رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر
بعنوان ( قطر الندى )
اصبحت الشقة بالفعل على حال اخر مغاير لما كانت عليه منذ عدة ساعات خلت .. تنهد كل منهما و هو يلقي بجسده المنهك على احد المقاعد غير قادر على التفوه بكلمة .. تطلع نديم حوله للشقة التي اصبحت عروس مزينة بعد ان كانت موضع خرب لا يصلح للعيش .. الفضل في ذلك لها .. تطلع لناهد المنهكة على المقعد المقابل وشعر بشفقة تجاهها فقد كان الحمل الأكبر على عاتقها ..
وبلا وعي منه نهض وامسك بكفها جاذبا إياها لتنهض بدورها .. تطلعت لكفه التي تحتضن كفها في أريحية ومن ثم تطلعت اليه .. تنبه هو لفعلته فترك كفها في بطء ساحبا كفه مبتعدا .. وتساءل.. لما اصبح يتباسط معها بهذا الشكل !؟.. لما اضحى تعامله معها وكأنها بالفعل زوجته !؟.. ساد جو مشحون بالتوتر و الاضطراب شمل كلاهما الا انه كان المبادر لتحويل مسار خواطرهما هاتفا وهو يشير الى احدى الحجرات:- انا هاخد الاوضة دي .. هتفت تشاكسه:- اشمعنى !؟.. لا انا اللي هاخدها..انا بحب اوضتي يبقى فيها بلكونة ..زي اوضتي ف النعمان..
لم تكمل جملتها لكنه وعاها ولم يعقب ... كانت تحن الى اي شئ من شأنه تذكيرها بما خلفته وراءها ورحلت .. انه الحنين الذي يجرفنا في نوبات مده وجزره لنصبح اشبه بقطعة خشب تطفو علي أمواجه تتلاعب بها كيفما ووقتما شاءت .. تنحنح ونهض في عجالة هاتفا:- انا داخل اخد دش.. ومش هتأخر عليكِ..
اندفع لداخل الحمام بينما نهضت هى تتطلع حولها للشقة تحاول ان تستوعب ان هذه الحجرات ستكون ملاذها من الان فصاعدا .. و سيكون هذا هو بيتها حتى اشعار اخر .. احتضنت الحوائط بناظريها ودمعت عيناها رغما عنها وهى تتذكر النعمانية وكل من فيها .. و الان وفي تلك اللحظة تشتاق لروائح العصاري القادمة من الغيطان البعيدة ورائحة الجبل الشامخ قبالة بيت جدها النعماني..
تشتاق رائحة مخبوزات الخالة وسيلة التي كانت تصنعها خصيصا لأجلها وخاصة الخبر الشمسي التي كانت تعبء التلة المقام عليها البيت بأسرها فتنشر عبق خاص من دفء عجيب.. واكثر ما تشتاقه هو احضان الخالة وسيلة التي تشعرها ان امها الغالية ما رحلت .. لكم تهفو لبوح بين ذراعيها يزيح عنها ثقل ماعادت قادرة على حمله .. تطلع نديم اليها فقد خرج لتوه من الحمام وتعجل على قدر استطاعته حتي لا يتركها تنتظر طويلا لتنل دورها .. شعر بما يعتريها فتمهل للحظة واخيرا هتف محاولا اخراجها من شرودها الشجي:- انا خلصت .. تقدري تتفضلي ..
انتفضت متطلعة اليه ساهمة لثوان وكأنما تستوعب لبرهة عما يتحدث واخيرا هزت رأسها ايجابا هاتفة:- اه .. هدخل حالا اهو .. مرت جواره بسرعة واندفعت لداخل الحمام ليتبعها هو بنظراته التي اكتشفت انها كانت تبكي في صمت مما اثار داخله نوبة من وجع جعلته يتنهد بدوره في قلة حيلة .. جلس على الأريكة في انتظارها لتناول الغذاء الذي أحضرته ام زينب لكن يبدو انه غفى رغما عنه من شدة الإرهاق وانتفض متطلعا حوله في ذعر عندما استيقظ على صرخة قوية وانين صادر من جهة الحمام .. استعاد كامل وعيه هاتفا باسمها وهو يندفع مهرولا في اضطراب ..
كاد ان يدفع الباب و يدخل الا انه توقف باللحظة الاخيرة يطرق الباب مناديا عليها ولكن صوت الأنين هو كل ما كان يصله للحظة وفجأة انقطع مما جعله يدفع الباب دون تفكير ليجدها ممددة فاقدة الوعي على الارض المبتلة التي خاضها بحذر حتي وصل موضعها لينحني حاملا إياها عائدا للخارج في حرص حتى وصل اقرب غرفة فدفع بابها بقدمه ومددها علي الفراش وما ان ابعد كفه حتى اكتشف ان بها اثر دماء ..
شعر بالذعر وهتف بأسمها من جديد .. لكنها لم تجب .. فكر في جلب طبيب على وجه السرعة .. لكن كيف يأتي به وهى على حالها ذاك .. ترتدي هذا القميص الحريري القصير و شعرها الليلي منثور بكل اتجاه . اندفع لحقيبة ملابسه بالحجرة الاخرى وتناول منها قنينة العطر خاصته وعاد يضع منها بعضا على كفه مقربا إياها من انفها في محاولة لإفاقتها .. لحظات مرت حتى همهمت تستعيد وعيها متأوهة وهى ترفع كفها لرأسها حيث موضع الإصابة ..
هتف بدوره في محاولة لطمأنتها:- متقلقيش انت كويسة الحمد لله .. بسيطة .. بس متتحركيش لحد اما اجيلك .. اندفع طارقا باب شقة ماجدة و ما ان طالعته هتف في لهفة:- معلش يا طنط عندك قطن ومطهر .. ناهد وقعت ف الحمام ومتعورة .. شهقت ماجدة هاتفة:- يا خبر .. واندفعت تحضر ما طلبه ليتناوله من كفها عائدا لشقته وماجدة بأعقابه..
دلف للغرفة متوجها بلهفة لموضعها وقد اعتقد انها فقدت وعيها من جديد جلس بقربها هامسا باسمها في ترقب لتفتح عينيها في وهن ليتنهد في راحة .. رفع رأسها عن الوسادة التي كان عليها بقعة صغيرة من الدماء وترته فهو لا يحتمل رؤية الدماء لكنه تحامل على نفسه باحثا عن موضع الإصابة بكف مرتعش .. كانت رأسها بأحضانه عندما لمست أصابعه في حذّر جرحها فندت منها أهة جعلته ينتفض موضعه هامسا:- معلش ..خلاص اهو ..
ابعد خصلات شعرها عن الجرح مطهرا اياه في رقة وتأكد انه جرح يحتاج استدعاء طبيب لكنه سيقوم باللازم الان .. وضع ضمادة خفيفة على موضع الإصابة وما ان أعادها موضعها حتى اكتشف انها لاتزل بقميصها الحريري .. غض بصره وهو يزدرد ريقه في اضطراب .. كانت كتلة مجسدة من الفتنة بين ذراعيه.. جذب غطاء الفراش في سرعة ملقيا اياه على جسدها فى نفس اللحظة التي دلفت فيها ماجدة حاملة كوب من الحليب المحلى بالعسل هاتفة:- خد يا بني خليها تشرب ده يعوض لها الدم اللي نزفته ..
تناول من ماجدة الكوب وتقدم من جديد يضع ذراعه اسفل كتفيها محاولا رفع جزعها هامسا بصوت مضطرب:- خدي اشربي يا ناهد.. فتحت عينيها في إعياء هامسة:- انا بردانة يا نديم .. بردانة .. همست ماجدة في إشفاق:- يا حبيبتي يا بنتي .. انا رايحة اجيب لكم بطاطين من شقتي .. ازاي نسيت اديهالكم !؟.. همست ناهد من جديد بأحرف مرتعشة:- بردااانة .. يااا .. نديم ..
وضع كوب الحليب المحلى جانبا وجذبها الي صدره بلا وعي ضاما إياها بين ذراعيه يحاول ان يبث الدفء بأوصالها هامسا في عشق:- انا هنا يا ناهد .. انا هنا جنبك .. عادت ماجدة حاملة الاغطية الصوفية ورغم ذلك لم يفلتها من بين ذراعيه وضعتها على طرف الفراش هاتفة:- اهو الغطا يا نديم.. و انا رايحة اسخن لكم الأكل اللي محدش منكم لمسه ده .. لازم مراتك تاكل ..
ما ان خرجت ماجدة من الغرفة حتى جذب نديم احد الاغطية ناشرا إياها مدثرا ناهد بها هامسا بها من جديد وهو يتناول كوب الحليب المحلى:- اشربي يا ناهد عشان خاطري .. ارتشفت عدة رشفات من يده واخيرا تمنعت .. وما ان تحرك حتى اصطدم بلا قصد بقدمها فتأوهت هاتفة:- اااه .. رچلي ..
كانت قدمها لا يصلها الغطاء و ظهرت متورمة فنهض متوجها للخارج هاتفا لماجدة التي كانت لاتزل بالمطبخ:-انا نازل اجيب دكتور يا طنط .. خليكي جنبها ..وحاولي تساعديها تلبس عباية.. تركت ماجدة ما كانت تصنعه لتعود للبقاء بجانب ناهد حتى عودة نديم بطبيبها ..
توجهتا الى السيارة التي كانت بانتظار زينب خارج بوابة البيت الكبير وكان عفيف ينتظر قربها يحادث مناع في امر ما حتى ظهرتا متجاوزتان البوابة ليهتف عفيف في مودة:- شرفتينا يا داكتورة .. و مچيتك چات بالخير والداكتورة دلال جامت لنا بالسلامة .. ابتسمت زينب في دبلوماسية:- تسلم يا عفيف بيه .. دلال دي اختي.. و انا اعمل اي حاجة عشان راحتها .. ابتسم عفيف هاتفا:- ربنا يديم المعروف ما بينكم يا داكتورة .. و دايما النعمانية مفتوحة لحضرتك تشرفينا ف اي وچت ..
هتفت دلال معاتبة:- كنتِ خليكي يومين تاني يا زينب !؟.. همت زينب بالإجابة الا ان توقف عربة الشرطة المفاجئ جوارهم جعل الجميع يتنبه لها موجها أنظاره تجاه شريف الذي ترجل منها على عجل هاتفا بلهجة مطمئنة مندفعا نحو زينب:- الحمد لله لحقتك .. كنت فاكرك سافرتي.. تنبه انه اندفع متوجها بحديثه لزينب متجاهلا كل من عفيف ودلال فهتف مستدركا:- السلام عليكم اولا ..
ثم توجه بحديثه لعفيف:- انا بستأذنك يا عفيف بيه هسافر بالدكتورة زينب اوصلها بنفسي .. معلش .. والدتها امنتني عليها .. زي ما جت معايا ترجع معايا .. ابتسم عفيف مؤكدا:- وماله يا حضرة الظابط .. العربية ومناع تحت امرك .. تروح مع الداكتورة وتوصلوها بالسلامة وترجعوا سوا انت ومناع .. ابتسم شريف منشرحا وهو يشير اليها لتصعد العربة .. استدارت تحتضن دلال في محبة هامسة بالقرب من اذنيها:- لو في اي حاجة ابعتيلي مع البوسطجي ..
امسكت دلال قهقهاتها التي ظهرت علي شكل ابتسامة واسعة وهمست بدورها:- حاااضر .. ابقي طمنينى ع الحبايب .. و سلميلي عليهم قووي .. اومأت زينب في تفهم واندفعت باتجاه العربة لتجد مناع مندفعا باتجاه مؤخرة السيارة يضع عدد من الصناديق الكرتونية فتسألت زينب في تعجب:- ايه ده يا عفيف بيه!؟..
ابتسم عفيف في وداعة:- دي حاچة بسيطة يا داكتورة هدية للوالدة .. بالهنا والشفا.. ابتسمت زينب ممتنة:- هدية مقبولة يا عفيف بيه .. كلك ذوق .. صعدت السيارة وصعد شريف على الجانب الاخر وبدأ مناع في التحرك لتلوح دلال بكفها مودعة هاتفة:- سلميلي على طنط يا زينب .. أوعي تنسي ..
اومأت زينب بالإيجاب وابتعدت السيارة .. ظلت دلال موضعها حتى غابت العربة خلف غبار الطريق ليهمس عفيف مشيرا للبيت الكبير:- اتفضلي يا داكتورة .. هزت رأسها في سكينة ودلفت للداخل ولم تنبس بحرف واحد لكن صمتها ذاك كان ابلغ من اي احرف قد تُنطق .. كان يدرك تماما غربتها..كان يتمني لواضحى قادرًا على اذهاب وحشتها ولكن ما بيده حيلة .. تركها تعود للمندرة وتوقف يتطلع اليها حتى غابت .. وغابت سعادته بالتبعية ..
خرج الطبيب من غرفة ناهد بعد ان وقع الكشف عليها ليعاجله نديم فى لهفة متسائلا:- خير يا دكتور!؟ هى بخير !؟.. هتف الطبيب وهو يدون بعض من ملاحظاته ويخط اسماء اجنبية لادويته:- متقلقش .. الحمد لله هى بخير .. الجرح ف راسها عملت له اللازم بجانب ان رجلها فيها إلتواء لازم ترتاح ومتتحركش ولا تمشي علي رجلها على الاقل اسبوع..
مد نديم كفه للطبيب يتناول وصفته الطبية ويرافقه للباب وهبط الدرج معه حتى يبتاع الدواء وما ان عاد من جديد حتى هلت ام زينب من داخل غرفة ناهد هاتفة:- الحمد لله يا بني انها بخير .. انا هروح اسخن لكم الاكل عشان الدكتور قال لازم تتغذي .. هتف نديم ممتنا:- هنتعبك يا طنط . هتفت ام زينب معاتبة:- تعب ايه بس يا نديم !؟.. تعبكم راحة يا حبيبي ..
ثم استدركت في حنق:- يووه .. معلش يا نديم انا دماغي كانت فين!؟.. تصدق مسألتش الدكتور على حمل مراتك !؟.. يا رب الوقعة متكنش اثرت عليه .. ابتسم نديم مؤكدا:- لا متقلقيش يا طنط هو مفيش حمل من اصله ..احنا لقيناكِ مصدقة قلنا نهزر معاكِ شوية .. هتفت فى راحة:- طب الحمد لله .. ربنا يديكم يا حبيبي .. هتف بدوره:- تسلمي يا طنط ..
ما ان غابت ام زينب حتى تنحنح في تأدب ودلف لحجرة ناهد في هدوء هاتفا:- اخبارك ايه دلوقتي!؟.. مش احسن ..!؟.. همست بصوت واهن:- الحمد لله .. رفع ناظريه تجاهها وقد هزه نبرة الوهن بصوتها فوجد رأسها حوله عصابة محكمة وقدمها تظهر من اسفل غطاء الفراش حولها احد الأربطة الضاغطة .. اقترب حتى اصبح قبالة الفراش ووضع الدواء بالقرب منها هاتفا:- الف سلامة .. الدكتور قال لازم ترتاحي وتتغذي كويس ..
دخلت ام زينب حاملة صينية الطعام ليتقدم نحوها نديم مسرعا متناولا منها الصينية هاتفا:- عنك يا طنط .. تسلم ايدك .. هتفت ام زينب:- تسلم وتعيش يا حبيبي .. ياللاه اقعد كل واكل مراتك عشان تاخد دواها .. و انا ف شقتي لو احتجتوا حاجة .. ياللاه تصبحوا علي خير والف سلامة يا ناهد يا بنتي ..
هتفت ناهد ممتنة:- تسلمي يا طنط .. ربنا يخليكي .. عادت ام زينب لشقتها ليعاود نديم النظر اليها هاتفا:- ياللاه بقى عشان تاكلي .. وحمل صينية الطعام متوجها بها ليضعها على طرف فراشها من الجهة الاخرى لجلوسها لتهمس هى بنبرة مرهقة:- بجد مليش نفس .. انا حاسة اني دايخة قوي وعايزة انام ..
اكد وهو يجلس جوار صينية الطعام:- يا ستي نامي براحتك بس لازم تاكلي الاول عشان تخدي الدوا .. ياللاه .. هتف بكلمته الاخيرة وهو يمد لها كفا بقطعة صغيرة من صدر الدجاجة التي تتوسط الصينية:- خدي كلي بقى لأني هموت م الجوع بجد ولو مكلتيش و الله ما انا دايقه.. تنبهت انه اختار القطعة التي تفضلها من الدجاجة.. هل هى مصادفة !؟.. و جاءت الإجابة فى هتافه مؤكدا:- ياللاه كلي ده انا مديكي الحتة اللي بتحبيها اهو ..
تطلعت اليه في تيه .. هل اصبح يدرك ما تحب و ما تكره !؟.. لما!؟..سطع السؤال برأسها وكانت تتهرب من الإجابة .. فلا تحب ان تتعلق بأمل بعيد قد لا يتحقق .. تناولت من يده قطعة الدجاج و بدأت في تناولها في شرود وبدأ هو بدوره في تناول الطعام بشهية كبيرة تدل بالفعل علي تضوره جوعا..
جلس شريف بجوار مناع وكانت زينب تجلس بالمقعد الخلفي لشريف مباشرة .. مر الوقت لم يقطعه احدهم .. حتى مد شريف كفه محاولا ضبط مرآة العربة التي في اتجاهه حتى يتسنى له رؤيتها من موضعها خلفه الا ان مناع هتف مشيرا الى المرآة:- والنبي اعدل المراية اللي چارك دي يا شريف بيه .. هتف شريف ممتعضا وقد بدأ لتوه في التمعن بصورتها قبل ان يعم الظلام قريبا ويحرم من مطالعتها:- ما هى معدولة اهى يا مناع .. حلوة حلوة والطريق هادي وزي الفل .. توكل على الله ..
جز مناع على اسنانه غيظا هامسا:- اجوله مشيفش يجولي الطريج زي الفل .. هتف شريف متسائلا:- بتقول حاجة يا مناع !؟.. هتف مناع مؤكدا:- لاااه مبجوليش يا بيه .. استطرد مناع وقد استشعر بما لديه من خبرة عاطفية جعلته غارقا في عشق سعدية ان هناك شرارات ما بين زينب وشريف فهتف:- بجولك يا بيه !؟.. افتح لكم مزيكا !؟.. هتف شريف مستحسنا:- الله عليك يا مناع ..سمعنا يا سيدي .. بس اوعى تسمعنا الرعد ف الاخر ..
امسكت زينب ضحكاتها بالخلف بينما انفجر مناع مقهقها بصوت جهوري ليهتف شريف مدعيا الفزع:- اديك سمعتنا اللي ألعن من الرعد .. العربية بتترج .. استر يا رب .. قهقه مناع من جديد ومد كفه يفتح مشغل الأغاني لتصدح كوكب الشرق مترنمة:- ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب.. ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب..
ليهتف شريف مؤكدا كلام الاغنية:- والنعمة صح .. الست دي بتقول احلى كلام .. لتستطرد ام كلثوم صادحة:- ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني.. إلا عُيونك إنت دول بس اللي خدوني وبحُبك أمروني.. أمروني أحب لقيتني بحب وأدوب فى الحب وصبح وليل على بابه..
تطلع شريف الى عينيها عن طريق مرآة السيارة وتنهد في شوق مسندا عضده على حافة نافذة السيارة وذقنه على باطن كفه ليتيقن مناع ان شريف غارقا في حب تلك الطبيبة التي تجلس بالخلف تحاول ان تتظاهر بالامبالاة فمد كفه ليرفع من صوت الغناء قليلا وكلمات الاغنية تسري عبر اجواء العربة توقظ مشاعر راكبيها مصحوبة بأجواء الغروب التي تصاحبهما على طول الطريق ..
كان عائدا من احد اجتماعات فض المنازعات التي يترأسها بمقعد الرجال بالقرب من إسطبلات النعماني .. كانت رأسه تعج بالكثير من التفاصيل والمشكلات التي شغلت معظم نهاره والان هو عائد للبيت الكبير لعله ينال بعض الراحة بعد ذاك اليوم المنهك ..
كان يسير الهوينى بعربته لا قبل له للإسراع بها على ذاك الطريق الضيق المترب وكان يريد ان يعب من هواء المغارب النقي لعله يريح بعض من ما يعتريه من ضيق .. لقد أضحت الفترة الاخيرة خانقة بحق بعد كل الاحداث التي شهدتها.. تنهد زافرا في حنق واذ به يجذب لجام الفرس في قوة لتتوقف العربة فجأة .. تطلع الي تلك السائرة هناك وحيدة تحمل حقيبتها وتمشي شاردة حتى انها لم تنتبه لصوت العربة المميز على الطريق و ما ألتفتت نحوه بل استمرت بطريقها ..
اندفع مترجلا من العربة خلفها وما ان اصبح بمحازاتها حتى تنحنح هاتفا:- السلام عليكم يا داكتورة .. انتفضت من شرودها وردت التحية في اقتضاب:- وعليكم السلام .. تساءل متعجبا:- ليه ماشية لحالك يا داكتورة مطلبتيش الكارتة ليه !؟ اكدت وهى لاتزل تسير بطريقها غيرعابئة بالتطلع اليه وهى تحدثه:- ملهاش لازمة يا عفيف بيه .. انا حبيت أتمشى شوية ..
كانت تسرع الخطى وكأنها تهرب من امر ما أو ربما شخص ما .. شخص له قدرة على قلب ثباتها رأسا على عقب ..فمنذ محادثتها مع زينب وإنكارها إمكانية الوقوع في حبه وهى لاتنفك تفكر فيه ولا يبرح مخيلتها للحظة مما اثرعلى علاقتها به وباتت تتحاشاه وإذا ما اجتمعا تتعامل معه بشكل عدائي لا تستطيع ضبطه اوالسيطرة عليه .. هتف معاتبا:- هاتفضلى تجري كِده وانا اچري وراكِ يا داكتورة .. طب حتى اوجفي كلميني زي الناس..
توقفت فجأة تستدير متطلعة اليه هاتفة فى حنق:- خير يا عفيف بيه!؟.. توقف فجأة بدوره قبل ان يرتطم بها متقهقرا خطوتين للخلف و تنحنح هاتفا:- خير طبعا يا داكتورة .. انتِ فيه حاچة مزعلاكِ!؟.. هزت رأسها نفيا في عجالة ليهتف هو مستطردا:-طب انا بجول يعني تتفضلي ع الكارتة بدل مشيك .. المسافة للبيت الكبير لساتها بعيدة و انتِ يعني اكيد تعبانة وعايزة تستريحي .. اتفضلي..
اشار للعربة التي تركاها خلفهما على مسافة لا بأس بها .. كانت بالفعل مرهقة ولا قبل لها لتجادل فيومها كان عصيبا بحق .. تنهدت في استسلام ليبتسم في نشوة المنتصر وهو يعود خلفها مستقلا العربة بعد ان استقرت داخلها بالفعل.. ساد الصمت بينهما وكان الجو مشحونا فمنذ قدوم الدكتورة زينب وامتثالها للشفاء وهى تنأى بنفسها عنه .. كانت بارعة حقا في عقابه بمثل ذاك العقاب الذي لا تعلم كم هو ثقيل على نفسه .. لكن من اين لها ان تعلم !؟..
هز لجام فرسه لتتحرك العربة بهما عائدين وها قد شارف المغرب على الدخول وبدأت جحافل العتمة فى الانتشار .. كان التعب بلغ منها مبلغه بالفعل لم تشعر بذلك الا ما ان استراحت داخل العربة .. كانت تشعر ان كل عضلة من عضلات جسدها متشنجة نظرا للمجهود الذى قامت به النهار بطوله..
لكن كل هذا لا شئ ما ان اتم الله على يديها تلك الولادة التي استدعيت لها بعد رحيل زينب مباشرة مما ساعدها على الالتهاء بعيدا عن حزنها لفراق صديقتها وخاصة وان الام وجنينها بخير مما أشعرها بالسعادة فتنهدت فى ارتياح جذب انتباهه ليتطلع اليها بطرف لحظ يحاول ان يغضه عنها دوما..
لكن كيف له ان يفعل وكل ما فيه يناديها وخاصة بعد طول فترة بعادها بمرضها وكذا وهى بهذا القرب الدامى منه تشاركه أريكة الكارتة التى تهتز بهما فى طريقهما للبيت الكبير على ذاك الدرب الذى بدأت شمسه فى المغيب مخلفه ورائها شفق ذهبى مخلوط بالحمرة اورث الأجواء نوعا من السحر لا يمكن مقاومته .. انتفض فجأة مطرودا من جحيم خواطره عندما هتفت هى فى تعجب متسائلة:- ايه الصوت ده يا عفيف بيه !؟
تطلع اليها متعجبا فيبدو انها نسيت خصومتها فجأة وتساءل بدوره في اهتمام:- صوت ايه !؟.. ارهفت السمع هامسة:- حاسة انى سامعة صوت غنا او حاجة شبه كده .. ده صحيح و لا بيتهئ لي!؟.. ابتسم فى رزانة مجيبا:- لا صحيح يا داكتورة .. وادار العربة قليلا لتسلك طريقا فرعيا ضيقا كادت العربة ان تتجاوزه اشرف بهما على سهل منخفض رأت فيه من على البعد بعض من خيام وشادر منصوب . نظرت دلال لعفيف فى تعجب هامسة:- ايه ده !؟..
رد هامسا بدوره:- دى خيام الحلب.. هتفت مستفسرة:- اه .. قصدك الغجر مش كده !؟ ابتسم مؤكدا:- ايوه يا داكتورة صح .. بجيتى خبيرة اهااا .. ابتسمت في خجل:- يعنى افتكرت كلام خالة وسيلة عليهم ساعة موضوع خفاجي وبنته ..
بالحديث الا انها تنبهت للغناء الذى بدأ من جديد بالأسفل فنزلت من الكارتة مشدوهة ومأخوذة اليه .. وقفت تتطلع من موضعها فوق تلك التلة المنخفضة على ذاك الصخب الدائر بالأسفل وتناهى لمسامعها أهازيج الغجر ورقص فتياتهم و مشاعلهم المستعرة بأركان المكان بالأسفل تضفى عليه جوا أسطوريا خلب لبها ..
كان عفيف لايزل بالعربة متطلعا اليها فى تيه مأخوذا كليا بصورتها التى تتراقص اللحظة امام ناظريه على انعكاس اللهب القادم من البعد.. كانت قطعة فريدة وضعت فى لوحة فائقة الجمال فزادتها حسنا.. نزل بدوره من الكارتة سائرا في حذّر ليقف جوارها محاولا الا يقطع ذاك السحر الذي شملهما وان لا يخرجها من ذاك الجو الذى أضحت اسيرته تماما ..
تناهى لمسامعهما الغناء الذى علت وتيرته بالأسفل لتصلهما .. يا حنة .. يا حنة .. يا حنة .. يا جطر الندى .. يا شباك حبيبي يا عيني .. چلاب الهوى .. همست دلال مسحورة:- الله .. بحب الاغنية دي قووي .. نظر اليها مسحورا بها وتنحنح محاولا ان يجلو صوته هامسا بدوره:- أغاني عن حكاوي جديمة..
وحاول ان يجذب نفسه خارج ذاك السحر الذى يشملها يدعوه اليه كنداهة لا يستطيع منها فكاكا فاستطرد هاتفا:- والاغنية دي بالذات .. عن حكاية جديمة جوي وكلها وچع .. تنبهت لحديثه فتطلعت اليه متسائلة في شغف للمعرفة:- قديمة قوي ازاى !؟.. من امتى يعني !؟.. وليه كلها وجع !؟.. ابتسم عندما علم انه اثار فضولها فهتف:- من ايّام الدولة الطولونية..
هتفت متعجبة:- ياااه .. دي قديمة قوي فعلا .. بس واضح انها حكاية مش عادية عشان تعيش كل ده!؟.. اكد هامسا وهو يومئ برأسه متطلعا لمضارب الغجر:- اكيد .. حكاية لسه عايشة وبتتغنى يبجى لازما تبجى مش عادية .. حكاية عن فرحة وحزن متعشجين ف بعض زي الارابيسك .. هتفت فى حيرة:- ازاي !؟..
همس يحكى وأهازيج الغجر عن الحكاية تكمل تلك الخلفية الخلابة:- دي حكاية الاميرة جطرالندى بنت خمارويه وحفيدة احمد بن طولون.. كانت شابة ف غاية الچمال وكان ابوها بيحبها چدا .. بس للاسف حبه ده ممنعهوش انه يتاچربيها .. هتفت دلال في فضول:- ازاي !؟..
اكد عفيف متنهدا:- للاسف كان فى مشاكل وصراعات كبيرة بين ابوها حاكم مصر وبين الخليفة العباسي المعتضد .. وشاف الاتنين ان انسب وسيلة عشان ينهوا الخلاف ده هى چواز جطر الندى من بن الخليفة .. اكدت دلال:- طب تمام ما هو الخلاف هيخلص اهو .. ولا هى بتحب حد تاني ..!؟.. هتف عفيف:- لا ابدا .. هى كانت سعيدة بالچوازة دي لانها ف مصلحة ابوها .. و فعلا تم تچهيزها بچهاز في قافلة اولها ف العراج و اخرها ف مصر وكان فيها من عچايب الدنيا اللى عمر ما حد شافه..
همست دلال فى فضول:- و بعدين!؟.. ابتسم مستطردا:- بيجولوا ان ابوها بنى لها جصور على طول الطريج من مصر لبغداد كل ما تكون عايزة تستريح تنزل ف جصر منيهم لحد ما وصلت بغداد .. وزي ما بيجولوا برضك تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن .. هتف تتعجله فى فضول:-ليه !؟. ايه اللى حصل يا ترى !؟.. قهقه لحماستها مستطردا:- شافها الخليفة المعتضد فبهرته بچمالها فجال انه هيتچوزها هو بدل ابنه .. شهقت دلال فى صدمة هاتفة:- يا عينى .. ضاعت فرحتها ..
اكد عفيف في رزانة متطلعا لملامح وجهها المليحة والمتقلبة التعابير كما وجوه الاطفال عند قَص الحكايا:- بالظبط .. بس هى ملهاش انها ترفض للاسف لانه چواز سياسى م الاساس .. عشان كِده جلت لك .. رغم مظاهر البذخ والفشخرة اللى أتعمل بيها الزفاف والأربعين ليلة حنة اللى اتجام فيها الفرح واللي بيتغنوا بيها لحد دلوجت الا انها مكنتش سعيدة ابدا..
همست دلال فى شجن:- اكيد مكنتش سعيدة .. هتبقى سعيدة ازاي وعمرها بدل ما تعيشه مع حد يحبها راح ف صفقة سياسة !؟.. صمت عفيف ولم يعقب متطلعا اليها في وله .. تطلعت هي الي الغناء بالأسفل من جديد وفجأة وكأنها فقدت شغفها استدارت تصعد الكارتة .. تبعها صاعدا الكارتة جوارها وهز لجام الفرس بين كفيه لتتحرك عائدة متخذة الطريق الرئيسى مرة اخرى لتدير دلال رأسها متطلعة خلفها لمضارب الغجر وهم لازالوا على غناءهم يتناهى لمسامعها كلمات اوصلها الريح والعربة تندفع مبتعدة:- استنى .. واستنى .. لما تفوت على بستانا ..
وتصبح وتمسى .. تطلب مفتاح الچنة .. وأهديك شال الأفراح .. مليان ورد وتفاح .. والفرحة الكبيرة نقسمها سوا .. وأتوه بين حبيبى يا عينى والليل و الهوى ..
رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن عشر
بعنوان ( آسف )
وصلت العربة لبيت زينب ليتوقف مناع حيث اشار له شريف هاتفا:- بس هنا يا مناع .. كتر خيرك .. ترجلت زينب من السيارة وتبعها شريف هاتفا:- حمدالله بالسلامة يا دكتورة ..نورتي القاهرة وضلمتي النجع .. ابتسمت زينب هاتفة:- الله يسلمك يا سيادة النقيب .. واستطردت هاتفة:- هطلع انا بقى لماما .. هتف مناع:- وانا هحصلك بالزيارة اللي ف شنطة العربية يا داكتورة .. ابتسمت في مودة:- تسلم يا مناع ..
همس شريف بقربها:- يسلم ايه !؟.. انتِ ناسية الناس اللي عندك !؟.. وضعت كفها على فمها مانعة شهقة قوية ليهتف شريف امرا:- سبهم يا مناع انا هطلعهم .. اكد مناع:- ودي تيجي يا شريف بيه !؟.. ميصحش برضك .. همس شريف لزينب:- اطلعي بسرعة نبهي ع اللي فوق ..
اومأت برأسها موافقة شريف واندفعت في اتجاه بوابة البيت المغلقة .. دفعتها ودخلت وشريف يتعقبها بناظريه وما ان هم بالعودة لمناع الذي كان على وشك اخراج رأسه من خلف السيارة التي كان منحنيا داخلها لجلب الصناديق حتى شاهد نديم قادم من مقابلة مع احد أصدقاءه ليوفر له عمل يستطيع به تدبر اموره وخاصة ان طبيب ناهد ودواءها قد أتى تقريبا على ما يملك من أموال.. فاندفع شريف باتجاه مناع يحاول تعطيله عن اخراج رأسه حتى يضمن دخول نديم للبيت..
اخذ شريف في تعطيل مناع قدر استطاعته حتى شعر ان مناع قد اوشك على الخروج عن طوره وقد يرديه قتيلا لتوه .. وما ان تأكد ان نديم دخل بيت زينب حتى اصر على حمل الصناديق الكرتونية بنفسه حتى باب شقة زينب متعللاً بان هناك امر ما قد نسي أخبارها به .. ابتسم مناع لاعتقاده بان شريف يتحجج لرؤية زينب فيبدو انه افتقدها قبل ان يغادرا من الاساس فتركه يفعل ما يحلو له .. اندفع شريف بالصناديق حتى اعتاب شقة زينب طارقا بابها لتهتف زينب من الداخل في سرعة:- ايوه ..
وفتحت هاتفة في ذعرومن خلفها كان نديم في ذعر مماثل:- نديم مكنش فالبيت ولسه طالع ورايا ..مناع شافه !؟.. هتف شريف مطمئنا إياها وهو يضع حمله جانبا:- لا الحمد لله ربنا ستر وقدرت ألهي مناع لحد ما نديم طلع على هنا .. تنهدت زينب في راحة:- يعني مشفهوش!؟.. الحمد لله يا رب .. هتف نديم بدوره:- الحمد لله .. هتفت ماجدة لشريف:- تعبناك يا بني ..
اكد شريف مبتسما:- العفو يا طنط مفيش تعب ولا حاجة وبعدين انا بنفذ الأوامر .. سلم واستلم .. قهقهت ماجدة هاتفة:- قد القول يا حبيبي .. هتفت زينب في حنق:- ايه سلم واستلم دي.. هو انا ايه !؟.. طرد .. هتف شريف مشاكسا وهو يندفع ليهبط الدرج في عجالة:- طب اقولكم سلام عليكم بقى بدل ما انا اللي اخد طرد ..
قهقه الجميع لتهتف ماجدة:- مع السلامة يا حبيبي .. ومتنساش تسلم لي على ماما .. اكد شريف وقد وصل لأخر الدرج مندفعا لخارج البيت:- يوصل يا طنط .. اغلقت ماجدة الباب لتهتف زينب موجهة حديثها لنديم:- عارفة انت عايز تسأل على ايه !؟.. انا مش هقول ولا حاجة غير ان دلال بقت كويسة جداااا وعشان تصدقني .. مدت كفها لحقيبة يدها التي كانت بالقرب منها على الطاولة وأخرجت خطابا سلمته لنديم مستطردة:- أدي جواب منها وبخط ايديها يا سيدي .. اقراه وأتأكد بنفسك .. هي حكت لك كل حاجة فيه ..
اختطف نديم الخطاب في لهفة وما ان هم بالخروج تجاه شقته حتى هتفت ماجدة تستوقفه:- استنى يا نديم خد الحاجات دي من الزيارة اللي بعتها اخو مراتك .. اكيد نفسها فيها .. خليها تفرح بيهم .. اخذها نديم وابتسم في امتنان هاتفا:- تسلمي يا طنط .. كلك ذوق ..
اندفع لشقته حاملا الزيارة والخطاب .. توجه صوب حجرتها يطرق بابها في هدوء ليفتحه ما ان دعته للدخول .. هتف ما ان طالع محياها الشاحب قليلا على غير عادته:- السلام عليكم ..ايه اخبارك دلوقتى !؟.. مش احسن .. اومأت ببطء ايجابا ليقترب من الفراش واضعا ما حملته اياه ماجدة هاتفا:- بصي يا ستي طنط ماجدة بعتت لك ايه !؟.. هتفت في وهن هامسة وهى لا تقو على النظر داخل الحقيبة البلاستيكية:- ايه ده !؟ اكد مبتسما:- دي زيادة من بلدكم بعتها عفيف اخوكِ مع زينب ..
صمتت للحظات ثم طلت داخل الحقيبة متطلعة لما بداخلها واخيرا أبعدت ناظريها عنها وأجهشت في البكاء رغما عنها .. صمت لبرهة بدوره احتراما لوجعها ولكنه هتف في شجن:- انا اسف كنت فاكر ان الحاجات دي هتبسطك .. ومد كفه لإبعادها لكنها استوقفته هامسة بصوت موجوع النبرات:- هى بسطتني فعلا .. بس ..
لم تستطع ان تستطرد في وصف مشاعرها اكثر لكنه استشعر كل ما كانت تود البوح به فأومأ برأسه متفهما وهمس بدوره:- حاسس بيكِ وعارف انتِ عاوزة تقولي ايه .. وغير الموضوع بسرعة هاتفا:- بالمناسبة.. انا جالي جواب من دلال .. هقراه وأقولك الاخبار.. هتفت في حياء مترددة:- لو فيه اخبار عن عفيف ..هتبلغني !؟.. اكد في ثقة:- اكيد طبعا .. وهديكِ الجواب تقريه كمان ..
ابتسمت وهي تمسح دمعاتها:- لااه مش للدرچة دي .. طمني عليه كفاية عليا .. هز رأسه موافقا وتركها وأنصرف لتمد كفها لداخل الحقيبة البلاستيكية مخرجة رغيف من الخبز الشمسي المصنوع بيد الخالة وسيلة والذي تستطيع تمييزه دوما وقربته من انفها تتلمس فيه رائحتها التي تشتاقها وعبق أرضها التي افتقدتها حد الوجع ..
تمايلت وتمايلت في إغواء ونظرات عينيه التي تضج بالشهوة تتبعها هنا وهناك حتى توقفت عن رقصها اخيرا ما ان استشعرت بحسها المدرب على انها قد استطاعت اسر حواسه كلها فاقتربت منه تسقط بدلال بين ذراعيه ليهتف في صوت نبراته تحمل قدر لا يستهان به من الرغبة:- واااه يا لواحظ .. كنك چنية بترجص ع الدخان .. أطلقت ضحكة ممجوجة هامسة باغواء:- عچبتك يا سي صفوت !؟.
اكد هاتفا في حماسة:- يوووه .. دِه انتِ تعچبي الباشا .. همست بالقرب من مسامعه ترغب في المزيد من التأثير عليه حتى يكون طوع بنانها في تنفيذ ما انتوته:- ولسه هعچبك كمان وكمان لما اجولك كيف تخلص من عفيف وتبجى انت سيد النعمانية وكبيرها.. انتفض متطلعا اليها هاتفا في لهفة:- كيف..!؟.. مالت عليه تهمس بأذنيه بما خططت له وبدأ هو في الإيماءة برأسه في موافقة وقد ارتسمت على محياه القبيح ابتسامة صفراء تحمل خبثا ودناءة غير مسبوقة..
اندفعت لداخل البيت الكبير على غير عادتها مهرولة لتخبر الخالة وسيلة بالتوأمين اللذين كان لهما حظا فى القدوم للدنيا على يديها .. توقفت رغما عنها فى صدمة وكلل محياها الخجل عندما اكتشفت ان هناك ضيف بالبيت الكبير يجلس بأريحية في بهو الدار نهض هو فى جرأة متوجها اليها هاتفا:- اهلًا .. ومد كفه محييا ومستطردا:- انا تامر الضمراني شريك عفيف بيه .. اكيد حضرتك اخته !؟..
مدت كفها تتبادل التحية لكنها شعرت بالضيق من جراء ضغطه الموح لكفها فجذبتها في ضيق و همت بالإجابة الا ان عفيف كان الأسبق وهو يهتف مهرولا هابطا الدرج وبكفه بعض الاوراق وما ان وصل اليهما حتى اكد:- الداكتورة دلال المصري.. موچودة لمتابعة الحريم هنا ف النچع .. و توجه بحديثه لدلال هاتفا وهو يشير لباب المطبخ:- الخالة وسيلة كانت بتسأل عنك يا داكتورة ..
اكدت فى سرعة وهى تندفع للمطبخ:- انا رايحة لها حالا .. هرولت باتجاه المطبخ وما ان دلفته حتى وجدت الخالة وسيلة غارقة بين اوانيها تحضر الغذاء للضيف الغير مريح بالخارج .. هتفت وسيلة ما ان رأتها:- هااا .. ايه الاخبار!؟.. مرت عوض ولدت بالسلامة !؟.. اكدت دلال و هى شاردة:- اه .. الحمد لله .. هللت وسيلة متسائلة:- الله اكبر .. وربنا چاب ايه !؟..
اكدت دلال مبتسمة:- جابت توأم ولدين .. كبرت وسيلة من جديد مهللة:- الله اكبر .. الله اكبر .. دِه عوض هيعمل لك مجام يا داكتورة .. ولدين بعد تلت بنات .. يا فرحتك يا عوض .. تلاجيه ماسك السما بيديه م الفرحة .. ابتسمت دلال هاتفة:- ربنا يسعد الجميع .. أمنت وسيلة هاتفة:- اللهم امين يا داكتورة و يچعلك سبب للفرحة دايما يا رب ..
قالتها وسيلة بنبرة ذات مغزى كادت ان تسألها عن مقصدها الا ان عفيف اندفع من باب المطبخ هاتفا فى ضيق:- خبر ايه يا خالة !؟.. فين الغدا !؟.. خلينا نخلصوا م الأخ الثجيل اللي بره دِه .. هتفت وسيلة متسائلة:- مين دِه يا عفيف بيه!؟.. اول مرة اوعاله .. هتف عفيف زافرا في ضيق:- دِه واد الضمراني بيه شريكي ف المشروع اللي جلت لك عليه .. ابوه بعته بداله يعاين ارض المشروع .. بلانا بيه .. معرفش مجاش هو ليه بدل العيل الفجري دِه ..!؟..
هتفت وسيلة متسائلة:- هو هيبيت و لا هياخد بعضه ويطرجنا !؟.. اكد عفيف:- سمعته بيحول لأبوه انه هيعاين الارض ويرچع طوالي .. لكن من دجيجتين جالي انه هيبيت وكان بيسأل عن مكان جريب يبيت فيه .. هتفت وسيلة:- وجلت له ايه !؟.. هتف عفيف متعجبا:- وااه يا خالة ومن ميتا حد بياچي بيت النعماني و يبيت براه !؟.. شهقت وسيلة هاتفة:- هيبيت ف البيت الكبير !؟.. دي محصلتش جبل سابج .. هتف عفيف بنبرة حازمة:- الداكتورة ف المُندرة يا خالة .. يبجى يجعد هنا ..
اومأت وسيلة متفهمة ولم تعلق بحرف بينما هتف عفيف من جديد و هو يستدير مغادرا المطبخ:- همي يا خالة ان شالله يخليكي .. خلونا نخلصوا م اليوم دِه على خير.. اكدت وسيلة ان الطعام سيكون جاهزا في غضون الربع ساعة وما ان غادر عفيف حتى تطلعت الى دلال التي كانت منزوية بأحد اركان المطبخ ولم تفه بحرف منذ دخول عفيف حتى غادر وهتفت بنبرة متخابثة:- اول مرة ينزل ضيف ف البيت الكَبير .. و كله عشان خاطر عيونك .. هتفت دلال متعجبة:- عشان خاطر عيوني انا!؟..
قهقهت وسيلة مازحة:- لاااه .. عشان خاطر عيوني اني .. اضطربت دلال لتلميح الخالة وسيلة الذي جعلها تحمل الاطباق مسرعة لتخرج لتجهز المائدة من اجل اطعام ذاك الضيف الذي جعل عفيف بيه يغير من طقوس مقدسة و ترك احد ضيوفه يقتحم خصوصية بيت النعماني في سابقة هى الاولى من نوعها على الإطلاق ..
دخل من الخارج متوجها للمطبخ يضع بعض الأغراض التي ابتاعها رغبة في إرضائها حتى تتناول بعض من طعام تحبه لأجل دواءها الذى يحتاج لتغذية .. تناهى لمسامعه صوتا يجاهد للوصول لموضع ما ألقى بنظراته تجاه بباها والذي فتح في تلك اللحظة لتظهر هى على أعتابه ووجهها يتصبب عرقا وهى تعافر للوصول للباب بحال قدمها المصاب ورأسها المعصوب ..
انتفض مندفعا اليها هاتفا فى عتاب:- ايه اللى قومك من مكانك بس !؟.. نادي وانا اجيب لك اللي انتِ عوزاه .. ابتسمت في وهن وهى تتكئ على مصرع الباب هاتفة:- هتچيب لي الحمام ازاي !؟.. ابتسم بدوره هاتفا:- لا صعب ده يتجاب .. واستطرد وعلى وجهه نفس الابتسامة:- بس سهل اننا نروح له ..
اقترب منها يسندها وهو يراها تترنح شاعرة بدوار يكتنف رأسها الموجوع احتضن كفها الذي لم يمانع في البقاء باحضان كفه واسند كتفيها ضاما إياهما بعرض ذراعه .. لكن لم يكن ذلك كافيا فلم يكن باستطاعتها في هذا الوضع التحميل عليه بدلا من قدمها المصابة وبلا وعى منه انحدرت كفه من اعلى كتفها لتستقر على خصرها تضمه بقوة لكى تستطيع الاتكاء عليه حتى تصل للحمام ..
اوصلها اخيرا لداخل الحمام ليتنهد في راحة ما ان خرج مغلقا الباب خلفه .. كان يرتجف .. نعم يرتجف .. اصبح قربها داميا ومهلكا .. كانت كالجمر المستعر وكان هو حطبا جافا قابلا للاشتعال .. ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وما كاد ان يستعد رباطة جأشه حتى ظهرت من جديد علي اعتاب الحمام ليهتز ثباته مجددا وما عاد لديه الشجاعة ولا القدرة على اعادة التجربة السابقة من جديد فتناهى لخاطره فكرة قرر تجربتها فورا اتقاء لموجة احتراق جديدة فاندفع لمقعد خشبي و جذبه واضعا اياه امامها هاتفا:- اقعدي..
نظرت الي المقعد متعجبة لكنها أطاعته وجلست في تؤدة وما ان استقرت على المقعد حتى اعاد ظهر المقعد للخلف قليلا حتى اصبح على قوائمه الخلفية فقط ودفع به في اتجاه غرفتها .. قهقهت هى رغما عنها هاتفة:- دي توصيلة تمام التمام.. هتف بدوره ما ان اوصلها جوار فراشها:- حمد الله ع السلامة ..
قهقهت من جديد ليستطرد هو:- ف يوم دلال انكسرت رجلها وحلفت عليا ما اشيلها .. كانت خايفة على ضهري برغم انها بالنسبة لي كانت خف الريشة بس هى طول عمرها بتخاف عليا م الهوا الطاير .. تنهد مكملا بنبرة تحمل شجن لا يمكن إغفاله وصل لشغاف قلبها قبل اذنيها فتطلعت اليه والى ملامح وجهه المتقلبة وهى تستند لتجلس على طرف الفراش:- ساعتها .. اخترعت لها حكاية الكرسي دي.. وهى رايحة اوجاية أذقها ع الكرسي ..لدرجة إننا اخدناها لعبة بعد ما خفت ..
قهقه للذكرى حتى انها لمحت لمعان لأدمع عزيزة بمآقيه مما جعله يهتف مسرعا:- عن اذنك .. هروح أحضر العشا .. واندفع مبتعدا خارج الغرفة تتعقبه نظراتها العاشقة رغما عنها ..
ابتسمت شريفة لولدها ما ان طالعها محياه وهى تفتح باب شقتهما:- شريف .. ايه المفاجأة الحلوة دي!؟.. انحنى شريف مقبلا جبينها هاتفا:- اعمل ايه بس يا حجوج !؟.. مبقتش اقدر ابعد عنك .. يا مدوبة القلوب انت ِ .. قهقت شريفة هاتفة خلف ولدها الذي اندفع لحجرته يخلع عنه بدلته الميري:- انا برضو .. ولا دكتورة القلوب !؟.. انتفض شريف وقد توقفت كفه عن فك أزرار سترته:- قصدك مين يا ماما !؟..
هتفت شريفة مؤكدة:- هو في غيرها .. الدكتورة زينب طبعا .. هتف شريف مبتسما في حياء غير معتاد:- هو انا باين عليا قوي كده!؟.. هزت امه رأسها ايجابا هاتفة:- يوووه .. قووووي .. هتف هو في حنق:- امال هى مش واخدة بالها ليه !؟.. اكدت امه هاتفة:- يا حبيبي دي بنت ناس .. وعمرها ما هتبين انها واخدة بالها طالما انت متقدمتش خطوة لقدام في اتجاه حاجة رسمية ساعتها بس ممكن تعرف هى فعلا عايزاك ولا لأ ..
ساد الصمت لحظات ليهتف شريف بعدها:- طب انا رايح لها .. تساءلت امه:- ليه بقى !؟.. مش حلو يا بني كل شوية تنط لهم كده .. اكد شريف:- انا هوديلها جواب من الدكتورة دلال صاحبتها .. و .. هتفت شريفة في فضول:- و ايه!؟.. ابتسم شريف مؤكدا:- وهاخد خطوة .. و استأذن امها ف إننا نزورهم ..
احتضنته امه هاتفة:- ايوه كده .. فرحني بعيالك قبل ما أموت .. انتفض شريفا محتضنا إياها:- بعد الشر عنك يا ست الكل .. وربنا يديك الصحة .. و صمت يتطلع اليها في تخابث لتهتفت تتعجله:- وايه !؟.. هتف مازحا:- وأجوزك وافرح بيكِ انت كمان يا حجوج .. قهقهت امه فهتف يشاكسها:- سامعك وانتِ بتقولي ياااريت.. علت ضحكاتها من جديد هاتفة:- طب ياللاه اجري روح للدكتورة بتاعتك ..
ارتدى شريف ملابسه على عجالة مندفعا باتجاه بيت زينب يكاد يطير حتى يصل اليها وتأكد ان خطاب دلال بجيب سترته فربت عليه في سعادة منتشيا فمنذ ان اوصلها مع مناع وعاد معه مباشرة للنجع وهو يعد الليالي ليعود مجددا للقاءها .. كان يضع كفه على قلبه عند وصولهم يومها لبيتها مخافة ان يرى مناع نديم .. وهوالذي تطوع للصعود بالصناديق الكرتونية المحملة بما لذ وطاب من خيرات الصعيد حتى يضمن ان يظل مناع بالأسفل داخل العربة تجنبا لأي مصادفة قد تدفعه لرؤية نديم اوناهد وكذلك .. دفعه وجوده للإسراع في المغادرة دون وداعها كما يجب ..وها هو في سبيله اليها..ولن يعود الا بتحديد موعد لسعادة قلبه ..
جلس عفيف يتوسط مجلس النعمانية المنعقد لمناقشة بعض الامور الطارئة الخاصة ببعض الخلافات هنا وهناك الا ان صفوت بلا اي مقدمات نهض هاتفا في غضب:- معدش فيها سكات يا واد عمتي .. خلاص .. المستخبي كله بان .. رغم ان كلام صفوت زلزل عفيف داخليا الا انه تظاهر بالثبات هاتفا في لامبالاة:- سكات ايه ومستخبي ايه يا صفوت اللي عتتكلم عنِه !؟..
هتف صفوت حانقا:- موضوع طلبي يد اختك يا عفيف بيه .. اعتبره ماكان .. و اني اللي ميشرفنيش نسبكم .. انتفض عفيف مندفعا باتجاه صفوت ممسكا بتلابيه صارخا في صوت كالرعد هز المكان برمته:- انت واعي لحديتك يا عويل !؟.. عارف ان الكلام اللي بتجوله دِه يضيع فيه رجاب وأولهم رجبتك !؟..
هتف صفوت في غل:- عارف وواعي اني بجول ايه .. وأختك اللي حفيت عشان اتچوزها اني اللي بجولك دلوجت انها متلزمنيش .. انتفض رجال النعمانية لفك التشابك بين عفيف وصفوت وما ان ترك عفيف صفوت من بين كفيه حتى اخرج سلاحه في غضب هاتفا:- والله يا صفوت ما ليك الا دِه عندي بعد الكلمتين اللي جولتهم دوول ..
هتف صفوت متحاميا في رجال النعمانية هاتفا في صوت هادر بدوره:- لو اني كداب .. جول لرچالة النعمانية اختك فين يا كبيرهم !؟.. هم عفيف بالكلام ليعاجله صفوت صارخا:- ومتجوليش عند بت خالتها ف المنصورة لأني نزلت المنصورة بنفسي وأختك معتبتش هناك من اساسه ومخطتش المنصورة من سنين يا عفيف بيه .. جولهم بجى اختك فين يا زين الرچال!؟..
انتفض عفيف يحاول الوصول لصفوت ليخنقه بكلتا يديه الا ان رجال النعمانية وقفوا حائلا بين عفيف وبين الوصول لصفوت الذي هتف من جديد:- طب اني كداب .. لو انت صادج وهى هناك روح چيبها .. ولو رچعت بيها يبجى احكموا علىّ الحكم اللي تشوفوه .. واني راضي .. هتف احد الرجال مؤيدا:- صح يا عفيف بيه .. اجطع لسان الكل وروح چيب اختك ..
هتف اخر:- ايوه هو دِه الكلام يا عفيف بيه .. و لو حد غيرك ف المطرح دِه كنت انت نفسيك حكمت عليه بكِده .. هز عفيف رأسه في ثبات يحسد عليه هاتفا:- هروح اچيبها .. بس لو رچعت بيها يبجى جول على روحك يا صفوت يا رحمن يا رحيم.. خوضك ف عرض النعماني ميمحهوش الا الدم .. و انت اللي اختارت .. هتف صفوت ساخرا:- وماله يا واد خالي .. اني راضي .. هز عفيف رأسه مجددا في تأكيد واندفع خارج المجلس مهرولا باتجاه البيت الكبير ..
استعدت للنوم وهى على يقين من ان النوم لن يزورها مبكرا تلك الليلة فقررت التسلل للمكتبة لإحضار احدى الروايات لتكون رفيقتها بليلها الطويل .. دلفت لحجرة المكتب ما ان تأكدت ان لا احد بالداخل ضبطت حجابها على رأسها وشدت مئزرها حول جسدها وتقدمت لرف الروايات و بدأت في اختيار احداهن .. لكنها استشعرت حركة بالقرب من باب المكتب فاندفعت تختبئ خلف احد الأعمدة .. لا تعرف ما الذي دفعها لذلك لكن حدسها يؤكد ان القادم ليس بعفيف .. وقد صدق حدسها عندما طالعها ذاك الضيف السمج .. تامر الضمراني وهو يتسلل في خفة للداخل متجها لمكتب عفيف يعبث هنا وهناك ببعض الاوراق والملفات ويحاول فتح بعض الأدراج عنوة ..
استشعرت الخطر وحاولت اخفاء وجودها قدر الإمكان لكن للاسف حركتها البسيطة تلك عند محاولة الاختباء أسقطت احد الكتب مما استرع انتباه تامر لينظر تجاه موضعها ليتعجب اولا قبل ان ينهض من موضعه في اتجاهها مبتسما في سماجة:- اهلًا .. اهلًا .. اختفيتي فين من بعد الغدا يا دكتورة !؟.. خرجت من موضعها لتطالع تامر الذي ابتسم ابتسامة صفراء هاتفا:- ايه يا دكتورة مالك !؟.. انا مجاليش نوم قلت أجي اقرا شوية..
ابتعدت عنه في محاولة للفرار من امامه مندفعة للباب الجانبي للمكتب ومنه لحجرتها الا انه كان الأسبق ليعترض طريقها هامسا بنبرة أرجفتها:- على فين يا دكتورة .. ما تخليكِ معايا شوية وصدقيني مش هاتندمي ..
قال كلماته الاخيرة وهو يقترب منها في صفاقة فاضطرت للتقهقر حتى اصطدم ظهرها بالمكتبة واصبحت محاصرة بينها وبين ذراعيه اللذين وضعهما موازيين لوجهها واقترب بوجهه من وجهها هامسا بصوت كالفحيح:- اسمك دلال .. و انا متأكد اني هشوف الدلال كله .. دفعته عنها بقوة وهي تحاول الخروج من باب المكتبة المفضي للبيت الكبير هذه المرة الا انه جذبها وحاصرها مرة اخرى فشعرت بيد باردة تعتصر معدتها ورغبة في افراغ ما بداخلها لقربه منها بهذا الشكل ..
كان يأسرها بشكل لم تستطع منه فكاكا ولم تكن تع اين ذهب صوتها الذي حاولت إخراجه عدة مرات لكنه خانها جراء صدمتها لما يحدث وما ان همت بالصراخ اخيرا الا وكان هو الأسبق واضعها كفه على فمها مانعا صوتها من الخروج هامسا بحقارة:- لااا .. ليه كده!؟.. انا قلت انت عاقلة .. هو في عاقلين يفضحوا نفسهم كدا !؟.. لا تعرف كيف منحها الله القوة لتعض كفه التي كانت تطبق على فمها ليطاوعها صوتها صارخا في تضرع باسمه:- عفيييييف ..
كان عفيف في تلك اللحظة يصعد الدرج قادما من الخارج يحمل هم الدنيا على كتفيه بعد مواجهة صفوت امام رجال النعمانية جميعهم ..فمن اين له بناهد!؟.. واين يمكنه ان يجدها ويحضرها الي هنا انقاذا لشرف النعمانية في غضون ساعات !؟... انتفض عندما وصله ندائها المجرد باسمه بهذا الشكل الذي هز اركان روحه .. ألقى عصاه جانبا وأزاح عنه عباءته واندفع في اتجاه مكتبه حيث كان مصدر الصراخ القادم من اعماق روح تطلب النجاة ..
دفع الباب ليتسمر لحظة موضعه و فجأة ينقض على ذاك الخسيس المدعو تامر جاذبا اياه مبعده عنها و بدأ يكيل له اللكمات المتتابعة بلا توقف .. اندفعت هى تنزوي بأحد الأركان تشهق غير قادرة على البكاء صدمة وكان عفيف مستمرا فى تلقين ذاك الحقير ما يستحق و اخيرا ألقى به جانبا مندفعا اليها و هتف ما ان وصل لموضعها وهو يلتقط انفاسه في تتابع لاهثا:- انتِ بخير يا داكتورة !؟..
رفعت نظراتها اليه وهى لاتزل ترتجف ذعرا واخيرا انفجرت في بكاء دام أوجع روحه المقهورة عليها .. كان يقف ضاما كفيه في غضب وصدره يهبط ويصعد في اضطراب لمرأها بهذا الشكل وهو غير قادر على اتيان ما يهدئ من روعها .. غير قادر على ضمها اليه وبثها الطمأنينة التي تستحق .. زاد اضطرابه بعد خواطره تلك مما دفعه ليعود مرة اخرى لذاك القذر تامر هاتفا به في غيظ:- و الله انت ما تستاهل تعيش بعد اللي عملته دجيجة واحدة ..
شهقت دلال من بين دموعها و انتفض تامر موضعه غير قادر على النهوض محاولا الهرب و عفيف يخرج سلاحه من صدر جلبابه جاذبا أجزاءه موجها اياه لتامر هاتفا:- دِه اللي تستاهله يا نچس عشان تعرف يعني ايه حرمة بيت النعماني .. اندفعت دلال فى ذعر حقيقي صارخة:- لااا يا عفيف بيه ..بلاش دم ..
لكن عفيف لم يكن بوعيه لحظتها .. فمنظر تامر وهو يمسك بتلابيها و هى غير قادرة على الإفلات منه جعل براكين من الغضب والثورة تستعر بشرايينه فلا يستمع لصوت العقل .. انطلقت الرصاصة من موضعها مصحوبة بصراخ دلال الصادر من أعماق مقهورة ..
اندفع مناع بذعر لداخل البيت الكبير اثر سماعه لصوت إطلاق النار .. وصل لباب مكتب عفيف صارخا في ذعر:- خبر ايه يا عفيف بيه !؟.. ايه صوت الرصَاص دِه !؟.. كان عفيف يقف بمنتصف الحجرة شاهرا سلاحه وبالقرب منه الدكتورة دلال وعلى الارض يتمدد تامر الضمراني وجهه مخضب بالدماء .. لم يجب عفيف على اسئلة مناع الذي ظل على اعتاب الحجرة لم يحرك ساكنا بينما هتفت دلال في ذعر:- بلاش دم يا عفيف بيه .. مش عايزة حد يروح بسببي . هتف عفيف صارخا:- دِه ميستاهلش ..
وركله عفيف في غضب قاهر و هو يستعد مرة اخرى لتوجيه سلاحه باتجاه تامر بعد ان طاشت رصاصته الاولى جراء تدخل دلال ممسكة بكفه مبعدة اياه الا انه قرر اعادة الكرة مما دفعها لتهمس بقربه في تضرع:- عشان خاطري يا عفيف بيه .. انا عايزة اخرج م البلد دي بسمعتي .. ارجوك .. كفاية قووى لحد كده .. نظر عفيف لكفها الموضوع على ظهر كفه الحاملة لسلاحه فأرتجفت روحه .. ولأجل خاطرها الذي حلفته به اخفض كفه الحاملة للسلاح حتى يتخلص من تأثير لمساتها وتوجه بناظريه لمناع امرا:- خد النچس دِه وارميه لأجرب مكان يجدر ياخد منيه حاچة توصله مصر..
وتطلع لتامر الذي جذبه مناع من موضعه ارضا مستطردا:- والله لولا الداكتورة وشفاعتها فيك لكنت مدفون مطرحك يا خسيس ..و ابجى سلملي على ابوك ان مجطعتكش ديابة الچبل جبل ما تروحله وجوله كل اللي ما بينا لاغي.. غووور.. صرخ عفيف بكلمته الاخيرة ليهرول مناع جاذبا تامر خارج المكتب ومنه لخارج البيت الكبير..
استدار عفيف لدلال التي كانت دموعها لاتزل تترقرق بمآقيها فغض الطرف حتى يستطيع ان ينطق بما انتواه وهتف فى حزم:- كفاية جوووى لحد كده .. انتِ صح يا داكتورة .. انتِ صح .. حضري حالك عشان من بعد الفچر مناع هيخدك يرچعك لدنيتك ولحياتك اللي خدناكِ منيها .. عن اذنك .. هم بالاندفاع مبتعدا الا ان دلال استوقفته هاتفة:- عفيف بيه !؟..
توقف عفيف لكنه لم يستدر لملاقاة نظراتها التي ما عاد له القدرة على التطلع اليها دون ان يشعر بشئ ما يتصدع داخله وهتف في صرامة:- اني محجوج لك يا داكتورة .. واسف اني جبتك لهنا .. واسف اكتر اني مجدرتش احميكِ من حاچات كَتير.. مع السلامة .. واندفع لخارج المكتب كمن تلاحقه آثامه التي لطالما أنكرها ليتركها موضعها تشعر ان الارض قد خلت من ساكنيها وان روحها قد غادرتها وهي تراه يبتعد عنها موليا بلا رجعة..
دلفت الي حجرتها بعد ان جرت اقدامها جرا من موضعها الذي تسمرت به بعد مغادرته إياها .. وصلت لجوار فراشها وانهار جسدها لتجلس على أطرافه متطلعة الي الفراغ امامها.. لا تعلم كم مر من وقت وهى على حالها ذاك و اخيرا تناهى لمسامعها صوت همهمات بحجرة المكتب جعلتها تنهض من جديد مقتربة من بابه تلتصق به ترهف السمع لمناجاة بصوت اشتاقته قبل ان تغادر صاحبه الذي قرر رحيلها عنه بعد عدة ساعات .. كان يهمهم بتضرع ما جعل فؤادها يترنح كالذبيح .. تضرعه اعاد الدمع لأجفانها من جديد لتسيل سخينة على خديها وصوته يعلو دون وعي منه يؤكد على وجع بحجم الكون وهو يبتهل:-
لبِستُ ثوب الرَّجا والناس قد رقدوا وَقمِتُّ أشكوا إلى مولاي ما أجدُ وقُلتُ يا أمَلي في كلِّ نائبة ومَن عليه لكشف الضُّرِّ أعتمد أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبرٌ ولا جلدُ وقد مدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مبتهلاً اليك يا خير من مُدَّتْ اليه يدُ فلا ترُدَّنها يا ربِّ خائبةً فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَرِد.
كادت ان ترتفع شهقات بكائها وودت لو تدفع الباب لتزيح بعض من ذاك الهم عن كاهليه لكنها عادت لغرفتها من جديد ومدت كفها لقلم وبعض الاوراق وبدأت تكتب كل ما كان يجول بخاطرها انتهت ووضعت الخطاب داخل احدى الروايات وقد قررت تركه له على مكتبه عند مغادرتها صباحا .. نهضت من موضعها في اتجاه النافذة التي نسيت سحب ستائرها عندما حلت العتمة لتكتشف ان السماء تشاطرها حزنها بماء منهمر من اعين فاضت حين فاض الحزن عن الحد ..
كانت ادمع السماء تهطل بغزارة غير مسبوقة ولم تعهدها منذ قدومها للنعمانية .. تنبهت من خلف زجاج النافذة لمناع الذي كان يتجه لداخل البيت الكبير مهرولا مناديا على عفيف بلهفة ونبرة مذعورة لم تكدب خبرا فاندفعت بدورها تستكشف ما يحدث وقد استشعرت بحدسها ان الامر جلل .. هبطت الدرج في عجالة و منه للمطبخ ووقفت خلف بابه المشرع لتفهم سر اندفاع مناع الذي كان يلهث من فرط انفعاله والذي كان يقف مع عفيف مشيرا للخارج في لوعة ..
اتم عفيف ضبط عمامته على رأسه واندفع مع مناع لخارج البيت الكبير لم تع حتى اللحظة ما يحدث .. لكنها ادركت من ذعر عفيف الذي ما كان يهتز ولو اهتزت الارض تحت قدميه ان الامر تخطى حدود اللامعقول ..وان الوضع جد خطير ..
رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع عشر
بعنوان ( مبعوث العناية الإلهية )
طرق على الباب بشكل مستفز مما دفع زينب لتصرخ بالداخل وهى فى سبيلها لفتح الباب:- ايه !؟.. في ايه !؟.. مين اللي بيخبط كده ده !؟.. فتحت الباب بعنف ليطالعها وجهه الذي كان يوما ما محببا الي قلبها اكثر من اهل الارض جميعا ..نظرت اليه في غضب هاتفة:- نعم!؟.. حاول ان يحشر جسده ليدخل هاتفا:- ايه يا بنت عمي !؟.. مش هتقوليلي اتفضل !؟..
دفعت به بعيدا حتى يلزم موضعه هاتفة بحنق:- مينفعش تدخل لان ماما مش هنا .. وحتى لو كانت هنا برضو مش هتدخل .. عايز ايه يا باشمهندس حاتم !؟.. اقترب منها في صفاقة هاتفا:- عايزك يا زوزو .. وعمري ما هاعوز غيرك .. قهقهت في سخرية:- أنسى .. الموضوع ده خلص ومعدش ينفع خلاص .. وقتك معايا انتهى وزينب اللي كنت تعرفها وعشمتها بمحبتك دي ماتت خلاص .. اللي قدامك دي زينب تانية خااالص ..
همس في فجاجة:- شوفي انا اتجوزت كام مرة بس مفيش واحدة عرفت تاخد مكانك ف قلبي .. برضو اللي ف القلب ف القلب يا زوزو.. اكدت في عزم:- صح اللي ف القلب ف القلب وانا اللي بقى جوايا من ناحيتك يخليني اقتلك و انت واقف دلوقتي .. لان اللي بينا بقي دم .. عارف يعني ايه دم يا حاتم !؟.. وابويا هيفضل ما بينا ليوم الدين..
وامسكت بمصرع الباب تهم بغلقه الا انه وضع كفه مانعا إياها وقد انقلبت نبرته السمجة الي اخرى مهددة اقلقتها وخاصة ان لا امها بالبيت ولا حتى نديم موجود بالشقة المجاورة للزود عنها.. هتف حاتم متوعدا وهو لايزل يحاول دفع الباب للدخول عنوة:- انتِ والبيت ده من حقي .. ويا اخدك يا اخد البيت .. وطالما ابوكِ كتب البيت ده باسم امك القرشانة يبقى انتِ بتاعتي انا..
واستمرفي دفع الباب حتى يدخل وظلت تقاوم هى من الداخل دافعة الباب ف الاتجاه المعاكس محاولة الزود عن نفسها .. كاد الباب ان ينفرج سامحا له بالدخول الا ان ظهوره المفاجئ صارخا وجاذبا حاتم كان فاصلا للمعركة فقد سقطت زينب على اعتاب البيت لاهثة بينما بدأ شريف في تسديد الضربات واللكمات لحاتم في غضب قاهر واخيرا جذبه شريف من ياقة ملابسه يهزه في عنف:- انت مين !؟.. و ايه اللي جابك هنا !؟.. هتف حاتم لاهثا وهو يمسح خيط من الدم سال من شفته السفلى:- انا بن عمها .. انت بقى اللي مين !؟..
رجه شريف صارخا:- وانت مالك انا ابقى مين!؟..وبعدين بن عمها وتعمل كده !؟.. قال بن عمها .. طب قول كلام يتصدق يا خفيف .. اكد حاتم صارخا:- اسألها .. انا بن عمها .. حضرتك بقى اللى مين !؟..وجاي هنا ازاى وامها مش موجودة !؟.. وهتف حاتم محاولا قلب الطاولة لصالحه صارخا في زينب التي كانت لاتزل ارضا منكسة الرأس:- مين ده يا هانم ..!؟.. وجاي هنا ليه وامك مش موجودة!؟.. وعاملة لي فيها شريفة عليا انا بس!؟..
استثار كلامه شريف ليصرخ موجها اليه لكمة قوية:- اخرس قطع لسانك .. دي اشرف من اهلك كلهم .. ودفع بحاتم في اتجاه الدرج هاتفا:- غور من هنا ياللاه بدل ما يكون نهايتك النهاردة على أيدي ..وحاول تقرب تاني من البيت ده وانت هتشوف اللي عمرك ما شفته .. واقسم بالله لهنيمك ف التخشيبة وألففك كعب داير لو لقيتك مش بس قريب م البيت لا لو حتى معدي ف الشارع ده تاني والا مبقاش انا النقيب شريف عبدالواحد ..
انتبه حاتم لتهديدات شريف فاندفع مسرعا خارج البيت ليعود شريف يعتلي تلك الدرجات التي نزلها خلف ذاك الأحمق ليجدها على حالها تجلس منهارة امام عتبة الباب .. انحنى في إشفاق هامسا:- زينب !؟.. انتِ كويسة!؟..
كانت المرة الاولى التي يناديها فيها باسمها مجردا وكم تمنت الا تسمعها منه في موقف كهذا يمثل جم ضعفها فهمسه باسمها جعلها هشة تكاد تلق بنفسها بين ذراعيه رغبة في الأمان الذي افتقدته منذ غادر ابوها دنيانا على اثر شجار بينه وبين عمها والد حاتم والذي كان يدرك تماما ان ابيها مريض بالقلب ولا طاقة له على الشجار والمناقشة العقيمة .. رفعت عيونا دامعة اليه ولم تجب فما كان منه الا انه تنهد في وجع يود لو يحتويها صارفا عنها صنوف الهم التى يراها مجسدة بمقلتيها ..
مد كفا بتلقائية اليها فاستندت على تلك الكف الممدودة حتى نهضت واتجهت في بطء باتجاه اقرب المقاعد للباب وجلست.. ظل هو موضعه لم يتزحزح فما كان له ان يطأ البيت وامها ليست بالداخل وليس لديه القدرة على تركها بهذه الحالة .. وما بين هذا الاحساس وذاك ظل على صراعه ممزقا حتى ظهرت امها خلفه هاتفة في تعجب:- جرى ايه !؟.. فيه ايه يا شريف يا بني واقف كده ليه !؟..
لم يجب هو لكن زينب ما ان طالعت امها بجوار شريف على عتبة الباب حتى اندفعت اليها تحتمي بأحضانها منفجرة فى البكاء بشكل أدمى قلبه وجعل ماجدة تهتف في ذعر:- ايه اللي جرى يا زينب!؟.. ما حد يفهمني فيه ايه !؟.. هتف شريف باقتضاب:- حاتم بن عمها .. شهقت ماجدة هاتفة:- وده ايه اللي جابه وفكره بينا بعد المدة دي كلها !؟.. مش كفاية اللي حصل لنا من تحت راسه هو وابوه !؟..
هتف شريف بفضول:- معلش يا طنط .. بس انا ممكن افهم ايه الحكاية !؟..ولا ده هيبقى تدخل مني!؟.. اشارت ماجدة لشريف هاتفة:- اتفضل يا بني ادخل.. معلش اتلهيت ف زينب ومقلتلكش اتفضل.. ادخل وانا هفهمك على كل حاجة .. رفعت زينب رأسها هاتفة في رفض:- مااامااا. هتفت ماجدة معارضة رفضها:- شريف بقى مننا وعلينا ولازم يعرف .. مفيش حاجة هتستخبى طول العمر .. جلس شريف في هدوء منتظرا ان تحكي ماجدة ما كان يستشعر ان زينب تخبئه بين طيات قلبها الذي كان دوما يحلم بامتلاكه ..والذي كان دوما بعيد المنال ..
ما ان اندفع عفيف ومناع للخارج حتى دفعت باب المطبخ لتدخل لصحن البيت الكبير باحثة عن الخالة وسيلة التي لم تكذب خبرا وظهرت مندفعة من حجرتها التي كانت غافية بها لبعض الوقت قبل ان تتجهز لتشاركها غرفتها كالعادة .. هتفت دلال متعجبة:- في ايه يا خالة !؟.. عفيف بيه خرج ليه مع مناع ف الوقت ده وبالشكل المذعور ده !؟.. هتفت وسيلة في قلق:- و النبي ما اعرف يا بتي .. ربنا يسترها ..ده حتى النطرة النوبة دي غير.. مبطلتش رخ من بدري..
ما ان همت دلال بالكلام حتى اندفع عفيف لداخل البيت الكبير متجها للأعلى استوقفته الخالة وسيلة هاتفة في ذعر:- ايه في يا عفيف بيه !؟.. مش خير برضك!؟. توقف عفيف على الدرج هاتفا في عجالة:- لاه مش باينه خير يا خالة وسيلة .. النچع هايغرج.. سيل نازل م الچبل وطال البيوت اللي تحتيه ولازما نلحج الناس هناك .. صرخت الخالة وسيلة في صدمة مصاحبة لشهقة دلال:- سيل !؟..يا رب سلم ونچى م المهالك .. وچالنا منين دِه !؟.. اكد عفيف وهو يندفع للأعلى من جديد:- النچع على مخر للسيول .. ربنا يسترها ..
تابعته دلال بناظريها مدركة ان مشروع رحيلها الذى كان معد سابقا سيبوء بالفشل بعد تلك الاحداث الجديدة .. اندفعت عائدة لحجرتها و منها للشرفة المطلة على مدخل البيت الكبير وتطلعت للجبل الغربي امامها فرأته ثائر كطفل أجبرته السماء على الإزعان لها كأم قررت ان تغسل وجهه المترب بسيل من دمعها العرم .. كان المشهد مهيب جعلها تفغر فاها مشدوهة لكنها تنبهت لبعض الضجيج بالأسفل فتطلعت لمدخل البيت الكبير لتجد عفيف و قد اعتلى صهوة فرسه واندفع في طريقه وقد أغرقته الأمطار كليا فبات منظره وهو يندفع بجواده اسفل الغيث كأحد فرسان العصور الوسطى وهو في طريقه لإنقاذ شعبه كمبعوث للعناية الألهية..
وضعت ماجدة كوب العصير امام شريف هاتفة:- اتفضل يا بني اشرب .. مد شريف كفه للكأس وعيناه تتجه رغما عنها لتلك التي تجلس بعيدا في احد الأركان شاردة لا ترفع نظراتها عن الارض.. ارتشف القليل لتهتف ماجدة في شجن:- بص يا بني .. حاتم ده يبقى بن عم زينب .. و كان كمان ..وصمتت قليلا لتستطرد:- وكان جوزها .. انتفض شريف موضعه هاتفا في صدمة:- جوزها !؟..
اكدت امها بلهجة موجوعة:- اه .. كان جوزها .. كتبوا الكتاب .. وكل حاجة كانت ماشية تمام .. لكن يوم الفرح .. ساد الصمت قليلا ماجدة تلتقط انفاسها في وجيعة هاتفة:- يوم الفرح جه حاتم وابوه وقالوا لأبو زينب .. يا تتنازل عن البيت ده لينا حالا بيع وشرا.. يا اما بنتك هتتفضح النهاردة ومفيش فرح.. لأن بن عمها سمع عنها اللي يخليه ميفكرش يتم جوازه بيها ..
شهق شريف ولم يعقب ونظر لزينب التي كانت تبكي بوجع في موضعها القصي هناك بدموع صامتة تنساب على خديها .. اكملت ماجدة هاتفة وطعم الذكري الأليم لا يفارقها:-ابوها كان مريض قلب وما استحملش اللي حصل .. كلمة منه على كلمة من اخوه .. وقع من طوله لما حاتم رمى يمين الطلاق على زينب لما عرف هو وابوه ان البيت اصلا مكتوب باسمي ومش هيطولوا منه حاجة لو اتجوزها ..
ساد الصمت من جديد حتى هتفت ماجدة دامعة العينين:- راح فيها عبدالحكيم .. ومن بعدها كل شوية حاتم ده يروح ويجي يرازي فينا .. بس كان بقاله فترة غايب بعد ما اتجوز جوازته الاخرانية دي .. ايه اللي فكره بينا تاني !؟..الله اعلم .. ساد الصمت من جديد ليتنحنح شريف في احراج هاتفا:- طب استأذن انا بقى يا طنط .. و شكرًا على العصير ..
توجه في سرعة باتجاه الباب وقبل ان يهم بالخروج تذكر خطاب دلال فأخرجه من جيب سترته ووضعه على الطاولة القريبة منه هامسا بصوت متحشرج:- ده جواب من الدكتورة دلال لنديم .. يا ريت توصلوه .. قال كلماته واندفع خارجا حتى انه لم يلق نظرة على تلك التي كانت تجلس موضعها كتمثال بلا روح.. رافقته امها للباب هاتفة:- سلم لي على ماما يا شريف .. شرفت يا بني ..
ما ان اغلقت ماجدة الباب حتى انتفضت زينب ترتمي باحضان امها صارخة في لوعة:- خلاص .. مش هايجي تاني يا ماما ... ربتت ماجدة على كتف ابنتها هامسة:- بصي يا حبيبتي انا كان لازم اقوله كل حاجة عشان ميتعشمش ع الفاضي وعشان يقرر هو عايز ايه ..ولو ربنا كاتب لك رزق معاه .. هاييجي يا بنتي .. و انا حاسة انه هاييجي وابقي شوفي ..
رفعت زينب رأسها تنظر لأمها في شك لتهتف ماجدة من جديد:- عمر امك قالت لك حاجة وخيبت ..!؟.. هزت زينب رأسها نفيا لتؤكد ماجدة:- يبقى تقولي يا رب .. همست زينب في تضرع:- يا رب ..
لتهمس ماجدة مشاكسة ابنتها تحاول اخراجها من حالتها:- بس يا بختك يا سيادة النقيب .. مكنتش اعرف ان في ناس بتحبك قوي كده !.. نكست زينب رأسها خجلا لتهمس ماجدة:- ربنا يجعله من نصيبك يا بنتي .. بصراحة هو جدع وبن حلال .. ياارب .. تضرع قلب زينب في وجل صارخا:- ياااارب..
اندفعت دلال لداخل البيت الكبير ما ان رحل عفيف ومناع لإنقاذ ما يمكن انقاذه لتبقى بجوار الخالة وسيلة في انتظار اي جديد وصوت الرعد يجعلهما ينتقضا موضعهما كل دقيقة .. و ما زاد الامر سوءا هو انقطاع التيار الكهربائي فجأة فأصبح ضوء البرق هو ما ينير مكانهما.. همت الخالة وسيلة بالنهوض فتشبثت بها دلال هاتفة في ذعر:- انتِ رايحة فين يا خالة وسيباني!؟.. اكدت وسيلة في هدوء:- هچيب لنض نمرة خمسة عشان ننورالعتمة دي .. هنجعدوا كِده!؟
امسكت بها دلال هاتفة:- طب انا جاية معاكِ .. بس انتوا لسه بتستخدموا اللمض دي يا خالة!؟.. اكدت وسيلة وهى تدلف للمطبخ في يسر كأنها تحفظ الطريق ككف يدها حتى بقلب العتمة:- يا بتي اللنض دي من ايّام النعماني الكبير وعلى طول اني بنضفها وأشيلها لوجت عوزة واهاااا چه وجتها الشمع مينفعش عندينا دِه بيطفي من هبّة ريح .. أخرجت وسيلة القناديل من موضعها باحد الأدراج هاتفة في سعادة:- اني لسه كنت معمراهم بالچاز .. كن جلبي كان حاسس .. و بدأت في إشعال فتيل كل قنديل على حدى ..
أضاء المطبخ بنورالقناديل الخمس حتى اصبح وهاجا فهتفت دلال متعجبة:- المطبخ أتحول كأنه بقى الصبح .. هتفت وسيلة بدورها في فخر:- معلوم .. تعالي نوزعوها على بره .. امسكت كل منهما بقنديل في كل يد وتركن واحدا بالمطبخ وبدأت كل منهما في وضع قنديل بأحد الأركان حتى عم الضوء المكان طاردا جحافل العتمة التي كانت تحتله منذ لحظات.. همست دلال في وله:- ياااه .. الجو بقى عجيب.. انا حاسة اني رجعت يجي ميت سنة لورا..
قهقهت وسيلة هاتفة:- اني حاسة اني رچعت عيلة صغيرة يدي متبتة فديل چلبية امي اول نوبة ادخل فيها هنا .. بيت النعماني .. وساد الصمت لحظات لتهتف دلال في قلق:- يا ترى ايه اللي بيحصل بره دلوقتي يا خالة !؟.. المطر كل ما دى ما بيزيد .. همست وسيلة بقلق مماثل:- ربنا يسترها يا بتي .. عمرها ما حصلت جبل سابج .. اخر مرة شوفت فيها النچع غرجان كان ايّام النعماني الكبير وجت النيل ما كان بيدي الارض خيره ..
هتفت دلال مبهورة:- انتِ قصدك وقت ما فيضان النيل كان بيغرق الارض قبل ما يتبني السد العالي !؟.. اكدت وسيلة:- ايوه يا بتي .. كنه كِده .. كانت النعمانية دي تغرج ما تشوفي ارضها على مدد الشوف كانت المية محوطانا ومكنش بيبجى الا البيت الكبير اللي واجف صالب طوله زي دلوجت..
صمتت دلال ولم تعقب فقد ايقنت انها تعيش فترة من حياتها لن تتكرر وانها ستحتفظ بذكرياتها في النعمانية بمكان عزيزوغال بقلبها .. فقد شعرت هنا بانها اميرة عادت من قلب كتب التاريخ وحكايا الماضي ..
نادت عليه عدة مرات لكن لم يصله نداءها من اساسه فيبدو انه يغط في نوم عميق بعد عودته مرهقا عمله الذي ألتحق به منذ يومين مما جعلها تتحامل على قدمها السليمة حتى تصل للباب .. فتحته لتخرج في تؤدة وتمهل باتجاه الحمام محاولة ان لا تلق بحمل جسدها على قدمها المصابة التى لاتزل تؤلمها ما ان تلامس الارض .. كانت قد اقتربت من الحمام لينفرج بابه فجأة عن محيا نديم يخرج منه مترنما وهو يغيب رأسه المبتل داخل احدى المناشف بينما يحيط خصره بأخرى ..
شهقت في ذعر لمرأه بهذا الشكل وكاد ان يختل توازنها وتسقط ارضا وخاصة بعد ان تعالت تأوهاتها لانها رغما عنها وهى تحاول التماسك ضغطت على قدمها المصاب مما استرع انتباهه على الفور ليجذب المنشفة عن وجهه ليجدها امامه على وشك السقوط ارضا فاندفع اليها ملتقطا إياها بين ذراعيه .. حملها عائدا بها الى حجرتها هاتفا بها في غضب لا يعلم مصدره:- ايه اللي خلاكِ تقومي من مكانك !؟ .. انا مش قايل لك تناديني لو احتجتي حاجة.!.. هتفت بصوت مهتز النبرات وهي تلامس صدره بهذا الشكل الحميمي:- انا ناديت والله .. بس انت مسمعتش ..
وضعها علي الفراش برفق يتناقض مع هتافه الغاضب من جديد:- يبقى تستني لما اسمع.. وصل لذروة انفعاله بالفعل.. فذاك الغضب الذي كان يدع انه لا يعرف مصدره هو يعرف بل على يقين انه نابع من قربه منها بهذا الشكل الذي ما عاد قادرًا على السيطرة عليه .. كان قد اخترع موضوع المقعد المدفوع حتى يتحاشى اي تلامس بينهما .. لكن تحركاتها الغير محسوبة تلك يدفع هو ثمنها من أعصابه وقدرته على ضبط النفس ..
هم بالابتعاد عنها مسرعا لكن خفه المنزلي الذي كان لايزل مبللا جعل ساقه تنزلق ليسقط مندفعا تجاهها .. لتصبح في تلك اللحظة اسيرة ذراعيه .. شهقت في صدمة لكن تلك الشهقة الملتاعة الصادرة منها لم تمنعه من الشرود التام بها والتطلع اليها في عشق.. تلاقت عيناهما في صمت راعد وصخب اخرس .. وحوار دار بين كفها الأيمن وباب صدره الذي كان يتوسده طارقا لعل هذا الفؤاد الثائر بالداخل يجيب ذاك الداع .. اقترب في تيه وشوق .. يدعوه ثغرها الوردي وما عاد قادرًا على تجاهل نداء تمنى تلبيته طويلا ..
لكن وللعجب ظهرت صورة دلال بالأفق لتحول بينهما في لحظة ليسطع خاطره بنور التعقل وقد ادرك مغبة ما كاد ان يقدم عليه .. اخته الغالية بين يديّ شقيقها .. وان لم يتق الله فيها هنا .. فكيف سيكون حال اخته بدورها هناك !؟.. هو يعلم انها زوجه .. حلاله .. لكن شئ ما حاك بصدره جعله ينتفض مبتعدا في ذعر .. نظر الي ناهد في اضطراب واخيرا اندفع مهرولا خارج حجرتها مغلقا بابها خلفه في عنف .. لتنتفض هى بدورها وقد ادركت ان كلاهما لن يعود لسابق عهده مرة اخرى ابدا .. وان الهوى الذي كان ينكر كلاهما المسير في دربه قد جهر باسميهما في قلب ميدان عامر ليُفتضح أمرهما وتتعرى مشاعرهما امام اعين لطالما أنكرتها .. أعينهما..
هتفت ورد داخل خيمتها التي كانت قد نُصبت حديثا منذ ساعات قليلة عند وصول جماعة الحلب لذاك المولد المعروف بتلك البلدة التي كانت تبعد عن النعمانية:- يخيبك يا بت يا لواحظ.. كل ده يطلع منك !؟.. تاريكِ مش هينة يا حزينة !؟.. كانت لواحظ قد حكت لورد صديقتها عما فعلت بصفوت وكيف جعلته كعجين طيع بين كفيها تشكل فكره كيفما شاءت وتوجهه لأفعال تخدم رغباتها في المقام الاول مدعية انها تسدي له الخدمات..
أطلقت لواحظ ضحكة رقيعة ممطوطة هاتفة في دلال ممجوج:- ولسه !؟.. هما شافوا مني حاچة!؟.. اللي ف چراب لواحظ كَتير .. هتفت ورد صديقتها محذرة إياها:- لواحظ .. انت ناوية على ايه يا بت عم خفاچى !؟..احنا مش كد الناس دول .. انتِ صاحبة عمري و كيف اختي وخايفة عليكِ .. الناس دي لحمها مر وما ليهم عزيز ولاغالي بره بدنتهم ياخية ..
قهقهت لواحظ من جديد هاتفة بلامبالاة:- ولا يهمني .. بكرة لما يبجى ولاد الحلبية اسياد البلد هتعرفي انه كان عندي حج .. هتفت ورد في ذعر:- ولاد مين !؟.. دوول يدفنوكِ حية انتِ وناسك كلهم .. بلاها اللعبة دي يا حبيبتي .. خلينا ماشيين چنب الحيط ربنا يسترها معانا .. نظرت لواحظ الى ورد في اشمئزاز هاتفة:- اهو الكلام دِه هو اللي مخلينا محلك سر .. ولو مشيت وراه هعيش وأموت غازية الكل طمعان فيها .. لكن اني هانم .. واتولدت عشان ابجى ست الستات .. هى اي هانم اجل مني ف ايه !؟.
ودارت لواحظ حول نفسها في تيه وخيلاء تستعرض جمالها الفتان القادر على سلب ألباب الرجال مما دفع ورد لتتنهد في إشفاق هاتفة في قلة حيلة:- هجول ايه!؟.. راسك كيف الصوان .. اعملي ما بدالك .. وربنا يسترها .. تطلعت لواحظ لصديقتها في كبر واندفعت خارج الخيمة تمشى الهوينى حتى الشادر المنصوب لعروضهم الراقصة متجاهلة أنظار الرجال المعلقة بها في كل خطوة ..
انتفضت شريفة من موضعها في اتجاه الباب عندما شعرت بحركة ما خلفه .. اخيرا وصل شريف وانفرج الباب عن محياه لتهتف ما ان طالعها محيا ولدها:- هااا .. عملت ايه يا شريف!؟.. كلمت مامتها !؟.. هتف شريف محاولا تغيير الموضوع بمزاحه الذي حاول اصطناعه هذه المرة:- ايه ده يا حجوج !؟.. انتِ ازاي لسه صاحية لحد دلوقتي!؟.. اللي ف سنك ناموا من بدري يا جميل ..
هتفت امه مبتسمة:- قول بقى يا شريف .. خدت ميعاد نروح لهم فيه !؟.. همس شريف بلهجة غامضة:- لا يا ام شريف .. الموضوع هيتأجل شوية .. هتفت شريفة في امتعاض:- ليه بس يا بني !؟.. ده انا ما صدقت قلبك مال لواحدة وقلت خلاص هى دي .. تنهد شريف مؤكدا وهو يقبل هامة امه:- معلش بقى يا ماما .. عندهم ظروف مخلتنيش اقدر افاتحهم ف الموضوع .. ربنا يسهل يمكن ف الاجازة الجاية .. كله بأمر الله .. همست شريفة رابتة على كتفه:- ونعم بالله يا حبيبي ..
هم شريف بالتحرك في اتجاه غرفته لتستوقفه هاتفة:- طب احضر لك العشا يا حبيبي !؟.. هز رأسه رافضا:- لا مليش نفس يا ماما .. روحي نامي انت بقى اتاخرتي عن ميعاد نومك النهاردة.. و انا لو جعت هعرف اتعامل.. متقلقيش .. همست وهى تتجه لغرفتها:- طب تصبح على خير يا حبيبي .. همس مجيبا:- و انتِ من اهل الخير ..
دلف لغرفته مغلقا بابها خلفه واتجه لفراشه ليتمدد عليه بكامل ملابسه .. وتطلع لسقف الغرفة في تيه .. فمعرفتة بذاك السر الذي كان ينأي بها عنه جعله يهتز داخليا .. لا يعلم بحق ما الذي يعتريه .. هل هى صدمة الحقيقة !؟.. ام ما قد يترتب عليها من احداث قد تغير بعض من توجهاته !؟..وهل سيغير ذلك شيئا من حقيقة مشاعره تجاهها !؟.. هو بالفعل لا يدري .. يشعر بتيه وضياع حقيقي .. ولا يعرف كيف السبيل للراحة ..
اندفع عفيف خلف مناع الذي سبقه على ذاك الجسر للجانب الاخر من النهر الذي يمر بالنعمانية لإنقاذ اهل بيته من الغرق المحتم.. مرعفيف تاركا فرسه عبر الجسر القديم المقام بأول النجع والذي كان يربط ضفتي النهر قديما وكان يستعمل في الأنتقال من والى هناك لكن ساكني الضفة الاخري كان من الاسهل عليهم استخدام المعدية بدلا من قطع تلك المسافة الكبيرة حتى الوصول للجسر .. لكن عفيف فعل مضطرا فما من معدية يمكن استخدامها في مثل ذاك الجو وما ان مر للجانب الاخر حتى حمد ربه فالجسر قديم وبالكاد تحمل ثقله للمرور عليه ..
اندفع في اتجاه البيوت التي بدأت المياه تغمر أعتابها بشكل ينبئ بكارثة وتطلع على قدر استطاعته ليرى بيوتا اخرى اخذها اندفاع المياه في طريقه .. لمع البرق في السماء ليصبح الليل نهارا وتبعه صوت الرعد الذي كان يصرخ كامرأة مذعورة فوق رؤسهم .. اخذ يتنقل صارخا في كل من يقابله من اهل النجع:- ع الچسر الجديم .. روحوا ناحية الچسر الجديم ..
كان صوته يحاول هزيمة صوت الرعد الذي كان يأبى الانهزام .. لكن عفيف لم يقف مكتوف الأيدي ظل يصرخ ويصرخ ويعانده الرعد صارخا بدوره حائلا بصرخاته لصوت عفيف من الوصول للناس حتى كاد ان ينقطع وهو يأمر الناس بالتوجه للجسر القديم .. شعر ان الامر لن يفلح بهذه الطريقة .. فالكثير من الأسر لاتزل محصورة داخل بيوتها خوفا من الخروج .. لا يعلمون ان البقاء يشكل خطر اكبر .. وان بقاءهم قد يعني هلاكهم وذويهم ..
كانت الصرخات المذعورة للنساء والأطفال تأتيه من هنا وهناك فيدرك ان عليه التصرف سريعا وإلا فان الامر سيخرج عن السيطرة مع ازدياد سرعة اندفاع المياه واستمرارهطول الأمطار بهذه الغزارة ..
مد كفه نازعا احد العوارض الخشبية واحتمى بجدار يحاول إشعالها .. حاول عدة مرات واخيرا نجح .. اندفع يحاول الخوض في المياه ملوحا بها ليتجه الناس باتجاه الجسر .. كان يحاول ان يحافظ على الشعلة على قدر استطاعته بعيدا عن سيل المطر فيضع كفه حافظا لها ويبعده ملوحا بها ما ان يستشعر النيران تلهب باطنه .. ظل على هذه الحال عدة مرات حتى تنبه الناس لإشارته فاتجه الجميع باتجاه الجسر الذي كان مناع وأسرته اول المتجهين نحوه ..
هتف عفيف امرا مناع في حزم:- اچمع الرچالة بسرعة .. نفذ مناع وهو يخوض الماء الذي وصل لمنسوب ركبتيه تقريبا.. اجتمع الرجال في لمح البصر ليهتف عفيف امرا بصوت جهوري ليسمعه الجميع:- كلكم تحت الچسر الجديم ياللاه .. هنا المية يا دوب هتوصل لوسط اجصركم .. هنسندوا الچسر لچل ما تعدي الحريم والعيال الصغيرة .. هموا..
اندفع الرجال في عجالة للتنفيذ وكل منهم بداخله رغبة لإنقاذ أهله للابتعاد من هذا الجانب من النهر والأقرب للجبل والذي تندفع منه المياه بقوة كبيرة تأخذ كل ما تستطيعه بطريقها .. حتى ان بعض البيوت الضعيفة الاساس والمبنية ببعض الطوب اللبن اوالخوص قد جرفها تيار المياه الشديد الاندفاع مهدما إياها .. نزل عفيف ومن بعده الرجال كل منهما يسند ذاك الجسر العتيق القدم بكتفه في محاولة ليكون المعبرالذي تمر منه النساء والاطفال للطرف الاخر من النهر الصغير الضحل في هذه المنطقة والذي يمر بالنعمانية ..
كان احد الرجال من كبار السن يقف على طرف الجسر الاول مساعدا الاطفال والنساء في المرور ومشجعا إياهن يحاول ان يضبط حمولة المرور حتى لا تتتزاحم النساء ويحدث ما لا يحمد عقباه .. وعلى الجانب الأخر كان رجلا مماثلا يستقبلهن ويحثهن على المضي قدما في اتجاه التلة المقام عليها البيت الكبير .. كان المطر لايزل يهطل بغزارة وكأن ابواب السماء فُتحت على مصرعيها .. وكان الماء قد وصل لصدور الرجال التي تحفظ توازن الجسر عندما مرت اخر مجموعة من النساء باطفالهن .
امر عفيف الجميع بالصعود في اتجاه الطرف الاخر وكان هو اخر من خرج من الماء مندفعا يمتطي فرسه الذي كان منتظرا بذاك الجانب من الجسر.. انتظر موضعه حتى يتأكد من ابتعاد اخر رجل في اتجاه البيت الكبير واستدار ناظرا مدققا النظر قدراستطاعته ليتأكد ان ما من احد قد خلفه ورائه دون معاونة .. لكن فجأة.. بدأت شرارات عجيبة في التطاير هنا وهناك وكأن السماء ما اكتفت.. كانت تلك الشرارات تضئ كما البرق الذي كان مصاحبا لها في بعض الأحيان ..
لقد كان احد ابراج الكهرباء المقام على الطرف البعيد من ذاك الجسر في اول النجع وقد بدأت أسلاكه في قذف تلك الشرارات جراء البرق الذي يبدو انه ضرب احداها ..لكن يبدو ان الامر كان اكثر سوء مما تخيل البعض فقد اختل توازن برج الكهرباء برمته نتيجة صخرة انهارت معلنة التمرد على ابيها الجبل لتصطدم ببرج الكهرباء ليسقط مندفعا في اتجاه الجسر.
كان المشهد مهولا بل مفزعا والشرارات تزداد تطايرا نتيجة انقطاع باقي اسلاك الكهرباء الرابطة للبرج بالأبراج الاخري .. سقوط البرج زاد الهرج بين الناجين ليندفعوا مسرعين في ذعر باتجاه التلة وصرخات النساء وعويل الاطفال يثير الاضطراب .. ألتفت مناع باحثا عن عفيف بين تلك الجموع الهاربة لكنه رأه هناك بين ذاك الزخم الحادث و لم يكن بمقدور مناع الا الصراخ هاتفا في لوعة:- حاسب يا عفيف بيه ..حااااسب .. وساد الظلام الدامس ارجاء النجع..