رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الثالث والخمسون
فزعت وإرتعش جسدها اثر الصدمة، ذاك الصوت الذي تعرفه جيدًا عن ظهر قلب، بل تعشقه ايضًا ويقع على مسامعها كالموسيقي الرومانسية الهادئة، ولكن ماذا يفعل هنا الان، وكيف سيفهمها؟ حمدت الله على تلك الشعيرات البيضاء لدى وحيد والتي تظهر كبر سنه، أقترب عبدالرحمن حتى اصبح امامهم تمامًا ثم نظر لرضوى نظرات حادة، وسألها بهدوء حذر: مين ده!؟ لم يعطي وحيد فرصة لرضوى لتجيب، حيث هتف مستنكرًا:.
انت إلى مين وكنت بتزعق ليه؟ جز عبدالرحمن على اسنانه بغيظ، ولمعت عيناه بشرار، أستطردت رضوى مهدأه اياه لتهدأ من العاصفة القوية التي كادت تهب عليهم تدمرهم جميعًا: ده عمو وحيد محامي بابا الله يرحمه ثم وجهت نظرها لوحيد قائلة بأبتسامة مزيفة: وده عبدالرحمن خطيبي يا عمو وحيد اومأ وحيد برأسه بهدوء ولم يبعد ناظريه عن عبدالرحمن، ثم قال بترحاب: طب اتفضل اقعد يابني.
إبتلع عبدالرحمن الغصة المريرة في حلقة، وأجبرته نظرات رضوى التي كانت عبارة عن رسالة ترجوه فيها أن يجلس ويمرر الأمر بسلام، ابعد الكرسي برفق ثم جلس، ثم قال موجهًا نظره لرضوى: خير ان شاء الله، في اية بقا؟ تنهدت رضوى بقوة، ثم نظرت للنيل وأردفت بشجن: عمو وحيد أنت عارف ان طنط نبيلة مش أمي صح؟
أطرق وحيد رأسه ارضًا، وعجز لسانه عن اجابتها ولكن تكفلت نظراته وهيئته بأجابتها، لتؤكد على ذاك الجرح بداخلها، رفع نظره وقال لها بهدوء: ايوة عارف يا بنتي اومأت بسرعة ثم سألته بلهفة: طب ممكن تحكي لي كل حاجة، وازاى ماقالوليش!؟ كانت حدقتي عبدالرحمن متسعتين بصدمة باتت ظاهرة بوضوح على محياه، كانت كلماتهم كالسوط الذي ينزل عليه دون رحمة ولا يعطيه الفرصة ليستوعب حتى يفاجئه بالأخرى على التوالي..
بينما تابع وحيد بجدية وهو يتذكر:.
والدك كان متجوز الست نبيلة، وخلف منها مها، بس حس انه مش متطمن لنبيلة، ومش مرتاح معاها يعني، شاف والدتك الله يرحمها وحس انه بيحبها جدًا، انا اعترضت وقولتله ازاى انت واحد متجوز وتحب، قالي مش ذنبي ان الحب ده جه ومتأخر وانى غلطت في جوازى من نبيلة، وصمم انه يتجوز والدتك وراح اتقدم لها، ولأن والدتك ست محترمة رفضت انهم يتجوزوا في السر، وقالتله لازم تشوف مراتك لو موافقة يبقي على خيرة الله ولو مش موافقة يبقي ماقدرش اخدك منها، رشوان كان ممكن يعمل اى حاجة عشانها، بس ماقالش للست نبيلة وراح اتجوز والدتك، وبعد جوازه بأسبوع قال للست نبيلة، واعترضت وثارت وكانت هتطلب الطلاق، بس منعرفش اية إلى غير رأيها فجأة ووافقت، وسكنهم جمب بعض بس مش ف شقة واحدة، ومرت الأيام وجيتي انتِ نورتي الدنيا، بس ف المقابل راحت والدتك للي خلقها، ووالدك قرر انه مش هيعرفك ويخليكي تتربي مع اختك، روحتي عيشتي معاهم ونبيلة كانت بتعاملك كويس ادام رشوان بس، لكنه فجأة شافها بتزعقلك وبتضربك ولاحظ انها حنينة مع مها، مكنش متطمن عليكي معاها واكتشف ان عنده كانسر، يأس وملاقاش حاجة يعملها غير انه يكتبلك كل ورثه بأسمك يمكن يأمن مستقبلك، وساب لمها جزء بسيط، ولوالدتها ولا حاجة، وكان عارف انها مستحيل تسكت، ومات والدك بعد ما وصاني عليكي كتير لأنه كان قلقان من الست نبيلة جداا.
تلقلقت الدموع في أعين رضوى، الان فقط فهمت لما تعاملها بهذا الجفاء والقسوة، كانت تثبت قارب مها في بحر الحياة، وتهدم قارب تلك اليتمة ليغرق ويغرق وتطفو هي وابنتها فقط..! كم من آآه ودت الصريخ بها ولكن كتمتها بداخلها حتى كادت تنفجر من الغضب والحزن والألم معًا..
وكأن عبدالرحمن أستطاع أن يستشف ما تشعر به الان بمهارة، ولكن السبب مجهول، أو يمكن لأن اسمها محفورًا بداخله كالوشم على قلبه، كلما جاءت عاصفة تربته شعر به ونظفه سريعًا.. فقال بصوت قاتم موجهًا نظره لوحيد: طب يا استاذ وحيد نستأذن احنا.
اومأ وحيد برأسه دون أن يتفوه لينهض عبدالرحمن ممسكًا بيد رضوى، وكأنه يفعل ما فعلته مؤخرًا، ينقذها، والأعجب انها لم تبدى اعتراضها هذه المرة، او حالتها لم تسمح لها بالأعتراض من الأساس.
تحت أشعة الشمس الصفراء، معلنة بدأ يوم جديد بحياة جديدة وسعيدة لهم، كان عمر متسطحًا على الفراش وشهد تنام على ذراعه، يحتضنها بذراعيه كأنه يخشي اختطافها، ينظر لوجهها الملائكي يتمعن قسماته بنظرات عاشقة، نظرات ترغب التأكيد انها اصبحت معه وله للأبد، ذراعه الأسمر مع وجهها الأبيض يكونوا مزيجًا ذهبيًا رائعًا، كانت أنفاسه المضطربة تلفح بشرتها، بدأت تتململ وبدى على وجهها الضيق، اصدرت تأوه متألم، وبدأت تفتح جفنيها بتثاقل، لتقابل عيناه السوداء بنظرات قلقة، فجأة صرخت بألم، لينهض عمر مسرعًا وهو يسألها بلهفة:.
مالك يا شهدى في اية؟ كادت تبكي وهي تجيبه بصعوبة ووهن: بطني وجعاني اووى مش قادرة أصابه الهلع على الفور، جملتها جعلته كالمجرم يتلفت حوله خوفًا من قدوم الشرطة، ارتدى ملابسه بسرعة واقترب منها واضعًا يده على بطنها وهو يقول بقلق: حاسه بوجع فين، قصدى يعني ازاى، قصدى حاسه بأية يعني يا شهد.
ضحكت من بين دموعها على توتره وقلقه المبالغ، لأول مرة ترى القلق في أعين شخص عليها هكذا، قدم لها زهرة بسيطة في عز ألمها، أبتسم بحزن ثم قال بتوجس: مالك يا شهدى، حاسه بأية دلوقتي؟ وضعت يدها على بطنها ثم غمغمت بخفوت قائلة: حاسه بطني وجعاني أقترب منها ووضع يده تحت قدميها والأخرى اسفل ظهرها وهم بحملها إلا ان اوقفته بهمسها بهدوء: خفت خلاص يا عمر قطب جبينه بتعجب، منذ لحظات كانت تكاد تبكي والان شفيت تمامًا!
فجأة صرخت بأبتسامة قائلة بحماس: عمر انا حاسه بيه جوايا أبتسم عمر بسعادة ثم أقترب ووضع يده على بطنها ليشعر به هو الاخر، كم هو شعور رائع، معشوقته تحمل طفل منه، واصبحت الحياة كالزهرة المتفتحة امامهم، اجتاحه شعور بالفرحة، الحزن، ربما الحزن على السنوات التي اضاعها من عمره هباءًا، افاق على صوت شهد الهادئ وهي تقول: عمر، روحت فين؟ مدد جسده بجوارها ثم احاطها بذراعيه يحتويها بحنان وهو يجيبها بمداعبة:.
بفكر في ابننا، لكن انتِ ليه قولتي ابننا مش بنتنا مثلاً وضعت إصبعها على خدها كحركة تعبر بها عن التفكير، ثم تابعت بجدية: يمكن لأني حساه ولد مش بنت مط شفتيه بعدم رضا، ثم أقترب منها كثيرًا حتى لامس أنفه وجهها، هنا بدأ عداد الخطر ينذر لديها، واضطربت انفاسها واصبح قلبها يدق بسرعة رهيبة كالطبول العالية في الحرب، لدرجة أنها شعرت انه يسمع دقاته، بينما أكمل هو مشاكسًا:.
بس انا عايزها بنت، عشان تاخد عيونك وشكلك وتجنن الشباب كدة زى ما انتِ جننتيني تزين ثغرها بأبتسامة هادئة، ثم داعبت انفه بأنفها وقالت بشوق: لأ نفسي ف ولد شبههك كدة لم يمهلها الفرصة لتبتعد وألتهم شفتاها بشفتاه بشغف وقد أحاط خصرها بيده ليحاوطها كالحصن، وتختلط انفاسهم كالجنود بداخلها سويًا..
بعد الإفراج، كانت مها تسير امام السجن بشرود ووجوم، ووجهها لم يختفي شحوبه بعد، مازالت الهالات السوداء تحت عيناها تعطي مظهر مقشعر للأبدان، كانت تسير بلا هدف، كأن قدماها من تحركها ولا تعرف أين ستأخذها، كانت تشعر بمزيج من المشاعر المختلطة، الحزن لإبتعادها عن كل من احبتهم، أم الفرح لأنها خرجت من هذه التهمة، ام القلق من رد فعلهم عندما يروها، فجأة وجدت يد كالحديد تقبض على ذراعيها بقوة، إلتفتت لتصطدم بأعين حادة كعين الصقر، اذ هو أحمد ينظر لها بقوة وتساءل:.
انتِ رايحة فين يا مها؟ حاولت إبعاد يدها ولكنه كان يمسكها بقوة، نظرت ليده نظرات تحذيرية لحركته، فهتفت بجدية: احمد احنا في الشارع سيب ايدى أبعد يده ولكنه مازال محتفظ بحديته، ولم تهتز له شعره واستطرد جادًا: ردى عليا هتروحي فين دلوقتي رفعت أكتافها ثم أجابته ببلاهة: هأروح البيت اكيد يعني جز على أسنانه بغيظ من هذا الغباء، ثم قال وهو يضغط على كل حرف بدقة:.
هاتروحي البيت وانتِ مش معاكى فلوس وتفتكرى اهلك هياخدوكى بالأحضان ولا اية؟ ظلمت عيناها كظلم الليل، وبدى وجهها أكثر شحوبًا، لم تخطر هذه الفكرة في عقلها ابدًا، لاحت في عقلها اخر صورة لوالدتها وهي تضربها بقسوة، إنتفض جسدها بخوف وكأنها مازالت تضربها الان، ثم استطردت بتشنج: امال هأروح فييين يا أحمد صمت لبرهه ثم أجابها بصرامة لاذعة: عندى في البيت طبعًا شهقت وهي تضع يدها على فاهها، ثم أضافت بتهكم:.
ليه شايفني فتاة ليل ولا اية لوهلة ذكرته بما فعلته به وما عرفه عنها، كالصخرة التي دمرت موجته في لحظة، لتقسو عيناه البنية، ويمسك بذراعها بقوة ويجرها خلفه بإتجاه سيارته، دون أن يأبه بمناداتها المتكررة الغاضبة: سيبني يا احمد ابعد عني اوعي اوعي إتجه لسيارته وفتح الباب ثم جعلها تركب رغمًا عنها، واغلق الباب ثم توجه للباب الاخر وركب بخطي ثابتة.
كانت چودى تسير بخطوات مسرعة وهي تدلف للمطار تجر حقيبتها الجلدية السوداء خلفها، ترتدى ملابسها التي تكشف معظم جسدها كعادتها دون أن تأبه بنظرات من حولها الساخرة والراغبة والكارهه، كانت كالتي تهرب من شيئ ما، ولما لا فهي بالفعل تهرب ممن يرغب في الأنتقام منها، لم تكن هذه چودى التي لا تهاب اى شيئ وتدافع عن مركب حبها الممتلك الصغير، والان تركتها تغرق لتفر هاربة لشاطئ النجاة..
وصلت امام الشباك ومدت يدها بجواز السفر للرجل يتفحصه، اعطاه لها مرة اخرى وأبتسمت بسعادة فها هي قد تخطت اول مرحلة للنجاة.. فجأة قطع احلامها السعيدة يد قوية تخبط على كتفها بقوة، إلتفتت لتجد مجموعة من الضباط، خرجت منها شهقة مكتومة وهي تتساءل بخوف: انتوا مين وعايزين اية؟ أخرج الضابط الكارنيه الخاص به مشيرًا لها ثم اجابها برسمية: طه الجندى، ضابط مكافحة المخدرات صمت برهه ثم سألها جادًا: انتِ چودى سالم؟
اومأت بهدوء وهي تبتلع ريقها بصعوبة، ليكمل وهو يقبض على ذراعها بقوة: معانا أمر بالقبض عليكي.
كان يقف امام احدى الرجال مفتولين العضلات ملامحة صارمة إجرامية، يرتدى زى كاللصوص، في احدى الاماكن الساكنة الذي يدوى الصمت فقط وصوت الأقدام فيها، ويقف هو بهيبته وغروره المعتاد، يضع يداه في جيب بنطاله الأسود، ينظر للرجل امامه بجدية، ثم كرر سؤاله للمرة الثالثة على التوالي بتوجس: متأكد انك تقدر تعمل كدة؟ اومأ الاخر بتأكيد وهو يقول بصوت أجش: طبعًا يا باشا، خليك واثق فيا.
اومأ بهدوء، في حين نظر له الاخر بطرف عينيه متساءلاً بعطف مصطنع: بس مش حرام يا باشا ده لسة جنين رمقه بنظرات حادة للغاية أسكتته، ليتابع هو بحقد بدى في عينيه بوضوح: لأ مش حرام، ماهو مش بعد ده كله هسيبه يتهني ويخلف ويعيش عادى.
نهض عمر من فراشهم بتثاقل، حانقًا يرتدى التيشرت الخاص به وهو ينظر لشهد التي كانت تضحك بقوة، جز على أسنانه بغيظ وهو يقول بحنق: خلاص يعني لازم تاكلي عنب دلوقتي حاولت كتم ضحكتها، وهتفت من بين ضحكاتها بمرح: ايوة ولا يرضيك ابنك يبقي فيه عنبه في قفاه؟ ضحك على جملتها وظل ينظر لها بسعادة حقيقية لأول مرة تغمره، كان كالملك الذي توج لتوه على عرشه ثم أردف بمشاكسة: لا انا تحت امر الواد وام الواد كمان.
القي لها قبلة سريعة في الهواء، ثم اشار بيده وهو يقول بخبث غامزًا: هاجيب العنب وجايلك على طول يا ام حزمبل شهقت على هذا اللقب وإتسعت حدقة عيناها بشكل كوميدى، ليضحك عمر ويسير متجهًا للخارج، هبط درجات السلم وهو يحمد الله على كل ما حدث، كان بالأسفل ووجد هاتف نادى يرن، كان يسير بجواره فأثار فضوله، قطب جبينه وهو يقرأ رقم المتصل، ثم همس بدهشة قائلاً: اية ده، اية إلى جاب رقم مريم على تليفون نادى!
رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع والخمسون
كان الهاتف ينير معلنًا عن الإتصال، وينير معه عيناه التي اُظلمت كسواد الليل، زرع الشك بداخله، وتشنجت عضلات وجهه وهو يتذكر عندما سمع أطراف حديثها ذاك اليوم، ظل محدق بالهاتف للحظات وكأنه شخصًا مستبدًا يتحداه، في نفس اللحظات تقدم نادى وأمسك بهاتفه بسرعة بأصابع مرتعشة، ثم سأله بتوجس: انت بتعمل اية هنا يا عمر؟
رمقه عمر بنظرات حادة، جامدة، موحية بخطورة الموقف، كأنذار لنادى لينصرف من امامه حتى لا تندلع النيران التي بداخله في وجهه تحرقه، أجابه عمر بهدوء على عكس ما بداخله من عواصف رعدية غاضبة: لا ابدًا كنت معدى من جمب الموبايل، وبالصدفة البحته لمحت رقم كدة حاول أن يبد طبيعيًا ويرسم قناع الهدوء وهو يستطرد بتوتر فشل في إخفاؤوه هذه المرة: رقم مين يعني يا عمر أجابه عمر بصوا قاتم من دون تفكير: رقم مريم اختي.
اصفر وجهه، وظهر التوتر على قسمات وجهه، ليتابع بقلق: لا آآ اكيد انت اتلخبطت، وانا اصلا ماعرفشي مريم خيتك دى نظر للأرضية بسرعة هروبًا من نظرات عمر المتفحصة التي كادت تكشفه، في حين كان عمر يحرقه بنظراته الغاضبة، ثم قال بصوت حانق أرسل الرجفة في اوصاله: ياريت ماكتشفش حاجة ف يوم لأني مش هاسكت، مش هاسكت خالص رفع رأسه ببطئ، ونظر له بهدوء يعكس ارتباكه، ثم أردف بأبتسامة مصطنعة: اية إلى بتجوله ده بس.
لم يبدى عمر اى رد فعل، فشجعه قليلاً على الكلام حتى لا يفتضح امره، فتابع بمرح مصطنع: وبعدين انت اية إلى نزلك دلوجتي، احنا لسة العصر لم يكن عمر يسمعه من الأساس، يحدث في خواطره بشك، هل ما افكر به صحيح، ولكن كيف، كيف مريم ونادى، ما الذي يجمع الشرق والغرب، كان عيناه شديد السواد حالكة، وكأنها تزداد سوادًا كلما غضب، لتظهر كحلكة الليل تمامًا.. بينما إبتلع نادى ريقه بإزدراء وقال منسحبًا:.
طب انا هروح اشوف إلى ورايا عشان متأخرشي بجا في لحظات استدار وغادر على عقبيه، تاركًا الشك يأكل عمر كالصدئ في الحديد.
كانت رضوى تسير بجوار عبدالرحمن أسفل منزلهم بخطي ثابتة، كلاً منهم في خواطره اشياء كثيرة مختلفة، عبدالرحمن يبدو عليه الثبات، كأنه قد انتهي من بناء الجدار الصامد الذي اراده بداخل رضوى التي بدت هشة وضعيفة مؤخرًا، حتى وصلوا امام الباب، وبدأ القلق والخوف يتسرب إلى رضوى رويدًا رويدًا، تشنجت عضلات وجهها وتوقفت عن السير، نظر لها عبدالرحمن بتفحص ثم سألها بتوجس: مالك وقفتي ليه يا رضوى؟
إبتلعت ريقها بصعوبة، ثم قالت بخفوت: خايفة يا عبدالرحمن اوى تنهد عبدالرحمن بقوة، ثم نظر في عيناها، وسألها بهدوء حذر: انتِ بتثقي فيا؟ اومأت مسرعة بتأكيد، ليبتسم عبدالرحمن بهدوء وهو يقول بثبات:.
يبقي لازم تعملي إلى قولتلك عليه، الهروب مينفعش ولا إلى كنتي عايزة تعمليه خالص، انك تمثلي انك فقدتي الذاكرة ونسيتيني لحد ما تقنعيها ان شهاب مش كويس بطريقة غير مباشرة ده كان قبل مانعرف كل ده عنها، لكن دلوقتي لازم تواجهيها يا رضوى.
كلمات بثت فيها الشجاعة ولو قليلاً، وجوده بجوارها يعطيها جرعة ثبات وشجاعة تحمسها لفعل ما تريد قبل إنتهاءها، اصبحت تخشي فقدانه اكثر من اى وقت، اصبح عامود حياتها الرئيسي، إن ابتعد ستُهدم كل حياتها.. أطلقت زافرة قوية تملأ رئتيها بالهواء قبل أن تكتمه في الأعلي، وعادت تسير بجوار عبدالرحمن صعودًا للأعلي بهدوء مثلما كانوا، ولكن هذه المرة اقوى.
اصبحوا امام باب المنزل، طرقت الباب بهدوء لتجد والدتها تفتح لها، لم تستطيع أن تستشف مزاجها من تعابير وجهها، فنظرت لعبدالرحمن هاتفة بجدية: تعالي يا عبدالرحمن اتفضل صُعقت نبيلة وتوترت وتلون وجهها بعدة ألوان على الفور، ولكن جاهدت للعودة لثباتها، وصاحت فيه بحدة قائلة: يجي ده فين، هي وكالة من غير بواب.
دلف عبدالرحمن بهدوء وكأنها شفافة لا تتحدث، متجاهلاً اياها بطريقة جعل الدم يتصاعد إلى وجهها، فزمجرت فيهم بصوت هادر: محدش هيدخل بيتي من غير اذني هنا قد أستهلكت كل فرص الهدوء لدى رضوى، أحمر وجهها وتحولت نظراتها للحدة والغضب على الفور، فنظرت لها نظرات تكاد تحرقها من كثرة حدتها ومن ثم هتفت بجدية يشوبها الحدة: لأ قصدك صاحبت البيت هي إلى تحدد، وصاحبة البيت إلى هي انا يا استاذة نبيلة، مش كدة ولا اية؟
إتسعت حدقة عيناها من الصدمة، وأصبح قلبها يدق بسرعة رهيبة من كثرة الخوف، كالفتيل عندما يشتعل النار به، ثم عضت على شفتاها مغمضة العينين، ثم سألتها بأرتباك بدى على محياها: آآ انتِ آآ ق قصدك اية يا رضوى عقدت رضوى ساعديها وقد تبدلت ملامحها، ثم رفعت حاجبها الأيسر وهي تقول بإستنكار: يعني انتِ مش عارفة انا قصدى اية، ماشي يا ستي هقولك، انا قصدى على الورث إلى بابا كتبهولي يا طنط نبيلة.
رنت كلمة طنط في أذنيها كصوت الرعد، اذًا قد علمت كل شيئ، ولكن كيف، كيف الان وهي لم تكمل ما ارادته! هزت رأسها نافية بسرعة، ثم قالت ببراءة مصطنعة: انا كنت هأقولك كل حاجة يا رضوى، بس ماجتش الفرصة يا حبيبتي صمتت برهه تسترجع كل ما حدث منذ لحظات، عقدت حاجبيها بتعجب وقد بدأ عقلها بالعمل الان، كلمات رضوى كالكهرباء التي جعلته يعمل على الفور لينهي ما يمكن انهاءه، ثم اردفت بحيرة:.
اية ده صح يعني انتِ فاكرة عبدالرحمن مانسيتهوش زى ماقولتي!؟ رفعت رضوى أكتافها بلامبالاة، ثم أجابتهت بسخرية واضحة: لا وهو انا ماقولتلكيش إني فاكرة كل حاجة يا أنطي؟ إزداد توترها اضعاف في هذه اللحظة، وشعرت أن الأرض تدور من حولها، بالفعل الدنيا كالدائرة، كانت في يدها زمام الأمور وتهدد وتفعل ما تريد، والان اصبحت هي الضيفة في هذا المنزل!
أنقذتها طرقات قوية بعض الشيئ على الباب، أشار عبدالرحمن لرضوى أن تنتظر ثم أستدار بهدوء وإتجه للخارج ليفتح الباب، وما إن فتحه حتى وجد شهاب امامه، وقد بدى على وجهه الكثير من المشاعر والتعابير التي يصعب فهمها.
طوال الطريق لا يتحدثوا، الصمت يدوى في السيارة، لا يُسمع سوى صوت أنفاسهم المختنقة، مها تجلس عاقدة ذراعيها تنظر امامها بغضب، فبرغم كل ما حدث إلا انها تكره الضعف وخاصًا ان كان امام رجل وإن كان زوجها، تشعر انها مجبرة، مكبلة بأحبال قوية متينة، أحبال اخطاؤوها وتصرفاتها التي جعلتها لا تقدر على رفع عيناها امامه، بينما كان الغضب وصل ذروته لدى احمد، كان يضغط على المقود بقوة لعله ينفث غضبه فيه، وبعد قليل من الوقت وصل أحمد ومها أمام العمارة التي يقطن بها أحمد، كان الشارع خالي نظيف، هادئ، يوحي ويعبر عن جمال تلك المنطقة، أخذت مها تتفحص المكان من حولها، بينما نزل أحمد وأتجه للجهه الاخرى وفتح الباب لها وهو يقول بصوته الأجش:.
انزلي يلا يا مها لوت فمها بعدم رضا، ثم غمغمت بأمتغاض: انا مش شغاله عندك عشان تؤمرني إبتلع غصة في حلقة ولم يجيبها، ثم تأفف بضيق وقال بتهكم: طب انزلي يا استاذة مها لو سمحتي نزلت من السيارة متعمدة البرود، ثم ساروا سويًا للداخل، وصعدوا للأعلي بخطي ثابتة، حتى وصلوا امام المنزل، أخرج احمد المفتاح من جيب بنطاله وفتح الباب، في حين كان الغضب يتصاعد لدى مها، فكل ما كان في عقلها الان هي جملته انا اتجوزت يا مها.
أخذت نفسًا عميقًا استعدادًا لتلك المواجهة الحاسمة، ثم دلفت، وبمجرد دلوفها شعرت ان قدماها شُلت عن الحركة، أنها دلفت من باب الجحيم بإرادتها، همست في خواطرها بخبث: اما وريتك يا احمد مابقاش انا مها افاقت على صوت احمد وهو يقول بصوت حازم: مها احنا لازم نتكلم في حاجات كتير كانت مها منشغلة بالبحث بعيناها عن تلك المدعوة بزوجته، ولكن لم ترى اى شخص، هزت رأسها موافقة، ثم تمتمت بهدوء حذر: امممم امممم وبعدين.
جز أحمد على اسنانه بغيظ، ثم قال بجدية يشوبها بعض الحدة: مها ركزى معايا هنا انا بأكلمك على فكرة نظرت له مها بهدوء ثم استطردت ببرود مصطنع قائلة: اصلي عايزة اشوف زوجتك المصونة أستشف غيرتها بمهارة، قهقه عاليًا، لم يكن يتخيل أن جذور الحب والغيرة مازالت تنمو بداخلها، أعتقد انها ابادتها منذ ان ابتعدت عنه، ولكنها بدءت بالتفتح امامه مرة اخرى، كانت مها ترمقه بنظرات حانقة، ثم تابعت بنبرة غليظة:.
هو انا قولت حاجة تضحك للدرجة دى يا حاج متولي؟ أقترب منها بهدوء، مع كل خطوة يتحرك قلبها معه، خطوة اثنان ثلاثة، من دون انذار اخر اشتعلت وجنتاها بسخونية، من الخجل، واضطربت انفاسها، ليهمس بجوار اذنها بمشاكسة: هو انا مقولتلكيش انى ماتجوزتش ولا هاتجوز غيرك يا زوجتي المستقبلية.
عاد عمر لغرفتهم مرة اخرى دون ان يجلب لها العنب الذي تريده، كان شارد الذاهن وجه واجم، وكيف يجلب لها وهو يريد أن يجلب له اى شخص الحل والأرتياح ليهدأ من عاصفة التفكير والشك التي غمرته فجأة، فتح الباب ودلف بهدوء دون أن يتفوه بحرف، ما إن لاحظت شهد وجوده حتى هتفت بدلال وبأبتسامة هادئة قائلة: جبتلي العنب يا عمورى.
لم يرد عمر عليها وجلس على الفراش، ثم وضع وجهه بين كفيه عله يستطيع إيقاف التفكير ولو قليلًا، إستغربت شهد وعقدت حاجبيها متساءلة بتعجب: مالك يا عمر، حصل اية تحت أجابها بصوت قاتم دون أن ينظر لها: مفيش يا شهد حاجة، نامي انتِ تأكدت أن هناك خطب ما، لقد قال شهد ولم يقل شهدى كعادته، لم يكن هذا عمر الذي كان يضحك بسعادة ويمرح ويوزع الفرح في كل انحاء الغرفة، تابعت بتساءل مُصر: لأ مش هنام قولي مالك في اية.
نظر لها عمر بحدة، ثم عَلي صوته إلى حدًا ما وهو يقول بجدية وغضب: قولت مفيش يا شهد، اية مابتفهميش، نامي عشان هانمشي بليل لم تجد سبب مقنع لهذا الغضب الان، لمعت عيناها ببريق خافت ثم أردفت بتصميم وقوة: لأ لأ، اما تقولي مالك الأول ثم اقتربت منه تضع يداها على كتفه، ثم سألته مرة اخرى برقة: مالك يا حبيبي، لو ماحكتليش انا هاتحكى لمين؟ أغمض عيناه لثوانٍ ليستعيد هدوءه قدر الإمكان، ثم قال بهدوء حذر:.
مفيش يا شهد سيبيني دلوقتي قال هكذا وهو ينهض ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وأتصل بشخص ما، ثم وضع الهاتف على اذنه ليجيب بجدية: انتِ فين؟ ... بتعملي اية دلوقتي ... انا جاى بكرة الصبح ... جهزى نفسك هارجعك بكرة ... انا قولت إلى عندى، سلام ... أغلق الهاتف وهو يلقيه على الفراش بعنف، فزعت شهد، ومن ثم همست بخفوت مرتعد: في اية يا عمر اهدى كدة ثم صمتت لبرهة وعادت تسأله بغيرة: ومين دى إلى كنت بتكلمها.
نظر لها عمر بغضب هادر، وعيناه تشع بنيران الغضب، جعلتها ترتجف بخوف حاولت عدم إظهاره، ثم اقترب منها ممسكًا ذراعها بقوة ألمتها وأردف بصياح: قولت مفيش، انتِ اية زنانة ليه تلقلقت الدموع في عيناها، نظرت له نظرة آلمته واثرت فيه، كالطفل الذي ينظر لوالده بلوم، نهض مسرعًا ليتجه للخارج، ثم قال وهو موليها ظهره: جهزى الشنط هنمشي دلوقتي.
استدار ورحل على عقبيه، تاركًا اياها تبكي بنحيب وهي تتساءل في خواطرها اى ذنب ارتكتب ليظهر لها قسوته هكذا!
وقفت چودى مشدوهة للحظات، تحاول إستيعاب ما قاله لها في التو، ظنت أنها بعد دقائق ستهرب وتنسي كل ما حدث في هذه البلد، ما لبث إن شعرت بالطمأنينة حتى تيقنت أن الماضي مثل السراب ليس له اخر ودائمًا ما يلاحق صاحبه، ليعكر عليه صفو حياته الهادئة، مذكرًا اياه بأنه قد ارتكبه مؤخرًا.. غمغمت بتساؤل وخوف: قضية اية يا حضرت الظابط؟ لم تهتز له شعرة وأجابها بجدية قائلاً: المخدرات إلى لاقينها في شقتك.
شهقت شهقة مكتومة دون إرادة منها، ودت لو تصرخ وتقول لم افعل، انا حقًا مظلومة الان، لم افعلها! ولكن لم تقوى حنجرتها على الصراخ، هزت رأسها نافية، واستطاعت اخيرًا القول بصوت أشبه للبكاء: بس انا معرفش دى بتاعت مين صدقني كان ممسك بالقضبان السلاسل ، اقترب منها وهو يكبل يدها قائلاً ببرود: مليش دعوة يا استاذة، الكلام ده تقوليه في النيابة مش هنا.
إلتفت الدائرة لتذيقها من نفس الكأس التي جعلت عمر يشرب منه، الظلم، كم هو شعور مؤلم، لم تفعل ولم تستطع إزالة ذاك الوشم، وهو لن يتبعد عنها من الاساس!
بعد فترة، كان كلاً من عمر وشهد ونادى ومحسن وخالهم، يقفوا بالأسفل على حافة الباب، يودعون بعضهم وداع حار محمل بالأشتياق وبعض الحزن، خلفهم الحقائب الجلدية السوداء الخاصة بشهد وعمر، كانت شهد عيونها البنية لامعة ممتلئة بالدموع التي تكبحها بصعوبة، بينما عمر وجه خالي من اى تعابير، تعجب الخال قليلاً من سفرهم السريع، ولكنه لم يدقق بالأمر كثيرًا، ونادى متوتر بشكل ملحوظ خشيتًا من علم عمر بأى شيئ في اى لحظة، هتف خالهم بجدية لعمر:.
انا ماعرفشي ليه مستعجلين يا ولدى أبتسم عمر ابتسامة صفراء، وراح يبرر بهدوء حذر: معلش بقا عشان ورايا شغل كتير اومأ الخال متفهمًا، ثم أشار لشهد أن تقترب، فأقتربت بهدوء واحتضنته بحزن، للحظة كانت دموعها ستهبط كالشلالات، ولكنها أغلقت البوابة بصعوبة، بسلاسل رغبتها في عدم تدخل اى شخص في حياتهم الزوجية التي ابتدأت لتوها، شدد خالها على إحتضانها قائلاً بحنان: خلي بالك من نفسك ومن جوزك يابتي.
اومأت شهد بتأكيد، ثم ابتعدت قليلاً، لتحاول رسم الابتسامة على ثغرها، ودعوا الجميع بأبتسامات مصطنعة، ثم إتجهوا للخارج خلف الخدم الذين كان يحملون حقائبهم، وصلوا امام سيارة عمر بالخارج، كانت تقف امام الباب من الجهة وعمر من الجهة الاخرى، فنظرت شهد لعمر وقالت بصوت مبحوح: عمر، انت هاتفضل ساكت كتير لم يرد عليها بكلمة تهدأها ولو قليلاً، ولكن أجابها بصوت أجش: اركبي يا شهد وانتِ ساكتة.
إلتفت شهد ونظىت للجهة الاخرى لتهم بالركوب وفجأة وجدوا سيارة سريعة تأتى من جهة شهد، بسرعة رهيبة لم تعطهم الفرصة للتصرف، واحدهم يظهر مغطي وجهه ومشيرًا بسكينة كبيرة حادة و...
رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس والخمسون
في لحظة كان عمر يركض بإتجاه شهد يحتضنها كالدرع لحمياتها ويعطيهم ظهره ويدفعها لداخل السيارة، حاول تفاديهم قدر الإمكان، ولكن طالته السكين، شهقت شهد وأطلقت صرخة مدوية لتأوه عمر الذي تحامل على نفسه وابتعد مسرعًا ليلحق بهم ولكن أنطلقوا سريعًا من امام المنزل، خرج كل من بالمنزل مسرعين، وهرول خالهم بإتجاه شهد التي كانت ترتجف بخوف قائلاً بهلع: مالك يا بنيتي حصلك حاچة؟
بدأت شهد تبكي بخوف، ترتعش اطرافها من حالة الصدمة والهلع التي اصابتها، أقترب عمر منها يحتضنها بحنان، يخبأها بأحضانه التي كالقلعة لحمايتها، ليخيفها عن أنظار ذاك العدو اللدود.. للحظة كاد يفقدها هي وطفله الذي لم يولد بعد، كانت تستمع لنبضات قلبه التي ارتعدت للحظات، هجوم العدو المفاجئ جعله ينتفض ذعرًا على ملكته..
أخذ يربت على شعرها الذهبي الذي تمردت خصلاته قليلاً على وجهها الذي اصبح احمر بفعل الخوف، ثم همس بجوار اذنيها مطمئنًا اياها بحنان: اهدى يا شهدى، خلاص محصلش حاجة وضعت يدها على ظهره وكأنها تحتمي به، لتتسع حدقتا عيناها وهي تشعر بملمس الدماء على يدها، شهقت وقد عاودها الخوف مرة اخرى وهي تقول بشفتين مرتجفتين: انت اتصابت يا عمر، اتصابت.
تأوه عمر قليلاً من لمستها، ثم تحامل على نفسه مرة اخرى بصعوبة، فشعوره النفسي بالألم خشيةً من فقدانهم اشد من شعوره الجسدى، ثم قال بهدوء: متخافيش ده سطحي، ملحقنيش اوى هنا صاح فيهم خالهم قائلاً بجدية: حد يفهمنا جرى اية يا ولاد؟ أبتعد عمر بهدوء عن شهد، ثم زفر بقوة محاولاً استعادة هيئته، وعدم إستسلامه لشعوره بفقدان الوعي، ثم أجابه بجدية مماثلة قائلاً:.
ناس معرفهمش جم علينا فجأة وكانوا ف ايدهم سكينة، الله اعلم قصدينا ولا حركة غير مقصودة يا خال على الرغم من أنه متأكد انها حركة مقصودة لإصابة شهد، إلا انه لا يستطيع أن يخبرهم بالحقيقة، فلو علم خالها لن يجعلهم يرحلون من هنا ابدًا، بينما استطرد خالهم بصوت آمر قائلاً: طب أطلع خد مرتك وشوف جرحك يا ولدى، وانا هأبعت اجيبلك داكتور هز عمر رأسه نافيًا ثم قال بإرهاق بدأ في الظهور على ملامحه ليشنج عضلات وجهه:.
لا مفيش داعي، انا هأطلع اطهر الجرح وهيبقي كويس يا خال متقلقش بينما كانت شهد ينتفض جسدها بقوة اثر الخوف، لم تشعر في حياتها بمثل هذا الخوف، كثرة الخوف جعلها تشعر بالصقيع من حولها، أصبحت شفتاها زرقاء، ثم همست من بين شهقاتها بصوت مبحوح: يلا يا عمر، اطلع معايا نشوف الجرح.
اومأ عمر موافقًا بهدوء، ثم سار بجوار شهد مستندًا على كتفيها، دلفوا إلى الداخل متجهين للغرفة، وصلوا ثم دلفوا إلى الغرفة واغلقت شهد الباب، بينما هوى عمر على الفراش بألم، جلست شهد بجواره ومسحت دموعها التي طهرت عيناها من نظرات اللوم للهلع في لحظات، ثم أردفت بوهن قائلة: أقلع التيشرت هأروح اجيب الاسعافات الأولية وجاية.
اومأ عمر لتنهض هي متجهة للمرحاض، ثم جلبت الأسعافات الأولية بسرعة وبأصابع مازالت ترتعش حتى الان، عادت لتجد عمر مغمض العينين وقد بدى عليه التعب، جهلت في المعرفة، إن كان ألم من كثرة التفكير الذي تفوق قدرته على الإحتمال، ام انه الألم من الجروح التي غطت ظهره..
أقتربت منه تجلس خلفه، تحاول التماسك بقدر ما تستطيع لتخفف عنه شعوره بالعجز في حمايتها، حاولت كتم شهقتها التي صدرت منها رغمًا عنها عندما رأت الجرح الكبير الذي اصاب ظهره، فشلت في التخيل أنها هي المقصودة بهذه الطعنة، إبتلعت ريقها الذي جف، ثم غمغمت بحزن: انا اسفة اووى يا عمر إلتفت لها، ثم أبتسم ابتسامة هادئة رغم الألم والحزن الذي يكسوه، وتابع بصوت هادئ قائلاً:.
ليه بتحبي الأسف يا شهدى، هو انتِ إلى جرحتيني ولا اية هزت رأسها نافية، ثم مطت شفتاها وهي تقول بشجن: لأ بس انا السبب، عشان انا إلى كنت مقصودة مش انت قست ملامح وجهه وتشنجت، وبدى شاردًا، وراح يتذكر حالة الهلع التي اصابتها والتي تشعره بالعجز وعدم القدرة على حمايتها، أغمض عيناه يتنهد بقوة، ثم استطرد بصوته الأجش:.
لأ يا حبيبتي، مش انتِ السبب، لو كان حصلك حاجة او للي ف بطنك كنت هأموت كل يوم وانا حاسس إني ضعيف ماقدرتش احمى مراتى وابنى هزت رأسها نافية، ثم قالت مسرعة: لا اوعي تقول كدة، لولاك الله اعلم كنت هابقي ازاى دلوقتي أولاها ظهره مرة اخرى، كلماتها لم تنجح في حل كل الألغاز التي تؤلمه، لقد فككت أسير واحد، أسير فقدانها المؤلم.
إتسعت مقلتاها بصدمة، ولكن صدمة مفرحة، ها هي اخيرًا قد أبتسم لها القدر ولو لمرة بصدق، بدأت الابتسامة السعيدة في التسلل لثغرها شيئًا فشيئ، لم تصدق أنها سمعت بأذنيها كلمات مفتاح سعادتها، مضمار قلبه، وتأكيد ملكيته لها هي فقط، لمعت عيناها بالدموع الفرحة، ووضعت يدها على فاهها وهي تقول بعدم تصديق: بجد، بجد يا احمد ماتجوزتش؟ اومأ بتأكيد، ثم أجابها مبتسمًا بهدوء:.
ايوة يا مها، كان مجرد اختبار انك فعلاً عايزانى جمبك، ولا هاتفرطى فيا زى زمان لسبب مجهول أختفت الأبتسامة من ساحة وجهها، ليحل محلها تبلد وجهها والنظرات النادمة المترجية للسماح، ثم همت بقول شيئًا ما، علها تستطيع التخفيف من ذاك الشعور الذي اصبح يزعجها وبشدة، إلا ان يد أحمد الخشنة التي وضعها على طرف شفتيها بحركة مباغتة اسكتتها، ليكمل هو بصوت قاتم قائلاً:.
متقوليش حاجة، إلى حصل مش سهل يتنسي بكام كلمة، يمكن اكتر حاجة شجعتني انى ارجعلك هو ابني، مش عايزه يتربي بين ام واب مشتتين ومش مع بعض وهو ممكن يتربي وسط اهل بيحبوا بعض وعايزين بعض. اومأت موافقة، وشعرت كما انها هبطت لأخر أرض، بفعل كلماته الموجعة، لم تتخيل أن فعلت هذا به وبطفلها، وبنفسها اولاً، تلقلقت الدموع في عيناها لتقول بخفوت: وحشني اووى اووى يا أحمد.
جلس احمد على الأريكة بأريحية، ثم عاد يتابع مبتسمًا بأشتياق: وانا وحشني اوى، بقالي سنين مشفتهوش، نفسي اشوفه اوى واملي عيني منه يا مها جلست بجواره بسرعة، ثم أردفت بحماس قائلة: طب يلا نروح عشان نشوفه هز رأسه نافيًا، ثم استطرد بجدية: لازم نحسبها كويس يا مها، ونشوف هانقنع والدتك واختك ازاى، وخصوصًا إن والدتك إلى عرفته مش سهل عليها، ومكانتش بتزورك ف السجن، يعني اكيد غضبانة جدًا جدًا جدًا.
اومأت برأسها بأسف، فهي تعلم بمدى خطأها، ولكن ما لا تعلمه أن والدتها لا تفكر بها كثيرًا من الأساس، نظرت له بهدوء لتسأله بحيرة: طيب هانعمل اية يا أحمد بقا؟ لم ينظر لها وظل كما هو ثم أردف بصوت قاتم قائلاً: هانتجوز يا مها.
كان يقفً في أحدى الحدائق الخضراء التي تعطي شكلاً مبهرًا تحت اضواء الشمس التي كادت تختفي، مزينة بشكل رائع يظهر انعكاسها على اوراقها الخضراء، يدب على الأرض بقدمه بقوة، يظهر التوتر والقلق جليًا على ملامح وجهه الباردة، ويضع يداه مستندًا على السور الخشبي الكبير الذي يحيط تلك الحديقة من جميع الجوانب، كطالب في مدرسة الحياة ينتظر معرفة نجاحه ام رسوبه في ذلك الاختبار الذي يجهل كيفية النجاح فيه، أتي من خلفه نفس الرجل، وقد دلت ملامحه على نتائج غير مبشرة بالمرة، ليتنحنح قائلاً بهدوء:.
يا باشا إستدار لينظر له بهدوء يعكس ما بداخله، ولكن هيبته وهيئته المعتادة لا تسمح له بإظهار ذاك الأرتباك، ثم قال بجدية: ها عملتوا اية يا غريب؟ بادله الشعور بالتوتر والأرتباك من فشله فشل ذريع في تلك المهمة، ثم تهته بخوف بدى بوضوح: آآ بص بصراحة يعني يا باشا، حصلت حاجة ماكنتش متوقعة نظر له بطرف عينيه ثم سأله بتوجس: حصل اية يا غريب انطق؟ نطق بصعوبة ليقول بتوتر:.
بصراحة يا باشا الضربة مجتش في بطن البت زى ما كنت عاوز، لكن جت في ضهر الواد إحتقن وجهه وأقترب منه بهدوء حذر، ثم زمجر فيه غاضبًا: ازاى يا اغبية ازاى، انا قولتلكوا البت سارع غريب في الرد مبررًا بجدية: ماهو إلى جرى فجأة وغطاها خالص بضهره وكأنه كان عارف اننا جايين جز على أسنانه بغيظ، بعمره كله لم يشعر بالهزيمة كمثل هزيمته في القضاء عليه هكذا، تمتم بحقد قائلاً:.
انا عارف ان عمر مش سهل، مكنش لازم ابعت شوية اغبية زيكوا ثم أشار له أن يذهب، ليدير ظهره مرة اخرى ولم يمل في التخطيط لذاك الذي يدعي عمر ، ثم همس بصوت أشبه لفحيح الأفعي: يا انا يا انت في الدنيا دى يا عمر، مش هيخليني ابطل افكر ف تدميرك غير موتك او موتي انا!
تصاعد الدم لدى عبدالرحمن، وأحمر وجهه من الغضب الذي طارده لتوه، شعر بداخله يغلي من الحنق والغضب، لقد رأى بحياته الكثير والكثير من الأناس السيئون، ولكن لم يرى بحياته شخص يرغب الموت هكذا! كور قبضة يده ليتمالك نفسه قليلاً، ثم صاح فيه بحدة: خير جاى هنا لييية؟ عض شهاب شفتاه السفلية بحسرة ثم تنحنح قائلاً بحرج: متقلقش انا مش جاى عشان مشاكل.
نظر له عبدالرحمن بتوجس، ولفت نظره قميصه الذي امتلئ بدماء ذاك الرجل، ظل يحملق به بحيرة، شيئًا ما يخبره أن يهدأ نفسه قليلاً وينتظر وشيئًا اخر يحمسه على الأنقضاض عليه، ليهتف عبدالرحمن بغيظ دفين: امال حضرتك جاى ليه دلوقتي؟ رفع يده السمراء التي اصبحت حمراء مؤخرًا يمسح وجهه ببطئ، ثم أجابه بصوت مختنق: انا عايز اشوف رضوى واقولكم كلمتين رفع عبدالرحمن حاجبه الأيسر بغيظ، ومن ثم أشار لملابسه قائلاً بتهكم:.
يا حبيبي، والمفروض اقولك اتفضل خش اقعد وانا هأروح اعملكم الشاى تشربوه ولا اية!؟ هز رأسه نافيًا بسرعة، ثم تابع بأصرار غريب: ارجوك، هأقولكم حاجة وامشي، كدة كدة عمرى ما هقدر اقعد ابدًا تقدمت نبيلة بجوارهم، وخلفها رضوى بخطوات مترقبة، وتهللت أساريرها بقدوم شهاب، والذي كانت تعتقده سيكون لصالحها، فقالت مسرعة بترحاب وحب مزيف: اهلاً اتفضل يا شهاب يا حبيبي.
نظر شهاب لعبدالرحمن بتساؤل، وكأنه يستأذنه بنظراته، فأومأ عبدالرحمن قائلاً بحنق: قول إلى انت عايزه هنا ياريت نظر شهاب لرضوى بهدوء، ثم تنهد تنهيدة حارة تحمل بطياتها الكثير، ثم هتف بأسف: رضوى ممكن تسامحيني وتعذريني على اى حاجة عملتها او كنت عايز اعملها فيكي، انا معرفش اية إلى خلاني اعمل كدة، بس إلى عرفته أن كما تدين تدان، وربنا ما بيسيبش حق حد مظلوم.
رمقته رضوة بنظرات متساءلة، ودت لو تسأله بفضول عن كل ما يقصده، ولكن تواجد عبدالرحمن يمنعها من التفوه بأى شيئ الان، بينما تابع شهاب بحزن بدأ في الظهور تدريجيًا على محياه: ربنا رد لي إلى كنت عايز اعمله فيكي ف اختي الوحيدة، وخطيبها اعتدى عليها، وقتلته شهقت رضوى بصدمة وهي تحدق به، بينما كان عبدالرحمن عاقدًا ذراعيه ينظر له بجمود ولم يبدى رد فعل، فنظر شهاب ل نبيلة قائلاً بنبرة تحمل كل معاني الندم:.
انا أسف، انا إلى عملت الصور وبعتها لحضرتك عشان ماتتميش جوازهم مطت شفتيها بعدم رضا ثم قالت بأمتعاض وحزن مصطنع: يوه، وانت جاى تقولي الوقتي!؟ هز رأسه نافيًا ثم أستدار ليغادر على عقبيه، ويشعر بمدى ثقل ما فعله على اكتافه، ثم غمغم بخفوت قائلاً: انا عملت إلى يريح ضميرى شوية واتمني تسامحونى كلكم.
رحل من أمامهم بهدوء بعدما جعلهم يتقينوا بالعدالة الالهية، تنهدت رضوى بأرتياح كالمتهم الذي استرد حقه الان وحصل على البراءة، بينما تنحنح عبدالرحمن قائلاً بصوت حازم: بصي بقا يا حماتي انا مش هستني تاني، احنا هانكتب الكتاب بكرة.
كان عمر يقف في منتصف الغرفة يرتدى القميص الأسود الخاص به بهدوء، لم يختفي الألم من وجهه، ولم يأخذ القسطًا الكافيًا من الراحة، ولكنه يُصر على فعل ما يريده وكأنه هو فقط العلاج الوحيد ليخفف الآمه النفسية، بدت عيناه السوداء غامضة، حالكة، متعمقة، يصعب على اى خبير في لغة العيون فهم ما يدور بهم، زمت شهد شفتيها بعدم رضا، وهي تجلس على الفراش بهدوء، ثم هتفت متساءلة بفضول:.
طب قولي اية إلى يخليك تقوم كدة وانت ضهرك لسة ماخفش لم ينظر لها واجابها بصوت قاتم قائلاً: لازم اقولهم حاجة وجاى تاني نهضت مقتربة منه بهدوء، ثم وضعت يدها على كتفه وهمست بوهن: انت ليه مُصر تخبي عني يا عمر نظر لها بهدوء، ثم ثبت ناظريه على عيناها البنية يرى فيهم إنعكاس صورته، يستمد منهم القوة ليكمل، ثم إلتقط وجهها بين كفيه العريضين ليكمل بهدوء حذر:.
صدقيني يا شهدى انا مش عايز اتعبك ف حاجات لو عرفتيها مش هتنامي من التفكير زي ثم ابتسم ابتسامة عاشقة، ليطيب ويهدأ ما يمكن تهدأته من ثورة قطته الهادئة، ثم استدار وغادر متجهًا للأعلي، تاركًا اياها تفكر في كيفية فك تلك الألغاز، بينما وصل عمر للأسفل وصار ينادى على نادى بعلو صوته، حتى اجتمع كل من بالمنزل على صوته العالي، وبما فيهم نادى، نظر له نظرة لم يفهمها ثم قال بحدة:.