تحركت ميرا داخل غرفتها في خطوات سريعة تقذف بعض ملابسها في إهمال داخل حقيبة الظهر تستعد لقضاء بضع أيام في منزل والدها، حتى تعود والدتها من رحلة عملها التي ستستغرق أسبوع كامل أو هكذا تظن والدتها لأنها بالطبع ستعود إلى منزلهم ما أن تسافر متظاهرة بانها قضت أيامها مع والدها المنشغل سوى عن منافعه الشخصية، قطع عبثها بأغراضها أتصال زيدان المبكر عن المعتاد فاتسعت ابتسامتها سعيدة ببدء يومهما منذ طليعته ثم اجابته:.
-صباح الخير. -امممم، صباح الورد، صوتك كان واحشني جدًا. انتقلت لها مشاكسته في صوته الخشن المنخفض الدال على استيقاظه للتو، فعضت شفتيها قائلة: -أنت لحقت، احنا لسه متكلمين بليل. طغت ابتسامتها الواسعة على كلماتها فابتسم ابتسامه صغيرة وهو يتحرك داخل غرفته: -والله العظيم وحشتيني. -شكرًا.
همهمت في خجل وقد احمرت وجنتيها فخرجت منه ضحكة ساخرة ولم ترى اهتزاز رأسه المتعجب من ردودها الخجلة فتشدق متهكمًا وقد تحولت هالته الهادئة، كغيوم ضربت السماء الصافية فجأة: -مش فاهمك وخايف تكوني بتلعبي عليا. -العب عليك؟ - أقصد أقول على طبيعتك، عشان غريبة أوي تبقي عاملة متجوزة في السر وبتخجلي كوكتيل غريب جدًا الصراحة.
انعقد حاجبيها في ضيق كأنه صفعها فطوال الأيام الماضية كان يتعمد جرح مشاعرها بكلماته الغير متوقعه، ولن تنكر انها كلما سمعت تحليله لتصرفاتها في صوتٍ عالٍ، تشعر بغصة تمتلك جوارحها وكأنه ينعش بويصلة الصواب والخطأ داخل قلبها كالكهرباء، لكنها تداركت الموقف فأخبرته غاضبة: -أنت قصدك أيه؟ تبدلت نبرته تمامًا وكأنه لم يحتقرها منذ لحظات وهو يردد في تلقائية:.
-مش قصدي أزعلك، لكن أنا ملاحظ حاجة غريبة فيكي وأنتي مع أصحابك. لعقت شفتيها في توتر وقد استرجع عقلها الكلمات العدائية المنبعثة من أبناء جيلها حول كونها مسخ اجتماعي يجب تقييده وعدم السماح له بمخالطة البشر، لكنها جلست على فراشها تشعر بالدوار متسائلة في نبره ظنتها حادة لكنها خرجت مهتزة: -غريبة؟ -أنتي أكتر إنسانه خجولة وعلى طبيعتها شوفتها في حياتي.
أجابها في نبرة واثقة يعلم جيدًا إنه يربك دواخلها ويثير التساؤلات حول تصرفاتها، فمن قضائه الوقت الماضي معها تأكد إنها شخصية رقيقة هشة غير مكتملة الملامح، ف ميرا شبيهه بنسمة هواء عليل يتحكم بها الغلاف المحيط حولها فأن كانت السماء صافية ظلت تتخللك بعبير الطبيعة من حولها وأن احتلتها الغيوم تحولت لرياح شديدة محملة بالغبار تنتظر تخبط السحب حتى تهطل الأمطار وتتحرر متطهره.
هي فتاة حائرة تائهة في دوائر الزمن، ودرجات نضوجها الفكري متوقفًا نوعًا ما، ليس وكأنها مصابة بخلل عقلي بل هي مصابة بخلل اجتماعي وشخصي وهبوط حاد في الجانب التربوي. خرج من أفكاره الغامضة بالنسبة لها على صوتها المستنكر: -وده المفروض حاجة وحشة؟
جذب نفسًا عميقً يدري انها لا تملك من القوة والسيطرة كما تدعي، وفي بعض الأوقات يتملكه هذا الشعور بانها تتوهم قوتها وتهورها بمعنى أخر كأنها تتلبس شخصًا بصفات ليست هي، بدأ يتنقل في غرفته مردفًا في جدية ممزوجة بتهمك متعمد وكانه يتلذذ بإمكانية نفاذة داخل شرنقتها وبالتخبط المشع من نبرتها:.
-وحش لما يبقى الوقت الوحيد اللي بتتصنعي فيه هو وقت وجودك مع أصحابك، طالما مش قادرة تندمجي وتتكيفي معاهم بشخصك متمسكة بيهم ليه دول حتى مش بيهتموا بوجودك معظم الوقت! كان مدرك إنه يمزق مشاعرها الحساسة ولكنه غير قادر على تحمل غيرته المستجدة بشكل مرعب نحوها وكأنها تخصه وحده دونًا عن غيره ولا حق لهم برؤيتها، فهو غير قادر على كبح رجولته الثائرة داخلة كالبركان كلما تأكلت نظرات رامي المهتمة تلك الغافلة.
حاول زيدان محاربه مشاعره الحقيقة وإخمادها طوال الفترة الماضية إلا أنه لا يستطيع التحمل أكثر وصار على وشك الانفجار ونفث الحمم من فمه، ساد الصمت من طرفها أكثر مما ينبغي فاستطرد يسرقها من أفكارها: -أنتي عارفة اتصلت بيكي ليه؟ -عشان تهزأني؟! ردت متهكمة فكاد يبتسم ولكنه كبح ابتسامته مغيرًا تكتيكة الهجومي عليها مؤكدًا في نبرة خافتة خرجت حانية للغاية:.
-المطعم خلص امبارح بليل، وعايزك أول واحدة تشوفيه في شكله النهائي. أجل، هذا الرجل قادر على قلب أفكارها وموازين مشاعرها في لحظة وقد انتقلت من غضب وحزن وجلد ذاتها إلى ذلك الشعور الدافئ الذي يسْكُن القلوب، كدفء السماء وقت غروب الشمس، وبدلًا من أن تصرخ ببعض الكلمات المجهزة داخل عقلها عن خطأ تحليله لقوة علاقتها هي وأصدقائها، وجدت لسانها يتحرك لا إراديا سائلًا في عدم تصديق: -ليه أنا الأول؟
-السؤال الصح من امتى وازاي؟ بس في الحالتين مش محتاج أجاوب. ضاقت جفونها مستشعرة نبرات غرورة وكأنه ملكً تتحرك الجاريات تحت ساقيه وقبل أن توبخه دلفت والدتها قاطعة حديثهم على عجلة: -أنتي لسه ما جهزتيش لازم تتحركي لباباكي قبل الزحمة ده غير اني نازلة كمان ربع ساعة. غطت الهاتف بكفها مجيبة في نبرة ثابتة: -أقل من خمس دقايق وهبقى قدامك.
خرجت والدتها تاركة لها حرية التجهيز وحين أعادت الهاتف على أذنها قال زيدان في تعجب: -أنتي رايحة لباباكي، أفهم من كده مش هينفع تيجي؟ -لا طبعا ساعة وهكون في المطعم، مش هروح لبابا اصلا. ظهر التعجب والاستنكار جليًا من صوته المتسائل: -مش فاهم؟ -لما اشوفك هفهمك، باي.. وبذلك انتهت المكالمة ثم ركضت ميرا تضع أغراضها دون اهتمام فكلها ساعات قليلة وتعود كل الأغراض إلى موضعها الأصلي.
جال زيدان أمام بوابة مطعمه وهو ينظر إلى ساعة يده للمرة المائة في تذمر، يعد الدقائق السابقة على وصول ملكة الحسن والجمال، ويتملكه حماسة كبيرة وفضول أكبر لمعرفة رأيها في مطعمه صحيح إنه ملك مشترك بينه وبين أصدقائه ولكن عقله وأفكاره هو الذي أوصلهم هنا لامتلاك مبنى يساوي الكثير. هذا المكان يعد بئر الأماني وبداية حلم لطالما راوضه، ملئه بشقائه وعرقه الذي لم ينضب بعد والكثير الكثير من مدخراته.
عاد من أفكاره مجددًا نحو ميرا والتقدم الكبير الذي احرزه معها وكيف نجح في الشهور الماضية من سحبها تدريجيًا من حياة هؤلاء الحمقى، ابتسم في نصر فقد نجح في حصر لقائهم من ثلاث مرات أسبوعيًا إلى مرة كل أسبوع أو عشرة أيام، وفي مقابل تفويت تلك اللقاءات كان يصحبها للتجول والخروج معه بدلًا من قضائها الوقت معهم. وهذا في قاموسه بداية النصر...
فرك شعيرات ذقنه النامية، مفكرًا أن عليه الذهاب لصالون الحلاقة اليوم، فلا يجوز لمالك مطعم أن يبدو كالمتسكعين، ضحك على مزحته الصامتة ثم التفت حوله في حرج خوفًا من أن يلاحظ جنونه أحدًا ويظنه هارب من المرستان. زفر مغتاظًا بعد دقيقة وقد عاد غياب ميرا إلي ذهنه، اللعنة، لما عليها التأخر اليوم بالذات؟
حرك رأسه في حركة يائسة محاولًا إدراك وتفسير تلك الرغبة المُلحة بضرورة حضورها وخوضها تلك الخطوة الهامة في حياته جواره، بلل شفتيه متوترًا فقد أحتلت ميرا معظم أفكاره وطبعت طابع مميز على أوقاته، طابع غريب هو غير مؤهل لتفسير غرابته. فمنذ متى كان لها هذا التأثير وكيف توغلت محتله مكنونات قلبه؟
قطع تأمله وصول ميرا وبشكل تلقائي ارتسمت السعادة على محياه ليوازي ابتسامتها الواسعة، انتقلت عيناه فوق جسدها الذي بدأ يزداد امتلاءً مع كل يوم يقضياه معًا ليتأكد له ان سبب نحافتها المفرطة قديمًا كان مرتبط بانفعالاتها النفسية، راقب وجنتها الحمراء ووجهها المتوهج دون أدوات الزينة والتي لا حظ انها تفرط في استخدامها فقط وقت لقاء أصدقائها، نفض أفكاره عنهم لا يطيق تذكرهم، وتابعها تقترب منه قبل أن تصفق مرة في حرارة متفوهه في لهجتها الحماسية:.
-أنت لسه واقف برا، أفتح الباب متحمسة أشوفه. حافظ على ابتسامته الشبة متعجرفة رغم علو دقات قلبه المترقبة ثم استدار نحو الباب يفتحه في بطء، اندفعت هي قبله في صدمة وفم مفتوح تدور بعينيها حول المكان في انبهار جلي وسرور كبير، ضحكت وهي تصفق كفيها قافزة مرات متتالية معلنه: -تحفة أوي، ذوقك خطير يا زيدان! -مبسوط إنه عجبك.
أخبرها في صدق وسعادة وهو يمرر نظره حول المكان فخورًا بإنجازه، ثم خرجت منه ابتسامه ساخرة عندما ركضت ميرا نحو ركن الألعاب للأطفال مأخوذة بالألوان بينما تتمتم بكلمات حماسية لم تصله لكنه اتبعها قائلًا في مشاكسة: -مش هينفع تدخلي غير بولي أمرك. قلبت عيناها في استخفاف من كلماته المستفزة ثم وضعت يداها في خصرها قائلة: -أنا كملت عشرين سنة بلاش تعيش الدور. -ولو عندك تلاتين سنة، هتفضلي طفلة في نظري.
تسمرت ميرا تطالعه في هدوء يخالف الجنون داخلها ثم بللت شفتيها دون قدرة على فهم سبب ارتباكها اللحظي الذي احدثته كلماته داخل جوانب صدرها، لكنها نظرت بعيدًا عنه. اقترب زيدان منها يتفحص طريقتها المضطربة في فرك خصلاتها الطويلة، ثم غير مجرى الحديث بقوله: -فهميني أيه حكايتك مع مامتك وباباكي انهارده؟ أنهى جملته وهو يشير إلى إحدى الطاولات يحثها على الجلوس معه فاتبعته أثناء اجابتها:.
-مفيش، ماما عندها شغل ولازم تسافر أسبوع، وفي الحالات دي بكون مجبرة إني أروح أعيش مع بابا طول الأسبوع، لحد ما ريناد اقترحت عليا حل جهنمي خلاني أقدر أهرب من الضغط ده كله. ارتفع حاجبه في تشتت ثم سألها متعجبًا: -ضغط عشان هتعيشي مع والدك كام يوم؟ -قصدك هعيش مع الحيطان كام يوم، بابا بينسى ان عنده بيت أصلًا ولو شوفته بيكون بالصدفة، يبقى الأفضل أني أفضل بعيد عنه.
حرك رأسه متفهمًا مشاعرها سعيدًا إنها أصبحت أكثر تفتحًا وانسيابيه في الحديث عن مشاعرها الصادقة نحو أبويها، لكنه لم يمنع سؤاله الفضولي: -وأيه هو اقتراح الهانم الجهنمي؟ لوت شفتيها في انزعاج وهي ترمقه محذرة، تدري انه لا يطيق ريناد بلا أي مبرر منطقي لكنها استمرت تخبره: -أبدًا، بما ان بابا وماما منفصلين ومفيش تواصل بينهم بأي شكل من الأشكال ومقاطعين بعض من سنين،.
فأنا أقدر بعد ما تسافر أرجع البيت وأفضل فيه لوحدي لحد ما ماما ترجع وتلاقيني مستنياها وكأني لسه راجعة من عند بابا، وكأن شيء لم يكن.. أنهت كلماتها بحركة طفيفة من كتفها وكأن ما يحدث هو مركز الاعتيادية، كبت داخله ألفاظ بذيئة يكاد يمطرها بها ويلعن فيها صديقتها الحقيرة ذات الأفكار الشيطانية، وجز على أسنانه يحاول تمزيق الغضب المتأجج داخله من أفعالها المتهورة ثم سألها في لهجه عنيفة:.
-وافرضي حصلك حاجة أو دخل حرامي وانتي لوحدك هتتصرفي ازاي؟ -ساعات كتير، ريناد بتبات معايا. قالت في سرعة مبررة ولكنه هتف في وجهها غير مراعي للهدوء الكامن من حولهما فرج صوته أنحاء المكان: -الله يحرقها على اليوم اللي شوفتيها فيها هي البنت دي شيطان رجيم ولا عملالك عمل اسمه تمشي ورا كل كلامها حتى لو غلط! -زيدان أنت بتتعصب ليه من غير سبب؟
همست منزعجة من تصرفاته الهوجاء ولكن جزء منها لا يزال يخشى غضبه ويربكها صوته العالي، فأكمل في حدة مؤكدًا: -متعصب عشان أفعالك الغلط كترت، لو مش خايفه على نفسك خافي عليها عشان خاطر اللي حواليكي لو حصلك أي حاجة ريناد مش هتنفعك! -أنت ليه محسسني ان الحرامية وقطاع الطريق مراقبني ما أنا بقالي شهور بعمل كده ومحصلش حاجة.
قالت مستنكرة وهي تعقد ذراعيها أمامها مغتاظة من انقلاب جلستهم الهنية الهادئة إلي أخرى مليئة بالصياح والشجار كالعادة. حرك زيدان رأسه مرة للأعلى والأسفل ثم أردف: -جميل أوي، أحنا نستنى المصيبة تحصل وبعدين نندم، صح كده؟ هو ده مبدأك ومنطقك في الحياة؟ حاولت الهرب من الاجابة فقالت ممازحة: -أنت بس اللي بتخاف عليا. لكن اجابته جاءت صريحة فاقدة لأي نوع من أنواع المرح: -أيوه بخاف عليكي!
لمعت عيناه بلمعه ارتعش لها قلبها الأحمق فهمست كالمغيبة تسبح في لون عيناه الناعسة: -ليه؟ -أنتي عارفة ليه! -لا مش عارفة، قول... ابتسم في شقاوة بعد أن تذوق اللهفة في نبرتها مدرك تمامًا لما ترغب في سماعه لكنه قرر ملاعبتها أيضًا بقوله: -طيب ما تقولي أنتي.
عضت شفتيها في توتر تهرب من عيناه الثاقبة وأنقذها رنين هاتفها فأسرعت تخرجه من حقيبتها إلا أن ملامحها اهتزت وهي تقرأ أسم ريناد فوق الشاشة، فوقفت متوترة تبتعد في صمت عن مرمى عيناه المتسائلة، وعندما تأكدت من ابتعادها عن الغاضب خلفها أجابت مسرعة: -ألو يا ريناد... -ميرا، هنتقابل انهارده ساعة بدري. -اه okay هقول لزيدان... قاطعها صوت ريناد المنزعج:.
-لا احنا عايزين نقعد معاكي لوحدك بلاش تجيبي سي زيدان معاكي المرة دي. -ليه مش فاهمة؟ -الصراحة كده لما بيكون موجود كل اهتمامك بيبقى عليه واحنا مش بنقدر نشبع منك نهائي. -لكن أنا قولتله من بدري اننا جايين ومش هينفع أقوله ما يجيش. -اتصرفي يا ميرا، أنا مضطرة أقفل عشان رائف ييناديني، سلام... أغلقت الهاتف وهي تشعر بالحيرة والتخبط عن سبب رفض أصدقائها لتواجد زيدان؟
لماذا بدأت تشعر بالضغوطات تتجمع فوق كاهلها ومنذ متى وهم يهتمون؟ عادت بها ذكرياتها إلى أول يوم التقت فيه بجمعها المجنون من الأصدقاء.
كانت ميرا جالسه في النادي بجوار تالا المسكينة أبنه صديقة والدتها والتي أجبرتها والدتها على الخروج معها شفقة منها أو تلبيه لتحايل أماني التي تريدها أن تخرج وتنشئ بعض الصداقات، فهي تبلغ من العمر الثامنة عشر ولا تزال منطوية ساكنة كطفل فطمته أمه عن الرضاعة حديثًا.
ابتلعت ريقها في توتر والقت نظرة جديدة على تالا التي تبتسم وتشير للجميع من حولها في سلاسة واعتيادية متمنيه لو تستطيع الخروج من جلدها ولبس شخص أخر ك تالا كي تجرب هذا الشعور بالطبيعية ولو لثواني معدودة. تنهدت مغمضة عيناها تحاول استحضار تلك الفيديوهات النفسية والقراءات الكثيرة التي تتعلم منها محض الخجل، والتصرف كأنها شخصًا أخر أكثر ثقة، شخصًا سعيدًا عاديًا، شخصًا ليست هي.
شيئًا ما تحرك داخلها في تحدي ففتحت جفونها في إصرار تحاول هدم أسوار عالية تحكمها ثم أخذت تحدق في تالا المبتسمة للمارة واتسعت عيناها وهي تتابع كيف لاحت من تالا نظرة لعوب نحو شاب مارًا جوارهم تلتها ابتسامة مغوية وراقبت كيف كاد يتعثر الشاب أرضًا. قطع ذهولها صوت ضحكات تالا المتسلية قبل أن تستأذن ذاهبة للمرحاض هاربة من ملل تواجدهما سويًا.
وجدت ميرا نفسها تطالع المكان من حولها وشيطانها يدفعها للخروج من قوقعتها وملاحقة شبابها الضائع في الخجل والصمت. كان عقلها يسبح في تصورات غريبة وكأنها في بلد أخر وحولها إنسً أخرون ووسط جنون انفعالاتها تفاجأت بأن عيونها معلقة ومستقرة فوق عيون سوداء شقيه تتابعها في فضول.
اتسعت عيناه السوداء المرتعبة وابعدت انظارها سريعًا، ثم مدت أصابعها المرتعشة تحتضن كوب العصير ترتشف منه منقذه حلقها الجاف ورغمً عنها حانت منها نظرة نحو الشاب الذي غمز لها في وقاحة ما أن التقت عيناهما. عضت شفتيها واستسلمت لشيطان أفكارها وهي تجبر ذاتها على الاختباء في بؤرة سوداء بعيدًا عن تلك الحياة الغريبة التي تستهويها.
علت انفاسها وكادت تقسك انها شعرت برجفه كفيفه في جسدها إلان أنها اجبرت ابتسامة فوق ثغرها في محاولة فاشلة لتقليد سحر تالا ومحاولة الابتسام تجاه الشاب الذي تفاجأت به ينتصب من مكانه ويتجه نحوها في خطوات ثابتة، شهقت في صدرها وكادت تركض هاربة ولكن كل عضلة في جسدها كانت مخدرة بنشوة فعلتها الخاطئة، فظلت مكانها حتى وقف الشاب أمامها مباشرة قبل أن يمد يده لمصافحتها قائلًا في ثقة:.
-أنا رامي التهامي، ودول أصحابي شافوكي لوحدك ومصرين انك تيجي تقعدي معانا ونتعرف على بعض أكتر. انفرج فم ميرا على وسعه ورفعت أصابعها تلامس صدرها في صدمة متسائلة: -أنا؟ -اه أنتي، لو مستنيه حد تقدري تجيبي معاكي، احنا حبينا نكون اصدقاء جديدة مش أكتر. قفزت من مكانها حين طال صمتها وكاد أن يغادرها ظنًا انها ترفض عرضه، لكها أوقفته في حماسه متلعثمة: -لا أنا لوحدي ومش مستنيه حد.
ابتسمت في بطء حين اتسعت ابتسامة الشاب المشرقة واشار لها بالتحرك خلفه، شعرت ميرا بقلبها يدق في عنف وكأنه يحارب كي ينخلع من بين ضلوعها، لا تصدق أنها على وشك إقامة صداقات للمرة الأولى في حياتها، أصدقاء حقيقين، أثارت هي انتباههم وليست مكانه والدها أو شفقة بسبب تحايل والدتها لمرافقتها بعض الوقت.
تجربة جديدة متلهفه لتذوق حلاوتها والشعور بالأدمية من جديد، مستعدة التضحية بعمرها كله في سبيل نجاحها أمله بأن يستقر بها السبيل، نظر جميع الجالسون حول الطاولة نحو رامي المبتسم في غرابة وغموض ما ان انضموا إليهم لكنهم بدأوا في التعريف عن أنفسهم بشكل بطيء ما أن أخبرهم رامي بنبرته اللطيفة بينما هي كانت تطالعهم في سعادة كبيرة وكأنها ربحت اليناصيب وتركت نفسها تنساق وراء شخصية وهمية رسمتها لنفسها كي تحذوا حذوها، ومن هنا كانت بداية اللعبة.
عادت من ذكريات الماضي وكادت تصرخ في خضه عندما شعرت بزيدان على بعد خطوة واحدة منها ونظراته الغامضة لا تؤشر بالخير خاصة عندما فتح فاهه قائلًا: -كانت بتقولك أيه؟ -أبدًا كانت... صمتت عندما رفع أصبعه بينهما يوقف حديثها محذرًا: -إياكي تكدبي عليا. نظرت للأسفل في صمت وأصابعها تعبث بشاشة هاتفها السوداء لكنها رفعت عيناها الحزينة نحوه عندما أخبرها: -مش حابين أجي معاكي مش كده؟
كان صمتها يؤكد كلماته، فضاقت عيناه الناعسة بتهديد وأستمر منفعلًا: -وأنتي هتروحي من غيري؟ أصرت على صمتها فأبتعد عنها للخلف خطوة واتبعته عيناها الحائرة قبل أن يعلن في نبرة ثابتة رغم غليان دمائه: -لو روحتي من غيري، هيبقى فيها زعل كبير يا ميرا، ردي عليا هتروحي من غيري؟ عضت ميرا شفتيها تكاد رأسها تنفجر من كثرة التفكير لكنها حسمت أمرها عندما ثبتت عيناها فوق عيناه الساحرة وحركت رأسها في نفي هامسة:.
-لا مش هروح من غيرك. تبًا فالحياة غير عادلة.. فكرت في هلع عندما ازدادت ضربات قلبها بشكل درامي عنيف ما أن أرسل لها ابتسامته الحانية والراضية شاعره بدفء يغمر صدرها وكل ذرة في جسدها بسبب هذا الرضا المنبثق منه نحوها. اقترب تلك الخطوة الفاصلة بينهما ثم مد كفه يلتقط إحدى خصلاتها المستلقية فوق كتفها يدلكها في دلال ورقة بين أطراف أنامله هامسًا في نبرته الهادئة التي ترعش أطرافها: -شطوره، عارفة ده معناه أيه؟
-أيه؟ خرج صوتها بأعجوبة مع ضيق حنجرتها بسبب قربه الحار منها، ثم مررت لسانها فوق شفاها الجافة متوترة عندما بدأ يحرك إبهامه على جانب وجهها من أسفل أذنها حتى ذقنها المدبب الصغير، قبل أن يستطرد مؤكدًا: -معناه أننا هنخرج مع بعض طول اليوم، ودلوقتي مطلوب منك تروحي تجهزي وخلال ساعتين هاجي أخدك، اتفقنا؟
اشرقت تفاصيل وجهها في سعادة فلطالما كان مشغولًا غير قادر على سرقة أكثر من ساعة او اثنتان من يومه لها، صحيح انها ليست المرة الأولى لخروجهما بعيدًا عن أصدقائها فقد فوتت العديد من لقاءات ليالي الأصدقاء كي تلتقي به للعشاء في الخارج أو التسكع في السيارة كالأحبة، معترفة لنفسها انها تستمنع بتلك اللقاءات الصغيرة أكثر من أي شيء طرأ عليها طيلة حياتها. -اتفقنا.
وبالفعل بعد ساعتين ألتقى الأثنان وبدئا تسليتهم المفضلة ألا وهي التجول داخل السيارة ولكنها اليوم سيارتها الوردية، رفع زيدان الموسيقى عاليًا وكأنه يُرضي في صمت رغباتها المراهقة التي باتت تنعكس على أفعاله قبلها وكأنه يقرأ كتاب من تأليفه حاك فيه سرده وحواره، ثم غمز لها حين لاحظ لمعة السرور والرضا في عيونها الرائعة ما أن سمعت الموسيقى الصاخبة.
تنهد معيدًا تركيزه نحو الطريق قبل أن يترك نفسه ليغرق في حلاوة أنهارها العذبة. هدر صوت هاتفها فرفعت اصابعها بتلقائية تخفض صوت المذياع عندما انتبهت لأسم رامي المكتوب فوق للشاشة وأجابت سريعًا: -ألو يا رامي عامل إيه؟ لم تنتبه إلى زيدان الذي يكاد يحطم فكه من الضغط فوق أسنانه وكيف ارتفعت شفاه العليا للأعلى في اشمئزاز عندما استمرت قائلة: -أنا مع زيدان مش هقدر أجي. -وفيها أيه هاتي وتعالي.
وصل اليه صوت رامي المتطلب فالتفت يرمقها بطرف عينيه في حدة، لكنها كالعادة كانت منغمسة في حديثها: -أصل ريناد قالت مش هينفع انهارده. -ريناد أيه وكلام فارغ أيه، هاتي وتعالوا احنا مستنينكم. -حاضر مع السلامة.
أوقف زيدان السيارة واستدار يطالعها في صمت، فتنفست ميرا على مهل لا تعلم لما سيطر التوتر على خلايا عقلها أو ربما تعلم فقد أصبحت تستشعر نبضات غضبه من نظراته، سعلت قليلًا وهي تعبث بخصلاتها قبل أن تمسك بنظراته اخيرًا قائلة: -الشله مستنيانا، رامي قالي منتأخرش وأن ريناد مش مهم رأيها من الأساس. نظر لها بعدم تصديق ثم حانت منه نظره للخارج ترافقها ضحكة خالية من المرح، مردفًا في نبرة حانقه:.
-يعني هنلغي يومنا عشان نروحلهم؟ -وفيها ايه يا زيدان ما انا كذا مرة الغي يومهم عشان نبقى مع بعض، ثم ده يومهم أصلًا يعني يعتبر احنا اللي لغيناهم مش العكس. -يا سلام مش هما اللي مش عاجبهم ابقى معاكي ولا أنتي موافقة على كده؟ صدح صوته في اتهام نحوها، فأجابته سريعًا مبررة: -ده سوء تفاهم صدقني. -يعني مصره تروحي يا ميرا.
كانت لهجته غامضة يخفي خلفها صراع ونيران مشتعلة توازي في حرارتها الحرائق حين تشتعل في غابات الأمازون. -ايوه بدون زعل. قالت أثناء مدها ليدها كي تلامس يده لكنه ابعد كفها عنها في حدة قائلًا بلا أي مشاعر واضحة: -تمام اللي يريحك. وها قد بدأت المدعكة.
أغلق رامي هاتفه ثم القاه أرضًا يشعر بالغضب ينفر من عروقه، فضحكت ريناد وهي تخبره بسخرية: -ما قولنا فرصتك ضاعت، الواد لازق بغرا، طلعها من دماغك بقى عشان الحكاية بوخت! -ما هو كله منك يا غبيه، كل ما أخطط لحاجه تخليها تعمل عكسها! اتهمها رامي في عنف وهو يتجه كي يتوسط المجلس بين الحاضرين، فدافعت ريناد عن نفسها مستهجنه:.
-الله وأنا كنت هعرف منين اني لما اكلمها عن الارتباط وانها لازم تبقى زينا عشان تتكيف مع حياتنا وتفضل صديقه لينا انها هتروح تتجوز أول واحد يقابلها! دعك رامي عيناه وهو يلتقط قنينه الخمر من جواره يبتلع منها في جرعات دون اهتمام بالشعور الحارق في حلقه والمستقر داخل صدره قبل أن يقاطعه حازم متمتمًا: -ميرا غير يا رامي وأغبى من انها تبقى معاك اصلًا، نصيحتي ليك أبعد عنها وسيبها تبعد عنا،.
هي مش زينا ومش هتبقى زينا ومحدش فينا قادر يتكيف مع وجودها حوالينا. -اتفق مع كلامك. همست روان وهي تقبل انامل حازم الذي رمقها بابتسامه مشاغبة ثم مال يقبل وجنتها في حنو بالغ، فردد رامي في احباط ونفاذ صبر: -اسكتي، أنتي على طول موافقة على كلام حبيب القلب،.
ثم ده قراري أنا وزي ما بساعدكم كلكم لازم تساعدوني ثم إنها مش بريئة اوي زي ما انت فاكر يا حازم بيه، ما قدامكم أهيه هي راحت وتجوزت عرفي ولا هي جت عليا أنا! تأففت ريناد وهي تجيبه متذمرة: -أنت اللي فضلت تلعب بيها يمين وشمال وتضيع وقت في انك تستناها تفهم اعجابك وتلميحاتك وهي عقلها أتخن من كده بكتير. اعترضت ليلو وهي تشعل سيجارتها في نفاذ صبر وانزعاج:.
-اوف بقى هو يومنا كله هيكون عبارة عن ميرا ميرا ميرا، أنا زهقت ومبقتش طايقة الاسم ده، أنا حاسه انها سحرالك أنت وزيدان ما هو مش معقول واحد زيك وواحد جامد زيه يبصيلها الصراحة! علت ضحكات روان وهي تستند برأسها فوق كتف حازم على الأريكة لتخبرها في نبرة غلب عليها كيد النساء: -قولي انك هتموتي عشان زيدان بيحب ميرا، رغم كلامك عنها ومحاولاتك باستماته انك تبيني عيوبها.
-أنا اموت من فرق لوز دي، أنا لو عايزة أقدر ابعده عنها في ثانية. تشدقت ليلو من بين اسنانها غاضبة على صديقتها التي تعريها أمام الجميع، حتى هتف بهما رامي منهيًا النقاش: -اسكتوا كلكم، كفاية رغي وسيوني أخطط! وبهذا انغلق الحديث وانغمس كلًا منهم في فساده وعلى طريقته الخاصة.
اندفع زيدان يسبقها في خطوات حادة من المصعد متجهًا نحو وكر الشياطين أمامهما فأوقفته ميرا وهي تمسك بذراعه مغتاظة من عقابه الصامت وتجاهله المقصود لها ثم قالت مستنكرة: -أنا مش فاهمة أنت زعلان ليه، مش هو ده الاتفاق من الأول انك تحضر كل اجتماعتنا. -اجتماعات ايه؟ انتوا شوية عيال ضايعة مش عارفين تعملوا أيه في حياتكم!
هتف في وجهها وكأنها أفلتت بلمستها غضبه الوحشي على تصرفاتها والحياة التي ترفض إعطاءه دور البطولة فيها وتتركه يتلوى في تعطش لامتلاك زمام مكنوناتها.
أبعد ذراعه عن لمستها دون مراعاه انه قد يهدم مخططه الذي كان يسير بشكل ممتاز حتى اللحظة، او مراعاه لكونه قد يحطم قلبها الصغير بكلماته، فهو غير قادر على تمالك نفسه والمضي في تلك المسرحية الباهتة فكلما ظن ان هذا الفصل من حياتها انتهى ارتفع الستار عنه من جديد. -عيال ضايعة؟
همست مصدومة من كلماته القاسية وكاد يتابع زيدان في صب غضبه عليها إلا أن الحديث انقطع حين فتحت ليلو الباب مودعة أحد الشباب، وانتبهت لهما فقالت في نبرة متعجبة من وقوفهما في الممر: -مالكم، لا مش معقول عصافير الغرام بيتخانقوا؟ بدأت حمرة الغضب تفرض حصارها على ملامح ميرا ونظراتها الحاملة للوم والعتاب تهاجمه فأبعد هو عيناه الناعسة رافضًا الاستسلام لمشاعره.
ضاقت عيناه أكثر ثم مال برأسه لليمين يتفحص مغتاظًا وجه ليلو الساخر وابتسامتها المستفزة متعمدًا عدم أجابتها عن سؤالها السابق مكتفي بجذبه الحاد لذراع ميرا المتصلبة جواره متجهًا معها نحو المدخل.
توقف تقدمهما وارتفع حاجبه في تساؤل حين استقرا أمام ليلو التي لم تتنحى خطوة عن الباب في سبيل مرورهما، وزادت مفاجأته حين مالت مستقرة بين جسديهما أثناء إحاطتها بذراعيها حولهما تضمهما إليها سويًا، في تحية خاصة جدًا جدًا، ولم يفُت على زيدان كيف فركت وجنتها فوق ذراعه كالهرة وقت التزاوج، وكيف تلتقم أعلى كتفه بأصابعها النحيفة تقربه نحوها في حركة ودودة أكثر من اللازم.
كانت ميرا أول من ابتعدت للخلف خطوة كأنها صعقت بالكهرباء، حريصة على جذب زيدان معها وهي تلقيه بنظرة مملوءة بالاتهامات وكأنه هو المخطئ الذي قفز فوق الساحرة الشمطاء لضمها!
انتقلت نظرات ميرا المصدومة نحو الساحرة المبتسمة كالأفعى وكأنها ترغب في اقتلاع عيناها لأنها تجرأت على ضم زيدان، أراد أن يبتسم سعيدًا بمشاعر الغيرة المنبثقة منها والتي أعطت ل ميرا الرقيقة الخاضعة هالة من العنف لم يشهدها فيها من قبل ولكن الترقب والريبة المسيطران على عقله يمنعانه، فتلك التصرفات الغريبة التي تنبعث من ليلو نحوه تجعل نواقيس الخطر تضرب في قوة، متسائلًا عما ينوي هؤلاء الأشقياء فعله؟
زاد الشك داخله حين رمقتهما ليلو بنظرة خبيثة ثم استدارت متجه للداخل قائلة بصوتها الرفيع المزعج: -كفاية خناق ويلا السهرة قربت تخلص. انعقد حاجباه مشيرًا سبابته باستنكار نحو ليلو معلقًا نظراته المستهجنة بعيون ميرا المشتعلة بالغضب وكأنه يحرك قلمًا فسفوري اللون فوق تصرفات المدعوة صديقتها ثم أشار لها بالدخول متهكمًا: -اتفضلي يا غالية مش عايزين نتأخر على شلة المراهقين.
جذبت نفسًا عميقًا تحاول عدم الصراخ في وجهه على سخريته الصريحة منها ومنهم، لكنها ابتسمت ابتسامة مغلولة مقررة اعتلاء العناد وأصابته فيما يثير جنونه. رفعت يداها ترمي سترتها التي تغطي عري أكتافها ثم رفعت أنفها في شموخ وكأنها فخورة بثوبها الأخضر الذي يفتقد للأكمام، ممتنه لوزنها الزائد والذي بسببه صارت أكثر ثقة في هيئتها.
لمعت عيناها في تمرد سعيدة لأنها أصبحت تعرف تلك النظرات الغاضبة المفعمة بالغيرة والمتغلغلة داخل أعماق قلبه حتى كاد ينفث النيران من أنفه وتخرج الأدخنة من أذنيه. رفعت ذقنها محافظة على ابتسامتها الصفراء ثم قالت: -فعلًا مش عايزين نتأخر. تحرك زيدان خلفها في خطوات هادرة يحاول كبح رغبة أصابعه في الامتداد والالفاف حول خصلاتها الملتوية باحترافيه فوق ظهرها وجذبها للمغادرة رغمًا عن أنفها. -هاي وحشتوني.
قالت ميرا أثناء جلوسها بجوار رامي على الأريكة متجاهلة زيدان ورد فعل رامي المتعجب من استقرارها لجواره على غير العادة. مرت كلمات ترحيبيه بين الجميع قبل أن تستقر الألسن على أحاديث جانبيه وشكرت حظها التعس حين بدأ رامي في اختلاق حديث معها وانضم الباقي إليهما سارقين انتباهها عن ذلك الغاضب لدقائق طويلة.
تعلم أن تصرفاتها رعناء كالأطفال المدللين ولكنها تشعر برغبة كبيرة في معاقبته وقد اكتشفت ان زيدان أكثر شخص قادر على أذيتها واجبارها على رؤية الحماقة في كل أفعالها وأكثر شخص قادر على الحط من قيمة أشياء تضعها أعلى برج اولوياتها فتنقلب حياتها رأسا على عقب. هي غاضبة على نفسها وعليه لأنه يجعلها تتساءل عن طبيعة صداقاتها ومدى صلابتها.
جزت على أسنانها تكاد تمزق شعرها من شدة الغضب عندما لاحظت كيف زحفت ليلو واستقرت إلى جوار زيدان الجالس في صمت قبالتها والذي لم يحيد ببصره الغامض عنها والذي لا يفصح عن طبيعة مشاعره. سرق انتباهها عنه رامي حين مال يهمس في أذنها: -هو مزعلك ولا أيه؟
ارتبكت بسبب اقترابه الغير متوقع منها وأحست بقشعريرة الرهبة تسري فوق جسدها، تلقائيًا تحركت ميرا بعيدًا عنه بضع إنشات ثم اتسع بؤبؤي عيناها الكبيران في هلع حين استقام زيدان واقفًا أمامهما وقبل أن يفتح فمه وقفت ليلو تخبره في دلال مفرط: -أخيرًا حد قام، بعد اذنك يا زيدان ممكن تيجي معايا نجيب المشاريب من المطبخ، الصينية هتكون تقيله عليا جدًا.
تشابكت أصابع ميرا وتشنجت فوق بعضها البعض من شدة الغيظ تكاد تهتف اعتراضاتها في وجهيهما خاصة هو لأنه من المفترض أن يقوم بدور زوجها وليس دور العشيق لتلك الأفعى! أغمضت جفونها لوهله ترفض البكاء الذي يفرضه شدة استنكارها عليها بسبب تصرفاته الهوجاء، وحين ارتفع جانب فمه في ابتسامة مشاكسة فوق وجهه المغرور قاسي الملامح شعرت بقلبها يعتصر في ألم خاصة حين يتشدق في إجابة ملتوية: -وماله اللي أنتي عايزاه.
راقبت في غل كيف تحرك كلاهما للداخل في هدوء، بينما جلست هي تشتعل بنيران الغيرة وشعرت بجسدها الصغير يهتز من شدة الغضب مع مرور كل ثانية تمر عليهما سويًا في الداخل. زفرت حنقها ولم تقدر على التقلد بالثبات أكثر فهبت مستقيمه من مكانها في حدة إلا أن رامي أوقفها جاذبًا ذراعها كي يعيدها للجلوس على حين غرة متهمًا في انزعاج:.
-اتقلي شوية مش كل ما يروح مكان لازم تبقي في ديله وتحت طوعه، أنتي انسانه ليكي حياتك الخاصة بعيد عنه. شعرت بالإحراج من هجومه على مشاعرها وبسبب تصرفاتها الواضحة للعيان فوجدت نفسها تبرر متلعثمة: -أنت فاهم غلط، أنا هروح أشرب. ارتفع حاجبه ساخرًا ثم تمتم مشيرًا لها بالذهاب: -اشربي براحتك. وقفت على مهل متجهة للمطبخ خلفهم وهي تعض شفتها السفلية وتبلل جفافها متجاهلة نظرات ريناد خائبة الرجا فيها.
ارتفعت شفتي ريناد في اشمئزاز صريح ما ان ذهبت ميرا وهي توبخ رامي: -أنا مش فاهمة أنت معذب نفسك معاها ليه؟ أشعل رامي سيجارته يحاول إطفاء النار المستوطنة داخل صدره وهو يراقب ابتعاد ميرا الساهية عن رغباته الدفينة، وانكمشت ملامحه يشعر بالغضب يسيطر عليه حين أخبرته ريناد متهكمة: -أنت داخل على سنة مهوس بيها وهي ولا هي هنا. -ريناد مش وقت كلام مستفز.
-براحتك، أنا بس مش فاهمة أنت متعلق بالبنت المفعوصة دي ليه؟ يعني ولا شكل ولا منظر ولا شخصية، ولولا انك أجبرت وجودها علينا مكناش سيبناها في حياتنا خمس دقايق. رمقها بنظرة صلبة سوداء فرفعت كفيها في استسلام ضاحكة ثم اعادت تركيزها نحو رائف الذي قرر استكمال الحديث معلنًا الحقيقة التي ظنها رامي مخفية عنهم: -الممنوع مرغوب يا قلبي،.
لو هي مكنتش بنت أكبر منافس لأبوه على الكرسي في كل ترقيه، مكنتش هتحلو في عينيه أوي كده، ثم أن ميرا كانت مفعوصة قبل جوازها من زيدان ما يخليها تتدور وتملا وتبقى أنثى على حق. بلل رامي شفتيه في رضا عن وصفه لها وشعر بالتشفي عندما غامت عيون ريناد بالحقد نحو زوجها، مقررًا تجاهل شجارهم الناشب وانتقلت عيناه الحادة كالصياد يتابع المكان التي اختفت منه فريسته حتى أخبرها:.
في الداخل، وقف زيدان في مكانه مترقب لحركة ليلو التالية بعد محاولتان متتاليتان من لمسه عن قصد وتعمد ببنما تتصنع البراءة والاعتيادية، ولم يخب ظنه فقد اندفعت نحوه تلاصقه وتتعلق به وكأنها توشك على السقوط! تركها تتأوه وتتعلق رقبته وبداخله لغز كبير يحاول الوصول إلى باطنه كي يفهم تحركات هؤلاء القوم وداخله احساس كبير بانهم يكيدون له مكيدة من نوع خاص! -مالك متوتر ليه وكأن عمرك ما لمست بنت؟
كان محتارًا هل يصيح بلفظ اعتراضي فج يحوم داخله أم يستمر في تمثيله للوصول إلى هدفه ومعرفة غرض الشمطاء من تقربها المُقيت منه، تنهد ووجد نفسه يستسلم لفضوله متسائلًا في لهجة متعجبة: -هي مش ميرا صاحبتك والصحاب مش بيعملوا كده بردو؟ اتاه ردها المُلتاع في سرعة وكأنها توقعت سؤاله: -ميرا مش صاحبة حد. -مش فاهم؟ -مش لازم، أنا مش عايزة تفكيرك يبقى في ميرا، أنا عايزة عينيك العسلي دي وعقلك عليا أنا.
وضع يده على خصرها مجبرًا ثم حرك رأسه مرة يتصنع الحيرة أثناء التقاطه لعيناها في براءة متسائلًا: -سؤال واحد محيرني، ليه عاملين صحابها وسايبنها سطيكم، أنا وأنتي عارفين ان مالهاش مكان بينكم. -حكم القوي، بس مين يفهم! غمغمت بصوت غير واضح ثم لعقت شفتيها وقد تعلقت عيناها بشفاه الغليظة، وكادت تلامسها لولا ابتعاده في أخر لحظة قائلًا في صوت أجش مشاكس:.
-لو ميرا عرفت هتخسروا بعض فعلًا، أنا هيجي يوم وهسيبها انتوا اللي هتفضلوا معاها. -تفضل مع مين؟ بكره رامي يوصل لغرضه منها ويريحنا منها ومنشوفش خلقتها تاني. زمجرت كلماتها في حقد دفين ثم استكملت في نبرة منخفضة غائمة برغبتها الوقحة بينما تفرك كفاها فوق صدره: -أنا اللي مش قادرة أفهم أنت ارتبطت بيها ازاي، دي اكتر بنت ساذجة ومملة في الحياة.
مالت تستنشق عطره الرجولي دون أن تنتبه لتشنج جسده المتصلب تحت أصابعها ولكنه تابع في هدوء تام يناقض عنف كلماته المتوهجة: -لو ما بعدتيش إيدك عني حالًا، هكسرهالك عشان تحرمي تمدي إيدك على حاجة مش بتاعتك من تاني.
كان ردًا حاسمًا قويًا ولكن القدر لم يكن حليفًا له ففي تلك اللحظة قررت ميرا المختبئة عند المدخل والتي كانت تراقبهم منذ نطقت ليلو بسؤالها المتعجب عن سبب ارتباط زيدان بها، أن تستسلم لحرقة قلبها ودموعها والهرب قبل أن تصل لمسامعها جملته الأخيرة القادرة على اقتلاع جذور الحزن والقهر المنسابة داخل صدرها.
دفع ليلو عنه في حركة عنيفة والتي كانت لا تزال مصدومة بفعل وقع كلماته على مسامعها، ثم ابتعد في خطوات واسعة ينوي جذب ميرا من خصلاتها بالفعل هذه المرة إن قررت الاعتراض ورفض المغادرة معه. لكنه وقف كالأبله وسط دائرتهم لا يجدها بينهم فسأل سريعًا: -فين ميرا؟ توقف قلبه عن الخفقان لحظة عندما انفرجت ابتسامه رامي الخبيثة فوق فمه مردفًا في لهجة متشفية: -ميرا مشيت. -مشيت، ليه؟
حرك كتفه بلا مبالاة، لكنه استدار للخلف عندما تحركت عيون رامي المتسلية نحو ليلو المتجهمة، فاتسعت عيناه في هلع متوقعًا سبب ذهابها.. تبًا للجحيم المتجسد في شكل حياته! فكر قبل أن ينطلق مسرعًا للخارج متمنيًا من كل قلبه ان يكون سبب ذهابها هو عنادها وليس رؤيتها لما حدث بينه وبين ليلو دون فهم!
مدت ميرا حقيبتها نحو ريناد التي تحملت مهمة فتحها وإخراج المفاتيح، وحمدت الله إنها كانت في طريقها للمغادرة وعرضت عليها إيصالها سالمة إلى المنزل بعد ما رأته، دلفت في صمت متبعه خطوات ريناد متخذة أول مقعد يقابلها، لا تزال تبكي بعد أن حطم زيدان قلبها إلى فتات صغيرة. كيف فعل هذا بها؟ كيف جذب بساط السعادة والأمان من اسفلها بتلك السهولة؟
كيف كانت ساذجة لهذه الدرجة فتظن أن شاب مثله قد يرى فيها أكثر من صديقة؟ علت صوت شهقات بكاءها ولم تنتبه إلى ريناد التي لوت فمها تخبرها في استنكار: -بطلي تعيطي، وبعدين أنا نبهتك أكتر من مرة أن زيدان مش دايم ليكي وأنتي اللي ما سمعتيش الكلام! -أنا مش مصدقة اللي حصل! همست كلماتها الخافتة دون أن تتوقف دموعها، فاستكملت ريناد في هدوء: -ليلو طول عمرها أنانية فاكرة لما كانت بتلف عشان تخطف رائف مني،.
أنا كان ممكن اقولك حاربي عشان زيدان وان هي السبب بس زيدان ما ينفعكيش! -قصدك أيه؟ سألت ميرا تشعر ان قدرتها على الاستيعاب قد توقفت، فأردفت ريناد في نبرتها الجامدة والتي تخفي الكثير خلف لمعة عيناها الماكرة: -أقصد أن زيدان عينه زايغة ومكنش سايب بنت في الشله إلا وبيلف عليها. -زيدان؟! -أيوة حتى أنا حاول يتقرب مني لكني صديته وهددته اني هقولك، أنا مش فاهمة ازاي اصلًا نزلتي مستواكي واتجوزتي الكائن ده!
جزء داخلها كان مشدوهًا يتمزق مع كل حرف ومعلومة تسمعها عنه، وجزء أخر منها يحارب للدفاع عنه ولكن كيف وقد رأته بعينيها؟ انسابت دموعها الحزينة فوق وجنتيها الشاحبة لا تصدق مدى الألم الذي ينهش قلبها! -كفاية عياط يا غبية! قاطع جلدها للذات صوت ريناد، فقالت وحروفها تتكسر بسبب بكاءها: -أنا حبيته بجد!
كانت كلماتها منخفضه لمن حولها ولكن الصراخ كان عاليًا، عاليًا للغاية داخلها، كانت تلومها لأن اللُعبة تحولت إلى حقيقة، تريد الصراخ ورمي اللوم على ريناد لأنها من وسوست في عقلها وجعلتها تحيك تلك المسرحية الشيطانية التي فقدت في خضمها خفقات قلبها اللين، أرادت الصراخ لأنها من أشعلت فكرة الارتباط برجل في عقلها وكانت دومًا تلسن عن كونها الفتاة الغريبة متلبدة الأحاسيس والتي لم ترتبط باي رجل حتى الآن.
أرادت الصراخ معترفة بأنها لم تستطع تخطي اللون الأحمر لأن أسفل قشرتها المتلونة باللامبالاة والتمرد يكمن معدنها الأصلي الذي يلمع كالذهب مُرصعًا بالحدود الطبيعية التي تحكم أي شخص أصوله طيبة وتلقائية كميرا، فرغم افتقارها لاهتمام والديها ولكن شخصيتها الأقل من عادية لديها مكيال يحذرها عندما تزداد حمولة الخطأ وهو ما لا يتناسب مع بهتان شخصياتهم التي صدأة بالانحلال التي تود ميرا بلا تفكير الوصول لها.
خرجت من انهيارها على صوت ريناد الذي أستمر في قطعها كالسكين الحاد: -كفاية عياط على حد ما اهتمش بيكي لحظة. -لكن هو اهتم، هو مكنش كده معايا، زيدان كان بيهتم. خرجت كلماتها هستيرية دون وعي منها انها قد تسقط في بحر أكاذيبها وتكشف أوراق لعبتها الخفية بينها وبين زيدان والاعتراف بخديعتها لهم، فاستطردت ريناد مؤكدة:.
-فوقي يا غبية، ده واحد شغال مندوب يا ماما وكل هدفه من جوازه منك هي فلوس باباكي ولا نسيتي بابا يبقى مين يا بنت معالي الباشا الكبير! ساد الصمت طويلًا ثم استقامت ميرا متحركة في بطء كأنها إنسان آلي فاقد للروح نحو غرفتها بعقل مُشتت تركها ليعود إلى كل خطوة صارا فيها سويًا للتحقق من كل موقف وكل حرف نطقه به لها. تمايلت فوق فراشها تشعر بدوار خفيف، ثم تأوهت وخرجت حروفها في صعوبة: -آآه، آآه، يا زيدان.
علا صوت الهاتف فوق آهاتها المتألمة بحروف أسمه واغرورقت سوداويتاها بالعبرات من جديد حين لمع أسم زيدان فوق شاشة هاتفها، انشق صوتها الباكي شقًا من صدرها وتوالت ولولتها دون قدرة على التحكم في الذات. فمن بين أنحاء الأرض لما تسقتر دومًا على استيطان المكان الخطأ؟
-أنتي مشيتي ومش بتردي عليا ليه؟ أنهى زيدان رسالته ثم رمى الهاتف في المقعد المجاور له ما أن وصل إلى سيارته التي يندم على تركها وقبوله لاستقلال سيارتها الوردية، زفر مستغفرًا الله في باطنه يتمنى أن يأتي ردها مخالف لظنونه وانها لم ترى ما حدث وأساءت فهم لعبته، زمجر اعتراضه للهواء يود لو يخنقها بيديه على أفعالها الطائشة وتجاهلها المتعمد له دون أن تفهم أو تنتظر مبرر منه.
نظر إلى ساعة يده المشيرة إلى الساعة الثانية عشر صباحًا واتخذ قراره بالذهاب بنفسه كي يطمئن على وصولها سالمة غانمة، فهو يعلم أن والدتها قد سافرت وأصبحت بلا رقيب أو حسيب. بالفعل في أقل من ثلاثون دقيقة كان يترجل من السيارة أسفل البناية التي تسكن فيها، ثم أمسك هاتفه مرسلًا لها رسالة أخيرة يطالبها بالإجابة على اتصالاته.
انتظر حتى قرأت الرسالة وحين لم يأته الرد بعد دقائق طويلًا أتخذ خطوات حاسمة للداخل مقررًا الصعود لها. دق فوق الباب مرات متتالية أعنف مما ينبغي خاصة في هذه الساعة من الليل فعلى صوت ريناد من خلف الباب موبخه: -اتفضل أمشي من هنا هي مش عايزة تشوفك. -أفتحي خليها تقولي كده في وشي. قال زيدان مصرًا على موقفه رافضًا التزحزح من أمام الباب وقد زاد وجود ريناد معها من حنقه، فأجابته هي في نبره مليئة بالاستهجان:.
-هي مش قادرة تتكلم معاك نهائي، ف أحسن حل انك تتفضل وتمشي. -مش لازم تتكلم أنا عايزها تسمع الكلمتين اللي هقولهم وهمشي. فتحت جزء صغير من الباب تطل عليه ثم رفعت حاجبها الأيسر وكأنها ترميه بتعليقاتها الساخرة قبل أن تؤكد: -افهم هي فعلًا مش قادرة حتى تضغط على نفسها وتشوفك، عمومًا هي مش عايزة تعرفك من تاني، وكفاية أوي اللي حصل والانهيار اللي هي فيه من ساعتها.
كادت تغلق الباب في وجهه فأمسك بكفه الإطار يمنعها من إغلاقه قبل أن يخبرها متهكمًا: -وأنتي المحامية بتاعتها؟ -على فكره هي عارفة إنك هنا وهي اللي قالتلي اقولك الكلمتين دول وأقولك تمشي وماتجيش هنا تاني. -يا ميرا اطلعي ضروري لازم تسمعيني صدقيني أنتي فاهمة غلط. علت نبرته يناديها وزاد صوته صلابة حين وقفت له ريناد بالمرصاد رافضة تقدمه وتركه يدخل المنزل هاتفة: -قولتلك مش عايزة تكلمك، أنت مش بتفهم؟
-الحوار ما يخصكيش، الكلام بيني وبينها، واوعي تفتكري اني مش فاهم عايزه توصلي لأيه بعمايلك دي! خرج صوته قويًا رغم نبرته الهادئة ومد أصابعه يرن جرس الباب مرات متتالية عسى أن يجبرها على الخروج وملاقاته غير مبالي باعتراضات ريناد: -كفاية فضايح أنت كده جاي تفضحها مش تصالحها.
جز على اسنانه يكبح انفعالاته ثم أومأ رأسه في تروي مستشعرًا العقلانية من كلماتها فوقوفه مهللًا لن يسبب سوى الفضائح لها، تنفس من أنفه ببطء وكأن صدره سينفجر من الغضب الهادر داخله قبل أن يضرب كفه فوق الباب الخشبي مرة مستديرًا للمغادرة وهو يسب ويلعن الحمقاء الغبية وصديقتها.
لماذا إذا لا يتفق قلبه مع عقلانية السِباب؟، ويتلوى معتصرًا رافضًا قرار الانسحاب كقائد طوقت كتيبته للتو، رافضًا المغادرة دون رؤياها والاطمئنان على حالها! التوت شفتيه يكبح سيل من الشتائم، فالكئيبة على أتم الاستعداد للغرق في شلالات من الدموع والأحزان على أن تعطى للنضوج دقيقة واحدة كي تدرك الأمور من حولها.
انغمس زيدان في العمل داخل مطعمه التي فوتت الحمقاء افتتاحه، متمنيًا اللهو عن افكاره التي تحتلها ميرا كليًا، صدح صوت نوتفكيشن من هاتفه وتلقائية امتدت اصابعه يفتحها املًا أن تكون أبواب الوصال قد فُتحت بينهما، تنهد وهو يطالع إشعار هو ليس المراد.
رمى هاتفه في إهمال فوق الطاولة، متسائلًا كيف احتلت ميرا حياته بإشعار صغير وتبقي قلبه متعلقًا بأخر، يريد إقناع عقله بأن اهتمامه بها انساني وانه لا يعشق الرمش الطائر من عينيها الحزينة، ولكن من سيخادع فمع مضي الأيام المنقطعة بينهما أصبحت حالته يرثى لها وكان كالمجنون لا يرى لها شبيهاً ولا يرغب عنها بديلاً.
صدح صوت نوتفكيشن جديد ورغم تأكده بأنه ليس منها إلا أن أصابعه تحركت دون تحكم منه كالمهوس الباحث عن الملاذ في هذا الصوت.
ربما عليه رمي مخاوفة مع الرياح والاتصال بوالدتها واخبارها بشكل مباشر بكل شيء عن سوء تصرفات ابنتها الغالية عساها تنتبه لوجود أبنه ضعيفة النشأة تترعرع تحت مسئوليتها لأنه ببساطة لن يقبل أن تُبعده الخائنة عنها مهما كان الثمن، كارهًا أنها استطاعت بكل جحود الابتعاد عنه طوال الخمس أيام الماضية.
ألقى بالقلم من يده وحدق بنظراته الحادة إلى جواره ليتصادم بنظرات صديقه كيرو المتعجبة فقال زيدان في هجوميه بلا سبب: -مالك أنت كمان بتبصلي كده ليه؟ -فرحان بيك. مال فم كيرو للجانب ساخرًا من تصرفات صديقه المتناقضة فاستمر زيدان في عناده ساخرًا: -مبروك عقبالك. عاد يعبث بالأوراق المبعثرة فوق الطاولة أمامه يحاول تجاهل كيرو القابع على يساره و محمد الجالس على الجانب الأخر منه والذي تدخل قائلًا:.
-بلاش تدخل معاه في جدال يا كيرو ده راجل بارد. -اه انتوا فاضيين وجايين تضايقوني مش كده، قوم انت وهو خدولكم لفه في المطعم ده، أنا مش شغال هنا وسط الحسابات عشان انتوا تدلعوا. أشار بأصبعه بينهما منزعجًا من وجودهم أمامه في هذه اللحظة: -بقولك أيه أنت هتطلع عفريتك علينا ليه، أنت تروح تخرب الدنيا وتيجي تطلعه علينا احنا، ده أنت معندكش دم! -معنديش دم ليه ان شاء الله يا لايف كوتش عصرك وزمانك.
أجابه كيرو في حزم مقررًا إكمال حديث محمد: -ايوة معندكش دم طبعا، لما تسيب حبيبتك مع صاحبتها الحرباية تسمم عقلها ناحيتك وأنت قاعد تتملعن علينا يبقى معندكش دم. انكمشت ملامح زيدان مغتاظًا من ذكرهم حياته الشخصية التي في لحظة حزن باح بها لهما فهتف بهما مستنكرًا: -اسكتوا أنتوا مش فاهمين حاجة، مش عشان في لحظة ضعف ونكد حكيتلكم عن حاجة هتذلوني بيها طول العمر.
-نذلك؟ طيب يلا بينا احنا يا كيرو واضح ان زيدان مجنون دلوقتي! قال محمد وهو يستقيم للابتعاد فهتف فيه كيرو جاذبًا له معيده للجلوس مؤكدًا: -يا عم صلي على النبي في قلبك كده ما تبقاش قموص! -كيرو أنت مسيحي يا حبيبي. ردد محمد يحاول السيطرة على ابتسامته الساخرة فأجابه كيرو سريعًا بابتسامته المشاكسة: -ما تتهربش من الموضوع وصلى ع النبي، عشان صاحبك ده لازم يتربى. -صاحبه ده قاعد قدامكم يا شوية رعاع.
جاءهم صوت زيدان المتهكم بسبب تصرفات كلاهما الطفولية، ولكنه لن ينكر انه يتصرف كالمجنون طوال الأيام الخمس الماضية. فبعد أن دأب على مراسلة ميرا لثلاث أيام توقف تمامًا بعدها عن مراسلتها وقد شعر بمرارة الرفض في حلقه وانها ببرودها وتحجرها تهين كرامته التي اباحها أمام محبته لها.
بينما هي لا تهتم للدرجة التي تكفي كي تجيبه أو تتساءل عن أحواله، بعد ان كان يقضيا الشهور الماضية سويا على الهاتف من الصباح وحتى المساء. -بياعه! تمتم لنفسه مستنكرًا تصرفاتها، متوعدًا لها وقد سئم اهماله لما يدور في حياته والاهتمام بها على حساب الجميع في حين انها لا تشعر بحجم معاناته معها. -أنت لازم تاخد موقف لكن تسيبها منها للحرباية كده غلط صدقني.
تمتم محمد فهز زيدان رأسه في موافقة، يدرك ان اصدقائه على صواب فهو غارق في جلد الذات تاركًا للحرباء المتمثلة في ريناد مهمة سكب البنزين على النار و ميرا الحمقاء التي لا تستحق ذره حب من قلبه، تركت لها ذاتها ومشاعرها في استسلام كي تصب عليها نصائحها الخبيثة كالقطران الأسود مُحولة كافة مشاعرها لزيدان إلى كتلة من الجمود.
أخرجه من أفكاره السوداوية، صوت نباح كلب يسيطر عليه طفل صغير بسلسلة فضية، اتجه كيرو نحو الصغير الواقف بجوار والدته لا شك انه سيمنعهم من دخول المط... لم يكتمل تفكيره وهو يراقب مصدومًا كيف جذب كيرو الصغير مودعًا السيدة التي تركته هو والكلب ورحلته. عاد كيرو لهم بعد ان أشار للصغير بالجلوس على طاولة فارغة تجاور الحائط كي يحاول اخفاء كلبه الاسود العملاق أسفلها.
-لا مؤاخذه يا شباب أخويا الصغير هيقعد معانا شوية لحد ما أختي تخلص محاضرة وتيجي تاخده البيت، متقلقوش مش هتسمعوا صو... ابتلع كلماته عندما علا صراخ فتاة مرت بجوار الكلب رغم انه لم يحرك ساكنًا، انتقل عقل زيدان إلى ميرا التي تخشى الكلاب بشكل جنوني وكيف صرخت مختبئة خلفه مره عندما صادفا كلبً صغير لا يتعدى حجمه حجم قدمها الصغيرة.
هز رأسه يخرجها من رأسه منزعجًا من اقتحامها المستمر لكيانه ثم هتف في كيرو مستنكرًا: -يا عم روح شوف أخوك ده هيطفش الزباين. -هعمل ايه يعني يا زيدان! أتاه رد زيدان سريعًا وهو يدفع محمد للأسرع نحو الفتاة كي تهدأ ويقلل من ذعرها: -روح ارميه في أي حته، احنا ناقصين!
ضرب كف فوق الأخر مغتاظًا من الفوضى وحالة الهرج التي دبت في أرجاء المكان بسبب الفتاة التي تقف أعلى أحد المقاعد ترفض الهبوط في وجود الكلب مع استمرار صراخها المرعب: -لا طلعوني برا أنا عندي فوبيا من الكلاب.
كاد يبتسم فهو نفس المبرر التي رددته ميرا فوبيا المخلوقات الرائعة مجموعة من الحمقى لا يعملوا شيئًا عن الحب والوفاء، انقلب مزاجه ليصبح لاذعًا مثلما يحدث مع كل تفكير تكون هي محوره، طرق أطراف أصابعه فوق الطاولة غاضبًا، حتى تعلقت أصابعه في منتصف طريقها وقد لمعت عيناه الناعسة بفكرة جهنمية!
استقام راكضًا للخارج يبحث عن الصغير وتنهد في راحة عندما وجد الصغير ممسكًا كلبه بينما شقيقه الأكبر يزجره أمام المدخل. -أيه ده في حد يزعق لطفل صغير كده يا شيخ اتقي الله ده الأطفال أحباب الله. انفرج فاه كيرو في بلاهة ثم قال في نبرة عصبية: -أنت عايز تجنني يا جدع أنت، مش أنت اللي قولتلي أسربه! -ولد عيب، أيه اسربه دي، تعالى يا حبيبي أجبلك حاجة حلوة.
اتسعت عيون صديقه الذي مد ذراعه يوقف تقدمه من شقيقه ثم رمقه بنظرة مريبة متسائلًا: -حاجة حلوة، أنت عايز ايه من الواد بالظبط ده أخويا! بصق عليه زيدان بشكل وهمي وقد انكمشت ملامحه قائلًا في عجرفة: -ما هو عشان أخوك هوجب معاك. -لا مش عايز واجبات من حد! تمتم منزعجًا من إصرار زيدان المفاجئ على اصطحاب شقيقه الأصغر معه إلى المجهول. -وربنا لأوجب معاك يا كيرو في أيه!
ردد زيدان في إصرار غير قادر على منع ابتسامته المستفزة: -ما تهرجش هتعمل ايه بيه! قال وهو يشد ذراع أخيه من بين براثن زيدان الذي رد سريعًا أثناء تثبته بذراع الطفل الأخر والذي ظل يتنقل بأبصاره لليمين واليسار بين الصديقين: -ياعم محتاجة ساعة والله عيب عليك عايزه في حاجة خاصة! -حاجة خاصة ازاي، اللي انت بتقوله ده عيب وحرام يا بيه. -اتلهي بقى وسيبني يا عم والله هرجعهولك سليم.
تأفف زيدان وهو يبتعد مع الصغير فهتف كيرو من خلفه: -زيدان الواد لو حصله حاجة أمي مش هتدخلني البيت. قذف كلماته في قوة يؤكد على مصيره الأسود ان مس شقيقه أي سوء وهو تحت مسئوليته. -والله ما تقلق اعتبرني بفسحه عشان نفسيه الكلب اللي جاله صرع ده. التفت يغمز لصديقه بابتسامة واسعة وثم اتجه الى سيارته مع الصغير الذي لا يتعدى الحادية عشر عامًا يخبره: -كلبك متدرب يا حبيبي؟ -اه انا اللي مدربه بنفسي.
حرك زيدان رأسه في رضا، فاتحًا باب السيارة كي يستقلها الصغير والكلب، ثم سأل ما أن اتخذوا مقاعدهم: -جميل جميل، بتحب الفلوس يا ريمون؟ -اه بحبها. -جميل جميل، هتتبسط معايا أوي. همس في سعادة بالغة وهو يشغل محرك السيارة وعقله ينسخ له الألاف السناريوهات التي ستقوده لأمرًا واحد.
تململت ميرا في الفراش لا تزال غارقة في أحزانها ومشاعرها المضطربة فهي تارة تبكي من شدة حبها له وتارة تلعن أصدقائها الذين كانوا المحرك الأول في تهورها ووقعوها معه. كانت عبراتها تلمع على وجهها دون شعور، فمشاعرها المتناقضة تجعلها مكتوفة الأيدي تخجل من معارضة أفكارها القاسية عن زيدان.
كانت مضغوطة من كمية الحقائق التي صفعتها دون هوادة، فقد اكتشفت انها كانت معلقه بحبال ذائبة تاركة لذاتها المرضية اختلاق تصورات تجمعها به غير حقيقة، ف زيدان لم يعترف يومًا بحبه لها ولم يخبرها بأكثر من تعلقه بها، تعلق نابع عن الاعتياد والعشرة وليس نابع عن الحب. تشفق على نفسها بسبب ضعفها فمع أول عقبة تصدعت حصونها الزائفة من حولها وعاد الزمن بها إلى أسوأ مراحل اكتئابها وكأن الحياة على وشك الانتهاء.
حمقاء، أجل، صدق زيدان حين أصر على تلقيبها بالحمقاء، فكيف كانت ستنجو حينما تنتهى الشهور القليلة الباقية على اتفاقهما؟ كيف تركته يسيطر على كل ذرة من كيانها وتركته يُهمش كل ما له قيمة في حياتها في سبيل إرضاءه وكيف كانت في طريقها بكل سذاجة إلى خسارة أصدقائها السبب الأول لاستعادتها زمام الأمور في حياتها وشعورها وكأنها انسانه.
تنهدت في حرارة لأنها ترغب في اقتلاع وجوده من حياتها وفي نفس الوقت لن تستطيع إكمال حياتها من دونه ودون دعمه المعنوي لها، فقد جعلها تدمن أفعاله واهتمامه المنصب عليها.
اهتمام زائف فكرت ساخرة وهي تتذكر كيف حكت لها ريناد أنه غادر ما ان علم بانهيارها وحزنها مقررًا تركها كي تهدأ لحالها دون أن يصر على مقابلتها أو التمسك بها، تركها تواجه الحقيقة القاسية وحدها وحتى مراسلاته توقفت ولم يصلها أي إشعار بعد ثلاث أيام. لا تصدق وقاحته هو المخطئ في حقها والمتهم بالخيانة وهو الذي يهملها بكل تعجرف وغرور!
مسحت دموعها تكره هذا الشعور بالتشتت فهي أنثى تحب، تريده أن يبتعد عنها وفي نفس الوقت تريده أن يتمسك بها ويثبت حبه لها، أرادت أن يجبرها على الاستماع إليه فمنذ متى يستمع زيدان لغير ذاته المتعجرفة، مما يؤكد لها نظريتها في عدم رغبته فيها كحبيبة من الأساس! كان عليها معرفه أن هذا الشعور الطاغي بالسعادة ما هو إلا مؤشر على اقتراب النهاية، فمنذ متى تحدث الأشياء المميزة لأمثالها!
وقفت تتسلل نحو المرآه تتفحص انعكاسها الباهت، شفتاها الفاقدة للون الوردي، ووجنتها التي برزت عظمتها قليلًا بسبب فقدانها للشهية. هي ليست جميلة وليست مبهرة وتعلم انها غير متزنة نفسيًا بشكل كامل ولكن الاعتراف بداية الطريق أليس كذلك؟ -أنا مني لله.
غمغمت بشكل غير مفهوم تود لو تشنق نفسها، لما كان عليها الانسياق وراء كلمات ريناد وقتها وفكرت في نسج هذه اللعبة السخيفة مع زيدان، أغمضت جفونها وهي تسترجع سبب رغبتها في ادعاء الزواج السري أمام أصدقائها.
جلست ميرا صامتة بشكل تام تشعر بالقلق على روان الباكية جوارها، ربتت على فخدها مره في حرج تدعي إلى السماء أن يأتي حازم سريعًا، فمما فهمته أن هناك مشاجرة كبيرة نشبت بين والد روان ووالدتها أدت إلي انهيارها وقدومها للهرب بينهم. -كفاية عياط يا بنتي، حتى لو أطلقوا مش نهاية العالم. رددت ليلو في تبلد ولا مبالاة فحدقتها روان غاضبة ثم هتفت في نيرةٍ مغتاظة: -خليكي ساكتة محدش طلب رأيك.
-ليلو اهدي على نفسك، حازم على وصول ولو سمعك بتضايقها وهي في الوضع ده مش هيعديهالك. -الله هو أنا اتكلمت، بقولكم أيه انا ماشيه. قالت معترضة وهي تلملم أغراضها في حدة، فتحت الباب للخروج فكادت تصطدم في حازم المندفع داخل المنزل: -اي هتوقعني، مش تحاسب. زجرته ليلو لكنها لم تتوقف لسماع رده ولم يهتم هو بالرد من الأساس وذهب راكضًا لاحتضان روان هامسًا في حنو: -ما تعيطيش يا قلبي!
-بابا وماما هيسيبوا بعض وحياتي هتدمر أكتر. -حياتك مش هتدمر طول ما أنتي معايا، دي حياتهم هما وأنتي مش محتاجين حد فيهم! تحركت ميرا للابتعاد حين أشارت لها ريناد بمرافقتها واعطاء الأثنان بعد الخصوصية، وقفت كلتاهن في الشرفة قبل ان تقاطعها ريناد مردفه: -مش عارفة من غير حازم كانت هتعمل ايه، الواحدة فينا مش بتعرف تواجه الحياة من غير راجل يكون سند في حياتها.
أومأت ميرا رأسها لا تدري معنى الموافقة أو الرفض فهي لم تجرب هذا الشعور من قبل، قطع افكارها صوت ريناد المتعجبة: -أنتي ازاي قادرة تكملي حياتك من غير ارتباط، أيه الوحدة والملل اللي في حياتك دول، اتاري اوقات كتيره بحسك يا عيني مش قادره تفهمينا. انتبهت حواس ميرا كلها لها وسألتها متوترة من احتماليه ارتكابها أي خطأ دون علم: -قصدك أيه، هو أنا ضايقتكم في حاجة؟
-لا مش القصد، الفكرة أنك غريبة عنا، حاطه نفسك في شرنقه كده وكأنك مصره تبقي بعيده عننا. اجابتها ريناد في سلاسة بعيون تحمل من الكثير من الخبث التي غفلت عنه ميرا المنغمسة في افكارها فتمتمت في خفوت وكأنها تحادث نفسها: -الارتباط هيخليني اتأقلم معاكم أكتر -مش بس كده، أنتي هتلاقي سند وسعادة وحد يشيل عنك همومك وينسيكي أن في مشاكل عائليه في ييتكم اصلا، زي ما انتي شايفة بنفسك حازم وروان عاملين ازاي.
أردفت ريناد في ثقة مشيرة للداخل حيث يقبع حازم وروان المنغمسان في لحظتهما العاطفية، فقالت ميرا متلعثمة: -بس حازم وروان اهاليهم عارفين انهم بيحبوا بعض من زمان، أنا هلاقي حد كده فين؟ -موجود وقريب أوي لكن أنتي اللي مش عايزه تبصي حواليكي وتدوري انهت وسوستها في إصرار وغامت عيون ريناد في مكر تشعر باقتراب الانتصار تكاد ترى بعينيها انتقال امواجها الشيطانية وتسربها داخل عقل ميرا. -أدور؟
همست لنفسها ووقفت تطالع صفاء السماء في صمت وحيرة، تاركة لعجلة التفكير داخل رأسها مهمة الدوران بلا هوادة، وقد ظلت على هذا الحال من التفكير العميق طوال اليوم حتى حل المساء واوقعها حظها بالصدفة في منشور أطلقه أحد شباب مواقع التواصل الاجتماعي ومنه استنبطت فكرتها المتهورة بضرورة استئجار زوج سري بضعت أشهر تتباهى به أمام اصدقائها وتقنعهم بقدرتها على مواكبه عقولهم وأفعالهم.
خرجت من ذكرياتها بقلب مثقل بالهموم والأحزان وبكل تناقض العالم تحركت أصابعها لتلتقط احمر شفاها كي تطليه في حركة هستيرية فوق شفاها ثم لطخت منه القليل على وجنتيها وكأنها تعيد بها الدماء إلى وجهها الشاحب. تحاول ابعاد افكارها عن غضبها الداخلي على الذات، فبالله كيف خدعت نفسها وظنت أنه أحبها مع وجود تلك الجميلات من حوله سواء في العمل أو رفيقات التواصل الاجتماعي.
كما يجب عليها الاعتراف بانها لم تكن ستستطيع الاستمرار في علاقة تلتفت فيها حول نفسها كل بضع ثوان خشية من بنات جنسها، ان كان زيدان لا يحبها ولا يراها مميزة هي لا تريد الاستمرار معه. فالأمر سيكون أشبه بالموت باختلاف إنه سيتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد. نكشت خصلات شعرها مزيله رباطها وتركته يزين ظهرها ثم اتجهت إلى المطبخ مقررة تحضير فنجان من القهوة عسى أن تنتهي نبضات الألآم النافرة في رأسها.
أوقفها جرس الباب فاتجهت متجاهلة خصلاتها المبعثرة في قلة ترتيب فاتحة الباب فوجدت طفل صغير أمامها، زادت من فتح الباب أكثر متسائلة في استغراب: -نعم يا حبيبي؟ -أنتي ميرا؟
حركت رأسها في بلاهة تؤكد هويتها قبل أن تتسع عيناها في ذعر عندما ظهر كلب عملاق أسود من العدم، فشهقت عائدة بضع خطوات للداخل في سرعة بينما يتقدم الصغير للداخل مقتحم خصوصية منزلها بكلبه المتوحش المسيطر عليه بسلسلة فضيه صغيرة لم تنتبه لوجودها من قبل بين أصابعه فصرخت محذرة: -لا لا أبعد الكلب ده عني، طلعه برا حالا! -مقدرتش ده جايلك هدية من واحد واقف تحت!
-واحد مين أكيد في غلطه، روح قوله العنوان غلط وخد الكلب ده من هنا. هتفت وهي تحتمي خلف أحد المقاعد القريبة منها فاستمر الطفل مؤكدًا: -مقدرش لو مش عايزة الكلب يبقى تنزلي معايا تقولي لصاحب الهدية كده. -حاضر يا سيدي هنزل بس أبعد الكلب ده الأول. -روووي يلا... وقف الطفل الماكر أمام كلبه كحاجز منتظرًا مرورها كي لا تغلق الباب خلفه وتخدعه فزفرت ميرا متذمرة فقد كانت تنوي فعل ذلك تمامًا.
لكنها تحركت على مهل لا تحيد بأنظارها عن الكلب النائم فوق بلاط منزلها حتى مرت من الباب في سلام راكضه للأسفل دون اهتمام انها لا تمتلك مفاتيح الباب أو انها ترتدي فستان قطني قصير بالكاد يلامس ركبتيها، فكل اهتمامها مُنصب فوق الطفل الهابط خلفها هو وكلبه المتوحش.
خرجت من البناية تبحث يمينًا ويسارًا عن الأحمق الذي أرسل لها وحشًا كهدية ثم تصلبت في مكانها لبرهة حين تلاقت عيناها بأعينه الناعسة ولاحظت زيدان المتكأ بذراعه في أريحيه فوق سيارته. ارتسمت ابتسامة مغرورة فوق وجهه فقد كان واثقًا مائة بالمائة من نجاح خطته، قهقه عاليًا حين خرج منها صرخة صغيرة فركضت محطمه وضعها كتمثال حجري، مقتربة نحوه كي تحتمي فيه بشكل غريزي ما أن شعرت بوصول الكائن الرائع من خلفها.
نظر لها في تشفي مستفزًا إياها: -أنا ممكن أخليكي تبوسي إيدي عشان أسامحك دلوقتي، بس مش هعمل كده عشان محترم! -محترم! أنت أكيد جرا في عقلك حاجة، باعتلي كلب يا زيدان، عايز تموتني؟! -بذمتك من مكسوفة من نفسك، بقى الكلب البريء ده هيموتك، يا ساتر على قلوب البشر! ضرب كف على الأخر في استخفاف جلي من مشاعرها وخوفها فدفعته معترضة: -أنا انسانة متوحشة يا سيدي واتفضل خد الكلب ده قبل ما أموتك أنا.
-هتموتيني من الضحك أكيد ما فيش حل تاني، نرجع لموضوعنا ممكن أفهم أنتي مقموصة مني ليه؟ -يا بجاحتك وكمان بتسأل بعد عملتك السودة. قالت وهي تضحك ساخرة وتحدقه بعيون متحجرة تشع بمشاعر غيرتها، فأشار بيده نحو صدره وكأنه لا يصدق توبيخها له ثم ردد متعمدًا استفزازها: -وأنتي أيه اللي يخليكي تضمني انها سودة مش يمكن حمرا؟ تأففت وكادت تزجر وقاحته ببعض الكلمات لكنه قاطعها مستكملًا في لامبالاة:.
-هنسكت ونتكلم في المهم ولا هنهزر للصبح! قال في تهكم متعمدًا الإمساك بمعصمها كتحذير صامت، فأبعدت يدها عنه مردفه في نبرة مغتاظة: -بص يا مستفز الموضوع اللي كان بينا ده... أشارت أصابعها بينه وبينها قبل أن تستكمل في نبرة أرادتها حادة ولكنها خرجت مهتزة متلعثمة: -اعتبره منتهي وياريت نقفل الكلام فيه ونعتبر ان الاتفاق اللي يربطنا ببعض ملغي.
أنهت جملتها برأس مرفوع وأنف شامخ عاقدة ذراعيها في تحدي أمامها، فعكس زيدان حركة ذراعيها أمام صدره كناية عن قبوله التحدي وقد تحولت هالة المرح حوله لأخرى غامضة يشوبها السواد مستطردً: -يعني اللي رابطنا اتفاق مش كده؟ -بالظبط كده، هو كان في حاجة أكتر من كده؟ أخبرته وهي تبلل شفتيها تدعو الله أن يحجب التمني ورغبتها في أن يعترف بحبه لها عنه وألا تنعكس في حروفها الحائرة.
شعر بوخزة في قلبه ولكنه رمى بالمنطق خلف ظهره وبعد أن جاء لاسترضائها أجبرته بكلماتها الاستفزازية وأسلوبها الغير مبالي على القسوة والعناد فأخبرها بنبرة جليدية: -لا طبعا مفيش بينا حاجة غير اتفاق. راقب كيف ارتبكت ملامحها لكنها قضبت جبينها تغلف وجهها بالقسوة مردفه: -أكيد واهو أنتهى، وكل واحد يقدر يروح لحاله.
-أنتي غلطانة في نقطة واحدة، هو كلام يحترم وكل حاجة بس انا مش هحترمه لان نهاية الاتفاق في إيدي أنا. ضاقت عيناها في تساؤل تشعر بالبلاهة غير مدركة معنى حديثه، فسألت: -تقصد أيه؟ مال ثغره لأعلى وأقترب خطوة مؤكدًا في كبرياء: -أقصد أنه صحيح أنتي اللي بدأتي اللعبة لكن النهاية أنا اللي هحددها، والصراحة اللعبة مسلياني ومش هنهيها دلوقتي،.
يعني اتفقنا زي ما هو وشروطي زي ما هي ولو حصل غلطة منك ونستيهم هندمك ندم عمرك ما هتتخيليه! انفرج فاهها في صدمة غير قادرة على تجميع رد مناسب على وقاحته لكنها استدركت نفسها هاتفة: -أنت فاكر نفسك مين، أنت ولا حاجة بالنسبة ليا، اللعبة انتهت بشروطها ومن انهارده أنا هعمل اللي انا عايزاه محدش له حكم عليا. -وماله جربي ونشوف، والبادئ أظلم يا روحي.
أعلن في لهجته الباردة المغلفة بالهدوء المستفز، فصرخت فيه غير مباليه إنها على الطريق: -أنا أجرتك لغرض وانتهى، وحقك هيوصلك حالًا مُصر تضاقني ليه! -أيه أجرتك دي، أنتي جيباني من سوق عكاظ ولا أيه، لا أوزني كلامك بدل وديني، هات يا ابني السلسلة دي...
قطع تحذيره موجهًا جملته الأخيرة للصغير جاذبًا منه سلسلة الكلب الذي قرر النباح ثم اتجه خلف ميرا الراكضة وهي تصرخ في هستيريا للأعلى تتوسل ابتعاده عنها حتى وقف في منتصف الدرج سامحًا لها بالهرب داخل جدران منزلها مزمجرًا بشكل جنوني ونفاذ صبر من وقاحتها! -وابقي أكسري وكلامي وشوفي هعمل أيه يا ميرا عليا النعمة هعمل منك شوربة كوارع وأخلي كلاب الشارع تعمل حفلة عليكي.
هبط الدرجات في خطوات عنيفة ما أن أغلقت الباب وسمع صوت ارتطام ظهرها به، وقد فقد سيطرته كليًا على تصرفاته وجنونه حتى إنه لم يعد يبالي بسكان المبني أو الفضائح التي قد يفتعلها صراخه، حرك رأسه في خذلان وخيبة فعلى ما يبدو أن سكان البناية لن يهتموا حتى وان صرخ أحدهم جريمة قتل!