رواية نيران الحب والقسوة الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثامن
أجاب يزيد عليها بعد عدة لحظات، فتح وصمت فقط حيث يترقب منها ما ستلفظ به، بادرت هي بحديثها حين قالت: إزاي تمد إيدك على جنات يا يزيد؟ رفع حاجبه وكان رده صادمًا قاسيًا لأبعد حد: عشان متطلعش زيك. جحظت عيناها من فرط غضبها الآن، فهتفت باندفاع: قصدك إيه بالكلام دا؟و.. قاطعها ببرود استفزها بشدة: قصدي اللي فهمتيه، أنتِ عاوزة إيه؟ بعصبية تامة: عاوزاك تبعد عن ولادي وتسيبهم في حالهم. بنفس البرود رد عليها:.
طب ما تخليكي أنتِ في حالك وسيبيهم في حالهم؟ أنتِ هتعملي نفسك أم لأ فوقي أنا مش الولاد هتضحكي عليهم بكلمتين، أنا عارف وأنتِ عارفة إنك أنانية وميتحبيش إلا نفسك بلاش تعيشي دور مش دورك! أنت وقح حقيقي يا يزيد كان عندي حق أسيبك لوحدك زي... قاطعها آنذاك بشراسة: أوعي تنطقيها متخلقش لسة اللي يغلط في يزيد البحيري، أنتِ مسبتنيش أنا اللي سيبتك بمزاجي لأنك ببساطة متنفعيش. صمت...
صمت من الطرفين عدة لحظات إلى أن قالت سيرين بسخرية شديدة: مش حقيقي، أنا اللي كرهتك وكرهت عيشتك بس أنت لسة بتحبني وهتفضل طول عمرك بتحبني وعايش بس على أمل إني هرجعلك، أنا واثقة من اللي بقوله، وآه أنت عارف وأنا عارفة دا كويس. ضحكة تهكمية أصدرها قبيل أن يقول:.
مسكينة، أنا أعيش على أمل إنك ترجعيلي؟ دا أنا أبقى واحد مغفل حقيقي، فوقي كدا واعرفي أنتِ بتكلمي مين! عارفة بس إيه أكتر حاجة مزعلاني؟ إن ولادي ليهم أم زيك دي أكبر غلطة أنا عملتها في حياتي، عارفة كمان؟ أنا بلعن اليوم اللي اتجوزتك فيه، وبلعن الصدفة اللي جمعتنا، حاجة آخيرة أنا مضطر أقفل دلوقتي لأن أنا بتجوز للمرة التانية النهاردة، ولا أقولك للمرة الأولى أصل أنتِ كنتِ وهم، ومن غير سلام يا سيرين..
أغلق على ذلك وأخذ صدره في صعود وهبوط عنيف... في تلهفٍ ركضت زهراء إلى نورهان التي دخلت الآن بصحبة مازن في حالة يرثى لها، قالت بقلق بالغ: نورهان مالك يا حبيبتي إيه اللي حصل؟ كان وجه نورهان شاحبًا للغاية فلم ترد عليها فقط أدمعت عيناها، فنظرت زهراء إلى شقيقها مع قولها: إيه اللي حصل يا مازن ما تتكلم يا أخي؟! مازن متأففًا وهو يسحب نورهان معه ويسير بها: بعدين يا زهراء بعدين..
ثم توجه بها إلى الدرج ليصعدان معا إلى غرفتهما، ما إن دخلا حتى اقترب مازن منها ينوي مصالحتها! ابتعدت بعنف رغم وهن جسدها وصرخت فيه قائلة: ابعد عني متقربش مني خالص مازن قائلا بهدوء صارم: خلاص يا نورهان خلاص! خلاص؟ خلاص إيه يا عديم الإحساس، أنا جيت معاك لأني مش عارفة اقاومك وأنا بالحالة دي بس أوعدك المرة الجاية مش هتشوفني تاني، أوعدك يا مازن. ضغط على شفتيه بغضب جم، اقترب منها قائلا بقسوة:.
مش هشوف وشك في حالة واحدة بس لما تبقي تموتي أو أنا أموت غير كدا لأ، ولولا دراعك المكسور دا كنت كسرتك وكسرت دماغك الناشفة دي! بعصبية دفعته بذراعها اليسرى: ابعد عني، أنا حقيقي مش طايقة أشوف وشك، اللي يسمعك دلوقتي يقول إنك واحد بيحب مراته ومخلص لها أوي، مش قادرة أفهمك أنت بتعمل كدا ليه؟ ليه بتخوني يا مازن؟ زفر على مهل وأخبرها ببساطة:.
مش بخون، أنا بحبك أنتِ وأنتِ الأصل الباقي بقى دا تسلية ستات رخيصة بتتحدف عليا وانا قاعد في حالي لا بيا ولا عليا بضعف بصراحة لكن مافيش واحدة فيهم لها مكان في قلبي.. ضحكت بتهكم: والله؟! لأ بجد مخلص أوي، مازن أنت رخيص وأنا بكرهك. أغمض عينيه مكورا قبضتي يديه مع قوله الغاضب: ماشي، ماشي يا نورهان استفزيني زي ما أنتِ عاوزة وأنا برضوه مش هزعلك، بس متطوليش في الهري دا عشان أنا مش هسمحلك بكدا..
وأنا عمري ما هسمحلك باللي بتعمله يا أنا يا القرف اللي بتعمله دا.. يبقى أنتِ طبعا يا قلب يا مازن! أنتِ بتقولي إيه؟ وبعدين دا كلام هو الكلام بفلوس يا ستي؟ ليه بكبري المواضيع وبتقولي خيانة ومش خيانة وعموما خلاص مش هتتكرر تاني آخر مرة تمام؟ نظرت له باشمئزاز وقالت باحتدام: مش تمام، ومش هصفالك يا مازن تمام؟ تركته وذهبت إلى الحمام فورًا، ليهتف بعصبية: لأ مش تمام ياختي!
في طريقها الآن إلى مصيرٍ غير معلوم، إلى المجهول.. تشعر بشرخٍ كبير في قلبها الذي ينزف بلا توقف الآن.. ماذا فعلا بها والداها؟! وماذا فعل بها محمود؟! وماذا سيفعل بها يزيد إذا؟ هل هذه حياتها؟ ملكا لها أم ملكا لهم يفعلون ما يشاؤن؟! الصبر.. فقط هي تصبر ليأتي الحل من فوق السماء.. رسالة نصية عبر هاتفها تقرأها لتوها باهتمام حيث المُرسل كان محمود، ومحتواها كان.. متأكد إنك مش هتنسيني وهنبقى لبعض في الآخر يا لوقاحته.
إنه وقح حقًا، أي صنف من الرجال هذا؟ يبدو أنه كان أكبر وهم واكبر خدعة في حياتها... ولعل القادم افضل؟ تسأل نفسها وهي تحاول التشبث بأي شيء يوصلها إلى بر أمان.. أخيرًا وصلوا إلى القصر، ذلك القصر المهيب من الخارج فكيف هو من الداخل يا ترى؟ تترجل من السيارة وهي تضع يدها على خافقها، تسير بتمهل مع والديها ليمروا ثلاثتهم عبر البوابة الرئيسية ومن ثم إلى الداخل..
كانت السيدة ابتهال في استقبالهم بنفسها، ابتسمت باتساع وهي تحتضن شقيقتها ومن ثم الفتاة وكأنها تُعاينها بعينيها وما أقساه شعور على رنا! كذلك صافحت عبد العليم ودخلوا إلى بهو القصر... طاقة قدر بالنسبة لعبد العليم وإكرام.. وكابوس على رنا التي كان قلبها يبكي الآن وليس عينيها! تتقدم زهراء وتصافحهم مرحبة بهم بدورها وتهدأ رنا رويدا رويدا حين رأتها..
ينزل يزيد الدرج الآن وهو في كامل أناقته، صحيح هو إبن خالة رنا لكنهما لم يعرفا بعضهما قط.. لذا اختلست رنا النظرات إلى هيئته صاحبة الهيبة الطاغية وقامته القوية طولا وعرضا، بشرة وجهه البرونزية كبشرتها تماما! شعره الأسود كالفحم كلون عينيه السوداوان كالليل.. ذقنه الكثيفة وشاربه المنمق.. ملابسه المكونة من بنطال أسود وقميص كذلك حتى الحذاء! ما هذا! يبدو قاسيًا جدًا صلبًا لأبعد حد...
وجاء دوره في أن ينظر إليها وهو يلقي السلام على الموجودين.. نظرته أشملتها وجابت جميع ملامحها الهادئة وملابسها المحتشمة الفضفاضة.. أخفضت رنا نظرها سريعا عندما تلقت نظرته المتفحصة لوجهها.. ليسمع صوت خالته تقول: يا ألف أهلا وسهلا بعريسنا الباشا! وبجدية تامة قال: أهلا.. ليتكلم عبد العليم: منور يا بيه.. اكتفى يزيد بإيماءة من رأسه فقط، فقالت ابتهال بابتسامة:.
أنا بقول قومي يا رنا مع يزيد برا في الجنينة عشان تتعرفوا على بعض.. شجعتها زهراء وقالت وهي تنهض: تعالي يارنا.. اصطحبتها معها واتبعهما يزيد واضعًا كلتا يديه في جيبيه.. ابتلعت رنا ريقها وهي تشعر بخطواته خلفها، توتر رهيب سيطر عليها وباتت ترتجف حتى مع تهدئة زهراء لها، بينما زادت دقات قلبها اضطرابا حين سمعته يقول: خلاص يا زهراء تقدري تدخلي أنتِ دلوقتي. هزت زهراء رأسها موافقة واقتربت منه قائلة برفق:.
بالله عليك براحة عليها وافتح قلبك لها. أومأ فقط برأسه في صمت فانصرفت زهراء، اقترب يزيد من رنا قليلا وأشار لها إلى إحدى مقاعد الحديقة التي قابلتهم قائلاً بهدوء: اقعدي.. جلست رنا على استحياء وحاولت ألا تظهر توترها له وأن تظهر قوتها لكن هيهات فهو كان يشعر بكل شيء، كل شيء! عرفيني بنفسك. قال هذه الجملة وهو يجلس مباشرة أمامها مما أربكها أكثر. فاستجمعت قواها وتحدثت بجدية مماثلة:.
أنا رنا، عندي ٢٨ سنة، خريجة كلية تجارة. أشعل لفافة التبغ خاصته وأخذ منها نفسا قويا ثم زفره دفعة واحدة مع قوله: جميل.. نظرت له بعدم فهم: هو إيه اللي جميل؟ مواصفاتك يا أنسة هيكون إيه تفتكري؟ شكلك مش ذكية يا رنا، مش إسمك رنا برضوه! تأففت رنا بعدم رضى ولم يرُق لها حديثه، نظرت إلى الأرض بصمت، فقال يزيد: كملي؟ نظرت له بضيق وقالت: عاوز تعرف إيه تاني؟ كنتِ على علاقة بحد؟ يعني حبيتي اتخطبتي قبل كدا؟
رنا وقد تذكرت تعليمات والديها: لأ.. ضاقت عيناه وقال متعمدًا مضايقتها: جميل.. ضغطت على أسنانها بشكل ملحوظ، فقال وهو يلقى السيجارة تحت قدمه: شكلك عصبية يا رنا.. تغضن جبينها ثم أردفت: ممكن تقولي عاوز إي؟ عاوز أتجوزك عندك مانع؟! قالها صريحة بنبرة قاسية لا تبشر بالخير! فتوسعت عيني رنا وقالت بفؤاد قلق: ممكن أعرف ليه؟ وتابعت بنبرة أكثر هدوء: ليه وأنت لسة متعرفنيش؟! وبتهكم شديد قال:.
وممكن أنا أعرف أنتي جاية ليه النهاردة؟! على أي أساس يعني مش لنفس السبب ولا أنا غلطان؟! أخرسها حديثه فعادت تنظر إلى الأرض وهي تهمس لنفسها: الله يسامحكم على اللي عملتوه فيا! فقال رافعا أحد حاجباه: بتقولي حاجة!؟ حركت رأسها نافية مع قولها: مبقولش.. عصبية شكلك..! قالها مجددا وهو يتابع ردة فعلها، فزفرت بعنف وصمتت لبرهة قبل أن تقول؛ ممكن حضرتك تعرفني بنفسك؟ أردف بتريث:.
يزيد البحيري، رجل أعمال، ٣٥ سنة كنت متجوز وانفصلت وعندي جنات وإياد سألته بفضول: ممكن أعرف سبب الانفصال؟ مريحتنيش، تعبتني كتير.. ممكن توضيح؟ لأ صدمها رده فقالت بغضب: من حقي أعرف. بعدين، بعدين يا رنا هتعرفي، المهم دلوقتي تحضري نفسك لكتب الكتاب...
رواية نيران الحب والقسوة الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل التاسع
كتب كتاب؟ يعني إيه؟! هتفت في انفعالٍ تام وهي تنظر إلى وجهه نظرة قوية يشوبها الغضب الشديد، وهو كان على العكس تمامًا، مازال متمسك ببرود أعصابه المستفز، ينظر لها عدة دقائق في صمت ثم يقول متحررًا منه: مستغربة ليه؟! قالت بلا تردد: عشان دي اول مرة نشوف فيها بعض، إزاي بتقولي نكتب الكتاب؟ وبابتسامة لم تزدها إلا غضبًا قال: آه ما أنتِ عجبتيني يارنا وخير البرّ عاجله!
تركها ما إن أنهى جملته هذه وتوجه إلى الداخل، بينما ركضت رنا خلفه وهي تحاول إيقافه لكنه لم يتوقف وأكمل سيره وهو يبتسم لا إراديا على ردة فعلها، وفي الداخل نهضت والدة يزيد تسأله بتلهف: ها يا يزيد؟ نقول خير؟ وقف يزيد ولاحت منه التفاتة خلفه حيث نظر إلى رنا التي جاءت خلفه كالعاصفة تمامًا، فقال مبادرًا: بالنسبالي أنا خير حتى كنت لسة بقول للأنسة رنا إننا نكتب الكتاب النهاردة وخير البر عاجله..
أطلقت والدة رنا زغرودة عالية تبعها قول عبد العليم: الله اكبر ربنا يتمم بخير مبروك يا رنا.. رنا وقد احتدت ملامحها ثم هتفت بغضب: أنتوا بتعملوا إيه؟ مبروك على إيه أنتوا مأخدتوش رأيي أصلا! بينما قالت ابتهال بعتاب شديد: هو أنتِ مش موافقة على يزيد إبني يا رنا؟ نظرت رنا بضيق إلى والديها ثم عادت تنظر إلى يزيد قائلة: أنا لسة مأعرفوش إزاي هنكتب الكتاب على طول كدا؟ طب قولوا خطوبة! بس أنا عاوز كتب كتاب يا أنسة رنا..
ورغم سعادة والدته بقراره قالت بدهشة: طب ليه جواز على طول يا يزيد. سلط يزيد أنظاره على رنا وقال هادئًا: لاني ارتاحت لرنا وعجبتني ومش عاوز أضيع وقت، هو ليه الاستغراب مش فاهم؟ اقتربت زهراء منه وهي تسأله بقلق: يزيد أنت بتعمل كدا ليه؟ عجباني هقول ١٠٠ مرة يعني يا زهراء؟ مطت زهراء شفتيها بعدم فهم ونظرت إلى رنا الغاضبة وهي لا تعلم ماذا تقول لها؟! المأذون وصل يا يزيد بيه.
قالها أحد الخدم وهو يتقدم منه، فقال له بجدية: خليه يتفضل. اتسعت عيني رنا وكادت تتكلم لولا والدتها التي وكزتها وقالت بوعيد: اكتمي بؤك خالص، والله لو اتكلمتي لأخلي ابوكي يموتك فاهمة ولا لأ! أغمضت عينيها بألم وتخيلت للحظة أن هذا القصر غابة وهؤلاء الذين يقفون حولها وحوش، وهذا الغليظ يزيد ما هو إلا جلاد وقاهر روحها..
بين ناريّن هي، بالطبع نيران يزيد القاهر ونيران والدها الذي سيبرحها ضربا إن تكلمت حتى كلمة واحدة، هل تقتل نفسها لترتاح؟ لكن إيمانها بالقدر جعلها تستسلم الآن فليحدث ما يكتبه الله وحسب، هكذا كانت تفكر.. في لمح البصر بدأ المأذون في مراسم الزواج تحت أنظار مذهولة.. كما انضم مازن أيضًا لهم بذهول عارم فارغا فاه بصدمة وهو يسأل زهراء: مين بيتجوز؟ ردت عليه بإيجاز: يزيد.. نعم؟ إزاي وليه وامتى؟
تساءل مرة أخرى وهو ينظر إلى أخيه المبتسم بهدوء اثار دهشتهم جميعًا، هو اصلا لا يبتسم إلا نادرا لا يمزح، فماذا عن هذه الابتسامة؟ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير قُضي الأمر وباتت رنا زوجة ليزيد ويزيد زوجا لرنا! زغرودة أخرى تطلقها إكرام وتهلل: مبروك مبروك.. تبكي رنا فلم تستطع منع الدموع الحارقة، لم تستطع! تقدم منها يزيد وجلس جوارها متسائلا بمنتهى البساطة: بتعيطي ليه يا رنا؟!
فنظرت هي له بمنتهى الغيظ قائلة: دموع الفرح، بعيط من الفرحة أصل النهاردة أحلى يوم في عمري.. كان يعلم أنها تسخر، لذا ابتسم ابتسامة حقيقية تلك المرة وقال: تمام، هسيبك تجهزي نفسك، روحي مع أهلك وبعد إسبوع تبقى الدخلة تمام؟ لم ترد عليه وادارت وجهها إلى الجهة الأخرى، فاندفع مازن إلى شقيقه قائلا بنفس الدهشة المسيطرة عليه: أنت طبيعي؟ أنت بتعمل إيه؟ تابع يزيد متنهدا بنفاد صبر:.
هو الجواز بقى حاجة غريبة؟ فيه إيه مالكوا؟ مالنا إحنا برضوه مالك أنت يا روح قلبي! مازن أنا مش فاضيلك حل عن دماغي الساعة دي! مازن ضاحكا: حقيقي مش طبيعي ياض انت بس حلوة المفاجأة دي هتطلع من نفوخ صاحبتنا يا نمس. يزيد بجدية: نفوخ إيه متخرفش بقى في الكلام، وبعدين لم لسانك إيه ياض دي غور من قدامي. غاير يا عريس.. انصرف مازن ضاحكًا واتجه إلى المطبخ كي يأتي بوجبة لزوجته نورهان الغاضبة علها ترضى عنه!..
بعد مرور الوقت كان يودعهم يزيد في حديقة القصر، وقبل أن تنصرف رنا اقتربت منه وسألت بنبرة مختنقة: ممكن أعرف ليه عملت كدا؟ متقوليش عجباني عشان مش هصدقك وانت عارف إن مش دي الحقيقة. تنهد بعمق؛ حقيقة على فكرة وأكيد فيه سبب تاني بس مش عاوز أقوله دلوقتي، هقوله بعدين أوعدك.
رمقته بنظرة قاسية من أسفله إلى أعلاه ثم انصرفت دون كلمة أخرى وظل يتابعها إلى أن اختفى طيفها، ولم يكد يلتفت يزيد حتى وجد زهراء في وجهه قائلة: فهمني بقى إيه اللي بيحصل كدا لو سمحت؟! ضحك وحاوط كتفيها بذراعه قائلا بهدوء: هو مش أنتِ قعدتي تشكري فيها وتقوليلي افتح قلبك؟ زعلانة ليه بقى دلوقتي؟!
بس مش كدا يا يزيد، أنا كنت بقول خطوبة في الاول لكن إزاي هتتجوزها كدا بدون اي مقدمات أنا عارفة أنت بتعمل كدا ليه يا يزيد! يزيد باهتمام: ليه؟ طبعا عشان خاطر سيرين عشان تغيظها! استطرد وقد ضاقت عيناه: أنتِ تعرفي عن أخوكي إنه مراهق للدرجة دي؟ طب إيه يا يزيد إيه فهمني؟ أومأ برأسه وبدأ حديثه بوضوح:.
بصي يا زهراء، مش هضحك عليكي أنتِ بالذات أنا عاوز أبدأ حياة جديدة صحيح عاوز أثبت لسيرين إنها مش فارقة معايا تماما وهي فعلا كدا حتى لو قلبي بيقول غير كدا بس دا مجرد اثبات ليها مش غيظ ومش عند لأنها فعلا خرجت من حياتي، أنا عاوز أنسى اي موقف واي ذكرى بينا ورنا هي اللي هتقوم بالدور دا معايا وصدقيني مش ناوي أظلمها ومش واخدها كبري. ابتسمت زهراء بارتياح وقالت:.
أيوة هو دا يزيد أخويا الجامد اوي كمان يارب تقدر تعمل كدا يا يزيد وتحب من أول وجديد. الكلام دا بيني وبينك طبعا. طبعا متقلقش، المهم عاوزاك تصالح جنات بقى عشان خاطري لأنها على اخرها كمان بعد اللي حصل دلوقتي. يزيد بثبات: تمام، أنا هطلع لها. دخل مازن إلى الغرفة وهو يحمل الوجبة التي أعدها بنفسه خصيصًا لها، ثم أقفل الباب بقدمه واتجه نحو الفراش التي كانت تجلس عليه وتستند على على ظهره..
جلس أمامها ووضع صحن الطعام قائلاً بابتسامة: جبتلك سندوتشات جبنة رومي سايحة زي ما بتحبيها وشاي سكر زيادة زي ما بتحبي برضوه شوفتي أنا شاطر وبحبك إزاي؟ نظرت نورهان إلى الطعام، ثم بلعت ريقها فهي جائعة بشدة بل إن الجوع ينهش معدتها فمنذ الصباح وهي لم تأكل شيء قط.. لكنها نظرت له بغضب وأخبرته: مش عاوزة منك حاجة.. ضغط على أسنانه وقال بغيظ: يابت هضربك بجد. قالت بسخرية: وريني كدا هتعمل إيه مد إيدك لو تقدر!
حلاوتك يا نورهان دا أنتِ سوقتي فيها على الآخر أنا هقلب عليكي على فكرة كدا لمي نفسك شوية! صمتت قليلاً ثم استطرد بعنف: بذمتك مش مكسوف من نفسك؟ دا انت حتى مقولتليش أنا آسف أو أنا غلطان عمال تبجح وخلاص! أردف في سرعة: أنا زفت وقطران وغلطان وآسف.. حركت رأسها سلبًا: لأ مش هو دا اللي عاوزاه إن مكانش من نفسك انت وقلبك يبقى مالوش طعم.
طيب بصي كدا عشان متغباش عليكي أنا مش هتزفت اعمل كدا تاني وخلاص حرمت خلاص تمام؟، افردي خلقتك بقى.. رمقته بحدة مع قولها: مش بمزاجك أنت لما يجيلي مزاج أفرد وشي هفرده لكن أنت متقوليش.. مسح مازن على رأسه بغضب: تصدقي؟ لولا دراعك المكسور دا كان بقى ليا تصرف تاني معاكي.. نظرته أخافتها فعلا فنظرت بعيدًا عن وجهه في صمت، فرفع أحد الشطائر التي أعدها لها أمام فمها وقال بحدة عارمة: اتفضلي كلي..
فتحت فمها بتلهف فلم تجد شيء ووجدته يضحك وهو يأكلها هو، فصرخت به: رخم! أعاد وضع الشطيرة أمام فمها مع قوله الضاحك: بهزر معاكي يا نكدية هانم افتحي يا آخر صبري. تناولت منه بغضب طفولي وفي سرعة من شدة جوعها، وكان مستمتعًا بذلك عندما شعر أنها قد رقت ولو قليلاً..
رواية نيران الحب والقسوة الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل العاشر
طرق يزيد باب غُرفة ابنته جنات وانتظر قليلًا إلى أن فتحت الباب وتركته ثم عادت إلى فراشها كما كانت، نظر لها قليلًا بصمت قبيل أن يقفل الباب ويتجه نحوها ثم يجاورها قائلاً بهدوء: مساء الخير يا جنات. وبغضبٍ طفولي ردت عليه: مساء النور. تنهد يزيد تنهيدًا عميقًا وقال وهو يقترب منها أكثر: عارف إن مهما حصل مكانش ينفع أمد إيدي عليكي، بس في نفس الوقت مهما حصل مينفعش جنات تغلط في ابوها صح ولا لأ؟ قالت باندفاع:.
أنا مغلطتش في حضرتك! غلطتي لما توصفي خوفي وحبي ليكي بتربية خنيقة يبقى غلطتي ولما تكسري كلامي يبقى غلطتي يا جنات. جنات في حزن: حضرتك اتجوزت من غير حتى ما تقولنا؟ يزيد بنبرة جادة: زعلانة إني اتجوزت ولا زعلانة عشان مقولتش؟ الاتنين.. يزيد مبتسما هادئًا: ممكن أعرف وجهة نظرك؟ ليه زعلانة؟! ردت بصراحةٍ: لأني مش عاوزة أعيش مع مرات أب. بس عندك استعداد تعيشي مع جوز أم؟ صدمها رده المفاجئ، فقالت: ليه بتقول كدا يا بابي؟
مش أنتِ قولتي إنك عاوزة تروحي تعيشي عند أمك وإنك مش عاجبك عيشتي؟ جنات مبررة موقفها: قلت كدا بس عشان اعيش مع مامي مش حد تاني! يزيد بثبات: بس مامي عايشة مع حد تاني مش عايشة لوحدها! قالت باختناق: أنا مش عارفة أعمل إيه أصلا، وأعيش إزاي وأكون مبسوطة.. وبكت في تأثر شديد كما انهارت مشاعرها وراحت تعبر عن تلك الفوضى التي بداخلها..
أما يزيد فاقترب منها وضمها إلى صدره لأنه يعلم، يعلم أن جزء منها مشتت للغاية، وتائه! كأي فتاة طبيعية تحتاج إلى وجود امها لكنه أيضًا لا يعرف كيف سيعوض ويكمل هذا النقص؟! استمع إليها من جديد تقول من بين دموعها: ليه مش أعيش معاك ومع مامي ليه أنتوا بتعملوا فيا كدا؟؛ ضمها إليه أكثر ومسح دموعها بيده مع قوله:.
غصب عني أنا كنت مستحمل أي حاجة عشان تعيشي انتي وأخوكي في استقرار بس هي مستحملتش هي اللي اختارت ومش بكرهك فيها لا هي أمك وواجب عليكي تحترميها وتوديها وتبريها لكن يا حبيبتي متسمعيش كلامها في الغلط ولا تقلديها حاولي تعملي الصح وبس، يا جنات أنا معنديش أغلى منكوا وجوازي ما هو إلا بداية جديدة ومش جايبلكم مرات أب هي مش هتبقى مسؤولة عن أي حاجة تخصكم يعني مافيش حاجه هتتغير. مسح على شعرها برفق واستكمل:.
سامحيني أنا مش هقدر أسيبك تعيشي معاها صدقيني مش هقدر، لو أنا عارف إنها هتحافظ عليكي هسيبك ومش هتردد لحظة واحدة.. نظرت له وقالت: بس مامي لا يمكن هتأذيني.. أومأ برأسه قائلاً: يوم ما هتأذيكي مش هتكون قاصدة دا بس الإهمال واللا مبالاة هيوصلنا لمرحلة الاذية واحنا في غنى عن دا وأنا مش همنعك عنها مقدرش أعمل كدا دي حقوق شرعية من حقها وحقك تشوفوا بعض بس أنا بحط حدود عشان ادرى بمصلحتك فاهمة حاجة؟!
هزت رأسها بهدوء بإيجاب ثم قالت باستعطاف: طب ينفع أعيش مع حضرتك اسبوع يا بابي ومعاها اسبوع وبكدا مافيش حد فيكم هيزعل وهراضيكم انتوا الاتنين.. صمت يزيد بضيق وهو يزفر الهواء بثقل، فوضعت جنات رأسها على صدره قائلة بتوسل: عشان خاطري يا بابي وافق.. بس بشرط.. قال بجدية، فرفعت رأسها إليه قائلة بفضول: إيه هو؟ هنبقى أصحاب ومش هتخبي حاجة عليا وأي حاجة هتحصل معاكي هتيجي تقولهالي تمام؟ جنات بابتسامة كبيرة:.
تمام يا بابي.. يزيد بجدية: ولو عرفت إنك خبيتي عليا حاجة أعمل فيكي إيه؟ جنات ببراءة: متودنيش تاني عند مامي.. تمام.. قالها وهو يعانقها مجددًا ويربت على رأسها في حنو...
طرقات على باب الغرفة الخاصة ب زهراء، طرقات فوضاوية وعنيفة بالطبع علمت من الطارق... وقد كان توقعها في محله عندما فتحت الباب ورأت مازن الذي دخل هاتفًا بانزعاج: ساعة عشان تفتحي الباب.. زهراء هاتفة بتذمر: إيه دا في حد يخبط بالطريقة دي!؟ وبعدين مين قالك ادخل أنا قلت ادخل دلوقتي؟ أنتِ عبيطة يابت يا زهراء؟، فك وتعالي معايا عاوزك في مشوار كدا.. زهراء بغيظ: مشوار إيه الساعة دي أنت عارف الساعة كام يابني؟
عارف ما تنجزي في ليلتك يا زهراء، مشوار صغير كدا لحد المحل بتاعك دا اللي واجعة دماغنا بيه! والله؟ وهتعمل إيه بقى؟ مازن وهو يهندم ملابسه قائلا؛ هتعمليلي بوكيه ورد كدا حلو عشان أصالح بيه نورهان ياكش تتنيل ترضى عني ونخلص.. ضحكت زهراء قائلة: بطل الدبش اللي انت فيه دا وبطل تلعب بديلك وهي هترضى عنك.. نظر لها قائلا وقد رفع أحد حاجباه:.
أوعي تكوني أنتِ اللي فتحتلها الباسورد بتاعي يابت منا عارفك أروبة وبتقدري على كل نايبة.. زهراء وقد اتسعت عيناها بصدمة: أنا أروبة وبقدر على كل نايبة يا مازن؟ وربنا انت ما عندك دم وأنا مش جاية معاك.. قهقه ضاحكًا وجذبها نحوه قائلا: خلاص بهزر متبقيش عيوطة ونكدية كدا زي نورهان يخربيت كدا يا شيخة... وبعدين إيه الأسلوب البشع دا جايب منين كلام الحواري دا؟
من الدنيا ويلا عشان خلاص جالي حموضة من كلامك أمشي معايا عشان ألحق اصالح الولية.. جلست على فراشها استعدادًا للنوم وهي تتذكر كل شيء، أسئلته المستفزة، حواره البارد، هيئته الصارمة، وكأن الحوار يُعاد من جديد أمامها الآن بكُل تفاصيله.. صحيح أن تفاصيله مزعجة، لم ترُق لها لكنها لم تكرهه كما كانت تظن! لم تعرف أهذا قبول مبدئي أم أنها مشتتة وعائمة في هذا الموضوع..
يبدو قاسيًا بالفعل لكنه لم ينال كرهها وقد نال بعض القبول وإن قل! وهذا ما يقلقها، كيف ستعيش مع كتلة الاستفزاز هذه! أخبرها أن لديه من الأبناء اثنين كيف سيتقبلان وجودها ومن في البيت جميعًا؟ بعد اسبوع واحد ستكون معه تشاركه كل شيء؟، هذا لا يعقل ولا يصدق.. تنهيدة كبيرة خرجت منها قبيل أن يصدح رنين هاتفها عاليًا ينبئ عن اتصال جديد.. وقد كان المُتصل محمود الذي ما إن ردت عليه بادلها بكلمة واحدة وحشتيني..
أنت بتتصل ليه تاني؟ أنت إيه معندكش دم؟ للدرجة دي يا رنا، أنتِ بقيتي بتكرهيني أوي! بعصبية قالت: وأكتر من كدا كمان بجد انت واحد معندوش كرامة ولا رجولة حتى ولو لسة عندك يبقى متتصلش بيا لأي سبب تاني عشان سلام... أغلقت الخط بدون مقدمات وهو كرر الاتصال مرارًا لكنه لم يلق منها أي رد آخر.. بعد مرور ساعة..
وجدت نورهان باب الغرفة يُفتح ببطء ويد مازن تمتد بباقة رقيقة من الزهور ثم يدخل ويقفل الباب خلفه يقترب منها بتمهل ويبتسم بحُب لكنها لم تبتسم ولم يظهر عليها أي اندهاش مما دفعه للإحباط مجددًا وتجهمت ملامح وجهه قليلاً.. فقالت نورهان بجدية: إيه دا؟ ملوخية.. قالها بغيظ تام وهو يلقيه جوارها ثم يكمل بعصبية: ملوخية جايبها أخرطها عشان العشا، أنتِ شايفة إيه يا جِبلة؟ نورهان كاتمة ضحكاتها وانفعالاتها:.
طب إنزل هات المخرطة! إيه الخفة دي؟ لأ استني كدا هموت من الضحك.. ضحكت بخجل والتقطت باقة الورد أخيرًا واستنشقت عبيرها بسعادة وهي تسأله: الورد دا عشاني؟ أومأ برأسه عابسًا مع قوله؛ أيوة.. بابتسامة أخبرته: شكرًا... اقترب منها وجلس جوارها قائلا وهو ينظر إلى عمق عينيها: أنا آسف هحاول أعمل اللي يريحك بعد كدا.. وأنا مصدقاك وهعتبر دا وعد منك وأنا عارفة إنك مش هتخذلني تاني صح يا مازن!؟ رد بسعادة وضحكة كبيرة:.
صح جدًا يا قلب مازن.. قبّل رأسها بحب ومسح على ذراعها قائلا بوعد وصدق: إن شاء الله مش هتتكرر تاني.. بعد مرور يومين... أصرت والدة يزيد أن تذهب رنا مع والدتها وبصحبة زهراء أيضًا لشراء كافة المستلزمات التي تحتاجها وكل ما تشتهي نفسها، اعترضت رنا في بداية الأمر لكن وجود زهراء معها أراحها وبدرجة كبيرة..
بالفعل ذهبت رنا بصحبة والدتها وزهراء التي شاركتها الرأي في كل شيء وبالفعل ابتدت رنا تتأقلم مع حياتها الجديدة وتبتسم ابتسامة مفعمة بالحياة والامل وتستعد لزواجها كأي عروس... إيه رأيك يا خالتو تقعدي هنا تشربي حاجة وإحنا نلف نشتري اللي محتاجينه بدل ما نتعبك معانا؟ هكذا سألتها زهراء برفق، لتجيب إكرام بحماس: ماشي يا بنتي خير ما عملتي..
ذهبتا الفتاتان تتجولان بعد ذلك بأريحية أكبر إلى أن قالت زهراء وهي تلتقط إحدى قطع الملابس الفاخرة: أنا هدخل أقيس البلوز دي يا رنا عجباني اوي بصراحة.. فقالت رنا مبتسمة: ماشي يا حبيبتي.. تجولت بمفردها قليلا، تنظر إلى المرآة تارة وتتصفح هاتفها تارة أخرى.. فاصطدمت بأحد ما، ترفع عيناها لأعلى، فتتفاجئ بوجود يزيد وهو يحملق بها قائلة بصرامته المعتادة: على فكرة شعرك كله خارج برا طرحتك يا آنسة!