ظهر جابر على مطلع التلة التي تفضي الى الدار الحجري حيث يقيمون، كانت تجلس على ذاك المقعد الحجري المستطيل الشكل الذي على ما يبدو انه جزء لا يتجزأ من احد جدران البيت.. هتف جابر في مودة فطرية يتميز بها اهل النوية بوجه عام مشوحا بيده متسائلا عن حالها: - ماسكاجنا.!؟. هتفت عين الحياة مبتسمة بدورها تحاول تذكر الرد المناسب بالنوبية لتخبره انها بخير: - ماسكاجر..
قهقه جابر مؤكدا: - بتتعلمي بسرعة يا داكتورة، ده شوية ومنعرفش نفرجك عنينا.. قهقهت بدورها هاتفة: - بحاول.. واستطردت وهي تشير للقرية النوبية البعيدة نوعا ما: - ايه الدوشة اللي هناك دي يا جابر!؟. اكد جابر: - ده فرح يا داكتورة، عجبال فرحك عن جريب..
طل ليل في تلك اللحظة متطلعا اليها لتشيح بناظريها عنه وهو يعاتب جابر هاتفا في نزق: - جاعد انت تحكي حكاوي الحريم دي وسايبني متلجح چوه، مش تاچي نشوفوا هنعملوا ايه!؟ انتفض جابر هاتفا: - استغفر الله العظيم، يا بيه ما اني كنت فاكرك نايم، وبعدين كل اللي اتفجنا عليه اتحضر ومستني أوامر چنابك..
جلس ليل على طرف المقعد الحجري مشاركا إياه معها فشعرت بضيق عجيب يشملها ورغم بعد المسافة بينهما والتي تزبد عن المتر قليلا الا انها شعرت به اقرب مما ينبغي فتملمت في جلستها وهمت بالنهوض مغادرة لداخل الدار الا ان جابر هتف يستوقفها: - يا داكتورة!؟. استدارت تستفسر فإذا به يسألها: - ليكِ شوج تنزلي تتفرچي ع الحنة اللي هتكون الليلة باذن الله.. نقلت نظراتها بين ليل وجابر وتساءلت في تردد: - هو ينفع!؟.
نهض ليل ووقف على حافة التلة متطلعا للأفق هاتفا في نبرة مسالمة على غير العادة: - اه ينفع، واني كمان نازل.. هلل جابر في سعادة: - تمام جوي، وانا كنت عامل حسابي وچبت لِك دِه يا داكتورة، لازما تلبسيه مينفعش تنزلي بهدومك دي عشان يعني.. لم يكمل جابر حديثه لكنها استنتجت ما كان يعنيه فهزت رأسها موافقة وتناولت منه تلك اللفافة التي لا تعلم ما تحويه ودخلت لتبدل ملابسها..
ساد الصمت وليل لايزل يقف موضعه شاردا حيث سادت الظلمة على مدد نظره وبدأت أصوات الاحتفال تعلو وتناهى صوت الموسيقى بالدفوف الى حيث موضعهما لكنه استفاق من تيهه على أصوات رنانة جعلته يلتفت الى حيث مصدرها كانت عين قد ظهرت هاتفة في حرج: - انا خلصت.. وقفت عند باب الدار حيث يغمرها ضوء المصابيح التي تم إشعالها ما ان قررت الشمس الأفول لتظهر بذاك الزي الذي جعلها ايه من جمال رغم بساطته..
كان صوت تلك القلائد الذهبية التي ترتديها هو ما جعل ليل يستديروظل يتطلع اليها في صمت غامض ولم يعلق بحرف واحد رغم انه لم يحد بناظريه عنها مما جعلها تضطرب خجلا الا ان جابر هتف في انشراح: - الله يا داكتورة، الچِرچار عليكِ حاچة عظمة.. ابتسمت حياءً هامسة: - متشكرة يا جابر بس هو اللبس ده اسمه الجرجار!؟. اكد جابر: - اه يا داكتورة، ده عباية ملونة وفوجيها عباية سودا من التل، دِه الزي النوبي..
تطلعت عين لطرف الزي الخلفي وهتفت: - طب وليه طويل من ورا شوية عن قدام!؟. قهقه جابر مفسرا: - ما دِه سبب تسميته يا داكتورة، چِرچار، يعني طرفه بيتچرچر وراكِ وانتِ ماشية عشان يخفي اثر خطوات الحريم، نوع من أنواع الأمان يعني.. هزت عين رأسها متفهمة ليخرج ليل من صمته أخيرا وهتف بنفاذ صبر: - مش ننزلوا ولا لسه فيه حكاوي تاني!؟.
تحرك جابرمستغفرا يهرول نازلا التلة ليتبعه ليل بخطوات متمهلة وهي تتبعه، كانت تعتقد انه لايزل متعبا جراء جرحه الذي بدء يطيب الا انها تأكدت انه يبطئ الخطى من اجلها، كانت تجاهد لكي تهبط بشكل صحيح غير مندفع قد تكون نهايته ملقاة اسفل التلة..
تحققت مخاوفها حرفيا فقد بدأت في الاندفاع هبوطا رغما عنها وكأنما احد يدفعها عنوة وتخيلت نفسها ممددة بجرف التلة بعد ان تعثرت في خطواتها الا ان ليل كان الأسبق ليقف في طريق اندفاعها مكونا حائطا منيعا صد جسدها عن الانحدارالمتهور نحو الأسفل..
نوقف الاندفاع وألتقطت أنفاسها في تتابع محموم وهي تدرك انها نجت بأعجوبة لكن ذاك الوضع الحميمي الذي وجدت نفسها به كان الادعي لتستمر ضربات قلبها في التزايد وهي تضع كفيها مفرودتين على صفحة صدره الملاصقة له تحاول الابتعاد لكن لا مجال لذلك وقدماها مغروزتان في الرمال..
رفعت ناظريها اليه تحاول ان تقول شيئا، أي شيء يخرجها من متاهة المشاعر التي تدور فيها ولا تجد لها مخرجا الا انها على العكس وجدت نفسها في متاهة اكثر تيها عندها تلاقت نظراتهما وغابت تماما عن حدود الزمان والمكان وهي تبصر بقلب هاتين العينين السمراوتين عالم من عجب، ودنيا من حلم، وأطياف من بهجة، وحياة من ابدية، مشاعر خرقاء واحاسيس تعربد بين جنبات الروح في عشوائية حلوة وصخب صامت اشد ضجيجا من عزف ألاف الدفوف، وحشة وانس ودود ووحشية تعلن عن نفسها في همجية متحضرة بقرع طبول قبائل بدائية قد أتخذت من العشق مذهبا..
انتفضت لكنها لم تشح بنظراتها عنه اوترفع كفيها عن صدره وهو يمد كفيه ممسكا كتفيها يثبتها موضعها حتى يتسنى له الحركة مبتعدا ليفض اشتباك المشاعر ذاك وفوضى الحواس التي غرق فيها حد الثمالة وأخيرا ما ان اطمئن انها بخير تحرك يوليها ظهره مستكملا طريقه وهو يضع كفه على موضع جرحه الذي اعتقدت انه يؤلمه جراء اندفاعها بهذا الشكل تجاهه الا انها تنبهت انه يضع كفه على موضع قلبه ولم يرفعه عنه الا عندما اقترب من حدود القرية النوبية فمد كفه يغطي وجهه بطرف عمامته ليدخل القرية خلف جابر ملثما لا يظهر من خلف لثامه الا عينيه قاتلتها السمراء..
تنبهت انه اتجه لموضع الرجال في أقصي المكان يحاول ان لا يكون ظاهرا على قدر الاستطاعة اما هي فقد توجه بها جابر لتستقر جوار شقيقته مستورة التي أهدتها الجرجار الذي ترتديه اللحظة لتصبح واحدة من فتيات كثر يجلسن مصفقات او مشاركات في حلبة الرقص على قرع الدفوف وأنغام الأغاني النوبية المبهجة..
جذبتها مستورة لتشاركهن الرقص الإيقاعي المتمايل فتمنعت قليلا الا انها نهضت تشارك بالفعل وقد غمرتها عدوى الفرحة التي استجابت لها بكل كيانها، بحثت عنه بناظريها حيث جلس منذ وصولهم الا انها لم تجده، بحثت عن جابر فلم تجده كذلك، شعرت ان في الامر سرا، قررت تجاهل غيابهما والاستمتاع ولو قليلا وخاصة عندما عرضت عليها مستورة رسم بعض الحناء على ظاهر كفيها فوافقت على الفور، لكنها بعد فترة قصيرة ما ان انتهت من رسوم الحناء عادت تبحث عنهما بعيون زائغة حتى ظهرا أخيرا قرب نهاية الحفل..
أشار اليها جابر لتتبعهما فأطاعت ترفع اطراف الجرجار حتى تستطيع اللحاق بهما.. دخلا الدار الصخري أخيرا فتنهدت في تعب بعد ما عانته لصعود التلة وشعرت برغبة شديدة في النوم.. دخل ليل الغرفة وتبعته متجهة الى ركنها المعتاد الا انه هتف يستوقفها مشيرا للفراش: - السَرير بجي ليكِ يا داكتورة، انا بجيت تمام ومش محتاچ حد معاي خلاص، هفرش لي ف اوضة تانية وانتِ خدي راحتك هنا..
لم تعقب بحرف فهذا من دواعي سرورها ان تمدد جسدها المنهك على فراش دافئ أخيرا، جمع حاجياته المبعثرة بالغرفة وما ان هم بالخروج منها الا واستوقفته هاتفة: - انت خدت الأدوية والغيار ع الجرح ليه!؟، خليهم ووقت ما.. قاطعها ليل مؤكدا: - مفيش داعي، الچرح طاب ولوهحتاچ غيار عليه هخلي چابر يجوم بالواچب، كفاية تعبك لحد كِده، تصبحي على خير..
واندفع خارج الغرفة مغلقا بابها خلفه لتتطلع الى الفراغ الذي خلفه رحيله مستشعرة امرا ما غير اعتيادي وخارق للمنطق يدب بصدرها محدثا قرع على أبواب القلب وجدران الروح، فماذا يمكن ان يكون!؟.
جلست على طرف الفراش وتحسست موضعه حيث تمدد جسده لعدة ايّام وتركت جسدها يتمدد بدوره لا تعلم ما دهاها وهي تتطلع لسقف الغرفة الذي يتراقص عليه شعاع المصباح البعيد متذكرة حالتها العجيبة آنذاك وهي تحاول الخلاص من شرك احضانه لكنها اللحظة تدرك بعين مفتوحة وعقل واعِ انه لا خلاص، مما جعلها تنتفض مذعورة تحاول ان تنفي هذه الحقيقة التي باتت جلية امام ناظريها، اكثر جلاءً وواقعية من نبضات قلبها التي تتقاذف بين أضلعها اللحظة معلنة ميلادا لخفقة فؤاد تحمل اسمه الرنان الذي ظل يتردد داخل عقلها المشوش، ليل الجارحي..
كان يحاول ان يمنع نفسه بشتى الطرق من الاتصال بها لغير سبب مقنع، لكن من اين له بالأسباب المقنعة وما تنتظره هي من اخبار لم يكن بقادر على معرفتها.. اصرعلى تجاهل ذاك الالحاح العجيب الذي يستشعره ليضغط رقمها الا ان كل ذلك ذهب ادراج الرياح عندما وجد نفسه لاأراديا ينتظر صوتها على الجانب الاخر..
ألتقط أنفاسه يحاول الحصول على بعض الثبات بنبرات صوته وهي تجيب في لهفة تمنى لو تكن من اجله: - الو، ايوه يا حضرة الظابط.. هتف بصوت متحشرج: - السلام عليكم، ازيك يا آنسة نجوى!؟، وازي الوالدة!؟.
هتفت نجوى مؤكدة: - بخير الحمد لله، ها فيه اخبار، انا خلاص مبقتش قادرة أخبي على ماما اكتر من كده، الفترة طولت بجد، عشر ايّام كتيروماما مش مقتنعة أصلا ان عين ممكن تبعد عننا وعن المصنع بتاع بابا الله يرحمه الفترة دي كلها..
هتف هشام متحرجا: - الصراحة مفيش جديد لحد دلوقتي، وانا اسف على تطفلي بس حبيت أبلغك اننا بنحاول بأقصى جهد الوصول لأي حاجة نقدر نعرف بيها طريق اختك.. هتفت نجوى وقد بدأت في النحيب: - يعني برضو لسه مفيش أي خبر حتى يطمنا عليها..!؟، أقول لماما ايه دلوقتي..!؟، اقولها اني بسبب هزار بايخ عرضت عين لمصيبة زي دي وأننا مش عارفين حتى اذا كانت عايشة ولا..
وتعالى صوت البكاء والذي صمت فجأة ما ان هم بمواساتها واضطرب الهاتف بيده وهو يستمع لصوت صرخات نجوى مصحوبة بنداء ملتاع على أمها التي سقطت ارضا تضع كفها موضع قلبها العليل ولا تستطيع إلتقاط أنفاسها..
طرقات على باب الحجرة جعلتها تنتفض مشوشة الفكر بعد تلك الصدامات التي عانتها بين قلبها وعقلها.. فتحت الباب ليطالعها سبب الصراع الأوحد، ليل الجارحي واقفا ببابها يهتف في نفاذ صبره المعتاد: - اچهزي حلاً، لازما نمشوا.. هتفت متسائلة ولازال النعاس يخيم على نبرتها: - هنروح فين!؟. هتف بوجهها ساخرا في حدة: - بتسألي!؟، دِه على أساس اني هجولك مثلا!؟، انتِ تجولي حاضر وبس..
استفاقت بشكل تام بعد صراخه ذاك مما دفعها لتجز على أسنانها في غيظ وتدفع بباب الحجرة مغلقة إياه بوجهه في عنف جعله يقف موضعه لبضع ثوان يود لو يدخل الى حجرتها لقتلها والخروج بنفس راضية، لكنه ضم كفيه في شدة واندفع مبتعدا قبل ان ينفذ ما يريح باله.. خرجت مرتدية ملابسها السابقة دافعة بالجِرجار لداخل حقيبة النقود مع بعض الأغراض الأخرى..
خرجت من الدار لتفاجأ بعدد من الحمير والإبل تحمل بعض الصناديق وهو يمتطي صهوة فرس شهباء جميلة، لكن اين موضعها يا ترى من هذه القافلة!؟، تنبه لوقوفها على اعتاب الدار فأشار لأحدى النوق الباركة امرا: - اطلعي.. هتفت في ذعر: - اطلع فين!؟، لا، انا بخاف، انا عمري ما ركبت جمل.. كان يتمتم لا تعرف هل كان يتضرع لمزيد من الصبر ام كان يصب اللعنات على رأسها!؟.
ترجل من على فرسه جاذبا إياها من ساعدها تجاه الناقة امرا وهو يشير لهودجها: - اطلعي متخافيش، ده اامن مكان تبجى فيه، الچو هايبجى صعب.. كان يقول كلماته تلك بنبرة هادئة محاولا اقناعها بالمنطق على عكس ما تصورت تماما فقد توقعت عندما سحبها خلفه بتلك الطريقة انه سيدفع بها عنوة لداخل الهودج وليكن ما يكون..
هزت رأسها متفهمة وهي تحاول الصعود لكن دون جدوى فقد كان طولها بالكاد يصل لمستوى قاعدة الهودج على ظهر البعير وبعد عدد لا بأس به من المحاولات الفاشلة التي قضت على البقية الباقية من صبره المنعدم من الأساس حتى امرها وهو ينحني مشبكا أصابع كفيه ببعضهما: - اركبي.. نظرت في عدم تصديق لما يفعل هامسة في نبرة بلهاء: - اركب فين!؟. همس شارحا: - حطي رچلك هنا على كفوفي واركبي، سهلة اهي..
تطلعت من جديد لكفيه المتشابكتين اللذين من المفترض ان تضع عليهما قدمها لتكونا كدرج يسهل عليها الصعود على ظهر البعير وتشجعت لتنفذ ما امرها به قبل ان يخرج عن طوره موبخا واضعة قدمها على كفيه ليدفع بها في لحظة لداخل الهودج كطرد بريدي..
تنفس ليل الصعداء عندما تأكد انها أصبحت تستقر بالداخل فما كان لديه مزيد من القدرة اوالشجاعة ليضع كفا عليها، يكفيه ما يعانِ منذ البارحة حينما وقع ناظريه عليها بذاك الزي الذي اكسبها جمالا فطريا غير معقول وكذلك تلك الحلي التي كانت تصدر صوتا متلازما مع خطواتها يذهب بثبات العابد ليجدها بعدها بين ذراعيه متشبثة باحضانه حتى لا تسقط ارضا فيسقط هو بديلا عنها صريعا لنظراتها التي أشعرته انه يقف على الأعراف لا فازبجنة عشقها ولا تلظى بنار بعادها، ما بين بين هي حالته التي لايزل يعانيها ما ان تقع عيناه على محياها..
طال شروده لتخرج عين رأسها من خلف غلالة رقيقة تحيط بالهودج هامسة: - هو احنا مش هانمشي ولا ايه!؟. تنبه امرا إياها: - امسكي يعمدان الخشب اللي عندك كويس عشان جومة الچمل صعبة شوية، مش عايزين نلاجوكِ محدوفة بره احنا ما صدجنا ركبناكِ من الأساس..
كان يقول كلماته الأخيرة بلهجة ساخرة دفعتها لتعاود النظر من خلف الغلالة في غيظ متناسية الإمساك بالأعمدة الخشبية كما امرها الا انها استشعرت حركة الجمل فجأة فتشبثت بالأعمدة في قوة وهي تندفع بشدة للأمام مع حركة قوائم الجمل الخلفية ثم تعود لتندفع فجأة للخلف بشدة مع نهوض الجمل على قوائمه الأمامية وأخيرا تستقر في اتزان بعد ان اصبح الجمل جاهزا للمسير، شعرت بالإعياء والرغبة في افراغ معدتها مع كل هذه الارجحة لكنها تجاهلت شعورها ذاك وهو يهتف من على صهوة فرسه: - انتِ تمام فوج!؟.
لم يكن باستطاعتها المجازفة وإخراج رأسها للرد عليه والا قد يحدث ما لا يحمد عقباه لذا أخرجت كفها رافعة إبهامها كعلامة متعارف عليها ان كل الأمور على ما يرام مما دفعه ليئد قهقهاته على حالها الذي يدركه تماما مكتفيا بابتسامة ارتسمت على شفتيه وهو يندفع بفرسه متقدم القافلة العجيبة التي اعادتها لزمن الجاهلية..
تطلعت للأفق من عليائها فإذا بالليل يفك اخر خيوط ثوبه المعتم عن السماء لتبدأ الشمس في التثاءوب معلنة استيقاظها على استحياء ولازلت تحتجب خلف عدة غيمات تسيطر عليها الرغبة في النعاس.. سرحت بعين خيالها وحلمت انها احدى الأميرات التي يحرسها جيش من الجنود عند انتقالها من قصر ابيها السلطان الى قصر زوجها الأمير..
كان الترنح داخل الهودج يبعث على النعاس وخاصة انها لم تنل قسطا كافيا من النوم بعد سهادها لساعات وإيقاظه لها للرحيل في تلك الساعة المتأخرة من الليل، كانت اشبه بطفلة تُهدهد داخل فراشها الوثير فبدأت عيناها في الاستسلام لنداءات النوم الا انها نفضت الكرى عن جفونها فجأة عندما تناهى لمسامعها صوت مزمار شجي يُعزف بواسطة احد الرجال بمطلع القافلة مترنما بصوت رخيم بموال عشق: -.
واه يا ليل، يا ليلي، ع اللي حب ولا طالشي واه يا عين، يا عيني، ع اللي داب ولا جالشي.. اه يا ليل واه يا عين، ميتا الزمان يا خلي.. يچود بالوصل ما يبخلشي..
تطلعت بنظرة خفية من خلف غلالة الهودج لتجده عاد من مقدمة القافلة ليسير جوار بعيرها ترتسم على قسمات وجهه جدية وصلابة أشعرتها ببعض الرهبة، وتساءلت الى اين يا ترى ستكون وجتهم القادمة!؟. سؤال هي تعلم انها لن تعرف إجابته الا عند الوصول لمستقرهم الجديد فلم تشغل بالها به..
اعادت النظر من خلف غلالة الهودج الرقيقة من جديد ليرفع ليل ناظريه لاأراديا تجاهها لتتلاقى النظرات لوهلة، تراجعت هي للداخل لكنها لازالت تبصر نظرات عينيه معلقة بالهودج وقد لانت قسمات وجهه لتحمل هذه المرة بعض من الشغف والقليل من الرقة وشبه ابتسامة..
هتفت نجوى من بين دموعها وهي تقف على اعتاب حجرة العناية الفائقة حيث ترقد أمها: - انا مش عارفة كنت هعمل ايه لوانت مش موجود!؟. هتف هشام منكسا رأسه: - متقوليش كده، انا عملت ايه يعني!؟، الحمد لله اني كنت اجازة وكمان طلعنا جيران ولحقت مامتك.. قال كلماته الأخيرة بابتسامة سعادة لتبتسم بدورها في رقة من خلف دموعها..
واستطرد هاتفا: - المهم ان الدكتور طمنا على والدتك، بصراحة الصدمة كانت صعبة عليها، ربنا يعينها.. همست نجوى بنبرة تحمل الكثير من الشعور بالذنب: - انا السبب، طول عمري متهورة ومش بحسب لتصرفاتي حساب، وعين دايما كانت بتستحملني، بابا الله يرحمه كان مدلعني وهي فضلت تدلع فيا بعده..
هتف هشام محاولا التخفيف عنها: - انتِ لما عملتي كده مكنش قصدك حاجة وحشة، بالعكس كان كل غرضك انك تخرجي اختك من حالة الضغط اللي عليها بسبب انها شايلة كل المسؤلية لوحدها، يعني ف الأساس كنت بتحاولي تسعديها، بس النصيب بقى وده ملناش يد فيه.. هتف بكلماته الأخيرة حاملة مغزى ما تمنى ان يصلها..
صمتت ولم تعقب ما استدعاه ليهتف في اضطراب: - طب انا هروح اجيب لك حاجة تشربيها، لسه الليل قدامنا طويل.. هتفت نجوى في حرج: - لا، تجيب ايه، وليل ايه اللي طويل!؟، كفاية قوى تعب حضرتك معايا لحد كده، حرام تقضي اجازتك ف المستشفى..
نظر اليها عاتباً: - بقى ده ينفع!؟، اسيبك لوحدك هنا وأمشي، انا قاعد ومش هتحرك من مكاني الا بعد ما اطمن على والدتك، وبعدين الاجازة لسه ف أولها، قدامي فيها تلات ايّام تاني، يعني هتزهقي مني..
نكست رأسها في خجل: - لا ازهق ايه حضرتك، ده انت مشرفنا.. هتف هشام وهو ينهض باسما: - حيث كده بقى، نخليها عشا، عشان يبقى عيش وملح.. ابتسمت وهزت رأسها في إيجاب..
أشار جابر للقافلة بالتوقف واندفع عائدا الي حيث كان يسير ليل ملازما لبعيرها بذيل القافلة.. اقترب من ليل هاتفا: - لازما نوجف حلاً، فيه عاصفة شديدة چاية ف الطريج.. تطلع اليه ليل هاتفا: - انت متأكد ولا نكمل طريجنا!؟، اللي فاضل مش كَتير..
اكد جابر في ثقة: - استغفر الله العظيم، من ميتا چابر جالك حاچة وطلعت غلط!؟، لاااه متأكد يا بيه، ياللاه بسرعة ع التلة البَعيدة دي نداروا وراها لحد ما تعدي العاصفة وربنا يسلم..
هتف ليل امرا: - طب روح نبه ع الكل ياخد حذره وياللاه بسرعة على هناك.. تطلعت عين من فوق الهودج على ما يحدث هاتفة في قلق: - احنا وقفنا ليه!؟، هو فيه حاجة حصلت!؟. هتف ليل متطلعا للأفق كأنما يحاول التأكد من حديث جابر: - فيه عاصفة رملية جاية ولازما ناخد احتياطاتنا.. هتفت في ذعر: - عاصفة، عاصفة ازاي يعني!؟ مش شوية هوا شديد وخلاص..!؟.
كانت تهزي بكلماتها الأخيرة في محاولة لطمأنة نفسها الا انه هتف ساخرا: - شوية هوا ف جلب الصحراء حاچة مش هينة، دي ممكن تدفنك حية.. شهقت في صدمة وهو يسحب لجام البعير ليوجهه الى تلك التبة التي اتفق مع جابر على الاحتماء خلفها وتبعه باقي أفراد القافلة في سرعة.. أناخ بعيرها لتعيد تجربة الارجحة التي تثير غثيانها من جديد، لم تنتظر منه مساعدتها هذه المرة بل قفزت في رشاقة خارج الهودج..
قاموا بوضع البهائم أمامهم كحائط صد وخلفهم كانت التلة التي كان وجودها في تلك اللحظة هدية من المولى عز وجل.. امرها هامسا وهو يشير لمنطقة ما خلف البعير مباشرة: - خليكِ هنا ومتتحركيش مهما حصل.. وخلع عنه عمامته وبللها ببعض الماء مقتربا منها هامسا: - معلش لازما عشان..
لم يكمل جملته عندما هزت رأسها تفهما وهو يميل عليها قليلا يحاول ربط قماش العمامة المبللة حول انفها وفمها وما ان انتهى حتى ابتعد قليلا متطلعا اليها ليتأكد من ان الامر تم على خير ما يرام ليصطدم بعيونها من خلف قناعها فيرتج اضطرابا وما ان هم بالابتعاد حتى همست: - طب وانت!؟. لم يستدر لمقابلة عيونها من جديد وهمس مؤكدا: - متجلجيش هتصرف..
واندفع يُؤْمِن باقي أفراد القافلة بمعاونة جابر لتبدأ الرمال في التحرك نحوهم وكأنها وحش كاسر يصبح اكثر ضراوة كلما ازداد اقترابا.. امر ليل الجميع صارخا بالاحتماء قدر الإمكان خلف أجساد البعير والخيول التي اناخوها متخذينها ساترا.. دس جسده جوارها خلف ذاك البعير، شعر بذعرها وانتفاضة جسدها رهبة، همس مطمئنا: - متخافيشي، اجفلي عيونك وفكري ف أي حاچة تنسي بيها اللى بيحصل، وكله هيعدي..
اومأت برأسها في طاعة وضمت ركبتيها لصدرها وخبأت وجهها بين ذراعيها المتشابكين وحاولت ان تتذكر شيء ما يجعلها تلتهي عن تلك الزمجرة المخيفة التي تكاد تقتلع قلبها رعبا من بين ضلوعها لكن لم تسعفها الذاكرة في تلك اللحظة بأي ذكري تكون من القوة التي تجعلها تتخطى عواء الريح فوق رأسها، مدت كفيها تتشبث بأطراف الهودج الذي تحتمي خلف جسد البعير الذي يعتليه وهنا قفزت ذكرى ما مر جرى بينهما امس، تلك اللحظات التي لا تحسب على زمن كانت كفيلة بجعلها تهيم بعالم اخر، دفعت جسدها ليسترخي في هدوء وعقلها يعيد صورة حية لحالهما في تلك اللحظات السحرية..
وتعجبت، كيف لبضع ثوان ان تكون مصدر لأمان!؟، كيف لذكرى خاطفة كتلك ان تشعرها بكل هذا الاطمئنان بقلب عاصفة يمكن ان توئدهم احياء اذا ما طال أمدها!؟.
لا تعلم لما احست برغبة ملحة في رفع جبينها ولو قليلا لتستطلع ما يحدث، لم تفكر للحظة في مدى صحة رغبتها من عدمه بل انها نفذت في التو ورفعت هامتها قليلا تختبر الوضع لتجد ان الريح لا تزل على هبوبها لكن يبدو ان الامر بدأ في الهدوء نسبيا، اوهكذا ظنت، لكنها شهقت عندما اكتشفت ما يحدث، لقد هدأت الريح بالفعل لكن ضربات قلبها هي التي ثارت عندما وجدته منتصبا على ركبتيه يميل قليلا على جسدها مكونا بجسده الذي ألصقه بجسد البعير ما يشبه المظلة التي كانت تقيها من سقوط ذرات الرمال على جسدها المنثني في ذاك التجويف الذي أبقاها به..
دمعت عيناها رغما عنها وتساءلت بنفسها، هل كانت لحظات البارحة جالبة للامان!؟، وماذا عن هذه اللحظة التي ستظل تحفرها بذاكرتها للأبد عندما تجتمع عليها خطوب الدنيا وتريد ان تستعيد لحظة استشعرت فيها الأمان الحقيقي في ظله!؟.
اندفع هشام لداخل المشفى ليطمئن على والدتها يشعر برغبة شديدة في البوح بما يستشعره نحوها منذ اللحظة الأولى التي طالعها فيها منحنيا يحاول مساعدتها في النهوض بعد ان سقطت جراء اصطدامهما، ابتسم للذكرى وقد اقترب من الممر الذي يضم حجرة أمها وها هو يبصرها تقف مع احدهم، استشعر بعض من دبيب الغيرة داخله لكنه سيطر عليها وهو يقترب محييا معتقدا ان ذاك الرجل الذي تحادثه اللحظة هو احد أقاربها جاء يطمئن على صحة أمها ما ان وصله خبر مرضها لكنه كان مخطئا عندما هتف الرجل في لهجة تهديدية من الطراز الأول: - انا قلت اللي عندي وانتوا حرين، الفلوس تيجي وكل واحد ياخد حقه ويا دار ما دخلك شر، سلام عليكم..
رحل الرجل في عجالة وقسمات وجهه تحمل علامات نفاذ الصبر لتجلس نجوى شاردة لا تعلم ما عليها فعله، تنحنح هشام جالسا جوارها هاتفا في محاولة لفهم ما يحدث: - مين الأخ ده!؟، قريبكم!؟، وليه بيتكلم معاكِ كده!؟، يعني ده المفروض انه.. هتفت نجوى تريحه مجيبة على كل أسئلته: - ده واحد من الديانة.. هتف هشام متعجبا: - ديانة ايه!؟، انتوا مديونين لحد بفلوس!؟.
همست نجوى بشرود: - عشان كده عين طول الوقت كانت شايلة الهم، من ساعة وفاة بابا وهي بتقفل على نفسها اوضة المكتب بالساعات ومنعرفش بتعمل ايه، اتاريها كانت بتحاول تنقذ المصنع من الحجز عليه بسبب الديون دي كلها..
كان هشام يستمع اليها صامتا ولم يعقب بحرف تاركا لها حرية الإفصاح عما بداخلها لتستطرد هي وقد استدارت تواجهه: - مصنع الملابس بتاع بابا واللي كان اعز حاجة عنده بعد بناته واللي ضيع عليه عمره هيروح، المصنع عليه ديون كبيرة ولازم سدادها والا هينزل المزاد ويروح مننا..
هنجيب منين كل الفلوس دي لسداد الدين، حتى الفلوس اللي ف البنك لما جيت اسحب منها جزء النهاردة عشان المستشفى لقيت الحساب بقى صفر لأن عين سحبت الفلوس كلها عشان تيجي تنقذني من العصابة الوهمية بالفدية.. همس مؤكدا: - متقلقيش من أي حاجة، اعتبري فلوس المستشفى ادفعت، وتبقى دين عليكِ لما ترجع عين بالسلامة..
سال دمعها هامسة في خيبة: - عين!؟، هي فين!؟، لو كانت موجودة مكتنش شيلت الهم ابدا، كنت هبقى متأكدة انها هتعمل المستحيل عشان المصنع اللي من ريحة بابا يفضّل شايل اسمه.. وهمست من بين دموعها التي زادت غزارة هطولها: - يا ترى انت فين يا عين!؟.