رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل الثامن
عادةً كان سيف يستيقظ من نومه ليجد والدته تشاكسه ثم تنهي مشاكستها بقبلة حنونه لتخبره أن إفطاره جاهز... طقوس فطرية لأي ام طبيعية، ولكن الان! يستفيق من إغماءة حاول التشبث بحبالها الواهية، ولكنها كانت خائنة، فتركته يعود لذلك العالم القاسي حد الموت... ليجد زينهم يرش المياه عليه وهو يزجره بعنف: -انت ياض ماتقوم بقا قرفتنا، إنجز؟
إرتعش جسده بخوف، كلما نظر لزينهم رأى ذاك - الخرطوم - التي لازالت اثاره محفورة على جسده...! ظل يحدق به بصمت مُهلك، إلى أن قال زينهم متأففًا بضيق: -عطلتني عن الشغل، مش قادر تمسك نفسك كام ساعة؟ إيه ياض أنت نايتي كدة لية هه!؟ إبتلع ريقه الجاف بصعوبة، ليجيبه هامسًا وشفتاه ترتعش: -أنا، ماعرفش، معرفش تعبت فجأة كدة والله لوحدي يا زينهم اومأ زينهم وأصر على الخشونة وهو يأمره:.
-بعد كدة لازم تشد حيلك، احنا مش فاضين كل شوية نشوفك مالك! ورغمًا عنه بكى بقهر، بعد أن كان الجميع يتلهف لمعرفة حاله، تقهقر ذلك الإهتمام ليصبح موضع ذل! فأمسك زينهم بذراعه ليجعله ينهض مرددًا بصرامة لاذعة: -خلاص، لازم تفهم إنك مابقتش طفل صغير، أنت دلوقتي بتشتغل ومش شغلانة عادية دي شغلانة محتاجة نصاحه اومأ وجميع حواسه متربصة، إلى أن قال متشنجًا: -حاضر!
وبالطبع سحبه معه نحو ذاك الشارع الذي بات يكرهه كالعمى... ليجلس ارضًا كالعادة، ساعات والفكرة اللاهبة تتقاذفه بينها، عقله يصرخ مستنجدًا بالتنفيذ! بينما خطوط جسده لم تُشفى بعد، لقد اسدل الألم ستاره، ولم يزول بعد! ولكنه أستسلم، استسلم لأفكاره المتلاطمة الهوجاء... فمع أول شخص تقدم منه بعد إستقرار التصميم لحافة التنفيذ صرخ به مستنجدًا بضعف: -ألحقني يا عمو، هما اخدوني بالعافية ألحقني بالله عليك الحقني.
ولكنه لم يجد سوى صفعة أتته من حيث لا يدري.. وماذا كان يظن؟! سيساعده أي شخص ويخاطر بحياته!؟ بالتأكيد لا، ولكن سذاجته كطفلاً لم يتجاوز الثامنة هي من تحكمت بمساره، فختمت ذاك المسار بعقاب جديد مؤلم وموجع الى حد كبير!
كانت الشياطين تتلبس بكل ذرة هواء تلوح امام رودينا .. تنفخ من بين الحين والاخر، لا تُصدق أنها خرجت من تلك المعركة، حية! وإن كانت منهزمة، جسدها كله يشتعل بنار الأنتقام التي لن يطفأها إلا التنفيذ.. وتنتفض بقوة كلما تذكرت مظهر الأفعى وهي تنظر لها ببرود وكأنها قاصدة إرعابها فعليًا! لا تدري كيف ولا متى وصلت إلى المنزل، سلسلة تُطبق على روحها بقوة، ممتزجة بقسم ألا تترك لها الحرية إلا بعد الثأر، المميت!
طرقت الباب بقوة وكم شعرت انها على أتم استعداد لنشب معركة نسائية دامية مع اختها تلك، ال ملعونة! نعم نعم ملعونة، بالتأكيد هي تقصدت إرسال أختها معها لتُعذبها... وأول من قابلته كان أحمد الذي تعجب من مظهرها المذبذب.. بدايةً من شعرها المشعث حتى ملابسها الغير مهندمة بالمرة! وعلى لسان حاله خرجت حروفه متعجبة: -رودينا؟! مالك إيه اللي حصل؟
أغلقت الباب خلفها، ثم بدأت تحك رأسها وكأنها تنعشها لتمليها أي كذبة مناسبة.. ولكن مات أي تفكير كاد يصدر وهي ترى رضوى تخرج من غرفة مها ببرود يعكس إحتراقها الداخلي، فلم تنتظر وهي تصرخ بوجهها منفعلة بحدة: -إنتِ لسة هنا؟ إطلعي من بيتي يا سوسه، برررررة يلا رفعت رضوى حاجبها الأيسر، قبل أن تتحداها بقوة تليق بها دائمًا وابدًا: -ده بيت أختي يا حلوة، قبل ما يكون مكان إقامة ليكِ.
وتعمدت نطق مكان إقامة لتؤكد لها أن ليس لها مكان فارغ بين تلك العائلة.. ما هي إلا مجرد - دخيلة - كادت تُخرب علاقة سامية! فتابعت رودينا زمجرتها الغاضبة: -سامع يا احمد، سامع اخت مراتك بتقولي إيه؟ ولم تعطيه فرصة للرد حتى فأكملت بغيظ: -أطردها يا احمد، اطردها دلوقتي حالاً الحيوانة ناكرة الجميل دي.
بينما كان أحمد صامت تمامًا، يشعر بالتوهان، بموجات عاصفة تتقاذفه فيما بينهم، وبالفعل هي موجات، موجات قوية متحدية بعضها غير عابئة بأي شيئ بينها! إلى أن قطع صمته بصوته الأجش يقول: -مفيش حاجة أسمها اطردها، رضوى ضيفتي وضيفة مها ومش من حق أي حد يطردها ابدًا إتسعت أبتسامة رضوى المتشفية، بينما همست رودينا بعدم تصديق: -كدة يا أحمد؟! أنت ماتعرفش دي عملت فيا إيه، انا كنت هموت بسببها سألها بعدم فهم:.
-ازاي؟ اية اللي حصل هتفت بأنفاس متلاحقة اثر الإنفعال القوي: -يعني هي ماقالتلكمش لما سابتني وجات لوحدها؟ أجابها بهدوء جاد، كطبقة واحدة ساكنة جدًا: -قالت إنك شوفتي واحدة صاحبتك فقعدتي معاها في المول وهي جت بسرعة عشان تطمن على مها سارعت تهز رأسها نافية: -لا لا، كذابة، هي سابتني في الحمام مع تعبان عشان تموتني، والناس، الناس هي اللي خرجتني من الحمام بعد ما سمعوا صريخي فغر احمد فاهه مصدومًا!
لطالما كانت رضوى مثالاً قيمًا للأستقامة، ولكنه الان يرى دليلاً واضحًا على تعرجها المفاجئ عن الاستقامة!.. لم يستغرق وقتًا كثيرًا لينتشل نفسه من غمرة الصدمة وهو يسألها: -الكلام ده صح يا رضوى؟ اومأت دون تردد بصلابة: -أيوة، صح يا أحمد أنا عملت كدة فعلاً وقد تُعد هذه ثاني صفعة يتلقاها كدرسًا له أن ليس كل من نراهم نستطع رؤية قناعهم الحقيقي بالعين المجردة! فهمس مبوهتًا:.
-أزاي! هي عملت لك إيه؟ لية الحقد ده وتحديدا في الوقت ده كان دورها هي الان لتُسدد الضربة لها القاضية، الكرة في ملعبها، وهي لن تُخطأها! فسحبت نفسًا قويًا تزفره على مهل، قبل أن تُطلق العنان لحروفها المغلولة من الخروج: -مراتك المصونة هي السبب في ضياع أبنك سيف يا احمد تبًا لذاك الزمن، الصدمات تسقط على رأسه كالسوط واحدًا تلو الاخر، لم يعطيه فرصة التركيز حتى!
ولكن تلك الضربة الاخيرة كانت ألالامها تستمر على المدى البعيد... رآن الصمت بين الجميع، دقيقة، أثنان، ثلاثة، منهم من تُفكر بحلاً مستحيلاً ينقذها من بين قبضتا أحمد... ومنهم من تُفكر برد فعل أختها المسكينة عندما تعرف.. وللحقيقة، ركض رد الفعل لها أسرع من أسرع شبحًا لتحقيق الخواطر، فسمعت صوت مها تهتف بصوت مبحوحة: -أبني! هي السبب أزاي؟
أغمضت عيناها بقوة، يجب أن تتمسك بدورها للتهدأة الان جيدا، قد تحتاجه وبشدة! بينما حاولت رودينا النطق بما يمكن أن ينقذها من براثن ذئابًا أحب ما عندها تسديد لكمة الدمار لها: -لا لا، هي آآ هي كدابة، كدابة أنا ماعملتش كدة يا أحمد دي عايزاك تكرهني نطقت الصدق، جميعهم يسعون خلف ذاك الكره الذي يخلصهم منها، ولكن ليس الان! فأكملت رودينا وقد لجأت لأسرع وسيلة يُمكن أن تُلين قلب رجلاً مشقوق لنصفين ألا وهي البكاء:.
-والله بتكذب يا أحمد، أنت عارف إني بحب سيف، مستحيل أبعته للجحيم بأيديا! ظل احمد ينظر امامه، دون تعبير واضح سوى إشتداد ذاك الظلام القاتل بين عيناه، فسأل رضوى بصوت حاد، قاتم وغريب: -عرفتِ الكلام ده منين يا رضوى؟ تردد كثيرا ان تخبره امام مها، ولكن سُحبت قدماها لحافة الصدمة لا محالة.. فاستجمعت ثباتها وهي تخبره بجدية:.
-أنا خدتها من البداية عشان كدة، عشان أعرف منها الحقيقة بطريقتي، لأنها كانت أول محل شك، وصلنا المول وكان معايا تعبان إتسعت أعين كلاهما نحوها مصدومة! فسارعت تذيب صدمتهم التي لم تنجح مكانها الان: -تعبان مش سام، تعبان عادي مابيأذيش أي شخص، بس هي طبعا ماكنتش تعرف، سبتها معاه لحد ما اعترفت بكل حاجة لانها طبعا كانت مفكرة إنها بينها وبين الموت خطوة واستحالة تكذب في الوضع ده بالذات.
كلامها صحيح، صحيح جدًا ومُقنع، ولكن ماذا إن كانوا لا يرغبوا في ذاك الإقناع؟! فقط خشية من الأكتشاف القادم والذي حتمًا سيُميتهم احياء... بينما ضربت الصدمة عقل تلك بقوة، هي لم تُخدع مرة، بل اثنان! يزداد الحقد ويزداد السواد من التوسع داخلها، ولا يبقى سوى حقيقة أنها اعترفت وانتهى الامر... عليها التفكير بحل فقط، ولكن أي حل ذلك؟!
قد بدأ الحُكم والتنفيذ بدايةً من جذب أحمد لها من خصلاتها السوداء وصوته يزلزل أرجاء المنزل: -ضيعتي إبني يا بنت ال*، أزاي عملتيها ازاااااي؟ حرمتيني من اغلى حد عندي في الدنيا كان صوت تأوهاتها وصراخها ينافسا زمجرة أحمد الحارقة.. بينما مها تشهق بالبكاء بصمت، حلة الصدمة لاقت عليها وبشدة، فلم تتركها بنفس سرعتهم! فيما اقتربت رضوى منها تحتضنها بحنان مربتة على شعرها بهدوء تام دون ادنى كلمة..
فهي تعي جيدا أنه لا محل للكلام في موقف كهذا! والحق يُقال، لأول مرة تستمع بتأوهات شخصًا ما، صوت صراخها لم يصرعها بل سقط على اذن كلاهما كلحنٍ طال غيابه عن اذنيهم فأنعشهم برقة.. إنتهى بها المطاف إلى تدخل صغير من رضوى التي امسكت احمد عنها قليلا تقول بحزم: -أحمد خلاص، احنا مش عايزينها تموت سبها ولعنها علني، هو اساسًا يتمنى موتها أكثر من أي شيئ الان! فيما تابعت رضوى الهادئة الوحيدة بينهم الان:.
-هي قالت انه نزل على اساس يتفسح ومعاه فلوس، معنى كدة أنه أكيد تايه، وتايه دي معناها انه في حته قريبة لانه مايعرفش يروح حته بعيدة لوحده وفجأة انتبهوا ل مها التي سقطت مغشية عليها وهي تهمس: -ابني، أنا عرفت!
شوق ولا تدوق ... مقولة شعبية يتناولها البعض، ولكن هنا نُطقت على لسان القدر! يلهمه أحتمالاً كاذبًا للهرب ثم يسحبه منه بغمضة عين هكذا؟! تمامًا كما ظهرت فجأة سيارة سوداء امام عمر تسد الطريق، سوداء تمامًا كحظه الذي جعلها تظهر امامه هكذا ومن دون مقدمات لصدمة ابتلعته وهو يرى حسين يظهر منها! لم يأخذ الكثير من الوقت ليجد من يضربه بشيئ قوي وصلب في منتصف رأسه..
إلتفت له وهو يمسك برأسه وذلك الدوار الخائن يداهمه فيُيقظ تمرد حواسه بالتباطئ، ويبطل أمر عقله بالهرب! وفي الدقيقة التالية كان يسقط مغشيًا عليه، ليشير حسين نحوه امرًا بجدية حادة: -مستنين اية شيلوه حطوه ف العربية عشان نتحرك اومأ الرجل مطيعًا لأمرًا يُعد من قوانين السلطة العليا: -تحت أمرك يا باشا مددوه على كرتونة صغيرة على الأرض امتثالاً لأوامر حسين بالطبع..
وبعد دقائق عديدة، جلب احدهم المياة في زجاجة صغيرة ليبدأ حسين رشها على وجه عمر بخفوت، حتى شعر به يتململ متأوهًا وهو يضع يده مكان الضربة... فقال حسين بصوت يكاد يسمع: -كدة أخليك تكلمها تقوم تخوني اخيرًا إستطاع عمر أن يفصل جفنيه عن بعضهما، ليرى أمامه حسين... وذاك الألم في رأسه لا يتركه ولو لثانية كظله القاتل! واستطاع أن يحتفظ بنقطة واحدة من الثبات علها تصنع سطورًا جديدة من التماسك والصلابة وسأله مستنكرًا:.
-حسين!؟ رفع حسين حاجبه الأيسر متعجبًا، ولكنه همس: -أيوة حسين يا أستاذ عمر نظر حوله يمينًا ويسارًا، يسأل بعيناه ذاك المكان الجاف إن ملك الجواب! نظر له ثم سأله مفكرًا: -أحنا، أحنا فين وآآ، وبنعمل إيه هنا بالظبط؟ في البداية كان حسين ثابتًا، بل تبلد جسده مكانه، كرد فعل طبيعي لخدعه يحبكها عقل عمر الثقيل...
ولكن شيئً ما صدمه، تلك النظرات والتي هي صافية تمامًا في صدقها، بها شيئ من التعجب الحقيقي يكمن بها، نظرات تُصنف لمصدر الحقائق، ولا يمكن نسبها لتلاعب بشري، ابدًا! وكأنه قرر ان يكمل لعبته المنتهية قبل بدأها حتى، فبادله الجواب بسؤال هادئ: -يعني أنت مش عارف يا عمر؟ هز رأسه نافيًا دون تردد: -لأ، مش فاكر إيه اللي جابني هنا خالص صمت برهه وكأنه يضغط على عقله ليسترجع ما تمنى نسيانه، ثم هتف فجأة:.
-واصلاً ازاي انت معايا، أنت كنت برة مصر وبقالي كتير ماشوفتكش بدا الأمر مريب ل حسين الذي أيقن أنه أحمق حول أعتقاده بأمكانية تلاعبه بعمر! ألهذه الدرجة أستطاع بنفوذ عقله إخضاع باقي حواسه لأوامره بهذه البراعة.. ام هذه لعبة عادلة من القدر تُحاك دون علم كلاهما ولكن بقوانين جديدة كما المنتصر فيها تمامًا؟! بات لا يفهم شيىً فأردف بانفعال: -عمر أنت هتلاعبني ولا إيه؟ رفع عمر كتفيه مدهوشًا يرد:.
-هلاعبك عشان بسألك، أنت اللي فيك حاجة غلط أشار له حسين بأصبعه مرددًا بحنق ظهرت ازداله على وجهه الذي اكفهر بوضوح: -لا أنت عارف كل حاجة بس بتستعبط وضع عمر يده على رأسه صارخًا: -والله ما فاكر احنا جينا هنا لية ولا بنعمل إيه! رآن الصمت بين الجميع، من هم يتابعون تلك اللعبة التي ظهرت فجأة من بين أعماق لأوامر حادة وضعف مسيطر عليه، لخبث دفين لا يظهر منه ولو ذرة واحدة...
إلى أن قطع عمر الصمت حين صدح صوته متهدج مشتت: -أنا فاكر أنا مين وأنت مين، وفاكر إني كنت رايح ل چودي البيت اخدها ونروح نتغدى، بس مش فاكر أي حاجة بعدها، خالص والله يا حسين! ضيق حسين عينيه يسأله غير مصدقًا: -أنت بتتكلم بجد؟! دي اخر حاجة فاكرها إنك مع چودي؟ اومأ عمر مؤكدًا، ليسأله هو هذه المرة بخفوت: -هو حصل حاجة تاني بعدها؟ ماذا!
يتساءل ماذا حدث! أهذه معجزة ام خُدعة جديدة، ولكن لا، إن كان هناك نقطة واحدة تُفرق بين الحقيقة والكذب، فهاهي جعلت الحقيقة تطفو بروعنة! أصبح يهز رأسه بهيستيرية وصار يسأله متلهفًا: -كمل، إيه اخر حاجة فاكرها عن حياتك كلها يعني؟ برغم شكه من ريبة الأمر، إلا أنه زج أجابة واحدة وجديدة في مناقشة الاسئلة هذه، فتشدق ب:.
-عادي يعني يا حسين أنا عايش في الهرم، وبشتغل مع حاتم وفارس، وعلاقتي بچودي الحمدلله كويسة، وبفكر هنتجوز قريب! صارت عينا حسين تنضح بالتهليل، لا بل الذهول والصدمة، والتفكير.. مجموعة مشاعر مختلطة خُلقت من اللاشيئ لتحتل جوارحه الخبيثة... ليسأله عمر بعدم فهم: -في إيه؟ صدح صوت حسين أمرًا بعلو: -جهز العربية يابني هنطلع على الدكتور فورًا.
كز عمر على أسنانه بغيظ، يبدو كعروس لعبة يحركها القدر دون أن تهبها القدرة على الإعتراض! فصرخ منفعلاً بغيظ يكاد يشق عروقه: -ماتفهمني في إيه يا حسين؟ إستعاد حسين نفسه الخبيثة اخيرًا من بين تلاطم أمواج الحيرة العميقة.. ليستطرد بنبرة ناعمة كجلد ثعبان سام:.
-مفيش يا عمر، هاخدك على الدكتور نطمن عليك، وبعدها هوديك لچودي زي ما كنت فاكر انك ظرايح وهي هتفهمك إيه اللي حصل لك الفترة الصغيرة دي، لإنها كانت هتموت من القلق عليك!
بدأت أسيل تتململ في نومتها بكسل مرتبطة خيوطه بالواقع كلما تذكرته.. شعرت بالدفئ يسري بين كل خلايا جسدها، والجو محمل برائحة مميزة عطرة تخترق مسامها قبل أنفها! حاولت التحرك قبل أن تفتح عينيها، ولكن شيئ حاني ورقيق يُقيد خصرها وهي تنام مستندة عليه... وكأنه اجبار لين لمحاولة إقناع! إتسعت حدقتاها وهي تدرك أنها تنام بين ذراعيه! تستمد دفئها الذي أنعش روحها المقتولة لتبدأ في دورة استعادة حياتها، منه!
ظلت تنظر له مبهوتة، يبدو أن ليس جسدها فقط من تحالف معه ضدها، بل عقلها الباطن ايضًا الذي سمح له... ملامحه لم تكن كما وهو مستيقظ، وكأن ذاك القناع الجامد زال الان وهو نائم فجعله على طبيعته! ملامحه هادئة، مُشققة ومتألمة، تلك الملامح التي خلقتها روحه المُمزقة وبسوطها هي! شيئً ما أحمق سيطر على يدها فجعل اصابعها تمتد لتتحسس ذقنه النامية.. وعندما فتح عيناه فجأة أبتعدت على الفور وكأن أفعى لدغتها!
بينما هو ظل ينظر لها لدقائق، يحاول الوصول لحقيقة ذاك الارتباك الذي وللحظة خُيل له انه توتر ما يسبق عاصفة إعجاب غير راضية! حاولت الهمس وهي تتحرك ببطئ كمقيدة بقيد وهمي: -أنا، أية اللي جابني، هنا؟ أجابها وعيناه لا تحيد عن شفتاها: -أنا همست مصدومة وجيوش الحمرة تزحف لوجهها الابيض: -وآآ، وغيرت لي هدومي؟ رأت نظرة العبث التي احتلت أول طبقة من طبقات عيناه الغريبة قبل أن يومئ مؤكدًا: -طبعا، امال مين تالت معانا؟
أكلت القطة لسانها كما يقولون، ولكنها ليست قطة حقيقية، بل قطة تمثلت لها على هيئة الخجل الموجع الذي أعجزها عن الكلام... فيما نظر لشفتاها التي ارتعشت ما إن اصبحت اسيرة نظراته، ليضع اصبعه عليها برفق هامسًا بصوت كاد يذيب عظامها: -بتترعشي لية؟ خايفة مني يا أسيل؟ كان السؤال في حد ذاته مؤلم له، ولكنه تحدى ذاك الألم مراهنًا على إجابة تُرطبه قليلاً!
نظرته كانت تحمل توسل خفي بالنفي، ووجهه كان خاليًا من أي تعبير واضح... فوجدت نفسها ترد متلعثمة: -أنا، اه، لا آآ مش بحبك تقرب كدة لم يدري ماذا أصابه تحديدًا، ولكنه شعر بوخز في كرامته التي نزفت بما يكفي ولم تسعفها كلمة واحدة منها، فكادت تموت قهرًا! تجلت نبرته وهو يخبرها بصرامة لاذعة على روحه قبلها: -اطمني، مش هقرب لك تاني ابدًا، إلا بأرادتك.
بدت نظراتها حائرة ما بين التصديق والتكذيب، كلاهما يجذبانها نحو حافة لا ترغبها، لكن في النهاية إلتزمت الصمت.. فتابع هو بخشونة: -اقسم لك بده، عمري ما هقربلك تاني من غير ما توافقي أو تطلبي ده كانت تنظر له ببلاهه، أحمق ذاك يظنها ستنجح في قتل مارد العشق داخلها وتطلب ذلك الطلب المستحيل؟! ستستطع اصلاً انتشاله من وحي الخيال ليصبح ضمن الواقع الذي لطالما كان مصدرًا مؤلمًا! ليصبح فجأة نقطة بداية جديدة هكذا؟!
بدت شاردة تمامًا في هذه الحياة الاحتمالية، بينما هو لم يطاوعه قلبه ألا يودعها ليشبع جوعه مؤقتًا... فالتهم شفتاها في قبلة دامية، تقريبًا قبلة الوداع! كانت من المفترض أن تنتهي مسرعة، ولكنها زادت تطلبًا، وكادت تزيد جرأة! إلا انه احكم السيطرة على نفسه التي ثارت من اقترابها مجددًا، لينظر لها هاتفًا بأنفاس لاهثة: -اسف، شفايفك مغرية، وأنا واحد بيودع حقوقه وشوقه، ل مراته!
ثم وبكل بساطة نهض متجهًا للمرحاض تاركًا اياها تتحسس شفتاها اثر اقتحامه بصدمة!.. اختفى من امام ناظريها، بينما بقيت هي تتذكر ما جعلها تلجأ له دون غيره! بعد مقابلتها مع عبدالرحمن، إتجهت لمنزل أبيها فلاش باك #### طرقت الباب برفق، كانت شبه محطمة نفسيًا، تحاول لملمة شظايا كسرها لتخلق لها حائط قوي! فُتح الباب لتجد فتاة ما تقربها في العمر، ترتدي ملابس خليعة، وتقف أمامها بكل برود!
إتسعت حدقتا عينيها صدمة مما تراه، بينما سألتها الاخرى وهي تتمايل ببرود: -خير يا مدام نعم؟ حاولت فك لجام لسانها المتفاجئ لتسألها بقوة متعجبة: -إنتِ اللي مين ده بيت أهلي!؟ ضحكت الاخرى ضحكة قصيرة وخليعة قبل أن تخبرها: -اااه هو إنتِ بقا ست أسيل، على العموم يختي امك اتطلقت ومشيت الصبح! -ايييية؟! صرخت بها أسيل قبل أن تندفع نحو الداخل، ولكن يد الاخرى منعتها وهي تجذبها بعيدا لتدفعها للخارج بعنف حتى كادت تسقط!
ظلت تحدق فيها بصدمة، تخشبت مكانها وتجمدت الحروف الهجومية بين ثنايا روحها المُفقمة!.. واخيرًا إستطاعت النطق ولو بحروف لم تتواصل حول نقطة واضحة: -ازا آآ ماما و، وبابا، بابا فين!؟ أشارت نحو أبيها الذي ظهر لتوه لتقول متأففة: -ابوكِ اهو ياختي سارعت تهتف في أبيها بحنق منصدم: -إيه اللي الست المتخلفة دي بتقوله يا بابا؟! وفين امي؟ أشار لها بأصبعه في شيئ من الحزم اللاذع:.
-اعدلي لسانك يا أسيل، دي في مقام امك، وع فكرة هي مش كذابة، انا طلقت امك الصبح زي ما طلبت ومشيت هنا تدخلت تلك السيدة تزجها بعنف للخارج صارخة فيها بغيظ: -يلا يابت غوري من هنا، آل متخلفة آل، يلا واياكِ تعتبي هنا تاني سااامعة؟! كانت تنظر لأبيها، منتظرة رد فعل يعطي أبوته السوداء لونًا من ألوان الحياة الطبيعية الفطرية بين أب وأبنته، ولكن لم يعطي! كان يشاهدها بصمت بارد.. بينما همست هي بحرقة:.
-بابا؟! بابا أنت ساكت وشايفها بتطردني! لم يرد عليها وإنما اولاها ظهره، فيما دلفت تلك السيدة وأغلقت الباب خلفها... فنهضت أسيل ببطئ عن الأرضية وقد بدأ البكاء يلفها بعنف... تشعر بروحها تُعانق الموت مرحبة به! أنهم سلطوا كهرباء مميتة عليها فكادت تُزهق روحها! لا أب يريدها، ولا أم تسأل فيها، ولا حتى حبيب ينتظر لقاها!
لمن تستمر الحياة اذن؟! هو فقط، هو فقط من كان دائما ذراعاه مفتوحان على مصرعهما لها، ولكنها دائمًا تصنع شباكًا صغيرة لا تُفك بينهما!
رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع
مسبقًا استيقظت مها صارخة صرخة شقت السكون الذي أنتشر حولها مسيطرًا على الجو... نظرت حولها لترى أحمد و ووالدتها واخيرًا تلك العقربة التي جعلت الدماء المغلية تضخ اوردتها بقوة.. ولكنها إنتبهت لتوها على تلك الحقيقة التي اقتحمت حياتها فجأة فصرخت: -ابني، أنا عرفت تنهد احمد بقوة ليسألها خافتًا: -عرفتِ إيه يا مها؟ إنتِ عمالة تقولي عرفت عرفت!
لأول مرة تشرق شمس الأمل على هيئة ابتسامة على أرض وجهها الباهت الذي بار، فينظروا لها جميعهم بعدم تصديق! بينما هتفت هي بابتهاج: -هنعرف مكان سيف، أنا تقريبا عرفت إتسعت أعين كلاً منهم ومن ضمنهم رودينا التي أخترقها وسواس الشك حول قدراتها العقلية فهمست: -نعم! وده عرفتيه ازاي ده؟
وكأن صوتها قد أعاده لموضع الصدمة لفعلتها الشنيعة، فاستدار لها يشملها بنظرة سوداء كغابةٍ لا تحوي سوى وحوشًا مستعرة تحترق لأكلها حية! فحاولت تصحيح جملتها: -أنا قصدي، قصدي يعني إن آآ ولكنه قاطعها مزمجرًا في وجهها بغضب جم حارق: -اخرررررسي، مش طايق أسمع صوتك أطرقت رأسها خزيًا، وتلقائيًا خرجت الكلمة من فاهها بحنق: -حاضر إشتد لهيب عيناه الذي وصلتها حرارته وهو يسألها مستنكرًا:.
-إنتِ إيه اللي مقعدك هنا لحد دلوقتي أصلاً؟ لية لسة في بيتي! إتسعت عيناها والصدمة تتآكل نصفها، إلا أن نطقت بصعوبة وكأنها تتعلم الأبجدية من جديد: -أنت، أزاي!، أنا آآ... لم يٌفسر ماذا تقول تمامًا، ولكنه متيقن أنها ستبدأ بالدفاع عن نفسها، وغالبًا سترفض هذا القرار! فقال بحدة: -إنتِ ملكيش مكان هنا تاني ابداً، دي كانت غلطة عمري ومش هكررها سألتها مبهوتة وكأنها لم تستوعب بعد: -أنت بتطردني من بيتك يا أحمد؟
هز رأسه نافيًا، ثم صحح لها بسماجة: -لأ، أنا بطردك من حياتي كلها كادت تعترض مرة اخرى، ولكن صياح مها الحاد فيهم جعلها تبتلع اعتراضها السخيف: -بسسس ارجوكم مش وقته، خلونا نشوف سيف تأفف أحمد وهو يستدير لها متساءلاً: -ها يا مها، هنعرف مكانه منين فهميني بسرعة اومأت مؤكدة لتحاول تجميع جملة صحيحة من فرط إرتباكها السعيد: -ايوة، السلسلة، ال GPS، في رقبته ضربت رأسها برفق مرددة:.
-معرفش ازاي نسيت انه اصلاً قبل ما يمشي بكام يوم كنت جبت له سلسلة فيها Gps عشان مواقف زي دي عقد أحمد ما بين حاجبيه مفكرًا بتعجب، أي صدفة من القدر تلك جعلتها تُعاقب ثلاث ليالٍ ثم يُفك الحصار عن قلب الأم الذي احترق داخلها؟! فاستطرد هادئًا: -ازاي يعني؟! وإنتِ من امتى اصلاً بتتعاملي بال GPS..؟ أغمضت عيناها لتشكر تلك المرأة في سرها، قبل أن تهتف مسرعة:.
-واحدة ابنها كان هيتخطف فقالتلي بالصدفة واقترحت عليا وانا عملتها، ارجوك مفيش وقت هات موبايلي اومأ موافقًا ثم ركض مسرعًا يبحث عن هاتفها كطفل صغير يلبي نداء والدته المريضة... وبالفعل خلال دقائق كان يجلب لها الهاتف ووالدتها تحاول مساعدته... وفي الدقائق التالية كانت بداية جديدة لسطر جديد في هذه الحياة، كانت نورًا خافتًا بدأ يتوهج رويدًا رويدًا إلى أن اصبح منيرًا بقوة عامية عندما صرخت أنها وجدت المكان:.
-اهوو لقيته يا احمد السلسلة في... ثم صمتت برهه وقد عاد عقلها يعمل لتوه، فهمست متوجسة: -بس دي منطقة شعبية وبيئة اوي، وبعيدة عننا كتير، إيه اللي هيخلي سيف يروحها إلا اذا... وعجز لسانها عن نطق تلك الكلمة التي قد تُدمر بريق الأمل في مراحلها القادمة! وعلى لسان حالها كان يتردد عندما يتوجب عليك وضع نقطة للنهاية، كف عن المحاولة لوضع فاصل! أكمل أحمد باختناق: -إلا إذا اتخطف.
وفي اللحظة التالية كان يركض نحو الباب، فصرخت مها فيه مستنجدة: -احمد بالله عليك أستنى خدني معاك وبالفعل ركضت هي ووالدتها، ولحسن الحظ انهم يرتدوا ملابس خارجية محتشمة... فيما ظلت رودينا على حالها كصنم اُصيب بالصمم عندما سمع الحكم المميت على حياته لأ، أنا بطردك من حياتي كلها !
حين تُصبح الأمنية حقيقة، حين يتجمد الرجاء بصلابة حبال الواقع فيضمه له، حين يتلاشى التخيل ليصبح الواقع امامك شكلاً وشاكلاً.. تقف أنت مبهوتًا مصدومًا متبلدًا من قدرة فائقة للقدر على التغير، فقط ليخالف توقعاتك وإن كنت راغبًا فيها! وقفت شهد تنظر ل عمر الساكن امامها يبادلها النظرة الهادئة.. رآن الصمت المُكهرب بينهم حتى قطعه صوت محسن الذي همس وكأنه يؤكد لباقي حواسه أن عيناه لم تكن على خطأ ابدًا:.
-عمر! أنت رچعت وكأن جملة محسن أعادت شهد للواقع الذي يناديها بالتحقيق.. فركضت نحو عمر تحتضنه بكل قوتها لتشهق بالبكاء المكتوم منذ مغادرته، تلك الكومة التي فجرها بعودته المفاجأة! كانت متشبثة به بكل قوتها وكأنها تخشى من نفس الواقع أن ينتشل منها حلمًا جميلاً، وهو ساكن تمامًا... بعد دقائق تقريبًا مرت عليهم وشهد متشبثه بحضنه الذي مازال يحتفظ بدفئه، رفع يده ليحيط ظهرها برفق وتلقائية!
ويقرب وجهه من رقبتها البيضاء مغمض العينين، ليسمعها تتأوه باكية: -آه يا عمر وحشتني أوي، وحشتني أكتر من أي حاجة وكل حاجة، وحشتني لدرجة إني كنت هموت من غيرك إلتزم ذلك الصمت الموحش، ثم أبتعد عنها ببطئ لتحتضنه مرة اخرى بكل قوتها مرددة: -ماتبعدش عني عشان خاطري زفر هامسًا بحزم: -شههد كم أشتاقت لتلك الكلمة، كم تاقت أذنيها لأختراقها الحنون، وتبخترت هي بكل دلال حتى وصلت لها...
ولكن لم تصل كالمعتاد، بل كانت نبرة مختلفة غريبة، حازمة بقسوة رغم الحنان الفطري الذي يتدفق منها! ولكنها تغاضت عنها وهي تراه ينظر لمحسن بتدقيق، لتسارع القول: -ده محسن اخويا مش غريب يعني على الأقل حالفه الحظ هذه المرة لتخبره هي! تجلى صوت محسن وهو يبتسم ليخبره: -يااااه، طالت غيبتك جوي يا ولد العم معلومة اخرى يدسها القدر له وسط معمعة عقله المشتتة.. حاول الأبتسام وهو يخبره بهدوء: -غصب عني.
سارعت شهد تسأله وهي تتلمس وجهه بحنان أمومي: -إيه اللي حصل يا عمر، وأخدوك لية؟ أبعد يدها عنه ليجيب بامتعاض: -مشكلة بس اومأت موافقة مؤقتًا، الان الساحة خالية للأستمتاع برؤيته فقط وبعدها لن تتركه إلا حين يتفرغ بكل ما يجيش بصدره... جلسوا جميعهم بهدوء تام، هدوء ولكنه مخيف غير مرح غير مُهلل فطري... حتى قطعه سؤال محسن الجاد: -إيه اللي حُصل لك يا عمر، إحنا جلبنا عليك الدنيا كُلياتها ومكناش لاجيينك.
كان عمر ينظر أمامه بشرود، شرود يحبسه داخل قوقعة التفكير، وبعد الصمت حان موعد الأجابة الصادمة وهو يلقيها بوجههم: -أنا مش فاكر حاجة صرخت شهد مصدومة: -نعمممم! اومأ مؤكدًا باتزان: -مش فاكر أي حاجة من اللي حصل لي صمت، ذهول، مصيبة اخرى يتثاقل حجرها على مجوار حياتهم البائسة مؤخرًا! نهضت شهد منتصبة بجزع: -يعني أنت مش فاكرنا يا عمر!؟ مش فاكر أي حاجة؟
هز رأسه نافيًا، وقال بصوت متحشرج كشعوره تمامًا نحو كومة مشاعر متفقمة: -مش بالظبط، أنا فاكر كل حياتي، قبل ما أعرفك شعرت بكلماته تصفعها مرات متتالية، المعنى المتواري خلف حروفه المنغمسة بالسموم أنه لا يذكرها على وجه الخصوص! وهي زهرة، لا تصدر رحيقها سوى ل عشقًا يُحيهم معًا.. هي شهد زهرة كانت على قيد الحُب، وأصبحت في تعداد متوفين الفراق! ونهضت تسأله مرة اخرى ببهوت: -يعني إيه؟
رفع كتفيه بمعنى لا يعلم بينما داخله يعلم، ويعلم جيدًا جدًا! فصدح صوت محسن الأجش يسأله: -وأنت عرفت كيف يا عمر؟ تردد كثيرًا قبل أن ينطق بحزم: -حسين صاحبي روحت معاه للدكتور وهو أكد لي بما إني مش فاكر إنه فقدان جزئي عاد يسأله مستفسرًا: -اداك دواء او اي حاجة عشان تسترجع ذاكرتك في اقرب وقت؟ رد بهدوء ب: -أيوة، اداني متقلقش اومأ محسن موافقًا لينهض مستعدًا للمغادرة، فسارع عمر يهتف فيه: -إيه ده؟ رايح فين!
اجابه ممتعضًا: -رايح الشجة اللي أجرتها لحد ما اسافر تنهد كلاً منهم بصمت، إلا أن شهد قالت مغمغمة بضيق: -يعني بيت أختك مفتوح لك وأنت هتروح تقعد في شقة مأجرها دي اخرتها! هز رأسه نافيًا يشرح لها بخفوت: -حبيبتي أنا هأعمل كام زيارة كدة بمناسبة إن عمر رجع بالسلامة وهعاود البلد طوالي يعني مش هطول اومأت متنهدة بعد أن تيقنت أصراره: -ماشي يا محسن وغادر محسن وفي قرارة نفسه يُيقن من ضرورة المواجهة..
مواجهة اللقاء الأول والغريب، ذاك اللقاء الذي يُمثل أول حرفًا والذي ستتشكل عليه حياتهم القادمة معًا! وحتمًا ولابد من الإنفراد، الإنفراد بنفسهم داخل قوقعة الإحكام بالواقع دون إلتزامات كاذبة... أقتربت شهد منه ببطئ إلى أن أصبحت امامه تمامًا، ترى إنعكاس صورتها والتي بدت لها غريبة جدًا عن صورتها المطبوعة بقلب عاشق لا يخضع لقانون النسيان! فهمست متأوهه باختناق: -يعني أنت نسيتني يا عمر؟!
اومأ مؤكدًا دون أن ينظر لها: -أيوة، دي حاجة لا إرادية وضعت يدها على موضع قلبه تمامًا، وكأنها تود التأكد بنفسها إن كانت دقات ذاك القلب تضخ بأسمها وتأثرًا لها ام لا! ثم تابعت بشجن: -بس ده أكيد مانسانيش كان مغمض العينين، لا ينكر تأثره بها، بل تأثره القوي بها، شعور غريب ومتفاقم تغدقه به! قلب الذي يدق بقوة، والشعور بالأحتواء الذي يحيطهم كهالة قوية ومتينة لا يستطيع إنكارها... أبعد يدها عنه ببطئ وهو يهمس:.
-ده بيخضع للعقل دايمًا، والعقل مش فاكرك فابالتالي ده مش فاكرك بردو لم تدري لمَ شعرت أن كلماته التي تجعل قلبها يرتجف بعنف لم تكن فطرية تلقائية، بل إستخلصت جهد كبير لتصبح هكذا؟! وتقريبًا كانت هذه نقطة في صالحها فتخطت عتبة الوجع بقدم التفاوت وقالت: -طيب، أنت أكيد تعبان تحب أحضر لك أكل عقبال ما تاكل؟! اومأ موافقًا بأرهاق حقيقي: -ياريت اومأت متنهدة بعمق لتوليه ظهرها وكادت تغادر..
إلا أنها فجأة ومن دون أن تدري وجدت نفسها بين أحضانه، يحتضنها بكل قوته بعدما جذبها فجأة... لا يعلم تحديدًا ما الذي دفعه لأحتضانها ولكن مغناطيسًا سحريًا يكمن داخله تحكم به للحظة ظفر! يداه تُقيد خصرها ووجهه بين خصلاتها المتمردة كحالة قلبها تمامًا... بينما هي أحتضنته وهي تتشبث به وتقبل كل جزء من وجه، وعاد لواقعه الذي يُحتم عليه بالأبتعاد فأبعدها عنه لتشهق متأوهه بأسمه: -عمر...
همستها تلك جعلت قلبه يرفرف لا اراديًا ونسيم عشقها الذي إختلط بحروفها يُنعشه بشكل مُقلق.. إلا أنه استجمع رباطة جأشة وهو يخبرها بحدة قاسية جدًا صلبت قلبها معه: -أتفضلي زي ما كنتِ ماتبقيش زي العيل الصغير تشبطي في أي حد حتى لو مش عايزك! حتى لو مش عايزك ، حتى لو مش عايزك ، حتى لو مش عايزك ! ترددت الكلمة وأنحسر الشعور والسؤال! أطبق صمت ثقيل على أنفاسهم المختنقة وتحشرجت الحروف في جوف ازدادت ظلمته سوءًا...!
هو لم يعد يريدها! لم يرتبط القلب بها كما توقعت، بل كانت ذكريات! ذكريات هبت عليها عاصفة القدر الصادف فمحتها تمامًا من عُرف لم يُخلق إلا له... وإستدار وغادر... هكذا ودون كلمة اخرى أعلن نهاية النقاش بوصول حياتهم لحافة الثوران! ثوران ما قبل الإنفجار، والبادي أسوء..
بعد فترة... واخيرًا كان أحمد يتقدم مع الشرطة نحو ذلك المكان متسللين دون صوت، لا يزال يذكر تنبيهات الضابط التي زرعها بعقله مشددًا على كل حرف إياك تنفعل أو تعمل صوت أو أي حركة مش متفقين عليها، مهما تشوف أو تسمع يا احمد .. ده لو عايز أبنك يرجعلك كويس طبعًا كان المكان كالمعتاد، الأطفال يتناولوا طعامهم والذي كان ربع رغيف خبز وقطعة جبن صغيرة!
منهم الراضي، ومنهم المتذمر الذي يخضع لجرعة العلاج من ذاك الاعتراض، للأبد! ومنهم الذي ألجمته الصدمة، فلم يعد يشعر بأي تأثير اخر للطبيعة على روحه، الايام تمر، والدقائق تمر، اطفال ترضخ واطفال تُعذب من جديد، وهو يقف كما هو عند تلك النقطة تعذيبه لا يسحبه طوفان الطبيعة للأمام ابدًا! كان كذلك سيف الذي منذ قدومه تقريبًا كان يأكل لقمة او او اثنين ويشرب المياة، مرغمًا على البقاء على قيد العذاب...
نعم العذاب، فهذه ليست بحياة ابدًا! وفجأة هجمت الشرطة وصدح صوت الضابط مهددًا بسلاحه: -كله زي ماهو، أي حركة هيبقى جنى على روحه وبالفعل تجمد المعظم مكانه، لا مزاح في تلك النقطة، عند ذكر الشرطة تُذكر الرهبة الفطرية سواء لأطفال او كبار! هنا تدخل المعلم امام الضابط ليسأله بحنق: -في إيه يا حضرت الظابط إيه الدخله دي؟ تقوس فمه بابتسامة ساخرة وقاسية وهو يرد مستنكرًا: -لا والله، يعني أنت مش عارف يا، يا معلم ؟
ابتلع الاخر ريقه بازدراء، وبمهارة ممثل حصل على أوسكار في الكذب قال: -لا طبعًا، حضرتك دخلت علينا وبتهددنا ولا كأننا في شقة مفروشة هدر أحمد بأنفعال دون تردد: -دي أوسخ من الشقة المفروشة يا كلاب زجره الضابط بعيناه ليصمت، بينما سأله الاخر مفكرًا بخبث: -الله! ده الموضوع في إن بقا، إيه الحكاية يا باشوات؟ ود أحمد لو أجابه بلكمة قوية تكسر فكه فتصله أفضل جواب على سؤاله الخبيث!
ولكنه تماسك قليلاً وهو يسمع الضابط يخبره بحزم: -تُهمك كتير يا معلم، يلا تعالى معانا من غير شوشرة كاد الاخر يقاطعه إلا أنه اكمل بحدة مخيفة: -بس الاول تقولنا فين الطفل اللي اسمه سيف احمد؟ نعم، ذلك الطفل اللعين الذي لم يجلب له سوى الأزعاج في طيات قدومه! ولكن مهلاً، لن يتركه بهذه السهولة، هذا الطفل تحديدًا خوفه يأسره بأسر تمثل في حلقة مفتوحة فيستطع فعل ماشاء به دون ادنى اعتراض...
نظر ل أحمد ثم رد بجدية خبيثة: -أنا معنديش طفل اسمه كدة، ثم اني بأربي الاطفال اليتامى يا باشا مش بخطفهم يعني لو كان الجحيم شيئ ملموسًا لكانت الحمم البركانية في نظرات أحمد أحرقت ذاك الرجل في مكانه دون رحمة! جذبه الضابط من قميصه صارخًا بوجهه: -انا هعرف بطريقتي في القسم ياروح امك، خدوووه نظر حوله لينادي بصوت عالي: -في حد هنا اسمه سيف احمد، سيييييييييييف.
لم يصدق اذناه، لم يخضع لحقيقة الواقع، وكأنه في دائرة واسعة من الكذب و الصدمة فلم تستطع الحقيقة اختراقها! ولكنه يستشعره وكأن النور يسطع فجأة، يسمعه على بُعد مسافات خلقتها الصدمة ليس إلا... سيف، طفله المفقود، يرد بصوت ضعيف مبهوت: -بابا! أنا هنا يا بابا لم ينتظر اكثر وهو يأكل تلك المسافات ركضًا له يحتضنه بطاقات مهولة من الشوق كادت تتحول لسلبيات! يقبل كل جزء بوجهه وصوته لا يسمعه الا سيف الذي كان يبكي:.
-وحشتني اوي يا حبيب بابا لم يصدق أنه بين ذراعيه، معه، يحمله ويقبله ويحتضنه، يتيقن من وجوده، ينمي شعوره الأبوي الذي كان يحتضر في غيابه..! يعود ليثبت جذور ثبات على أرض الحياة البور بعد غياب جعلها بلا قيمة بالنسبة له...
كان كلاً من عمر و شهد يجلسا على مائدة الطعام، والصمت يطبق على كلامًا كثيرًا وواهيًا يكمن داخل أرواحهم الملتاعة في الخفى!.. وعمر لا يرفع عيناه عن الطبق الذي يأكل فيه، بينما شهد بدت وكأنها تُشبع جوعها من التطلع لوجهه المبهر.. وتلك القسمات التي اشتاقتها وإن كان خط سيرها تغير أو حاطته ضبابية سوداء قاسية! إنتبهت لصوته الذي صدح يسألها بجدية هادئة: -مابتاكليش لية؟ نظرت أمامها لتجيبه متلعثمة: -ب باكل اهو.
رفع حاجبه الأيسر مشدوهًا، ليتابع متهكمًا: -أيوة منا شايف إنك بتاكلي عشان كدة الطبق اللي ادامك زي ما جبتيه اهو -هاكل حاضر، أي اوامر تانية؟ قالتها وهي تغرس الملعقة في الطبق أمامها وبالطبع لم يخفى عنه الغيظ الذي كان يتدفق من جملتها القصيرة.. فقال بخشونة خرجت رغمًا عنه حانية بعض الشيئ: -دي مش أوامر، ده لمصلحتك إنتِ مش أكتر على فكرة! لمعت عيناها ببريق توهج من إعتراف طفيف سلبته اياه عنوة...
وجهر قلبها مهللاً بنصر لم يحرزه منذ فترة، لقد أعترف، وإن لم يعترف بالعشق، قد اعترف بما يلازم العشق دومًا.. اعترف بتلك الرابطة الفطرية بينهما، وهذه نقطة تُحسب لها بالطبع! لاحظ أبتسامتها التي اشرقت على غيوم حسرتها قبل أن تقول بلهفة: -بجد يعني أنت خايف عليا فعلاً؟ قلب عينيه بملل يحاول إخفاء ذاك التوتر المضني بينهما.. لا يرغب في الإنحدار، بل لا يرغب في إستسلام غير معهود منه، ابدًا!
تجلى صوته وهو يسألها بحدة مناسبة: -حد قالك إنك رغايه قبل كدة؟ رمقته بنظرات ذاهلة وهي تهمس متأففة: -أنا كدة رغاية عشان سألتك سؤال واحد؟ ده أنا كدة كيوووت، الله يرحم اما كنت هاتموت عشان تقعد تتكلم معايا بس، عامل زي القطط تاكل وتنكر كادت الأبتسامة تشقق عبوسه على ثرثرتها المضحكة، ولكنه أحكمها وهو يزمجر بصرامة: -شهههد عادت لطبيعتها تتنحنح بحرج: -نعم أمرها وهو يعود لتناول طعامه بجدية: -كُلي وإنتِ ساكتة، تعرفي؟
اومأت مؤكدة لجوار همسها بصوت يكاد يسمع كقطة وديعة: -أيوة أعرف، حاضر ولكن ما إن وضعت الملعقة في فاهها وبدأت تمضغ الطعام حتى شعرت بمعدتها تتقلص وفجأة نهضت راكضة نحو المرحاض وتضع يدها على فاهها، فيما هب هو الاخر منتصبًا يلحق بها وهو يتساءل: -في إيه مالك؟! كانت تفرغ ما في معدتها في المرحاض وتأن بألم.. إلى أن انتهت وبدأت تغتسل لتلاحظ وقوفه بالخارج جامدًا يحدق بها منتظرها..
سارت ببطئ شديد تمسك بطنها التي كلنت تؤلمها تمامًا كروحها المُعذبة! بينما هو سألها بخفوت: -فيكِ إيه؟! تأوهت بصوت مسموع قبل أن تخرج حروفها واهنة: -مش عارفة معدتي اتقلبت فجأة ووجعتني اومأ بلا تعبير واضح يهمس: -اكيد اخدتي برد ف معدتك كانت تقترب هي منه حتى كادت تسقط فأسرع هو يمسك بها ومن دون قصد كانت بين أحضانه.. وجهها امام وجهه تمامًا وجسدها ملتصق به تستشعر سخونة ذلك القرب الضاري بينهما!
وبتلقائية كانت أصابعهم تتشابك وكأنها تحفظ موضعها دون تدخل آمر من العقل الباغض، عينا كلاً منهم تحدق بالأخر والصمت أكبر خلفية شفافه للعشق الذي كان يموج سطور عيناهم.. عشق امتنع عنه اللسان فتجرأت به العيون، تُعبر به بلغتها البسيطة التي تسري كالرحيق بين اوردتهم... لم يشعر عمر بنفسه سوى وهو يقترب بشفاهه منها ببطئ، بينما هي مغمضة عينيها تحاول طرد ذاك الدوار عن حراب عشقهم مؤقتًا حتى!
أخذ يقبل ثغرها الناعم بنهم بينما يداه الاخرى تسند خصرها النحيل مؤخرًا، وتطرفت قبلته الجائعة لتنتقل لوجهها كله رويدًا رويدًا.. دفعها ببطئ نحو الحائط حتى اصبحت محاصرة بين ذراعيه وهو يُشبعها تقبيلاً واللهيب يشتعل في جسد كلاهما اكثر.. امتدت يده ترفع طرف ثوبها الخفيف لتسير قشعريرة بطول عمودها، قبل أن تهمس بصوت مبحوح: -بحبك أوي.
أبتعد قليلاً ينظر في عيناها التي سحرته بالمعنى الحرفي فأفقدته السيطرة على نفسه تمامًا.. وكاد يبادلها همسها المجنون: -وأنا آآ... قاطعهم صوت جرس الباب الذي كان كجرسٍ للواقع ينفضهم عن عالم اخر إنغمسوا به لدقائق تحت رحمة شوقهم الذي لا يموت، ولا يتقهقر! إنتفض عمر كالملسوع يبتعد عنها بينما بقيت هي كما هي للحظات وكأنها تستوعب ما حدث سريعًا..
لتجده غادر مسرعًا نحو الباب الذي لعنته ألالاف المرات في سرها وهي تعدل ملابسها متأففة...
رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل العاشر
طرق أحمد الباب وأجمل أبتسامة أن تراها رُسمت على وجهه ببراعة والفضل يعود لفن القدر في وضع لمسته الفاصلة... بينما سيف بغض النظر عن حالته التي يرثى لها إلا أن البهجة للعودة صنعت نورًا مشرقًا خاصًا على ملامح وجهه الباهتة.. وبالطبع في أقل من دقيقة كانت مها تفتح لهم الباب ومن دون مقدمات كانت تجذب سيف لحضنها.. تتمتع وتستغل تلك اللحظة التي كانت تتبختر في غيابها فتلعب على أوتار الأم الحساسه!
تبكي وهي تحتضنه وتهمس بأسمه بين كل قبلة وقبلة: -سيف، يا روحي، وحشتني أوي يا سيفو وحشتني يا حبيب ماما أبتسم سيف لها و رد ب: -وإنتِ وحشتيني أوي، كنت بنادي عليكِ كتير وأنا تعبان، وكنت عارف أنكم هتيجوا تاخدوني اومأت مها مؤكدة بهيستيرية: -طبعًا يا حبيبي طبعًا، أحنا مانقدرش نعيش من غيرك اصلاً.
وظلت هكذا تقبله بكل ذرة تمتلكها من حنان بينما كلاً من رضوى و احمد و والدتها و اخيرًا رودينا يراقبونها بابتسامة حانية... حتى قال أحمد بصوت مجهد ولكن به شيئً من المرح: -وأنا إيه شفاف؟! ولا حمدلله على السلامة يا حبيبي، عامل اية يا حبيبي، أي كذب حتى وأنا هعمل نفسي مصدق نهضت مها لترتمي في حضنه باكية دون مقدمات، بل تتشبث به وكأنه طوق الغرق الوحيد والذي كان ينفذ من كثرة الضغط عليه! فتابعت رضوى ضاحكة بفرح:.
-يووه، ده النهاردة اليوم العالمي للعياط بقا، تعيط قبل ما الواد يرجع وبعد ما يرجع كمان، صدق اللي قال الست المصرية نكدية لحد ما تموت ضحك الجميع والفرح يتقافز بين جحورهم، عادا هي... كانت تغلي والخوف يعتصرها، الخوف من المستقبل.. ذاك الخوف الذي هو من المفترض فطري، ولكن معها وبفضل تأثيرات النقاط أصبح خوف هيستيري.. أنتظار موجع بيده تحديد خط حياتها المائلة للإستقامة او القطع المباشر!
دلفوا جميعهم يتسامرون بخفوت، واخيرًا إختلطت نسماتهم المكهربة مؤخرًا بعاصفة الهدوء والراحة فعم السكون الناعم أرجاء المكان... حتى قالت رضوى بصوت جاد وحازم: -أنا بقول بقا نروح ل شهد ونبقى جمبها لحد ما جوزها يرجع بالسلامة سألتها نبيلة متنهدة بقهر من ذاك - النكد - الذي يأبى تركهم لازج بسماجة: -طب مش قولتي إن جوزها كلمها وطمنها عليه؟ اومأت رضوى مؤكدة بهدوء:.
-أيوة هي قالتلي كدة بس أكيد محتجانا بردو، كفاية إن خالي ماقدرش يكون معاها في الوقت ده اومأت نبيلة لتتابع تساؤلاتها: -وجوزك؟ هتشحتطيه تاني؟ مش كفاية بقالوا يومين بين هنا وفي بيته وشغله، ابقي خليه يروح بس بكرة وابقي روحي معاه اومأت رضوى موافقة: -منا عارفة تدخلت مها تخبرهم بصوت أجش: -طيب يا جماعة هي في البيت هزت رضوى رأسها نفيًا وراحت تخبرها:.
-لأ، هي ومحسن مع البوليس بيدوروا على عمر وبيحاولوا يوصلوا لمكان الخط اللي كلمهم منه، يا مُسهل يارب ورغمًا عنه وقعت عينا أحمد على رودينا الصامتة واقفة تفرك أصابعه ولا تحتاج لمرصاد ليرى كم التوتر الذي يحيط بها دونًا عن الكل.. وبلحظة عاصفة تقرر مصيرها المحتوم والذي كانت تماطل القدر فيه... فصدح صوت أحمد الغاضب قائلاً: -الأول في حاجة اتأخرت لازم تحصل وحالاً.
تلقائيًا نظرت مها نحو رودينا، أشواكًا لا تُعد ولا تُحصى من الكره توجهت نحو رودينا في تلك اللحظات.. وكأن تلك الغمامة التي كانت توقفهم - مؤقتًا - عن حرقها حية هي الفقدان! ولكن الان، الوضع اختلف، والأيام اختلفت، والدقائق تغيرت ودقت ساعة الأنتقام.. ليتطيب اخر جرحًا يزم في نفوس الجميع من تلك السامة التي تجلس وسطهم! نهض أحمد ليقترب من سيف يسأله بصوت هادئ كهدوء ما قبل العاصفة تمامًا:.
-رودينا كانت شيفاك وأنت نازل يا سيف صح؟ اومأ سيف مؤكدًا ببراءة: -اه، وقولتلها تقول لماما إني رايح دريم بارك، بس معرفتش اروح وعمو اخدني ودت رودينا في تلك اللحظة أن تقص لسان ذاك الطفل الغبي.. بكلمته تلك قُطع اخر أمل كان مفقود من الأساس.. اخر أمل صنعه عقلها الأنثوي الخبيث من عالم اللاشيئ! بينما هبت العاصفة بوجهها متشكلة بصرخات أحمد الحارقة:.
-برررررة يا حيوانة إنتِ ملكيش مكان هنا، إنتِ بتقطعي الأيد اللي اتمدت لك مش بس بتعضيها، إنتِ زبالة ماتستاهليش أي حاجة كويسة حتى همست بحنق بصوت يكاد يسمع: -أحمد لو سمحت؟! لوح بيده متابعًا بصوت أعلى وكأن رجاءها قد حصل على نتيجة عكسية: -بلا احمد بلا نيلة، اتجوزتك رضا لأمي بس وقولت يلا اهي البت بتحبك، جيت على مها في مواقف كتير عشانك وقولت بتحصل، انما توصل ل أبني، لاااا ده انا احرقك وإنتِ حية.
ثم استدار يكمل وكأنه يؤنب نفسه: -ولما ابني ضاع امي كانت فين هه؟ كانت في البلد مش لاقيه حجز عشان تيجي تكون جمب ابنها، نفعتني بأية لما سمعت كلامها ودخلت تعبانة على بيتي بأيدي، ولا حاجة! إبتلعت رودينا علقم الإهانة الغائر وهي تحاول معه مختنقة: -هروح فين طب وحتى ماما برة مصر دلوقتي رفع كتفيه بلامبالاة ولكنها غاضبة في آنٍ واحد: -معرفش، كنتي فكرتي في كدة قبل ما تعملي اللي عملتيه.
أشار له بيدها قبل أن تنغمس بدوامة مصطنعه من البكاء الحاد: -طب ارجووك، هقولك حاجة بس وأعمل اللي أنت عاوزه ساعتها زجرها بحدة: -إنطقي هنا يلا هزت رأسها نافية بأصرار: -لأ ماينفعش، لازم في الاوضة لوحدنا لو سمحت لم يدري ما جعله يوافق على مضض: -ماشي انجزي يلا ثم اتجهوا للداخل تحت نظرات الجميع المترقبة، لترميها مها ب - ضربة في منتصف الحزام - كما يقولون: -ناس تخاف ماتختشيش، اما نشوف هتبوس رجله عشان تقعد ولا إيه!
مرت دقائق، لا بل ساعات، لم تدري كم مر تحديدًا وهي تراقب أنغلاق الباب الذي يخفي خلفه اهم قرار في حياتها هي شخصيًا حتى! واخيرًا خرج احمد هادئًا، صامتًا وساكنًا على عكس ما دلف معها تمامًا... تُرى كيف فعلتها؟! كيف روضت ذلك النمر الشرس الذي كان يختلج بين ضلوعه مكشرًا عن أنيابه! كيف غسلت عقله وبأي الحُجج إستطاعت!؟ ضربتها الصدمة والربكة قبل أي شيئ في مقتل وهي تسمعه يقول: -أنا قررت.
سألته نبيلة وقد شعرت بما يحمله الموقف من خطورات زاجلة: -أية يا أحمد؟ لم ينظر لأيًا منهم وهو يحسم نقطة النهاية: -رودينا مش هتروح في حته، هتفضل معانا زي ما كانت! نقطة وانتهت المعركة التي لم تنشب بعد حتى، الفوز للعقربة، وهنيئًا بفوز طويل، طويل جدًا!
فتح عمر الباب ليُفاجَئ ب حسين الذي كان يقف يطالعه ببرود هادئ ويرتكز بيداه على الباب.. تجمد مكانه للحظات مرت كعامل اخر يُثبت له تناسب مواقف القدر... - الموقف المزعج لمن معروف عنه الازعاج - أثارت تلك الكلمات التي رنت في خلده شعوره بالحنق، فيما قال حسين بسماجة: -مش هتقولي ادخل ولا إيه ياض؟! هز رأسه نافيًا بجدية: -لأ طبعًا، مابطردش حد من بيتي، فما بالك أنت بقا اومأ حسين بثقة: -اه بحسب.
دلفا سويًا وقد لاحظ عمر نظرات حسين التي تتفحص المنزل يمينًا ويسارًا وكأنه يبحث عن شيئً ما.. وبالطبع كان عمر على علم ب ذاك الشيئ الذي يبحث عنه بعينان تموج خبثًا دفين! ولكنه أسكت تفكيره المشتعل ليسأله بنبرة ذات مغزى: -بتدور على حاجة يا حسين ولا إيه؟ نظر له ببرود رأى إنعكاسه على حلكة عينا عمر التي وهجت باحمرار مُخيف: -اه، بدور على الموزة، هي فين؟!
كز عمر على أسنانه غيظًا، وبداخله دعوة صريحة من فوران الدماء بين عروقه أن يقتله جاذرًا أي تردد... وإن كان، هو رجل، والرجل لا يترك زوجته علكة في ألسن الحمقى! مدونة خطها في عُرفه العريق منذ أن خُلق، ولن يُغيرها مهما طال الزمن أو تغيرت عوامله... فرد عليه بصوت جاد يحمل الجدية في طياته: -لأ معنديش موزز يا حسين، بص ادامك احسن اومأ حسين مسرعًا بمكر: -أنا قصدي واحدة معدية بره، مش شهد يا عمر.
اومأ عمر متغاضيًا بصعوبة، ليتنهد بقوة مستعيدًا هدوءه الظاهري الجامد، تلك القشرة التي كاد حسين يُشققها في ثوانٍ معدودة! ليقول بعدها ببرود: -إيه وحشتك ولا إيه؟ اومأ حسين مؤكدًا، وقد تراقص خبثًا مدفونًا بين جلباب حروفه: -اه جدًا، قولت أجي اطمن عليك، واشوفك عامل إيه مع زوجتك العزيزة لم يرد عليه عمر مباشرةً، بل إلتزم الصمت حابسًا شعوره المميت بالغيظ داخله، بينما تابع حسين هامسًا:.
-أصل چودي هاتطق من كتر الغيرة، ف قولت أروح أطمن عليك وابقى اطمنها كمان بالوضع هنا إرتسمت ابتسامة باردة بلفحة مُثلجة وهو يخبره واثقًا: -لا أطمن وطمنها، كل حاجة عال اوي صفق حسين بيده مرددًا بصوته الأجش والذي بدأ يعلو شيئ فشيئ: -طب إيه مش هتشربني حاجة ولا إيه يا عمر باشا نهض عمر مجيبًا بجدية: -لا ازاي، هاشربك طبعا، دقايق وهابقى عندك.
ثم استدار ينوي المغادرة إلا أنه تصلب مكانه وهو يرى شهد بأسدالها تقف امامه حاملة الصينية عليها كوبان من الشاي.. شعر بنظرات حسين من خلفه تخترقها رغم سترتها.. تقدم منها مسرعًا يقبض على ذراعها بقوة قاصدة الألم في ضغطتها لتتأوه بصوت منخفض، بينما قال عمر بصوت يحمل كل أنواع الحدة: -إنتِ غبية! إيه اللي جابك هنا ونزلك اصلاً؟! إبتلعت ريقها بازدراء، وقد هربت الحروف من لسانها هروب السجين من غلال الشجاعة...
فيما ظل يهزها هو مزمجرًا في وجهها: -هاتفضلي تتصرفي بغباء كدة لحد امتى؟! غبيييية إبتلعت هي تلك الإهانة على مضض، صمتت والصمت تتسع مساحته بشكل مفزع في حياتها.. ولكنها أحكمت السيطرة على حروفًا مهشمة خرجت تحت ظلال الدفاع الواهي عن نفسها المُشققة: -كنت باجيب لكم الشاي بس يا عمر! هدر فيها بعنف: -وهو حد طلب منك تجيبي حاجة؟! هزت رأسها نافية، وقد صدح صوت حسين يزيد الوقود اشتعالاً:.
-ما تسيبها تقدم الشاي يلا يا عمر، هو انا هاكلها ولا إيه؟ تنفس عمر بصوت عالٍ بخشونة، يجيش بصدره الكثير والكثير حتى بات يجد صعوبة في الأنغماس وسط ذاك الغيظ! ولا يدري إلى أي حد سيصل إستفزاز ذلك الصديق... ولكنه قد وصل حد النهاية، تلك النهاية المطبوعة بواجب الصمت! إلتفت له لتُصيبه نظراته بتذكار ما هو واجب عليه، حيث المبررات الكافية، فعاد لشهد يخبرها بصوت آمر:.
-روحي قدمي الشاي، وتختفي ماشوفش وشك لمدة 3 ايام عشان هولع فيكِ يا غالية اومأت مسرعة لتسير بخطوات شبه راكضة نحو حسين تضع الصينية على المنضدة، وفجأة وبأقل من الثانية كادت قدمها تنزلق والكوب يسقط على يدها ليلتقطها حسين بين ذراعيه! كانت تلك الحركة ك نقطة فاصلة في صبر كلاهما.. فانطلق عمر نحوهما هاتفًا بما يشبه الصراخ: -شهههههد.
إنتفضت شهد تحاول تهوية يدها الملسوعة، بينما نظر لها حسين نظرة حملت ألوانًا ومعاني مختفية من الخبث، ثم قال: -سلامتك، مش تاخدي بالك يا شوشو؟ أغمضت عيناها بقوة، تحرقها كلمته كما حرقتها لمسته تمامًا بخبثه الكاوي! فتحت عيناها بعد لحظة وكاد لسانها ينصاع لأوامر قلبها المنتفض وترد: -لأ أنا آآ إلا انها وجدت عمر يقبض على ذراعها كأسيرة حرب خاسرة من البداية، ويرد بدلاً عنها بقسوة:.
-معلش هي دايمًا كدة غبية ومش بتاخد بالها من حاجة تنهدت بصوت عالي، والحرقة عنوانًا لاهبًا وواضحًا لملامحها المتقلصة! ستتحمل، ستصبر، ستهدئ، وربما ستظل تصمت، ولكن إلى متى؟! سؤال يلتف حول ثنايا عقلها المذبذب ولا يملك الجواب، ابدًا! بينما قال حسين بصوته الأجش: -امممم، معلش مسيرها تتعلم نَهض بهدوء لينظر لعمر الصلب خارجيًا، ثم أردف: -طيب يلا يا عمر عشان عاوزك في حاجة كدة على إنفراد أشار له عمر مرددًا بجدية:.
-طب ما تقعد اهو يا حسين، واساسا شهد مش هاتيجي تاني إنتبهت لوضعها المتبلد في مكانها، لتحرك اقدامها بصعوبة متجهة نحو الاعلى.. يكفيها إهانات إلى الان! بينما تابع حسين ببرود: -لأ بردو ماينفعش، تعالى نطلع اوضتك او نروح أي حته برة عقد عمر حاجبيه متعجبًا، ولكن نفضه سريعًا وهو يتجه للأعلى قائلاً: -ماشي تعالى يلا غادروا سويًا للأعلى، بينما كانت شهد تنظر لأثرهم، وفجأة إنفجرت في البكاء تحاول كتم شهقاتها..
تشعر بقلبها منقبض بشكل رهيب، وتلك القبضة تعتصره حد الموت! الدقات لا تسير على شاكلتها، ووهم الحياة ينسحب جزئيًا، وهي جسدًا يُعاني مرارة الصبر! ضغطت على يدها الحمراء الملتهبة، ليزداد نحيبها.. وبين الألم النفسي والجسدي هي تُناجي الرحمة، ولكن لا تمسها بطرف! جاهلة هي في الأسباب عن الألم، ولكن الشعور غير مبهم بالمرة... ويبقى الأساس، هي تتألم! بل هي تُذبح ببطئ من كثرة الإهانات!
وفي مكتب عمل عبدالرحمن غاضب هو، حانق مشتعل كجمرة، لا لا بل يشعر بجسده كله ك فتيلاً لا ينطفئ من النار التي استعرت به منذ علمه بأنها تنتظره في الخارج.. لا يدري تحديدًا ماذا تريد منه! ولكن كونها تخترق الهالة الحامية من عشقه الصادق التي تحيطه.. هذه خطورة في حد ذاتها، خطورة ستسبب فوضى حول ثنايا روحه الثابتة!
والله لا، لن يسمح لها مجددًا، لن يُعيد تلك الكرة الخاطئة مرتان، يكفيه ما ناله من تفجر قاسي بين مشاعره المتخبطه.. ولكن من مجرد قربها يُسلبه تركيزه في عمله او شيئ اخر! تأفف عدة مرات، لمَ لم تذهب إلى الان؟! تُصر على أثبات أنها تؤثر به؟! لن يسمح بذلك، او على الأقل لن يظهر لها ذلك! فتح الباب قبل أن يسحب نفسًا عميقًا، وكما توقع وجدها تجلس على المقعد ورأسها بين يديها...
خُيل له أنها تبكي، تتساقط القطرات الساخنة من عيناها ببطئ! ولكن عندما رفعت وجهها إليه، أيقن أنه لم يكن خيال، بل كان الواقع في حد ذاته! وقبل أن يسألها ما بها حتى، وجدها تنهض لتقف امامه، عيناها حمراء بلون الدماء، عيناها كتلة من الألم لم تُروض للأخفاء، وملامحها وادٍ اخر... لينة بلزوجة مقززة بالنسبة له، ومُحركة لجزءًا من مشاعره... مشاعر الشفقة ليس إلا!
صمت مُكهرب أسدل ستائره على المكان، لم يقطعه سوى شهقت أسيل وهي تهتف: -عبدالرحمن، أنا تعبانة، أوووي ظل ينظر لها مطولاً، في كل مرة تخالف توقعاته، تفاجئه بشيئً اخر.. حبيبته، السابقة، أمامه تبكي وهي تخبره أنها مُتعبة؟! لو كان الزمن غير هذا لكان جذبها لحضنه مشددًا قبضته عليها إلى أن تنتهي موجة ألمها، ولكن الان!
التغيرات الزمنية العشقية تُحكم عليه بأعتلاء قناع الجمود أثناء تواجدها، فلم يكن منه إلا ان همس ببلاهه: -وأنا مالي! ولم تكن تتوقع رد أفضل، ولكن الان، تحديدًا الان لا قدرة لها على المجادلة، فتابعت ببساطة متألمة: -مليش غيرك اشكيله لم تتغير ملامحه ولو للحظة، بل أشتدت صلابتها وهو يخبرها بجدية: -لا، روحي ل جوزك، ل والدتك، او حتى أبوكِ، لكن أنا، لا، مليش علاقة بيكِ تقهقرت نبرتها أكثر وهي تردف بصوت مختنق:.
-ج جو، ال ده هو اللي تاعبني، هو اللي وجعني، كل اللي حواليا بيجوا عليا في البداية لم يُفسر شفراتها المتقطعة، ولكن بعدها أستوعب وببساطة أنها لا تستطع ذكر كلمة زوجي وحرفيًا ذُهل، لم تتخطى تلك المرحلة إلى الان؟! لازال حاجز العشق يمنعها! ولكن أي عشق ذاك، هي بخسته منذ زمن، ألقت به عرض الحائط في سبيل المصلحة الغير دائمة!.. أشار نحو غرفة مكتبه مرددًا بحزم يليق به: -تعالي، لو حد شافك بالمنظر ده مش هيسكتوا خالص.
اومأت دون تعبير واضح لتنساق معه إلى الداخل.. جلست على الكرسي الجلدي الذي احتواها ببرودته، وسمعت صوت إغلاق الباب، معلنًا بدء المشاداة الجديدة! سمعت صوته يطردها بلباقة: -أسف يا أسيل، كان نفسي أساعدك على سبيل الذي مضى، لكن أنا دفنته وخدت عزاه من يوم ما كرهتيني في الدنيا عادت تهتف بنفس النبرة باكية: -بس أنا ندمت.
إشتدت عضلة فكه في الضغط على أسنانه حتى أصدرت صوتًا عاليًا، وكان ذلك مفتاحًا لغضبه الذي تفجر بوجهها: -بسسسس أنا مش عايز ندمك، أسكتِ كام مرة هقولك انتهينا، ندمك مش هيفيد بأي حاجة دلوقتي بدأ صوت تنفسه العالي يتسابق مع النسمات الهادئة... ونهضت هي فجأة، تنظر في عيناه مباشرةً، وعلى لسان حالها صرخت: -أنا مدمرة وأنت بعيد عني، أنت اللي لازم تفهم ده يا عبدالرحمن لم يبالي بكل ذلك وهو يأمرها:.
-ارجعي بيتك يا أسيل، واستهدي بالله كدة، جوزك أولى بكل وقتك كان كلامه ضغطًا زائدًا على جرحًا دمه لازال يقطر رجاءًا، بل توسلاً منها! فوضعت يداها على اذنيها وصوتها يشق السكون القاسي: -جوزك، جوزك، جوزك، وكأنها لبانه مستمتع بيها اوي، ده مش جوزي ولا عمره هيكون جوزي، ده مجرد دخيل بيني وبينك، اخد حق مش حقه، أخد مني أعز حاجة ممكن أقدمها للي بحبه بس! بُهت للحظة وهو يستوعب مدى جرأة حديثها!
أحمق، أحمق هو إن ظنها ستعيش حياة طبيعية مخلصة لزوجها فقط... هي لن تتغير، ابدًا، ستظل تحتل مكانة مختفية في حياة شخصًا ما، ثم وبكل بساطة تنسحب هكذا ساحبه معها اي روحًا حلوة كانت!.. تجلى صوته مزمجرًا فيها ك أب يلوم أبنته: -مفيش ست محترمة تندم على تمام جوازها من جوزها الشرعي، لا وتروح تشتكتي لواحد غريب! وفجأة بدأت تشهق باكية بعنف، تمامًا كالأطفال في بكاؤوهم فقط...
إلى أن تهاوت أرضًا عند قدماه تمامًا، صوت شهقاتها يزداد شيئً فشيئ، شهقات مذبوحة.. ولكنه لم يكن الشخص الصحيح لعلاج تلك الذبحة القاسية! للحظة كاد يمد يده رابتًا على شعرها بقوة كانت تستمدها منه، سابقًا! ولكن، ذلك الخاتم بأصبعه جعله يتراجع كالملسوع وهو يدرك حفرة الذنب التي كادت تُلحق بقدميه مبتلعة إياه... فلم يكن منه سوى أن سحب - منديلاً - ليمده لها هامسًا بخشونة:.
-أسف يا أسيل، حبي لمراتي في كل خطوة ادام عنيا، ماقدرش اتجاوزه ولو بمساعدة خفيفة حتى وكانت تلك أخر أهانة ورفض ونفور تسمعهم، قبل أن تنهض لتغادر بأقدام واهية..!