رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس
انتفض ثلاثتهم... صفوت وسهام وزهرة... التى وقفت فى شموخ تدارى فزعها بكبرياء مثيرة للإعجاب.. عندما سمعوا صوته الهادر يسأل فى غضب... وهو يوجه حديثه لسهام أخته التى انكمشت من الفزع .. ولزهرة .. التى منعها كبرياءها من ان تحذو حذوها... :- انتوا بتعملوا ايه هِنا... وايه اللى چبكم من الأساس!!؟؟... لم ترد أحداهن... فقط ضاعت الحروف وتاهت ..
وسط الثورة العاصفة المطلة من عينيه السوداوين... -يا عاصم بيه... أ... هم دكتور صفوت بالحديث إنقاذا للموقف لكن عاصم لم يمهله.. فأسكته بإشارة من يده.. جعلته يبتلع كلماته فى اضطراب... واستدار اليه فى تجهم قائلا :- متشكرين على مجهودك يا داكتور... مكافأتك محفوظة حلاوة جيام عزيزة بالسلامة... حاول ان يقاطعه صفوت ثانية موضحا ان المجهود والفضل يعود لزهرة... لكنه استطرد فى حزم... تجدر تتفضل يا داكتور... ألف شكر .. وَيَا ريت تضايف الداكتور اللى جبته معايا من المركز لحد اما أجيبه يعاين عزيزة وولدها...
لم يستطع صفوت الحديث من جديد... فأستدار مغادرا... وهو ينظر باشفاق لكل من زهرة وسهام... ما أن غادر صفوت... حتى انفجر بركان الغضب من جديد.. وكانت اول كلماته التى نطقها بصوت خفيض يقطر غضبا... :- مين اللى جابكم هنا ومن غير علم حد ولا بمشورة حد ..انطجوااااا... صرخ بالكلمة الاخيرة فى ثورة عارمة جعلت كل من زهرة وسهام تنتفض فى مكانها مذعورة...
توجه بحديثه لسهام التى كانت ترتجف رعبا... وهو يقول .. أكيد دى شورتك... مين ها يعرف يچبها هنا غيرك... وكاد ان يتهور ويرفع يده ليضربها .. إلا ان ذراعه توقفت فى منتصف الطريق إلى وجه سهام .. فقد وقفت زهرة فى المسافة الفاصلة بينه وبين أخته تحاول الزود عنها .. وهتفت فى حدة:- سهام ملهاش ذنب... أنا اللى غصبتها تجبنى هنا... هى مكنتش موافقة .. وأنا اللى أصريت...
كانت يده لازالت فى علوها... نظراته المشتعلة تقابل نظراتها المتحدية والتى تلقى بشرارت مستهجنة فى اتجاه يده المرتفعة فى وجهها... وما ان طالعته تلك النظرات المستنكرة... حتى بدأت يده فى الانخفاض تدريجيا وهو يجز على اسنانه غيظا هتف فى سهام أخته أن تنتظره بالخارج ..وألا تدع أحد يدخل دون أذن منه... فأندفعت فى رعب حقيقى مهرولة خارجاً... بينما ظلت هى معه وحيدة.. يا ويلها لما فعل ذلك ..!؟.. تحرك فى خطى بطيئة أشبه بفهد جائع... نظرات عينيه القاتمة تحاصرها.. وتجعلها تتراجع بشكل لا أرادى خطوات للخلف فى ذعر حقيقى تحاول مداراته بلا طائل .. أنقض فجأة على كتفيها .. يرجها فى عنف وهو يقول بصوت يغلى غضباً.. :- أنا مش حذرتك..
جبل سابج متراجعنيش فى الحديت .. مهما حُصل .. شكلك مبتتعلميش يا بت ناجى التهامي .. كرريها .. علشان يبجى فيها نهايتك.. ودفعها بعيدا عنه فى عنف.. و نادى على خفيره سعيد الذى ظهر من العدم كعادته... :- حضر العربية يا سعيد... وخد الهوانم على السرايا... واتجه اليها فى حديثه وهو يقول :- هموا... ياااالله... ولينا فى السرايا كلام تانى... اندفعت كلتاهما فى سرعة تختفى من أمامه اتقاءاً لموجة الغضب الهادرة...
أما هو فوجه انتباهه كليا لعزيزة ووليدتها... وأرسل فى طلب الطبيب الذى جلبه لفحصهما... ولإزالت تلك النظرات المتحدية... قابعة امام عينيه.. لا تفارقها... كيف استطاعت تحديه بتلك الجرأة..؟!... كيف استطاعت ان تقف فى وجهه تتحدى غضبه... ومن أين لها... بتلك القوة..!!؟؟.. انها فى كل مرة تتحداه... تكشف له سراً جديداً من اسرار شخصيتها... والتى .. لم يكن هناك من فرصة .. ليكشف أغوارها... ويتوقع ردات فعلها...
هدأت نفسه بعد أن أطمن على حال عزيزة ومهرتها الرائعة و التى احتار ماذا يسميها... !!؟؟... دخل السراىّ... فبادرته أمه منادية أياه... فأستجاب مسرعاً وتوجه حيث تجلس فى صحن الدار ..أنحنى مقبلاً رأسها..
وجلس صامتا... فنظرت اليه تثبر أغوار نفسه... فهو ولدها قرة عينها.. أصطنعته على عينها.. تفهم كل شاردة وواردة تصدر منه... سألت فى خبث محبب:- مبرووك .. على المهرة الجديدة... وعلى سلامة الغالية... عزيزة.. وابتسمت فى حبور عندما نظر اليها مبتسما... وهو يجيب :- الله يسلمك يا حاچة.. چابت مهرة... سبحان الخلاج..
-طاب.. ومش أجَل واجب تعمله... تشكر صاحب الفضل.. - انتى تقصدى مين !!؟؟.. الداكتور صفوت .. والله طلع شاطر... مكنتش مصدج... دِه مكافأته كبيرة عِندى.. -داكتور صفوت مين!!؟؟.. أنا بكلمك على مرتك... أنتفض عندما قالت كلماتها الاخيرة... فسأل فى تعجب:- وهى أيه دخلها فى الموضوع .. وايه اللى يوديها هى وسهام هناك لوحديهم... والمكان كله غفر ورجالة رايحة جاية..!!؟
-لولا مرتك وشطارتها... كان زمان عزيزة واللى فى بطنها راحوا.. بعيد الشر.. سهام اختك حكيتلى اللى حُصل كله... وكيف الداكتور صفوت مكنش عارف يتصرف لحاله.. ومرتك بشطارتها هى اللى نچدت عزيزة... وبدل ما تشكرها .. چيت عليها وعلى أختك... اللى مجطعة نفسيها بكا من ساعة ما رچعوا من عِندَك...
اتضحت الصورة أمامه كاملة.. تلك الصورة التى أعماه عن أدراكها غضبه الهادر عندما وصل ليجد زهرة تقف تضحك فى مرح مع ذاك الطبيب .. الذى يماثلها سناً تقريبا.
وتتفافز كالأطفال وهى تحتضن سهام أمام ذاك الغريب... هى دائما جادة ومتحفزة تطل من عينيها نظرات التحدى تلك... وكأنها شرارات نارية... قابلة للاشتعال فى أى لحظة وقد تعجب حقا عندما رأى منها ذاك الجانب الطفولى المرح..وقد كان احتجاجه فى الاساس على إظهاره امام ذاك الغريب .. الذى ضاحكته.. فى عفوية وبراءة.. ذاك جانب أخر... يكتشفه... فى زوجته... التى لم يعد يعرف كم من الجوانب... تحمل شخصيتها..
ولا نريد أن نعرف .. هكذا سمع عقله .. ينطق فى إصرار.. كانت أمه .. تعرف ما يعتمل فى نفسه.. فلم تقاطع تلك الخواطر أو تزاحم تلك الأفكار... لكنه قال فى هدوء... يقطع استرسال أفكاره عند هذا الحد :- أنا طالع .. أطيب خاطر سهام... بس ده ميمنعش انى مرضيش عن عملتها... بس النية كانت خير... -ومرتك... !!؟؟... تسألت أمه فى خبث محبب... وهى تدارى ابتسامة طلت رغما عنها على جانب فمها...
-خبر ايه يا حاجة .. مالك .. بتحاميلها ليه كِده..!!؟... مش دى بت ناچى التهامي برضك .. اللى چبتها لحدك علشان تشفى غليلك منيه... خبر ايه بجى!!..ايه الحنية .. اللى ع تعامليها بيها دى.. وخوفك عليها .. وعلى زعلها... ما تتفلج... لم تجد أمه .. ما تسطيع ان ترد به .. انه محق .. لكنه لا يفهم.
لما تفعل ذلك .. لما تغيرت مشاعرها تجاه زهرة بهذا الشكل المتناقض... لو انها تأكدت ان زوجة ولدها هى حقا ابنة اختها العزيزة... لو انها فقط تسمع كلمة من بخيتة خادمتها وحلقة الوصل التى كانت بينها وبين اختها الراحلة .. كلمة فقط تؤكد بها شكوكها التى تصل لحد اليقين... لكنها لا تعرف كيف يمكنها ان تخبره بكل تلك الشكوك والظنون .. وكيف ستكون ردة فعله عندما يعلم ان من حثته طوال سنوات للأنتقام من ابيها .. هى ابنة خالته..
وآخر ما تركته من ذكراها... ولابد من تكريمها .. لا أهانتها والانتقام من ابيها عن طريقها... لم يجد رداً يشفى فضوله.. وطال صمت الحاجة فضيلة.. فنهض مسرعا متوجها لأعلى حيث غرفة سهام... لكنه أخذ يفكر... فى شخصا أخر... شخصا مدينا له.. بفرحة كبيرة...
خرج من غرفة سهام بعد أن طيب خاطرها.. عيناه معلقتان بباب حجرته... جذبهما بعيدا .. وهو يهبط الدرج .. ويتوجه للخارج... مع تطلع أمه إليه .. دون ان تعقب بأى كلمة... لم يعد إلا متأخرا... كان كل من فى السرايّ قد خلدوا للنوم.. دخل حجرته... أشعل الضوء .. كان يعرف انها لازالت مستيقظة انتفضت مكانها .. عند دخوله.. تجمع أطراف غطاءها حول جسدها... خلع عباءته... ووضع عصاه الابنوسية جانباً..
جلس على طرف الفراش .. يخلع حذاءه ذى الرقبة العالية.. وقال بصوت أجفلها كالعادة.. :- هاتى المداس.. وهو يشير لنقطة ما أسفل خزانة الملابس... حيث يقبع خفه المنزلى... أتقدت عيناها غضباً وحنقاً... وهى تنظر حيث أشار... ولم تحرك ساكنا... وتجاهلت ما أمرها به للتو... فنظر من جديد فى نفاذ صبر .. وهو يهتف حانقا:- .. بجولك هاتِ المداس... اتحركى..
لم تحتمل اكثر من ذلك... فأنتفضت وخرجت من تحت دثارها الذى ألقت به بعيدا فى ثورة... وهو تقول :- أنا مش جاريتك اللى أشترتها.. أنا الدكتورة زهرة ناجى التهامي... قالتها فى تفاخر وعزة حقيقية .. وَيَا ليتها لم تفعل... فقد نهض فى تثاقل مريب... يسيرباتجاهها .. نظرت حولها .. تتلمس العون .. لكن إلى أين يمكنها الهرب .!؟.. وهو فى خطوة.
واحدة .. كان ممسكاً بها ..دفعها فى عنف ليلتصق ظهرها بخزانة الملابس ويشل حركتها تماماً وهو يحاصرها بجسده الرجولى .. وطوله الفارع... كان يقيد حركة ذراعيها .. الذى قبض عليهما بكفين من فولاذ... نظر فى عيونها مباشرة وهو يقول .. أنتِ هنا أجَل من چارية.. الچارية.. بيندفع تمنها.. لكن أنتِ هنا ببلاش .. تخليص حج... وأقترب من أذنها.. هامساً:- أنا نبهتك .. متراجعنيش فى الحديت .. ولا لاه..؟؟؟!!..
ودى المرة التالتة... والتالتة .. أيه .!!؟؟.. تابتة.. يبچى متلوميش إلا نفسك... أقترب منها... انفاسه الحارقة تلفح وجهها .. ونظراته تشتعل ببريق عجيب... مزيج من الغضب والرغبة فى السيطرة على جموح روحها... كانت تنتفض داخليا بحق لكنها لم تشأ ان تشعره بسيطرته وتأثيره عليها .. لذا التزمت.
أقصى درجات ظبط النفس .. وهى ترفع هامتها .. لتنظر لعينيه بجرأة ورغبة عارمة فى تحديه .. هى نفسها لا تعلم من أين واتتها.. لكنها كانت ممتنة لها .. قابلت نظراته العابثة والتى تشير لإدراكه .. لما يعتمل فى نفسها من مشاعر ..بنظرات حادة قاطعة .. لسان حالها يقول .. الا روحى .. لن تستطيع أسرها ولو بعد مليون عام... إياك ان تفكر حتى فى ان تلك الروح الوثابة .. يمكن ان تهابك لأى سبب من الأسباب... لقد نلت ما أردت ..
وجاءك إنتقامك على طبق من ذهب .. لكن روحى .. انت واهم .. بل حالم .. لو اعتقدت لحظة انك قادر على كبح جماحها وترويضها .. كفرسك المحببة.. واهم بحق .. ما ان تصادمت نظراتها المتحدية.. بنظراته النارية .. التى كان لايزال يرمقها بها .. حتى عقد حاجبيه .. يحاول مداراة دهشته التى طلت من عينيه تزاحم التحدى ..ظل لحظات يرمقها بتلك النظرات المندهشة .. وأخيرا .. وعلى حين غرة أطلق سراحها .. ليبتعد فى صمت عجيب .. ويتناول عصاه وعباءته... ويخرج من الغرفة .. ويغلق الباب خلفه فى عنف جعلها تجفل...
اندفع للحجرة فى ضيق وتوتر و هو يفتح خزانة ملابسه... ويتناول بعض الملابس منها ويضعها فى حقيبة سفر أنيقة.. وهو يتحرك ذهابا وايابا.. فى الغرفة يضع متعلقاته... اتجه للحمام ليأخذ حماما ويرتدى ملابسه .. بحثت عن جوالها ..تريد ان تطمئن أبيها على حالها .. وربما استطاعت محادثة أمها وندى ..انها تفتقدهما بحق... ها هو.. وقد وجدته قابع على المنضدة بجوار الأريكة حيث تتركه دائما .. لكن ما تلك العلبة من القطيفة القرمزية .. ومن تركها هنا !؟؟
تناولت العلبة فى فضول... وهى تتطلع لباب الحمام .. مخافة ان يُفتح فجأة.. لكنها لازالت تسمع صوت انسياب المياه .. فأطمأنت .. وفتحت العلبة فى حذّر... وأخيراً طالعتها... حلية ذهبية... قمة فى الروعة والجمال .. والأروع... انها منحوتة ببراعة على هيئة زهرة تلمع فى فروعها ماسات صغيرة... تتألق فى فخامة...
أُخذت من جمال الحلية الذهبية، لكن لم يكن ذلك ما جعل وجيب قلبها يرتفع، وإنما تلك البطاقة الرقيقة الموضوعة بعناية أسفل الزهرة الذهبية، وأمسكتها بأنامل مرتعشة وفضتها فى سرعة... لم تع شيئا منها لشدة توترها... فأعادت القراءة من جديد محاولة التركيز .. "أهديتنى زهرة... فأهديتك مثلها... شكرًا .." ماذا يقصد !!؟؟... سألت نفسها... ما تلك الزهرة التى أهديته
إياها .. انا لم اهديه اى زهور... !!؟؟..لم يمهلها عقلها .. للأستطراد .. بل هتف بها فى. ضيق... لا يهم ذلك كله .. الأهم الان هل ستقبلى هديته!!؟؟.. انتفضت كالمذعورة.. وهى تجيب... فى صوت عال.. لا طبعا... وأخفضت صوتها عندما لاحظت علوه المفاجئ .. وتناولت العلبة القرمزية... وألقتها فى الحقيبة المعدة لسفره...
هى لا تحتاج لهدايا ذهبية... وخاصة منه... يشكرها .!!! ولما يشكرها !!؟!؟.. كان الاولى به ان يعتذر... عن الطريقة التى عاملها بها... لكن طبعا... الغول .. لا يعتذر .. الغول يهين كرامتى... ويذل كبريائى... لكن لا يعتذر .. لا اريد هديته مهما كانت روعتها .. كلمة اعتذار من ذاك الوحش .. ستكون اكثر قيمة بالتأكيد... بل انها لا تقدر بثمن...
خرج أخيراً... من الحمام... ورأها جالسة فى هدوء مريب لم يعلق... وشعرت هى بنظراته القاتمة التى تنصب عليها وتحاصرها... انه قادر عن سبر أغوار نفسها وقراءة ما تفكر فيه بشكل تعجز عن فهمه وادراك كيفيته... رفعت نظراتها بشكل لا أرادى... لتجده وقد بدل جلده من جديد... فها هو يرتدى ملابسه التى رأته بها للمرة الاولى...
بعيدا عن جلبابه وعمامته وعصاه الابنوسية... انه يثير تعجبها... فها هى تراه شخصاً أخر لا يمت للوحش الذى يمثله... ذاك الرجل... الذى يرهبه الجميع .. ويضعوا لكلمته .. ألف أعتبار... ولا يستطيع أحد معاداته والوقوف فى صفوف منافسيه... قالت لنفسها... جاذبة خواطرها... بعيداً عنه... لابد من الهرب...
اندفعت للحمام هاربة .. ولم تكن تعى انه .. ألقى نظرة سريعة .. على الطاولة حيث وضع الهدية .. لكنه لم يجد العلبة القرمزية .. فأدرك انها .. قد رأتها .. ولكن أين هى يا ترى..!!؟؟.. فتح الحقيبة للمرة الأخيرة... ليضع فيها .. أحد الأغراض الإضافية... فوجد العلبة فى احد أركان الحقيبة .. ملقاة بأهمال... والعجيب .. انه لم يغضب لفعلتها.. والتى لا تعنى الا شيئا واحداً... رفضها لهديته... لكن على العكس ابتسم فى شقاوة... وحمل العلبة مرة أخرى... ليلقيها.. فى حقيبتها هى... والتى لازالت تحمل ملابسها التى رفضت ان تضعها فى خزانة الملابس... حيث تم إفراغ جزء خاص لها .. قبل الزفاف... لتضع فيه ملابسها...
همس وبريق عابث يلمع فى عينيه... وهو يشعر بانه يلعب لعبة القِط والفأر معها... ولما لا ..!!؟؟... واندفع خارج الغرفة فى اللحظة التى خرجت فيها من الحمام حتى انه لم يلق السلام مودعاً... لم تعرف كم سيغيب لكن محتويات حقيبته تدل على انه سيتغيب على الأقل... من أربعة أيام... لأسبوع كامل...
اندفعت للفراش... الذى اشتاقت له... أخيرا ستنام على فراش وثير بعيد عن تلك الأريكة التى أرهقتها.. اندفعت تحتضن الوسائد فى فرحة طفولية... ستكون تلك الغرفة لها .. ولأسبوع كامل .. ستعيش حريتها المفقودة... ستنام فى أرديتها الحريرية... وتخلع حجابها .. وتعيش فى هذة الحجرة... كل ما أفتقدته .. فى الايام القليلة الماضية... ستتحرر من كل قيوده... ومن حضوره الطاغى وأنفاسه.. التى تؤرق نومها... فى كل ليلة ..
وانتفاضاتها وفزعها.. كلما شعرت بحركة ما فى الغرفة أخيراً... ستتحرر .. من كل هذا... وتهنأ .. ولو لبضع أيام... فى حرية... وإنطلاق... بعيدا عن قيود الوحش... اندفعت... لحقيبتها... تنتقى منها ما تشاء... من منامتها وارديتها الحريرية التى اشتاقت لها... وفجأة .. أصدمت كفها بشئ ما... مخملى الملمس.. لم يكن الا العلبة القرمزية .. التى تحمل هديته اليها... امتعضت... لكنها لم تستطع ان تقاوم... بريق الزهرة اللامع... فأخذت تتحسسها بأنامل... رقيقة... لم تكن تعلم... ان له ذاك الذوق الراقى... انه ادهشها صراحة... لكن... الذى لا زال يدهشها... ويثير تعجبها هو تلك الكلمات المرافقة لهديته... لازالت لغزا بالنسبة لها...
تنهدت... ووضعت الهدية على الطاولة بجوار الفراش... وتدثرت... وراحت فى نوم عميق... تحاول ان تبتعد عن كل ما يخصه... ويحمل اسمه... لكن... هيهات... فها هو... قد سبقها... ليحتل أحلامها... ليقبع هناك... ماثلاً... يأبى الرحيل... حتى فى أحلامها... لا تستطيع الخلاص منه... ولكن منذ متى... يمكن الهرب... من الغول... !!؟؟
اندفعت سهام... فى شقاوة .. كعادتها .. لحجرة زهرة.. والتى مازالت مستغرقة فى نومها العميق... لتهتف .. -ايه... يا خلج.. كل ده نوم ..!!؟... لو كان عاصم اخوى هنا... لم تُكمل سهام كلمتها .. فلقد استفاقت زهرة دفعة واحدة عند ذكراسم عصام... ثم هدأت .. عندما وجدت نفسها على الفراش وتذكرت سفره منذ عدة ساعات للمزرعة..
اسبوع كامل... قبل سفره... كان يشبه هدنة الحروب... لم يكن يتواجد فى السرايّ لوقت طويل... ولا يأتى إلى غرفتهما إلا متأخرا يتسلل فى هدوء ليلاً... لينهض مبكراً... ويغادر فى هدوء .. وتساءلت... عندما ذكرت سهام اسمه فى عفوية .. ألهذا الحد مجرد ذكر اسمه يرعبها ..!؟.. او ربما .. ذلك تأثير تلك الأحلام... التى راودتها... والتى كان هو بطلها الأوحد بلا منازع... يا آلهى .. ألا يمكن .. أن يتركنى لحالى أهنأ فى وحدتى حتى فى احلامى حدثت نفسها فى ضيق اخرجها منه .. صوت سهام .. وهى تهتف .. ايه .. هو احنا هنجضى اليوم نوم ولا ايه ..!!؟؟..
-وانتِ عيزانا نعمل ايه يعنى !!؟؟.. سألت زهرة .. فى تعجب... - جومى... فوجى كده .. وانا هفرجك على ارضنا.. يا الله هجوم بدور المرشدة السياحية ..وامرى لله... قفزت زهرة فى فرحة... يعنى ممكن نخرج.. !؟؟ -أمال أنا بجول أيه... أنا استأذنت من عاصم جبل ما يسافر يا الله... جومى بجى...
-طيب ..طيب... واندفعت زهرة من فراشها .. ولم تع .. انها ترتدى رداءها الحريرى .. الا بعد ان شهقت سهام فى إعجاب... :- ايه الچمال ده... !؟؟... يا عينى عليك يا عاصم... مسافر .. وسايب الچمال دِه كله... أحمرت وجنتا زهرة خجلا... وهى تبتسم لسهام فى محبة وهى تقول... فى نفسها .. معذورة .. فهى لا تعلم .. ان أخيها... لم يرى .. أى من مفاتنها... فهى زوجة مع وقف التنفيذ... فلولا كبرياءه ليلة زفافهما والذى تدين له بالكثير .. لكانت أصبحت منذ ليلتها زوجة بالفعل رغما عنها... كما كان كل شئ رغماً عنها...
إن كان لعاصم الهوارى حسنات... فتلك هى الحسنة الوحيدة التى قام بها لأجلها... أنه لم يفرض نفسه عليها كزوج... له حقوق .. بل انه .. عاملها كأسيرة حرب... حتى إشعار أخر... خرجت مع سهام... حتى الجانب الشرقي من النجع... حيث تقبع أراضى الهوارية... الشاسعة... والتى تمتد حتى حدود الجبل الشرقي... والذى يظهر قابع بقمته السامقة... لماذا ..
ذكرها ذاك الجبل .. بشخص ما !!؟... شخص .. قادر على القفز .. بدون أى احترام .. او استأذان لأفكارها وخواطرها... هتفت له فى نفسها... أيها المتطفل... لما لاتبقى بعيداً.. عن خواطرى وأحلامى... مثلما انت بعيداً... عن واقعى .. ولو لبضع ايام... بضع ايام فقط .. أخذ فيها هدنة منك.. هدنة رجاءاً... من محيا عاصم الهوارى .. الذى لا يفارقها... والذى بدأت تضيق به... فى صحوها .. ومنامها... أيقظها صوت سهام من شرودها... وهى تهتف ..
مشيرة للجانب الأخر... بصى يا زهرة... والجانب ده فيه أرض عمك جَدرى وأبوكى... كانت المرة الاولى طبعا... التى ترى ارضهم فيها فهى فقط على علم بأن لهم أرض يتولى حسام بن عمها قدرى الأشراف عليها... مدت نظرها... إلى حيث تشير سهام... فتنبهت من بعيد لخيال يقترب منهما... وعندما اقترب ذاك الشخص تبينته... انه حسام بن عمها...
وقف أمامهما يلقى التحية .. فى جدية تامة كعادته... لا يخلو وجهه من عبوسه المعتاد... -مرحب يا داكتورة... قالها متجاهلاً إلقاء التحية على سهام .. -أزيك يا حسام .. أخبارك ايه .. وأخبار عمى.. يا رب يكون بخير... -بخير الحمد لله... رد ولازال تجاهله لوجود سهام مستمرا مما جعلها تتململ فى وقفتها... -دى سهام... أخت عاصم .. قالتها زهرة .. حتى تخفف من الاحراج الذى شعرت به من جراء تجاهله لسهام .. -أه ... رد فى عدم أهتمام..
-أتجابلنا جبل سابج... يا زهرة... قالتها سهام فى حنق -مفتكرش إنى شفتك جبل سابج... قالها بلا مبالاة كاذبا... فقد عرفها منذ طالع محياها من بعيد وهى تقف مع زهرة تلك الفتاة المرحة... التى كانت تشاكس الفتيات .. عندما أتت لدارهم... يوم زفاف عاصم وزهرة... يذكر كيف انتزعت ابتسامته بشقاوتها... وكيف تعلق بتلك الابتسامة الطفولية..
التى لم تختفى عندما فتح باب دارهم ناقماً على الطارق فطالعته ابتسامتها.. التى كانت أول ما أشرق على وجهه العابس... -لاه اتجابلنا.. يوم ما جيت داركم .. وفتحت لنا الباب انا والبنات... أزاى أنسى... هو فى حد يكشر كده ويتنسى... نظر اليها فى غضب... اشتعلت به عيناه الصارمتان... فأدركت زهرة أن سهام قد أشعلت الفتيل .. فجذبتها..
من يدها فى قوة مبتعدتان وهى تقول لحسام :- سلم لى على عمى .. وقوله انى باذن الله هزوركم قريب... هز رأسه فى تفهم... واستدار مغادراً هو الاخر... موجها نظرات نارية حيث سهام... التى بادلته إياها فى حنق تام .. وتمنت ان يحترق بها... ذاك العابس .. والذى لم تزور الابتسامة شفتيه أبداً... ولم تكن تعلم... انها هى .. كانت ذات مرة... سبباً... فى تلك الزيارات النادرة..
اندفعت أم سعيد لتنادى زرزور... فى حماس... فهو يظل قابعا .. فى الطرف النائى من الحديقة المحيطة بالسرايّ .. حيث تم بناء حجرته... والتى أمرت ببناءها... الحاجة فضيلة... عندما قررت بقاءه فى السراىّ .. لخدمة ابنها عاصم منذ كان طفلاً... عندما جاء زرزور للسراىّ للمرة الأولى كان عمره الثانية عشرة تقريبا .. فاقد للنطق ..منبوذاً من الجميع... و لا يعلم أحد... من أين أتى .!!؟؟... وكيف ظهر فجأة.. فى قلب النجع..!!؟؟ ومن أبويه ..!!؟؟... حتى اسمه الحقيقى... لا يعلم به احد ..
يعرفه الجميع بأسم زرزور... ولا يعرفون له اسماً أخر .. حاد الذكاء... يدرك ما يدور حوله... لكنه بلا حول ولا قوة... يعشق خدمه سيده عاصم... الذى كان يحسّن معاملته... ويفضله على جميع خدمه... ويستثنيه بمجالسته... وأحيانا ببعض أسراره.. وهل سيجد أفضل من خادم أخرس... لحفظ أسراره... وكتمانها... !!!؟؟ اندفع زرزور من غرفته... عندما سمع نداء أم سعيد..
كان يعتقد ان سيده عاصم .. قد عاد من سفره... فقد مرت ثلاث ليال على غيابه .. لكنه كان مخطئ .. فقد أشارت أم سعيد للسرايّ .. وهى تقول :- الحاجة فضيلة طلباك فى السرايا... روحلها على المُندرة .. حالاً. هز رأسه مؤكداً على فهمه للمطلوب واندفاعه لتنفيذه فى ثوانى معدودة...
فما هى الا لحظات حتى كان يقف على باب المضيفة.. ينتظر الأذن بالدخول .. فأشارت له الحاجة فضيلة... فدخل فى تردد مطأطأ الرأس . -أنت لِسَّه بتجابل أمك ..!!؟؟.. سألت الحاجة فضيلة سؤالها بشكل مباغت جعله ينتفض ..ويجيب فى تردد بإيماءة من رأسه... أن نعم... ثم أشار بيده فيما معناه... أن ذلك .. على فترات متفرقة و طويلة... -أنا عايزة النمرة بتاعت المحمول بتاعها لو كان عنديها... أو أى نمرة أعرف أوصل لها بيها... وأكلمها...
أشار زرزور .. مستفهماً... -وااااه... أنت هتحجج معاى ولا أيه... !؟؟؟... سألته بغضب جعله ينتفض... أشار زرزور رابتاً على صدره.. طالباً السماح... فأشارت له بالأنصراف حتى يحضر الرقم الخاص بأمه مسرعاً... ثم يعود من غرفته وهو فى حيرة .. لما يا ترى تريد الحاجة فضيلة التواصل مع أمه بعد كل تلك السنوات..!؟؟ .. هل قررت كشف المستور أم لماذا... يا ترى !!؟؟؟...
سلمها الرقم لاهثاً .. فأشارت له بالخروج... و اندفعت هى تسرع الخطى صاعدة الدرج.. حتى وصلت غرفتها... تلهث من فرط الأثارة.. أخيرا ستعرف ما كان يؤرقها .. منذ اللحظة التى رأت فيها زهرة... للمرة الأولى... جلست تلتقط انفاسها... تمسك بجوالها... وبقصاصة الورق... التى تحمل رقم الهاتف... ترتعش أناملها وهى تضغط الازرار... وتخطئ .. فتعيد الكرة من جديد... وأخيرا... سمعت الرنين فأخذت تلتقط انفاسها..
بصعوبة تنتظر الأجابة التى جاءت اخيرا... بعد ثوان مرت كدهر كامل... ألتقطت انفاسها وهى تجيب :- كيفك يا بخيتة... لساكى فكرانى... !؟!. الصمت على الطرف الاخر كان هو السائد لعدة لحظات حتى أجابت بخيتة فى صوت متهدج:- كيفك يا حاجة فضيلة... أنتِ اللى لِسَّه فكرانى .!؟... وفاكره واعدك ليا.!؟ .. ولا خلاص... معدش هيرچع الحج لصحابه... -بلاش تفتحى بالجديم يا بخيتة... لِسَّه مأنش الأوان..
- أُمال... ليه كلمتينى .!؟؟... خير .!؟؟.. أصل مكالماتك عزيزة ولازماً فى حاجة صعيبة جووووى اللى تخليكى تفتكرى بخيتة الغلبانة .. بعد السنين دى كلتها... أزدرت الحاجة فضيلة ريقها بصعوبة... وهى تقول :- أختى فاطنة... وبتها... ماتوا صُح... ريحينى .. محدش هيجولى الحجيجة غيرك... يوم لما فاطنة ولدت جولتولى إنها جابت بت... وبعديها بيومين... ماتت فاطنة بالحمى .. وجولتيلى أن بتها كانت ضعفانة .. وماتت هى كمان... الكلام ده صُح !!؟؟... جولى يا بخيتة ريحينى... آلهى يريح جلبك...
-ها يرتاح كيف يا حاچة وانتِ كاتمة الحج... وبيدك تريحينى... أنا جلبى عمره ما هايرتاح إلا لما أخد حجى -جلتلك... ها يحُصل ..بس فى الوجت المظبوط... مش دلوجت.. ودى أمانة فى رجبتى... بس ريحينى.. -ما تسألى الداكتور ناچى... مش بجى نسيبكم.. وخدتوا بته لولدك عاصم... أساليه وهو يجولك الحجيجة... -أنا عاسألك أنتِ... وأنا عارفة إنك مش هاتكدبى علىّ.. -الداكتور ناچى هنا جنبى... وسامع حديتنا كلاته... أها .. هو عايز يكلمك...
أنتفضت الحاجة فضيلة كالمصعوقة... وكادت أن تلقى بالهاتف من يدها... لولا تمالكها لأعصابها... وسمعت صوت الدكتور ناجى من الطرف الأخر يردد عدة مرات.. طالباً لأجابتها عليه... فأجابت بصوت متحشرج... تكسوه الدموع... فلقد تذكرت أختها الحبيبة... فاطمة... وكم كانت تحب ذلك الرجل المخادع... الذى غرر بها .. وجعلها تهرب معه.. لتموت وحيدة وبعيدة... عن أحضان أهلها... وتدفن فى أرض غريبة... عن أرضها... لن أسامحك يا ناجى التهامي..لن أسامحك أبداً...
هكذا هتفت فى أعماقها وهى تتمالك نفسها... لتعود فضيلة التى يعرفها الجميع... -أيوة يا ناچى... ولا أجولك يا داكتور ناچى.. ذى الكل ما بيجولوا... -قولى اللى يريحك يا فضيلة... أنتِ بالذات .. ليكِ معزة خاصة عندى... ومهما عملتى مش هزعل .. لأنك حبيبة المرحومة فاطمة... ومكنتش بتحب حد قدك... -لساتك فاكر فاطنة يا ناچى .. اللى خدتها من حضننا... وراحت فى عز شبابها... بعيد عن أهلها .. وعزوتها.. - ولا عمرى نستها... ولا لحظة... قالها فى صوت متحشرج.
تهزه الدموع... فاطمة دى حب حياتى .. عمرى ما حبيت ولا هحب حد بعدها... وبعدين أزاى ممكن أنساها وحتة منها كانت قصاد عينى ليل نهار... روح منها .. ربنا وهبهالى لما أختار فاطمة جنبه... كأنه سبحانه عالم بحالى كان هايبقى ايه من غيرها... فعوضنى بنسخة منها فى كل حاجة... بنتى زهرة... بنت فاطمة يا فضيلة أنتفضت الحاجة فضيلة... ووقفت مذعورة يرتجف جسدها... من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. ثم أنفجرت باكية... بكاءاً متشنجاً... لم تستطع كتم أهاته.. التى وصلت لناجى على الطرف الأخر .. والذى أحترم حزنها فى إجلال... فصمت... لفترة.. وما أن استشعر هدوءها ..
حتى استطرد فى هدوء مماثل :- أنا عارف أن أنا غلطان علشان خبيت عليكىِ أنتِ بالذات أن بنت فاطمة ممتتش.. بس أنا ساعتها كنت خايف عليها وعليا... كنت مصدوم بموت فاطمة... وخايف على زهرة من الكرة والأنتقام وفضلت مداريها عن الدنيا كلها... لكن ابنك وصلها.. واستخدمها علشان ينتقم منى... استخدم أقرب واحدة ليه.. علشان ينتقم من واحد كل ذنبه انه حب .. حاولت أقابلك يوم كتب الكتاب... لكن ابنك رفض نهائى... حاولت أعرفك..
الحقيقة.. يمكن ده يخليكى ترقى .. وتبعدى أَذًى أبنك عنها.. دى مهما كانت بنت الغالية... لكن مأمكنش أبداً... فقلت أجى لبخيتة هى الوحيدة اللى ممكن تقنعك.. لأنها الشاهد الوحيد على صدق اللى بقوله... وانا اللى طلبت منها .. متقلش .. أنتِ بعتيها تخدم أختك وتبقى حلقة الوصل بينك وبينها..
لكن بعد موت أختك .. مسألتيش فيها .. ولما أنا اتجوزت علشان بنتى ألاقى حد يربيها معايا... مراتى رفضت وجود بخيتة معانا... فأجرت لها الشقة دى .. اللى هى فيها دلوقتى... وبدفع لها مبلغ يعيشها مستورة... كفاية اللى عملته مع بنتى بعد موت أمها .. لولا وقفتها معايا ومعاها .. كانت راحت منى هى كمان... أنا كان حزنى واخدنى... وكنت هايم فى ملكوت تانى... لولا أهتمامها بزهرة .. كانت راحت منى فاطمة للمرة التانية...
فضيلة... بنتى زهرة... مشفتش يوم حلو مع مراتى اللى هى فاكرة انها امها... عمرها ما كانت حنينة عليها عمرها ما كانت الام اللى كنت بتمناها لبنتى... ولولا بنتى التانية ندى كنت سبتها من زمن... زهرة .. عمرها ما حست بحنان أمها... وجه ابنك وعمل عملته .. علشان يدفعها تمن ذنب هى مرتكبتهوش... زهرة ملهاش ذنب فى ماضى خلاص مش هايرجع...
تنهد وهو يلتقط انفاسه... بعد أنتهاءه من سرد قصته.. قصة الماضى والحقائق المبتورة والمشوهة... الأن فقط... وُضعت النقاط على الأحرف... الأن فقط ظهرت الحقيقة التى كانت ماثلة نصب عينيها... كشمس ساطعة... وكانت تستشعرها... بحدسها وتنكرها... استطرد ناجى متنهدا : -زهرة أمانة فى رقبتك يا فضيلة... هتسألك عليها فاطمة... يوم الدين...
خلى بالك منها.. وأبعدى عنها... نار الأنتقام اللى ذرعتيها فى قلب ابنك ..وزهرة اللى هاتتحرق بيها لوحدها... اللهم بلغت... اللهم فأشهد أغلق الهاتف... دون أن ينتظر منها... الرد .. وتهاوت هى على أريكتها.. تنظر للفراغ .. فى شرود تام... وقد أفلت من يدها... هاتفها.. ليسقط مستقراً... أسفل قدميها...
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس
تململت زهرة فى جلستها... كانت تشعر بالسأم والضيق... فالايام فى تلك السراىّ شبيهة ببعضها... لا تحمل أى جديد البارحة تشبه اليوم... لا شئ يثير فضولها .. هى لم تعتد على تلك الحياة الراكدة... بلا عمل .. ولا إنجاز يذكر .. انها تفتقد عملها ..بشدة... تفتقد ان يكون لها هدف تسعى اليه... وعمل تحبه .. وتتقنه... تمضى فيه وقتها .. وتكتسب فيه خبرات تنمى قدراتها...
اندفعت وهى تنادى على سهام .. ودعتها للخروج للأرض لانها تشعر بالملل لكن سهام رفضت قائلة :- -لاه... مش عايزة أروح وأجابل واد عمك الكشر ده... أحتمال نمسكوا فى خناج بعض تانى... وساعتها مش هاتعرفى... تنجيه من يدىّ... ضحكت زهرة فى مرح ..وهى تتذكر شجارهما السابق.. -لا خلاص .. هحاول .. ما تتقابلوش... مش طالبة الحرب تقوم تانى... ما صدقنا هديت... أو... على الأقل فى وقف إطلاق نار... بس علشان خاطرى تعالى معايا... أنا زهقانة.
قووووى... ومش قادرة أروح لأسطبلات الخيل... أنتِ عارفة... أخوكى محرج علينا... تعالى معايا علشان خاطرى... قالتها فى صوت متوسل ..لم تستطع معه سهام الرفض... فأحتضنتها زهرة فى فرحة ممتنة... كانوا عند شجر المانجو... الذى تفوح روائحه الذكية.. لتملاء الأجواء... وتفتح الشهية... جلسا تحت ظلال احد الأشجار وجمعوا الثمار الناضجة... وبدأوا فى تناولها... فى شهية واضحة... كانت أيديهما...
ووجهيهما... متخضبة بأثار المانجو الطازجة... ولم تكن أحداهما... تتوقع أى زيارة من غريب ما .. يقطع عليهما استمتاعهما بأكل المانجو بحرية... إلا أنهما .. سمعا صوتاً مرحباً... غصت له سهام .. وأخذت تسعل... فى إحراج.. نظرت زهرة للقادم والذى لم يكن سوى حسام... بن عمها قدرى -أزيك يا حسام... أتفضل كل معانا مانجا... دى حلوة قوووى...
جلس حسام على الجانب المقابل منهما... وهو يقول .. -ما دجتيش المانجا من أرضنا... سكر... مش ذى دى .. -ومالها دى !!؟؟... سألت سهام فى حنق... -ملهاش... ذى السكر... أجابت زهرة فى سرعة محاولة تجنب الصراع المتوقع... بين سهام وحسام... تجاهلها حسام كالعادة موجهاً حديثه لزهرة... -فى حالة فى الزريبة يا داكتورة ..لو فيها تعب .. ممكن تشوفيها... قفزت زهرة فى حماسة منقطعة النظير... وهى تقول... أه .. طبعا... يا ريت فين ..!!؟؟
-فى زرايب التهامية أكيد... وأنا مينفعش اروح معاكِ هناك هكذا قالت سهام فى تحدى سافر لحسام... كان مظهرها.. الطفولى الملطخ بأثار المانجو التى تحيط بفمها وذقنها.. تفرض على من يراها... أن يقع غارق فى الضحك... وخاصة .. انها لم تدرك .. ان هناك بعض .. الأثار المانجاوية... قد تسللت لأعلى خدها... وفوق أحدى عينيها التى بلون العسل المذاب...
لم يتمكن من رفع عينيه عنها... لم يظهر على ملامحه الجافة أى تعبير يوحى ولو بالابتسام... إلا انه عانى داخليا حتى يستطيع أن يكبح جماح ضحكاته... فلا تظهر على شفتيه... معلنة عن نفسها... لا يعرف لما فعل ذلك... فلقد وجد نفسه .. لا أرادياً.. يمد يده.. بمنديله..ليمسح تلك البقع المضحكة التى ..
خضبت وجهها... تسمرت .. ولم تنطق لثوانى من أثر الصدمة... إلا انها .. تمالكت نفسها.. وانتزعت منه المنديل... ليستفيق بدوره.. على فعلته اللأرادية تلك... فيقف فى سرعة .. قاطعاً حرج الموقف مخرجاً زهرة من شردوها بسبب ما قام به منذ لحظات... -ها هاتيجى يا داكتورة... ولا عاصم بيه .. هايمنعك عن أهلك...
لم ترد سهام هذه المرة على تلميحاته بخصوص أخيها وعائلتها .. فهى مازالت مأخوذة بما فعل منذ لحظات... -أه .. طبعا .. هاجى معاك .. وعاصم عمره ما منعنى عنكم على فكرة... لماذا تدافعين عنه!!؟؟... سأل عقلها فى حنق... بينما أكتفى قلبها... بأبتسامة رضا .. كانت تفحص ذاك الفرس المريض... كانت مأخوذة تماما .. بعملها .. منفصلة عن العالم كلياً... وكانت سهام تراقبها... تنتظر انتهاءها بفارغ الصبر .. فماذا سيحدث ان رأها أحد الهوارية... هنا !!؟؟.. أرتعدت وهى تتخيل رد فعل عاصم أخيها...
-أنتِ كويسة !!!... سأل حسام فى أهتمام عندما لاحظ أرتعاشتها أومأت برأسها .. ولم تستطع الأجابة تتحاشى تلاقى عينونهما... إنه يراقبها... وإلا .. كيف لاحظ أرتجافها .. !!! لم تشاء أن تبدو ضعيفة... فنظرت فى وجهه بثقة... ذاك الوجه العابس دوماً... لما لا تتبسم... !!!.. -أسمك حسام .. يعنى على وزن ابتسام... ليه مبتضحكش انت عليك ندر لا سمح الله وبتوفيه... وحالف ما تضحك..
قالتها بأستهزاء ساخرة متوقعة منه أن يثور ويغضب كعادته ويزداد عبوساً وقتامة... لكن ولدهشتها... قال وبنبرة صوت تحمل الكثير من الاستمتاع وبريق شقى يرقص فى عينيه -... أه صوح اسمى على وزن ابتسام ..لكن الاجمل انه على وزن اسمك... سهام... تسمرت سهام فى مكانها... فالدهشة كانت من نصيبها هى لم تعلق بحرف واحد... وقد أزداد وجيب قلبها... ماذا دهاه... هل هو مريض... !!؟؟
لابد وانه كذلك... أما هى فقد تخضب وجهها بحمرة خجل غير طبيعية... جعلته يشبه الفراولة الطازجة .. وألتصق لسانها الذى لا يتعطل ابدا عن الرد المناسب بسقف حلقها .. وما ان استطاعت استجماع شتات نفسها... حتى اندفعت هاربة من أمام نظراته المتفحصة التى أربكتها... تستحث زهرة على الرحيل متعللة بتأخرهم عن موعد العودة... أنتهت زهرة أخيرا وكتبت العلاج المناسب للحالة وأعطته لحسام شارحة له كيفية استخدامه...
وفى نفاذ صبر سحبت سهام زهرة... خارج أرض التهامية مندفعة هرباً من أخر شخص كانت تتوقع ان تهرب منه بدلاً من مواجهته... ألقت بنظرة خلف ظهرها... لتجده يودعها... والعجيب... ان هناك نصف ابتسامة تخيلتها... مرسومة على شفتيه..
أندفعت كل من سهام وزهرة لصحن السرايّ... ضاحكتان تتسابقان لصعود الدرج... إلا أنهما توقفتا فجأة... عندما لاحظا وجود الحاجة فضيلة فى مجلسها فى قلب الدار توجها إليها لإلقاء التحية.. لكنها كانت فى شرودها .. تحاول استجماع شتات نفسها... بعد تلك المحادثة المطولة مع ناجى التهامي... والتى أيقظت ذكريات كثيرة... ومبعثرة من زمن مضى... ظنت انه ولى بلا رجعة... لكنه .. عاد وبقوة... عاد ليخبرها.. ان شجرة.
الأنتقام والثأر... لا تطرح... إلا ثمار من علقم... مجبرة هى الأن على تذوقها.. بلا قدرة على الرفض أو التمنع... لأنها هى من وضعتها فى فمها بيدها.. هى من أشعل النار... وهى من أزكتها طوال سنوات... فى قلب أبنها... وها هى تنتقم .. لكن فى أعز ما تملكه.. تنتقم.. من الذكرى الوحيدة التى تركتها أختها... وغادرت .. بلا رجعة...
تطلعت فى شرود لزهرة... فلاحظت سهام حال أمها... فهمست لزهرة فى حذّر... يا الله على فوج يا مرت أخوى وسيبى الحاچة... مبتحبش حد معاها لما تكون فى الحالة دى... أمى وحفظاها... رفضت زهرة :- روحى أنتِ يا سهام... أنا مش هاسيبها كده... شكلها غريب... لحسن تتعب .. أكون جنبها... ولو قالت لى أمشى... همشى .. بس مش هسيبها...
كانت تسمع الحاجة فضيلة همساتهما... وترقرقت الدموع فى عينيها... حتى فى طيبة قلبها تشبه أمها... أختها الحبيبة الوحيدة التى كانت تعرفها وتدرك حزنها وفرحها... قبل ان تنطق بهما... حتى لو كانت تداريهما فى قلبها خلف الف سرداب... انها فاطمة... روحاً وجسداً... ان فاطمة لم تمت... انها قابعة .. هنا .. على بعد خطوات منها...
أشارت لزهرة... التى أقتربت منها... فى هدوء حذّر .. وجلست بجوارها... حيث أشارت... ربتت الحاجة فضيلة بحنان على كتفها .. وضمت فجأة رأسها... إلى أحضانها... لم تشعر زهرة يوما ما بحنان كذاك الذى استشعرته فى احضان الحاجة فضيلة... كان احساس صعب وصفه.. أحساس بالأمان والراحة... أحساس بالرغبة فى البقاء للأبد فى أحضانها تتلمس الدفء والحنان الذى أفتقدته دوماً .. فى علاقتها... مع أمها منيرة... لم تذكر يوما ان أمها .. طوقتها بذراعيها .. وأستقرت بين أحضانها... تتمتع بالمحبة .. كما هى الأن...
كانت تشعر ان الحاجة فضيلة .. تصارع مشاعر ما... لكن لم تجرؤ ان تسألها... رفعت رأسها.. ببطء حذّر .. لتتنبه الحاجة وتشيح بوجهها عنها.. تدارى تضارب فى مشاعر.. لا تريد الإفصاح عنه... أشارت لزهرة بالرحيل مشيرة للدرج..والذى صعدته زهرة فى شرود .. كانت لا تريد الرحيل وتركها فى تلك الحالة... وفى نفس الوقت... لا تتجرأ على البقاء... مخالفة أمرها.. انها المرة الاولى التى ترى فيها الحاجة فضيلة..
رمز الحزم... والشدة... فى تلك الحالة .. تذكرانها... اضطربت عندما رأتها للمرة الأولى يوم زفافها... لكن ابدا... لم تكن فى تلك الحالة التى هى عليها الأن... دلفت زهرة لحجرتها... وقعت عينها على العلبة المخملية.. التى تركتها على المنضدة بجوار السرير أشاحت بوجهها عنها واندفعت للحمام .. تستمتع برزاز الماء الدافئ لعله يساعدها على النوم السريع هربا من صراع قلبها وعقلها الذى اصبح مقرراً ..
يومياً... منذ رحيل عاصم .. فما أن تغمض عينيها... استعداد للنوم .. حتى يبدأ التطاحن.. وتشتعل الحرب بين الخصمين المتصارعين .. أرتدت... أحد أرديتها الحريرية .. التى تماثل لون عينيها الجوزيتين .. ووقفت أمام طاولة الزينة .. تمشط شعرها الحريرى... وتضع بعض من قطرات العطر التى حرمتها على نفسها منذ دخلت تلك الغرفة لأول مرة... لا مانع من بعض القطرات هنا وهناك طالما أن الوحش الذى تخشينه... ليس هنا .. والغرفة ملك لكِ...
فعيشى الحرية... ولو قليلاً... هكذا حدثت نفسها.. دلفت للفراش تمنى نفسها ببعض ساعات من النوم الهانئ... وبعد الصراع المعتاد... راحت فى نوم عميق .. تاركة قلبها وعقلها... يتناحران... بلا توقف.. تسلل ذاك الشبح فى ظلام الغرفة فى بطء حذّر وانتظر لحظات حتى اعتادت عينيه على الظلام وأدار بصره .. فى جنبات الغرفة... لتسقط على على الأريكة الفارغة... لتتجه فى سرعة... للفراش ليرى .. جسدها يحتله .. تقدم ببطء ليقف بالقرب منها... يتطلع اليها بإحساس لم يستشعره من قبل...
كان يفكر فيها دوماً... لم تكن تبرح خواطره وأفكاره... حتى أحلامه... لم تخلو منها مطلقاً كان من المقرر عودته غدا... او بعد غد .. على أقصى تقدير إلا... انه انهى ما كان مطلوب منه... بعد تلك المشكلة فى المزرعة... و .. لم يستطع البقاء بعيدا.. أكثر من ذلك.. كان يكابر... ويعاند نفسه كثيرا... لكن أخيرا تحطمت مقاومته... وطفق عائداً.. يدفعه احساس عجيب .. لحجرته .. كى يراها...
فقط .. يراها .. وليته لم يفعل... كيف له ان يقاوم ذاك السحر القابع ها هنا... على فراشه وعلى شعاع الضوء المتسلل من الحمام .. الذى اعتادت على تركه مضاءً، منذ أن رحل، أخذ يتطلع لذاك الرداء المخملى، الذى يجعلها كتلة مجسمة من الفتنة، وشعرها الحريرى الذى يضاهى الليل سواداً، منثوراً حولها .. فى غجرية... تبعثر روحه... وتنثر قلبه.. شظايا.. نجوم... على صفحة .. ذاك الليل ماذا .. لو لمست الليل .. لو تدثرت به... !!!.. ماذا .. لو غرقت فى ذاك الشلال ..وجمعت اللؤلؤ من على شطأن ذاك الثغر المقدس المحفوف بالأخطار...
يا آلهى... انك تهزى يا عاصم... ماذا فعلت بك أنت عاصم الهوارى... الوحش .. الغول .. الذى لا يملك قلباً... تطير مسابقاً الريح.. فقط لتراها... لقد اصابك الجنون حتماً... أو أصابتك لعنة ما .. جعلتك... تفقد صوابك بهذا الشكل الخطر .. الذى ينبأ بما هو أخطر... اندفع مقتلعاً نفسه... أقتلاعاً... من أمام فتنتها.. وتأثيرها الطاغى.. وسار ببطء حتى لا يوقظها..
ودلف للحمام... يهدأ من ثورة نفسه.. وينثر خواطره وأفكاره .. التى دوما هى محورها... مع رذاذ الماء الدافئ المنساب على جسده.. وفجأة فتح عينيه ليكتشف إنقطاع التيار الكهربائى... لا ينقصه... غير هذا الأن .. أغلق شلال المياه.. ليخرج من المغطس... وما أن أنتهى من أرتداء جلبابه فى صعوبة تامة .. نظراً لإنعدام الرؤية.. إلا... وسمع صرخات مدوية... جعلته ينتفض خارجا من الحمام... فى حذّر لا يرى طريقه... توتره تلك الصرخات...
ويعيقه الظلام من الوصول .. لمصدرها.. خرج عاصم يتحسس طريقه فى الظلام .. وتلك الصرخات المدوية... تحولت لأنات خافتة... جعلته يرهف السمع حتى يستطيع الوصول لمصدرها... وأخيرا... وصل اليها.. هتف فى ذعروقلق:- زهرة... زهرة ..
كان يتلمس الطريق اليها .. حتى وضع يده أخيرا على شعرها المنساب على ظهرها... ومنه وضع كفه على رأسها .. كانت تضم ركبتيها لصدرها... جسدها متشنج تأن بصوت خفيض يمزق نياط القلب.. رفع رأسها المتكومة بين ركبتيها... ليجد جبينها يتصبب عرقا... وهى شبه غائبة عن الوعى .. تهمهم بكلمات غير مفهومة... يفهم منها .. رفضها لشئ ما بقوة...
جلس بجوارها... يربت على كتفها ورأسها... محاولاً تهدأتها حتى يفك ذاك التشنج... والتصلب فى أطرافها متخافيش... أنا جنبك... متخافيش... أنا هنا... هدأت قليلاً... فأستطاع حملها.. فأنكمشت مرة أخرى فى أحضانه .. يعتريها الخوف الشديد... وتتوالى انتفاضات جسدها... وارتعاشات تتوالى من حين لأخر لا يعرف لها سببا...
وضعها على الفراش فى حنو بالغ .. وانحنى يزيح غرتها يمسح بأنامله قطرات العرق التى تفصدت على جبينها أخذت تردد فى خوف:- لا... متسبنيش ياماما منيرة... أنا بخاف من الضلمة... متسبنيش ..
ألمه توسلاتها... انها امها من تناديها.. كيف تفعل بها ذلك..!!؟... لابد وأنها كانت طفلة حين ذاك... لما تلك القسوة..!!؟؟ .. مد كفه .. يربت على رأسها فى حزن مغلف بحنان جارف... لا يعرف مصدره... لا يظهر إلا فى وجودها فقط... هى فقط .. لا غيرها... لماذا !؟؟...
فجأة تشبست بيده التى كانت تجذب عليها الغطاء.. وتدثرها فى حرص... حاول أن يفلت كفه برقة من يدها المتشبثة به... لكنها غرست أظافرها فىساعده .. وأبت ان تتركه .. كانت ارتعاشات جسدها تزداد .. فأشفق على حالها.. فترك كفه تستكين بين كفيها قابعة فى أحضانها... كان الأن يتكئ على حافة الفراش نصف جسده يكاد يلتصق بها... والنصف الاخر يتدلى من الفراش وقدمه تسند جسده الشبه متهاوى ..
لم يعرف كيف ظل على هذه الحالة... كل ما يعرفه انها اخيرا استكانت .. والأدهى... من كل هذا كفه القابعة فى أحضانها التى تعلو وتهبط بأنتظام رتيب مع أنفاسها... وعطرها .. الذى تسلل إلى أنفاسه .. يفقده صوابه... وشعرها المتناثر فى كل اتجاه كأشاعات شمس ليلية .. تشرق متناقضة مع بياض شرشيف الفراش... تنهداتها المتقطعة الرقيقة... ودموعها الساخنة التى سالت فى صمت من عيون مغمضة بشدة مخافة أن تفتحها... لتجد أمامها أحد وحوش الظلام الذى تهابه يا آلهى... انها تستدير لتقابله بجسدها..
انها الأن حرفيا بين أحضانه... الصبر من عندك يا رب... هكذا همس متضرعاً... يزداد وجيب قلبه .. وتضطرب انفاسه التى اصبحت تقريبا .. تلحف بشرة خدها المقابل لوجهه.. زفر فى قوة... بأنفاس حارقة تجسد ما يعتمل فى صدره من مشاعر .. وأحاسيس عاصفة...
عاااصم... !!!... هكذا سألت من وسط غيبوبتها ودموعها.. عندما فتحت جفونها .. بأعياء .. متطلعة إليه... ثم غابت من جديد... لا... هذا كثير .. هكذا همس وجسده ينتفض انها المرة الاولى التى يسمع اسمه من بين شفتيها وفى تلك اللحظة الدامية بالذات... انه يحتاج إلى .. الآلاف من أطنان الصبر... حتى يتحمل تلك المشاعر والأحاسيس المدمرة التى تعصف بكيانه فى تلك اللحظة وهو بالقرب من تلك الفتنة المتجسدة..
انه يشعر بمشاعر متضاربة ومتناقضة حد الغباء .. انها بحاجة اليه... لحنانه .. لقربه.. انها بحاجة لتكون آمنة بين أحضانه... وهى لا يريد اكثر من ذلك .. أن يمنحها ذاك الحنان .. الذى تحتاجه.. لكن... هو لا يستطيع ان يقترب... قسمه لها .. فى ليلة زفافهما .. بأن لا يقربها .. إلا اذا اتته راضية.. وخوفه أن يكون مستغلا .. لحالتها .. وخوفها.. ولجوءها إليه... انه لا يستبعد ابدا.. انها تحلم .. لانها حتى ليست على علم بقدومه من سفره... الصبر من عندك يا رب... هكذا ظل يهمس و.. يبتهل متضرعاً...
حتى جاءته النجدة... وزار النوم جفونه أخيرا.. وهولا يعرف .. متى زاره..!!؟.. ومع تباشير الصباح الاولى... فتحت عيونها.. ترفرف أهدابها .. لا تتذكر .. إلا حلم غريب زارها بالأمس .. حاولت ان تتحرك.. لكنها مقيدة لشئ ما .. وجسدها مكبل بطريقة غريبة.. انها حتى لا تستطيع تحريك رقبتها للجهة الأخرى فشعرها .. مثبت لشئ ما .. حاولت جذبه ببطئ ..لكنها لم تستطع .. كل ما كان بامكانها لحظتها هو إلقاء نظرة بنص عين لهذا الشئ الجاثم على جدائلها .. يمنعها الحركة.. وما ان فعلت .. حتى شهقت فى قوة ..وبذعر حقيقى...
شهقة .. أيقظت رفيقها الذى كان يصنع من شعرها وسادة حريرية لرأسه بأنتفاضة .. وهنا ألتقت أعينهما كان لا يزال يأسر شعرها أسفل جزء من جسده... ذراعه تحيط بخصرها.. وغطاء الفراش يلتف بعبثية حول أقدامهما معا .. ظل كل منهما... يحدق فى الأخر .. لا يدرك ما الذى حدث... وكأن معركة ما قامت هنا... وكبلت كل منهما للأخر بهذا الشكل العبثى...
تذكر دفعة واحدة كل ما حدث بالأمس .. بعد أن طرد سحابات النوم التى كانت تكتنف فكره... وكان أول من استفاق .. لينتفض فى سرعة كالمصعوق... ليكون خارج الفراش فى أقل من ثانية... ويندفع... للحمام .. ويغلق بابه خلفه فى عنف... جعلها تجفل... وقد أيقنت... أن حلم البارحة... لم يكن حلماً... بل كان عين الحقيقة...
قامت من الفراش تمشى على أطراف أصابعها كى تصل لحقيبتها وترتدى أحدى مناماتها قبل ان يخرج من الحمام.. ولكن وهى فى منتصف الطريق للحقيبة فتح عاصم باب الحمام فجأة .. لتتسمر هى فى مكانها للحظات .. تطلع اليها... لازالت تحمل ذاك السحر الذى كاد ان يفقده عقله البارحة.. ملامحها تحمل أثر النوم وشعرها الحريرى تناثر بشكل همجى على ذراعيها وجانبى وجهها .. رداءها المخملى ..
الذى خلب لبه... يحيط بقدها المياس... لازالت تلك الحورية .. التى كانت تتشبث به البارحة .. هرباً من الظلام .. وانكمشت فى صدره .. كقطة .. فى ليلة عاصفة .. شديدة البرودة .. اندفعت هى للفراش مرة أخرى .. عندما طالعت محياه.. تجذب الشرشيف... تتدثر به من قمة رأسها حتى أخمص قدميها .. تجاهلها تماماً .. وهو يعدل من عمامته امام المرآة.. وتناول عباءته وعصاه الأبنوسية ذات الرأس الفضى... وخرج من الغرفة... تاركاً أياها تزفر فى راحة...
لتأخذ دورها .. فى حمام دافىء سريع .. وتلحق بهم على طاولة الافطار .. لم تراه طوال النهار... وها هى قد تخطت الساعة منتصف الليل .. يبدو انه لن يأتى .. وربما سيبيت ليلته فى الاسطبلات .. لكنها كانت مخطئة فى ظنها ..فقد أنتفضت فى مكانها.. عندما فتح الباب فى عنف .. غير عابئ .. بأنها قد تكون خلدت للنوم .. فيفزعها..
انكمشت فى أريكتها.. حاولت على قدر إمكانها ألا تكون مرئية... حبست انفاسها وتدثرت حتى عنقها... وأخذت تتابعه بعين شبه مغلقة .. ووجيب قلب قد يفضحها لصخبه.. أما هو فقد كان يجول فى الغرفة أشبه بفهد جريح.. يتعامل مع كل ما يقابله بعنف مفرط .. ألقى عباءته أرضاً.. وألقى عصاه.. جانبا فى عنف.. اندفع للحمام .. وأغلق الباب فى عصبية كادت تكسر زجاجه .. تنفست الصعداء لدقائق معدودة حتى خروجه من الحمام .. أطفأ أنوار الغرفة واندفع على الفراش... وأخيرا سكن ..
وما أن بدأت فى ألتقاط انفاسها .. حتى شعرت به.. يتقلب على الفراش كمن يتقلب على الجمر .. لا يهدأ بضع ثوان.. تقلباته يصدر لها الفراش صوتاً كالانين .. من شدتها.. وتكرارها المبالغ فيه.. ماذا دهاه..!!؟؟... انتفضت... مع انتفاضته .. فتح الأنوار من جديد .. وارتدى عباءته.. وتناول عصاه .. من مكان ما ألقاها.. وثبت عمامته على رأسه فى عنف.. وتوجه ليغادر الغرفة.. ولكنه توجه للفراش اولاً.. فجذب الشرشيف من عليه فى عنف .. وكذلك الغطاء.. وألقى بهما فى حنق على أرض الغرفة... وأستدار فجأة لها.. فحاولت ان تتصنع النوم .. لكنه كان يعلم من اضطراب أنفاسها .. انها لازالت مستيقظة..
تكلم من بين اسنانه فى غضب مكبوت لو انفجر .. الله وحده أعلم ..بما قد يحدث ساعتها..:-الصبح خلى أم سعيد تغير فرش السرير كلاته... والفرش اللى على الارض ده تحرجه... فهمانى.. واندفع .. خارج الغرفة.. ليتركها.. فى حيرة... من مطلبه العجيب... تنفس بعمق .. يستنشق أكبر قدر من هواء الليل العليل .. يملء به صدره... لعله يخفف عنه بعض من حرارة تلك النيران التى تستعر فى جوانبه... يزفر فى ضيق .. لا يعلم ماذا دهاه... !!؟؟...
منذ دخلت حياته... وحياته.. قد أصبحت رأساً على عقب.. كلما ابتعد عنها... يشعر ان ألف خيط يجذبه اليها من جديد انها كشِرك... لا يستطيع منه الفكاك... كرمال متحركة.. كلما حاول الإفلات منها... يجد نفسه .. متورطاً فيها.. حد الغرق... حتى فراشه... أحتلته رائحة عطرها التى تأسره وتخلب لبه.. حاول تجاهل عطرها الذى يغزو انفاسه .. والنوم فى سلام... لكن كيف..!!؟..
انها لا تأسر أنفاسه فقط... بل تصل حيث منابع روحه .. تغزوها فى رقة .. وتنبه عقله .. وخواطره.. لتعرض بثاً حياً .. لتلك الليلة... التى قضتها مرعوبة تتلمس الأمن فى أحضانه... وهو يتلمس العون من الله... الحمد لله انها عادت سيرتها الأولى... وأرتدت غطاء رأسها..
ومنامتها الطفولية برسوماتها المضحكة... وفجأة وجد نفسه متلبساً بأبتسامة غزت شفتيه عندما تذكرها .. وهى منكمشة ومذعورة... لديها القدرة على أن تبدو قوية بشكل لا يصدق... وفى لحظات أخرى تتبدل .. لتبدو كطفلة تتلمس الاهتمام .. والمساعدة... حتى التفكير بها .. يدفع الضحكات لشفتيه.. او يدفعه للغضب حد الجنون... أااااااااه يا عاصم... ستقودك تلك الزهرة إلى الجنون حتماً..
قال محدثاً نفسه .. وهو يتمدد على أريكة الاستراحة .. فى اسطبل الخيل .. تقلب على الأريكة من جديد... يحاول أن يغفو... لكن لا فائدة... حقاً... أن ذلك لجنون مطبق... لازال الأرق .. يتملكه.. والنوم لا يزور جفونه المرهقة... لأن .. عطرها لازال... يحتل روحه...
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع
سمع صهيل فرسيه المفضلين... فشعر بفرحة تدب فى أعماقه .. فاندفع إليهما يحييهم بقطع السكر التى يعشقونها... والتى زادت من صهيلهما فرحا... مما جعله يضحك على افعالهما المحببة لقلبه .. أسرج سلطان .. وأمتطاه فى مهارة فارس لا يشق له غبار .. واندفع به خارجا يسابق الريح .. لعله يخمد تلك الثورة التى تستعر داخله ..
نظراتها التى دوماً تطالعته بها .. لم تكن نظرات عادية .. نظرات تحمل قدر من التحدى والصمود.. قدر لا يستهان به ان نظراتها .. تنبع من روحها المتقدة .. تلك الروح التى لم يكن يعرف مقدار جموحها .. الا عندما طالع تلك النظرات النارية التى تتحداه بها دوما .. انها فرسة غير قابلة للترويض .. لكن ليس مع عاصم الهوارى.. والذى لم يستعصى عليه ترويض فرسة جامحة من قبل... هتف فى نفسه بعزم :- سأروض غرورها .. وجموح روحها .. سأجعلها طائعة لإشارة من إبهامى..
سأجعلها تتمنى ان اكون راضيا .. فقط راضيا .. ستأتى إلىّ يوما ما .. ستكون اكثر من شاكرة على ما أمنحها إياه .. يا بنت التهامي... سيكون رضايا هو أقصى أمنياتكِ .. ساعتها... وساعتها فقط .. سأشعر انى حققت انتقامى..
كان غارق فى أفكاره وخواطره .. ينهب الارض نهبا بحوافر فرسه سلطان غير عابىء .. بما يعترضه من حواجز.. يثق بسلطان ومهارته .. فيطلق له العنان .. ليزيد من سرعته... ويزداد اصطدام الريح بوجهه وعباءته التى اخدت ترفرف خلفه مانحة إياه... مظهر البطل الأسطورى الذى لا يقهر .. خواطره وافكاره وصلت لذروتها بالفعل ..
والتى كانت تتمحور كلها حول شخص واحد .. منذ دخل حياته .. وهو لا يعرف للراحة سبيل... زهرة ناجى التهامي ..هتف للريح فى تحدى .. وكأنه يحدث طيفها الذى يتمثل له الان فى الأفق البعيد أمامه .. فى تلك البقعة الصحراوية.. قرب الجبل.. فى اخر الكفر .. والتى دوما .. هى ملاذه.. عندما يريد ان يطلق العنان لفرسه.. هربا من كل ما يؤرقه ..صبراً.. الايام بيننا... لنرى من سُيخضع تلك النظرات النارية الحارقة التى تلقيها بوجهى فى تحدى .. ليجعلها تنقلب لنظرات خضوع وطاعة .. لتعرفى مع من تتعاملين..
وتعرفى .. من هو عاصم الهوارى... صهل سلطان بشكل فجائى.. وقفز واقفاً على قوائمه الخلفية فتمسك عاصم بلجامه جيداً... حتى لا يسقط بشكل مفاجئ من على صهوته.. لا يعرف ما الذى أجفل سلطان بهذا الشكل .. لكنه حاول التمسك على قدر الإمكان .. حتى لا ينزلق من على ظهره.. لكن مع تكرار قفزات الفرس الملتاع .. كان لامفر من السقوط أرضاً... لكن لحسن الحظ .. كان خلف الفرس... شجرة قصيرة نسبياً .. ارتطم احد كتفيه بها .. مما خفف قليلا .. من شدة ارتطامه بالأرض...
ظل لحظات على حاله .. مفترشا العشب .. يلتقط انفاسه المتلاحقة .. نهض فى تثاقل يشعر بالم حارق بأحدى كتفيه... ذاك الكتف الذى ارتطم بالشجرة لحظة سقوطه .. اطمأن على فرسه الذى سكن تماما بعد نوبة الفزع الغريبة تلك .. والتى اعترته منذ لحظات والتى قد يكون سببها احد الهوام ..كان يأكل بعض الأعشاب التى تطالها رقبته .. وينظر فى بعض الأحيان حيث سقط عاصم يطمئن عليه...
تحامل عاصم على نفسه .. حتى امتطى فرسه من جديد وآلام كتفه تزداد وجعا... سار سلطان فى اتجاه السراىّ يحفظ طريقه عن ظهر قلب .. يمشى الهوينى وكأنما يشعر بألام صديقه... التى أصبحت تزداد مع كل حركة... وصل حتى أبواب السراىّ فاستقبله الخفير سعيد ملتاعاً .. فأشار اليه بالصمت وان يرسل سلطان للأسطبل ..
وصعد هو فى بطئ .. حتى وصل غرفته... دفع بابها فى عنف .. أجفل زهرة .. كان يترنح متألماً.. لكنها لم تجرؤ ان تتقدم خطوة باتجاهه .. وجدته يتحامل على نفسه .. ويتجه للحمام فى خطوات يحاول ان يجعلها ثابته قدر استطاعته... ويغلق الباب خلفه فى عنف ايضا... تكورت على نفسها فى خوف وقلق ..تنتظر فى اضطراب.
خروجه من الحمام والذى طال بقاءه بداخله .. ترى هل حدث بالداخل ما يسوء .. ربما فقد وعيه .. او .. لم تستكمل تخيلاتها المضطربة.. فلقد قطعها بخروجه .. وَيَا ليته ما خرج..!! شهقت بصوت مكتوم... وانكمشت فى اريكتها .. تكاد تزوى عندما طالعها عارياً... إلا من منشفة.. زهرية اللون... تناقض بشرته البرونزية لوناً... يلفها حول خصره... ويسير فى بطء .. يتمختر كأسد مغتر فى وسط غابته.. استدار تجاهها... فتوقفت نبضات قلبها... و..
صرخ فيها .. أجفلها كالعادة .. وانتزعها انتزاعاً .. من خواطرها .. تجاه مظهره الغير متوقع بالمرة .. -جومى .. شوفى حصل ايه فى كتفى .. !!؟؟ -كتفك !؟؟ .. سألت كالبلهاء .. لا تعرف ما المطلوب منها بالضبط... فأشار بنفاذ صبر .. إلى كتفه... فنهضت من أريكتها... تتقدم نحوه فى بطء .. كأنما تسير فى حقل ألغام .. تتحسس خطواتها .. مع كل خطوة فى اتجاهه... زفر فى ضيق .. فأسرعت قليلا.. لتقف خلف ظهره البرونزى... المفتول العضلات .. ليطالعها جرح..
وخدوش أعلى الكتف .. وتمتد .. لتشمل حتى أسفل الكتف بقليل... قالت بصوت متحشرج..:- فى خدوش وجروح على كتفك .. ولازم تتعالج .. ابتسم ساخرا :- طب كتر خيرك .. مكنتش عارف من غيرك هعمل ايه... ثم هتف حانقا .. طب ما تعالجيها .. عِندك الصيدلية فى الحمام شوفى ايه اللى ينفع من الأدوية والمراهم اللى جوه... وعالجي الجرح .. وبعدين دراعى مش عارف ليه .. فى ألم لما بحركها ..
أقتربت .. أكثر ..لتفحص ذراعه .. وجفلت عندما لامست بشرته .. وارتفعت نبضات قلبها للضعف .. وهى تتحسس موضع الألم .. كانت تستشعر معاناته التى يخفيها ببراعة.. لكن تشنج جسده .. كان يشى بها .. ويفضحها .. أبعدت يدها .. لتقول فى صوت متهدج .. دراعك لازم تترد .. واضح انك اتعرضت لصدمة جامدة .. أجاب فى هدوء بنبرة يخفى الالم بها .. وكأنه يطلب منها كوبا من الشاى... طيب .. ما ترديها... مستنية ايه .. !؟؟ أنا !!؟؟ .. قالت وهى تفغر فاها .. وعيونها تنظر اليه على اتساعها .. -انتِ مش داكتورة .. نفذى..
-أنا دكتورة بهايم حضرتك... عادت لطبيعتها المتحفزة .. وهى ترد فى سخرية .. جعلته .. ينظر اليها نظرات نارية.. وفجأة جذبها من ذراعها القريبة منه ..لتنحنى عنوة حتى اصبحت عيونها فى مقابل عينيه القاتمة... يجز على اسنانه .. وأنفاسه الحارقة تخرج فى غضب .. يحاول السيطرة عليه مؤقتا وهو يهمس:-... كلمة زيادة .. وهتشوفى منى اللى عمرك ما كنتِ تتخيليه... نفذى اللى بجولك عليه من سكات .. مع اخر حروف كلماته .. دفعها عنه... ورفع ذراعه متألما فى صمت... ظهر بوضوح على معالم وجهه الذى أربد...
فتناولت ذراعه فى رهبة .. دقات قلبها تكاد تصم أذنيها .. قالت تنبهه :-... لما أعد لثلاثة هشد دراعك .. بقوة ..
خليك مستعد .. أومأ برأسه فى هدوء ..وجبينه يتفصد عرقا .. ثم حانت اللحظة الحاسمة .. لتجذب ذراعه .. وينتفض هو فى ألم .. يجز على اسنانه... تتلاحق انفاسه... وتصدر عنه أهه ألم .. حاول كبتها... لكنها فلتت من بين شفتيه... غصبا عنه... هدأ قليلاً .. وبدأ فى فتح عيونه .. وألتقاط انفاسه بأنتظام... دخلت هى للحمام فى سرعة تبحث عن دواء ما ..لتضعه على جروح كتفه... لكنها لم تجد ما هو مناسب ..
خرجت وأخبرته... فقال لها .. ان هناك صيدليه أخرى فى المطبخ... بالدور السفلى .. يمكن ان تبحث فيها... ربما تجد ما يلائم... اندفعت خارج الغرفة .. تنزل على عجل .. تبحث فى تلك الصيدلية .. بين أدوية مختلفة الاشكال والأحجام... وفجأة أظلمت الدنيا .. امام ناظريها...
لا .. أرجوك يا ألهى... ليس ثانية .. بدأت ترتجف .. وتنكمش على نفسها... تنتفض فى مكانها .. لا تستطيع حتى الصراخ... كان هو ممدد على جانبه الأيسر ينتظرها حتى تحضر دواء ما قد يساعد على اخماد تلك النيران التى يشعر بها تجتاح كتفه المصاب.. ولكن فجأة انقطع التيار الكهربائى .. فتذكر رعبها من الظلام... فتحامل على نفسه ناهضاً فى تثاقل... ليخرج متوجها اليها... بأقصى سرعة استطاعها... وصل للمطبخ اخيرا هاتفاً بأسمها .. فوجدها منكمشة بجوار أحد المقاعد .. انحنى اليها .. يربت على كتفها ..هامساً:- متخافيش .. أنا هنا .. معاكِ..
ما ان سمعت كلماته المشجعة .. حتى رفعت رأسها .. والدموع تغطى وجهها .. ولإزال جسدها متشنجاً.. -تعالى... متخافيش.. قالها .. ماداً كفه اليها .. فتشبثت به كغريق .. يتشبث بقشة.. وما أن نهضت من موضعها .. حتى اندفعت لأحضانه ترتجف فى شدة.. وتنتفض كعصفور فى ليلة مطيرة...
ربت على رأسها التى كانت قابعة الأن بين أحضانه .. وهو يقول فى صوت حاول ان يغلّفه بالسيطرة .. على الرغم من ان هناك شئ ما لم يستطع أخفاءه قد ظهر جليا فى نبراته شئ قد يشبه الحنان .. هل هذا هوحقاً الحنان الذى يغلف نبرات صوته التى يبثها لمسامعها الان .. محاولا طمأنتها.!؟؟ أهدى... وكله هايبجى تمام .. جسده متصلبا ومتشنجا مثلها تماما لكن لسبب اخر مخالفا لخوفها...
لم يحاول ان يلفها بذراعيه كان يقف كحائط صلب يتلقى خوفها ومعاناتها على أضلعه ..أحد ذراعيه يأن ألما .. والأخر يأن أسفا لانه لا يستطيع أن يلتف حولها ليشملها بعنايته كما يجب... حاول ان يتحرك ليحضر أحد الكشافات التى يعلم موضعها... لكنها تشبثت به .. فلم يستطع ان يتحرك قيد أنملة.. كان قلقه كله يتمركز حول استيقاظ احد ما ..لينزل ويراهما فى هذا الوضع الغريب... هى ترتجف فى احضانه ..وهو يقف فى مطبخ السرايّ.. لا يستره.. إلا منشفة الحمام... وأخيراً... جاء الفرج .. ليسطع التيار الكهربائى من جديد...
فيبعدها عنه فى بطء حذّر... قائلا :- خلاص .. افتحى عيونك .. يا زهرة ..تعالى... وأخذ بكفها .. يصعدا لحجرتهما وهى خلفه كالمنومة مغناطيسيا... يمسك بأحد كفيها كطفلة تائهة وبالكف الاخر تتشبث هى بأنبوب أحد المراهم .. التى وجدتها تصلح لعلاج جروحه.. قبل ان ينقطع التيار الكهربائى... تنهد فى إرهاق وهو يجلسها على حافة الفراش متسائلا فى هدوء:- أنتِ كويسة دلوجت...
-الحمد لله... أومأت فى بطء... نظر لأنبوب الدهان الذى تحمله .. فأبتسم فى وهن :- هو ده الدوا... سألها فأومأت فى صمت... هاتِ .. هحاول أدهن لنفسى .. قالت فى هدوء .. ولازال رأسها مشوشاً -أنا بقيت كويسة... وانت مش ها تعرف توصل لمكان الجرح بنفسك...
أمسكت بكفه تصطحبه حتى جلس على طرف الفراش لتصعده هى .. تستدير لتجلس خلفه .. وتأخذ جزء من الدهان .. لتنشرها على الجرح فى رقة... جعلته يجفل... وتتشنج عضلات جسده .. ويبدأ ذاك الشريان فى صدغه ينبض من جديد فى قوة... فتساءلت عندما لاحظت تشنج عضلاته .. هو بيوجع !!؟؟... -شوية.. قالها كاذبا... بس عادى كملى ..
-خلصت... قالتها وهى تغلق أنبوب الدهان... ليقف فى تثاقل يلتقط جلبابه من على المشجب القريب ليرتديه... وبعد محاولة فاشلة لم يستطيع فيها تطويع الجلباب ليرتديه بلا ألم... اندفعت زهرة إليه .. لتتناول الجلباب منه .. لتمرره من خلال رأسه .. وخلال ذراعه المصابه .. ببطء.. حتى لا يحركها .. ويشعر بالآلام ..كان يتحاشى نظراتها... وهى تجذب الجلباب على جسده .. لا يعرف لما... انها المرة الأولى... التى يجد نفسه فيها... ينأى بنظراته عن شخص ما ..أى من كان... ليس عاصم الهوارى من يدارى نظراته .. ويخبأها... بل كانت دوما نظراته جريئة.. قاسية... متحدية .. نافذة... لما الأن..!!؟؟..
وأمامها هى بالذات... يحدث دائما ما لايتوقعه... يحدث دائما... للمرة الاولى... والاولى تماما .. دون سابقة تذكر .. تركته للحظات... ثم عادت .. تحمل أحد الحبوب الدوائية وكوب من الماء .. تقدمهما له .. -ده مسكّن .. علشان ألم دراعك والجروح ..هيخليك تعرف تنام...
تناولهم فى صمت... وتمدد على الفراش على الجانب السليم من جسده .. يتابعها بنظراته... حتى أطفأت الأنوار... وشعر بها تتمدد على اريكتها ثم قالت :- لو عوزت حاجة... نادينى.. أنا نومى خفيف... كان يهم بكلمة شكر... لكن لا يعرف لم أطبق فمه عليها .. ولم ينطقها .. وأخيرا .. راح فى نوم عميق .. متألما ومرهقاً.
حتى هى راحت فى نوم عميق على غير العادة ولكن اثناء تقلبها على اريكتها سمعت همساً جعلها تستفيق... نتفضت جالسة فى مكانها عندما سمعت صوته يناديها... التقطت انفاسها... وأرهفت السمع لعله يناديها من جديد ..
لكنها لم تسمع سوى همهمات بسيطة... فقررت أن تستطلع الامر... قامت من مكانها... تسير على أطراف أصابعها تتلمس طريقها فى الظلام الذى يعم الغرفة... حتى وصلت قرب فراشه .. ولم تسمع الا صوت انفاسه .. قررت العودة لأريكتها... فيبدو انها كانت تحلم... وهى فى منتصف الطريق .. سمعته يهمهم من جديد... ففتحت تلك الاباجورة التى توجد على الجانب الاخر من الفراش... واقتربت منه فى بطء لتجده غارق فى بحر من العرق... اقتربت اكثر وانحنت تضع كفها على جبينه .. لقد كانت حرارته مرتفعة للغاية... استدارت... تتجه للباب .. فإذا به يهزى من جديد.
ينطق اسمها... بأسلوب عجيب... لم تسمعه منه من قبل... انها نادرا ما تسمع اسمها من بين شفتيه... فهو دوما يناديها يا دكتورة... او بنت ناجى التهامي خاصة ساعات الغضب .
وكأنه سبة... لم تسمعه ينطق اسمها... الا فى المرتين اللتان كانت خائفة ومرتعبة فيهما... المرة الاخيرة .. كانت منذ ساعات قليلة عندما نزلت لتبحث له عن دواء لجروحه... واحمرت وجنتاها عندما تذكرت كيف اندفعت فى احضانه... تحتمى من رعبها... بين ذراعيه العاريتان.. نفضت عن ذهنها تلك الأفكار... ونظرت اليه... ها هو يهزى من جديد... ماذا تفعل الان... وهو فى تلك الحالة... اتوقظ من بالدار !!؟؟... انها لم تتعد الخامسة صباحا... فلتذهب وتجعل سعيد الخفير يستدعى الطبيب...
اندفعت تنفذ... نزلت فى هدوء للأسفل وخرجت فى خفة .. تنادى على سعيد الذى ظهر لها كعادته من العدم .. كانت تعتقد ان تلك الخاصية .. ليست الا لعاصم الهوارى .. عندما يناديه .. لكنه اثبت العكس .. عندما ظهر يفرك بقايا نوم عن عينيه... ويضبط عمامته على رأسه... وهو يقول:- خير يا هانم... تحت امرك .. -عايزة الدكتور حالاً... روح هاته... من سكات .. مش عايزين نقلق حد .. -خير يا هانم... عاصم بيه بعافية ..!؟؟.. كان شكله تعبان وهو راجع امبارح بسلطان...
-اه... صح... يا الله مضيعش وقت .. هات الدكتور من تحت الارض .. بسرعة .. واندفعت داخل السرايّ من جديد .. دخلت حجرتها .. وهى فى يدها .. منشفة نظيفة .. ووعاء به بعض الماء والخل .. وجلست بقربه .. تقوم بعمل بعض الكمادات الباردة .. لعلها تخفض ولو قليلا من حرارته المرتفعة.. كان بلا حول ولا قوة .. ملامحة هادئة مستكينة... انها المرة الاولى التى تتفرس فيه .. وتنتبه لذاك الأنف الشامخ .. وتلك الجبهة العريضة... والفم الصارم .. والشارب المهذب... والشعر الغزير الحالك السواد... ملامحه رجولية خشنة... لا تصلح الا لشخص واحد ..
عاصم مهران الهوارى.. تلك الملامح حتى مع استكانتها .. تنبئ بالخوف .. والرهبة.. انها تتعجب انه مرض كبنى البشر .. وها هو يتألم ويعانى... تسألت فى تعجب ..وهل يمرض الغول .!!؟؟.. ظنت ان حتى المرض يهابه .. لكنها كانت مخطئة .. فها هو يرقد .. بلا حراك.. انه حتى يهزى .. وينطق باسمها .. مرارا وتكرارا .. انها تسمعه الان .. ينطقه .. كأنها لم تسمع اسمها يُنطق من قبل...
-متخافيش .. انا جنبك .. متخافيش... بدأ يزداد هزيانه.. وها هو يتذكر .. ما حدث بالأمس عندما لحق بها .. وهى تبحث عن دواءه... لماذا تأخر الطبيب... لمعت الدموع فى عيونها... وهى تتنبه... كيف لحق بها رغم ألمه .. هل تذكر ساعتها مدى خوفها من الظلام .. لقد تحامل على نفسه .. رغم معاناته ليلحق بها ولا يتركها وحيدة .. تعانى ازمتها مع العتمة التى ترهبها... هل يمكن ان يكون للغول قلب!!؟؟...
سمعت طرقات على الباب .. ليستأذن الطبيب ويدخل... وينتظر سعيد الخفير على باب الغرفة... ألقى الطبيب التحية على زهرة واندفع ليفحص عاصم فى هدوء .. قالت زهرة .. بعد فترة صمت .. رجع امبارح تعبان وعلى كتفه جروح وخدوش... ودراعه مخلوع .. عملت اللى قدرت عليه .. ورديت دراعه... واخد مسكّن ونام ومرضيش يبعت لحضرتك .. هز الطبيب رأسه تفهماً... وطلب مقص... فأحضرته زهرة على الفور... فبدأ يقص جلباب عصام من الجانب المصاب فى جسده... واستطاع ان يدير جسد عاصم بمساعدتها... حتى يتفحص الجرح والخدوش الموجودة على كتفه الأيمن... وفحص ذراعه المردودة... وقام باللازم... وعندما انتهى كتب الدواء ..
مع التأكيد على الراحة .. والغذاء .. وعدم تحريك ذراعه المصابة لبضع ايام .. ووضع لتلك الذراع حمالة لتظل محمولة بها بواسطة الرقبة... -لو فى اى حاجة .. ابعتيلى يا مدام زهرة .. فى اى وقت .. تحت امركم... وانا هزوره اطمن عليه .. كمان يومين .. -متشكرين جدا .. يا دكتور تعبينك معانا .. وتشرفنا فى اى وقت... مع الدكتور يا سعيد .. قالتها للخفير المرابط على الباب .. وخد هات الدوا ده معاك من اى صيدلية تلاقيها فاتحة ..وأنت راجع...
اغلقت باب الغرفة... ونظرت من جديد لذاك المسجى بلا حراك... بدأت حرارته فى العودة لطبيعتها .. وبدأت انفاسه فى الانتظام من جديد... حتى الهلاوس اختفت اخيرا... وتوقف عن النداء بأسمها .. بتلك الطريقة التى كانت توترها... لا تعرف لماذا... !!؟؟..لابد من ان تبدل له جلبابه الممزق ذاك... وتستبدله بقميص يسهل عليها مهمة وضع الدهانات على الجروح فى كتفه... وتبديل الشراشف ايضا ..
ليس الان بالطبع .. عندما يستفيق قليلا .. يمكنها فعل ذلك .. الان عليها اعداد بعض الحساء لأجله .. حتى يستطيع تناول تلك الأدوية التى نصح بها الطبيب مع تغذية كاملة.. نزلت للمطبخ بعد ما تأكدت من انه افضل قليلا .. بدأت فى اعداد بعض الحساء .. لتفاجأ بأم سعيد تدخل متعجبة... خير يا زهرة هانم .. البيه بخير دلوجت ..!!؟ لم تكن زهرة فى حاجة للسؤال كيف عرفت ذلك .. فمن المؤكد ان سعيد اخبرها وهو فى طريقه لجلب الدواء -الحمد لله .. حاجة بسيطة وها يبقى كويس باْذن الله .. بصى انا خلصت شوربة الخضار... علشان تبدأى انتِ فى الفطار للجماعة .. متخضيهمش محدش يعرف حاجة .. تمام -تمام يا هانم ..
حملت زهرة صحن الحساء وتوجهت للغرفة .. فتحت الباب .. لتفاجأ به ينهض بتثاقل من فراشه .. فاندفعت تضع الحساء على اقرب طاولة .. لتستدير اليه... فى اللحظة الحاسمة .. لتتلقفه بين ذراعيها... كان يترنح كالمخمور .. ويعافر ليقف فى ثبات .. يستند بذراعه الأيسر على خزانة الملابس .. التى كان جسد زهرة ينحشر بينها وبين جسده الذى يلقى بثقله عليها...
-رايح فين ؟!!!..سألت بصوت مكتوم لحملها لثقل جسده ..انت تعبان .. الدكتور قال لازم الراحة... قالتها وهى تضغط على أسنانها .. تتحمل ثقل وزنه على كتفيها... رفع رأسه التى كانت ملقاه على كتفيها فى تثاقل .. وهو ينظر الى عيونها الان .. قائلاً بلهجة حاول ان يودعها ما يستطيع من قوة :- أنا مش تعبان .. أنا شديد .. شديد جووووى... مع كلمته الاخيرة التى أودعها ما تبقى من قوة.. ترنح بشدة ليسقط على الفراش من خلفه .. ويسحبها معه.. لتسقط فوقه تقريبا... بين ذراعه اليسرى وصدره..
لابد انه بدأ يهزى .. انه ينادى باسمها بتلك الطريقة التى توترها .. وتشنجت أعصابها .. لانها ادركت ان حرارته عادية .. وهو لا يهزى كما اعتقدت .. لانه ضمها اكثر لصدره بيسراه... لماذا تشعر الان بتهديد خطر يدب فى أوصالها.!؟ .. حاولت النهوض .. لكن يده أعادتها بقوة .. لترتطم من جديد بصدره .. وتقابل عيون قاتمة يغشاها الإرهاق... هو الداكتور كان هنا!!؟؟... سأل فى ريبة...
هزت رأسها بنعم... غير قادرة على الرد .. وفجأة انقلب الوضع.. فقد نهض بشكل مفاجئ رغم ألمه متحاملا على ذراعه اليسرى.. لتصبح هى على الفراش ويطل هو عليها من علياءه... ينظر لها بحنق بالغ... متطلعاً لعباءتها الحريرية ذات اللون الوردي الناعم... ثم يعود مركزاً نظراته عليها وهو يهمس جازا على اسنانه فى غضب لا يستطيع إظهاره فى نبرات صوته .. بسبب تعبه لكنه طل جلياً من نظرات عينيه :- وجابلتيه بالعباية دى!؟؟.ووجفتى تخدى وتدى معاه فى الكلام طبعااا.. وانا مدريانش بحاچة... حاولت ان تنطق بحرف واحد لكن نظراته النارية القاتمة وفحيح كلماته جعلها تتلعثم وهى تقول .. لا.. ما .. أصل..
واخيرا نطقت مبررة:- هى فيها ايه العباية !!؟.. ما هى محتشمة اهى... !!؟؟.. -اللون ده .. متجبليش بيه الرجالة.. قالها فى غضب .. هو الأسود والكحلى والبنى المسموح بيهم.. للخروج برا باب السرايا... غير كده لاه... -ليه ..!!... هو .. وبدأت فى الاعتراض .. والتذمر الا ان نظراته أخرستها... وبدأت تنسحب تدريجيا .. حتى تنهض من الفراش مبتعدة... وتؤجل الحديث عن الألوان المسموحة .. حتى يتعافى... لانه بدأ مرة اخرى فى الترنح .. ليعود ليتسلقى من جديد على ظهره .. وكأنه استنفز قواه جميعها فى محادثتهما...
-أنت كويس !!؟؟..قالتها وهى تقترب وتطل عليه... ليومئ برأسه ويسحب جسده ببطء... ليعود لموضعه الاول مستندا برأسه على وسادة صغيرة.. خلف ظهره.. -لازم تاكل... الدكتور قال التغذية مهمة... وأحضرت له الحساء... لتضعه على الطاولة بجوار الفراش... وتعدل من الوسادة خلف ظهره... -ماليش نفس .. قالها فى عدم اهتمام...
-لا لازم تاكل علشان الدوا... انت هاتعمل ذى العيال الصغيرة ولا ايه... نطقت كلماتها الاخيرة بعفوية شديدة.. لكنه هتف فى عدم تصديق :-... عيال صغيرة... !!؟؟؟...
تنبهت لفداحة كلماتها... فحاولت تصليح خطأها بسرعة.. -اقصد يعنى... لازم تاكل علشان الدوا محتاج تغذية دى كلام الدكتور .. ووضعت صينية الطعام فى حجره... وجلست على حافة الفراش تكاد تقع أرضاً... وهو لا يريد ان يتزحزح قيد انملة للداخل .. ليفسح لها مكانا مناسبا للجلوس همت برفع الملعقة لفمه . حين هتف ساخراً:-... هتأكلينى زى العيال الصغيرة!!؟؟.. اضطربت .. وكادت ان تسقط الملعقة بما فيها من حساء... لكنها أجابت مقنعة أياه :-أيدك اليمين مش لازم تحركها... الدكتور قال كده...
هتاكل ازاى !!؟؟.. استلم منها الملعقة مترفعاً وهو يقول :-.. هاكل بيدى الشمال ..مش جصة يعنى... قامت من مكانها... وتركته يحاول تناول طعامه... راقبته وهى تبتعد... يأكل ملعقة بالكاد ويسقط عشرة... انفجرت ضاحكة... لم تستطع ان تكتم ضحكاتها... ها هو الأن يشبه الاطفال وهم يحاولون الامساك بالملعقة وإطعام أنفسهم للمرة الاولى... نظر لضحكاتها الصافية... انها المرة الاولى التى يسمع فيها ضحكاتها... لم يراها الا متحفزة متنمرة ..
طال تطلعه اليها وهى تبتسم فى عفوية .. حتى شعرت بأحراج من نظراته المتفحصة... فاستدارت تنأى بوجهها بعيدا عنه... فناداها... بنفس الطريقة التى توترها... فاستدارت اليه فى هدوء... تطلعت تستفهم ما يريد .. فمد الملعقة... ولم يتكلم... فهمت انه يريدها ان تكمل اداء المهمة التى لم يشأ ان تكملها... عادت لمكانها بجواره.. وهذه المرة حولت ان تسحب كرسى لتجلس عليه... لكنه ابعد قدميه قليلا.. وأشار لها أين يجب ان تجلس...
جلست فى هدوء وتناولت الملعقة فقال :- مكنتش حاسس انى جعان .. بس الشوربة طعمها وريحتها يفتح النفس .. اول مرة ام سعيد تعمل شوربة عدلة كده... ابتسمت ولم تعقب... ورفعت الملعقة الاولى لفمه... فتلاقت أعينهما ..
تماسكت على قدر استطاعتها حتى لا يظهر إضطرابها على ارتعاش يديها التى تحمل الملعقة .. ومع الملعقة الثالثة.. بدأت تنهار أعصابها .. من جراء تفحص تلك النظرات الفحمية... واخيرا جاءتها النجدة.. على هيئة طرقات متتابعة على الباب .. استأذن صاحبها للدخول .. فإذا بها الحاجة فضيلة .. تدخل مهرولة .. مذعورة على ولدها .. ما ان رأت زهرة تطعمه .. حتى ابتسمت فى خبث .. وهى تقول :- ده انت الحمد لله بجيت كويس اهو .. دى انا اتخلعت عليك يا ولدى... بس طالما زهرة جمبك... أنا مطمنة... اكتسى وجه زهرة بالحمرة خجلا .. وتطلع هو لأمه متعجبا كالعادة كلما رأها تمدح فيها...
اقتربت الحاجة فضيلة تربت على كتف زهرة .. وتقول فى مودة :- ربنا يبارك لك يا بتى .. شكلك منمتيش طوول الليل .. ام سعيد جالتلى انها دخلت عَلَيْكِ المطبخ لجيتك بتعملى شوربة لعاصم... تسلم يدك ويسلم تعبك .. نظر لها من جديد... فوجدها تدارى عينيها عنه خجلا... اسيبك تكمل أكلك .. توجهت بكلامها لعاصم... واروح اوصيلك على غدا محترم ترم بيه عضمك..
وانصرفت وأغلقت الباب خلفها .. فى هدوء وهى تتطلع لهما فى حبور... وعادت النظرات تتلاقى من جديد .. خرجت من الغرفة بعد ان اطمأنت على تناوله دواءه وانه راح فى نوم عميق... على الرغم من عدم نومها الليلة الماضية الا سويعات قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة الا انها لاتشعر بالنعاس... فاخذت رواية كانت قد استعارتها من سهام... التى بدأت تختفى فترات طويلة فى غرفتها .. وتميل للعزلة لا تعرف لما... نزلت للحديقة... تجلس فى ظل أشجار المانجو الوارفة على الأرائك المريحة .. لتبدأ فى القراءة... لكن لا تركيز لديها... فتركيزها بأكمله .. يتجه لوجهة واحدة...
تجاه ذاك الذى يقبع مريضا .. فى غرفته بالأعلى... لا تعرف كيف تفسر ما يحدث لهما .. وبينهما... هناك شرارات ما تتولد من قربهما .. لماذا تنتفض عندما ينظر اليها تلك النظرات المتقدة المتفحصة .. ولما تتوتر .. وتتشنج أعصابها .. عندما يناديها بأسمها بطريقة... تجعلها ترتجف داخليا .. متمنية بان ينطقه دوما ولا يتوقف... ان ما بينهما أشبه بحبل مطاطى مشدود احيانا ومرتخ احيانا اخرى... وما بين جذب وشد تمضى علاقتهما العجيبة... هى تكرهه ..أكدت لنفسها .. ولكن هل تلك الأحاسيس العجيبة التى تعتريها فى غيابه قبل حضوره .. هى مشاعر كراهية..!!؟؟..
بجانب ذلك الحاجة فضيلة وعلاقتها العجيبة بها .. والتى تثير دهشتها... هى تعرف مدى كرهها لأبيها ورغبتها فى الانتقام منه .. من خلالها .. فكيف تعاملها بذلك الشكل الرائع..!!؟؟ وذاك الثناء الذى لا ينقطع !!؟؟... وحنيتها التى لم تجدها من امها نفسها ..!!؟؟.. قامت تتمشى قليلا لعلها تهدأ من ذاك السيل من الافكار والخواطر الذى يداهم عقلها... كانت تقف الان امام بستان من الريحان .. قطفت بعضه..
تستنشقه لعله يعيد لها هدوء روحها وصفاء نفسها... وعادت لتجلس من جديد تفتح كتابها لعلها تنسى افكارها وخواطرها قليلا بين صفحاته .. لم تكن تدرك ان هناك اعين قاتمة تراقبها من عليائها.. تطل عليها من شرفة حجرتهما... تداهمه نفس الافكار وتقض مضجعه نفس الخواطر .. وقف يتابعها بنظراته .. ويتذكر ما قامت به لأجله .. واخيرا قرر النزول اليها .. لا يعرف لما بدأ يستطيب البقاء بقربها ..!!؟؟
ويشعر برغبة ملحة فى استفزازها... والشعور بمتعة عجيبة .. عندما تناطحه .. وترفض وصايته .. وتتمرد على اوامره ..كانت قد بدأت فى المطالعة حين وجدت ظل شخص ما يحجب عنها ضوء الشمس الذى كان يصلها عبر الأغصان .. فرفعت رأسها .. لتفاجأ بسليم .. بن عّم زوجها .. وأخو سمية .. تلك العقربة التى لا تستسيغ صحبتها... كانت لا تستشعر الراحة فى وجود سليم .. دائما ما كانت نظراته فاسقة .. لا تحمل اى قدر من الاحترام لكونها زوجة بن عمه.. انها لا ترتاح لذاك الرجل .. همت بالنهوض .. ليهتف فى سماجة..:- واااااه يا داكتورة.. اذا حضرت الشياطين ولا ايه... !!؟؟..
-لا ابدا... دى انا افتكرت حاجة مهمة نسيت أعملها .. اتفضل ده بيتك... قالت كلماتها بنبرة رسمية .. فى تلك اللحظة ظهر عاصم على الدرج متوجها ناحيتها .. وقد فوجئ برؤية سليم يقف معها يتسامر .. اندفع بعنف ناحيتهما .. حتى وصل إليهما فى اقل من خطوتين واسعتين ..ليهتف فى كل الحنق والضيق .. الذى يحمله فى صدره .. موجها حديثه لزهرة... انتِ ايه اللى منزلك هِنا.. ومجعدك فى مجعد الرجالة... اتفضلى على جوة... نظرت فى ضيق له .. ارادت ان ترد .. لكن نظراته النارية حذرتها من مجرد المحاولة .. فأندفعت فى غضب لداخل السراىّ... ليهتف سليم فى فخر مصطنع :- طول عمرك حمش يا واد عمى...
-خير يا سليم... ايه جابك بدرى كيده.!!؟؟... سأل عاصم بنفاذ صبر.. -ابدا .. سمعت انك تعبان .. جلت اجى أطمن .. واشوفكم يمكن محتاجين حاجة .. -تسلم... شيلينك لعوزة كبيرة .. انا بجيت تمام .. هى دراعى بس محتاجة راحة .. وها تبجى بخير باْذن الله... -طب تمام... قالها سليم بنبرة محبطة وهو يكمل .. المهم اننا اطمنا عليك... اسيبك ترتاح...
-متشكرين على سؤالك وسلامى لمرت عمى وسمية... -يوصل باْذن الله... وخرج من السراىّ... وهو يزفر فى ضيق .. فقد توقع ان يجده بلا حراك .. لكنه قط بتسع ارواح... هكذا هتف سليم فى داخله حقدا...