بعد مرور أيام وقفت ميرا تهندم فستانها الوردي المنساب فوق جسدها بمهارة لاعب كرة قدم يراقص فوق جميع المنحنيات، وقد اتخذت القرار بضرورة الاستمرار في الحياة من جديد خاصة بعد اتصالات أصدقائها المتواصلة ورغبتهم في مقابلتها. قطع شرودها صوت والدتها المتعجبة: -أيه ده أنتي خارجة، مش كنا متفقين هنقضي الكام يوم اللي رجعت فيهم بدري سوا؟
-سوري يا مامي بس أنتي اللي رجعتي قبل معادك بكتير، كمان احنا هنتجمع شويه لأني زهقانة، بس اوعدك مش هتأخر. -حقيقي كنت حابه نفضل سوا بقالنا كتير مش بنقعد مع بعض ونتكلم زي الأول. ابتسمت لها ميرا ببطء، تشعر وكأنها مقيدة غير قادرة على التعبير عن مشاعرها بشكل صحيح لكنها أجابت: -مش هتأخر صدقيني. -اوكيه، هتتجمعوا في النادي كالعادة؟ ارتعش وجهها وهي تحيد بعيونها عنها تهرب قبل أن تكذب مؤكدة: -اه في النادي.
حركت والدتها رأسها مرة ووقفت تطالعها بصمت للحظات مرت عليها طويلًا لكنها صدمتها حين اقتربت تقبل رأسها في حنو بالغ، افتقدته كثيرًا ونجح في إغلاق جوانب حلقها من شدة اضطراب مشاعرها المرهفة، أغمضت جفونها بينما تربت والدتها فوق خصلاتها قبل أن تغادر تاركه لها حرية انهاء تجهيزاتها. قضمت ميرا شفاها بين أسنانها فبحركة صغيرة لا تذكر من والدتها أحيت داخلها وخيز تأنيب الضمير والاشتياق لقلب يحتويها.
تنفست على مهل في محاولة للسيطرة على توترها فهي لا تستطيع أن تخبر والدتها بانهم يتسكعون في الشقة التي اشتراها والد رامي وخصصها له وللأصدقاء ثلاث أيام أسبوعيًا.
تذكرت متألمة كيف كانت علاقتها بوالدتها فيما مضى قبل انفصالها عن والدها، صحيح كانت مجرد طفلة صغيرة السن وقتها، لكنها تتذكر كيف وجدت كلتاهن الأمان في ذراع أحدهن الأخر، في الوقت الذي غرق فيه والدها في بناء ورسم مستقبلًا هدم أسرته في سبيل تحقيقه، ولكن للأسف كل شيء تبدل بعد ذلك فوالدتها هربت للعمل تجد فيه الهرب وتركتها تتخبط وحدها غير قادرة على مواكبه الحياة وأبناء جيلها الذين تفننوا في تدميرها.
تنهدت في بطء فقد استطاعت تخطي تلك المرحلة كما هي قادرة على تخطي ونسيان هذا المغرور الذي يُصر على استوطان قلبًا ليس له، فكرت مغتاظة من تحول أفكارها نحو زيدان بشكل درامي سريع.
جذبت حقيبتها للمغادرة وهي تتمتم كلمات تشجيعية لنفسها، فهي امرأة حرة قوية، ولن تغرق مع شخص لا يبالي بها ولن تهين كرامتها في سبيل إيجاد شريك مناسب وبالتأكيد لن تتخلى عنها بسبب رجلًا يمتلك قلب ك كمساري القطار يوزع تذاكره على كل من ذهب وجاء.
-تمام، لا كده فل أوي. صمت زيدان يستمع للجهة الاخرى قبل أن يجيب مؤكدًا: -هانت بلاش قلق، مع السلامة. جلس داخل سيارته تحت بناية وكر الأصدقاء، فاليوم يوم من أيام اللقاء، وان حضرتك سيقتلع أظافرها الواحدة تلو الأخرى.
أخرج هاتفه من جديد وفتح غرقة الدردشة الخاصة بهما، ثم أخذ يتجول فيها وهو يقرأ رسائلهما القديمة تفصيليًا وكأنه يستمد منها الطاقة والحق كي يمنعها من إلحاق الأذى بنفسها والانغماس في هذا العالم أكثر. غرق بين طيات الكلمات والمشاعر التي تولدت منها طويلًا حتى عاد إلى الحياة على صوت محرك سيارة تقترب، غامت عيناه العسلية لتعكس لونًا فريدًا كالعسل المحترق ما أن تبينت له السيارة الوردية وصاحبتها المتمردة.
ضغط على المقود في قوة يحاول جذب أنفس عميقة يهدأ بها غضبه الهادر على تهورها وكل ذرة في جسده تحارب للوصول إلى الثبات. -أهدى، أهدى ما تتعصبش، خد نفس عميق وأهد... قطع طقوسه من أجل استعادة الهدوء بإطلاقه لفظ اعتراضي بذيء تلاه أخر أبذأ متمتمًا: -وأيه اللي هي لابساه ده بروح أمها، ده أنتي يومك أسود.
ترجل من سيارته ما ان هبطت ميرا من سيارتها ووقفت بكل ميوعة توصدها، اقترب منها في خطوات واسعة وواثقة ثم شعر بالتشفي سعيدًا بالهلع المسيطر عليها حين رأته أمامها. -أنت بتعمل أيه هنا! -قدامي. قال في نبرة هادئة تشبه الهدوء للذي يسبق العاصفة بينما يجذبها جواره كي تلحق بخطواته النارية فزمجرت في محاربة لإفلات ذراعها من براثنه رافضة السهولة التي يجبر بها ساقاها الصغيرة على التحرك معه:.
-سيبني أحنا اتفقنا ملغي ووجودك مرفوض. -اركبي من سكات، أنا هعرف ازاي اتصرف معاكي. دفعها دفعًا للمقعد وعندما حاولت الهروب عاد يقبض على جسدها الراكض وسحبها معه نحو مقعد السائق يجبرها على الانتقال منه للمقعد المجاور كالأطفال ثم أغلق الباب خلفه، تجاهل اعتراضاتها وأسرع منطلقًا بالسيارة: -زيدان أنت اتجننت عربيتي هنا! -تستاهلي ان شاء الله تتسرق. أردف في تمني وصدق، فقالت مذهولة:.
-انت مين اداك الحق للي بتعمله ده. -أنا، لقيت نفسي فاضي ولقيت ان ما فيش حد يلمك ولا راضية تتربي، فاديت لنفسي الحق واتمنى اني اتبسط معاكي. نجحت كلماته في إغلاق فمها للحظات وهي تبصره في ذهول، فتحت فمها تحاول تجميع جملة مناسبة ولكن عقلها توقف عن العمل من شدة الغضب حتى قالت مستهجنة: -نزلني حالًا، انت عايز مني أيه لو على فلوسك هتوصلك بكرة.
أوقف السيارة في حدة على جانب الطريق ثن عدل جسده يرمقها شذرًا مؤكدًا: -حلو أوي وأنا هاخد الفلوس دي واطلع على أبوكي، أقوله اتفضل يا باشا ده قبضي من بنتك عشان كنت عامل اني متجوزها عرفي. -انت ليه بتحاول تأذيني مع اني عمري ما أذيتك. همست وقد دب الرعب اوصالها، فأشار مذهولًا نحو صدره متمتمًا: -أنا بأذيكي يا ميرا، ده أنا هموت وانقذك وأطلعك من مستنقع سايبه نفسك تغرقي فيه وبدون مقاومة.
هز رأسه بعدم تصديق بعد كل هذا الوقت معًا تتهمه هو بأذيتها، أبعدت ميرا وجهها عنه ثم قالت من بين أنفاسها العالية: -يا سيدي أنا بحب المستنقع ده، لكن أنت اللي مصمم تلغبط كل حساباتي. ارتفع وجهه في ابتسامه ساخرة متسائلًا: -أنا لغبطها ولا أنتي اللي معمولك غسيل دماغ؟ -أيوه أنت قاصد تبعدني عن أهدافي وضحكت عليا وخلتني أسمع كلامك وأعمل حاجات مش عايزاها.
علا صوته في اعتراض داخل السيارة وقد رمى الهدوء في عرض الحائط: -ليه كنت بضربك على إيدك ولا بعلقلك المشنقة، لو أنتي مش عايزة تعملي حاجة كنتي بتعمليها وماشيه ورايا ليه؟ بللت شفتيها وازدادت ملامحها ضيق رافضة الإجابة ولكن اضطراب حركتها جعلته يدرك ما تحاول إخفاءه، لتنير ضوء داخل كهف أعماقه يُشعره بأنها تعشقه كما يعشقها ولكنها تكابر فتابع في إصرار: -ما تردي عليا كنتي بتسمعي كلامي ليه؟
لوحت رأسها اتجاهه قبل أن تهتف مستنكرة: -عشان غبية وهبلة وبمشي ورا ناس ما تستاهلش. ضغط قبضتيه يفتحهما ويغلقهما مرات متتالية يحاول تمالك غضبه وكلماته الحادة التي تحارب للانفجار في وجهها. يبغض كيف تراه رخيصًا وترى القبح في تصرفاته بينما يختلق عقلها الأبله المبررات لمن لا يرتقوا لأن يصبحوا أصدقاء أي كائن في العالم، كان يريد تجاهل أعاصير المشاعر المتضاربة بين ضلوعه ولكن سؤاله تسلل من بين شفتيه:.
-طالما أنا ما استاهلش واللي بينا مجرد اتفاق ولعبة، مقموصة ومحسساني إني خنتك ليه؟ رمشت عدة مرات تحاول إدراك مقصده وتحاول إيجاد مخرج لهذا السؤال الثعلبي فهي مستعدة لأن تلفز أنفاسها الأخيرة على أن تعترف بحبها لهذا الخائن، فتلعثمت مجيبة: -زعلانه لأنك ما احترمتش الاتفاق اللي بينا، أنت منعتني أقابل أي راجل من صحابي وأنا لوحدي، لمجرد أن أسمي مربوط بشكل وهمي بأسمك...
جذبت نفس كبير ترفض النظر نحوه وهي تحرك يدها في الهواء مستكملة: -لكن أنت عادي تروح... صمتت وقد ضاق حلقها غير قادرة على إكمال وصف فعلته التي كانت كالرصاصة في صدرها، ثم أغمضت جفونها تخفي خوفها حين أنطلق صوته الغاضب جوارها: -روحت وعملت أيه كملي ولا عشان عارفة اني معملتش حاجة مش عايزة تكملي! دفعت رأسها نحوه تثبت عيناها على عيناه تلك المرة في شجاعة، ثم صرخت في وجهه:.
-لما الاقيك في حضن صاحبتي وواقف سامعها بتتكلم عني ومأيدها تبقى عملت وعملت كتير أوي. -وبالنسبة لصاحبتك عادي؟ أبعدت رأسها تنظر خارج النفاذة مجددًا قبل ان تخفي أصابع يدها أسفل مجلسها في محاولة لوقف ارتعاشها من شدة انفعالاتها ثم قالت في نبرة خافته مُتعبه: -ده طبعها ودي حياتها وصاحبك على عيبه، لكن المفروض أن أنت اللي تقاوم. -وأقاوم ليه ما أنا ابن جزمة جبان مش كده؟
كانت نبرته معاتبة أكثر منها غاضبة فوضعت يدها فوق جبينها فلا حق له بمعاتبتها وهو الذي مزق نياط القلب. فرك زيدان عيناه يشعر بالخذل وخيبة الأمل، كان يظنها تمتلك في قلبها حبً كبير كحبه لها ولكنه كان مخطئًا فالغالية تمتلك في قلبها محبة لأصحابها فقط، بينما كان هو غارق كالأحمق حتى أنفه في هيامه بها وبكل تفاصيل حياتها، كان يقتطع من حياته لخوض ما يستطيع أن يشاركها فيه من حياتها.
نعم، كان يشعر بمشاعرها نحوه ولكنها فتاة تصغره بأعوام كثيرة لا بد إنه اخطأ في حكمه على تصرفاتها لأنه بالتأكيد لا يملك في قلبها القدر الكافي من الحب الذي يجعلها تختلق له المبررات كما تفعل لأصدقائها. وكم يكره هؤلاء الأشقياء الفاسدون بكل قطرة دماء في جسده!
كم هو حزين على ما آلت إليه الأوضاع بينهما وكيف ترك نفسه يتعلق بها دون حساب لألأم قلبه المنخدع فيها، كانت لديه ثقة كبيرة في مخططه، وكان سعيدًا يتفاخر أمام نفسه بأنه قطع شوطًا كبيرًا معها في علاقتهما وبانه أستطاع تقويمها وحثها عل فعل ما هو صحيح. ، ثم ماذا؟..
في النهاية مع أول مشكلة بينهما عادت علاقتهما لخانة الصفر، كان يظن أنه غير من شخصها ولكنها أصبحت أكثرًا عنادًا وتمردًا، كل ما مر كان تمثيل ومحاولة باهته لإرضائه في سبيل تحقيق الاتفاق. جز على أسنانه يشعر بحرارة الغضب تزداد داخل صدره وكأنه جالس على فواهة بركان ناشط، أغمض جفونه يخفي عدستاه المشتعلتان لكنه فتحهم سريعًا في اللحظة التالية حين أردفت ميرا في صوت حزين ضعيف:.
-فضلت تنتقدهم وتلوم على افعالهم وكنت مصور نفسك في صورة الملاك اللي مش بيغلط وفي الأخر، ، صمتت لحظة متعمدة إمساك بصره المشتعل ثم استكملت في لهجة قاسية جامدة: -وفي الأخر طلعت أسوأ منهم بمراحل، لو سمحت رجعني لأصحابي والناس اللي باقية ليا فعلًا. تصلبت تقاسيم وجهه الصارم وتجمدت مشاعره فلم تصبح ميرا قادرة على تحليل مزاجه وخطوته التالية ولكنه أثار جنونها حين أخبرها مبتسمًا ابتسامة خالية من خيوط المرح:.
-لو على الناس الباقية، يبقى أوصلك للمكان الصح. أشعل محرك السيارة متحركًا من جديد في طريق معاكس تحت اعتراضاتها وهتافاتها المستنكرة تصرفاته المجنونة، ولكنها على وشك اكتشاف أعلى درجات جنونه.
بعد مرور ساعة كان يتحرك زيدان في خطوات واثقة نحو البناية التي تسكنها ميرا ممسكًا بيدها جارًا لها رغمًا عنها وسط توسلاتها: -زيدان، أرجوك ماما فوق. -عز الطلب. -أنت عايز توصل لأيه باللي بتعمله ده! وقف امام المدخل يمنعها من سحب ذراعها من بين أصابعه الغليظة ثم اجابها في هدوء يخفي خلفه الكثير: -عايز أوصلك ان خيوط اللعبة في إيدي، وان أنا الانسان الوحيد اللي عقلك لازم يعمله حساب.
قالت في لهجة سريعة مهتزة استقر فيها الخوف وقد تلاشت شجاعتها: -ما أنا بعملك حساب يا زيدان! -امتى لما أرن عليكي وما ترديش ولا لما ابعتلك مسج وتتجاهليني ولا لما أقول كلام ويتعمل عكسه؟ وصلها صوته المتقطر بالتهكم والسخرية قبل أن يصعد أمامها على الدرج بينما هي تحارب للمقاومة وتقوم بضغط أقدامها على الدرج معترضة على أفعاله ثم هتفت في جنون: -هتعمل ايه يا مجنون، هتوديني في داهية.
ابتسم لها ابتسامه كبير سمجة يمنع محاولاتها للهروب وكاد يشفق عليها حين سالت دموعها فوق وجنتها البيضاء كالياسمين وقد سحب الذعر اللون من وجهها بالإضافة إلى همستها المترجية: -عشان خاطري بلاش يا زيدان، ماما عمرها ما هتسامحنى.
أزدرد ريقه رافضًا اللين والانسحاب، مصرًا على وضع حجر كبير فوق قلبه اللعين ورافضًا الوقوع في فخ توسلاتها، أكمل أخر خطوتين نحو الباب متجاهلًا قبضتها الصغيرة الضاربة فوق كتفه ليتركها، ثم مد كفه يرن جرس الباب. كادت تسقط ميرا مغشيًا عليها حين فتحت والدتها الباب وأخذت أنظار والدتها المنذهلة تتنقل بينها وبين زيدان الذي زاد من صدمتها حين قال لوالدتها بابتسامة واسعة: -طنط أماني ازاي حضرتك؟
خرجت والدتها من ذهولها وانفرجت ابتسامه بطيئة على ثغرها مرحبة: -الحمدلله أنت عامل أيه يا زيدان وبابا أخباره أيه؟ أتفضل تعالى. أشارت للصالون من خلفها ونظرة التساؤل تتعلق بابنتها المتصلبة في مكانها بأعين على وسعهما، كسر تحجرها صوت زيدان الهادئ: -أنا قابلت ميرا في الشارع مكنتش مصدق نفسي أنكم ساكنين هنا قولت لازم أطلع أسلم على طنط أماني، صح يا ميرا؟
هزت ميرا رأسها في حركات سريعة للأعلى والأسفل دون أن تعي معنى ما يخرج من فمه أو تفهم سر المحبة الزائدة نحو والدتها ولما لا تصرخ والدتها في وجهه أو تطلب تفسيرًا! -انتوا واقفين ليه ما تدخلوا يا ولاد.
قالت والدتها عندما لم يتحرك أي منهما للدخول فارتبكت ميرا لكنها دخلت في صمت بوجه شاحب خلف زيدان المبتسم ابتسامته القاتلة التي تتمنى اقتلاعها بأظافرها، ثم حاولت التحكم في انفاسها لا تعرف هدفه من اللعبة خاصة حين جلس ثلاثتهم واستقرت أنظار والدتها عليه في اعتيادية وكأنها تعرفه منذ سنوات قائلة: -عمتك نادية رجعت من السفر ولا لسه؟ -لسه بس بعتالك السلام والله.
ابتسمت والدتها في ابتسامه شبه متهكمة، فعمته لا تطيقها حرفيًا لكنها تمتلك من الأدب ما يكفي ليجعلها تخبره: -الله يسلمها فيها الخير. حانت منه نظرة خاطفة نحو ميرا الجالسة كالبلهاء رأسها تتحرك فيما بينهما دون قدرة على تحريك لسانها، واصابعها لا تنفك عن التحرك فوق فخديهما وكأنها تحاول تنشيط الدورة الدموية في جسدها الشاحب قبل أن تسألهم ما يراه مرسومًا فوق ملامحها وما يثير حيرتها: -أنتوا تعرفوا بعض؟
نظرت لها والدتها متعجبة من سؤالها الأرعن الذي قد ينم على قلة الذوق أمام قريبهم فقالت موبخه: -أنتي بتهرجي ولا بتتكلمي جد؟ مش عشان مش بشوفهم كتير مش هعرف عيلتي ده متربي قدام عيني من قبل ما أنتي تتولدي. رمشت عدة مرات تحاول استيعاب ما تخبره بها والدتها ثم نقلت بصرها المذهول نحو زيدان الصامت والذي يملك من الوقاحة ما يجعله يقذفها بنظرة محذرة وكأنه يحذرها من التفوه بأي حماقة!
جذبت نفس عميق تحاول الهرب من أمواج الصدمة المتلاحقة فوق رأسها وتابعت في صمت استئذان والدتها لإحضار واجبات الضيافة، ولا تدري كيف خرج صوتها المكتوم لكنها فعلت حين سمعت نفسها تردد: -أنت قريب ماما؟ -لا، انا قريب ماما وقريبك أنتي كمان. اجابها ساخرًا أثناء اعتداله للجلوس بشكل أكثر أريحيه فوق المقعد، فهمست في خفوت: -يعني مش بس خاين وكمان كداب وبتضحك عليا. -كداب وبضحك عليكي!
أقسم بالله بالقلم وعلى وشك، خدي بالك من لسانك أحسن ليكي بدل ما تخرب في دماغي وأقول لأمك بجد أنا ماسك نفسي عنك بالعافية. -ماشي يا زيدان. بصقت حروفها وهي تحافظ على انخفاض صوتها كي لا تسمع والدتها فارتفع صوته هو صادمًا إياها: -أنتي بتهدديني؟ يا طنط أماني...
قفزت من مكانها واقفه وهي تضم كفيها في خضه أسفل ذقنها ترجوه: -خلاص أنا أسفة مش هقصدي والله! -مش هتردي على التلفون تاني وهتخنقيني؟ -لا والله العظيم هرد. -أيوة يا حبيبي، في حاجة؟ خرجت والدتها تحمل صينية مزخرفة بها كوب من العصير وطبق مليء بالحلويات، فوقف زيدان يلتقطها منها في أدب مبررًا صراخه قبل قليل: -لا كنت بندهلك عشان أقولك ما تتعبيش نفسك أصل أنا مش هقدر أقعد عندي شغل. -شغل بليل كده.
-اه ما أنا فتحت مطعم مع أصحابي، اتمنى تشرفيني أنتي وميرا يوم. نظر إلى ميرا مبتسمًا في مشاغبة قائلًا في استفزاز يتعمد ارباكها: -ابقي هاتي ماما تتغدى يوم. -أنتي روحتي قبل كده يا ميرا؟ سألت والدتها المتعجبة فتلعثمت تخبرها: -اه، شفته مره صدفه وعرفت المكان. -أنتي بتكدبي ليه؟ احكيلها من البداية من أول نوتفكيشن بينا! -نوتفكيشن أيه؟
سألت الوالدة، وارتعشت شفتا ميرا تكاد تفقد الوعي ما أن كذبها زيدان بملامحه الجامد وشعرت بدموعها تتجمع للدرجة التي لم تمكنها من رؤية ملامح والدتها التي تتطلع إليها منتظره إجابتها، لكنها جذبت نفسًا عميقًا واسترخى جسدها المشنج حين قال الوقح منقذًا للموقف:.
-أنا وميرا بنسأل على بعض من ساعة ما لقتني صدفه على الفيس ومن وقتها واحنا بدأنا نتكلم أكتر ولما عرفت عن افتتاح المطعم والإعلان جابت أصحابها وعزمتهم يوم عندي. انهى جملته بابتسامة كبيرة مغيظة، ثم رفع حاجبه يحركه في استفزاز منتظرًا تأكيدها فضحكت كالبلهاء ضحكة خرجت مختنقة هامسة في توتر: -اه، هو كده يا ماما. -طيب هستأذن أنا. -أشرب حاجة الأول مش معقول تيجي وتنزل كده.
أردفت والدتها مستنكرة ذهابه دون إتمام واجب الضيافة فاستقام واضعًا يده فوق صدره في حركة مهذبة معتذرًا: -معلش تتعوض ان شاء الله. وقفت أماني لتوصيله حين تحرك للمغادرة لكنه توقف في منتصف الطريق مطالبًا في نبرة مُحرجة: -أنا اسف يا طنط لو هتعبك، بس ممكن كوباية ماية. ابتسمت مؤكدة بينما تتحرك سريعا للداخل: -طبعا يا زيدان.
ما ان اختفت حتى اختفت ابتسامته المهذبة وأشار بأصبعيه نحو مقلتيه ثم اعادهما نحو ميرا ذات العيون المتسعة، كناية عن مراقبته لها محذرًا: -استني مكالمة مني قبل ما تنامي عشان نحط النقط على الحروف، يا روحي. تعمد مط كلمته الشهيرة سعيدًا بصمتها واستسلامها له رغم وضوح الغضب المتناثر في عدستيها السوداء، ثم رفع حاجبه في تحذير منتظرًا ردًا منها فهمست في صوت منخفض: -حاضر. -شطوره.
وصلت والدتها بكأس الماء وما أن ابتلعه على مرتين أعاده شاكرًا لها ثم رحل تاركًا ميرا تتكأ حولها حتى تصل إلى أمان غرفتها وتغلقها خلفها.
استندت فوق الباب تحاول التفكير واستجماع أنفاسها المسروقة، لا تصدق ما حدث وما وقعت به، ف زيدان خدعها ولم يخبرها إنه من عائلة والدتها وهذا اكثر ما يخيفها فهي لا تفهم أهدافه ومسعاه من خديعته لها، عقلها مشتت تكاد تجن من كثرة التفكير لتحليل ما يحدث وما هو على وشك الوقوع فمن يعرف ماذا يخبئ لها زيدان في جعبته؟
داخل منزل زيدان فرك المسكين أسفل رقبته يحاول تخفيف التشنج فيها، فقد عكف طوال الساعات الماضية على التفكير في خطوته التالية مع ميرا حتى وصل إلى حل يراه مناسبًا للوضع الحالي بينهما، ويرجو من الله أن تتقبله جلالتها. تمتم ساخرًا وهو يقرأ الساعة المشيرة إلى الواحدة صباحًا مقررًا الإقدام في المخاطرة والاتصال بها، رفع هاتفه متصلًا بها بعد أن جذب انفاس عدة استعدادًا للمعركة.
أتاه الرد سريعًا عكس ما توقع لكنه تدارك صدمته تجاه طاعتها الحرفية له بقوله المشاكس: -حاسس أنك نمتي ونسيتي تستني مكالمتي زي ما قولتلك. -اومال أنا برد عليك ازاي؟ سألت ميرا مغتاظة فكاد يستسلم لضحكاته مستمتعًا بالغيظ المتقطر من صوتها ضده، بكنه رد مصرًا على مشاكسته: -لا مش مقتنع. -الله ما قولت ما نمتش. -أنتي بتتعصبي عليا؟ تعمد نطقها في خشونة مملوءة بالتهديد المبطن فلانت نبرتها المنفعلة وهي تؤكد له:.
-والله لا اتعصبت ولا نمت! -وأنا مصدقك يا روحي. همس في حنو بالغ أثار جنونها ووصله صوت شهيقها المتقطع بالتأكيد تكبح صراخها، قبل أن تسأله في نبرة جافية: -زيدان قول متصل عايز أيه؟ -أحبك وأنت فاهمني دايمًا. استمر في استفزازها فقاطعه بطريقتها الحادة ونبرة المتهكمة محملة بمعنى عميق: -أيوه فهماك وفهمتك بالطريقة الصعبة.
تحولت نبرتها من التحدي والتحامل عليه إلى أخرى ضعيفة يشوبها الحزن الذي انطلق كالخنجر إلى صدره فوجد نفسه يتنازل عن تصرفاته الصبيانية ويجاريها في جدية: -فهمتي أيه؟ -فهمت تصرفاتك معايا سببها أيه وليه خدعتني طول الفترة دي. -ليه؟ همس وقد أصابته وخزة طفيفة بين جنبات صدره ظنً منه إنها اكتشفت غرامه لها لكنها كالعادة فتحت فمها الصغير مقررة إمطاره بالمزيد من الهراء:.
-عشان لما تمثل انك متجوزني في السر هتكسر عيني أنا وماما وتذلها قدام عيلتها. -طيب ما انا لو هذل أمك كنت مثلت إني متجوزها عرفي، هلعب عليكي أنتي ليه؟ استني مترديش، تصدقي وتأمني بالله يا شيخة أنا ما عارف اقولك أيه! انهى جملته الساخرة بعد أن قاطع رغبتها في الحديث، لا يصدق أين أوصلها مجرى تفكيرها الغبي، فأجابته في عناد مؤكدة: -مش لاقي حاجة تقولها عشان دي الحقيقة.
-يا غبية أنتي اللي طلبتي مساعدتي مش العكس، يعني أنا لا بخطط عشان أذل أمك ولا نيلة. -أمال أيه هدفك من كل اللي بيحصل ده، فهمني! اعتدل في جلسته عندما سمع صوت حركة في الخارج وانتظر ثوان يتأكد من عودة والده إلى غرفته للنوم من جديد قبل أن يستكمل: -حلو نتكلم جد شوية، وعشان أنتي مش بتفهمي غير بلغة الحوارات والاتفاقات، فأحنا هنلغي القديم نهائي وهنعمل أتفاق جديد. اهتز صوتها الخافت وهي تتساءل متوترة: -اتفاق جديد؟
-أيوه اتفاق جديد بشروطي أنا من الألف للياء، وقبل ما تعترضي أفهمي إني بكلمك عشان اخد القرار معاكي بشكل ودي لأنك تهميني، وإلا كنت اجبرتك عليه بشياكة وأسهل على نفسي الطريق. -تقصد أيه؟ سالت سريعًا متأكدة ان كلماته تحمل تهديد كبير بين طياتها ورغمًا عنها أخذت تفرك أصابعها تحاول إخراج نفسها من تلك الورطة. كاد يصيبها بأزمة صدرية حين أخبرها في لهجة واثقة:.
-أقصد ان معاكي حرية الموافقة أو الرفض، وبما انك عارفة معنى الموافقة خلينا نتكلم عن الرفض شوية، لأنك لو رفضتي بأي شكل من الأشكال، بكرة من النجمة اتفاقي هيكون مع أبوكي مش أمك، هاه اتفقنا؟
تعمد الحفاظ على صلابة نبرته بينما يفرك رأسه يحاول محاوطة قلبه بغشاء صلب يعزل من خلاله تأثيرها وحبالها الوهمية المسيطرة على خفقاته، خاصة حين ساد الصمت بينما وتهيأ له صوت بكاءها الخافت قبل أن تردف موافقتها دون جدال ودون أن تخفي نبرتها المتألمة من قسوته: -اتفقنا، قول شروطك يا زيدان؟ -هتقطعي علاقتك بشلة الشياطين اللي متعلقة بيهم نهائي. -وصحابي أيه علاقتهم بالموضوع!
-صحابك هما أوس الموضوع والفساد في حياتك، أنتي ازاي مش حاسه بالبير اللي بتغرقي فيه وأنتي معاهم؟ صمت برهة يبتلع ريقة يحاول استجماع هدوئه ليقنعها بما يجول في خاطره مستكملًا: -ازاي مش حاسة بالغشاوة اللي على عينك وانتي وسطهم، ميرا أنتي إنسانه نقية طيبة وجواكي أصل وقيم مهما حاولتي تغيريهم مش هتقدري، لكن معاهم أنتي بتناقضي نفسك وبتتغيري للأسوأ ودي مش علاقة طبيعية أو صحية.
-ارجوك يا زيدان ما تجبرنيش اتخلى عنهم مش هقدر هما كل اللي ليا في الحياة. تمزق قلبه وهو يستمع لشهقات بكاءها وكأنها طفله حرمت من والديها لدرجة أنه فكر في التراجع إلا أن التراجع الآن سيسبب نتائج عكسية أسوأ من الحالية فأكمل يحاول تهدئتها بحديثه الحاني: -طيب ممكن تهدي وتخليني أكمل، اعتبريها تجربة يا ستي، الغيهم من حياتك وخلينا نشوف هياخدوا وقت قد أيه قبل ما ينتبهوا على غيابك وهل هتفرقي معاهم ولا لا؟
أقولك، أسأليني ليه أنا بعمل كده؟ -ليه؟ خرج صوتها كالهسيس الخافت فرد بمنتهى الصدق: -عشان لما كنت وسطكم وبشوف تعاملاتك معاهم، للحظة افتكرت انك انسانه مش متزنة نفسيًا بس بعد كده فهمت ان ده خلل سلوكي أكتر منه نفسي. علا صوتها وسط بكائها تعترض بشدة كالمجنونة، وكأنه بقوله هذا أحيا خلايا الإنكار داخلها: -أنا مش مريضة نفسيًا! حاول جذبها نحو الاعيبهم الاستفزازية من جديد حتى يبعدها عن الهلع المشع من نبرتها:.
-أولًا أنا مقولتش مريضة نفسيًا، قولت خلل سلوكي، ثانيًا والأهم مفيش مريض نفسي هيقول أنه مريض. -انت عايز توصل إني مجنونه واني مش طبيعية عشان تبرر أفعالك وخيانتك ليا. هتفت في جنون وسط عبراتها متناسية والدتها التي يفترض بانها نائمة ولكن كلماته فتحت شقًا مغلقًا داخلها، شقًا مخيفًا تهابه وتخشى التطرق له وهو بكل وحشية يدس أنيابه فيه، لكنه تابع في هدوء:.
-قولتلك التفكير مش من مميزاتك، أنتي حلوة وكل حاجة بس ياريت ما تفكريش تاني، نرجع للاتفاق النقطة التانية والأهم دراستك... قاطعه في لهجة صلبه متحجرة: -مش بحضر محاضرات، بذاكر قبل الامتحانات وبس. -جميل جدًا عشان من بكره الساعة تسعة هعدي عليكي تروحي معايا المطعم. -ليه؟ -عشان تستلمي مهمتك الجديدة. أجاب مشاكسًا فاندفعت مستنكرة وهي تستقيم من فراشها تتجول في الغرفة: -هتشغلني عندك قصدك؟
-الله جميلة أوي الجملة قوليها تاني كده! تمتم بطريقته الاستفزازية مستهدفًا ازعاجها فقالت في غيظ وقد نفذ صبرها: -زيدان ما تلعبش بأعصابي! -لا يا ستي مش هتشتغلي عندي، بس هتكوني وزيرة السعادة. -وده لأني مثال للسعادة وكده! أخبرته ساخرة من وقاحته واستمراره في استفزازها لكنه أردف متعجبًا: -الله ومش هتكوني سعيدة ليه؟
-ايوه صح ايه مش هيخليني سعيدة وفي واحد من يوم ما عرفته وهو مصمم يدمر حياتي ويلغي شخصيتي ويتحكم فيها لأنه ببساطه انسان سادي! -سادي، سادي سرور، آه، كنت بحبه أوي لحد ما بدأ يهبل، أنتي بتحبيه ولا أيه؟ صدح صوتها مزمجرًا من أعماقها لا شعوريًا توبخه: -يا انسان يا مستفز، تصدق أنت منك لله. -كلنا مننا لله يا روحي. -زيدان ما تطيرش البرج الاخير من عقلي وفهمني ناوي على أيه؟
خرج صوتها متعجبًا بعيدًا عن الهلع السابق وقد نجح في سرق انتباهها لأمور أخرى فابتسم مغلقًا النقاش في سماجته المعتادة: -لما أشوفك بكره يا روحي. أغلق الهاتف دون انتظار لردها وعلى محياه ابتسامه واسعة يشعر بالرضا إنه قطع جزء كبير من مخططاته ولكن كيف يقنعها بالتخلي التام عن السوء في حياتها.
في اليوم التالي هبط زيدان من السيارة بعد أن جذب حافظة أمواله ونظارته الشمسية ثم مال يطالع من زجاج النافذة ميرا المتذمرة والجالسة داخل السيارة تبثه بالنقم. التوت شفتيه في ابتسامه ساخرة قبل أن يتجه نحو مقعدها فاتحًا لها الباب قائلًا في تهكم: -عارف إني قولت ما تشغليش دماغك، بس مش ملاحظة أن كده زيادة عن اللازم؟
نظرت له شزرًا حاقدة على قدرته في جعلها تشعر بالسخف وعدم النضوج، قلبت عدستيها داخل عيناها وهبطت هي الأخرى متحركة قبله إلى داخل المطعم.
ابتسم لنفسه وهو يراقب كيف انطلقت دون انتظاره في غرور وكأنها تمتلك المكان، ترك لعيناه حرية المرور عليها كالماسح الضوئي يخزن كل تفاصيلها الخلابة، رغم إنها لم تتأنق كعادتها إلا إنه يراها مميزة في سروالها الأبيض وبلوزتها المحشورة داخله معطية لخلفيتها منظرًا خلابًا يخطف العيون.
اختفى المرح عن وجهه وشعر بالحرارة تسري في عروقه عندما تعلق نظرهُ بخصرها النحيل المتراقص دون رحمة بقلوب الرجال من حوله، فتحرك مسرعًا يمسك معصمها جاذبًا لها نحو مرحاض السيدات هامسًا من بين أسنانه: -طلعي البلوزة من البنطلون. -أفندم، هو استايلها كده. -الاستايل ده تلبسيه هناك في لاس فيغاس لكن أنتي هنا في مصر، اعدلي هدومك وفوقي لتصرفاتك شوية وانتي معايا عشان أنا راجل خلقي ضيق.
دفعها للداخل رافضًا التنازل والتزحزح عن موقفه حتى تستجيب له، دبدبت قدمها في غضب ثم نظرت له شزرًا هاتفة: -أوف منك أوف. تحركت من أمامه ودلفت متذمرة لتعدل ملابسها، حرك رأسه لليمين واليسار في يأس من تقويم أفعالها الطفولية، واستدار يتفحص الزبائن يبعد أفكاره عن حماقاتها حتى طالت عيناه صديقه العابس من بعيد فناداه: -كيرو تعالى. اتاه متململًا يجر ساق أمام الأخرى فأردف زيدان في سلاسة: -قولت لخطيبتك؟
حدق به كيرو بنظرات حادة باعثة للشك فسأل زيدان متعجبًا حاله: -مالك يا بني بتبصلي كده ليه؟ -أصل كده زيادة عن الحد الصراحة، يعني أخويا وعديتها لكن خطيبتي اهوه ده اللي مش هسكت عليه أبدًا. -أما أنت بني ادم براس بخاخة بصحيح، يعني عمال أقولكم عايز أعرف البنت على ناس محترمة ونضيفه وعملت فويس طويل عريض من بتوع البنات دول،.
أفهمكم أهمية الموضوع بالنسبة ليا وانكم لازم تساعدوني غصب عن عينيكم لأنكم ببساطه أصحابي، وفي الآخر جاي تشك فيا، يا اخي يلعن ابو اللي ربط الحمار وسابك. اخفض كيرو رأسه وقد نجحت كلماته المعاتبة في إحراجه فقال معتذرًا في نبرة خافته: -طيب خلاص ما تقفش، هي جوا مع محمد ومراته. -حلو أوي. قطع حديثهم خروج ميرا التي تنقلت نظراتها بينهم في حرج فأشار لها زيدان بالتقدم أمامه.
تنهد عندما ظهرت معالم عدم الارتياح والتوتر فوق محياها، مفكرًا بأن اندماجها في أوساط جديدة ومختلفة عن ما عاصرته سيكون صعبًا مع طبيعتها الخائفة وشخصيتها المغلفة بحصون حديدية تحميها من شر وهمي تتوقعه من كل ما هو جديد أو بشري. وصل لطاولتهم الخاصة في الزاوية مقررًا تحديث اللعبة وهو يراقب وجهها معرفًا إياها للجميع بابتسامة صادقة: -أهلا يا جماعة منورين... ده محمد ونيللي مراته، وده كيرو ونانسي خطيبته،.
ودي ميرا خطيبتي. كادت تسقط من فوق المقعد قبل أن تستقر عليه ثم التفتت نحوه تحدق فيه بعيون واسعة مذعورة من تصريحه، فجاورها مربتًا على كفها يحثها على الهدوء أثناء تقبلهما مباركات الأربعة المنذهلون لكنه سعيد أنهم سايروا لعبته ولم يرموا بأسئلتهم الفضولية في حضورها.
مر وقت ليس بقليل على الجمع، انسجم فيه الجميع داخل أحاديث عفوية خفيفة أثارت ضحكاتهم مرات كثيرة، ولن ينكر انه كان يلتقط كالقناص كل حركة وشعور يفرض حضوره فوق ملامح ميرا وعيونها الخائفة. يعلم انها شخصية مذبذبة شبه انطوائية تخاف من الاختلاط سوى مع أشخاص عايشتهم واندمجت معهم وربما هذا هو السبب الأكبر في شعورها بالاكتفاء الذاتي بحفنة الشياطين المدعون بأصدقائها.
راقب كيف تبدلت ملامحها من الخجل إلى الخوف والتردد كلما حاولت إحدى الفتاتان في افتعال حديث ودي معها، وقد تعمد اقتحام الحديث في كل مرة، شاكرًا في عقله أصدقائه الذين امتهنوا التحضر اليوم ولم يقتلعوا رأسه لانخراطه في الحديث مع سيداتهم.
مرت الساعات وتحرك الثلاث رجال لإنهاء بعض الأعمال وفي هذه الأثناء حاول زيدان مراقبة الوضع وعدم إزاحة عيناه عن ميرا، التي بدأ يسمع صوتها بين الحين والأخر بينهن، وحمد الله لوجود نيللي زوجة صديقه التي اثبتت إنها شخصية اجتماعية ودودة من الدرجة الأولى. أما على الطاولة، تحركت رأس ميرا بين نانسي ونيللي تستمع لحديثهن المتواصل حتى القت عليها نيللي الضوء متسائلة في صوت لطيف يوازي لطافة ابتسامتها المشعة:.
-وأنتي بتدرسي أيه يا ميرا؟ تصلبت لحظة تحاول ابتلاع ارتباكها بصعوبة لكنها انتهت تتحدث كبلهاء لم تجري حديثًا مع شخص عاقل من قبل، مجيبة في تلعثم: -امم، أنا، في آداب إنجليزي.. -أيه ده معقولة وأنا كمان. أخبرتها نانسي في حماسة لا متناهية فاهتزت ابتسامه فوق فم ميرا متعجبة من حلقة التشابه بينهما: -أيه ده بجد؟ -اه والله، وأي وقت تحتاجي اي حاجة قولي أنا كنت بذاكر لزمايلي أيام الكلية.
أخبرتها نانسي في ثقة وهي تلقي بخصلاتها خلف رقبتها بغرور، سارقة ضحكة من بين شفتي نيللي المشرقة دائمًا في ابتسامة رائعة، قطعها زوجها المتهجم الذي ظهر من العدم ثم مال على أذنها هامسًا بضع كلمات تستطيع سماع تحذيراتها من جسده المتشنج. عضت نيللي على أثرها شفتيها في اعتذار مشاكس ثم حركت رأسه في موافقة ما ان استقام وتعلقت أنظاره المحذرة بها.
ابتسمت حين حرك زوجها رأسه بيأس من تعقلها ثم استدار للمغادرة، وجدت نفسها تشارك الفتاتان ضحكة بلهاء مكتومة لا تعلم سببها حتى تحدث نيللي مؤكدة: -حقيقي استمتعت بوقتي معاكوا يا بنات لكن ياريت نقلبها نكد لأن على المعدل ده محمد مش هيجبني هنا تاني. -غيورين أوي، شوفتي كيرو واقف هناك وكل ما اضحك يرميني بنظرات شريرة مش طبيعية. هسهست نانسي ممازحة قبل أن تسأل ميرا من باب اشراكها في الحوار:.
-زيدان مجنون معاكي شبهم مش كده. ضاقت عيون ميرا تفكر في تفاصيل معاملة زيدان لها، وأحمر وجهها عندما تذكرت كيف اجبرها على تعديل ملابسها وكيف منعها من الاختلاط بغيره في غيابه فأومأت رأسها مرة مردده بابتسامه ساخرة: -مفيش شبه زيدان في الجنون يا جماعة صدقوني، دي الزون بتاعته! -زون أيه؟ صدح صوت زيدان من خلفهم، فاتسعت اعينهن لتخبره نيللي مسرعة دون تفكير: -الفريندز زون.
انفرج فمه للحظات قبل أن تنتقل عيناه الناعسة والحانقة فوق ميرا ليخبرها في غيظ: -مش في الفريندز زون أنا! ضحكت الفتيات دون مقاومة ورغم سعادته برؤية هذا الاندماج والانسيابية الواضحة بين ثلاثتهن إلا أنه لم يستمتع بكونه محور اهتمامهن، فقاطعهن بينما ينظر لساعة يده: -يلا يا ميرا عشان الوقت اتأخر. -اوكيه. همست ونظرت للفتاتين بملامح محبطة دليل على عدم رغبتها في المغادرة ثم ودعتهم قائلة:.
-اتبسط معاكم يا بنات شكرا ليكم. -هاتي رقمك الأول عشان نضيفك على جروب الدردشة، مش معنى انك هتمشي انك تقطعي علاقتك بينا، احنا بنرغي طول اليوم. ظهرت ابتسامة حقيقة صادقة على وجهها الصغير، وقبل أن تنطق برقمها سبقها زيدان يمليهم رقمًا اخر مختلف.
اختفت الابتسامة من فوق شفتاها في حزن لا تفهم سبب كذبته ورغبته في انقطاع الصلة بينهم فقد شعرت بالسعادة في قضائها الوقت معهن، تجمعت الدموع في مقلتيها ولكنها تحكمت فيها والتزمت الصمت، ووقفت تستقبل حرارة وداعهن بين الأحضان والقبلات المتبادلة.
استشعر زيدان التخبط المنبعث من ميرا وكأنها منتظرة أن تقع في خطأ ما يجبرهن على الركض هلعًا منها، كما ان تدخله الغريب بالتأكيد أثار تساؤلاتها وفضولها وهو سبب الحزن الغائر في عينيها. في هذه اللحظة بالذات أحسها طفلة صغيرة تائهة وود فعليًا لو كان يملك الحق في ضمها إلى صدره والتربيت على شعرها اللامع قبل ان يغرق فيه أنفه وهو يحتويها بين ذراعيه في قوة، سعل هامسًا: -يلا بينا، مع السلامة.
غادرا بعدها سريعًا وكان الصمت ملك الحوار طوال الطريق، ورغم تعجبه من صمتها المخيف إلا إنه لم يسأل خشية من الإجابة التي قد تلقي بتوقعاته وأماله المرتفعة في عرض الحائط، أوقف السيارة أمام مبناها وحين لم تتحرك من مكانها أو تتهيأ للهبوط تنهد ثم مال يستند بساعديه فوق المقود مردفًا: -في أيه؟ رمقته نظرة أرادت بها ان تبدو قوية ولكنها عكست الحزن والعتاب داخلهما خاصة حين صرحت ما يجول في خاطرها:.
-أنت ليه كدبت عليهم وادتهم رقمي غلط؟ ضرب كفه فوق جبهته مصدومًا من نسيانه أمرًا بغاية الخطورة كهذا مؤكدًا: -مش معقول كنت هنسى حاجة زي دي. مال يفتح رف السيارة المغلق أمام مقعدها مخرجا ظرفًا صغيرًا، فتحه في صمت ثم مد يده بكل انسيابيه يجذب هاتفها من بين أصابعها دون استئذان وساعده على ذلك جسدها المشنج في صدمه من تصرفاته، فجلست بلا اي رد فعل فقط فمها المفتوح يعبر عنها وعن ذهولها أثناء تغيره لشريحة هاتفها.
خرجت منها صرخة خفيفة وخرجت من صدمتها حين قبض على اصابعها يجبرها على لمس الشاشة وفتح قفل الهاتف. -أنت بتعمل أيه، هات التلفون انا ما اسمحلكش انك تفتش في حاجتي. -اهدي على نفسك، أنا بنفذ الاتفاق، بعمل بلوك لأصحابك من كل مكان في السوشيال. أنهى جملته في اعتيادية وكأنه يخبرها بانه يتطلع على الساعة فحاولت جذب الهاتف منه هاتفة: -هتستفاد أيه فهمني؟ -أنا مش هستفاد حاجة أنتي المستفيدة.
رد بطريقته الهادئة الاستفزازية فضربت كفيها فوق فخديها تكاد تجذب خصلاتها منه ومن عناده، قائلة: -أنا مش عايزة استفاد، أنت حرفيًا بتدمر حياتي وبتخرب علاقاتي مع اهم ناس عندي. -هنشوف أهم ناس عندك هيتصرفوا ازاي لما تغيبي عنهم ده لو حسوا اصلًا أنك غيبتي. قال في نبرة متهكمة ثم أعاد هاتفها وقد انتهى من مهمته، راقب ارتعاشه شفتاها الطفيفة وهي تجذب الهاتف منه بعنف وحين حاولت التحرك للهبوط أوقفها قائلًا في حنو:.
-أنا عايز مصلحتك، ومش ضدك أو بعاندك يا ميرا، ما تحطنيش في خانة الأعداء أنا عمري ما كنت عدوك. -أنا مبقتش فهماك، شوية بتكون كويس، وشوية غريب وتصرفاتك أغرب. لم تستطع كبح الحزن المحفور داخل قلبها نحوه فأسرع يجادلها ضاغطًا فوق أصابعها يسرق جام انتباهها لحروفه: -لا يا ميرا أنا زي ما أنا، أنتي اللي شايله مني من يوم الموقف مع ليلو ومستنتيش تسمعي اللي حصل. تنهدت ثم نظرت له في ضعف تحثه: -أحكي أنا سمعاك.
حرك رأسه نافيًا في خيبة ويأس قبل أن يخبرها مؤكدًا: -أنا مش هديكي مبررات يا ميرا، عارفة ليه؟ -ليه؟ همست في خفوت محموم بمشاعرها المختنقة فاستجاب لسؤالها على الفور: -عشان أنتي مش عايزه لا تسمعي ولا هتفهمي ومهما قولت مش هتصدقيني. أبعدت بصرها عن عيناه المثبتة لنظرها بصعوبة ثم قالت تحاول إفراغ مشاعرها ومخاوفها: -مش هصدق عشان مش أول مرة تكدب يا زيدان وأخرها انهارده. -كدبت في أيه قوليلي؟
حثها في عناد على التكلم عاقدًا ذراعيه بثقة أمام صدره متأكدة من براءته أمام هذا الاتهام، فدفعت نفسها لكبت خجلها وارتباكها فهي تتمنى سرًا إجابة معينه يهفو إليها قلبه من بين شفتيه حتى نطقت أخيرًا: -انهارده مثلًا قولتلهم اننا مخطوبين. -لا ثواني، أنا ليا مبررين للكلام ده، أولاً أنا مينفعش أبدا أدخل على صاحبي ومراته والتاني وخطيبته وأقولهم اعرفكم يا جماعة ميرا صاحبتي ولا أقولهم أنا عامل اني متجوزها عرفي!
دول ناس محترمة طبيعية مش زي الهلافيت صحابك اللي عايشين العربدة. احمر وجهها خجلًا وقد أفحمها بكلماته الحقيقة فلا تستطيع تكذيب كلماته عن أصدقائها ورغم حبها الكبير لهم إلا أنهم منغمسون في أمور الدنيا أكثر مما ينبغي لكنها لن تعترف له بهذا أبدًا، انتشلها من افكارها صوته وهو يستكمل في جدية كبيرة: -والمبرر التاني، أنا هتجوزك فعلًا.
نجح هذا في إخراسها بضع دقائق طويلة، تابع زيدان كيف بدأت ملامح الخجل والارتباك تغزو ملامحها وتحركاتها، بينما حاول هو قتل ابتسامه مستلذه تحاول الارتسام فوق ثغرة حين سألت: -تتجوزني وأنت مش بتحبني ازاي؟ -وأيه علاقة الجواز بالحب؟
غامت عيناها بثورة غاضبة فاقت ثورات الشعوب على الطاغية فقد دمر لتوه أمانيها وأحلامها الحمقاء التي كانت تنسجها داخل قلبها، حتى وهي في أشد لحظات غضبها وجنونها منه تتمنى سماعها، ثم انفجرت كأنبوب الغاز في وجهه مستهجنة: -اومال هتتجوزني ليه لو مش بتحبني؟! -أنا مش فاهم ايه علاقة الحب بموضوعنا، ولا أنتي عايزة تعترفي بحاجة؟
سأل متعجبًا في مشاغبة وقد صدح في عقله جملة يتمنعن وهن راغبات، ثم لاعب حاجبيه بشكل مستفز نحوها حين غرقت في صدمتها فمدت أصابعها تقرص لحم ذراعيه في غل بشكل عنيف جعله يصيح متأوهً وهي تهتف في وجهه: -مش هعترف لحد بحاجة ومش هتجوز حد مش بيحبني أنا! -هتتجوزيني ورجلك فوق رقبتك يا روحي. -يا مستفز. تركها تهبط هذه المرة وراقب قدمها الصغيرة تتخبط في الأرض بقوة ولم يستطع إيقاف نفسه عن مناداتها مغيظًا لها:.
-متنسيش هعدي عليكي الساعة تسعة يا روحي. التفت له وكأنها ترغب في خلع حذائها والقاءه في وجهه، فأنطلق بالسيارة مبتعدًا عنها سعيدًا بالتخبط والجنون الذي يثيره داخلها فعلى الأقل ستجد منفذ وسبب أخر للتفكير بعيدًا عن الشياطين.
بعد مرور أسبوعان، غرقت فيهما ميرا في الأجواء التي هيأها لها زيدان وأصدقائه التي صارت تتعلق بسيداتهن كثيرًا بشكل سريع لا تصدقه، فقد صارت تتحدث معهم من بداية اليوم حتى نهايته في متعة غريبة لذيذة لم تتذوق حلاوتها مع اصدقاءها يومًا. تنهدت في صمت حزينة على عدم ظهور أيًا من أصدقائها وسيطر عليها مشاعر الخذلان والاحراج وهي تستكشف قيمتها الشبة منعدمة لديهم.
فلم يتعب أحدهم نفسه للمرور عليها والتساؤل عن سبب غيابها أو سبب حجبها لهم في مواقع التواصل الاجتماعية وكأنهم سعيدون راضون عن تبخرها من حياتهم. حركت رأسها تنفض أفكارها السوداوية الحزينة ووقفت تكمل ارتداء الفستان الكُحلي الذي أهداها إياه زيدان بالأمس مقررة الذهاب إلي مطعمه الذي صارت تقضي فيه معظم وقتها، رغم انه أخبرها بالراحة في المنزل، بعد اصابتها بالغثيان عقب غداء يوم أمس.
ابتسمت حين انتقلت افكارها نحوه، فهذا المجنون يجبرها على التسوق وشراء الملابس لها كلما كانت حسنة التصرف أو شطوره على حد قوله، والعجيب أنها كانت متوقعة أنه يرغب في إذلالها بإجبارها على التواجد هناك إلا أن كل ما تفعله طول اليوم هو التغنج حول المكان دون العمل بشكل حقيقي، حتى أنه دعا والدتها أكثر من مرة لتناول الغداء وقضاء وقت معهما متعمدًا إحضار أبيه متحججًا ب صلة الرحم، ابتسمت متذكرة كيف ندمه والده على هذه الصلة فوالد زيدان خفيف الظل وكان يتعمد إحراجه بالحكي المتواصل عن طفولته.
عضت شفاها وهي تمرر يدها فوق قماش الثوب القطني تستشعر نعومته فرغم ان الملابس مختلفة عن ذوقها المعتاد فهي لا تحبذ الفساتين التي تلامس نهاية حذائها لأنها في مخيلتها تلقي الضوء على قصر قامتها كما أنها تفضل الاثواب بلا اكمام أو بأكمام قصيرة عكس ذوقه الذي يميل للأكمام المغطية على الأقل ثلثي ذراعها، إلا انها تكون سعيدة للغاية حين ترتدي منها فهذا يعني يومًا كامل من المديح والكلام المعسول الذي يلقيه على مسامعها وكأنه يكافئها على إتباع ارشاداته.
في أعماقها الثائرة هي لا تريد الاعتراف بسعادتها لكن البقاء غاضبة منه درب من دروب المستحيل، فمن يغضب على خفقات قلبه، لن تنكر انها تلقي باللوم عليه كلما اشتد عليها التفكير كل مساء في محاولة لتفسير عدم الاهتمام من أصدقائها لكن هذا اللوم يتلاشى مع كل تفكير وتصرف جديد تتأكد من خلاله صدق كلماته وصواب قراره.
ولا تدري كيف استطاعت في وقت قياسي أن تتحول من الانزعاج والتخبط إلى الحماسة والاندفاع لقضاء يومها داخل عالمها الجديد الذي حاكه هو لها من نسيج عالمه الرائع.
انعقد حاجبيها في تعجب عندما علا صوت جرس الباب فخرجت من افكارها تنادي والدتها والتي على غير العادة أخذت عطلة بلا مرتب من عملها وأصبحا يمضيا وقتًا أكثر سويًا حتى أنهما اشتركا في نادي رياضي معًا بحجة إخراج طاقتهما السلبية بدلًا من إخراجها على أحدهم الاخر. -هفتح يا ماما اهوه.
ردت على أماني الهاتفة من المطبخ تخبرها بفتح الباب، ثوان قليلة وفتحت للطارق لكنها وقفت متسمرة في مكانها حين رأت ريناد صاحبة الملامح المتجهمة المشعة باللوم. -اهلا يا ميرا، هدخل ولا هستنى على الباب؟ -لا طبعا اتفضلي. أخبرتها متلعثمة ثم ابتعدت قليلًا عن الباب سامحة لها بالدخول، خرجت والدتها التي توقفت في منتصف الطريق ثم أخذت تتفحص ريناد في غموض قائلة: -ريناد، غريبة بقالي كتير ما شوفتكيش.
-سوري يا طنط انشغلت. لم يفت على ميرا كيف رمتها ريناد بنظرة معاتبة في المنتصف لكنها وقفت كالتائهة لا تدري كيف تتصرف فلم تكن المواجهة في الحسبان، حسمت ريناد الوضع بقولها: -كنت محتاجة أتكلم مع ميرا شوية. صمتت ناظرة نحو ميرا التي بللت شفتيها ثم اشارت نحو غرفتها قائلة: -اتفضلي. دخلا معًا تحت عيون والدتها الثاقبة التي ركضت نحو الغرفة الخاصة بها تسحب هاتفها تجري اتصالًا هامًا:.
-ألو، لازم تيجي بسرعة، ريناد هنا وطلبت تكلمها لوحدها. صمتت تستمع إلى الجانب الأخر ثم هزت رأسها تخبره: -حاضر هحاول، أرجوك بسرعة.
داخل جدران الغرفة لم تضيع ريناد الوقت وبدأت في جلدها دون انتظار: -متشكرة على البلوك، مكنتش متخيله ان دي قيمتنا عندك. -وأنتوا لسه فاكرين تلموني. تمتمت متهكمة في نبرة منخفضة تحاول التحلي بالشجاعة لمواجهتها ومواجهة أحزانها، فقالت ريناد مهاجمه حصونها: -الشلة كلها خدت بالها وكلنا زعلنا عشان الرسالة كانت واضحة. -رسالة أيه؟ -انك اختارتي زيدان علينا.
عجزت ميرا عن إيجاد ردً مناسب وكل الأحاسيس والغضب المشحون طوال الأسبوعان الماضيان تبخرا أمامها وجعلها تتساءل عن قراراتها وظنونها من جديد، أنقذتها ريناد من الرد حين أكملت في نبرة ماكرة: -بلاش تخسرينا احنا بنحبك، وعشان نثبتلك انك مهمة أنا جيت بنفسي عشان أخدك ونتجمع سوا من تاني، احنا مستعدين ننسى تصرفاتك واللي حصل منك ومتأكدين ان زيدان اللي أجبرك.
شعرت ميرا بالتخبط والاضطراب وبأن أنفاسها بدأت تقصر وتثقل، تشعر بمصيرية القرار وأن فيه الاستمرار أو الانتهاء لأنها ببساطه بمرافقتها ستثور ثائرة زيدان ولن يرحمها تلك المرة. كما ان هناك صوت طفيف داخلها يعلو بكونها ترتكب أكبر أخطاءها بسيرها وراء تعاليم زيدان، وهناك صوت أعلى يصرخ بأنه لم يجبرها وأن من عصر قلبها كان هؤلاء الرفاق وهم بقسوتهم من أخسرها الرهان أمامه.
لا تعرف كم مر عليها الوقت وهي صامتة ولكنها ممتنة ل ريناد التي تركتها غارقة في أفكارها ونقلت اهتمامها إلى مكالمته تدور بينها وبين أحدهم على هاتفها لبضع دقائق ولكنها التفت لها ما أن انتهت محفزة: -تعالي يا ميرا كلنا مستنينك حتى ليلو مستنياكي عشان تعتذرلك. كان عقلها مرجوج، كزجاجة فاغرة ألقيت على الطريق فظلت تتدحرج وتتدحرج بحثًا عن الاستقرار والثبات ولكن مُكر الهواء من حولها كام لها بالمرصاد.
غرقت في حيرتها غير قادرة على رفع عيناها عن اصابعها المشبوكة فوق حجرها حتى إنها لم تهتم بفتح الباب أو عن الزائر حين أعلن الجرس عن وصول أحد الزائرين حتى إنها لم تنتبه وتتعجب حين وصل صوت ترحيب والدتها المتبوع بحجة أغرب وأغرب وهي تطلب من أيًا كان الانتظار حتى تنتهي من الاستحمام!
توقف زيدان أمام باب الغرفة بعد أن صارع الزمن والطريق ليصل في هذا الوقت القياسي وأجل سيكون هناك عدة مخالفات تنتظره في إدارة المرور، وما أن تحركت والدتها للاختفاء في الداخل اتجه نحو باب غرفة ميرا ثم رفع كفه يطرق مرتين في هدوء يخالف الغضب الأهوج في صدره. فتحت ميرا المذهولة من تواجده، فارتفع حاجباه باتهام وهو يطالع هيئتها وملابسها فعلى ما يبدو أنها كانت على وشك الخروج.
انتقلت عيناه الجاحظة فورًا إلى ريناد من خلفها ساخرًا: -واضح إني وصلت في الوقت المناسب. دفع ميرا للداخل، وانضم لهما مغلقًا الباب خلفه ثم أكمل في نبرته الساخرة: -ناوين تروحوا مكان؟ التوى فم ريناد في غرور تحاول اخفاء ارتباكها من حضوره الغير متوقع، فهاجمت في لا مبالاة: -أيوة رايحين.
جلس فوق مقعد مكتبها وكأنه يمتلك الغرفة ثم حرك أصبعه مشيرًا لميرا بالاقتراب تحت انظار ريناد وكأنه يوثق ملكيته عليها، فشعرت ميرا بالذعر وكأنها كانت على وشك ارتكاب جريمة شنعاء، دائمًا ما تحيطها لفحة من الارتباك أمامه وكأنها طفلة مدللة على وشك تلقي العقاب من أبيها. تعلقت أسنانها بطرف فمها في توتر واتخذت خطوتين مقتربة منه قبل أن يسألها في كامل هدوءه الغامض: -عايزة تروحي معاها؟
حركت رأسها لليسار واليمين نافية مرات عدة دون تفكير بينما تجيبه: -لا مكنتش. انشقت على وجهه ابتسامة ماكرة أثناء تعلق عيناه ب ريناد التي على وشك الانفجار من الغضب، كانت ابتسامته كريهة تحمل مشاعره القبيحة نحوها ثم استطرد مشيرًا جواره في نبرة آمره لا تتحمل النقاش: -أقعدي يا ميرا، عشان في موضوع مهم ريناد هتقوله ليكي دلوقتي ولا أقول أنا؟
انكمشت ملامح ريناد في ضيق لا تفهم مقصده وتكره هذا الشعور الذي يصاحبها كلما رأت زيدان فهو يجعل مهمتها في التأثير على ميرا شبة مستحيلة وكأنه يضعها تحت التنويم المغناطيسي فتجلس لا ترى ولا تشعر بسواه.
تأففت تقنع ذاتها بأنها لا تخشاه إلا أن نظراته الناعسة دوما ما تثير القلق والرهبة داخلها وتجعلها خائفة من القيام بأي تصرف خاطئ قد ينتج عنه ردًا عنيفًا، رغم انه دوما كان يلتزم الصمت ويحاول عدم الاحتكاك بهم إلا أنها كانت ترى الأحكام القبيحة وعدم الرضا في مقلتيه.
قطعت أفكارها ميرا التي جلست جواره تنظر لها تارة ولزيدان تارة أخرى في حيرة متعجبة من احتمالية وجود أمرً مشتركً بينهما لكنها كسرت الصمت بسؤالها: -موضوع أيه؟ -أنا أعرف، أسألي جوزك اللي قاعد يصيح من الصبح وأنتي بكل هدوء راضية وساكته، مش مصدقة الخضوع والعبط اللي وصلتي لي يا ميرا!
جزت على حروفها تلعن في سرها تغير مسار مخططها، فقبل دخول زيدان إلى حياتهم لم تكن لميرا أي تأثير لا بالإيجاب ولا بالسلب بل كانت مهمشة يمكنك تشكيلها كالصلصال في أي اتجاه تريده ولكن مع وجوده فقد أجبر ميرا على إشغال حيز من تفكيرهم لسببين الأول حضوره الطاغي الغير مريح بينهم، والثاني هو ازدياد ضغط رامي عليهم لمساعدته في استدراجها.
-طيب هنجز أنا، عشان مش فاضي لهري صاحبتك، عارفين القلم اللي في ايدي ده بيعمل أيه؟ قاطع زيدان فرصتها في ترتيب أفكارها وهو يجذب قلمًا من مقدمه قميصه، نظرت له ريناد وكأنه فقد عقله تمامًا مجيبة في تهكم: -يمكن قلم وبكتب بيه وكده، لا كده كتير مش هقدر استحمل. فردت ذراعيها في عدم تصديق وهي تهم بالمغادرة فأوقفها زيدان سريعًا بكلماته الصادمة: -دي كاميرا مراقبة بتسجل صوت وصورة.
غامت عيون ريناد في غموض وهي تتفحصه متسائلة في صمت وقد سرق انتباهها بالكامل، فاستكمل مجيبًا أسئلتها الحائرة: -كاميرا كنت بسجل بيها كل زياراتي معاكم، وقد أيه أنتم بتقضم وقت لطيف سوا... ضغط حروفه على وقت لطيف وراقب كيف بدأت نواقيس الخطر تدق في رأس ريناد ثم استكمل باعتياديه وهو يعيده داخل جيبه: -وأنتم في التقضيه مفيش ياما ارحميني، سُكر تلاقي مخدرات تلاقي و...
صمت لبرهه يرمقها بنظرة خبيثة ثم قال وكأنه يخشى على مشاعرها: -ولا بلاش أصل لما بعترض على البوس اللي عيني عينك رائف بيتقمص عشان أنتي لا مؤاخذه مراته. تعمد مط الكلمة الأخيرة في سخرية مشيرًا إلى موقف سابق بينهما، وشاهد في تشفي كيف تبدلت الالوان وتلاحقت فوق وجه ريناد التي ابتلعت القطة لسانها ولم تقدر على الحديث لكنه لم يرأف بها واستكمل في نبرة جدية متحدية:.
-تفتكري لو الفيديوهات دي وصلت لبابا هيعمل أيه يا ريناد، أو أفظع لو وصلت للبوليس أو أبشع لو نشرتها على السوشيال ميديا، هيحصلكم أيه؟ شحب وجه ريناد تمامًا ولكنها حاولت التماسك امامه، قائلة في تلعثم: -أنت كداب وحتى لو انت مستحيل تشير الفيديوهات دي تعمل لأن ميرا كانت معانا وأنت مستحيل تفضحها. -ليه متأكدة أوي كده؟ -عشان أنت بتحبها ومش هتأذيها.
مال رأسه لليمين نحو ميرا التي كانت تجلس كتمثال منحوت في عالم الإغريق يسبح حولها هدوء غريب يخالف العاصفة الهوجاء النافرة أسفل سوداويتيها الواسعة. كانت تطالعه وكأنه كائن غريب لا يمت للبشرية بصله ثم ابتسم ساخرًا لها كأنه يخبرها في صمت: أتسمعين حتى الشياطين يعلموا بمدى حبك الغائر في قلبي! تعمد تثبيت عيناه فوق عيون ميرا المرتجفة بينما يصرح:.
-صح أنا عمري ما هأذيها، بس لو بعت الفيديو لأهلك معتقدش الاذية هتكون ليها. التفت ينظر إلى ريناد وهو ينهي جملته مؤكدًا صدق تهديه وشاهد كيف اتكأت على الفراش خلفها جالسة وهي تخبره في استسلام: -أنت عايز توصل لأيه؟ -طلبي بسيط جدًا قولي لميرا على اللعبة من البداية وما تحاوليش تماطلي.
ابتلعت ميرا ريقها في صعوبة وهي تعلق نظرها بوجه ريناد منتظره حديثًا سيصدمها بشكل كبير ولم تخذلها توقعاتها حين بدأت حديثها في نبرة جامدة: -وأنا أيه يضمني إنك مش هتعمل حاجة بعد ما أقولها. -كلمة ووعد من راجل حر، اعترفي وأبعدي عنها وصدقيني عمري ما هفكر أدور عليكي حتى. أغمضت جفونها تستجمع قواها وهي تقلب الأمور داخل عقلها ثم فتحت عيونها، زافره في استسلام مسترسلة في الحديث دون النظر إلى ميرا:.
-رامي هو اللي أجبرنا ندخلك في الشلة ونرحب بيكي ونتقبل وجودك وسطنا عشان عايزك، وهو اللي اتحايل عليا أجي انهارده بعد ما كل الشباب رفضوا يتعاملوا معاكي من تاني وشافوا انك بتعيشي الدور عليهم وخدتي حجم أكبر من حجمك لما عملتي بلوك ليهم. -عايزني في أيه؟ همست ميرا الغارفة في صدمتها وقد اغرورقت عيونها السوداء بالدموع المكتومة فقلبها مليء بمشاعر مرعبه تضغط فوق مكنونات صدرها.
حدقها زيدان بنظرة مخيفة قائلًا من بين أنفاسه الغاضبة: -هيكون عايز أيه أكيد مش عايز يفسحك، أسكتي وأسمعيها للأخر. نظرت ريناد بينهم بارتباك لكنها استكملت: -كان عايز يخليكي بيكي زي البنات اللي معاه.
ثبتت ميرا نظراتها الحزينة والمحطمة على صديقتها بسبب ما تسمعه منها وفوجئت بالجحود النابع ممن كانت تظنها صديقة لها، وهي تجلس أمامها دون خجل أو الشعور بأي ذنب، فكل ما تفسره في نظراتها هي مشاعر عدم الراحة وكأنها لا ترغب بتضييع وقتها بالبقاء والتحدث أكثر.
حركت رأسها في خيبة أمل على قدرها الأسود وغباءها فلا أحد أحبها يومًا، تزايدت دموعها رغمًا عنها وشعرت باهتزاز عالمها من حولها ثم وجدت نفسها تهتف فيما ظنته صوتًا قوي لكنه خرج ضعيفًا منكسرًا: -عشان كده كنتي دايمًا بتقنعيني ان انسب حل ليا الارتباط عشان ابقى طبيعية وابعد عن قوقعتي! كاد يخرج منها نحيب قاتل محمل بعمق قهرها إلا إنه تحشرج في حلقها رعبًا حينما استقام زيدان مزمجرًا في وجهها:.
-إياكي تعيطي وتحزني عشان الكلاب دول. لم تجيب ريناد أيًا منهم لكنها وجهت بصرها نحو زيدان متعمدة تجاهل ميرا المنهارة، دون إظهار أي نوع من المشاعر الإنسانية سواء شفقة أو اعتذار نحوها، ارتفع جانب فم زيدان في اشمئزاز وتقزز قبل أن يبصق كلماته الحادة ناحيتها: -أمشي من هنا وإياكم تظهروا في حياتها تاني!
وقفت دون جدال وكأنها تتمنى سماع تلك الحروف للهروب فنهضت فورًا وفي ثوان كانت تغادر المكان، دون أن تعي مدى قسوة انسحابها الصامت وتأثيرة المدوي داخل قلب ميرا المتهتك، تاركة مكانها فراغًا كما كان دومًا. تحرك زيدان نحو ميرا التي مالت تخفي وجهها بين كفيها دون تصديق لما يدور في حياتها، فجثا أمامها يلامس أناملها لأبعادها عن وجهها هامسًا: -ميرا.
لكنها قاومت رافضة الافصاح عن وجهها، وانفجرت مجهشه في البكاء، علا صوت بكاءها وشهقاتها وفي ثوان كان صداها يدوي في أرجاء الغرفة وكأن بلمسه منه انكسر الجزع الأخير من مقاومتها وتحملها.
شعر بأن أحدهم اقتلع قلبه من مكانه وأخذ يطعنه طعنًا مع كل أنين باكي يخرج من فمها، سبحت الشفقة داخل عيناه فلا أحد يستحق مثل هذا الخداع والانكسار، فشخص مثلها محب بلا ثمن وكل ما يتمناه الاحتواء لا يستحق أن يتذوق قلبه الخذلان.
أحاط وجهها بكفيه يحثها على الهدوء بهمساته، لكنها فاجأته بالارتماء على صدره ساندة وجهها فوق كتفه، لم يجد في قلبه التمسك بالمبادئ أو التفكير فيما هو خاطئ وصحيح، فمد ذراعه فوق جسدها الباكي يضمها مجبرًا رأسها على الاستقرار أكثر فوق كتفه واستكمال البكاء، ربت عليها في حنو بالغ وبالرغم من سعادته لاكتشافها أمر الحقراء إلا أنه حزين على حالتها وما مرت وستمر به.
ربت على ظهرها رافضًا التراجع عن فعلته الغير لائقة بضمها إليه، ثم همس في نبرته الحانية: -كفاية عياط واحمدي ربنا انك خرجتي سليمة من بينهم. ابعدت وجهها الأحمر الملطخ بالدموع عن صدره، مردفه في حزن: -أنا مش سليمة يا زيدان. حركت رأسها بالنفي تحاول استعاده انفاسها المتقطعة من كثره بكاءها لتستكمل معبره عن صدمتها الكبيرة: -أنا مش مصدقه انهم ممكن يعملوا حاجة زي دي، أنا عارفة اني بحبهم أكتر بس متخيلتش.
سحب كفيها يضمهما بين كفيه أمام جسديهما وهو لايزال جاثيًا أمام مقعدها قبل أن يبثها بنظرة مليئة بالعتاب واللوم مؤكدًا: -أفهمي أنك أغلى من أنك ترضي ببواقي مشاعر، أنتي تستحقي ناس تحبك وتصونك مش ناس تقدمي تنازلات عشان تحافظي عليهم. -أنت مش فاهم احساسي. تقطعت جملتها المغطاة بالندم والحزن لكنه أوقف حديثها في صرامة وهو يمسك بأنامله وجهها المبتل:.
-أنا فاهم حاجة واحدة أن كل انسان بيغلط وكل انسان لازم يعيش تجارب فاشلة، لكن الانسان الواعي هو اللي يعترف بغلطه ويتعلم منه ويبدأ من جديد.
ثبت نظراته الودودة فوق نظراتها الحزينة يكاد يفقد صوابه ويميل لتقبيلها معترفًا بعشقه لها حتى ينسى كلاهما الألم، لكنه جذب نفسًا عميقًا لتمالكه رغباته، فما حدث كان حتمي وأمرًا لازم فوجود مثل هؤلاء الأشخاص في حياتها كان سيعيق تغيرها للأفضل، عاد انتباهه نحو ميرا الهامسة: -لكن هما... رفض جعلها تكمل حديثها بأن وضع أصبعه فوق فمها مردفًا:.
-خلاص مفيش حاجة أسمها هما، هما موضوع انتهى من حياتك ومن اللحظة دي مش هنتكلم فيه. خبط سبابته بجانب جبينها متسائلًا في جدية وهو ينتقل ليرفع ذقنها رافضًا هروب عيناها منه: -أنا هسألك سؤال واحد، ميرا كانت فعلًا سعيدة ومبسوطة وراضية عن نفسها وسطهم؟ دارت عجلة التفكير داخل رأسها الواقف عن العمل وقابلت سؤاله بصمتٍ طويل فتنهد مجيبًا عن سؤاله بشكل واثق:.
-صمتك فيه الإجابة، ما تحزنيش على حد ما يستحقش، أقعدي مع نفسك فكري في الناس اللي بتحبك فعلًا وبتهتم بيكي. لمعت عيناها السوداء في لحظة بمشاعرها نحوه حتى أنه كاد ينكب كجردل الماء معترفًا بكل مشاعره ولكنه لا يرى حالتها مناسبة لمثل هذا الالتزام العاطفي الآن، وهي تستحق اعترافًا سعيدًا يخلد بينهما.
ارتبك وانحصرت أنفاسه عندما مالت من نفسها تحتضنه مشعله بذلك حواسه، فسعل بخفه لان ضمه لها في البداية كان احتواء معنوي يساعدها على تخطي أسوأ مخاوفها ولم يكن هناك فرصة لتلصص مشاعره. أما الآن وقد هدأ كلاهما وتحولت كالهلام بين ذراعيه بدأ يشعر بمدى رقة جسدها الصغير وحلاوته المحرمة ضد جسده المتشنج.
رفع ذراعيه يبعدها عنه برفق وقد غزى لون وردي طفيف أذنه ولم يعطها فرصة للتساؤل عن سبب ابعادها، فقال بصوته الخشن المفعم باختلاط مشاعره: -حاولي تلجئي لمامتك شوية، اديها فرصة يا ميرا وصاحبيها، صدقيني محدش هيتمنالك الخير قدها. -أنا مش ببعدها يا زيدان بس هي... -لا يا ميرا متبرريش، خدي الخطوة الأولى أنتي وصدقيني عمرك ما هتندمي.
هزت رأسها موافقة قبل أن تخفض نظراتها لأسفل في صمت فابتسم ابتسامه خفيفة رافعًا رأسها ثم سأل في نبرته المشاكسة: -أنتي بتاخديني على قد عقلي. حاولت الابتسام لكنها انتهت بهزة صغيرة من شفتيها وهي تجيبه: -لا بجد أنا فعلًا محتاجة أرتب كل حاجة في حياتي من جديد وده أكتر وقت هحتاج ماما فيه، أنا هديها فرصة تاني عشان نفسي أكتر منها.
مرر إبهامه فوق وجنتها دون وعي منه غارقًا في ملامحها الحزينة وود لو يتركها ويقتنص أصدقاءها الواحد تلو الأخر كي يشفي غليله. بلل شفتيه يحارب سواد أفكاره ثم أخبرها في نبرة خافته: -أنا هسيبك تهدي وتحكي اللي حصل لمامتك وان شاء الله بكره الصبح هجيلكم، هتخكيلها بجد يا ميرا اتفقنا. شدد على كلماته وهو يمسك بنظراتها الغائرة فأكدت هامسة: -اتفقنا.
غاصت يده في رأسها يعبث بخصلاته قبل أن يستقيم ملوحًا وداعه لها، خرج مغلقًا الباب خلفه ثم جذب نفسً عميقً يؤهله للنصف الأخر من المواجهة.
رفعت أماني وجهها الغارق بعبراتها تطالع زيدان من مجلسها بمنتصف الصالة، فقلبها الحزين لم يسمح لها بالوقوف خلف باب طفلتها وتستمع إلى حالتها دون اقتحامها وافساد الأمر بعد كل هذا التخطيط. استقامت تقابل زيدان ذو الملامح المنهكة في منتصف الطريق متسائلة في لهفه: -قدرت تهديها؟ -ايوه بس هي مش محتجاني أنا حاليًا، اللي جاي دورك أنتي وفي ملعبك.
حركت رأسها في صمت كما تفعل أبنتها حين تغلبها المشاعر، ثن أغمضت جفونها تشعر بغصة مريرة تتملكها والذنب ينهش داخلها دون رحمه، فقد سارت خلف الأنانية وقلبها المحطم من زوجها عديم المشاعر واغرقت نفسها في كل أمر قد يليها عن حياتها مهمله بذلك أهم شيء في حياتها، ابنتها الصغيرة الرائعة ذات القلب الذهبي التي فشلت في احتوائها وتغذيه مشاعرها. انهمرت في بكاءها من جديد فصدح صوت زيدان سارقًا إياها من رثاء الذات:.
-الانهيار والاستسلام مش الحل، حضرتك يا طنط لازم تكوني قوية لأن هو ده الوقت اللي يا تستردي بنتك فيه يا تخسريها للأبد. -عندك حق. هزت رأسها في موافقة ثم أمسكت يده تعبر عن امتنانها له: -أنا مش هقدر أوفيك حقك ولو شكرتك من هنا لنهاية عمري. قالت وهي تعود بذاكرتها إلى اليوم الذي تواصل فيه زيدان معها والذي أصابه الخوف والهلع حين رفضت ميرا التواصل معه وحاولت إبعاده عنها.
في هذا الوقت كانت في رحلة عمل لكنها قطعت وقتها وهمت عائدة إلى أبنتها متخيله المخاطر التي تجبر زيدان على إفشاء سر خطير كهذا على الهاتف، كما ارعبها حديثه المستمر عن استسلامها المريب لألاعيب أصدقاءها القذرة. تحمد الله انه نبهها للحياة التي تعيشها ابنتها في غيابها وكيف كادت تغرق في مستنقع كريه مع الأفاعي المحيطين بها.
ستظل شاكرة لزيدان وسعيدة انها واقفت على مخططه بترك زمام الامور له في محاول أخيرة لاستعادة ابنتها، لأنها متأكدة انها لم تكن ستنجح في انتشال ابنتها ابدًا دون إلحاق الضرر بها. -ادخليلها يا طنط. بذلك تحرك زيدان للمغادرة ولم يتوقف حتى ركب سيارته وسند رأسه فوق المقعد متنفسًا الصعداء، لا يصدق أن الأمر انتهى، نعم الطريق أمامه صعب وخطير لتخطيه ولكنها بداية العبور في قصتهما.
مرر كفه فوق وجهه مرات متتالية ولأول مرة يشعر بالراحة تكتسي صدره، سعيدًا للغاية ان قراره في إخبار والدتها كان صائبًا فميرا تحتاجها الآن أكثر من أي وقتً مضى.
ولولا خوفه عليها من أصحاب السوء وبقاءها بمفردها في غياب والدتها مع تلك الحرباء التي استمرت في ملئها بالأفكار السوداء نحوه لما كشف خططه، لكنه الآن يشعر بالفخر والسعادة والأمل ينتشران داخل عروقه، فقد انتصر على منبع السرطان المتوغل في حياتها واقتلعه قبل أن ينهش حياتها وحياته معًا.