رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي عشر
بعنوان ( غيرته )
وصلت دلال للوحدة الصحية و سألت اين طبيبها انتظرت قليلا وجالت بناظريها بأنحاء الوحدة حتى وقفت امام غرفته .. طرقت بابها وسمعت سماح من بالداخل لتدلف وغضبها المستعر بداخلها يكاد يحرق الأخضر واليابس هاتفة ما ان طالعها محيا الطبيب الذي كان يجلس خلف مكتبه مستغرقا فى كتابة امر ما و أحد المرضى ممدد على السرير القابع خلف الساتر المخصص للكشف ..
انتفض الطبيب فى صدمة لمرأها .. فدفع بالورقة المسجل عليها الدواء للمريض الذى ظهر اخيرا من خلف الستار و رحل في هدوء ليهتف الطبيب فى غضب:- انتِ مين !؟.. وازاي تقتحمي غرفة الكشف بالشكل ده !؟.. هتفت تحاول السيطرة على غضبها:- انا خبطت ع الباب على فكرة وحضرتك قلت اتفضل .. هتف الطبيب طارق طبيب الوحدة الصحية في حنق:- اتفضل دي مكنتش لحضرتك .. كانت للمريض.. حضرتك مين بقى !؟..
هتفت تخبره:- انا الدكتورة دلال المصري .. الدكتورة اللي .. هتف متذكرًا مقاطعا إياها:- اااه .. اهلًا يا دكتورة .. طبعا عرفت حضرتك .. انت دكتورة النسا و الولادة اللي جت بمعرفة عفيف بيه .. مش كده !؟.. اكدت بايماءة من رأسها ليهتف مستطردا:- خير يا دكتورة !؟.. شايفك مضايقة ..
اكدت هاتفة بحنق:- طبعا يا دكتور .. اكيد مضايقة ..لما اشوف اللي بيحصل لبنات لسه مطلعتش للدنيا يبقى لازم أكون مضايقة .. و مضايقة اكتر ان ازاي حضرتك سمحت بده يحصل ف بنت صغيرة!؟.. مصعبتش عليك .. يعنى اذا كان ابوها مش قلبه عليها .. كنت نصحته أنت يمكن يسمعك.. هتف الدكتور طارق متعجبا:- حضرتك بتتكلمي عن ايه !؟.. انا مش فاهم حاجة بجد !؟.. بنت مين!؟..
أكدت دلال بغيظ وهى تعتقد انه يحاول ادعاء الجهل بالموضوع:- نادية .. اللي فرحها بعد كام يوم و هى مبلغتش حتى ١٥ سنة .. مين ادى ابوها شهادة التسنين !؟..مين اللي ممكن يعمل جريمة ذي دي!؟.. اكيد حضرتك بحكم وجودك هنا من فترة تعرف مين اللي ممكن يعمل كده ف مكتب الصحة .. ليه متبلغش عنه !؟..
هتف طارق فى هدوء:- بصي يا دكتورة .. انا مقدر طبعا تعاطفك مع البنت ورغبتك في منع جريمة ذي دي .. و مش لوحدك اللي نفسك ف كده .. و الله انا ياما حاولت قبل ما حضرتك تشرفينا .. و حضرتك ممكن تسألى عفيف بيه ازاي كنّا بنحارب الموضوع ده .. هتفت متعجبة:- عفيف بيه !؟..
أكد طارق ممعنا في هدوءه وهو يعدل منظاره الطبي:- ايوه يا دكتورة .. الموضوع ده كان شاغل عفيف بيه جدااا .. و كان بيحاربه بضراوة .. كونه باحث اجتماعي ده.. قاطعته دلال متسائلة فى تعجب:- مين ده اللي باحث اجتماعي !؟.. اكد طارق ناظرا اليها بدهشة:- عفيف بيه طبعا .. ده حامل لدرجة الماچستير في علم الاجتماع وكان مهتم جدا بالموضوع ده .. لدرجة ان في دكاترة كتير فمكتب الصحة تم نقلهم بسبب شكواه عشان تسهيلهم موضوع شهادات التسنين لبنات كتير تحت السن القانوني ..
همست في تيه:- عفيف بيه !؟.. اكد بعد ان وصله همسها:- ايوه .. ده اتفق معايا اني لو بلغني ان في بنت أتعمل لها شهادة تسنين وهي اقل م السن القانوني ابلغه وهو هيتصرف .. بس للأسف .. الأهالي تحايلوا على موضوع الشهادة ده بطريقة تانية فيها ظلم اكبر لبناتهم.. تذكرت كلام ابو نادية فهتفت بفضول:- طريقة ايه !؟.. هتف طارق بضيق:- الجواز العرفي .. هتفت صارخة:- ايه !؟.. جواز عرفي .. ازاي !؟.. دي جريمة اكبر ..
هز رأسه موافقا:- طبعا عشان ميحتاجوش لموضوع الشهادة بقوا بيجوزا بناتهم عرفي.. مجرد ورقة مفيهاش اى ضمان للحقوق و خاصة ان الجواز بيبقى بين القرايب فمحدش مخون وحتى لو خدوا وصولات أمانة ع العريس ممكن بعد سنة ولا اتنين قبل ما البنت تبلغ السن القانوني تحصل مشاكل اوخلافات يقوم مقطع الورقة ورامي لهم الفلوس اللي ف وصل الامانة ومع السلامة بعد ما تكون خلفت منه كمان وده كله و الأهل ف اعتقادهم ان لما البنت تبلغ السن القانوني جوزها هيكتب عليها رسمى على يد مأذون وهى يمكن معاها عيلين واكتر منه و في اللي جوزها ده بيتوفى ومبيقدروش يثبتوا لها حق بالورقة العرفي طبعا..
هتفت بصدمة:- انا مش مصدقة اللي بيحصل ده .. عشان ايه كل ده!؟.. هتف طارق في ضيق:- عشان الفلوس طبعا .. معظم اللي بيعمل كده على قد حالهم ومخلفين عيال كتيررر .. طبعا عشان يخف الحمل يقوموا مجوزين البنات واهو يطلعوا بقرشين من ورا العريس اللي طبعا بيبقى من القرايب اللي ربنا كرمهم بسفرية بره فرجع محمل من وراها اللي يزغلل بيه عيون الكل عشان يخطب البنت اللي تعجبه.. وطبعا بيبقى عريس ميتفوتش لبنتهم .. لا بيفكروا بقى ف فرق سن ولا ضرر ع البنت و لا اى كلام من اللى احنا بنقوله ..
كانت دلال تنظر اليه في صدمة غير مصدقة ما يقال .. و كل تلك الحقائق التى يسردها الدكتور طارق تفعل بقلبها وعقلها الافاعيل مما جعلها تهتف في عزم:- بس احنا لا يمكن نسيب الامور كده .. لازم يبقى لينا واقفة .. اكد طارق بنبرة متخاذلة:- يعني هانعمل ايه يا دكتورة !؟.. حاولنا كتير .. سواء كنت انا اوعفيف بيه .. لكن مفيش فايدة .. البلاد دي حكم العادات والتقاليد فيها ساري على رقاب الكل ..و للأسف احيانا بيسري الحكم ده حتى ولو بيخالف الشرع ..
ساد الصمت للحظات .. كان صمت قاتل يذبح الكلمات بسكين ثالم .. فلم ينبس احدهما بحرف .. و اخيرا هتف طارق محاولا الخروج من دائرة الصمت الموجع تلك:- بس انا اتشرفت يا دكتورة بمعرفة حضرتك .. و يا رب يكون وجودك هنا ف النجع سبب فى تغيير مفاهيم كتيرة .. ابتسمت في شجن هاتفة:- بعد مجهودات حضرتك وعفيف بيه اللي اتعملت دي كلها انا هقدر اعمل ايه !؟.. الموضوع فعلا مش سهل ..
هتف طارق بلهجة حماسية:- فعلا الموضوع مش سهل بس يا دكتورة انتِ اقدر على تحقيقه بسبب قربك م الستات وعلى ما اسمع انهم بيحبوكِ جدا وانتِ قدرتي تقربي منهم ف الفترة البسيطة دي بشكل يخلي تأثيرك عليهم كبير .. نهضت مبتسمة فى امتنان هاتفة:- انا متشكرة يا دكتور طارق ع الثقة دي ف قدراتى اللى انا نفسي مبقتش واثقة فيها .. واسفة ع الطريقة اللي اقتحمت بيها اوضة الكشف ..
ابتسم طارق و هو يعدل من منظاره الطبى بحرج هاتفا:- ولا يهمك .. انا مقدر شعورك يا دكتورة .. و انا تحت امرك فأي وقت وفأي حاجة . مد كفه مودعا لتمد كفها بالمقابل فى تحية رسمية رافقتها ابتسامة ممتنة وبعدها غادرت الوحدة الصحية و هو يتبعها حتى الباب الخارجي .. لوح لها مودعا من جديد و طفق عائدا لحجرة كشفه و سارت هى متوجهة للبيت الكبير غير مدركة ان نظرات فحمية متقدة كانت تتبعها بدورها ونيران من نوع اخرلم يخبرها صاحبها من قبل كانت تستعر بين جنبات روحه وتضطرم بفؤاده ..
تقلبت على تلك الأريكة الضيقة فى حذّر مخافة السقوط من أعلاها مما أورثها قلقا اطار النوم من عينيها متحدا مع ذاك البرد القارص الذي كان ينخر عظامها وهى لا تجد غطاء ما تتدثر به اتقاء له .. فلم يكن هناك الا ذاك الغطاء الصوفي الذي يغطي نديم متلحفا به ..
كيف لم تكتشف البارحة ان نديم قد نام دون غطاء تاركا لها ذاك الغطاء الوحيد بالغرفة !؟.. تذكرت انه كان يتكوم على نفسه فى محاولة لجلب الدفء وكان يستعين بسترته الثقيلة التي لم يخلعها عنه في محاولة للحصول على دفئها والتي خلعتها هى عنه وهى تساعده في الوصول للحمام لخفض حرارته..
نهضت باحثة بعينيها في ظلام الغرفة عن تلك السترة واخيرا وجدتها ملقاة على احد المقاعد .. سارت في حذّر حتى لا توقظه و تناولت السترة مترددة للحظات في ارتدائها .. لكن ذاك البرد كان كفيلا بدفعها لترتديها على عجالة في محاولة للحصول على بعض من دفء يسري بأوصالها لعلها تنام و لو لبضع دقائق فهى لا تعلم ما يخبئه لهما الغد .. فاليوم هما هنا و غدا قد يكونا بمكان اخر و ربما بمحافظة اخرى ..
ما ان تمددت على الأريكة تجذب أطراف السترة الجلدية حول جسدها الا واستشعرت دفء ينساب اليها كأنه السحر .. لم يكن دفءً معتاد بل كان دفء من نوع اخر محمل برائحة عطره التى كانت تختلط بأنفاسها متسربة من بين طيات السترة وكأنما هى اقرب اليه من انفاسه .. انتفضت ما ان استوعبت الي اي منحن اتجهت افكارها .. لم تكن يوما من ذاك النوع العاطفي من الفتيات واللاتي كان يحزنهن الحب ويفرحهن .. وتبكي أعينهن للقاء الاحبة بالأفلام .. و يعتصرهن الحزن على الفراق .. كانت تعد ذاك نوع من السطحية .. و لم تكن تدرك انها ستقابل ذاك الشعور وجها لوجه و تغرق في تلك السطحية حتى اذنيها ..
قررت بعزم خلع السترة حتى تدرأ عنها شبهة الحب او حتى الشروع فيه .. الا ان صوتا يهمهم جعلها تنتفض في اتجاهه ناسية خلعها.. كان نديم قد بدأ يهزى من جديد .. كانت حرارة جبينه المشتعل تؤكد ذلك على باطن كفها الذى وضعته هناك تستطلع الامر .. اندفعت للدواء من جديد .. و همست بالقرب من أذنيه محاولة إعادته للوعى ولو للحظة:- نديم .. نديم .. جوم خد الدوا ..
لايزل يهمهم وهى بدأت فى الشعور بالاختناق .. اختنقت بعبراتها المحزنة بمآقيها وهى غير قادرة على ذرفها عاجزة عن ذلك بشكل لاإرادي .. لكن ما ان تناهي لمسامعها هزيانه باسمها بهذا الشكل حتى انسابت تلك الدموع مسفوحة على صفحتىّ خديها ولم تعد بقادرة على ايقافها .. فقد ادركت اللحظة .. ان ذاك الرجل حرك شيئا ما كان كامنا بأعماق روحها والآن استيقظ كمارد لا سلطان لها عليه .. اعترفت امام جسده المحموم المسجي قبالتها انها ما عادت قادرة على تقييم مشاعرها وتشعر بحالة عجيبة من التخبط والضبابية فى احاسيسها تجاه ذاك الرجل وهى التى كانت تنكر احوال القلوب وتسخر من أصحابها ..
مسحت دمعاتها واقتربت منه ترفع رأسه قليلا ووضعت حبة الدواء بفمه هامسة له وهى تقرب من شفتيه كوب به القليل من الماء:- اشرب يا نديم الدوا .. اشرب عشان خاطري .. فتح عينيه فى تثاقل وارتشف القليل مبتلعا دوائه لتعيد رأسه موضعها على الوسادة وهى تتطلع الي قسمات وجهه الرجولية التى غطاها اللون الأحمر من جراء الحمى .. و بلا وعى منها مدت كفها ومسحت بعض من قطرات العرق المنتشرة على جبينه الواسع.. و سالت دموعها من جديد…
اما كان كافيا رؤيته لها خارج الوحدة الصحية والدكتور طارق يلوح لها مودعا فى أريحية ومحبة أفقدته تعقله وصبت بدمه جمر حارق من صهريج غيرة لم يألفها من قبل مما أورثه حنقا مضاعفا حتى يراها الان وهو يهم بالذهاب اليها قد أوقفها الضابط هاتفا وهو يوقف عربته الميري مترجلا منها:- اهلًا يا دكتورة ..اخبارك .. توقفت ملتفتة اليه وابتسمت في رقة هاتفة بدورها:- ازيك يا حضرة الظابط اخبار حضرتك ايه !؟.. الأمن مستتب !؟..
قهقه لمزحتها هاتفا:- من ناحية مستتب فهو مستتب بالقوي .. و ربنا يخلي لنا عفيف بيه .. ما ان انهى كلمته حتى ظهر عفيف مقتربا ليهمس شريف لها ساخرا:- اهو جه ع السيرة .. حاولت ان تسيطر على اندفاعها و لا تلتفت في الاتجاه القادم منه حتى وصل اليهما هاتفا بلهجة جافة لا تعرف لها سببا:- سلام عليكم .. هتف كلاهما:- وعليكم السلام ..
هتف عفيف موجها حديثه لشريف في رسمية:- ايه الاخبار يا حضرة الظابط !؟.. كله تمام !؟.. ولا في حاچة نخدموك بيها !؟.. هتف شريف مؤكدا:- لا كله تمام يا عفيف بيه والبركة ف حضرتك .. هتف هازا رأسه فى تفهم:- طب تمام .. و ادار نظراته لدلال وهم بسؤالها الرحيل الا ان شريف هتف بدوره و بأريحية كان يمكن ان يفقد قبالتها عمره:- ما تتفضلي أوصلك يا دكتورة .. طبعا البوكس مش قد المقام ... و ابتسم مستطردا:- بس الجودة بالموجودة ..
ما ان همت دلال بالرد على شريف حتى هتف عفيف مجيبا فى لهجة نارية:- ماهو عشان مش جد المجام يا شريف بيه مينفعش تعزم م الاساس .. واستطرد والشرر يتطاير من حدقتيه:- طريجكم مش واحد يا حضرة الظابط ... واستدار متطلعا لدلال هاتفا بلهجة حاول ضبط نبراتها لتخرج اكثر هدوءً:- اتفضلي يا داكتورة .. اتاخرنا ع الخالة وسيلة زمنها حضرت الغدا ..
شعرت دلال بحرج كبير وهى تنظر الى شريف و همت بالاعتذار الا انها لمحت ابتسامة عجيبة مرسومة على محياه لم تعرف لها مدلولا .. هل هى ابتسامة استهزاء!؟.. ام سخرية !؟.. ام ماذا بالضبط!؟.. مما جعلها تبتلع لسانها و هى تسير خلف عفيف فى خطوات واسعة تحاول مجاراة خطواته ..
صعدت الى الكارتة التي صعدها هو قبلها واتخذ موضعه منتظرا استقرارها بموضعها .. مرا على شريف الذي كان لايزل متسمرا مكانه لم يبرحه ولم يعره عفيف حتى إلتفاتة بل على غير العادة اطاح بسوطه الذي ما رأته استعمله قط ليهبط به على ظهر الفرس مصدرا صوتا مدويا جعل الفرس يصهل مندفعا فى طريقه كأن الريح تسابقه..
وصلا للبيت الكبير في لمح البصر فترجلت من العربة تدلف للداخل فى سبيلها لتساعد الخالة وسيلة فى إعداد الطعام الا ان صوتا كالرعد هتف يوقفها:- يا داكتورة ..!؟.. توقفت متسمرة بموضعها واخيرا ألتفتت تواجهه مستفسرة:- خير يا عفيف بيه !؟.. هتف غير قادر على كبح جماح ذاك الشعور المتنامى بداخله منذ وعى لها وهى امام الوحدة الصحية بصحبة الطبيب ومن بعدها مع الضابط:- اعذرينى ف اللي هجوله.. بس دي الأصول .. احنا هنا ف نچع ف جلب الصعيد .. يعنى اللي تعرفوه ف مصر مينفعش هنا ..
هتفت و قد ضافت عيناها متسائلة بتعجب:- وايه اللي نعرفه ف مصر مينفعش هنا يا عفيف بيه !؟.. اظن الأصول والصح مبيتجزأش سواء هنا اوهناك .. هتف محتدا:- حيث كِده .. يبجى اسمحيلى اجول لك ان وجفتك مع كل من هب ودب وضحكك و هزارك يا داكتورة مينفعوش عندينا.. و اذا كان دِه العادى بتاعك .. ف يا ريت ..
هتفت محتدة مقاطعة اياه:- عفيف بيه .. انا مسمحش بالتشكيك ف .. هتف صارخا مقاطعا إياها بدوره و بصوت هز جنبات البيت الكبير وتراقصت لاجله عمدانه:- بلا تسمحي بلا متسمحيش .. جاعدة تسلمي على دِه وتضحكي مع دِه و جال دِه واجف يعمل لك باي باي ..ايه المسخرة دي ! همست مبهوتة فى صدمة:- مسخرة ..!؟..
ساد الصمت .. صمت احد من نصل سكين قاطع .. تطلع اليها و صدره يعلو ويهبط انفعالا وبدت على محياه بودار ندم لما تفوه به و خاصة بعد ان لمح قسمات وجهها الوضاء وقد تحول فى لحظة لشتاء غائم تهدد سحبه السمراء بهطول مطر شَديد الغزارة .. هم بالتفوه بأي كلمة من شأنها تعديل الحال الا انها لم تمهله كالعادة ..فقد اندفعت من امامه كسهم فر من قوسه تاركة اياه مسربل بندم يكاد يورده موارد التهلكة ..
رفرفت اهدابه فى تيه محاولا تذكر اين يكون وهو يتطلع بنظراته فيما حوله حتى ادرك اخيرا انه بغرفة الفندق .. استدار في موضعه قليلا يشعر بتيبس فى فقرات ظهره من كثرة رقاده التي لا يعرف كم طالت ليصطدم بمحياها المجاور له .. تسمر وكاد يوقف رئتيه عن التنفس وهو يراها مكومة بهذا الشكل متلحفة بسترته الجلدية اتقاءً للبرد اما ما تبقى من جسدها فمدفوع تحت الغطاء المشترك بينهما ..
حاول ان يتنحنح مصدرا صوتا ما قد يوقظها مبتعدة الا انه لم يستطع الا التطلع اليها فى فضول .. نظراته كانت تنهب ملامحها الجميلة بشغف وتلهف غير معتاد .. شعرها المحجوب عنه تحت حجابها والذى يذكر انه رأه مرة واحدة وحيدة عندما استيقظت مذعورة فى ليلتهما الاولى معا بعد هروبهما .. من بعدها اعتاد هو كوابيسها و اعتادتها هى بدورها فما عاد ينتفض باتجاه حجرتها لنجدتها كما حدث في المرة الاولى .. و هى ايضا كانت تغلق بابها بأحكام متحملة ذاك الوجع الذى يعتريها من جراء ازعاج أحلامها وحيدة غير راضية عن تدخله .. و قد استوعب هو ذلك و ابتعد فى احترام لرغبتها.
امعن التطلع في طلتها البهية من جديد ليدرك ان بشرتها حنطية صافية مشربة بحمرة خفيفة جراء ذاك الدفء الذى يشملها اللحظة مما منحها مظهرا اشبه بالأطفال .. انفها شامخ و دقيق .. شفتاها .. ازدرد ريقه عند هذه المرحلة من رحلته عبر محياها الناعس وأزاح ناظريه مبتعدا عن التطلع اليها هامسا لنفسه:- ماذا دهاك !؟.. انها قاطعه صوتا داخليا:- انها ماذا !؟.. انها زوجتك ... انت لا ترتكب إثماً .. انها حلالك .. وهى ..
قاطع استرسال خواطره تنهدات من قبلها جعلته ينتفض داخليا وقد دعا الله سرا ان تستيقظ مبتعدة عنه .. و كأن ابواب السماء كانت منفرجة على مصرعيها لترفرف هى بأهدابها وما ان وعت موضعها حتى انتفضت و ما ان همت بالنهوض حتى تذكرت ان حرارته كانت مستعرة منذ ساعات فمدت كف مترددة الى جبينه لتدرك ان الامر على ما يرام .. لكن حاله هو لم يكن على ما يرام ابدا .. لمستها الرقيقة تلك لجبينه فعلت به فعل الأعاصير .
لا يعرف كيف استطاع السيطرة على تلك الرجفة التي اعترته جراءها لكنه تحكم فيها باعجوبة حتى خرجت هى من الفراش فى هدوء حتى لا توقظه فيدرك اين باتت ليلتها واتجهت لتلك الأريكة الضيقة واحتلتها في هدوء منتظرة استيقاظ من اعتقدت انه لايزل غارق فى نومه وهى لا تعلم انه استيقظ من زمن .. استيقظ ليواجه مشاعره المتنامية تجاهها وجها لوجه .. ليدرك ان هنا حيث موضع قلبه شئ ما قد تغير .. و لا يظن انه سيعود كالسابق ابدا..
قرر التخلص من تلك الخواطر الخطرة فسعل قليلا لتنتفض هى من اريكتها فى اتجاهه هاتفة:- انت بخير يا باشمهندس !؟.. مش بجيت احسن ..!؟ هتف مؤكدا و هو يحاول الا تسقط نظراته على محياها الذى سرق منه لمحات عذبة ستظل محفورة بذاكرته دوما و ستورثه أرقاً ليال طوال:- الحمد لله .. و اعتدل فى موضعه مستندا على وسادة خلف ظهره حاولت هى ان تضعها بشكل اكثر اعتدالا الا انه كان الأسرع مؤكدا:- متتعبيش نفسك .. انا مرتاح عليها كده .. ابتسمت في تفهم وابتعدت مما جعله يزفر فى راحة و قد اضحى ابتعادها اكثر مطلبا شَديد الضرورة فى تلك اللحظة .
هتف معاتبا:- خرجتِ لوحدك برضو !؟.. اكدت و هى تشعر بالحرج:- معلش .. اصلك يعنى مين كان هيچيب لك الدوا !؟.. حالتك كانت صعبة .. بس الحمد لله عدت على خير و انت اهاا بخير برضك .. ابتسم لها و غلبت طبيعته المتسامحة هاتفا:- سماح المرة دي .. بس بعد كده متخرجيش لوحدك تانى ولو بموت .. هتفت فى عجالة:- بعد الشر عنك..
صمت للحظات متطلعا اليها و شملها هى الحرج وكسا وجنتيها خجل جعل وجنتيها الشهيتان اكثر حمرة من زهرة جورية .. هتف مازحا يغير الموضوع وهو يزيح ناظريه عن محياها:- طب فين الفطار بقى !؟.. الواحد حاسس انه مكلش من قرن .. قهقهت هاتفة:- كان نفسى اچيب لك خروف .. بس ما باليد حيلة .. أخرنا شوية جبنة وطماطميتين .. ابتسم بدوره:- رضاااا ..
اندفعت تحضر له الافطار وقد عزم داخليا على الرحيل من ذاك الفندق فوجودهما معا تحت سقف حجرة واحدة ينذر بالمزيد من التورط الخطر فى عشق تلك القابعة هناك تحضر له إفطاره البسيط و الذي يعلم انه سيكون مقدما من كفها كأنه الشهد المصفى ..
اربع ليال خلت لا لمح لها طرفا و لا رهفت أذنيه همسها.. اربع ليال عجاف طوال كأيام حزن لا نهاية لها.. اربع ليال انتظر ان يراها و لو صدفة او حتى يخيل اليه رؤياها فذاك الندم على ما تفوه به يتأكله كما تأكل النيران في اشتهاء أعواد حطب جافة ..
فقد الأمل فى مقدرته على رؤيتها فأصبح يقضي معظم نهاره خارج البيت الكبير وليلا يتعذب على فراش من جمر شوق الى ملاقاتها.. كم كبت رغبات كانت تهم بدفعه ليطرق بابها ليلا معتذرا .. و كم وأد من خيالات تراءت له حية امام ناظريه المعلقين بسقف غرفته و عيونه المسهدة لا شاغل لها الا محياها .. وها هو اليوم قد اشرف على نهايته و ما عاد قادرًا على ما تفعل به تلك العزلة التى فرضتها على نفسها غير مدركة انها تعذبه اقسى انواع العذاب وانه نال عقابه على ما تفوه به وزيادة ..
كانت هى بالفعل تنأى بنفسها عن البيت الكبير واى مكان قد يجمعهما.. تحاشت بشكل قاس ان تتواجد فى مكان ما قد يفترض له ارتياده حتى و لو مصادفة .. انها هنا لهدف ما ..لم يتحقق حتى اللحظة .. لكن فى سبيلها لتحقيقها ذاك الهدف لن تتنازل مطلقا عن كرامتها ولن تدعه ينل من كبرياءها او يقوض حريتها .. تناه لمسامعها صوت أنشودة ما تصلها عبر ذاك الجدار الفاصل بين حجرتها ومكتبه العتيق ..
فتحت الباب فى حذّر و وقفت على أعتابه ترهف السمع لكلمات الاغنية لا تعرف لما .. كان ذو ذوق راق في اختيار ما يسمع .. هى تقر بهذا .. أعجبتها الاغنية و راحت ترهف السمع تلتقط كلماتها فى نشوة الا انه على ما يبدو قد اغلق مشغل الاغان…
تنهدت و عادت لغرفتها و بلا وعى منها اعترفت انها اشتاقته .. اشتاقت عينيها لمرأه و التكحل بمحياه .. عزت ذلك للتعود لا اكثر .. لكنها امسكت نفسها متلبسة بالتطلع من شرفة حجرتها فى اتجاه بوابة البيت الكبير مستنتجة انه فى سبيله للخارج .. و صح استنتاجها.. فها هو يندفع خارجا يقفز داخل عربته..
عادت القهقري لداخل الغرفة و قررت الدخول للمكتبة مستغلة غيابه حتى تحصل على بعض الروايات التى قد تعينها على قضاء الوقت بعيدا عن البيت الكبير او حتى الولوج الى المطبخ لمساعدة خالة وسيلة اتقاءً لصدفة مقابلته ..
فتحت باب المكتب في حذّر رغم علمها بانه بالخارج .. و ابتسمت رغما عنها فها هو يثير بها كوامن الخوف حتى في غيابه .. تسللت الى قلب المكتب وبدأت في فحص صف الروايات التى دلها عليه سابقا.. تناولت منها ما ارادت فى سرعة وما ان همت بالعودة من حيث أتت حتى اصطدمت عيناها بذاك الإطار المذهب المعلق على احد الحوائط الجانبية .. تساءلت كيف لم تلحظه من قبل رغم ولوجها الى هنا عدة مرات !؟..
اقتربت فى رهبة ووقفت تنظر الى ذاك الإطار القيم الذى يحيط بتلك الشهادة العلمية .. قرأتها حرفا حرفا.. وهمست:- الدكتور طارق كان عنده حق .. دى شهادة الماچستير ف علم الاجتماع فعلا .. وتذكرت كيف كان يوجها للطرق المثلى للتعامل مع بعض المشكلات هنا وكيف كان يسخر منها لانها لم تراع طبيعة الصعيد وأهله و تقاليدهم وعاداتهم ..
تنهدت ورفعت ناظريها الى الشهادة من جديد وقرأت اسمه فى وجل و وجيب قلبها يتضاعف دون داع .. حتى مجرد ذكر اسمه يفعل بقلبها افعال لا سلطان عليها:- عفيف راغب النعماني .. و كانها استحضرت جن المصباح ليظهر هو مندفعا من باب المكتب من ناحية البيت الكبير ما ان أنهت ذكر اسمه بهذا الشكل الساحر الذي كانت تنطق به بلا وعى منها..
انتفضت هى فى ذعر لدخوله الاعصاري ذاك حتى ان ما كانت تحمله من روايات سقط ارضا بالقرب من قدميها .. اما هو فلم يكن باحسن حالا منها .. فما ان طالعه محياها المذعور ذاك كغزال مضطرب امام قوس صياد حتى انتفض قلبه ما بين أضلعه يئن فى وجع .. اشبه بغائب عن الوعى ألقى على محياه الماء المثلج فجأة لينتفض مستفيقا من رقاده يرتجف طالبا الملاذ ..
تنحنح كعادته عندما يحاول استجماع نفسه المبعثرة فى حضرتها هاتفا فى لهجة هادئة:- السلام عليكم يا داكتورة .. قررت الاندفاع مبتعدة حتى انها لم تع انه ألقى التحية وعليها ردها .. انتفض مندفعا على غير طبيعته يقف فى طريق باب الخروج هاتفا:- السلام لله يا داكتورة .. لم ترفع ناظريها لتقابل نظراته المشتاقة .. ليهمس هو فى نبرة هادئة جعلتها رغما عنها ترفع نظراتها المعاتبة لملاقات نظراته المعتذرة:- لسه واخدة على خاطرك من الكلام اللى جولته ..!؟
لم ترد ليهمس مستطردا:- انا بس .. كنت يعني .. كانت نظراتها تستحثه على الاسترسال وكانت المرة الاولى التى تراه فيها بهذا الأضطراب .. بالطبع فعفيف النعمانى لا يعتذر مطلقا .. ايخطئ من الاساس !؟.. كادت ان تبتسم ساخرة الا انه اذهلها عندما هتف فى ثبات:- حجك علىّ يا داكتورة .. انى بس مش حابب حد يجول كلمة او يطولك بحرف .. اللى يمسك يمسني.. ثم استطرد في عجالة:- انتِ ضفتي ..
هتفت اخيرا:- اكيد طبعا .. انا مجرد ضيفة يا عفيف بيه .. و الضيف لازم يلتزم بقواعد اصحاب البيت ... و اكيد انت متحبش حد يمسك بكلمة من تحت راسي .. هتف متعجبا:- لاااه .. مش دِه الجصد .. اجصد يعني.. ملوش لازمة الوجفة والحديت مع رچالة ف جلب النچع... و دِه يجول ودِه… قاطعته هاتفة في سخرية:- يعمل باي باي ..
ابتسم محرجا وغض الطرف رغما عنه وهمس اخيرا:- دِه انتِ زعلك واعر .. ابتسمت رغما عنها فتشجع هاتفا:- خلاص بجى .. صافي يا لبن .. هزت رأسها ايجابا هاتفة:- حليب يا قشطة .. همت بالاستئذان الا انه هتف وهو يندفع الى تلك الروايات التي أسقطتها لحظة دخوله المفاجئ:- رايحة وسايبة الروايات دي لمين!؟..
حملها بين كفيه وناولها إياها .. تناولتها فى أريحية وهتفت و هى تشير لشهادته العلمية:- انت واخد ماچستير في علم الاجتماع .. ليه مكملتش واخدت الدكتوراه!؟.. ابتسم عفيف وهو يتطلع لشهادته العلمية المعلقة على ذاك الجدار منذ أعوام طويلة وتنهد وهو شارد في كل حرف بها:- مكنش ينفع .. شعرت بعمق الأسى الذي يعتريه اللحظة .. كانت تستشعر انه بين رغبتين متناقضتين كأنهما قطبي مغناطيس .. فهتفت فى فضول اصبح معتادا لكل ما يمت لعفيف النعمانى بصلة:- ليه !؟.. حد ياخد ماچستير بامتياز مع مرتبة الشرف وميكملش .. دي سابقة من نوعها..
اكد وهو يبتعد عن اطار شهادته المعلق هاتفا:- عشان دي كانت أوامر الحچ راغب النعماني .. و اوامره كانت سيف على رجبتي .. هتفت متعجبة:- والدك !؟.. و ايه اللي يخلى والدك ياخد قرار قاسي كِده ومعارض لرغبتك !؟.. ابتسم عفيف في شجن هاتفا:- عشان كان شايف وواعي للي محدش واعيله .. هتفت متعجبة:- مش فاهمة !؟..
اكد عفيف متطلعا الى الفراغ امامه في شرود:- جالهالى يومها .. سبتك تاخد الماچستير على هواك .. اكتر من كِده مش هينفع .. لو بجيت داكتور ف الچامعة هتروح ف السكة دي ومش هترچع .. ساعتها مين هيكون للنعمانية من بعدي و اني مخلفتش رچالة غيرك !؟.. يا الداكتوراه .. يا النعمانية .. واستفاق من شروده هامسا وهو يتطلع اليها:- و كانت النعمانية .. هتفت دلال متسائلة:- مندمتش!؟..
اكد عفيف فى صدق:- ولا لحظة يا داكتورة .. اللي بناه چدى وتعب فيه ابويا واچب علىّ صونته .. و أديني بحاول .. وابتسم في رزانة مع كلمته الاخيرة تلك الابتسامة التي لا تظهر الا في مناسبات خاصة جدا والتي اصبحت تحفظ تفاصيلها ودوما ما تحرك شئ ما بالقرب من معدتها يورثها اضطرابا حاولت مداراته هامسة:- عن اذنك يا عفيف بيه .. و متشكرة ع الروايات .. واندفعت من امامه تلوذ بحجرتها وهى لا تعلم لما اصبح عليها مؤخرا الهرب من ذاك الرجل الذي قلب موازين ثباتها رأسا على عقب!؟…
رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر
بعنوان ( براءة )
كانت قد شارفت على الانتهاء من معظم الاستشارات التى جاءتها بها النساء بعد طول غياب وما ان همت بغلق باب غرفة الكشف حتى تناهى لمسامعها جدلا دائرا بالقرب من الباب الخارجى .. طلت برأسها فى اتجاه اللغط الدائرهناك لتلمح امرأتين و بجوارهما رجل يجادلها في عصبية و ضيق وما ان همت بالخروج اليهم حتى كانوا هم الأسبق وتوجهت النساء باتجاهها وبجوارهن فتاة صغيرة لم تتعد الحادية عشرة من عمرها ..
ألقين السلام فى اضطراب فردت دلال السلام و سمحت لهن بالدخول .. كان الرجل لايزل بالخارج ينتظرهما بفارغ الصبر .. جلست النساء وقد بدأن في التخفف من حمل برداتهن القاتمة لتهتف اكبرهن سنا بلهجة متسلطة امرة:- مش انتِ الداكتورة اللي چت من مصر !؟.. لم تنتظر جوابا بل استطردت بنفس اللهجة .. عايزينك تطهريلنا البت دي ..
اشارت للفتاة الصغيرة الضئيلة الجسد والضعيفة البنية التي كانت تجلس منكمشة بالقرب من المرأة الاخرى التي كان يبدو عليها الاستكانة و الاستسلام حتى انها لم تنطق حرفا .. نظرت دلال في صدمة للمرأة المتعالية اللهجة هاتفة في ذعر:- ختااان !؟.. بس البنت ضعيفة وممكن متستحملش وبعدين لازم يبقى في ضرورة طبية لعملية ذي دي .. لان ممكن ضررها يبقى اكبر من نفعها ..
هتفت المرأة من جديد:- بجلك ايه يا داكتورة !؟.. هاتعمليها ولاااه نروحوا لحد غيرك .. اى داية تعملها و نخلصوا.. ونظرت للمرأة المستسلمة والتي كان يبدو انها ام تلك الفتاة الصغيرة هاتفة في حنق:- اني عارفة ايه كان لزمته وچع الجلب دِه !؟.. جال دكاترة و معرفش ايه !؟.. ما كانت ام حبشي الداية خلصتنا ف ساعتها ..جلع ماسخ..
كظمت دلال غيظها رأفة بالفتاة الصغيرة وحتى يتسنى لها فحصها فهتفت بهن مؤكدة:- متقلقوش انا هعمل اللازم .. و امسكت دلال بكف الصغيرة التي تشبثت بذراع امها التي همهمت في محاولة لطمأنة ابنتها:- روحي معاها يا بتي .. روحي متخافيشي .. تحركت الفتاة في طاعة خلف ستار الفحص وما ان اصبحت دلال معها بمفردها حتى همست وهى تربت على كتفها في حنو:- متخافيش .. مفيش حاجة هتأذيكي .. انا مش ممكن اخليهم يضروكي ابدا ..
ابتسمت الفتاة السمراء الصغيرة في راحة واستكانت ملامح وجهها للمرة الاولى منذ وصولها .. لم يكن من السهل على دلال ادراك عدم حاجة الفتاة لمثل تلك الجراحة العقيمة لكن كان عليها ان تثبت ذلك لأهل الفتاة انقاذا لها .. خرجت دلال من خلف ستار الفحص هاتفة فى تأكيد:- البنت مش محتاجة لعملية ذي دي .. البنت ممكن اصلا متستحملهاش .. دى ضعيفة قووى ..
هتفت المرأة المتسلطة عالية الصوت بغضب في ام الفتاة:- اني جلت بلاها دكاترة .. والمحروس ولدي عام على عومك .. أدي اللي خدناه من شورتك .. نسوان عايزة الحرج .. هتفت دلال بحنق بالغ لم تستطع التحكم به اوالسيطرة عليه:- بقولك البنت ضعيفة .. واللي هتعملوه ف حق البنت جريمة .. و انا مش هسكت وهبلغ عنكم البوليس لو حد قرب للبنت او ضرها ..
انتفضت المرة السليطة اللسان من مكانها هاتفة متجاهلة الرد على دلال بل وجهت كلامها لزوجة ولدها:- أدي اخرتها يا معدولة .. وادي اخرة اللي يمشى ورا شورة الحريم .. جومي ياللاه بينا جامت جيامتك .. نظرت المرأة المستكينة الى دلال نظرة تحمل كم لا بأس به من الوجع وكم مساوٍ من الاعتذارعلى اسلوب حماتها الفظ وهتفت تستدعى ابنتها من خلف ستار الفحص الذي كانت تختبئ الفتاة خلفه متحاشية ثورة جدتها:- ياللاه يا براءة..
تحركت الفتاة من خلف الستار لتسير في اتجاه امها مغلوبة على امرها و تطلعت الى دلال فى نظرة تحمل الكثير من القهر ونداء موجع يستغيث بها حتى تنقذها من براثن عادات بالية يجرمها العالم .. هتفت دلال للفتاة ف حنو:- اسمك براءة !.. الله .. اسمك جميل قووى..
ابتسمت الفتاة في رقة وهى تطأطئ رأسها بحياء .. وضعت كفها بكف امها وسارتا خلف المرأة الأكبر سنا والتي اندفعت خارج حجرة الكشف دون حتى إلقاء التحية .. نظرت دلال فى اتجاهه البوابة لتجد المرأة العجوز تلك تتشاجر فى غضب مع ولدها .. لم يكن يصلها ما يقولونه و لكن لم يكن من الصعب عليها استنتاج فحواه .. تجاهلتهما دلال تماما وعيناها مسلطة على الفتاة الصغيرة التي أدارت وجهها فى اتجاه موضع وقوفها و اشارت اليها مودعة من طرف خفي حتى لا يلحظها احدهم .. ابتسمت دلال فى سعادة وهى تلوح للفتاة محاولة بدورها ان لا يلمحها احد من اهلها والتي اصبحت منذ اللحظة عدوتهم اللدود .. و خاصة تلك العجوز الجبارة التي تتعامل كانها الحاكم بأمره..
تنحنحت وهى تطرق باب غرفته داخل نقطة الشرطة التي يشرف على تحقيق الأمن داخل النعمانية من خلالها .. هتف شريف من الداخل معتقدا انه عسكري الخدمة الخاص به:- اتفضل .. من امتى الادب ده ياخويا !؟..
كان مندمج في تجميع بعض الاوراق والملفات الهامة من فوق مكتبه وهتف دون ان يلتفت للقادم يستوضح شخصه:- نعم !؟.. عايز ايه يا عملي الأسود ..!؟.. كان يقصد شاويشه الذي دوما ما يواتيه بالأخبار المشؤومة ولم ينتبه الى القادم الا عندما علت قهقهاتها رغما عنها مما جعله ينتفض مستديرا وما ان تنبه لوجودها حتى ابتسم متحنحا في احراج:- اهلًا يا دكتورة .. اتفضلي ..
هتفت دلال والابتسامة لا تزل مرسومة على محياها:- واضح انك مشغول وانا مش هعطلك .. هتف شريف وهو لايزل يجمع الأوراق على عجالة:- لا مش حكاية شغل يا دكتورة لانك اكيد جاية هنا عشان شغل .. بس اصل انا نازل اجازة حالا دلوقتي .. هتفت فى قلق:- طب نازل اجازة يبقى مبسوط وانا شايفة غير كده..
هتف شريف بنبرة صوت مضطربة:- صح .. اصل خالتي بلغتنى ان امي تعبانة وفي المستشفى .. شهقت متعاطفة:- الف سلامة عليها .. خير مالها !؟.. هتف شريف:- ابدا هو قلبها اصلا تعبان شوية .. يا رب يبقى خير .. هتفت دلال تحاول المساعدة:- طب انا ممكن اكتب لك اسم دكتورة زميلتي ممتازة وده تخصصها .. هكتب لك اسم المستشفى وعيادتها كمان ..
وتناولت احدى الاوراق وقلم و بدأت على عجالة فى كتابة رسالة لزينب صديقتها وناولتها اياه مؤكدة:- اتفضل يا حضرة الظابط.. هى بتشتغل في مستشفى … و هتفت باسم المستسفى وعنوانها .. فهتف شريف متعجبا:- دي نفس المستشفى اللي فيها ماما .. دي اقرب مستشفى لبيتنا .. ابتسمت دلال:- سبحان الله .. طب كده تمام قووي .. اديها بس الجواب ده وهى هتعمل اللازم ..
ابتسم شريف ممتنا:- متشكر يا دكتورة .. بس مقلتيش كنتِ جاية ف ايه !؟.. خير ..!؟.. هتفت دلال متنهدة:- خلاص بقى يا حضرة الظابط .. يا دوب اسيبك تشوف ترتيبات سفرك للوالدة ربنا يقومها بالسلامة .. ونهضت مودعة وهى تهمس فى حزن:- بس ع الله لما ترجع يكون فى فرصة تدخل من اساسه ..
خرجت من الحمام وما ان وقع ناظرها عليه حتى هتفت فى تعجب:- على فين !؟.. انت لسه تعبان.. هتف وهو يكمل احكام غلق سترته الجلدية حول جسده اتقاءنا للبرد بالخارج:- زهقت م الراقدة .. بقالي كام يوم راقد ف السرير .. لو قعدت اكتر من كده هعيا بجد و كمان اجيب حاجة ناكلها بدل الجبنة اللي تعبتنا دي و ..
تردد قليلا قبل ان يستطرد هاتفا:- وهكلم دلال اشوف أخبارها ايه .. زمنها رجعت من المؤتمر اللي سافرت له ده المفروض انها رجعت بقالها كام يوم وبالمرة اقولها اني مش هنزل اجازة لفترة عشان متقلقش عليا لحد ما نشوف الدنيا هتودينا على فين .. اومأت برأسها تفهما ولم تنبس بحرف واحد لذا اندفع خارجا وقبل ان يغلق الباب بأحكام خلفه سأل هاتفا:- مش عايزة حاجة اجبهالك معايا !؟.. هزت رأسها نفيا وهتفت:- عايزة سلامتك .. بس متتأخرش عليا عشان بخاف اجعد لوحدي .. ابتسم في مودة واومأ برأسه موافقا.. ثم رحل ..
اغلقت باب غرفة الكشف بعد ان وعت لسعدية زوجة مناع بانتظارها خارج البوابة الخلفية كما اتفقتا .. اندفعت كلتاهما لوجهتهما المشتركة فقد قررت ان تواجه ذاك الجهل و تحاربه في عقر داره وتقضى على أدواته .. انحدرتا التلة المقام عليها دار النعماني وسلكتا طرقا ضيقة حتى وصلا لذاك الدار الطيني المبني من طابق واحد والمقام على أطراف النعمانية وهمست سعدية مؤكدة:- هو دِه يا داكتورة بيت الداية ام حبشي ..
وما ان همت بالاندفاع للطرق على باب الدار حتى استوقفتها سعدية هاتفة في قلق:- لساتك يا داكتورة عايزة تعملي اللي ف راسك برضك!؟.. دي ولية جوية و شرانية .. هتفت دلال:- ايوه لازم ومش هتراجع ولو فيها ايه .. وبدأت دلال في الطرق على باب الدار الخشبية المتهالكة بعد ان ابتعدت سعدية تختبئ خلف شجرة ضخمة بالقرب من الدار..
انفرج الباب بعد فترة قصيرة عن امرأة طويلة القامة سمراء البشرة ضخمة الجثة ممتلئة القوام متشحة بالسواد من قمة رأسها حتى اخمص قدميها باختصار امرأة طلتها مقبضة للنفس.. تنفست دلال في عمق مستجمعة شجاعتها هاتفة في ثبات:- انتِ ام حبشى الداية ..!؟.. هتفت المرأة بصوت أجش اقرب لصوت الرجال:- ايوة .. انتِ مين يا شابة !؟.. هتفت دلال فى هدوء:- طب مش هتقوليلي اتفضلي الاول !؟..
هتفت ام حبشى في ابتسامة صفراء:- اه طبعا احنا نعرفوا الأصول والواچب .. و بعدين شكلك چاية ف حاچة كَبيرة .. ربنا يسترع الولايا كلهم .. كادت دلال ان ترفع كفها لتلطم وجه تلك المرأة الحقيرة على ذاك الاستنتاج الأحقر لكنها تمالكت أعصابها وأظهرت ظبطا للنفس فاق احتمالها وتساءلت هل تلك المرأة ستقبل ما هى مقدمة على عرضه عليها !؟.. صمتت لحظات واخيرا هتفت من جديد محاولة الخروج من حالة اليأس التى انتابتها قبل حتى ان تبدأ:- بصي يا ام حبشي .. انا الدكتورة دلال المصري .. مش عارفة سمعتى بيا ولا ..
قاطعتها ام حبشي هاتفة بنبرة بها الكثير من الغل:- اهلًا .. طبعا سمعت .. و أديني اتشرفت كمان .. تنهدت دلال هاتفة:- طب كويس انك سمعتي .. ده هيوفر علينا كتير .. انا جاية اعرض عليكِ عرض هينفعك وهتكسبى من وراه .. هتفت ام حبشى ساخرة:- چاية تنفعيني !؟.. اني مشفتش من بعد مچيتك اي مُصلحة .. اكدت دلال تحاول استمالتها:- ما هو انا جاية عشان كده .. عشان حاسة ان وجودى اثر على اكل عيشك .. فقلت ليه متشتغليش معايا وتحت اشرافى وليكي اللي تطلبيه!؟..
قهقهت المرأة متهكمة:- اشتغل معاكِ !؟.. بطلوا دِه واسمعوا دِه .. انتِ عارفة اني بولد حريم النچع من ميتا !؟.. من جبل ما انتِ تتولدي يا داكتورة .. يعني عِندي كد اللي اتعلمتيه ف الچامعة و الكتب بتاعتك عشر مرات .. ابتسمت دلال هاتفة فى هدوء:- ربنا يزيدك يا ستي .. وانا عارفة ان عندك خبرة .. بس خبرتك مع شوية العلم اللي طلعت بيهم م الكتب ممكن تفيد الستات هنا ف النجع .. ليه نبقى ضد بعض لما ممكن نساعد بعض !؟..
هتفت ام حبشي وهى تتجه لباب الدار تفتحه:- شرفتي وانستي يا داكتورة.. ابجي كرريها .. تأكد لدلال ان مسعاها قد خاب فتنهدت ونهضت تعبر باب الدار للخارج حتى استدارت تواجه ام حبشى من جديد هاتفة فى محاولة اخيرة:- مش هعتبر ده ردّك النهائي .. فكري تاني يمكن تغيري رايكِ .. اقترب عفيف بعربته من حدود النجع وها قد طل على مشارفه عندما لمح سعدية زوجة مناع تقف منتصبة في استنفار خلف تلك الشجرة الضخمة كأنما تترقب وصول شخص ما ..
تعجب مما يحدث و توجه ناظره الي حيث تلقى بنظراتها المضطربة.. و ها هو يرى دلال تخرج من بيت تلك المرأة المشؤومة ام حبشي والتي مات على يديها من نساء النجع اكثر مما عاش .. لقد كادت تودى بحياة سعدية نفسها في ولادة ابنتها الثانية.. لكن ماذا تفعل الدكتورة عند تلك المرأة يا ترى !؟.. تساءل متعجبا وهو يترجل مقتربا من الدار و قد سمع دلال تدعوها للتفكير مرة اخرى في امر ما .. ما ذاك الامر الجلل الذي قد يجمعها..!؟..
هتفت ام حبشي خلف دلال وهى ترحل مبتعدة في طريقها لسعدية:- مش هغير رأيي يا داكتورة .. و مظنيش هاياچينى خير من تحت راسك ولا هشوف منفعة طول ما انتِ هنا ف النچع .. ظهر عفيف اخيرا صارخا فى صوت كالرعد:- ام حبشي !؟.. ارتعدت المرأة وتطلعت الى محيا عفيف الذي ما ان وعت لظهوره المفاجئ ذاك حتى تحولت من هذا الجبروت الذي كانت تتمثله منذ دقائق الي امرأة اخرى تماما تدعي المسكنة والوداعة تطأطئ رأسها في مذلة هاتفة في صوت مرتبك:- امرك يا عفيف بيه ..
اقترب عفيف من المرأة هاتفا فى لهجة قاسية:- تعرفي !؟.. انت لولا ما انك مرة كبيرة وكد امي كنت عِملت الواچب معاكِ .. الداكتورة ضيفتي .. عارفة يعنى ايه تجولي اللي جولتيه ده لضيفة عفيف النعماني !؟.. انتفضت المرأة تحاول الدفاع عن نفسها:- لااه .. و الله ما اجصد يا عفيف بيه !؟.. ضيوفك على روسنا من فوج بس اصلك .. هتف عفيف بصرامة منهيا الحوار العقيم:- انتهينا.. و يكون ف معلومك .. مچية الداكتورة لحدك دي ليها تمنها.. و اجل حاچة تتعمل انك توافجي ع اللي طلبته منيكِ .. ولا ايه !؟..
همست ام حبشي في نبرة تحاول ان تداري ذاك الحقد الذى يقطر منها:- بس يا عفيف بيه !.. يعني .. هتف عفيف مؤكدا:- خلصنا يا ام حبشي .. سلام عليكم .. هتف عفيف بالتحية واندفع في اتجاه عربته مارا بدلال التي ما ان حازاها حتى همس امرا:- اتفضلي يا داكتورة ع الكارتة أوصلك المُندرة ف طريجي .. واستمر فى طريقه صاعدا الكارتة منتظرا قدومها ممسكا بلجام فرسه متأهبا للانطلاق مبتعدا ..
أشارت هى لسعدية من طرف خفي ان ترحل في هدوء وصعدت العربة بجواره كالمعتاد ليهز اللجام لتتحرك العربة ويشملهما الصمت للحظات .. حتى هتفت اخيرا متسائلة:- عجيب انك تضغط على ام حبشي تقبل باللي عرضته عليها رغم انك متعرفش انا عرضت ايه .. وحتى مسألتش !؟.. اكد في هدوء دون ان يحيد بناظريه عن الطريق:- واسأل ليه ..! انا متأكد انك هتعرضي عليها اللي فيه المصلحة للكل ..
ابتسمت رغما عنها فى بلاهة تكاد تطير فرحا لمجرد إظهاره الثقة بها وبما تتخذه من قرارات .. تطلعت للطريق الأخضر على جانبى العربة واستنشقت في عمق ذاك الهواء المحمل بعبق خاص لن تجده الا هنا واكدت لنفسها ان ذاكرتها ستظل تحفظ ذاك العبق الأخضر المحمل بأديم الارض البكر ما حيت ..
لم يستطع كالعادة ان يغض الطرف عنها وهى بهذا الكم من البراءة و ذاك القدر من العفوية والكاف تماما لتدمير ثباته في ثوان مهما ادعى قدرته على الصمود .. وسأل محاولا إلهاء افكاره و خواطره عنها قليلا:- بس انتِ ليكي ايه عند المرة السو دي عشان تروحيلها يا داكتورة !؟.. لو كنتِ جولتيلى كنت چبتها لحد عِندك .. هتفت سعيدة بتجاذب أطراف الحديث وايجاد الفرصة لتستطلع رأيه فيما فعلت فهى عاجلا ام آجلا كانت لابد ان تخبره:- انا فكرت انها بدل ما تبقى منافس ليه متبقاش شريك !؟..
هتف عفيف وقد ضاقت عيناه مستفسرًا رغم استنتاجه المراد:- بمعنى !؟.. هتفت دلال شارحة في حماسة:- يعنى ليه اسبها تعمل مصايب عشان خاطر الفلوس لما ممكن اخليها تشتغل تحت عينى وبإشرافي و تاخد الفلوس اللي هى عيزاها .. المهم ف الاخر اننا نكف أذاها عن ستات النجع وبناته .. كانا قد وصلا بالفعل امام البوابة الرئيسية للبيت الكبير فترجلا من العربة وسارا معا حتى باب المندرة تركها تفتح بابها في أريحية بمفتاحه الذي لا يفارقها وهم بالرحيل لتستوقفه هى هاتفة فى تعجب:- ايه!؟..مقلتليش رأيك يا عفيف بيه!؟.. اللى عملته ده صح ولا غلط!؟..
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مهلكة ولمعت عيناه ببريق فخر وهمس بنبرة اذابتها حرفيا:- اتغيرتِ كَتير جوى يا داكتورة .. همست بصوت متحشرج تأثرا:- اتغيرت !؟.. تطلع اليها من جديد وهم بالرحيل الا انها استوقفته من جديد مصرة على سماع رأيه هاتفة:- برضو مسمعتش رأيك !؟.. هتف مقهقها:- كل دِه ولسه معرفتيش رأيي !؟..
واندفع مبتعدا تاركا إياها تغمرها سعادة عجيبة وفرحة من نوع خاص ..فلقد اختفى عفيف الساخر ذاك والذي كان يمطرها بالتهكم على افعالها التي كانت تحاول بها تغيير واقع النعمانية المرير وانارة طريق الجهل الوعر ببعض من مشاعل علم لتطمث معالمه التي حفرت اثارها طوال سنين غابرة .. هى على الطريق الصحيح واخيرا بدأت في ادراك كيفية التعامل مع معطيات تلك البيئة التي تحيطها و الاستفادة منها لتحقيق افضل نتائج ممكنة .. هو يدرك ذلك جيدا وهذا بات يسعدها وخاصة دعمه بهذه الابتسامة القاهرة وتلك النظرة البراقة التي لمحت بها شعورا من نوع خاص .. وكان ذلك كافيا لها و زيادة ..
اندفع شريف لداخل حجرة المشفى و ما ان طالعه محيا امه الراقدة على فراش المرض حتى توجه اليها هاتفا فى لوعة:- ماما .. انتِ كويسة !؟... ابتسمت امه الحاجة شريفة فى محبة هاتفة:- يا حبيبي مفيش حاجة .. متقلقش كده .. دول شوية تعب وهيروحوا لحالهم .. اقعد بس خد نفسك .. جلس على اقرب مقعد للفراش متنهدا في راحة:- انا اول ما خالتي كلمتني جيت جرى .. هتفت الحاجة شريفة:- شوف وانا اللي موصياها متخضكش !..
هتف شريف معاتبا:- هو انتِ كمان مكنتيش عيزاها تقولي !؟.. ده برضو ينفع يا ماما !؟.. هتفت الحاجة شريفة في حنو:- و الله يا شريف مكنتش عايزة اقلقك عليا .. انا بقيت ذي الفل اهو .. نهض شريف من موضعه هاتفا:- طب انا هروح اشوف الدكتور اللي متابع حالتك و اشوف ايه الاخبار .. هتفت امه:- طب يا حبيبى خد نفسك .. ده انت شاكلك لا كلت ولا نمت .. اكد شريف:- اه و الله انا مطبق من امبارح ..
وابتسم مستطردا في مزاح وهو يقبل جبينها:- بس فداكِ انتِ يا حجوج يا قمر .. قهقهت امه في سعادة بينما اندفع هو باحثا عن الطبيب المعالج .. وتذكر في طريقه اسم الطبيبة التي أوصته الدكتورة دلال بالمرور عليها مرسلة لها التحية والتوصية لامه وكذا تلك الرسالة التى بعثتها معه أمانة لتصل لكفها شخصيا .. سأل احدى الممرضات وهو يعبر الممر المفضى لحجرة الأطباء:- لو سمحتي !.. الدكتورة زينب عبدالحكيم ألاقيها فين !؟..
اكدت الممرضة:- الدكتورة زينب لسه مجتش .. و مش عارفة اذا كانت هتيجي النهاردة و لا لأ .. هز رأسه في تفهم وانصرف عائدا لحجرة امه ليجد السرير خاليا .. تنبه لخالته التى وصلت للغرفة فسألها فى قلق:- ازيك يا خالتي !.. هى ماما راحت فين ده انا لسه سايبها !؟..
ابتسمت خالته في هدوء:- ازيك يا شريف يا حبيبي حمدالله على سلامتك .. متقلقش شريفة ف الحمام .. تعالى كوول لك لقمة .. سربت الاكل ده من الأمن تحت بالعافية .. محشي يستاهل بقك .. قهقه شريف هاتفا:- سربتيه !؟.. انا عرفت دلوقتي انا جبت الحس الأمنى منين يا خالتي !؟..
قهقهت خالته هاتفة:- يخرب عقلك يا شريف .. و الله الواحد بتوحشه خفة دمك دي .. تعالى بس كول .. مش هتندم .. تمدد شريف على فراش امه هاتفا بوهن:- لا يا خالتى مليش نفس .. امدد جسمي بس لحد الحاجة ما تطلع م الحمام .. انا عارفها هتقعد لها بتاع ساعتين جوه أكون انا كوعت فيهم .. قهقهت خالته على اقواله وتركته يتمدد على الفراش فى أريحية ..
دخلت هى الغرفة في هدوء متطلعة حولها لجو الغرفة الذى يلفه السكون والصمت .. توجهت بهدوء الي مؤشر الحالة المعلق على واجهة الفراش .. قرأته فى عجالة و توجهت للمريض الممدد على الفراش تمسك بمعصمه تفحص نبضه في احترافية .. وفجأة .. و بدون سابق إنذار وجدت نفسها تطير للأعلى لتسقط ممددة على الفراش في موضع المريض الذي أنتفض منقضا ومشرفا عليها بجسده المفتول العضلات صارخا في ذعر:- مين !؟..
هتفت بأحرف ترتعش:- اهدى و الله ما في حاجة .. هتف مضطربا ومشوشا:- انتِ مين !؟.. اكدت في عجالة:- أنا الدكتورة زينب والله العظيم .. تطلع شريف حوله في تيه واضح و تذكر انه بحجرة المشفى ممددا على فراش امه .. وأنار في عقله الاسم .. أقالت انها الدكتورة زينب ..!؟.. تطلع اليها من جديد واخيرا عاد اليه وعيه كاملا وهى تهتف تحاول تهدئته:- ارتاح .. شكلك تعبان فعلا..
ابتعد عنها لتنتفض هى منتصبة بعيدا عن الفراش تعدل من هندامها وثبات غطاء رأسها ليعاود هو الهمس مدعيا المرض:- ايوه .. انا فعلا تعبان .. انا تعبان قووي .. ترددت قليلا واخيرا مدت كفها اعلى كفه تقيس نبضه الذي ما أعطاها الفرصة سابقا لقياسه همست بعد قليل:- فعلا ضربات قلبك عالية .. اكد فى ادعاء:- شفتي .. ده انا تعبان ع الاخر والله ..
تركت كفه فتأسف داخليا متمنيا الا تتركها ابدا وهم بالتشبث بها لولا بعض تعقل بينما توجهت هى مرة اخرى لمؤشر الحالة تتعجب من التشخيص المكتوب والمدون بها عن الحالة محل العلاج الغير معنونة باسم المريض على غير العادة .. حتى ان الطبيب المتابع للحالة غير متواجد بالمشفى لسؤاله وجاءت هى للمتابعة نيابة عنه .. همست رغما عنها في حيرة:- غريب .. هو التشخيص اللي غلط و لاه انا اللي ..
واتجهت اليه مرة اخرى هاتفة و هى تضع سماعة الفحص على اذنيها:- اسمح لي افحص حضرتك!؟.. تمدد في أريحية هاتفا:- انت تعملي فيا اللي انتِ عوزاه.. اعتبريني حقل تجارب تحت امر سعادتك .. ما ان همت بوضع سماعتها على صدره حتى دخلت امه متوكزة على ذراع خالته بعد ان تركتا له الغرفة عندما استغرق في النوم وتوجهتا للكافتيريا وما ان طالعهما المنظر حتى نظرت كل منهما للأخرى و انفجرت في الضحك بشكل هيستيري ..
تعجبت زينب مما يحدث وتطلعت للجميع في دهشة وفضول لمعرفة سبب هذه السعادة المنتشرة بالعائلة الكريمة .. لكن اذا عُرف السبب بطُل العجب فقد هتفت الحاجة شريفة لولدها:- انت مفيش فايدة فيك يا شريف!؟..مش هتبطل مقالبك دي ابدا ..!؟.. اعادت زينب نظراتها مرة اخرى لمريضها بعد كلمات تلك السيدة المنشرحة لتجده ينهض في عافية كاملة يعدل من هندامه وابتسامة بريئة ترتسم على شفتيه في أريحية و بدأت تدرك ذاك الفخ الاحمق الذي أوقعها به فنظرت اليه شذرا ليهتف وهو يمد كفه مرحبا فى سعادة جمة وكأنه ما وضعها منذ لحظات في موقف لا تحسد عليه جعلها اشبه ببلهاء:- اهلًا يا دكتورة.. نقيب شريف عبدالواحد..
لم تمد كفها ردا على تحيته بل هتفت في ضيق:- اه .. و سيادة النقيب جاى يتسلى هنا بقى !؟.. شعر بالحرج وما ان هم بالرد حتى هتفت امه في نبرة معتذرة:- معلش يا دكتورة متخديش على خاطرك .. شريف ميقصدش .. اكد شريف هاتفا:- فعلا مقصدش يا ماما .. انا واحد نايم ف امان الله لقيت واحدة ذي القمر .. اقصد ذي الغفر .. اقصد لا ذي القمر ولا نيلة .. ماسكة أيدي وبتقولي قلبك و نبضك وكلام كده م اللي يدوخ ده .. طب بزمتك اعمل ايه انا !؟..
قهقهت خالته و امه مع وجوم من زينب ليستطرد مازحا:- لقيت نفسها ف مريض تكشف عليه .. قلت يا واد يا شريف الشرطة ف خدمة الشعب .. قمت مطوع .. يبقى غلطة مين !؟.. هتفت زينب مصدومة:- نفسها ف مريض !؟..
علت ضحكات امه وخالته كالعادة بينما تصنعت هى الجدية هاتفة:- حصل خير .. عن اذنكم .. واندفعت هاربة من الغرفة فما عادت قادرة على تصنع ذاك العبوس الذي ترسمه على محياها بصعوبة بالغة .. عاتبته امه هاتفة:- شكلك زودتها يا شريف وزعلت البنية منك .. هتف متسائلا:- تفتكرى يا حجوج!؟..
اومأت امه ايجابا ليندفع بدوره خارج الغرفة محاولا اللحاق بزينب التى ما ان ابتعدت عن الغرفة حتى أطلقت العنان لقهقهاتها والتي امسكتها متصنعة الجدية من جديد تحاول مداراة نظراتها الباسمة بكل الاتجاهات حتى لا تفضحها بعد ان توقفت اثر سماعها لصوته ينادي عليها فأستدارت لتواجهه هاتفة فى حنق:- أفندم .. هتف معتذرا:- انا اسف بجد .. و أرجو ان حضرتك متكونيش زعلانة ..
اكدت فى هدوء جدي:- حصل خير.. تنبه اخيرا ليهتف في تساءل:- صحيح ..!؟.. مش حضرتك الدكتورة زينب عبدالحكيم !؟.. انا ازاى نسيت!؟. استطاع استثارة فضولها لتهتف:- ايوه انا .. خير ..!؟.. اكد وهو يخرج رسالة دلال:- الدكتورة دلال المصري بعتالك الرسالة دي ..
واظهر الرسالة امام ناظريها مستطردا في مرح:- و بتقولك و النبي تتوصي بيا .. نظرت شذرا فاستطرد في مرح:- اقصد بأمي .. انتِ مش دكتورة قلب برضو !؟.. وتنهد فى لوعة .. اختطفت الرسالة من بين أصابعه و ابتعدت تاركة اياه وما ان أصبحت وحيدة بحجرة الأطباء حتى انفجرت ضاحكة على افعاله واخيرا فضت رسالة صديقتها التى خطت فيها بخط متسرع:- "ازيك يا زينب!؟.. يا رب تكوني بخير .. بقولك .. حضرة النقيب شريف عبدالواحد ده اللي ماسك النقطة هنا ف النجع وولدته تعبانة عندك ف المستشفى .. يا ريت تعملى اللازم معاهم ..
ملحوظة:- مفيش اى اخبار وصلتك عن نديم !؟.. يا ريت تبعتي تطمنينى مع حضرة الظابط وخدي بالك هو ميعرفش اي حاجة عن سبب وجودي ف النعمانية .. سلميلي على طنط .. سلام عليكم".. عاد شريف لغرفة امه التى اتخذت موضعها على الفراش لتهتف فيه:- تعالى يا حبيبى كُل حاجة .. انت مكلتش لقمة من ساعة ما جيت .. تعالى خدلك صباعين محشى..
هتف شريف شاردا و هو يتذكر نظراتها المذعورة عندما جذبها لفراش امه مذعورا بدوره و كذا تلك الأصابع الناعمة الرقيقة التى مست معصمه جعلت نبضه يتقافز للضعف:- لا انا عاوز صوابع زينب .. هتفت امه متسائلة:- بتقول حاجة يا حبيبي !؟.. قهقه هاتفا:- بقول سلامتك يا ست الحبايب ..
رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث عشر
بعنوان ( بين ذراعيه )
اندفع لتلك الردهة المفضية الي غرفة الأطباء والتي طرق بابها ليسأل عنها لكنه لم يجدها .. فقد كانت تمر على بعض مرضاها ... اخذ يجوب المشفى باحثا عنها فليس لديه الوقت الكاف وهو يود رؤيتها قبل ذهابه الى النجع بعد انتهاء إجازته.. اخيرا لمح طيفها وهى تدلف الى احدى الحجرات فاندفع خلفها في رعونة هاتفا:- دكتورة زينب ..
توقفت مصدومة من رؤيته ورسمت على وجهها جدية حاولت اصطناعها وهى تراه يسرع الخطى الى موضع انتظارها اياه وتلك الابتسامة الباشة على وجهه تدفعها رغما عنها لتبتسم فى حبور عجيب كأنما هى عدوى لا يمكن تجنبها .. لكنها امسكت بالباقى من ثباتها و هى تهتف:- خير يا حضرة الظابط!؟..الوالدة بخير!؟..
اكد هاتفا والابتسامة لم تفارق محياه:- اه يا دكتورة الحمد لله بخير .. دي حتى بتسلم عليكِ وبتقولك تسلم ايدك .. قلبها دلوقتي لا بيأخر ولا بيقدم .. بقت دقاته مظبوطة ذي الساعة .. ابتسمت رغما عنها وطأطأت رأسها تحاول مداراة تلك الابتسامة واخيرا هتفت:- طب الحمد لله .. يا رب دايما بخير .. عن اذنك .. هتف معاتبا:- عن اذنك ايه !؟.. يعني انا جاي لكِ مخصوص يبقى ده كرم الضيافة بتاع الدكاترة !؟..
هتفت زينب في حنق:- بقولك ايه يا حضرة الظابط واضح انك مش لاقي حاجة تتسلى بيها ف اجازتك.. بس للاسف انا مش تسلية ولا عندي وقت اسلي سعادتك .. عن اذنك .. وهمت بالاندفاع مبتعدة الا انه هتف متحسرا:- طب مع السلامة و اشوف وشك بخير بقى .. اصل مسافر دلوقتي النجع .. تحبي أوصل حاجة للدكتورة دلال !؟.. توقفت زينب مستديرة تواجهه من جديد هاتفة في تساؤل:- انت مسافر دلوقت !؟..
اومأ برأسه ايجابا في ضيق لتعود ادراجها اليه مرة اخرى امرة:- طب اتفضل معايا عشان اديك جواب تديه لدلال .. همس شريف في سعادة:- ربنا يخليلنا الدكتورة دلال اللي خلتك ترضي عننا .. هتفت متسائلة رغم انها سمعت ما كان يهمهم به:- حضرتك بتقول حاجة !؟.. رد هو في عجالة:- لا بقول كويس انك هتبعتي معايا جواب للدكتورة.. تلاقيها وحشتك .. و همس لنفسه:- عقبالي يا رب ..
هزت هى رأسها في تأكيد وسار جوارها في شرود يتأمل محياها تحاول ذاكرته تشرب تفاصيل تلك الملامح وقسمات ذاك الوجه الذي سيحرم رؤياه حتى يحين موعد إجازته القادمة .. دلف خلفها للحجرة وجلست هى خلف مكتبها وجلس بدوره قبالتها لتندمج هى في كتابة خطابها و يندمج هو في التفرس فيها واخيرا ناولته اياه داخل احد مظاريف المشفى ..
مد كفه يلتقطه فى مرح هاتفا:- من يد ما نعدمها .. ونهض مستطردا:- اشوف وشك بخير بقى .. هتفت في نبرة محايدة:- مع السلامة يا سيادة النقيب .. هتف مازحا قبل ان يغلق الباب خلفه مودعا:- اهو انا كنت جاي عشان اسمع بس الكلمتين دول .. واستطرد بنبرة جادة كانت غير معتادة منه:- مع السلامة يا دكتورة.. واغلق الباب في هدوء .. ليتركها نهبا للفكر والخواطر حول ذاك الذي ظهر في غفلة من الزمن ليقلب اتجاه بوصلتها حتى ولو حاولت ادعاء العكس ..
شعرت باختناق عجيب يتملكها فأغلقت باب غرفة الكشف بعد ان تأكدت انه لن يأتيها مرضى بعد تلك الساعة .. أحكمت ضم شال امها حول كتفيها و تحركت باتجاه الطريق الترابي الضيق الذي ينحدر لقلب النعمانية .. كانت تشعر ان السير قليلا قد ينفعها في تخفيف وطأة ذاك الشعورالداخلي الخانق والذي لا تعلم له سببا محددا .. تركت قدميها تقودها للطريق وقررت ان تستمتع فقط بعبق ريح العصاري الندية المحملة بأريج الغيطان البعيدة المختلطة بثرى الجبل العتيق هناك ..
لم يكن في مخططها ان تقابل احدهم و خاصة انها علمت ان شريف لم يعد بعد من إجازته وهى في الاساس لا رغبة لها في ادارة حوار مع اي من كان .. تشعر برغبة عجيبة في البقاء وحيدة .. لكن يبدو فعلا ان ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فلقد سمعت نداء ما باسمها .. تطلعت حولها في تيه حتى وقع ناظرها على الدكتور طارق طبيب الوحدة الصحية..
ابتسمت في رسمية متجهة الي حيث يقف عند مدخل الوحدة لا تعرف هل هو في سبيله للدخول ام الخروج منها .. هتف مرحبا:- اهلًا يا دكتورة .. مالك !؟.. هتفت متعجبة:- هو انا باين عليا قووي كده!؟.. ابتسم طارق مجيبا وهو يعدل منظاره الطبي في حياء:- مش قووي متقلقيش .. بس خير!؟.. و استدرك متنحنا:- ده لو جاز ليا اني اتحشر واسأل .. لو مكنش يضايقك .. ابتسمت في شجن:- لا ابدا يا دكتور.. بس حاسة ان الامور مش ماشية تمام ..
اشار لها لتجلس بداخل الوحدة على احد آرائك انتظار المرضى فلبت في سعادة حتى لا تقف بالخارج فيلمحها احدهم او حتى يرها عفيف نفسه وهى في غنى عن ما قد يحدث بعدها .. هتف متسائلا:- امور ايه اللي مش ماشية تمام !؟.. امور شخصية !؟..
كان سؤاله يتجه وجهة هى لا ترغبها على الإطلاق فحاولت ان تعيد الحوار لمساره الاول هاتفة:- الامور المهنية هنا ف النجع مش اكتر .. لسه الجواز العرفي عشان التحايل على شهادة التسنين شغال ولسه الختان رغم توضيح بعض إضراره في اصرار على إجراءه .. وفيه وفيه .. اللستة لسه طويلة للاسف .. ده كله هيتغير امتى!؟.. و ازاي !؟.. اذا كان اصحاب الشأن مقتنعين بصحة اللي بيعملوه !؟.. انا فعلا مش مستوعبة ازاي اهل يعرضوا بناتهم لكوارث ذي دي عادي كده والاسم انهم بيعملوا كده حماية و سترة ..
وقصت له ما حدث مع نادية وبراءة و زيارتها لأم حبشي .. تبسم طارق هاتفا:- كل ده يا دكتورة و بتقولي انك مش حاسة انك بتعملي حاجة !؟.. صدقينى انتِ بتهزي جبل من تقاليد وعادات ارسخ من الجبل اللي انت شيفاه ده .. واشار للجبل الغربي على مرمى البصر مستطردا:- وده عايز عزيمة واصرار اشد صلابة من الصخر .. وانتِ قدها وقدود يا دكتورة ..
ابتسمت في امتنان ونهضت محيية:- متشكرة يا دكتور .. انا شكلي كنت محتاجة أتكلم مع زميل يقدر ويدرك حجم المعاناة اليومية اللي بعيشها مع الستات عشان أقنعهم بالمناسب والأصح عشانهم .. ابتسم طارق بدوره:- تحت امرك يا دكتورة ف اي وقت .. و اعتبريني صديق مش مجرد زميل .. دي حاجة هتسعدني جدا .. هزت رأسها في تفهم وانسحبت بهدوء خارج الوحدة ..
سارت بضع خطوات وتناهى لمسامعها صوت عربة عفيف من البعد .. كانت تعتقد انها تقترب فتوقفت للحظات تمد ناظريها متوقعة ظهوره الا انها ادركت ان العربة تبتعد وان عفيف قد مر من هنا .. هل رأها يا ترى !؟.. دار السؤال بخاطرها لكنها لم تقف كثيرا عند البحث عن اجابة ..
اما هو فقد رأها بالفعل .. كان يتعقبها منذ خروجها من البيت الكبير .. كان على مقربة منها لكنها لم تع ذلك .. وعندما رأها تقف مع طارق جن جنونه لكنه لم يستطع ان يحرك ساكنا فلقد اكتفى من افعالها وما عاد قادرًا على كبح جماح انطلاقها وكبت حريتها.. هى كالفراشة وهو ود لو كان ذاك اللهب الذي تقترب منه صاغرة مرحبة .. لكنها للاسف فراشة عمياء تتجه للعتمة متجاهلة دفء الضي وحرارته غاضة الطرف عن وهجه .. لذا تجاهلها و سار بطريقه مبتعدا ولم يكن يدرك انه اول من سيحترق بذاك اللهب الذي يحاول تجاهل ندائه لفراشته ..
تثاءب في تكاسل متطلعا الى تلك التي كانت تجلس قبالته على الأريكة الضيقة هناك .. كان يحاول جاهدا ان يتجاهل ذاك الشعور الذي بدأ في النمو تجاهها وما عاد قادرًا على وأده .. لا يعلم منذ متى بدأ ذاك الكامن في أعماقه في الظهور من مكمنه الا عندما ظهر بالفعل مشرأبا برأسه من بين كوامن روحه.. تنحنح لا ليستدعي انتباهها بقدر رغبته في اخراج نفسه من أتون خواطره التي اصبحت بالفعل تنحى منحن خطر في الآونة الاخيرة واخيرا هتف بصوت يكسوه المرح المصطنع:- ايه رأيك ف خروجه وتمشية ع البحر !؟..
هتفت في سعادة:- صحيح !؟.. يا ريت .. ثم استدركت:- لكن انت لسه يا دوب طالع من دور برد شديد .. لحسن تتنكس .. هتف مؤكدا:- لا متقلقيش .. انا كويس و هتقل ف اللبس .. و بيني وبينك .. انا زهقت قووي م الرقدة والحبسة ف الأوضة دي .. هتفت توافقه:- عندك حق .. اكد هاتفا وابتسامة على شفتيه:- طالما عندي حق يبقى ياللاه بينا ..
نهض في اتجاه حقيبته واخرج ملابسه و هتف في حرج:- ادخلي غيري هدومك ف الحمام وانا هغير هنا .. اومأت دون ان تتفوه بحرف حرجا ودخلت للحمام بالفعل .. أنهت تبديل ملابسها لكنها لم تجرؤ علي الخروج من الحمام حتى هتف هو من خارجه متعجلا إياها .. توجها نحو احد السنترالات وطلب رقم بيت ابيه وانتظر بفارغ الصبر ان ترفع دلال سماعة الهاتف حتى يطمئن قلبه الا انه كما المرة السابقة لم ترد .. زفر في ضيق كان ظاهرا عليه بوضوح عندما غادر الكابينة لتساءله رغم علمها:- برضو مردتش عليك!؟..
اومأ برأسه مؤكدا وهتف في حنق:- مش من عادتها انها تبقى بره البيت لفترات طويلة كده !؟.. انا قلقان فعلا عليها .. هتفت تطمئنه:- يمكن عشان انت بعيد عنها بجت بتشتغل فترات اطول !؟.. هز رأسه غير مقتنع بتلك الحجة:- يمكن .. هتفت ناهد مستوضحة:- طب هى ملهاش اصحاب أوليكم جرايب تسأل عندهم !؟..
هتف نديم مؤكدا:- ملناش قرايب لكن ممكن تكون عند زينب .. دي صاحبة عمرها .. ووالدتها ذي امنا وياما وقفت جنبنا بعد وفاة امي .. بس انا بقالي سنين من ساعة ما دخلت الكلية لا رحت عندهم ولا اتصلت بتليفونهم .. نسيت الرقم للاسف.. تنهد في خيبة وحاول اعتصار ذاكرته لكنه لم يفلح ..
تحركا صوب البحر واستنشقا عبق ريحه الفريدة المحملة بعشق الحرية .. الان هما امامه وجها لوجه .. بصلابته وعنفوانه و رقته ولينه .. عبا من هوائه النقي ملء رئتيهما وزفراها انفاس حارة بحجم مواجع روحيهما .. سادهما الصمت فلم ينبس احدهما بحرف واحد .. حتي همست هى في صوت متلجلج متسائلة:- يا ترى عفيف عامل ايه ف المصيبة اللي وقعناه فيها دي !؟.. ويا ترى ممكن يسامحني !؟..
انسابت العبرات السخينة على خدها مناقضة لنسمات البحر الباردة .. تطلع نديم اليها و همس متسائلا:- مش عارف .. انتِ اللي تقدري تجاوبي ع السؤال ده لانك اخته و اكتر واحدة تعرف تحدد ردود افعاله .. همست ساخرة في مرارة:- ردود افعاله!؟.. انا مبقتش عارفة احدد اي حاچة ..بس بعد اللي عملناه ده عفيف لو شافنا جدامه دلوجت هتكون نهايتنا چتت مرمية ف البحر ده .. في امور عفيف مبيتفاهمش فيها .. برغم انه متعلم ووصل لدرچة علمية كبيرة الا ان الطبع غلاب وامور الشرف دي بالذات مفيش فيها نقاش من اساسه .. تنهد نديم هاتفا:- عنده حق ..
هتفت متعجبة:- عنده حج !؟.. انت اللي بتجول كده !؟.. اكد هاتفا بحنق:- اه انا اللي بقول كده .. هتفت في ضيق:- امال ليه .. قاطعها هاتفا في ضيق مماثل:- عشان مكنش فيه حل تاني .. كان قدامنا حل تاني!؟.. هااا !؟.. هزت رأسها نفيا ولم تنبس بحرف لكن دمعاتها أجابت عنها .. ساد الصمت من جديد واخيرا زفر نديم في محاولة لتهدئة الأجواء المحتدمة:- ايه رأيك ف اكلة سمك جامدة !؟..
نظرت اليه وهى تمسح اثر دموعها من على وجنتيها:- بس الفلوس !؟.. هتف متعللاً:- ميهمكيش ..خربانة خربانة .. خلينا ناكل اكلة ترم عضمنا .. الواحد معدته تعبت من اكل الجبنة .. وبعدين ده انا لسه خارج من عيا وعايز اتقوت .. ابتسمت في هدوء هامسة:- صح .. انت فعلا لازم تتغذى كويس .. هتف مبتسما:- اهو شوفتي .. ياللاه بينا على اقرب محل سمك نفرتك القرشين اللي معانا قبل ما نمشي .. هتفت متعجبة:- نمشى نروح فين !؟..
امسك كفها فى أريحية وهما يعبرا الطريق فاضطربت هى وما ان وصلا للجانب الاخر من الطريق واستأنفا طريقهما حتى هتف:- لازم نرجع القاهرة يا ناهد .. تساءلت:- ليه !؟.. ونرجع لمين !؟.. لأختك!؟.. تنهد في وجع وهتف:- هنشوف يا ناهد هنروح فين .. بس لازم نرجع القاهرة لأني هنا معرفش حد ولازم اشوف لي شغلانة و ده مش هيحصل الا ف القاهرة .. ليا اصحاب هناك ممكن يساعدونى ف الموضوع ده .. هزت رأسها في تفهم واكملا طريقهما ولم يلحظ انه كان لايزل ممسكا بل متشبثا بكفها التي شعرت بالراحة في احضان كفه ..
اندفع شريف يوقف عربته الميري امام بوابة البيت الكبير وترجل منها مندفعا تجاه مناع ملقيا التحية فى مودة:- سلام عليكم يا مناع .. الدكتورة دلال موجودة !؟.. نظر اليه مناع في تعجب هاتفا:- انت عايز الداكتورة !؟.. ولا تجصد عفيف بيه !؟.. هتف شريف مؤكدا:- انا بسأل ع الدكتورة يا مناع !؟.. موجودة !؟..
اكد مناع هازا رأسه ايجابا وبداخله رغبة دفينة في نفي وجودها لكنه اشار له بالدخول:- موچودة يا بيه .. اتفضل ..هديها خبر .. اتجه شريف الى الحديقة وتطلع حوله منتظرا ظهور دلال التي اندفعت خارج باب المندرة مرحبة في مودة:- اهلًا حضرة الظابط .. اتفضل.. حمدالله ع السلامة وصلت امتى م القاهرة !؟..
مد شريف كفه مرحبا وهتف فى مودة:- الله يسلمك يا دكتورة .. انا لسه واصل حالا والله .. هتفت دلال متسائلة:- وايه اخبار الوالدة !؟.. يا رب الصحة تكون بقت عال دلوقتي ..!؟.. اكد شريف ممتنا:- انا مش عارف اشكرك ازاي والله !؟.. بصراحة الدكتورة زينب قامت بالواجب و زيادة .. و الحاجة صحتها جت على علاجها .. وهمس بصوت كان مسموع لها:- عقبال صحتي أنا كمان..
ابتسمت دلال ولم تعلق ليستطرد هو هاتفا:- بقولك ايه يا دكتورة!؟.. هى الدكتورة زينب يعني .. مرتبطة .. او متكلمين عليها !؟.. قهقهت دلال هاتفة:- اه متكلمين عليها .. هتف منتفضا:- ايه !؟.. استطردت وهى لاتزل تضحك:- ايوه قايلين عليها كل خير ..
نظر اليها عاتبا:- وقعتي قلبي يا دكتورة ..اه صحيح .. كنت هنسى.. واخرج من جيبه خطاب زينب هاتفا:- اتفضلي جواب م الدكتورة زينب مستعجل مع علم الوصول .. ابتسمت دلال شاكرة ومدت كفها تتناول الخطاب منه واستدار راحلا وهو لا يعلم ان هناك نظرات كالصقر تتابعه ولو ان النظرات تقتل لأردته قتيلا فى الحال .. اندفعت لداخل المندرة وهى تتطلع للرسالة التي بكفها والتي قد تحمل اخبار عن اخيها الغائب قد تشفي غليلها وشوقها لمعرفة اين يمكن ان يكون..
كانت تهرول لتصل لغرفتها لتفض الرسالة الا انها اصطدمت به لترتد للوراء خطوة و تصدراهة ألم مع شهقة صدمة و هى تراه يقف متحفزا بهذا الشكل و نظرات عينيه تنطق بأمور تتمنى لو كانت غير قادرة على قراءتها بهذا الوضوح .. سقطت منها رسالة زينب لتستقر بينهما ارضا ..
لا تعرف لما شعرت برغبة عارمة في الهروب من امام تلك العينين فى التو واللحظة لذا لم تشعر الا وهى تنحني لتلتقط الرسالة وتندفع مهرولة باتجاه الدرج الا انه هتف بصوت لم يكن يحمل من الغضب و الضيق بقدر ما كان يحمل من بوادر ثورة موؤدة بشق الأنفس داخله تهدد بحرق الأخضر و اليابس اذا ما أعلنت عن نفسها:- يا داكتورة !؟..
تسمرت مكانها كتمثال لا روح فيه على اولى درجات الدرج ولم تجرؤ على الاستدارة لتواجهه وهو يهتف متسائلا:- ممكن اعرف ايه اللي بيحصل بالظبط !؟.. أضطرت للاستدارة لتواجهه هاتفة في هدوء:- ايه اللى بيحصل يا عفيف بيه !؟.. لو قصدك على حضرة الظابط .. اعتبره ضيف جالي واستقبلته.. و احتراما لحضرتك استقبلته خارج المندرة .. ف الجنينة ولمدة لاتزيد عن ربع ساعة .. و متهئ لي ده افضل من انى اقف أكلمه بره المندرة ذي ما حضرتك لفت نظري عشان كلام الناس ..و لا ايه !؟.
هتف ساخرا جازا على اسنانه:- و هو ياچيكِ ليه م الاساس سوا كضيف ولاعفريت ازرج !؟.. تجاهلت نبرة السخرية التي اتشح بها صوته وهتفت في هدوء من جديد متسائلة:- مكنتش اعرف انه مش من حقي استقبال ضيوفى يا عفيف بيه لمجرد اني ضيفة عند حضرتك !؟..
هتف في محاولة لضبط نفسه عن الصراخ فيها وهى تجادله بهذا المنطق وبحجة دامغة لا يملك امامها مبررا واحدا مقنعا:- مش الجصد يا داكتورة .. انا كل اللي اجصده حضرة الظابط الهمام .. ايه اللى بينه وبينك يخليه ياچي لحدك و يبجى في بينكم چوابات ومراسيل!؟.. كان هذا هو لب الموضوع وبيت القصيد .. ذاك الخطاب الذي رأها تتناوله من بين يديه في لهفة ماذا يحمل يا ترى !؟..يكاد يجن لينتزعه من بين كفيها ويفضه حتى يشفي غليله ..
نظرت اليه في غضب لا يمكن تحجيمه وهتفت وهى تجز على أسنانها في ثورة تحاول على قدر استطاعتها السيطرة عليها:- انا مقبلش يا عفيف بيه نبرة الاتهام الموجهة ليا ف سؤالك !؟.. و معتقدش ان كوني ضيفة عند حضرتك يديك الحق في أسئلتك دي ولا انا مطالبة من الاساس اني أبرر أفعالي لحضرتك اولغيرك .. عن اذنك..
قالت كلمتها الاخيرة وانطلقت كالسهم تعتلي الدرج في عجالة تاركة اياه يكاد يمسك السماء بيديه غضبا وثورة حتى انه ما استطاع السيطرة على انفعاله اكثر من هذا فأطاح بتلك المزهرية الزجاجية من موضعها بعصاه دافعا بها ارضا مهشمة لعلها تخفف ولو قليلا من تلك النيران التي تشعلها الغيرة بين جنباته .. اما هى فقد تجاهلت صوت الحطام الذي تناهى لمسامعها بالأسفل ودخلت حجرتها مغلقة بابها خلفها فى عنف ينم عما بداخلها من حنق وضيق ..
كيف يجرؤ !؟.. حاولت ان تهدئ من روعها وهى تجوب الغرفة ذهابا وايابا واخيرا جلست تفض خطاب زينب و تنهدت في حزن زادها هما عندما ادركت ان ما من اخبار تخص اخيها الحبيب مع تأكيد زينب على ان اى معلومة ستصلها سترسلها لها مع حضرة الضابط المجنون الذي يبدو انه سيكون له مع زينب شأنا خاصا .. دعت لهما بالتوفيق معا فى سرها و دعت ان يظهر نديم وتجده قبل ان تصل اليه يد ذاك العفيف بالأسفل ..
انتفض دافعا جسدها في غيظ عنه هاتفا بغل يقطر من كل حرف من حروفه:- اعمل ايه تانى يا عفيف عشان اكسر نفسك وأذلك ..!؟.. وضرب بقبضة يده اليمنى باطن كفه اليسرى في حقد واضح .. ليستطرد هاتفا من جديد:- اعمل ايه فيك يا واد خالي .. اعمل ايه!؟.. اقتربت منه رفيقته اللعوب هاتفة في دلال ممجوج:- واه يا سي صفوت ودِه وجته برضك .!؟.. يولع عفيف وسيرته اللي تكدر سيد الرچالة ..
تنبه اليها بكل حواسه هاتفا:-جوليلي اعمل ايه تاني ..!؟..دِه اني وجفت جدامه اطلب يد اخته و النعمانية كلها كانت جاعدة .. و مردش على طلبى ولا حد منيهم جدر يجوله كلمة واحدة ترده .. ونفخ في غل يكاد يرديه قتيلا.. لكنها اقتربت منه في إغواء هامسة بالقرب من أذنه كالحية:- دلوجت انت معاي اني.. يبجى تنسى عفيف دِه واللي خلفوه كمان وبعدين بجى نبجوا نفكروا كيف تخليه ينخ و يطاطي وما يرفع عينه ف عينيك طول ما هو عايش.. بس سيب دِه على لواحظ ..
وجذبته اليها من جديد وقد انصاع لها وهي تطلق ضحكة ممجوجة ماجنة تؤكد انه سيكون طوع بنانها في تنفيذ كل ما قد تصبه في رأسه من سموم ..
كانت تتابع فحوصاتها كالعادة كل نهار وفجأة في منتصف احدى الكشوفات اندفعت فتاة صغيرة لا تتعد الثامنة من عمرها لتمسك بكفها جاذبة إياها وهى تهتف في ذعر:- ألحجي اختي يا داكتورة دلال .. ألحجيها لچل النبي .. هيدبحوها .. توقفت دلال عن الفحص واستأذنت من المريضة وتنحت جانبا بالطفلة تهدئ من روعها هامسة:- اهدى يا حبيبتي وفهميني بالراحة .. اختك مين!؟.. و مين اللي هيدبحوها دول!؟..
هتفت الفتاة السمراء الصغيرة و هى تلتقط انفاسها فى تتابع ينم عن سوء فى التغذية واضح بجانب حالة الذعر التي تنتابها والتي زادت من سوء حالتها:- اختى براءة يا داكتورة .. ألحجيها .. امي اللي جالت لي اچيلك بس مجولش لحد .. محدش غيرك اللي هيجدر ينچدها.. انتفضت دلال ما ان سمعت باسم براءة.. تلك الفتاة التي كانت تصر جدتها المتحجرة الرأس تلك على ختانها رغم تأكيدها لهم انها ليست بحاجة للختان وان ابنتهم ضعيفة البنية قد لا تحتمل عملية كهذه ..
خلعت دلال معطفها الطبى الابيض واعتذرت من الجميع واندفعت في اتجاه بوابة البيت الكبير تمسك الطفلة بكفها باحثة عن مناع حتى يحضرالعربة ليسرع بهما حتى بيت براءة الا ان مناع لم يكن بموضعه المعتاد جوار البوابة الحديدية فعلمت انه بصحبة سيده بالخارج .. ذاك الذي كانت تتحاشى لقاءه منذ اخر خلاف بينهما بسبب زيارة شريف لها ..
لم يكن هناك وقت للانتظار او حتى التفكير فاندفعت مهرولة مع الفتاة الصغيرة في أتجاه بيتها تكاد تركض في مشهد اثار استعجاب كل من لاحظه .. وصلت اخيرا على اعتاب بيت براءة .. دفعت الصغيرة المصاحبة لها الباب ودلفت للداخل مسرعة تختبئ حتى لا يعلم من بالدار من المسؤل عن جلب الطبيبة في تلك اللحظة فتنجو من عقاب جدتها القاسية وابيها الخانع دوما لاوامر امه المتسلطة..
اندفعت دلال لداخل الدار ووقفت في منتصف باحته الضيقة تتطلع حولها في تيه .. و اخيرا جاءتها صرخة ما شقت صدرها رعبا فاندفعت من حيث اعتقدت انها مصدرها دافعة بالباب الخشبي المهترئ لتجد نفسها وجها لوجه مع ام حبشي القابلة وجدة براءة وامها المغلوبة على امرها .. وجسد براءة الممدد هناك على الفراش جثة هامدة بلا حراك.. كانت تعتقد ان تلك الصرخة لبراءة .. لكنها كانت لامها التي كانت تولول وتلطم خديها في حسرة ..
اندفعت دلال دافعة بتلك القابلة الحقيرة مبعدة إياها عن الفراش حيث ترقد براءة لعلها تستطيع انقاذها قبل فوات الأوان .. حاولت وحاولت ان تعيد للفتاة لون الحياة في ذاك الوجه الشاحب لكن الفتاة كانت غارقة في نزفها وما عاد بالإمكان لإنسان ان يتدخل فى احكام القدر.. فلقد فتحت براءة عينيها الكحيلتين لثانية واحدة وما ان طالعت وجه دلال حتى ابتسمت في وداعة و رحلت في هدوء .. صرخت دلال فيها هاتفة:- براءة .. انا هنا متخافيش .. انا قلت اني مش هخليهم يضروكِ .. سامحيني .. فوقي عشان خاطرى .. انطلقت صرخة اخرى من صدر الام المكلومة على طفلتها وساد بعدها صمت احد وطأة من صمت القبور ..
ثارت النسوة امام غرفة الكشف معترضات على غياب الطبيبة مما دفع الخالة وسيلة لأستطلاع الامر لتخبرها تلك المريضة التى شاهدت اخت براءة تصطحب دلال بكل ما حدث .. اندفعت الخالة وسيلة في ذعر في اتجاه عفيف الذى دخل لتوه الى البيت الكبير هاتفة في اضطراب:- ألحج الداكتورة دلال يا عفيف بيه .. انتفض عفيف هاتفا في قلق:- مالها يا خالة..!؟.. ايه في !؟..
هتفت الخالة وسيلة:- اخت براءة چت خدتها من وسط الحريم و محدش يعرف ايه اللي بيچرى .. اندفع عفيف خارج الدار في اتجاه العربة مستقلا إياها على عجالة و اندفع بها فى سرعة باتجاه بيت براءة .. وصل اخيرا وقفز من العربة مهرولا عندما استمع للصرخة المدوية التي انطلقت من الداخل ليجد دلال تصرخ فى براءة او بالاصح في جثمانها المسجى ليندفع باتجاها مطوقا كتفيها بذراعه جاذبا إياها بعيدا عن الفراش ومحاولا ان يخفف تشبثها بالفتاة المتوفاة..
تنبهت لوجوده اخيرا ونظرت اليه نظرات باكية كلها تيه وقهر هاتفة بصوت متحشرج:- انا وعدتها ان محدش هيقدر يضرها يا عفيف .. انا قلت لهم انها ضعيفة ومش هتستحمل .. لكن انا خزلتها .. ثم رفعت كفها الغارق في دماء الفتاة متطلعة اليه مستطردة في هزيان .. خزلتها ودمها على كفي وهيفضل ف رقبتي يا عفيف .. ونظرت لأهل الفتاة الذين تجمعوا بالغرفة مطأطئ الرؤس منتحبين و صرخت في قهرمشيرة اليهم بيد مرتعشة ونبرة مقهورة:- دبحتوها .. كلكم دبحتوها ..ورفعت كفها صارخة من جديد .. دمها ف رقبتنا كلنا ..
كان عفيف يشد من ضم كتفيها محتملا ثقل جسدها بذراعه وهمس مهدئا بصوت متحشرج يكسوه تأثر لا يمكن إغفاله:- اهدي يا داكتورة .. انا لله وانا اليه راچعون .. تنبهت الى وجوده من جديد فرفعت نظراتها الملتاعة اليه هامسة:- براءة ماتت يا عفيف .. براءة ماتت.. ودون سابق إنذار حررت نفسها من قبضة ذراعه واندفعت خارج الغرفة ومنها لخارج الدار… كان هو باعقابها يحاول اللحاق بها وقد لاحظ وصول الشرطة و الدكتور طارق طبيب الوحدة ..
لم يكن يعلم الى اى الطرق اتجهت بين كل ذاك الزحام امام بيت براءة بعد صرخات امها التي جمعت الجيران ولا الى اين يمكنها الذهاب في تلك اللحظة وهى بتلك الحالة!؟.. اندفع يستقل عربته باحثا بناظريه عنها بكل اتجاه واخيرا وجدها تقف بمفترق طرق تبحث حولها عن شئ لا تدركه .. كانت كتائهة لا تحدد لها طريقا تسلكه .. اندفع في اتجاهها بالعربة وما ان هم بالوصول اليها حتى ظهرت زفة نادية بالطبول والمزامير تاهت بين زحامها وزغاريدها ليندفع هو بين بحر البشر ذاك حتى يصل اليها..
انتهت الزفة ليجدها تقف موضعها بنفس التيه لكنها تضع كفيها على اذنيها تحاول ان تمنع وصول تلك الطبول والمزامير الناعقة التي تنبئ بحدوث جريمة اخرى في حق فتاة اخرى ربما يكون مصيرها يوما كبراءة من الوصول لمسامعها.. همس بالقرب منها:- تعالي نرچعوا البيت يا داكتورة.. هزت رأسها لا يعرف ايجابا ام رفضا ام تشوشا وما ان همت بالتحرك موضع قدم حتى اغلقت الدنيا ابوابها امام ناظريها لتراها بلون الحزن .. ليتلقفها هو صارخا باسمها فى لوعة بين ذراعيه..