناك أهو. توقف فراس أمام بوابة الفيلا وهو يشعر بالحسرة لإنه سيتركها لتذهب مجددا، إبتسمت ليلة وهي تنظر إليه قائلة: انا متشكرة اوى، عن إذنك. إبتسم بدوره وهو يهز رأسه، كادت ليلة أن تغادر السيارة ولكنها مالبثت ان أوقفها صوته وهو يقول: آنسة ليلة. إعتدلت تنظر إليه قائلة: أفندم. نظر إلى عينيها الجميلتين، ليقول بعد لحظة من التردد:.
هو أنا ممكن آخد رقم تليفونك؟ نظرت إليه في حيرة، ليبتلع ريقه في صعوبة قائلا: أنا الحقيقة يعنى، شايف إن هدفنا واحد وهو إننا نجمع خالد وجورية مع بعض وعشان كدة ممكن نتكلم ونتفق نتقابل برة ونفكر في حاجة تجمعهم، ده لو معندكيش مانع يعنى. نظرت إليه، تدرك أن خلف طلبه ما هو أكثر من رغبة في جمع حبيبين، خشيت ما يحدث، ولكنها رغبت به، لتومئ برأسها برقة قائلة: هات تليفونك.
منحها الهاتف على الفور وعيونه تلمع بالسعادة، وهو يراها تمسك بالهاتف، تجرى أصابعها الرقيقة على أرقامه، ليرن هاتفها داخل حقيبتها، وتبتسم قائلة: كدة تمام، عن إذنك.
إبتسم بدوره يتابعها بعينيه وهي تترجل من السيارة، لتدخل إلى المنزل، ترتسم إبتسامة هائمة على محياه، ثم ما لبث أن نظر إلى هاتفه، يطالع رقم هاتفها بإبتسامة، ثم قربه من فاهه وقبله بقوة، قبل أن يبتعد بسيارته وهو يفتح تسجيل سيارته لتتسلل أغنية محمد حماقى إلى مسامعه، تطربه، وتعبر كلماتها عن شعوره الآن، تماما. في جوه قلبى حاجه مستخبية كل اما باجى اقولها فجأه مش بقدر قدام عينيك بقف وبنسى ايه يتقال.
ليه كل مره يجرى فيها كده ليا وديه هى كلمة واحدة بس مش اكتر والكلمة ديه عندى فيها راحة البال حبيتك يوم ما اتلاقينا لما حكينا اول كلام حبيتك واحلف على ده تسمع زيادة ده انا مش بنام حبيتك يوم ما اتلاقينا لما حكينا اول كلام حبيتك واحلف على ده تسمع زيادة ده انا مش بنام ديه الناس في عينى حاجه وانت حاجه تانية عندك مشاعرى حتى خدها واسئلها انا صعب اعيش حياتى وانت لحظة بعيد احساسى بيك في وقت ضعفى قوانى.
كان خالد يمسك بأصابعه السبابة والإبهام هذا الجسر مابين حاجبيه، يشعر بذلك الألم في رأسه مجددا، ليغمض عينيه، وفجأة يمر بخاطره، صورتها وهي تركض ضاحكة وهو يجرى ورائها، يشعر بالسعادة المطلقة وهو يسمع صوت تلك الضحكات الرقيقة، لتلتفت إليه، نعم، كانت هي جورية، بوجهها ذو الملامح الرقيقة العذبة، وعيونها البريئة الجذابة، كاد أن يمسك بها ليتعثر ويقع أرضا، لتزداد ضحكاتها، شعر ببعض الألم في قدمه وظهر على وجهه لتتوقف ضحكاتها وهي تراه هكذا، تسرع إليه، تجثوا إلى جواره، تطالعه بقلق، وتسأله عن مدى إصابته، ثم سوادا، فتح عينيه يشعر بالحيرة، هو ليس بنائما، بل هو مستيقظ، وهذا بالتأكيد ليس حلما، إنه يكاد أن يكون واقعا ملموسا، ماالذى يحدث له بحق السماء؟هل هذا سحر ما؟أم ربما ذكرى؟كيف وهو لم يرى جورية سوى منذ أيام قليلة، أين له بذكريات معها؟إذا بما يفسر دفتر رسوماتها، شعر بضباب يحيط بعقله وصداعه يزداد، ليقرر أن ينهى يوم عمله، فقد شعر حقا بالتعب والإنهاك، وليؤجل التفكير في تلك الجورية إلى وقت آخر، فقلبه يخبره أن ما يحدث بينهما هو شئ كبير، لو إستطاع فهمه سيرتاح، ومن يدرى، ربما لو عرف حقا، لضاعت راحته وضاع سلامه، للأبد.