قل للحواجز و المسافات فلتفرقي بيننا كأنها تتآمر سرا بعد غيابك لأزداد تعلقا كيف تموت ذكراك و قد أخذت لب الفؤاد أتسلم روح وتينها معقود بين أضلع الآخر؟ بين أجفان عيني أخبئك صورة لا تتزحزح كيف أنساك وأنت تجول في كل الخلايا أودعتك للخلاق يحفظك عسانا يوم نسعد... بقلم، نور محمد.
إقتربت جورية من سرير هذا المريض الذي تتحدث عنه جميع العاملات بالمستشفى، لقد سمعتهن يتحدثن عن وسامته التي تخطف الأنظار وعيونه التي بزرقة السماء وحالته الغريية تلك، فقد نجا من حادث طائرة، بإصابات بسيطة برأسه وقدمه، ولكنه أفاق لا يتذكر شيئا عن نفسه ولا حتى إسمه، لتطلق عليه الممرضات إسم الوسيم المجهول.
لا تدرى جورية لما إنتابها الفضول لرؤية هذا المريض بعد ماسمعته من هؤلاء الممرضات، ولما لم ترحل على الفور بعد تسليم الهدايا للمرضى في هذا اليوم الذي تقصد فيه جورية المستشفى لبث البهجة في نفوس المرضى بتقديم بعض الدعم المعنوي والمادي لهم، لا تدرى لما أخذتها قدماها إليه؟ بالفعل، هي حقا لا تدرى.
توقفت جورية أمام سرير هذا المريض تماما، لتراه لأول مرة، نائما مستكينا، تأملته بخجل، إنه وسيم حقا، يستحق فعلا كل مايقال عنه، ولكن ليس هذا ماجذبها إليه فحسب، وإنما نسيانه ماضيه هو ما شغلها حقا وأثار شفقتها، فهي لا تتخيل أن ينسى شخص ما ماضيه، ذكرياته، إسمه وأحباؤه، لا تتخيل أن تصحوا هي يوما لا تتذكر جدها عزيز أو خالتها جليلة، أو فرستها مهرة، لا تتخيل هذا مطلقا.
إقتربت من وجهه تلاحظ جرحا في رأسه، مدت يدها لتلمس الجرح ولكن يدها تجمدت في الهواء، وهي تراه قد فتح عينيه فجأة يطالعها، أخفضت يدها، وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل، لا تستطيع إبعاد ناظريها عن عينيه الساحرتين واللتان تنافسان في لونهما زرقة السماء الصافية، تجذبها عيناه بقوة خاصة وهو ينظر إليها الآن بحيرة، لتبتلع ريقها بصعوبة وهي تقول: صباح الخير.
إعتدل قليلا في جلسته ليظهر الألم على ملامحه، ثم إختفى ما إن إستوى جالسا، وهو يقول: إنتى الدكتورة النفسية اللي قالولى إنها هتابع حالتى؟ هزت رأسها نفيا قائلة بإرتباك: لأ، مش أنا. إزداد إنعقاد حاجبيه وهو يقول بحيرة: لما إنتى مش الدكتورة الجديدة، أمال حضرتك تبقى مين؟ نظرت إليه لا تدرى ماذا تقول، ليشع الأمل في عينيه وهو يقول بلهفة: إنتى حد من أهلى، صح؟
أصابتها لهفته بالألم في قلبها، هل يشعر بالوحدة؟هل يفتقد أن يكون له عائلة تحتوى حيرته وخوفه من ماض أسدل السواد ستاره عليه؟هل يشتاق إلى عائلة لا يتذكرها؟ربما حقا هذا ما يشعر به الآن، أفاقت من شرودها على صوته يستحثها قائلا: من فضلك قوليلى إنتى مين؟طمنينى.
نظرت إلى عمق عينيه تشعر بعذابه فيهما، بحيرته وإرتباكه وشعوره القوي بالضياع في خضم ذلك الفراغ الأسود الذي يحيط بعقله، لتتخذ قرارها، ربما كان قرارا متسرعا وغير محسوب بالمرة، ربما قلب جدها الدنيا وأقعدها لإتخاذها مثل هذا القرار، ولكن بداخلها تشعر بأن ما تفعله هو القرار الأصوب في حياتها، قلبها يخبرها بذلك، لتقول بهدوء وبنبرات ثابتة:.
يمكن مفيش بينا قرابة ويمكن دى أول مرة اشوفك فيها في حياتى، وإنت أكيد متعرفنيش زي ما أنا كمان معرفش عنك حاجة، بس قلبى بيقوللى إنك إنسان كويس وحد ممكن أثق فيه، وأنا قلبى عمره ماكذب علية، وعشان كدة هعرض عليك عرض. نظر إليها في حيرة، لتستطرد قائلة:.
تيجى تشتغل و تعيش معانا في المزرعة، أنا عايشة فيها مع جدى عزيز وخالتى جليلة وشوية عمال، لو ترضى ممكن تعتبرنا زي عيلتك لغاية ما ترجعلك الذاكرة، وساعتها تبقى ترجع لعيلتك. نظر إليها بشك قائلا: وإنتى هتعملى كدة ليه؟هتستفيدى إيه يعنى؟ قالت بحيرة: مش عارفة، صدقنى أنا مش هستفيد حاجة غير إنى أساعد واحد مريض، غريبة يمكن، أنا نفسى مستغربة نفسى بس حاسة انى لازم أعمل كدة.
نظر إلى عيونها في حيرة للحظات قبل أن يقول بهدوء: طيب ممكن أسألك سؤال تانى؟ أومأت برأسها إيجابا دون أن تنطق بكلمة ليستطرد قائلا: ليه بتعملى المعروف ده مع حد متعرفيهوش؟ قالت برقة:.
هو مش معروف أوى يعنى، إحنا مزرعتنا صغيرة وفى حتة بعيدة عن العمران، يعنى ممكن تمل فيها بسرعة، بس هدوءها ده ممكن يكون سبب لرجوع الذاكرة ليك، أما عن أسبابى، فصدقنى أنا نفسى معرفهاش، يمكن لإنك بتفكرنى بنفسى، بلحظة في طفولتى مات فيها بابايا ومامتى، وحسيت إنى وحيدة وضايعة من غير حد، ولولا جدي اللي أخدنى في حضنه وراعانى أنا كنت ضعت فعلا، وإنت كمان دلوقتى ومن غير ذاكرة زي طفل صغير محتاج إيد تقف جنبك وتساندك، تحسسك إنك مش لوحدك، ولغاية ماترجعلك الذاكرة دى، هكون أنا وجدى الإيد دى، ها، إيه رأيك؟
أطرق مجهول الهوية هذا رأسه يفكر في كلماتها، ليرفع إليها وجهه بعد لحظات وقد إنفرجت أساريره يهز رأسه موافقا، لتنفرج أساريرها بدورها وهي تنهض قائلة بحماس قائلة: أنا إسمى جورية الفيومى على فكرة، وهاجى آخدك بكرة الصبح على المزرعة، بس لازم نسميك. لتفكر وهي تقضم إصبعها بيدها بطريقة محببة قائلة: ياترى إيه الإسم اللي ممكن يناسبك؟ لتصمت للحظة قبل أن تلمع عيناها قائلة: فهد، إسمك فهد، لايق كتير عليك.
إبتسم موافقا بصمت لتمد يدها إليه قائلة: إتفقنا، سلام مؤقت يافهد. مد يده يضم يدها محييا، ليرتعش جسدها وتتسارع دقات قلبها رغما عنها، لتترك يده على الفور وهي تبتلع ريقها بصعوبة قبل أن تبتسم إبتسامة مهزوزة، وتهز رأسها ثم تغادر بخطوات هادئة تخفى إضطرابها تتابعها عيناه بنظرة حملت إعجابا لم يستطع إخفاؤه.
قال عزيز بحدة: إنتى إزاي تعملى كدة قبل ما ترجعيلى، من إمتى بتتصرفى بدماغك ياجورى؟ قالت جورية وهي تمسك كتفيه بيديها قائلة: إهدى بس ياجدى، أنا... قاطعها وهو ينفض يديها عن كتفيه قائلا في حنق: إنتى إيه بس؟أنا اللي غلطان، دلعتك زيادة عن اللزوم، وسيبتك تعملى اللي إنتى عايزاه كله، وفى الآخر جاية تجيييلى البيت راجل غريب، منعرفش أصله من فصله. لينظر إليها بحنق قائلا:.
للأسف، إنتى خدتى من جدتك الشكل بس مخدتيش العقل أبدا. تدخلت جليلة التي ظلت تراقب ما يحدث بصمت قائلة: إسمعها بس ياعزيز وبعدين... قاطعها عزيز قائلا بصرامة: إسكتى إنتى ياجليلة، مش بعيد تكونى إنتى اللي شجعتيها على الهبل ده. إتسعت عينا جليلة بإستنكار بينما أسرعت جورية تقول: خالتى جليلة مكنتش تعرف حاجة عن الموضوع ده ياجدى، هي لسة عارفة حالا وأنا بحكيلك.
أشاح عزيز بيده حانقا، لتترقرق الدموع في عينيها، وهي تقول بضعف: ياجدى، عشان خاطرى، إسمعنى الأول وبعدين قرر، ولو رفضت وجوده مش هتكلم خالص ولا هعارضك. أوجعته دموعها، كاد أن يأخذها في حضنه ويربت عليها مواسيا ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة رافضا، يبغى سماع سبب تصرفها بتلك الرعونة قبل أن يقرر مايفعل، لتبتلع جورية ريقها بصعوبة وهي تقول:.
أنا لما شفته إفتكرت نفسى وأنا صغيرة، إفتكرت روحى وهي تايهة مش لاقية حد لية، لا مكان يإوينى ولا أهل يساندونى ويقولولى إنتى مش لوحدك، إفتكرت غربتى وأنا جوة بيتى، ولولا وجودك جنبى ساعتها، لولا جتنى وضميتنى لحضنك، كنت ضعت ياجدى، فاكر قلتلى إيه ساعتها؟قلتلى متخافيش، إنتى مش لوحدك، أنا جنبك وهفضل قربك، مش هسيب إيدك ابدا، وطول ما إيدى في إيدك مش هتقعى، وده وعدى ليكى، وفعلا ده اللي حصل، النهاردة لما شفته إفتكرت إحساسى زمان، حسيته محتاج إيد تساعده، بقوله بيها إنت مش لوحدك، وفى وسط السواد اللي انت فيه انا وجدى هنكون شعاع نور، ينورلك طريقك، لغاية ما في يوم شمس زكرياتك تنور حياتك وساعتها هترجع لعيلتك، ولحد ما ده يحصل مش هنسيبك تايه تخبط في طريقك لوحدك، هنكون معاك لآخر لحظة، فاهمنى ياجدى؟
تأملها جدها للحظات ثم ربت على يدها قائلا بحنان: فهمتك يا بنتي، فهمتك، بس برده ده ميمنعش إنك إتهورتى وطلبتى من حد غريب يكون معانا في المزرعة، إفرضى طلع مش كويس أو هربان من جريمة، إفرضى... قاطعته جورية قائلة بحزم:.
متقلقش ياجدى، أنا واثقة إنه مش ممكن يطلع مجرم او إنسان وحش، سميها الحاسة السادسة، سميها ثقة في إحساس قلبى اللي عمره ما خيب ظنى، سميها زي ما تسميها، بس صدقنى ياجدى، انا واثقة إن فهد إنسان كويس ومش ممكن يإذينا. عقد جدها حاجبيه قائلا: فهد مين ده؟ إبتسمت لأول مرة منذ ان تركت فهد في هذا المستشفى وهي تقول لجدها: فهد يبقى الراجل اللي حكيتلك عنه ياجدى، وأما بالنسبة للإسم. فأشارت إلى نفسها بفخر مستطردة:.
فأنا اللي إخترتهوله.
تأمل جدها ملامحها المشرقة ليتسلل إلى قلبه القلق رغما عنه، وهو يشعر أن هذا الفهد قد حاز على إعجاب فتاته الصغيرة حتى وإن لم تشعر بهذا بعد، ليخشى أن تتكرر تجربة إبنته مجددا، ولكن مع حماسها ذلك لا يستطيع أن يرفض لها طلبها، سيوافق على حضوره إلى المزرعة، ولكنه سيضعه تحت رقابة شديدة وإن ثبت له كذب إدعاءاته، إن تأكد من أنه مخادع سيتأكد بنفسه من أنه سيلقى جزاؤه العادل، وسيكون مصيره أسوأ من الموت نفسه.
ذهبت جورية إلى المستشفى فوجدته هناك، أخبرها أنه لم يكن يتوقع عودتها فإبتسمت مخبرة إياه أنها حين تعد لا تخلف وعودها أبدا، ليتأمل إبتسامتها الرقيقة فيبتسم لها بدوره وفى إبتسامته ضاعت هي كلية، غرقت في بسمته تلك والتي إمتدت إلى عينيه الجميلتين فسحرت قلبها ورسمت بداخله طلاسم إحتارت في تفسيرها، تعثر وكاد أن يقع فأسندته بكل قوتها، وهنا وفى تلك اللحظة، مثلما تشابكت أيديهم، تشابكت نبضات قلبهم، ففى تلك اللحظة بالذات والتي إلتقت فيها العيون، أدرك كليهما أن مصيره إرتبط بالآخر وأن ما يحدث بينهما هو شئ فريد، فروحيهما تستكينان فقط بسماع نبض الآخر والذي يصل إلى مسامعهما بكل وضوح، تطرق قلبيهما بقوة دقاته، لتستكين إبتسامة راحة على ثغريهما ويتجهان إلى خارج المستشفى ولدى كل منهما يقين بأنه لم يعد روحا تائهة وحيدة، بل صار هناك من يؤنس وحدته ويطمئن تلك الروح، ربما للأبد، أو هكذا كانت تظن.
، في داخل المزرعة...
كانت تعلم أن جدها لن يرتاح لذلك الغريب على الفور، وأنها ستجد صعوبة في إقناعه بأنه ليس بسئ أبدا، ولكن ما حدث كان عكس توقعاتها تماما، فمنذ اللحظة الأولى لوصولهم إلى المزرعة وإلتقاء جدها بفهد، وجدها يبدو مرتاحا لهذا الضيف الجديد، وكأنه قد توسم فيه الطيبة والرجولة وحسن الخلق، وإزداد إعجابا به مع مرور الأيام، فلم يكن فهد أبدا برجل كسول فما إن سكن في هذا الكوخ بجوار المنزل والذي أعدته له جورية بنفسها وجعلته رائعا حقا، حتى نهض في اليوم التالى باكرا ليشمر عن ساعديه ويعرض على الجد رغبته في العمل مع بقية العاملين بالمزرعة، مظهرا قوة وجلدا وصبرا، ورغم طلب الجد منه الراحة كي تلتئم كل جراحه إلا أنه أبى قائلا أن جراحه بسيطة وقد إلتأمت بالفعل، وأن دواءه هو العمل حتى لا تشغله أفكاره السوداء وحيرته من صفحة ماضيه البيضاء، ليثبت لجدها أنه حقا رجل يعتمد عليه، وليس هذا فقط بل صار صديق جدها الذي يشاركه في لياليه لعبته المفضلة، الشطرنج، يظهر ذكاءا بلا حدود في تعلمها بسرعة بل والتفوق على جدها بها وكأنه يلعبها منذ الصغر.
كانت جورية سعيدة للغاية بوجود فهد في مزرعتهم، وإندماجه السريع، خاصة مع جدها، فقد أضفى فهد على المزرعة جوا رائعا، فلم تعد أبدا مملة كما كانت، كانت تقف بالساعات تعد الطعام مع خالتها جليلة فقط كي يأكل منه فهد، تعد الكوخ كل يوم وتضع فراشه في الشمس فقط كي يرتاح فهد، تفكر وتفكر في أشياء تشغله بالمساء فقط كي لا يمل فهد، وفى لياليها تمسك أوراقها تكتب فقط عن فهد...
لتدرك ذات ليلة أن فهد قد أصبح محور حياتها، وأنها قد وقعت في غرامه، تتساءل دائما هل وقع في عشقها بدوره؟أم أنها مجرد فتاة عادية بالنسبة إليه؟لطالما عاملها بأدب وإحترام، لم يصدر عنه أبدا ما يوحى بالإعجاب بها، ربما هي مرة واحدة ضبطته يتأملها خلسة، ولكن غير ذلك لم ترى منه أبدا أنها تثير إعجابه، أو إهتمامه بأي شكل من الأشكال، حتى كان هذا اليوم الذي إكتشفت فيه مشاعره...
كانت ترتب له الكوخ كعادتها، لتقع يديها على قميصه، مدت يدها تأخذه، ترفعه إلى أنفها تشتم رائحته المميزة والتي يعبق بها هذا القميص الخاص به، إبتسمت وهي تتذكره البارحة وهو يرتديه، كم كان وسيما به وهو واقفا تحت الشمس، تلوح بشرته بأشعتها الحارقة، يمسك الفأس بيده يزرع الأرض، ثم يقف فيمسح عرق جبهته بكمه، ثم يعاود حرث الأرض بكل قوة، وكانت هي تتأمله من بعيد، تتمنى فقط لو إقتربت منه، ولكن ما بين أمنية تحدوها وقيود تمنعها هي حائرة، أسيرة، تود لو تحطم تلك القيود، ولكن ماباليد حيلة.
إنقطعت الكهرباء فجأة لتترك جورية القميص بسرعة فأكثر ما تخشاه هو الظلام، لتتحسس الطاولة بقلق حتى وجدت الثقاب، حاولت أن تشعل عودا، فلم تستطع، حاولت مرارا وتكرارا حتى نجحت بالفعل، ولكن وقع منها عود الثقاب على هذا القميص ليشتعل بسرعة، حاولت أن تطفئه بغطاء جانبي فإشتعلت النيران أكثر، خشيت من ذلك الحريق الذي إنتشر بسرعة، لتندفع مغادرة الكوخ ولكنها تعثرت لتقع أرضا ويرتطم رأسها بقوة ثم لفها السواد الكامل.
كان فهد عائدا إلى الكوخ، ليرتاح قليلا، فأمامه اليوم عمل كثير وهو ينوى أن يكد ويكد حتى يستطيع إنهاء حرث قطعة الأرض الشمالية قبل مساء هذا اليوم، توقف في مكانه حين رأى دخانا متصاعدا من الكوخ كاد أن يتجه إلى الإسطبل القريب لإحضار خرطوم المياه والإستنجاد بالجميع هناك لإطفاء هذا الحريق ولكنه لمح هذا الشال الملقى على المقعد خارج الكوخ، ليتعرف عليه على الفور ويدرك أنه الشال الخاص بها، ليرتجف قلبه رعبا عليها، إنها بالداخل والكوخ يحترق، ربما أصابها مكروها، ليسرع بإقتحام الكوخ دون تفكير لتقع عينيه عليها على الفور، مغشيا عليها ومسجاة على الأرض، أسرع يحملها إلى الخارج، يهرول بها إلى المنزل القريب، حيث إستقبلتهم جليلة بجزع، صرخ بها أن تحضر العطر بسرعة، ثم نظر إلى وجه جورية الشاحب بجزع يربت بيده على وجنتها وهو يقول بهلع:.
فوقى ياجورى، فوقى ياحبيبتى، عشان خاطرى فوقى، انا مقدرش أعيش من غيرك. جاءت جليلة ومعها العطر وجاء معها عزيز الذي راقب ما يحدث بقلب واجف، لينثر فهد العطر على رسغه ويقربه من أنفها، ليتجعد انفها قليلا، مشيرا إلى أنها على وشك الإستيقاظ، زفر فهد براحة وعيون جورية البنية تنفلج ببطئ، لتراه وتقول بضعف: فهد. إبتسم فهد بينما أغروقت عيناه بالدموع قائلا: قلب فهد وعمره كله.
تجمد الجد تماما وأصابت جليلة الدهشة، بينما إتسعت عينا جورية بذهول، وهي تقول: إنت قلت إيه؟ تأملها بعشق قائلا: قلت اللي خبيته جوة قلبى بقالى سنة بحالها، كنت مستنى أعرف أنا مين، وأصلى إيه، بس الظاهر إنه مش باين إنى هفتكر حاجة، وبصراحة اكتر وبعد إحساسى النهاردة، و إنك كان ممكن تضيعى منى، مش مستعد أضيع ثانية واحدة من غير ما أقولك أد إيه بحبك. أغروقت عينا جورية بالدموع وهي تقول: أنا كمان بح...
هدر صوت جدها بإسمها يمنعها من الإستطراد في إعترافها بعشقه، لينتبه فهد إلى وجود جدها، وينهض ببطئ ناظرا إليه في ترقب، بينما إعتدلت جورى جالسة ناظرة إليه بوجل ليقترب الجد منهما ينقل بصره بين الإثنين بملامح خالية من التعبير، حتى توقف أمامهما تماما، ليقول بهدوء موجها حديثه إلى فهد قائلا: وتفتكر آخرة الحب ده إيه يافهد؟ قال فهد بثقة: الجواز طبعا، انا بحبها ياجدى، ومستعد أعمل أي حاجة عشان تكون مراتى.
لم يهتز لجدها جفن بينما رقص قلب جورية طربا لسماع كلماته الواثقة العاشقة، ليقول الجد بصرامة مقاطعا أفكارها السعيدة: وهتتجوزها إزاي وإنت مش معاك أي حاجة تثبت إنت مين، أو إسمك إيه؟ ظهرت الحيرة ممتزجة بالحزن وقلة الحيلة على وجه فهد، بينما إنفطر قلب جورية حزنا وهي تدرك مايؤول إليه حديث جدها في النهاية، ولكن كلمات فهد التالية أحيت الأمل في قلبها وهو يقول بكل ثقة:.
يبقى هنزل مصر وهجيب أوراق تثبت هويتى، مش هرجع غير وأنا معايا الورق اللي هيجمعنى مع جورى. لينظر إلى جورية وقد رقت نظراته قائلا: وده وعد منى. إبتسمت برقة، ليعود بنظراته إلى جدها قائلا بقوة: وعد ياجدى.
وبالفعل سافر فهد بعد يومان وبعد وداع رقيق من جورية، ولكنه لم يعد أبدا، ولم يتصل بها حتى، إنتظرته عاما كاملا، رسمت وجهه في كل صورة قامت برسمها، وجدته في كل كلماتها، لم تيأس أبدا من عودته إليها مجددا، ولكنه لم يعد، لتدرك أن في الامر خطب ما، ربما تذكر ماضيه ونسيها أو ربما لم يحبها من الاساس؟، أحست بالحزن ولكنها لم تترك نفسها أسيرة للألم، بدأت تشغل بالها عن التفكير فيه بكتابة الروايات، لتبعثها إلى دور النشر، وذات يوم جاءها خطاب دار نشر المبدعون يخبرونها بأنهم على إستعداد تام لنشر قصتها إن جاءت إلى القاهرة حيث المكتب الرئيسي للدار، وبالفعل سافرت، تاركة هذا الوادى اللعين الذي يذكرها بفهد، وتاركة جدها الذي أبي ان يترك مزرعته ومنزله، لتلتقى بفراس وتنشأ بينهما صداقة قوية، ومنذ ذلك اليوم وهي تكتب الروايات وتنشرها، تصمم على جعل بطل غلاف رواياتها فهدها، فهي عندما تكتب الرواية تراه أمامها، يلهمها بسحره، بعشقه، بكيانه القابع بوجدانها، أو ربما يوما ما رأى فهد غلاف رواية لها ليدرك أنه مازال بقلبها يحيا، وقد حدث هذا بالفعل اليوم...
لقد عاد لحياتها بقوة، بألم، عاد رجلا متزوجا ولديه إبنة صغيرة، عاد لحياتها ليجبرها ما عرفته عنه أن تخرجه هي من حياتها تلك، من كيانها، من قلبها، من ذكرياتها للأبد، عليها أن تنساه كلية، فهل ستستطيع؟
شريط العمر يمر، كقطار بطئ الخطى محكمة خطواته مدبرة أرى فيه صورا لى، باهتة، بعيدة قريبة، مكررة أحلم ببداية طريقى بأحلام، لأجد في خاتمة طريقى نهاياتها مقدرة أحلامى مثلى تائهة، مغمورة، مبعثرة دفنت وواراها الثرى كأناس ماتوا ضحايا حادث قطار وانتهوا كخبر في جريدة، أو أحرف مسطرة لاندرى في حياتنا هل أقدارنا بإختيارنا، أم أنها أقدار مسيرة؟
كانت جورية تجلس في شرفة منزلها تحتسى قهوتها بهدوء ناظرة إلى هذا النيل الجارى أمامها متأملة هذا المشهد الهادئ والمريح لأعصابها المنهكة من تدفق الذكريات، تنهدت بعمق، لقد أقسمت على النسيان، ولكن كيف تنسى ما حفر في الفؤاد، كيف تنسى أول وآخر حب في حياتها؟هي حقا لا تدرى.
أفاقت من أفكارها على صوت رنين هاتفها لتترك فنجال قهوتها على الطاولة وتتجه إلى داخل الحجرة، تمسك هاتفها تنظر إلى شاشته قبل أن تجيب قائلة: صباح الخير يافراس. قال فراس: صباح النور ياجورى. أحست جورية بالإضطراب يعترى صوته لتقول بقلق: خير يافراس، مال صوتك؟ زفر فراس قائلا: عايزك حالا في المكتب ياجورى. عقدت جورية حاجبيها قائلة: بس أنا محتاجة يومين أجازة كمان. قال فراس بنفاذ صبر: مش هينفع ياجورى، محتاجلك ضرورى.
تنهدت جورية قائلة: طيب يافراس، نص ساعة وهتلاقينى عندك، سلام. ثم أغلقت الهاتف، وهي تتجه بروتينية إلى دولابها تفتحه وتأخذ أول فستان وقعت عليه عيناها، وتتجه إلى الحمام والأفكار تراودها، تتساءل ماالذى حدث لفراس؟ولماذا هذا القلق في صوته؟لتهز كتفيها في حيرة، نصف ساعة وستعلم السبب، لتدعو الله أن يكون خيرا.
نهضت جورية قائلة بعصبية: إنت أكيد بتهزر، إنت عايزنى أروحله برجلية واطلب منه إنه يسيب صوره على أغلفة رواياتى؟مستحيل طبعا. قال فراس بهدوء: أقعدى بس وإهدى، لو سمحتى ياجورى إسمعينى للآخر. جلست مجددا وهي تنظر إليه عاقدة حاجبيها ليقول مستطردا:.
أنا راجعت مع محامي الدار وضعنا القانونى والحقيقة الوضع ميبشرش بخير أبدا، اللي عرفته عن اللي إسمه خالد نصار مش قليل، ده حوت السوق، معندوش قلب ومبيرحمش، ولما حد بيقف قصاده بيدمره... صمت فراس وهو يلاحظ ذلك الألم الذي إرتسم على وجه جورية، لقد نسي للحظات هنا أن من يتحدث عنه هو محطم قلب تلك الفتاة الرائعة، ليزفر قائلا:.
أنا آسف ياجورى لو بكلمك في موضوع حساس بالنسبة لك وبفتح في جروح قديمة لسة بتنزف، بس الموضوع بجد خطير وميستحملش التهاون فيه. تنهدت جورية قائلة:.
أنا عارفة الوضع الحرج اللي حطيت الدار فيه لما رسمت أغلفة كتبى وحطيت عليها صورة فهد، قصدى خالد نصار، بس صدقنى أنا مش هقدر أبدا أنفذ اللي إنت عايزه منى، أنا مقدرش يجمعنى معاه مكان واحد تانى، إنت مش فاهم أنا بحس بإيه وهو قصاد عينى، عيونه هي هي، صوته هو هو، بس لا دى نظرته ولا دى نبرة صوته، وهو قصاد عينى حنينى لفهد بيقتلنى، ببقى نفسى أترمى في حضنه وأقوله وحشتنى، بس مبقدرش، إحساسى إنه خلاص مبقاش لية، وبقى لواحدة تانية متجوزها ومخلف منها دمرنى، أنا بجد تعبانة يافراس، مش قادرة أتخيل إن حبيبى فهد اللي عاش ويانا سنة كاملة، حبنى فيها وحبيته، فهد اللي غاب بعدها سنتين سابنى فيهم للعذاب، يبقى هو خالد نصار المليونير المعروف، مش عارفة إزاي كل ده حصل وليه حصل لية أنا بالذات؟
، بس أنا عارفة... إلتفت كل من جورية وفراس إلى صاحبة الصوت لتطالعهما ليلة بطلتها الرقيقة، تقف في ثبات تنقل نظرها بينهما بهدوء، لتعقد جورية حاجبيها بحيرة بينما تأمل فراس فاتنته التي أطارت النوم من عيونه منذ أن رآها، ليحمد الله على حسن حظه الذي جعله يراها في أسبوع واحد مرتين، ليقسم بداخله أن لا يدعها اليوم دون أن يعرف الكثير عنها، نعم، لابد أن يفعل.
إقتربت منها سها تحمل بيدها باقة من الورود الصفراء والتي تكرههم لين وبشدة لتدرك من قبل أن تقرأ هذا الكارت الموضوع بينهم، من مرسلهم إليها، خاصة وملامح الضيق تبدو على صديقتها سها، وهي تقدمهم إليها قائلة: شوفى خفة الدم على الصبح، الورد ده جايلك وعليه كارت مكتوب عليه كلام سخيف من محمود عزمى. أخذت لين تلك الورود وألقتها على المكتب بلا مبالاة وهي تسحب الكارت منهم تقرأه بهدوء:.
من النهاردة مش هتكونى غير لية أنا وبس، بدأ العد التنازلى. نفس العبارة التي وجدتها على زجاج سيارتها بالأمس، إنه هو، مؤيد، تستطيع أن تشم رائحة عطره التي يفوح بها هذا الكارت، وكلماته السخيفة الغامضة، تتساءل بحنق، ماذا يريد منها؟تود من كل قلبها أن يدعها وشأنها، فمنذ أن عاد لحياتها، وحياتها إنقلبت رأسا على عقب، لم تعد أبدا كما كانت... أفاقت من أفكارها على صوت سها وهي تجلس قائلة بحنق:.
أنا مش عارفة بس عاجبك في محمود ده إيه؟، ده حتى دمه تقيل وبارد. قالت لين بهدوء: حتى إنتى يا سها بتقولى زيهم، ما إنتى عارفة إنى قفلت باب قلبى من زمان، ومستحيل هفتحه تانى، صحيح محمود معجب بية وفاتحنى في موضوع الجواز، بس أنا رفضت، وإحنا دلوقتى أصدقاء. قالت سها بحيرة: أمال ليه باعتلك الورد ده، وإيه الكلام الغريب اللي عليه، ويعنى إيه بدأ العد التنازلى؟ زفرت لين وهي تجلس قائلة:.
اللي باعت الورد ده مش محمود ياسها. قالت سها بحيرة: أمال مين؟ نظرت لين إلى عيون سها بثبات قائلة: مؤيد، مؤيد الحسينى. لتتسع عينا سها، بصدمة.
اقتربت منهما ليلة لتتوقف أمامهما تماما وهي تقول برقة خلبت لب فراس: أولا أنا حابة أعتذر عن دخولى كدة من غير إذن، بس السكرتيرة مكنتش موجودة برة والباب كان مفتوح وغصب عنى سمعت كلامكم واللي بيفسرلى حاجات كتير جدا منيمتنيش من آخر مرة كنت هنا معاكم، في نفس الأوضة دى.
رغما عنه أحس فراس بخيبة أمل، فقد ود لو أطارت أفكارها حوله النوم من عينيها مثلما فعلت هي معه وليس سبب قلقها هو غموض ما حدث في تلك المرة الماضية فقط، أفاق من شروده على صوتها الملائكي وهي تقول: ثانيا حابة أوضح حاجات كتير متعرفوهاش عن أخويا خالد. لتنظر إلى جورية قائلة: وحابة اعرف انا كمان حاجات من الواضح إنها كانت مستخبية عننا لحد ما ظهرتى إنتى ياجورية. لتصمت لثانية قبل ان تستطرد قائلة:.
أنا قريت قصتك أقدار الحب. لتهز كتفيها تنقل بصرها بينهما قائلة في حيرة:.
والحقيقة الرواية فيها عبارات مكتوبة في الحوار حسيت إن أخويا هو اللي بيقولها فعلا، هي دى طريقة كلامه، ولقيت فيها أحاسيس إتمنيت لو حس بيها فعلا، أخويا طول عمره محروم من الحب، والحقيقة مجرد إحساسى إنه عاشه ولو لفترة قصيرة، ريح قلبى، متعرفيش أد إيه، خالد بيظهر للناس كلها على عكس طبيعته لإنه طول عمره بيخاف من الجرح، من الغدر والهجر، أخويا مش زي ما شفتوه يومها. لتستقر عيونها على جورية قائلة:.
وإنتى أكيد شفتيه على طبيعته وعرفتى إزاي ممكن يكون لو بس نسى جروح ماضيه وآلامها، لو بس نسي إنه خالد نصار. كانت الحيرة تملأ وجه كل من جورية وفراس، لتتنهد قائلة:.
عشان تفهموا كلامى لازم نرجع من الأول، من يوم ما إتجوز بابا ماما اللي كانت بنت عمه أصلا، بس للأسف مكنوش بيخلفوا، مع إن مفيش مانع يمنعهم من الخلفة، جدتى عرضت عليه يتجوز تانى، بس ماما طبعا رفضت، فجدتى أقنعتها إن ده في مصلحتها وإنها هتجوزه الخدامة بتاعتها من سكات وأول ما تخلف هتاخد منها الطفل وتديها قرشين وتروح لحالها، إقتنعت ماما بكلامها وفعلا بابا إتجوز طنط تحية، وخلف منها خالد، رفضت تحية تدى إبنها لماما، أخدوه غصب عنها ورموها برة، فضلت فترة تيجى كل يوم تطالب بخالد بس بابا وتيتة كانوا بيمنعوها حتى إنها تشوفه وشوية بشوية طنط تحية إختفت من حياتهم، محدش سأل طبعا هي راحت فين او ايه مصيرها، ومشت الحياة عادى، لغاية ما في يوم ماما حملت في اختى الكبيرة لين وهنا بدأت معاملتها تتغير من ناحية خالد، وخصوصا بعد ولادة لين، بس هو كان دايما ساكت ومبيتكلمش ولا بيشتكى حتى لبابا، ولما ماما حملت فية، وإتوفت جدتى، حاولت ماما تقنع بابا يرجع خالد لمامته، بس بابا رفض طبعا وخصوصا لما جيت انا للدنيا، وعرف إن خالد هيكون إبنه الوحيد، حقد ماما على خالد كان بيزيد وهو ياحبيبى ساكت ومتحمل، لغاية لما عرف ان مامته ماتت، لما سمع ماما وبابا بيتكلموا عنها، مجرد معرفته إنها كانت عايشة وهو مشفهاش ولا يعرف عنها حاجة دمرته، خلته واحد تانى، بارد قاسى مع الكل إلا إحنا، أنا ولين، عمره ما إتغير من ناحيتنا بالعكس إهتمامه وحبه لينا كان دايما بيزيد، لكن بالنسبة للكل بقى خالد نصار اللي مبيرحمش، ولما بابا مات حاولت ماما تخرجه برة حياتنا بس وكأن بابا كان حاسس بنواياها، كتب نص الشركة والبيت لخالد بيع وشرا، ماما مقدرتش تتحمل الصدمة جالها أزمة قلبية وماتت، ومن ساعتها وخالد مبقاش في قلبه وعقله غير الشغل وبس، وإحنا، ومبقاش في حياته مكان للمشاعر والأحاسيس.
تألمت جورية لماضى خالد القديم والذي أضنى قلبها، شعرت بوحدته، بعذابه، بألمه وكتمانه، وإظهار القوة رغما عنه، والبرود والعزوف عن البشر والمشاعر لتجنب الألم، كم كانت تتمنى لو كانت بجواره في هذا الوقت، لتمنحه كل ما إفتقده، الحب، الإهتمام، والأمان. أفاقت جورية على صوت ليلة وهي تنظر إليها قائلة:.
حتى لما جه يتجوز، كان عرض شغل مع جواز من شاهيناز نفسها، دمج البيزنس مع الأمور الشخصية وبحسبة بسيطة خالص إنتصر البيزنس، وإتجوز شاهيناز وخلف منها ريم، بس الحياة بينهم جامدة، مفيهاش مشاعر، كلها مشاكل وأقدر أأكدلك إنه مش مبسوط معاها ولا بيكنلها أي مشاعر.
لم تدرى جورية أتفرح لهذا الخبر وهي تدرك أن حبيبها لا يحب زوجته أم تحزن لعدم جدوى معرفتها تلك، فعلى كل حال لن يفيدها إن كان عاشقا لزوجته أم لا، ففى النهاية يظل متزوجا ويظل عليها الإبتعاد عنه كلية... أفاقت على صوت فراس وهو يقول بهدوء يخفى إضطراب مشاعره: طيب ممكن من فضلك تقعدى وتستريحى إنتى بتقولى منمتيش وأكيد بتكونى تعبانة.
نظرت إليه ليلة تتأمله لأول مرة، كم يبدو وسيما، رصينا تماما كبطل من أبطال رواياتها، وكم بدت نبراته حانية لتمس شغاف قلبها وتزيد دقاته، إبتلعت ريقها بصعوبة وهي تومئ برأسها تنفض أفكارها تلك وتجلس بهدوء قائلة: شكرا. ، بينما أبعدت عينيها عن سحر عينيه وهي تنظر إلى جورية التي ودت لو حثتها على الكلام مجددا ولكنها كانت تخشى أن تعلم عنه المزيد، فيكفيها ما عرفته حتى الآن... قالت ليلة بهدوء:.
من حوالى ٣ سنين كان خالد مسافر في رحلة عمل لروما، إتقطعت أخباره عنا، وآخر حاجة سمعناها إنه خلص صفقته بدرى عن ميعادها وإنه عمل شيك آوت من الفندق وكان جاي على مصر في طيارة خاصة واللي طبعا مفيش أي معلومة وصلتنا عنها، ولمدة سنة كاملة مخليناش حاجة معملنهاش عشان نعرف خالد إختفى فين، بس للأسف موصلناش لأي حاجة، لحد ما في يوم، لقيناه داخل علينا، كان الشكل هو هو بس اللبس مش لبسه خالص، أصل خالد كلاسيك اوى في لبسه، مبيلبسش غير بدل، كانت اول مرة نشوفه كاجوول، بس مش ده اللي صدمنا، اللي صدمنا إنه مش فاكر أي حاجة عن السنة دى وإن آخر حاجة هو فاكرها، ركوبه الطيارة الخاصة، ورجوعه على مصر وإنه فاق لقى نفسه في مستشفى حكومى وقالوله إنه جه في حادثة عربية، وإنه الحمد لله ماإتصابش غير في دماغه وإصابته كانت طفيفة وإنهم بس هيخلوه ٢٤ ساعة تحت الملاحظة، وفعلا رجع خالد وعاش بينا من تانى، بس خالد مبقاش خالد بتاع زمان، انا حسيت بتغييره وقلت الكلام ده للين، بس هي مصدقتنيش، قلتلها أخوكى عايش ومش عايش، وكأنه ناقصه حاجة وبيدور عليها، حتى شاهيناز بقى بارد وياها ومبقاش يتخانق معاها زي الأول، لغاية اليوم اللي جينا فيه هنا، يومها حسيت بحاجة غريبة، نظرتك اللي شفت فيها حبك ليه وصدمتك، وهو، هو كمان شفت إضطرابه وحيرته وتساهله معاكى مع إن لو كنت شفتيه قبل ما نيجى هنا كنتى قلتى إنه هيهد الدنيا على دماغ كل الموجودين، شفت كمان لهفته ساعة ما أغمى عليكى وإزاي كان أول واحد جرى ناحيتك وشالك والقلق كان مالى وشه، ومهدتش ملامحه غير لما فوقتى.
إرتعشت جورية، تتساءل، أكان فهد هو من حملها وقتها؟ بينما إبتسم فراس بداخله فتلك الرقيقة، تمتلك عقل راجح وعيون متأملة وقلب رقيق، تماما كما تخيلها، ليفيق من أفكاره على صوتها وهي تقول: انا قلتلك ياجورى كل حاجة أعرفها عن الموضوع فمن فضلك متبخليش علية وإحكيلى خالد في السنة دى حصله إيه، طمنينى وقوليلى إنه عاش معاكى اللي إتمنيت يعيشه طول عمرى.
لا تدرى لماذا أحبت جورية تلك الفتاة، ربما لإنها تشبهها كثيرا، روحها تتطابق وروح هذه الفاتنة الرقيقة، او ربما هي شفافيتها وصراحتها، لا يهم، المهم أنها أرادت أن تقص حكايتها عليها، ربما لأول مرة تحكيها كاملة، فلم تقص على فراس قصتها بالتفصيل بل إكتفت بموجز صغير عنها، ولكنها وجدت نفسها تقصها على مسامعهما اليوم بأدق تفاصيلها وكأنها تلقى بهم ثقيل على كتفيها بعيدا، لترتاح بعدها، تماما.
قالت سها بدهشة: يعنى إنتى قابلتى مؤيد في الحفلة، وقالك الكلام ده كله بجد؟ اومأت لين برأسها في هدوء، لتستطرد سها قائلة بحنق: وإزاي مقلتليش لغاية النهاردة؟ زفرت لين قائلة:.
مش عارفة بقى، يمكن لإنى كنت بتمنى يكون كابوس وفقت منه، أو وهم ومحصلش، يمكن لإنى مش حابة أجيب في سيرته، سيرته اللي بتقلب علية وجع سنين بحالها بحاول فيها أنساه وأنسى اللي عمله فية، مش عارفة، بس اللي عارفاه ومتأكدة منه، إنى مخنوقة، مخنوقة أوى ياسها. غشيت عيونها الدموع لتشعر سها بالشفقة عليها، لتمد يدها تربت على يد لين قائلة: طب إهدى بس وهنلاقى لمشكلتك حل أكيد. قالت لين بألم:.
مشكلتى ملهاش حل، مؤيد رجع ومصمم يدخل حياتى من جديد، ومش ناوى يبعد عنى ويسيبنى في حالى، أنا نفسى أعرف هو عايز منى إيه بالظبط؟، ليه مصمم يعذبنى من تانى، نفسى يرحمنى من اللي أنا فيه، لإنى زهقت، أنا كنت ما صدقت بدأت أنسى اللي فات، لكنه رجع، رجع عشان يفكرنى بكل اللي فات، وأنا مش عارفة أعمل إيه وأخرجه من حياتى إزاي؟ قالت سها: قولى لأخوكى يالين، قولى لخالد. قالت لين بصدمة:.
أقول لخالد إيه؟إنتى إتجننتى، أقوله إن سبب طلاقى مش موضوع الخلفة، وإنى إكتشفت إن مؤيد خاين وعنده طفل من غيرى كمان، أقوله إنه باعنى بالرخيص، باع حب وعشرة وحاجات كتير كنت عايشاها معاه، أقوله ياخالد مؤيد خان ثقتك فيه وخانى أنا كمان، مش بعيد يقتله. قالت سها بدهشة: إنتى لسة خايفة عليه؟ قالت لين بإضطراب: ها، لأ طبعا مش خايفة عليه، انا خايفة على خالد، مش عايزاه يودى نفسه في داهية عشان واحد زي مؤيد.
نظرت سها إلى لين بنظرة ذات مغزى، لتشيح لين بوجهها عنها لتتأكد مخاوف سها، لين مازالت تحبه، رغم خيانته لها وإفتراقهما عن بعضهما البعض، مازالت تكن له المشاعر، وهذا لا يبشر بالخير، لا يبشر بالخير أبدا.
قالت ليلة بإبتسامة: أنا كدة إرتحت، بجد إرتحت وإتطمنت على خالد. قالت جورية بحزن:.
بس أنا مش مرتاحة ياليلة، حاسة بوجع في قلبى، مش عارفة أعمل إيه ولا أتصرف إزاي، نفسى أبعد عن كل حاجة بتفكرنى بيه بس كل السبل بتودينى ليه، وآخرهم موضوع الأغلفة بتاعة الروايات، وإنتى سمعتى بنفسك، فراس عايزنى أروح لحد عنده وأطلب منه يسيب صورته موجودة على أغلفة الروايات، ودى حاجة معتقدش أخوكى هيقبلها، ومش هينوبنى من المشوار ده غير وجع القلب وخلاص. قالت ليلة بعد لحظة من التفكير:.
انا مع الأستاذ فراس في كلامه. لقد نطقت بإسمه، كم رائع هذا الإسم من بين شفتيها، كنغمات ساحرة، حقا لقد عشق إسمه الآن، لتستطرد ليلة قائلة: إنتى متعرفيش خالد ممكن يعمل إيه في الدار لو منفذتوش كلامه وشلتوا الصور بتاعته من على الأغلفة، والحل الوحيد إنك تروحيله فعلا وتطلبى منه يتراجع عن قراره، ممكن ساعتها يوافق، مين عارف؟وبتمنى من قلبى تلاقي هناك أمل يريح قلبك ياجورى.
نظرت جورية إلى ليلة لتجد بعيونها التصميم، لتنظر إلى فراس وتدرك أنه يؤازر كلمات ليلة بالطبع، لتتنهد يائسة وهي تقول: اللي تشوفوه، رغم إن قصتى معاه محكوم عليها بالفشل، وإنى متأكدة من رفضه التراجع عن قراره، بس عشان خاطر الدار، أنا هروح. لتصفق ليلة بجذل ثم تتوقف فجأة وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل لتزداد جمالا في عيون فراس، بينما نهضت وهي تقول بحماس ألهب مشاعره:.
طب مستنيين إيه يلا بينا ياجورى نروح فورا على المكتب. قالت جورية بإضطراب: أيوة بس... قال فراس مقاطعا: من غير بس، يلا يا جورى، روحى معاها، وطمنونى علطول. زفرت جورية بقلة حيلة ثم نهضت لتمشى بجوار ليلة بهدوء، بينما يتابعهما فراس بإعجاب يزيد بتلك الفاتنة الصغيرة والتي يدرك أنها تود الجمع بين الحبيبين، مثله تماما.
عجبا لك يا نفسُ: كيف تهوين المخاطر؟ وتتبعين القلب والمشاعر وتبحرين في بحر الهوى الثائر وتتلذذين بنسيمه الساحر.
وأنت تغرقين ولا تدرين و بنار الشوق تُحرقين ولشغف الحب تُطربين و لتحذير العقل لا تسمعين وفي كل حين تتألمين بقلم، زينة بن عمار.
كان خالد يعقد حاجبيه وهو يطالع هذا العقد، يقرأ بنوده بتمعن، ليتركه وهو يتراجع بظهره، يسند رأسه على مقعده، مغمضا عيناه للحظات، لتمر هي في مخيلته، تضئ هذا السواد بضي طلتها الرقيقة، تسللت بسمة إلى ثغره وهو يراها تطالعه بعيونها البنية الرقيقة ذات الأهداب الرائعة، لتختفى فجأة...
فتح عينيه يلعن إختفائها عن مخيلته، ليفتح درج مكتبه، يأخذ هذا الكتاب من داخله، يقرأ عنوانه بصمت( أنفاس حياة )، يرى صورته ماثلة على الغلاف، يتعجب من إستطاعتها رسمه بتلك الدقة دون أن تراه أمامها، ولو لمرة واحدة، ليتساءل بحيرة، هل راود أحلامها يوما؟أم أنه حقا يمثل صورة فتى أحلامها، في كلتا الحالتين، تمنحه تلك الأفكار شعورا رائعا، لا يدرى كنهه ولكنه وعلى الرغم من روعة الشعور، يخشاه، فحياته قد رسمها بعناية منذ أن أدرك أنه وحده في هذا العالم العجيب، وما يشعر به الآن بالتأكيد يمس هذا العالم بلمحة من الإرتباك، تهزه كلية، قلب الكتاب بين يديه وطالع صورتها التي توجد في الخلفية، كم تبدو رقيقة جميلة، تماما كفتاة أحلامه...
أفاق من أفكاره على صوت طرقات على الباب يعرفها جيدا، ليخبئ الكتاب في الدرج سريعا، ثم كانت إطلالتها الجميلة، إنها ليلة، أخته، بل إبنته، إبتسم عندما قالت برقة: ممكن أدخل. قال خالد وقد إتسعت إبتسامته: إدخلى طبعا. ابتسمت قائلة: معايا ضيوف. نهض قائلا: أهلا بضيوفك.
لتدخل ليلة إلى المكتب، تتبعها جورية التي ما إن وقع بصره عليها حتى تجمدت إبتسامته لتختفى تدريجيا وهو يطالعها، بينما نظرت إليه تتأمله بدورها، تشبع عيناها من ملامحه رغما عنها، ظلا هكذا لثوان، تنقل ليلة بصرها بينهما، تدرك بأن مابين هذا الثنائي كبير حقا، رغم عدم تذكر أخيها لحبه لها ولكنه يبدو مؤثرا في أعماقه بدرجة كبيرة لترى نظراته الآن كما لم تراها أبدا، تنحنحت قائلة: إحمم، مش هتسلم على ضيفتى ياخالد؟
أفاق خالد من شروده ليقترب منهما وهو يمد يده إليها، قائلا: أهلا يا... تظاهر بنسيان إسمها لا يدرى لماذا، والأدهى أنه لم يدرى كم آلمها ذلك، كادت أن تغادر المكان بأكمله، ولكنها لن تفعل، ستنقذ دار النشر حتى ولو على حساب قلبها، لذا فقد إبتسمت إبتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها وهي تمد يدها إليه قائلة: جورية، جورية الفيومى.
تلاقت أيديهما للحظات، كانت كفيلة بإرسال شحنات كهربائية في سائر جسديهما، لتترك يده على الفور، تنحنح قائلا: احمم، إتفضلوا أقعدوا واقفين ليه؟ قالت ليلة برقتها المعهودة: هنقعد طبعا، إحنا جايينلك في موضوع مهم. إتجه إلى مكتبه ليجلس مشيرا إليهم بالجلوس قائلا: خير، أنا تحت أمركم.
جلسا أمامه، تشعر جورية بدوارا يكتنفها وهي تراه يعاملها بتلك الرسمية وكأنها غريبة عنه، وليست قطعة من روحه كما هو تماما، حاولت أن تتمالك نفسها، لتنظر إلى الأمام تحاول أن تتجنب النظر إلى عيونه التي تعشقها، ترفض أن ترى نظراته الجامدة الخالية من التعبير تجاهها، بعد ان كانت تراهم عاشقتين راغبتين، قالت بهدوء:.
الحقيقة، دار النشر حاولت تسحب إصدارات الروايات من السوق، بس للأسف مش نافع، أنا عارفة إن كل اللي حصل ده غلطتى، أنا اللي رسمتك... لتصمت للحظة وهي تبتلع ريقها بصعوبة قبل أن تستطرد قائلة: يعنى، رسمت صورة في خيالى ومن حظى إن الصورة طلعت لحضرتك، من حظى إن الصورة طلع صاحبها رجل الأعمال المشهور، خالد نصار.
نظرت إليه في تلك اللحظة، ليرتعش جسدها بأكمله حين إلتقت عيناها بعينيه، لتقع مجددا تحت سحره، تبا، كم إشتاقت إليه وكم هو مؤلم وجودها أمامه وهي لا تستطيع له إقترابا، كان خالد هو أول من أشاح بناظريه بعيدا عنها، وهو يتراجع بظهره مستندا إلى كرسيه، يطرق برأسه لثانيتين قبل أن يرفع وجهه إلى جورية وقد جمدت ملامحه لتتوجس ليلة خيفة مما سوف يقوله، تعلم هذا الوجه جيدا، فلقد نوي خالد أخاها أمرا وهو ليس حسنا على الإطلاق، ليقول خالد ببرود:.
ممكن أعرف إيه المطلوب منى دلوقتى؟ إبتلعت جورية ريقها بصعوبة وأحست بالتوتر يغمر كيانها، تشعر بالصقيع يتسلل إليها، ترسله نظرات خالد الجليدية حولها، لتقول بإضطراب: يعنى لو بعد إذنك، تسمحلنا بإننا نسيب صور حضرتك على الروايات. تأملها لثوان بنظرات جامدة، أرعبتها، فلم ترى ابدا هذا الجانب البارد من حبيبها فهد، ترى هل من مفاجآت أخرى؟ لتفيق من أفكارها على صوته وهو يقول ببرودة جليدية:.
آسف، الصور هتتشال، وده قرارى الأخير. لتتسع عيناها، بصدمة.
تناهى إلى مسامع لين صوت شجار بالخارج إستطاعت أن تميز طرفيه، لتتنهد بيأس، تتساءل بنفاذ صبر، ماذا تريد زوجة أخيها من صديقتها مجددا؟، حقا لقد زودتها تلك المرة، لتنهض متجهة إلى الخارج وهي تنوى ان تضع حلا حاسما لما يحدث، إقتربت منهما لتسمع سها تقول بحدة: من فضلك تتكلمى أحسن من كدة ويايا، أنا مش بشتغل عندك وحتى لو بشتغل عندك فده ميدكيش الحق إنك تكلمينى بالأسلوب ده. لتقول شاهيناز بسخرية:.
انا أكلمك زي ما أنا عايزة، وإياكى تفتكرى إنك عشان صاحبة لين فأنا مقدرش أرفدك من الشركة، لأ ده أنا... هدرت لين قائلة: شاهيناز. إلتفتت إليها شاهيناز لتستطرد لين قائلة بنبرة حازمة: من فضلك، تعالى نتكلم في أوضة المكتب. كادت شاهيناز للحظة أن تعترض ولكنها تراجعت، وهي تلقى نظرة حادة بإتجاه سها قبل أن تتجه إلى حجرة المكتب، لترسل لين لسها نظرة إعتذار صامتة قبل أن تتبعها مغلقة الباب خلفها بهدوء.
ما إن أصبحت كل من لين وشاهيناز بمفردهما حتى بادرتها شاهيناز قائلة بحدة: بصى يالين، سها صاحبتك دى مش ممكن تستنى يوم واحد في الشركة، انتى شفتى هي بتكلمنى إزاي؟ قالت لين بهدوء وهي تتجه لتجلس على مكتبها قائلة: سها وجودها في الشركة من وجودى ياشاهى وانا مقدرش استغنى عنها يوم واحد. قالت شاهيناز في غيظ:.
ما ده اللي مخليها قوية بالشكل ده ومش هاممها حد، بس لحدى وكفاية، انا مستحيل أقبل بإن واحدة شغالة عندى تكلمنى بالأسلوب ده. قالت لين ببرود: اولا، سها مش شغالة عندك، هي شغالة معايا أنا، ثانيا، سها اصلا مش محتاجة تشتغل كل الموضوع إنى لما طلبت منها تساعدنى وافقت، ثالثا بقى وده الأهم، هو إنتى مش عندك مديرة مكتب، ليه بتحملى مديرة مكتبى شغل مكتبك؟ جلست شاهيناز تضع قدما فوق الاخرى قائلة بسخرية:.
هي لحقت تشتكيلك؟ تراجعت لين في مقعدها قائلة بهدوء: أنا صاحبة سها يعنى من الطبيعى أعرف عنها كل حاجة، زي ما هي تعرف عنى كل حاجة. إبتسمت شاهيناز بسخرية قائلة: واضح على فكرة مش محتاجة تقوليلى الكلام ده، انا ملاحظة إنها قربت منك اوى الفترة الأخيرة دى، ده إنتى حتى بقيتى تاخديها الحفلات بدالى. نظرت إليها لين ببرود قائلة:.
مش إنتى اللي فجأة مبقتيش تاخدينى معاكى الحفلات اللي بتروحيها، وبقيتى بتروحى مع ميراج، ليه انا كمان معملش زيك؟ إتسعت إبتسامة شاهيناز الساخرة وهي تقول: علمناهم الشحاتة، عموما براحتك، المهم سونيا كانت هناك إنبارح في عيد ميلاد نور وقالتلى إنك كنتى مع واحد، بس اللي أعرفه إن محمود مسافر، ولا رجع؟ رمقتها لين بضيق قائلة: وسونيا تبلغك أخبارى ليه ولا إنتى موصياها يكون عينها علية؟ قالت شاهيناز بإرتباك:.
ها، لأ طبعا وهخلى عينها عليكى ليه بس؟، المهم مقولتليش مين الراجل اللي كان معاكى ده؟ قالت لين وهي تنظر مباشرة إلى عيون شاهيناز: مؤيد، مؤيد الحسينى. لتتسع عينا شاهيناز، في صدمة.
قالت ليلة بسرعة: بس ياخالد... قاطعها خالد بإشارة من يده قائلا: خليكى برة الموضوع ده ياليلة، الكلام بينى وبين الآنسة. لتصمت ليلة بحنق بينما نظر خالد إلى جورية قائلا:.
قلتلك المرة اللي فاتت، وجود صورتى على أغلفة رواياتك يضر بسمعتى وسمعة الشركة، ده غير إنه هيثير الأقاويل علينا وأنا مش مستعد لثانية واحدة يرتبط إسمى بإسم حد تانى غير مراتى، الكلام ممكن يأثر على شغلى وعلى بنتي وأنا مش مستعد أجازف بالإتنين. كم آلمتها كلماته، أيخشى إرتباط إسمه بإسمها؟أيخشى على مشاعر زوجته إلى تلك الدرجة؟وماذا عنها هي؟فلتذهب إلى الجحيم ولن يبالى، أليس كذلك؟
نهضت جورية في ثبات، تقاوم بكل ذرة من كيانها إنهيارا تاما في مشاعرها، وهي تقول بنبرات هادئة: كدة خلص الكلام، أنا قلت لحضرتك طلبى وحضرتك رفضت، تقدر تاخد إجراءاتك القانونية وإحنا بإذن الله هنكون مستعدين ليها، بعد إذنك.
لا يدرى لما شعر خالد بألم في صدره لمظهرها الضعيف الشاحب رغم ثبات نظراتها، ولما شعر أنه قد زاد العيار معها، فمن الممكن ان يتغاضى عن موضوع الأغلفة برمته ولن يحدث شئ مما ذكره، وحتى إن حدث فهو قادر على دحض أية أقاويل، ولكنه أراد أن يثبت لنفسه أنها لا تهمه مطلقا، أو ربما أراد ان يغلق هذا الباب المفتوح بينهما للأبد، هو حقا لا يدرى ولكن كان موقنا من أن ما يفعله هو القرار الأصوب، حتى تلك اللحظة، و التي يراها فيها الآن تمشى بإتجاه الباب ربما مغادرة حياته للأبد، ليدرك أنه أخطأ خطئا فادحا، لتقف ليلة مغادرة بدورها وهي ترمقه بحنق، زفر بقوة قبل أن تتسع عيناه بصدمة وهو يرى جورية تقع فجأة على الأرض مغشيا عليها بينما صرخت ليلة بإسمها في هلع.
نهضت شاهيناز قائلة في صدمة: يعنى إنتى عايزة تفهمينى إن مؤيد رجع. تنهدت لين وهي تومئ برأسها قائلة: أيوة رجع، وياريته بس رجع، ده رجع ومش ناوى أبدا على خير. عقدت شاهيناز حاجبيها قائلة: قصدك إيه؟ نهضت لين وإستدارت حول المكتب وهي تقول: قصدى إنه راجع مخصوص علشانى ومش ناوى يسيبنى في حالى أبدا. رفعت شاهيناز حاجبها الأيسر قائلة: وإيه بس اللي مخليكى متأكدة من الكلام ده. إستندت لين إلى مكتبها قائلة:.
هو بنفسه قاللى الكلام ده، تصرفاته غريبة وكلامه أغرب ياشاهى، وبجد بدأت أقلق منه. قالت شاهيناز بحدة: وناوية تعملى إيه يالين؟ تعجبت لين من حدتها لتنظر إليها عاقدة الحاجبين فقالت شاهيناز بإرتباك: قصدى يعنى، ناوية ترجعيله بعد اللي عمله فيكى يالين؟ قالت لين بنفي سريع: لأ طبعا أرجعله إيه بس، إنتى إتجننتى، أنا مستحيل أرجعله، وإنتى من بين الناس كلها عارفة إن رجوعى ليه من رابع المستحيلات.
زفرت شاهيناز براحة قائلة: طمنتينى بجد، أنا قلت يعنى ممكن تكونى ضعفتى عشان بتحبيه أو يعنى... قاطعتها لين قائلة بحزم: أنا مش ممكن أضعف ولا أخلى مشاعرى تتحكم فية من تانى، الكلام ده مش ممكن يحصل ابدا. لتقول شاهيناز وهي تتفحص ملامحها تستشف أفكارها: طب وناوية على إيه يالين؟ قالت لين: هسافر، هسافر ياشاهى.
ناداها صوته من مكان بعيد، ليسحبها بقوة من تلك الهوة السحيقة والتي تسحبها إليها بدورها، لينتصر صوته بالنهاية وتبدأ في فتح عينيها بضعف لتراه أمامها، ينظر إلى عينيها بقلق، لتقول بهمس ضعيف: فهد. قست قسماته وهو يقول: خالد، إسمى خالد نصار. فتحت عينيها بقوة وإدراكها يعود إليها بسرعة، لتنتفض معتدلة وهي تقول بإرتباك: آه آسفة، أاااه.
أمسكت رأسها بقوة وقد عاد إليها الدوار ربما لإعتدالها المفاجئ ذاك، ليظهر القلق مجددا على عينيه وهو يقول: ياريت لو ترتاحى شوية كمان، إنتى شكلك تعبانة وبعدين إنتى لازم تشوفى دكتور، إغمائك المتكرر ده غريب ومش طبيعى على فكرة. قالت في مرارة: لأ طبيعى، أنا كدة، متعودة عليه من صغرى، آسفة بس لازم أمشى دلوقتى. قالت ليلة المتابعة لحديثهم بصمت: يبقى هوصلك البيت، مش هينفع أسيبك في الحالة دى ياجورى.
أومأت جورية برأسها في ضعف، ونهضت ببطئ لتسندها ليلة، ليحسم خالد هذا النزاع مابين عقله وقلبه على الفور وهو يقول: إستنوا. إلتفتا إليه سويا لينظر إليهما قائلا بهدوء: أنا جاي معاكم. إتسعت عينا ليلة في دهشة، بينما أحست جورية بالإضطراب ممتزجا بقليل من الجزع وهي تقول: مفيش داعى، أنا... قاطعها وهو يشير إليها بالصمت قائلا: ده قرارى الأخير ومش هرجع فيه، هوصلكم يعنى هوصلكم.
ليأخذ هاتفه ومفاتيحه من على المكتب وهو يسبقهم إلى الخارج بخطوات حازمة لتنظر جورية إلى ليلة التي هزت كتفيها لتتنهد جورية وقد أيقنت أن ما يحدث معها الآن هو تقريبا أسوأ مخاوفها، على الإطلاق.
قال مؤيد لهذا الشخص الذي يحادثه في الهاتف: يعنى كل شئ تمام؟ صمت قليلا ليقول بعد لحظات: لأ كويس أوى كدة، إبعتلى إنت بس المفاتيح وملكش دعوة بأي حاجة تانية. ليصمت لثوان ثم يقول: بكرة او بعده بالكتير، تمام يامعتز، سلام. ليغلق الهاتف ثم يلتفت ليتجمد تماما حين رأى نبيل أمامه يقف صامتا يحدجه بنظرة غير راضية على الإطلاق، ليشيح بوجهه عنه، وهو يتجه إلى حجرته ليوقفه نبيل قائلا: إنت ناوى على إيه يامؤيد؟
إلتفت إليه مؤيد يحدجه بنظرات غامضة قبل أن يقول: بلاش يانبيل إنت بالذات تعرف، لإنك مش هتوافق على اللي هعمله. قال نبيل بحدة: مادام عارف إنى مش هوافق يبقى اكيد عارف إنه غلط. قال مؤيد بحدة مماثلة: واللي عملته فية مش غلط، أهو غلط بغلط والبادى أظلم. قال نبيل بحزن: إنت إتغيرت اوى يامؤيد، مبقتش مؤيد صاحبى اللي عرفته. لينظر إليه مؤيد نظرة طويلة قبل أن يقول بهدوء يوارى به مشاعره المحطمة بالداخل:.
انا فعلا مبقتش مؤيد بتاع زمان، بس هي السبب وعشان أرجع مؤيد لازم أشفى غليلى من اللي باعتنى ودمرت حياتى وفى الآخر رايحة تتجوز بكل برود، لازم أخليها تبوس رجلى عشان أرحمها وساعتها بس، ساعتها بس هرجع مؤيد اللي إنت تعرفه. قال نبيل: بس كدة إنت... قاطعه مؤيد وهو يقول بحزم:.
لو سمحت يانبيل، سيبنى على راحتى، أنا رضيت تيجى معايا مصر، مش عشان تكون رقيب علية، أنا رضيت لإنك صاحبى وحاسس بية وأكيد هتدعمنى ولو مقدرتش تدعمنى، يبقى على الأقل متمنعنيش. ليتركه ويتجه إلى حجرته، مغلقا الباب خلفه بهدوء، يتابعه نبيل في حيرة إمتزجت بالحزن، وقد أيقن ان مؤيد ينوى بلين شرا، وهو لن يقف هكذا مكتوف الأيدى يشاهد صديقه وهو يودى بنفسه إلى الهلاك، لن يفعل هذا مادام حيا.