رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثالث والعشرون
راهنت عليه بكل ما تملك و اغلى ما تملك، و ربحت. حذرها الجميع، شقيقها، مازن و اكرم مدعين معرفتهم بزوجها و كم تشاء ان تعود فقط لتخبرهم انهم لم يعرفوه يوما. ما الذى قد تتمناه المرأه اكثر مما يمنحها اياه معتز. دلال، اهتمام، احترام، سعاده و حب. افاقها من شرودها به صوته الخافت يطالبها: يلا نرجع انا بردت.
حدقت به قليلا قبل ان تتسائل و هى ترى الاعياء باديا على ملامحه و كأنه يجاهد ليبقى عينيه مفتوحه: مالك يا معتز؟ و لم يجب فقط حاول النهوض مستندا عليها ليعودا للشاليه الخاص بالعائله، تسطح على الفراش و جسده يأن ارهاقا، وضعت يدها على جبينه لتصدمها حرارته المرتفعه لتهتف بقلق وضح جليا عليها: انا لازم اتصل بالدكتور. امسك يدها متمتما: انا كويس هنام و هبقي كويس متقلقيش.
همت بالكلام معترضه و لكنه اغلق عينه مستكينا و هو يهمس: ماتتعبنيش اكتر يا هبه. حاولت بقدر ما تستطيع اخفاض حرارته بكل السبل المتاحه و التى تعرفها و لكنها فشلت، فلم تجد بد و خرجت تبحث عن حل ربما في صيدليه مجاوره، اعطته ما نصحها به من دواء و انتظرت بجواره حتى يفيق، قلقه.
غفت على كتفه و لكن هذيانه الخفيض ايقظها فتحت عينها بسرعه وهي تحاول فهم كلماته المبعثره و لم تستطع تبين سوى كلمه واحده او بالاحرى اسم واحد: سالى. عقدت حاجبيها باستغراب يصاحبه ضيق خفى و غيرة تنهش قلبها و عقلها يتوه في تساؤلاته.
من هذه ليهذي باسمها اثناء مرضه؟، ربما احدى مغامراته القديمه؟، و اذ ربما كانت حب حياته؟، و رغم كثره التساؤلات فالاجابه واضحه فعلى ابسط و اقل تقدير هى فتاه من ماضيه التى ظنت للحظه انها استطاعت محوه... نفضت رأسها بقوه علها تخمد تساؤلاته التي باتت تؤرقها و تجعل قلبها يأن وجعا، و للاسف خوفا. خوفا من انتهاء هذا الحلم بواقع مرير، خوفا من ان يكون تعلقه بها مجرد غطاء لوجع حب قديم، و هذا ما لن تتحمله ابدا.
رضيت هي بنصف حب و نصف احساس، لكنها ابدا لن ترضى بنصف قلب. اما ان يكون لها و اما لا، لكن ان تشاركها غيرها في قلبه لن تتقبل هذا مهما حدث. مرت الساعات عليها ينهشها عقلها تفكيرا و قلبها ألما و لكنها تناست كل هذا بمجرد ان بدأ بالاستيقاظ و قد انخفضت حرارته قليلا، ليجدها تشابك يدها بيده في حنان افتقدته حد اللاحدود ليشرق وجهه بابتسامه و هى تهتف باهتمام: حبيبى عامل ايه، احسن دلوقتى؟
ثم تمتمت بقلق حقيقى: كنت هموت من قلقى عليك. نهض جالسا رافعا يدها مقبلا اياها بابتسامه خفيفه مجيبا اياها و قد قدر لها حقا اهتمامها: حقك عليا، انا تمام و زى الفل جدا، متقلقيش.
نهضت لتحضر له بعض ما يستطيع تناوله حتى انتهى مستمتعا بما تفعله من اجله و الذى لن يبالغ ان قال انه لم يشعر به من سنوات، حتى وجدها تنظر لساعه الغرفه لتقول و هى تنهض عنه تعبث بعده اغراض لتعود جالسه بجواره لتهتف بصرامه: و دلوقت جه وقت الدواء. عقد حاجبيه متحدثا بتساؤل: دواء ايه؟ و جبتيه منين؟ تعجبت حده نبرته و لكنها اجابت ببساطه: من الصيدليه.
اعتدل اكثر دافعا الطعام من امامه و قد علت نبرته قليلا و هو يهتف و قد اخبرتها نبرته انها على وشك محاداه معه: احنا رجعنا تقريبا بعد نص الليل، عاوزه تقولى لى انك خرجتِ، قرب الفجر، لوحدك، في مكان متعرفيهوش، علشان تدورى على صيدليه و اللى مؤكد هيبقى فيها راجل في الوقت ده علشان تجيبى دواء؟ و مازالت تجيبه ببساطه اشعلت غضبه من لامبالاتها: اه عملت كده، و جبت الدواء و جيت.
و اردفت و قد لاحظت ان عقده حاجبيه تزداد: عملت كمادات و حاجه دافئه تشربها و حاولت اعمل كل اللى اعرفه بس حرارتك منزلتش و كان لازم اتصرف، ثم انى مش فاه... قاطعها و هو يصرخ بها: مكنتش هموت لو استنيت للصبح، لكن واضح انك كنتِ عاوزه تخرجى نص الليل و ما صدقتِ بقى.
احتدت عينها هى الاخرى و هى تجيبه على وقاحته في الحديث معها كما تراها: اولا صوتك ميعلاش عليا كده تانى ابدا، ثاينا لازم تاخد بالك انت بتكلمنى ازاى و شغل التلميحات و القرف ده مش معايا انا يا معتز، فاهمنى! و تركته و غابت عن نظره ربما لتتجنب عراك اطول معه و هى التى تشتعل غضبا و غيره ممن هلوس باسمها في مرضه و ها هو المعتوه يغار عليها من طبيب قصدته لقلقها عليه او هكذا اعتقدت.
بينما استند هو على الفراش و هو يزفر بعنف و قد ظهرت عروقه من فرط عصبيته، و لكن سرعان ما تهدل كتفيه و عقد حاجبيه يحاول فهم ما حدث، غضب، عصبيه غير مبرره، انزعاج و صوت عالى و ما السبب حقا حقا لا يدرى. ربما هو يقلق لاجلها و لكن شعوره يشمل امرا اقوى و اغرب و هو شعوره بغيرة! عند هذا الخاطر عبث بخصلاته يتسائل أيغار عليها؟ يقولون دائما ان الغيرة محبه، فضحك بسخريه و هو ينفى الامر بداخله.
هو احب مره واحده و مازال يحبها و لكنه كان اضعف من الفوز بها، ما زال يشتاقها، يذكرها، يميل ليوم كان فيه امامه، لعينها، لحديثها، لما عاشه معها، فما شأنه الان بالحب، هراء! هبه بالنسبه اليه غيوم يُخفى خلفها الشمس التى طالما انارت قلبه و مازالت.
و رغم ذلك لن ينكر انه يقدرها، يحترمها، ينبهر بقوتها و ضعفها بين يديه، يحتاج اليها، و لكنه ابدا لا يحبها و خاصه انه يصدق انه غير قادر على الشعور بمثل تلك المشاعر مجددا. استند برأسه على حافه الفراش مغلقا عينه و تلقائيا وجد نفسه يتذكر اليوم الاول الذى رأى فيه زوجته الحبيبه، يليها اول شعور برغبته بها، و اول قرار يتخذه بشأنها و كل لحظه كانت بها.
و ما يميزها بقلبه انها ام برداء زوجه، انها صوره رائعه من الجمال، الحنان و الانوثه ضغت على كل معاني الجمال لديه.
تعبها لاجله، اهتمامها به، سعادتها بمشاكسته، خجلها بين ذراعيها، قوتها التي يغلفها حب تصرخ به عينها، قدرتها الغريبه على ازاله قلقه و خوفه و الاهم مكانتها و التى شملت جزء لا يستطيع التغاضى عنه ابدا في حياته و ربما لهذا يغار لانها ملكه، تخصه و لن يسمح لها بالابتعاد لانه يريدها و حسب بدون ذكر سببا لذلك.
و مع تعهده لنفسه انه ابدا لن يتركها كانت هى تخشى لاول مره بحياتها، فما ظنته سهلا اصبح اكثر مما يمكنها تحمله،.
امرأه باستقلالها، وضوحها، صراحتها و قوه عقلها و تفكيرها لن تتحمل مزيدا من انتهاك قلبها و لن ترضى ابدا باستنزاف افكارها و خاصه انها للمره الاولى تخشى ان تخسر بل المره الاولى التى تضع بطريقها احتمال الفشل و لا تدرى لماذا و لكنها تشعر به وشيكا و تحديدا بعد ان شتت ذلك الهذيان تفكيرها، و لن تهدأ حتى تعرف من هى سالى و لكنها تدرك انها لن تخاطر بسؤاله ربما لانها بالفعل تخشى الاجابه.
- قولت مليون مره بلاش تمشى من الطريق ده بالليل يا سلمى. صرخت بها ليلى و هى تهاتف سلمى اثناء عودتها من الشركه لتضحك سلمى بالمقابل و هى تسخر هاتفه: مش هيطلع لى عفريت يا ماما، المهم اعدى عليكِ نروح سوا و لا اسبقك على البيت؟ طرقات خافته ثم استئذان بالدخول، جلس امجد بانتظار ليلى لانهاء مكالمتها بينما اردفت ليلى لتلك العنيده: لا روحى انتِ، انا لسه قدامى شويه.
انقطاع الصوت، شهقه حاده و صوت توقف السياره و الذى جعل ليلى تصرخ بفزع: سلمى انتِ كويسه، الو الو اعتدلت سلمى لتنظر لتلك السياره التى توقفت امامها مباشره و اجابت بتوتر: كويسه، بس في...
لتصمت مترقبه ذلك الرجل الذى ترجل مقتربا منها، طرقات على زجاج السياره، و عندما حاولت التحدث لوالدتها التى ظلت تصرخ باسمها صرخه عاليه منعتها و هو يكسر الزجاج، لتنحنى سلمى محاوله الابتعاد ليصلها صوت امجد هذا المره لتهتف قبل ان يسقط الهاتف منها: الحقنى يا امجد،.
اقترب الرجل ممسكا اياها من حجابها مقربا وجنتها لاحدى قطع الزجاج العالقه لتصرخ بألم و هو يهمس بصوت قوى: دكتور امجد، هتفركشى معاه و الجوازه مش هتم، ايه السبب؟ انى مش هسمح لك تعيشى حياتك، و ايه السبب برده؟ مايشغلكيش انا عبد المأمور، المره دى هكتفى بتحذير المره الجايه، الله اعلم.
استمع امجد لما قيل، فأخذ نفسا عميقا ناظره لليلى متسائلا عن مكان سلمى لتخبره ليخرج من المشفى محاولا الوصول اليها بأسرع ما يمكنه و بيده هاتف ليلى يسمع كل ما يقال و يقتله صوت صراخها، بكائها و توسلها لتركها.
قرب وجهها من الزجاج اكثر لتسيل الدماء على زجاج سيارتها مع انقطاع انفاسها من شده صراخها و توترها و هو يردف بضحكه ساخره: عندى فضول اعرف السبب ليه عائلتك بالذات اللى عليهم توصيه جامده كده، محبوبين قوى، بس للاسف مش هعرف، يلا مش مهم. ضغط وجهها اكثر مضيفا: انسى فكره الجواز و اقعدى في بيتكم لو لسه باقيه على روحك، وجود راجل في حياتك هيقرفنى، فاهمه؟
و ضغط اقوى ثم دفع برأسها للداخل راحلا لسيارته و لحظات و لم تراه امامها، درات عينها يمينا و يسارا بارتجافه و لم تدرى ما حدث بعد ذلك.
فتحت عينها بهدوء، لترى ليلى امامها تبكى خوفا، نهضت جالسه لتضع يدها على وجنتها تشعر بخدر لا تعلم سببه، ومضات اضاءت لها ما واجهته مأخرا لتبدأ دموعها بالانهمار رغما عنها لتحتضنها ليلى محاوله تهدأتها فيما بالخارج جلس كلا من عز و عاصم و امجد يحاولون فهم ما حدث و ما سببه و من يجرأ على فعل هذا و لم الان و ما الهدف و خاصه بعد ان استمع الجميع للمكالمه التى سُجلت على هاتف ليلى.
تهديد صريح و واضح للعائله بأكملها، و هذا ما سبب لعز نوعا من القلق على ابنتيه و زوجته خاصه. تحفز امجد و هو يرى قلق عز مقررا مشاركته به: انا مش هتخلى عن سلمى مهما حصل. ابتسم عز و قد ادرك لاول مره ان طفلتيه حقا نقاط ضعفه، مقدرا لامجد موقفه و لكنه تمتم: انا مقدر جدا اهتمامك يا امجد بس الموضوع له ابعاد تانيه اه دى اول مره بس من الواضح انها مش هتبقى الاخيره و علشان كده انت من حقك..
قاطعه امجد هاتفا بحسم و ثقه: انا اسف على المقاطعه بس انا مش هبعد عن الانسانه اللى اخترتها شريكه لحياتى لمجرد تهديد عبيط، ثم انه قال ان وجود راجل في حياتها هيقرفه معنى كده ان وجودى نوعا ما حمايه ليها. هم عاصم بالانفعال فلقد طال صمته و هذا ليس من طباعه اطلاقا: دا على اساس انى مش هقدر احمى اختى مثلا!
التفت اليه امجد مردفا بهدوء يميزه دائما: لا انا و لا انت قدرنا نحميها النهارده يا عاصم بس اللى انا عاوز اوصله ان من يوم ما اخترت سلمى و دخلت البيت ده و قولت انا عاوز الانسانه دى تبقى مراتى و تشاركنى حياتى انا اخدت عهد على نفسى انى ابقى جنبها مهما حصل و انى هكون سندها و حمايتها لو تطلب الامر، مش بقلل منك او من والدها لكن انا حاسس انى مسئول عنها و من واجبى انى ابقى معاها.
و بغير العاده الرد اعجبه بل و رأى فيه نفسه عندما احس سابقا بمسئوليته تجاه جنه رغم انها كانت بنظره مجرد خادمه لشقيقته، وللعجب صمت منتظرا رد والده. تابع عز الحوار و عاود حديثه: احنا مانعرفش مين اللى بيعمل كده و لا ايه السبب، هل اعداء لعاصم علشان شغله و لا ليا علشان الشركه بس من الواضح انه قاصد اللى بيقوله كويس، خد وقتك في التفكير و قرارك كلنا هنحترمه.
ليحدق امجد بعينه بقوه مردفا: انا مش محتاج افكر، الاحساس اللى حسيته لما شوفت سلمى في الوضع ده مش هتحمله تانى، و اى كان الشخص ده انا هقف جنب خطيبتى و مش هتنازل عن ده ابدا. ثم صمت قليلا مضيفا: و لو تسمح لينا، انا بتمنى توافقنى اننا نكتب الكتاب انا عارف انه بدرى قوى على طلب زى ده بس حضرتك عارف انى مش هقدر ابقى جنبها فعلا غير كده واتمنى كمان الفرح يبقى مع فرح اختها لو مش هيعترضوا طبعا.
ضحك عز من انفعاله الواضح جليا على وجهه، لحظات صمت، تفكير قاسى، ثم قرار مؤقت: مبدأيا انا معنديش مشكله، انا واثق فيك و بثق في رأى ليلى و حكمها على الناس جدا و علشان كده انا هعرض الموضوع على سلمى و ابلغك بقرارنا الاخير.
و كان اقناعها اشبه بمحاوله انتحار و لكنها وافقت و ها هى الان تجلس بجواره بعد ان تم عقد قرانهم لتجده يهمس بأذنها يقطع شرودها: مبروك عليا انتِ. نظرت اليه ليقرأ هو عينها ببساطه فما تلقته من تهديد جعلها ترتعد و لكن ما وجوده بحياتها ان لم يطمئنها! مد يده ممسكا يدها باحتواء جعلها تنظر اليه تاركه خوفها يشمل نظراتها تماما لتهمس: ليه بتعرض لنفسك لحاجه انت في غني عنها؟
تطلع لعينها قليلا مرسلا اليها امواج عاليه من مكنونات قلبه و استقبلت هي بحر عينه الهائج بها بتعجب فأكد هو تعجبها بتعجبه المماثل: انا مقضتش معاكِ وقت كافى يخلينى اقول انى بحبك بس تقدرى تقولي تعلق، تمسك، احساس قوى بانك جزء مني و شعور اقوى انى مستعد لاى حاجه غير انى ابعد عنك، مش عارف بالظبط!
ضغط كفها بكفه يزيدها اطمئنانا و اردف بثقه اثارت اعجابها بتمسكه بها: انا عمري ما كنت هعجل جوازنا لو مش متأكد انك انتِ اللي بدور عليها، انا مش صغير يا سلمى و مش لسه طايش و بختار بعشوائيه، و خطوه الجواز انا مدرك تماما انها مش سهله و مش كلمتين حلوين و شويه ورد، بس كمان مدرك كويس جدا انا محتاج ايه في شريكه حياتى و دا انا لقيته فيكِ، ازاى و امتى ماعرفش كل اللى اعرفه و شاكر ليه جدا ان الظروف جت في صفى.
و مازال الحوار من طرف واحد و لكنها كانت في اسعد لحظات حياتها و هى ترى مدى رغبته، تمسكه، و اصراره عليها و كأنها اول و اخر من اراد. و لكن رغما عنها تخاف، جدا. ان اصابه اى شئ بسببها لن تكون قادره على مسامحه نفسها اطلاقا. اخذت نفس عميق ثم ابتلعت ريقها ببطء و اردفت بتساؤل خافت: مش هيجى يوم و تلومنى و تقول يا ريت؟
ابتسم باشراقه لم تُخفي عنها و همس امام عينها مباشره: انا اتعودت من صغرى اتحمل نتيجه قرارتى علشان كده عمري ما ندمت على حاجه عملتها حتى لو غلط، القرار انا اخدته و الاختيار كان ب ايدى و الفعل انا اللى عملته ف هندم ليه؟، و لو نفترض حصل و لومتك، عايزك بكل قوتك تقفي و تقولى لي هو كان حد ضربك على ايدك. انطلقت ضحكتها ليخفق قلبه بشعور طالما انتظره و انتظره و ها هو يتملكه الان.
و سبحان من جعله يراها انثى بكل النساء، بعنفوانها، حبها للحياه، اشراقتها، و عنادها. وواثق انها ستكون مميزه في عشقها و احتلالها لقلبه سيكون اسوء و اجمل احتلال. في جانب القاعه تقف نجلاء التي بمجرد ان علمت عن اتمام الزيجه حتى اتت مهروله، هاتفت ذلك الاحمق الذي اكتفي بمجرد جرح بوجنتها، لماذا لم يجعله بعنقها، بل لماذا لم ينهي حياتها! و الان تكاد هى تموت غضبا لسعادتها.
ولكن لهنا و كفى عبثا، لن تسمح بأن تضيع كل خططتها، ابنتها البكماء تبدو السعاده واضحه على وجهها، و ابنها المصون اخذ زوجته لتقضي بالخارج شهر عسلها، كلٌ يعيش بسعاده و هذا ما لن تتحمله. و الان ستمحي الحب و السعاده التى غلفت قلوب الجميع، مهما كلفها الامر، و حقا تعنى كل ما تحمله الكلمه من معنى.
كفي انتظارا و كفي تمهلا، من الان ستفعل كل ما بوسعها لتمحي الحاضر كما محت الماضي و كما ستمحي المستقبل، و كما لم يُكتب عليها ان تعيش بسعاده في ظل حبها، لن تدع احدهم يفعل، ابتسامه جانبيه، توعد بأن تنهي كل هذا، و لن تتوقف الا بعد ان تخسر كل سندريلا اميرها، ف بيدها الان ستكسر ذلك الحذاء الذى من شأنه جمعهم.
كما يأتى الحزن على حين غفله، احيانا يفاجئنا القدر بفرحه ربنا ظللنا طوال العمر ننتظرها، فرحه توقعنا يوميا اننا لا نستحقها او ربما لسنا بمحظوظين كفايه لننالها، و شئنا ام آبينا، كلاهما قدر و سنعيشه.
و ربما لم تكن تدرك ان اليوم هو يوم فرحتها، انهت عملها بالمكتب، استعدت للرحيل، خرجت و بمجرد ان تجاوزت عتبه غرفتها و جدت محمود يقف في منتصف الممر بيده ورده و على وجهه ابتسامه جعلتها تحملق به باستنكار و دهشه قبل ان تبتسم ببلاهه و هى تراه يقترب منها. وقف امامها و اتسعت ابتسامته و هى يعاتبها بنبره مراوغه: كل ده شغل بقالى ساعه واقف هنا مستنيكِ.
تراجعت مها عنه خطوه و هى توضح بعينها استغرابها و الذى بدأ يتخذ مجرى القلق قليلاا، و لكن سرعان ما شهقت بصدمه و هى تراه ينخفض على ركبتيه و رفع يديه بالورده امامها متمتما بنبره داعب وتر احساسها و انوثتها لينتشى قلبها فرحا: مش عارف امتى و ازاى و ليه حصل، بس من يوم ما شوفتك و انا مش عارف ايه حصل، ليا، بستنى اشوفك، بتشاركينى احلامى، عرفتينى يعنى ايه حب، باختصار خطفتِ قلبى يا مها.
ابتلعت مها ريقها لا تستوعب ما يقوله و بأكثر الوجوه اشراقا و اكثر العيون نطقا بالاعجاب همس بشجن مس قلبها: مها انا بحبك، و نفسى تبقى جنبى طول العمر، تقبلى تتجوزينى؟ و الرد صمت، تعجب، و نبضات قلب تتراقص فرحا، قلقا و خوفا من مستقبل معا او ربما فشل هذا المستقبل. و رغم انها رأت ما فعله مراهقه دراميه، الا انه ادهاشها، اسعدها و ايقظ ثقتها بأنوثتها.
و مع عجزها عن التحدث عبرت عينها عن الحزن لذلك، التقى هو مباشره ما يؤرقها فهتف في حزم: بدون كلام كتير انا عارف كل حاجه عنك، و راضي بيها و بحبها كمان، ثم اضاف بمرح: و بعدين اذا كان اكثر حاجه بتكرها الرجاله في الستات مش عندك يبقى انتِ تستاهلي الحب و بس. و رغم قوله اياها بنبره مرحه الا انها لا تدرى لما اصابت قلبها بغصه مؤلمه.
فهو بصنعه لطافه يخبرها انها ناقصه، راضيه هى بقضاء ربها و لكنها تخشي ان يأتي يوما و يندم على قراره و ندمه هذا سيذبحها ذبحا. ايه اللي بيحصل هنا؟ انتفضت مها و هى ترى اكرم يتقدم منهم بخطوات شبه غاضبه مع سؤاله الحاد لتنتبه اخيرا ان الرواق فارغا الا منهما، لتسقط نظراتها ارضا خجلا. بينما نهض محمود مبتسما بارتباك قائلا بسذاجه محاولا تفادى الامر بهدوء: غرضى شريف و الله يا بشمهندس.
نقل اكرم نظره بينهم حتى استقرت على مها و التى ارتبكت رافعه رأسها اليه لتتفاجئ بالغضب البادى بوضوح على وجهه لتتحرك مسرعه مغادره المكان، فيما التفت اكرم لمحمود هاتفا بحده: اعتقد لو حابب تتقدم لها يبقى تدخل بيت اهلها و الاولى انك تطلبها من ولى امرها. تنحنح محمود قائلا بحرج و قد ضايقه تدخل اكرم الذى يفترض لا يعنيه الامر: انا كنت حابب اعرف رأيها الاول.
لتشتد حده اكرم و هو يرى في الامر اساءه لمها و عائلتها: يبقى تعرفه في بيتها مش في ممر فاضي من الموظفين في ساعه نهايه الشغل يا سياده المحامى، و احمد ربنا ان انا بس اللى شفت الكلام ده و الا كانت بقت سيرتها على كل لسان في الشركه. اطرق محمود برأسه و ها هو يتعجب تصيد اكرم لاخطائه و التى يفعلها حقا دون قصد سابقا لهبه و الان لمها و تمتم و قد شعر ببعض الندم: انا اسف مكنتش اقصد كل ده.
و مازالت حدته لم تهدأ و رفع سبابته محذرا بحزم: مكان الشغل للشغل و بس، غير كده يبقى في بيتها قدام اهلها، بكرامتك و بكرامتها، بلاش شغل مراهقين. و هم بالرحيل و لكنه استدار لمحمود مجددا متسائلا و قد تذكر حديث سابق له مع جنه: هي مش مها اكبر منك؟ نظر اليه محمود بدهشه لحظات ثم هتف بعدم استيعاب: اكبر منى! ازاي يعنى؟
عقد اكرم حاجبيه مردفا: اعتقد جنه كانت قالت مره ان مها في سن عاصم و طبيعى بما انها اخت معتز الكبيره. بدهشه اكبر ردد: اخته الكبيره؟ مال اكرم عليه واضعا يده على كتفه و قد ادرك للتو ان محمود اهتم برأيها و لكنه غفل عن معرفه كل ما يخصها اولا: اتأكد من الموضوع ده لانه لو كده هيقابلك مشاكل كتير يا بطل.
السلطه، النفوذ، المال، امور اشبه بالممنوعات لخطوره ادمانها. و هذا ما كانت تعانيه كوثر الان بعد ان هدم عاصم بنفوذه كل ما بنت و كل ما ارادت ان تبنيه. تعيش حاله من الغضب الاعمى و الرغبه في الانتقام و استرجاع ما خسرته بسببه.
لم تعد حالتها الماديه تكفيها فاضطرت لارسال طفلتيها لابيهما بعد ان كانت تكره مجرد التفكير في ذلك، لم تعد حالتها الاجتماعيه تسمح بأن تعمل و تتعامل، و لم تعد حالتها النفسيه تمنحها الامان و الاطمئنان و التى طالما عاشت بهما. و الان كل ما يعنيها هو العوده لسابق عهدها، قوتها، جبروتها، سلطتها و مالها. اى كان الثمن و اى كان المقابل. فلن تسمح ان تكون النهايه فوز تلك الفتاه بكل شئ، وخسارتها هي بالمقابل كل شئ.
و طالما تلك الضعيفه في عرين الاسد، ان حاولت هي الاقتراب لن تسلم من هجومه القاتل عليها. رفعت يدها تتلمس جانب شفتها التي احتفظت بندبه اثر صفعته القاسية، لن تنسي له ما دامت حيه صفعته على وجهها، و ستردها اضعاف. فقط ستنتظر متي يضعف، كيف، و ما الذي قد يضعفه!
اخذ الامر منه الكثير من الوقت ليراضيها، يعتذر و يحملها على مسامحته و بالطبع نجح فهى فلته. استيقظ ليعتدل ناظرا اليها نائمه بجواره، يداعب وجنتها بعبث و على وجهه ابتسامه انتشاء. لن يستطيع انكار انه اكثر من محظوظ لدخولها حياته، و كم يتمني ان تظل جواره لا تفارقه يوما، ان يظل حبها له يموج بعينها، و ان يظل قلبها ملكيه خاصه له. امرأه بقوتها، و حنانها، امرأه بشجاعتها، و خوفها،.
امرأه برقى عقلها، و رحمه قلبها، بمعني ادق و اشمل هي امرأه فريده من نوعها. امرأه يدرك تماما انها تستطيع ان تطرده من حياتها كما ادخلته بها. و لكنه يعلم انها بأي ظرف كان لن تفعل، فهي تعشقه عشق لا يطمس، تحبه حب لامشروط، تحيى به و تموت فيه، فكيف لمن يحمل قلبها كل هذا الحب ان تفرط به يوما؟ هو متيقن تماما انه امتلك قلبها، عقلها و كل ما بها، و مدرك تماما انها لن تتركه ابدا الا بانتهاء حياتها.
اتسعت ابتسامته و هى تتملص من اصابعه التى ارقت نومها لتنهض ضاحكه مبتعده عن مرمى يده، و كعادته، مشاكسه، عبث و كلمات ملتويه و ضحكات عاليه بدأت يومها. اتكأت على كتفه و هى تهمس باطمئنان: النهارده احسن؟ اومأ موافقا و هو يقبل رأسها لتعتدل هى مبعثره خصلاته دافعه اياه عن الفراش هاتفه: قوم خد شاور و فوق كده على ما احضر الفطار. زمجر بطفوليه محببه اليها: انتِ عارفه اني بحب احضر الفطار معاكِ،.
ثم قربها اليه بمكر و هو يردف و فمه ينهل منها: بحب المطبخ، و اللى بتقف في المطبخ و اللى بعمله معاها في المطبخ. صدعت ضحكتها تملأ الغرفه و هى تتملص من بين يديه هاربه ليبتعد بضحكه و هو يقول: 3 دقايق و هتلاقيني جنبك، استنينى. ابتسمت بسخريه و هي تراه يركض ليأخذ ملابسه: معتز و 3 دقايق بس، دا انا بحس اوقات انك بتنام جوه. قهقه عاليا صارخا و هو يتجه للمرحاض ركضا: انا و الدُش بينا قصه عشق متفهميهاش انتِ.
اغلق الباب بينما صرخت هي خلفه: لو اتأخرت هعمل الاكل و هاكل من غيرك كمان. ثم استدارت ترتب الغرفه لحين خروجه، فهذا الرجل بكل ما يحمله من نواقص هو اكمل الرجال بعينها. ارتفع رنين هاتفه لتنظر اليه لترى اسم والدته ينير الشاشه فابتسمت و فتحت الخط و بمجرد ان تحدثت هتفت نجلاء بحده: انتِ بتردى على تليفون معتز ليه، هو فين؟ تمالكت هبه غيظها و اجابتها: معتز مش جنبى دلوقت تحبى اقوله حاجه؟
زفره ضيق سرعان ما تحولت لضحكه خبيثه و قد جال بخاطرها فكره رائعه ستجعل فرحه عروس ابنها المبجله اسوء كوابيسها: ماشى يا عروسه لما يبقى جنبك خليه يكلمنى. و اغلقت الخط بوجهها مما جعل هبه تزفر في غضب فحقا لم تعد تتحمل تلك المرأه، لقد طفح الكيل.
القت الهاتف على الفراش و همت بالخروج من الغرفه و لكن تفاجئت باتصال اخر و هذه المره من رقم غير مسجل، فتحت الخط وصلها صوت انثوى جعلها تعجز عن اخراج صوتها: ميزو، انت فين يا راجل مش ظاهر كده؟ تشنجت عضلات وجهها و وضعت يدها على قلبها كأنها تمنع ألم او ربما غضب، فعاد الصوت الانثوي يردد: ايه مش بترد ليه؟! اوعي تكون نسيت صوتى؟
جمعت هبه كل قوتها مستمعه لنداء عقلها لتعرف من هذه لتجد امامها الان فرصه لمعرفه مدي علاقاته و لا تدري لسوء ام لحسن حظها انها اتت اليها على طبق من فضه! و متجاهله تماما نداء قلبها باغلاق الهاتف حتى لا تسمع ما يُوجعها، هاتفه بحده: انتِ مين؟ تعجب و استنكار من الصوت المقابل: اوووه، انتِ اللي مين! و تليفون معتز بيعمل ايه معاكِ؟
همت هبه بالصراخ في وجهها فتلك الشمطاء تسألها عن زوجها، و لكن هتاف الفتاه الخبيث اوقف كلامها بل و اوقف دقات قلبها ايضا و هى تهتف بفجر اصاب هبه بالجمود: اااه فهمت، انتِ الجو الجديد اللى شاغله عننا، بس غريبه مكنش بيفضل جنب واحده للصبح، واضح انك مميزه، عموما good luck و ابقى وصلى له سلامى. اضطربت نبضاتها بقسوه و قلبها يترنح كذبيح بين ضلوعها.
لم يكن يظل للصباح اي ان سهراته كانت مساءً، و لا حاجه للتخيل عن ماذا كانت! ابعدت الهاتف عن اذنها قاذفه اياه ارضا و رفعت يدها لتعتصر قلبها بألم طغي على كل ملامح وجهها. لم تكن اول من يلمسها، لم تكن اول من يشاكسها، لم تكن اول ما غازلها بكلماته، و الان ادركت انها لم تكن الاولى بأى شئ كان. وضعت يدها على رأسها تمنع استرسال عقلها في افكاره المهلكه و لكنه آبى. ما كان فيه لم يكن استهتارا فقط، بل فُجر ومجون،.
هو لم يكن ضائعا، بل القي نفسه طواعيه بالضياع، هو لم يحتوي نفسه، بل جعل من احضان النساء له بيوتا، هي لا ينقصها قلبه فقط، بل كل ما فيه، هى لا تحارب ضعفه فقط، بل تحاربه هو، اختناق اصابها و قلبها يؤلمها، مع تساقط دموعها دون ان تتغير ملامحها المصدومه، و عقلها يلقيها على حافه الجنون. هل كل مره كانت بين ذراعيه يرميها بكلمات غزل كان يكرر صور من الماضى!
هل كل مره احتضنته، قبلته و اخبرته بحبها كان يتذكر انه فعلها مع غيرها! ابتسمت بسخريه لاذعه و دموعها تزداد انهمارا و هى تتخيل ان يأتى يوما لتقف امامها احداهن لتخبرها عما كان يفعله زوجها بل عمن يكون. و عند هذا الخاطر أنت وجعا، و اى وجع! فما تشعر به الان اصعب بكثير ما ان تصفه كلمات، قهر، وجع، الم، خيانه، حقاره، نفور، كره، تشتت، ضياع و اخرها تماما اصرارا و قوه.
قاطع افكارها صوته المرح يهتف و هو يقترب منها: متأخرتش اهه يا فلتى. رفعت رأسها اليه ليتعجب دموعها و فورا لاحظ هاتفه المُلقي على الارض فانخفض و امسكه يقلبه بيده باستغراب قبل ان يسألها مترقبا: مالك يا هبه؟
كانت تنظر اليه بنظرات ثاقبه غامضه، تتخيله يمرغ وجهه في عنق امرأه ما، تتخيل علامات احمر شفاه على جسده هنا و هناك، تتخيل امرأه ماجنه تتحرك بين يديه دلالاً و هو يغمرها بقبلاته، تتخيل ابتسامته المنتشيه وهو يراقب جسد احداهن. تعجب نظراتها المتفحصه و ما زاده تعجبا نظراتها النافره المشمئزه قبل ان تنطلق منها الكلمات كسياط حاده لا ادرى على من منهما كانت اكثر صدمه و وجعا: كام واحده نامت في حضنك قبلى يا معتز؟
العائله هى الكنز الحقيقى الذى لا يفنى. كارن أرمسترونغ.
دخوله للمنزل بعد جهده المبذول بالشركه اكثر ما يمنحه الراحه، وجد مازن والدته تجلس ارضا بيدها كتاب الله تقرأ فيه بهدوء نفسى و سكينه، حمحم كى لا يفزعها ثم جلس بجوارها يقبل يدها و دون كلمه القى برأسه على فخذها الايمن مغلقا عينه متيقنا ان كل ما يحمله من طاقه سلبيه مرهقه اسفل نعومه اصابعها على خصلاته ستختفى و قد كان، تنهد بحراره و هو يهمس بصدق: نفسى نرجع اطفال تانى.
ضحكه صغيره منها رسمت الضحكه على شفتيه ففرق جفنيه ناظرا اليها غامزا بمرح: ما تكلمينى عن طفولتى المتشرده شويه يا ماما. ليأتيه الرد من الخلف و قد دلف فارس و والده للتو، حيث ركض فارس ليلقى بجسده خلاف اخيه ملقيا برأسه على فخذها الايسر فيما طوقها محمد بذراعيه من الخلف يضم كتفها لصدره و فارس يصرخ بشغف طفولى: ايوه ايوه، انا كمان عاوز اسمع.
وضعت كلتا يديها على صدرهما لترتوى بنبضات قلبيهما بينما استندت برأسها على كتف زوجها لتشعر في تلك اللحظه انها امتلكت سعاده الدنيا بل كل ما فيها.
ترقرقت الدموع بعينها لتتساقط تحتضن وجهها و هي تهمس بعاطفه لن يجدوها ابدا سوى معها، و في حضنها و الذى يشملهما بحنان ورثه كلاهما عنها: فارس كان فرحه عمرى، كان هادئ و مسالم دائما، يرجع كل يوم من المدرسه مضروب و اقوله مين بيعمل كده قولي و انا هشتكيه، يقولي حرام ماتشتكيش لاهله، كان يدخل من الباب يقعد جنبه يكتب واجبه كله وبعدين يقوم يغير هدومه و يصلي و يقعد يلعب بقي، و رغم انه كان هادئ بس كان بيطلع عينى.
قهقه فارس بشجن بينما اردف محمد: و ياما كان سبب الخناق بينى و بينها. اعتدل فارس ناظرا اليه بفضول متسائلا و قد توقع الاجابه نوعا ما: ليه؟ ليهتف محمد بحنق و هو يتذكر انشغالها عنه بفارس و غيرته المفرطه منه: كنت بتصمم تنام جنبها احاول معاك يمين شمال علشان تنام لوحدك، ابدا, و هي كانت مابتصدق.
قهقه الجميع بينما اخفضت نهال وجهها خجلا، رغم ضحكاتهم الان كان الامر اشبه بخلاف حاد سابقا، و هنا تحدث مازن بمرح: اكيد انا كنت بظبطك! هتف محمد بسخط و هو يضرب كتفه بغيظ: انت من يوم ما شرفت و انا مبعرفش اشوفها حتى.
ارتفعت ضحكاتهم مجددا و نهال تردف و هو تتذكر مدى شقاوه صغيرها المدلل: انت كنت شقى قوى يا مازن و كان مكان نومك المفضل تحت مكتب اخوك، كنا نحاول نخرجك تفضل تصرخ و تعيط كنت بضطر اسيبك لحد ما تنام و بعدين انقلك على سريرك، دا غير انك كنت بتعشق اللعب بالاقلام و الالوان على المفارش و خصوصا لو نظيفه و يا سلام لو ليله عيد،.
الناس كلها كانت تاكل البلح وانت كنت بتحب النوى، اقنع فيك ما اقنع فيك مفيش فايده تفضل تاكل فيه لحد ما تكسر سنانك. انحنى ضاغطا بطنه من فرط ضحكته و التى امتزجت مع ضحكاتهم في لحظه من اهم و اقرب و افضل اللحظات على الاطلاق بينهما.
كانت هى اول من توقفت عن الضحك متابعه اياهم بابتسامه هادئه قبل ان تستقر يدها على قلب طفليها مجددا و تتشابك عينها مع زوجها لتهتف و قد شعرت برغبه عارمه لفعل هذا تجتاحها: كل اللى بتمناه من ربنا انا افضل شيفاكم في احسن حال و دائما في فرحه، انتبه ثلاثتهم له فرفعت كفها الايسر تمسح على خصلات فارس و عينها تطوف ملامحه في حنان: حافظ على مراتك و خد بالك منها، خليك راجلها و في ظهرها طول حياتها.
ثم نظرت لمازن لتحتضن وجنته بيدها اليمنى و اردفت: حياه مظلومه انا متأكده، اوعي تظلمها او تقصر في حقها، افتح قلبك لها او على الاقل حاول لانها تستاهل. ثم القت برأسها على كتف زوجها ناظره لعينه التى شملتها بحب لم و لن ينتهى: و طبعا مش محتاجه اوصيك على صحتك، المرض ملوش كبير و انت بستهتر و بتنسى علاجك، خد بالك من نفسك علشان خاطرنا.
ثم اعتدلت دافعه ثلاثتهم عنها و هتفت بمزاح: و محدش يسألنى بقول كده دلوقتى ليه علشان معرفش. احتضنها الثلاثه دون اى سؤال، فقط شعور غريب بانها تودعهم اودع بقلب كلا منهم قلق غير مبرر. و خارج الغرفه وقفت حياه تتابع الموقف و دموعها لا تتوقف، هذا هو معني العائله اذا! تلك هي الصوره التي طالما تمنت ان تراها، هذا هو الحب الذي طالما حلمت ان تعيشه، ربما لم يكتب لها ان تعيشه و لكن يكفيها ان تري غيرها يعيشه،.
ربما لن يكتب لها ان تُلقي بنفسها بين ذراعى والدتها و لكن ربما يأتي يوم لتفعل هذا مع عمتها، او هكذا تتمنى. ويكفي لها من الدنيا اب و اخ و سند و لكن بنكهه زوج، زوجها، رجل بكل ما تحمله الكلمه من معنى، رجل حتى و ان لم تفوز بحبه يكفى ان تعيش بجواره لتنعم بحنانه اللامتناهى، و ربما للقدر رأي اخر، من يدرى؟
كيف يمكننى أن اربح المعركه، و انا رجل واحد.. و انتِ قبيله من النساء؟! نزار قبانى لكل عن ضريبه، و ضريبه ذنبه ان انكاره للماضى حاصره في حاضره، انتهى من صلاته جالسا مكانه ينظر ارضا بضيق شمل روحه من مطاردة الماضى له بل و بأسوء ما فيه. لم تمنحه فرصه الرد او لحظه ليدافع عن نفسه ليخبرها انه لم يفعل ما اشارت له،.
ليخبرها انه كان دنيئا، متجاوزا لحرمات الله، مستهترا و ابعد ما يكون عن خالقه و لكنه لم يفعل ما اُتهم به للتو. يخبرها انه لم يصل لهذه الدرجه من الانحطاط. اجل غازل هذه، حادث تلك، و صادق اخرى و لكنه لم يتجاوز ذلك. لم تسأله هى فقط اتهمت و لن يلمها ان رفضت تصديقه و لكنه بحاجه لتصدقه، بحاجه لتستمع اليه و تؤمن انه لم يكن بمثل هذه البشاعه، بحاجه لتسامحه، هو فقط باختصار في اشد الحاجه لها.
قطع افكاره صوت الباب يُفتح، اغلق عينه لحظات صاحبها صمتها ثم نهض متنهدا و استدار لها ليهاله من رأها عليه، وجه شحوب، عينان غرقت بأمواجها، خوف غريب سطر نفسه على ملامحها، ليقترب منها سريعا ممسكا يدها و لدهشته لم تمانعه فأجلسها على الفراش امامه جالسا امامها، حملق بعينيها قليلا قبل ان يزدرد ريقه و قد قرر تجريد نفسه لها تماما مهمهما بخفوت: انا اه كلمت بنات، صاحبت و عرفت و قضيت نص حياتى تقريبا بعمل كده، بس صدقينى كان اخرى سلام بس،.
اخفض عينه خجلا منها و اردف و قد قرر ان يكون صادقا لابعد الحدود: لا مش سلام بس، لتحدق بعينيه بعدم تصديق و قد تكاثرت دموعها رغما عنها و كلماته تقتلها حرفيا فأسرع مردفا و كأنه يحاول تصحيح الوضع: بس و الله ما وصلت للى في دماغك ده خالص، و الله يا هبه ما حصل. حافظت على صمتها قليلا قبل ان تهمس بصوت متحشرج: بس البنت اللى كلمتك مبتقولش كده يا معتز، و صعب قوى اصدقك.
ضم يديها لصدره بقوه و كأنه يخشى ان ينجرف بهما الحديث لامر هو ليس بقادر عليه: و الله ما اعرفها و لا اعرف ليه قالت كده و لا عاوزه منى ايه، ثم اضاف و قد صدق بكل كلمه قالها و قد شعرت هى بذلك: انا من يوم ما شوفتك و قبل ما افكر في جوازنا و انا بعيد عن حياتى القديمه تماما و من يوم ما قررت انى محتاج ليكِ نسيت كل حاجه و كل حد عرفته و اخترت ابقى معاكِ و بس، انا اتغيرت علشانك يا هبه.
تاهت عينها عنه قليلا، عقلها يخبرها بالواجب فعله و الذى لا يحتاج لهكذا نقاش و لكن قلبها سقط ذليلا في محراب عشقها له يرجوها تصديقه، مسامحته و العوده لجمال حلمها معه و حياتها بوجوده و قد كانت راضخه تماما له و هى تتطالعه بحبها له و قد اختفت نظرتها النافره ليقبل هو يدها و قد ظهر خوفه من خسارتها جليا و تمتم بشبه ضياع: انا كل حاجه كانت ممكن تساعدنى ابقى انسان كويس ضاعت منى سواء بارادتى او غصب عنى، امي و انتِ اكيد شايفه تصرفاتها، ابويا من يوم ولادتى و انا معرفش عنه حاجه، اختي بشوفها كل 10 سنين مره، خسرت نفسي، دراستى، حتى دينى، لكن انتِ..
غامت عينه في شتات نفسه لثانيه قبل ان يجد بر امان بين امواج حبه اللامعه بعينها و التى عاهدته الف عهد بالبقاء به على شط الحياه فأردف و هو يشعر بقلبه يتحدث: انتِ رجعتينى لكل حاجه غاليه، رجعتِ ثقتى، رجعتينى لربنا، و رجعتِ ليا نفسى يا هبه، و للمره الاولى منذ شهور ترى بعينه جم احتياجه، صدقه، مشاعره و حبه لها ليهمس اخيرا بكل يقين: انا مقدرش اخسرك و مينفعش اخسرك.
وقد لامس صدقه قلبها لتتسائل و قد شملتها حيره من تذبذبه الغريب هذا: بس انت مابتحبنيش؟
و قد كانت الاجابه ابتسامه صافيه لاول مره يشعر هو بها و قد املى عليه قلبه ما يجيبها به لانه بالفعل لا يحبها بل يعشقها: اذا كان اللي انا عايش بيه معاكِ دا احترام يبقى انا عمرى ما احترمت حد، ، و اذا كان اللي انا حاسس بيه و انا معاكِ دى السعاده يبقى انا عمرى ما فرحت، ، و اذا كان اللي عرفته معاكِ دا الحب يبقى انا عمرى ما حبيت حد، ، و اذا كنت و انا جنبك بلاقى نفسى بجد يبقى انا بحبك، بحبك قوى يا هبه.
اتسعت عينها و ذلك النابض خلف ضلوعها ينتفض فرحا ليُعلن ان القابع امامه هو مالكه، كان و مازال و سيظل دائما.
طوقت عنقه بقوه لتتساقط دموعها براحه على كتفيه و قد افرغ ثقل قلبها بصدق قلبه ليضمها هو بقوه اكبر هامسا ينهى حديثه موضحا: يشهد ربنا انى مش بقولك كده دلوقت علشان انسيكِ الموقف اللي حصل، لا، انتِ من حقك تعملى و تقولى كل اللى انتِ عاوزاه بس عاوزك بس تعرفى انى عمرى ما هسمح في يوم انى اخسرك يا هبه، ابدا.
لا احد يعرف ما معنى ان تختارك فتاه لتحتمى بك و تواجه بك الدنيا، فتخذلها. و هى خُذلت من قبل والدها، فانحنى عنق والدتها و لم تستطع مساندتها لتلجأ لذلك شادى الذى رأت فيه كل ما تريده و اكثر فتعلقت، احبت و سلمت قلبها، عقلها بل كامل كيانها ساكنه مطمئنه ليكن الخذلان مبلغها. كسرتُ، و الان تخاف، تخاف و لا طاقه لها على خذلان جديد. و لكن هل مازن خذلان! و هذا ما قررت معرفه اجابته، ..
كوب قهوه، معزوفه هادئه، ضوء خافت، و ديوان شعر لاحد الشعراء القدماء و الذى دائما ما يصف احساسه لا بقلمه فقط بل و بقلبه ايضا. و هذا افضل ما يُفضل مازن في وقت راحته، استمتاعه و انسجامه مع ما يفيض امامه من مشاعر مكبوته، غاضبه، ثائره، حره، رثائيه و مُحبه.
قطع اندماجه مع سيل الكلمات امامه طرقات خافته على باب الغرفه، تنحنح معتدلا مغلقا ما بيده مستقبلا الطارق و التى طلت برأسها تستأذنه الدخول، فابتسم سامحا لها لتتقدم جالسه امامه دون ان تنبس بكلمه فاقترب منها متسائلا بخفوت و هو يشعر بها تخفى امرا هى في اشد الحاجه للتحدث عنه فمنذ ان رأها تراقبهم ذلك اليوم عندما اجتمع و عائلته و هى تتجنب الجميع و للاسف تتجنب نفسها و المواجهه بما يؤلمها: انتِ كويسه يا حياه؟
و لا تدرى هى لما اتت لتحادثه الان او ما الذى ترغب بقوله و لكنها فقط شعرت برغبه قاتله في البوح له عما يخالج روحها و لكنها تغافلت عن كل هذا فقط تمتمت بابتسامه باهته: اه. و كأنها باثباتها تتوسله التمادى في سؤالها و الضغط عليها ليعلم انها تود النفى و لانه دائما ما يتبع ما يشعر به حقق رغبتها و ان لم يقصد عندما رفع احدى حاجبيه محدقا بمقليتها و عاود تساؤله و هو موقن ان الاجابه الان ستختلف: متأكده؟
و تاركه لنفسها العنان لمعت عينها بدموعها هامسه بتحشرج: لا، لا مش كويسه. رفع وجهها اليه عاقدا حاجبيه و هو يتعجب اولا حزنها ثانيا كبتها له بلا مبرر و عبر عن ذلك بسؤاله: فيكِ ايه يا حياه؟ في حاجه حصلت و انا مش موجود!
تساقطت دموعها و هى تهتف بعجز و كلماتها تتقطع رغما عنها: كل حاجه حصلت و انت مش موجود، انا نفسى ارجع لحياتى القديمه يا مازن، ابويا اخد منى كل حاجه و انا تعبت ادفع ثمن حاجات انا معملتهاش، اخد منى حتى عيلتى. و هنا ادرك ما يؤلمها، فرغم ما سمعه من والدته عن مدى قوه و جساره شخصيتها سابقا قبل ما اصابها على يد زوجها و ابيها، الا انها هشه ضعيفه.
تشبه الماس في قوتها و لكنها اضعف من الزجاج، سهله الكسر و قد كُسرت. تفتقد عائلتها ليس كأشخاص بل كاحساس يبدأ بالامان و ينتهى بالدفئ. تفتقد حضن أم يسعها التحدث معها عما تشاء وقتما تشاء، نصيحه أب تمهد لها كل طريق جديد في الحياه و تفتقد احتواء أخ يمنعها السقوط و يمنحها الصمود امام كل ما ييقابلها و هذا ما سيمنحها اياه،.
ضم كلتا يديها بكفيه لينظر لعينها التى غامت بدموعها و قد قتلها هوان نفسها و تحدث بحنانه المعتاد معها: انا مش عاوزك تشيلى هم اى حاجه، اى حاجه نفسك فيها انا مسئول عنها و وعد منى ابقى دائما ظهرك و حمايتك و صدقينى بشويه قوه منك حياتك هترجع و احسن من الاول كمان،.
و ابتسم ضاغطا يدها اكثر كأنه يمنحها ما احتاجت من ثقه بنفسها و به: مش كل ضربه بتموت و انا واثق فيكِ و متأكد انك هتقدرى تعدى كل ده و تعيشى زى ما كنتِ بتتمنى. ثم دفعها يشاكسها مداعبا وجنتها بأصابعه هاتفا بمرح: ثم ازاى تقولى انك خسرتِ عيلتك، نونا لو سمعتك بتقولى كده في رقاب هتطير.
فابتسمت ليبادلها ابتسامتها بأخرى اوسع و هو يصرح بيقين شعوره: انتِ ابنه و اخت في العيله دى اكتر من اى حاجه تانيه و انتِ عارفه و متأكده من ده، و اوعى تتجنبى دا مره تانيه او اسمعك بتقولى مليش عيله تانى، انتِ فاهمه! و كانت اجابتها تحديقها به لحظات لا بحب او باعجاب بقدر ما كانت بلجوء، تلاها ضمه، اختباء رأسها بصدره و ضغط ذراعيها على جسده منحته شعورا تمناه و يخشاه.
شعورا لا بمجرد امرأه بين يديه بل بكونها امرأه تحتمى به، تلجأ اليه و تستند بأنوثتها و ضعفها بالكامل على رجولته و انه شأن لو تعلمون عظيم.
اعلنت الجوناء الذهبيه عن بدأ يوم جديد و معه استيقظت صاحبه العيون الفيروزيه بابتسامه سعاده لونت وجهها بفرحتها و هى تستعيد ذكريات عرض الزواج الذى تلقته قبل عده ايام. و الذى اخبرها ان معيبه مثلها ربما قادره على المضى نحو حياه طبيعيه خاليه من شعورها بالنقصان، الذى طمأنها ان قلبها ما زال يملك الفرصه ليحب بل و الافضل ليُحب.
لم يكن العرض الاول و لكنها تتمنى ان يكون الاخير، و اقصى ما تتمناه الا تكون نهايته كما سبق فلا قدره لها على ان تعيش نفس الرفض، البعد و النفور منها مجددا. و هنا اعتدلت جالسه و دوامه افكارها تعبث بها مرارا و تكرارا، لعل ما يعيشه محمود تجاهها مجرد انبهار بجمالها الذى بدأت تعده نقمتها في الحياه، و لعله في يوما ما يتملكه الندم على كونه بجوار بكماء عاجزه عن مصارحته حتى بمشاعرها.
سبق لها الاعجاب، التعلق، الخطبه، الحب و اسفا الفراق، لن تبالغ الان ان كان قلبها بقدر فرحته خائف، و ان كان عقلها بقدر رغبته رافض. لم تخبر احد سوا عاصم ربما لانها متيقنه ان لا احد سواه قادر على نصحها، اخبرها بالتفكير مليا و فعلت و لكنها اسفا بقدر موافقتها تمتنع و ما الحل، لا تدرى.
زفرت بقوه ناهضه عن فراشها و في نيتها حسم قرارها هذه الليله و بمجرد ان لامست قدمها الارض اننتفضت مكانها اثر اصطدام باب غرفتها بالحائط بعدما دلفت نجلاء بكل غضب الدنيا بعينيها مقتربه منها لتحتجز خصلاتها بين اصابعها لتتلوى مها بين ذراعيها صارخه، لتبادرها نجلاء بصراخ اعلى: بتتفقى على جوازك بدون مشورتى يا مها؟
حدقت بها مها متعجبه كيف علمت و لحظات لتجد الاجابه امامها و عاصم يجذبها من بين يدى والدتها بعنف لتختبئ خلفه و هو يصيح بالمقابل بوجه والدتها و قد غضب اشد الغضب من نفسه لاخبارها دون معرفه مها: انا قولت في عريس متقدم لها، ماقولتش انها وافقت.
اجتمع الجميع على صوتهم المرتفع و عندما حاولت مها التعبير عن تعجبها، صدمتها و غضبها و بدأت تشير بيدها تجمدت الدماء بعروقها عندما انطلقت ضحكات نجلاء تسخر منها و لم تُقصر فاسترسلت في سخريتها مضيفه بلامبالاه: انا مش فاهمه عاوزه تتجوزى ازاى و انتِ اصلا ماتنفعيش لاى حاجه، عاوزه تضيفى واحد جديد لقائمه اللى رفضوكِ قبل كده.
ثم اقتربت منها خطوه ناظره لعينها التي تجمدت لتنهال دموعها بصمت و همست بصوت قاسى: انتِ واحده عاجزه، خرساء، وجمالك مش هيشفعلك، اوعي تنسي ده.
و كان الرد صفعه مدويه استقرت على وجنه نجلاء جعلتها تصيح بألم و هى تلتف لعز خلفها، لتدور عينها في المكان الفتيات في حاله اندهاش، عاصم و ليلى يرمقوها بغضب و تشفى و عز يكاد يحرقها بنظراته لتعود بعينها لمها التى ابتسمت بهدوء ترمقها بعدم تصديق لتهتف بغيظ وضح جليا بنبرتها: بتضربني يا عز، بتضربني علشان دى؟
ومع كلمتها و اشارتها المستهزئه على مها اتسعت ابتسامه مها و انفاسها تضطرب، ليهتف عز بحده: مها بنتى يا نجلاء و انا قولت ليكِ قبل كده كله الا بناتى، سامعاني! كله الا بناتى يا نجلاء. و طبيعتها الساديه ترفض ما حدث لتنظر للجميع بغضب و توعد و دون المزيد تحركت مندفعه للخارج و جنه تراقب ما يحدث بذهول، فليقنعها احد الان ان تلك المرأه أم، اذا فليقنعها احد ان مها ابنه لتلك المرأه،.
لا، لا يحاول احد اقناعها فما رأته غير قابل للاقناع اطلاقا. قاطع ذهولها اندفاع مها في الضحك بصوره هستيريه و لكن سرعان ما اختفى ضحكها لتتعالى صرخاتها المبحوحه و بكائها ليحاول عاصم تهدئتها و لكنه فشل و بالنهايه لم يهدأها سوا احدى المسكنات القويه التى تحتفظ بها ليلى بحقيبه عملها لتسقط مغشيا عليها، لينطلق بعدها عاصم كالمجنون للخارج فلقد ضغطت نجلاء على اقصى نقاط ضعفه ضعف.
لحقت به جنه و هى تنوى المساعده، دلف لغرفه مكتبه ضاربا المقعد امامه بقدمه، لتتراجع هى خطوه للخلف خائفه و قد عاودها احساسها القديم بضروره الابتعاد عنه، و لكنها جمعت ما بقى فيها من قوه و اقتربت منه واضعه يدها على كتفه و قد همت بالتحدث، ليدفع هو يدها عنه بعنف ليهتف بها: اخرجى و سبينى لوحدى.
ازدردت ريقها تحاول مجددا رغم ان نبضات قلبها المتعاليه تصرخ بها لتتركه و مع خطوتها الاخرى تجاهه عنفها بقوه اجفلتها: انا قولت اطلعى برا. و لم تنتظر حتى ان تنظر لوجهه تراجعت و عادت ادراجها تختبئ بغرفتها و هى متيقنه ان قربها منه لا يكون في متناولها ابدا الا اذا سمح لها و يبدو انه لن يسمح سوا عندما يرغب بذلك.
رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الرابع والعشرون
الليل بسكونه، السماء و نجومها المتراصه، القمر بضوئه الخافت، و هى و دموعها. تجلس على ارضيه شرفتها، تفكر في حياتها كامله، ما لقته من سخريات في طفولتها حتى انتقلت للعيش مع والدها بالخارج، ثم صعوبات التأقلم على حياه جديده، طريقها الطويل و الذى لم يكن هينا على الاطلاق للوصول لما تبغاه، جمالها و الذى كانت تفتخر به و سرعان ما انقلب عليها.
طالما أمنت انها دميه معيبه لن تحظى أبد عمرها بطبيعيه في حياتها، ما الذى ارادت تغيره الان. و لكن ما تعجز عن فهمه، استيعابه و تحمله هو كره والدتها الغير مبرر، عنفها، حقدها و بعدها النافر عنها، كره يجعلها تتسائل في اغلب الاوقات أهما حقا أم و ابنتها! انتفضت اثر احساسها بيد على كتفها تمسد اياه بدفء، لتلتف ناظره لعاصم الذى لا تدرى متى دلف لغرفتها حتى ثم عادت بنظراتها للاشئ امامها.
اتخذ مكانه بجوارها ارضا آخذا نفسا عميق محاولا كبح جماح غضبه لمحاوله احتواءها، احتواء هى في اشد الحاجه اليه و ربما يحتاجه هو كذلك: مكنش المفروض اقولها بدون ما اسألك، انا اس... قاطعته بيدها تمنع اياه من الاسترسال، تعلم انه لا يعترف بخطأه حتى ان كان جليا، انه لا يعتذر بسهوله، و تعلم انه يتألم اشد الالم لاجلها الان و لانها مفضلته و ركنه الخاص بسرد ضعفه منعته، فأخر ما ترغبه الان هو احساسه بالندم.
نظرت اليه ليقولها بعينه صريحه فابتسمت بهدوء و ألقت برأسها على كتفه تقرب جسدها منه متمسكه به بكل قوتها فهمس بهدوء: انتِ موافقه عليه؟ صمتت ثوانى و هى تجوابه بداخلها، نعم، و لا. و أنىّ لهذه ان تكون اجابه؟ جزء منها يوافق لرغبته في البدأ بحياه جديده، و جزء اخر يرفض لخوفها من ذلك، او ربما لعجزها و ادراكها انها مجرد دميه معيبه و ستظل.
و لكن ان تعترف بذلك لعاصم خاصه، من اصعب ما يكون لا عليها بل عليه و لن تحمله اكثر مما يحمله من قلق، فأومأت برأسها موافقه، ربما استجابه لرغبتها، ربما لانها بالفعل تحبه، ربما لانها ترغب باثبات ان هناك من يحبها كما هى، و ربما فقط لتهرب من واقع يجمعها بتلك التى تسمى والدتها. صمت لصمتها ثم ما لبث ان سألها: متأكده من قرارك! و كل خلايها تجيبه بالرفض و لكنها اومأت موافقه.
رفعها عن كتفه ناظرا لوجهها متمعنا عله يجد غير ما تمنحه اياه و لكنها اخفت ما دون ذلك بجداره و اشارت تخبره انا كلمت بابا و قولتله عقد حاجبيه منتظرا البقيه فابتسمت بسخط و عاودت الاشاره مضيفه قالى شوفى اللى يريحك و ابقى بلغينى قبل ميعاد الفرح و قالى مش هينزل حاليا خالص لانه مش حابب يشوف ماما.
احتدت عيناه زافرا لتتسع ابتسامتها و لم تستطع كبح تساؤلها لتُشيح بتعجب اكتنف روحها منذ اعوام مضت و من الواضح ستظل نفسى افهم بينه و بين ماما ايه علشان يكرهها كده! و عندما هم بالاجابه قاطعته باشاره نافيه تخبره انها فقط تسأل و لا تتوقع اجابه.
حاوط كتفيها بذراعه ليضمها اليه مجيبا: انا اتفقت مع بابا و كلمت محمود و قريب قوى هيجى يتقدم، و كمان كلمت معتز اخوكِ و فهمته الحوار و هو معندوش اعتراض على محمود و قالى انه هيقدر يسعدك. طالعته بدهشه فمتى حدث كل هذا، فابتسم مضيفا: يوم ما قولتِ لى عليه كان باين في عنيكِ الفرحه و انا ميفرقش معايا اى حاجه في الدنيا غير فرحتك، سيبى قلبك يفرح يا مها.
ربما لو كانت في وضع طبيعى لكانت رقصت فرحا الان و لكن كيف تخبره انها خائفه، متردده و بعد ما قال في هى تكاد تصرخ بالرفض. هى تحب محمود لن تنكر، تحب حبه لها، اهتمامه بها و رغبته الواضحه بها. تريده و لكنها لا تريده، ترغب بقربه و تسمو لابعاده عنها. كيف تخبره انها لا تعرف ان كانت تلك الخطوه هى ما ترغب به حقا. و لكن كفى في حياته متذبذبه واحده - جنه -، كثير عليه متذبذبه اخرى و خاصه هى.
ستترك القدر يخبرها أكان قرارها صائب ام اكثر اخطائها حماقه!
وإنى احبك لكن اخاف التورط فيك اخاف التوحد فيك اخاف التقمص فيك فقد علمتنى التجارب ان اتجنب عشق النساء، و موج البحار، انا لا اناقش حبك فهو نهارى، و لست اناقش شمس النهار انا لا اناقش حبك فهو يقرر فأى يوم سيأتى و أى يوم سيذهب، و هو يحدد وقت الحوار و شكل الحوار.. نزار قبانى يأتى احيانا وقت ما يحادث الشخص به نفسه عما كان، اصبح و على ايهما سيظل،.
و كذلك هو انهى للتو اداء صلاه الجمعه بالمسجد، ليجد نفسه يرنو للخلو بحاله و افكاره امام شاطئ البحر، و مع تدافع الامواج تتدافع اليه الخواطر،.
معتز، ذلك الطفل الهادئ الذى دائما ما كان يحاول المضى قدما دون التوقف للتفكير في جوانب حياته، ام غائبه جزئيا عن حياته و اب غائب كليا، فمرت طفولته بهدوء سرعان ما تحول لعاصفه لا تعرف توقف لتمر مراهقته و شبابه بذاك العنفوان الذى فشلت كل التنبيهات و التحذيراات من ردعه عنها، ثم تبدأ مرحله جديده منذ ان تعرف على محمود و الذى جاهد ليحميه من براثن افكاره و تصرفاته الهائجه لينتهى امتناعه عن العوده لنقاء روحه بمقابلته لهبه و التى بدأ الامر معها كتحدى جديد، امرأه جديده و عنفوان جديد و لكن الاختلاف ان التحدى كان للفوز بها و العنفوان كان لاثبات انه يستحقها مما دفعه لفعل امور لم يعتاد عليها، ليحاول اثبات نفسه بما يناسبها و الذى كان يخالف ما يناسبه تماما، ليجد نفسه بالنهايه لا يفوز بها فقط و لكن يفوز بنفسه مجددا، تلك النفس الصغيره التى اعتادت الهدوء دائما.
قطع افكاره رنين هاتفه ليبتسم ثغره متوقعا المتصل فلقد تأخر عن موعد عودته ساعه كامله، قطع الاتصال و نهض عائدا اليها و روحه مستكينه بما يختبره معها، بها، لاجلها و لاجله.
و بمجرد ان فتح باب المنزل استقبلته رائحه الطعام ليتذكر على الفور انه طالبها بتلك الاكله تحديدا فاتسعت ابتسامته و هو يتقدم للداخل مسرعا ليجدها تجلس على الطاوله تعد محشى ورق عنب الذى يشتهيه منذ بدأت رحلتهم هذه، ليميل عليها محتضا كتفيها مقبلا وجنتها بسعاده حقيقه لا يدرى أ لانه سيأكل ما اشتهاهه اخيرا ام لانها قدرت رغبته بل و وضعتها قيد التنفيذ و انه لامر عظيم خاصه لمعتز، استدارت له تبادله قبلته و هى ترى فرحته تلك لتتجاوزها بمزاح قائله بغيظ: هتعمل معايا على فكره.
و الاجابه نظره استنكار و ورفعه حاجب و نبره ساخطه: اعمل معاكِ ايه؟ و ابتسامه ساذجه صاحبها ردها الواثق جدا: ورق العنب يا حبيبى. و دفعته ليجلس بجوارها ليستجيب هو لحظيا فهى بالتأكيد تمزح، و لكنه وجدها تدفع ما امامها امامه قليلا لتهتف بنفس ثقتها الذى لا يدرى ما مصدرها: هتعمل زيى بالظبط اتفقنا.
و هنا هم بالنهوض و هو يتجاهل ما تقوله، تفعله و الاسوء تطالبه به و لكنها امسكت يده ملطخه اياها و نظرت اليه بملامح بريئه و رعشه اجفان مصطنعه متمتمه: مش كفايه انى عروسه و في شهر العسل بعمل لحضرتك محشى كمان مش عاوز تساعدنى! نظر اليه بغيظ واضح لتواتيه الافكار قليلا قبل ان يبتسم بمكر نافيا بنبره كمن استيقظ ضميره: لا مقدرش طبعا، هغير هدومى و احصلك حالا.
و كما قال فعل و عاد يجلس بجوارها متمتما و على وجهه ابتسامه جاد صنعها و لكن عينيه التهمتها بخبث لا تُحمد عواقبه: يلا ابدأى و انا هقلدك بالظبط.
اتسعت ابتسامتها و بدأت تلف الورق امامه و تضعه بالطاجن امامها حتى قامت بوضع كميه لا بأس بها، ثم نظرت اليه ليبدأ هو فأومأ بابتسامه و راقبته هي بابتسامه اكبر حتى فوجأت به يضع يده بالطاجن ليُخرج ما وضعته ثم ينزع الورق و يُلقي بالارز امامها و يضع الورق بمكانه مجددا و على وجهه اكثر الابتسامات استمتاعا ليحتقن وجهها بغيظ لون عينيها و هى تحدق به بصدمه تملكتها ثم امسكت يده ليتوقف عما يفعله و صاحت: انت بتعمل ايه يا معتز؟
و هنا لمعت عينه ببراءتها منذ قليل و تحدث بخفوت كأنه يتعجب رد فعلها: بساعدك يا حبيبتى. فتركت الورق من يدها بعنف و نظرت اليه نظره الاسد الذي سينقض على فريسته بعد ثوانٍ صارخه: انا ألفه و انت تفكه يا معتز! هي دي المساعدة؟!
و همت بالنهوض لتعنفه لا تدرى كيف حقا فهى كانت على وشك جذب السكينه بجوارها لتقتله لتستكين قليلا و لكنه قيد حركتها و صوت ضحكته يثير غيظها اكثر حتى سكنت ضاحكه هى الاخرى، و من ثم عادت تُنهى ما بدأته و بعثره هو بينما تحدث هو بجديه عن ضروره عودتهم للمنزل، بسبب خطوبه شقيقها و شقيقته و بهذا انتهى شهر عسلهما لتبدأ الايام الحقيقيه تباعا.
اقصى درجات السعاده هو ان نجد من يحبنا فعلا، يحبنا على ما نحن عليه او بمعنى أدق يحبنا برغم ما نحن عليه.. نجيب محفوظ و هكذا كان شعورها الان كما لو كانت ترغب بشكره على قبوله بها، تلك المعيبه التى نفر منها الجميع سابقا، اختارها هو، احبها و اليوم اعلن للجميع ذلك بدبله و وعد بالبقاء بجوارها عمرا كاملا. تلاشت جميع مخاوفها بمجرد رؤيه فرحته، لهفته و كأنه امتلك قطعه من السماء بل السماء بأكملها.
يمازحها و يدفع الابتسامه قسرا لوجهها حتى كادت تصرخ بفرحتها، و لرؤيتها هكذا اطمئن عاصم انها وجدت بدايه طريقها الجديد و تمنى ان يكون اخر الطرق فلا قدره لها على مفترق اخر.
و رغم ما واجه هو من صعوبه في اقناع والديه بالزواج منها، كونها لا تتحدث و الاسوء كونها اكبر منه بعده اعوام، ليقضى عده ايام يحاول معهم، محاولات هادئه و اخرى نقاشات شبه حاده، ثم خلاف قوى استكانت بعده والدته له و ها هو يجلس بجوارها رغم انف الجميع. جلس محمود اخيرا بجوارها بعد طقوس الخطبه و استقبال المباركات، ليهمس بأذنها: انا مش مصدق نفسى.
لتخفى ضحكتها قدر استطاعتها و لكن فضحتها وجنتيها التى تلونت بخجلها لتمنحها اشراقه اكثر جمالا، ليزداد غزله لها قاصدا اخجالها و مع صمتها التام تمتم بحسره: طيب اعملى زى ما عبد الحليم قال،.
لترفع عينها اليه بتعجب ليردف بعدما حمحم قليلا بشكل درامى ليبدأ في الغناء بصوته الذى حرك مشاعرها تجاهه اول مره عندما سمعته في زفاف شقيقها مدندنا: ابعتلى سلام قول اى كلام من قلبك او من ورا قلبك، مش يبقى حرام اسهر و تنام و تسيبنى اقاسى نار حبك. لتتسع ضحكتها و قد غمرها بالفرحه بشغفه اللامحدود بها، هو انا لازم امسكك بفعل فاضح كل مره.
هتف بها اكرم بمرح فانتفضت مها على صوته و اعتدل محمود بحرج، رفعت مها عينها بخجل كاد يفتك بها و هى ترى التفاته اليها ليبارك لها بصوت هادئ كعادته، ثم اقترب واضعا يده على كتف محمود مانعا اياه من النهوض مشاكسا: مكنتش اقصد اقاطعك بس انت حظك معايا كده هعمل ايه!
و مع ذلك نهض محمود احتراما و هو يصافحه بحراره مستقبلا مباركته، مازحا كلا منهما مع الاخر ليخبره اكرم بذلك ان الشركه محل عمل و لكن خارجها لا حاجه لاى رسميات. ليغادر بعدها تاركا كلا من مها و محمود بتعجبهما لكميه تناقض شخصيته، فهو مزيج غريب من اشياء لا تجتمع سويا، احيانا هادئ و وقور و اخرى مرح، حينا متزن صارم و اخر مجنون. و لكن اتفق كلاهما على انه نعم الصديق. ليهتف محمود بمرح بعدها: ها كنا بنقول ايه بقى؟
يلا بينا نقوم احنا كمان! تمتم بها مازن لحياه لينهض كلاهما واقفا، و رغما عنه غلبته عيناه و هو يطالع هبه بشعور غريب بداخله و هو يراها تضحك بملأ صوتها سعاده، تشاكس معتز و تملع عينها بحبه و تفضحها نظراتها له. غادر كلاهما بالفعل و و عندما اختلى بنفسه اعتلى روحه حزن غير مألوف، هل لانها في يوم ما كانت حلم و هدف! أم لانها مازالت كذلك! أم لانه يرى انها تستحق افضل من معتز او ربما تستحقه هو!
و لكنه لم يسعد لسعادتها، لم يهتم برغبتها، و لم يرى سوا رغبته و هذا لا يُعد حباً. فارس محق هو كان مفتون بها فقط و سيتجاوز الامر، فهى ليست سوى نجمه في سماء قلبه و ستحل محلها اخرى، او ربما هى مجرد شهاب ما لبث ان ظهر فاختفى و لكنها حتما ليست شمس حياته فتلك لم تشرق بعد. قصته معها لم تكن رسمه ينقصها الوان بل هى لوحه بلا رسمه حتى.
توقفت امام مدخل المشفى تدعو الا تراها والدتها فكلما ارادت رؤيه زوجها العزيز ادركتهم والدتها، طرقت باب غرفته عده مرات قبل ان تطل برأسها متمتمه بضحكه واسعه: فاضى يا دكتور، حاله طوارئ. نهض امجد عن مقعده يستقبها بحفاوه لتتقدم للداخل، ترحيب و كلمات مشتاقه ثم هتفت بدلال و عنفوانها المعتاد يتغلب عليها: حالتى طارئه جدا يا دكتور كان لازم اشوفك ضرورى.
ليتحرك مقابلها لتتراجع هى قليلا و هو يهمس بصوت خبيث وصلها مغزاه كاملا: متقلقيش، هنطموا عليكِ حالا يا شابه. ثم جذب يدها يمنعها التراجع يقربها اليه لتهتف و هى تحاول التملص منه: الباب مش مقفول يا امجد، و اجابه مواربه متجاهله: و اذا، وضعت يدها على يده تجاهد لمنعه من الامساك بها: ممكن حد يدخل، ماما مثلا. ليزداد اقترابه و هو يتجاهل ما تقول مجددا: تتفضل.
حدقت به قليلا قبل ان تضحك متوقفه عن كل محاولتها للفكاك منه و لماذا تنكر فهى كانت لا تحاول جاهده، فقط قليلا. و قبل ان يقدم على فعل اى شئ فاجأهم طرقات سريعه على الباب تبعها دخول احدهم دون انتظار لينتفض امجد غاضبا و هو على وشك الصراخ فيمن فعل ذلك و لكنه بمجرد ان رأها تجمد لحظات قبل ان يتمتم باسمها بتعجب: انجى!
دلفت الفتاه متجاهله سلمي تماما و اقتربت منه ممسكه بيده تصافحه بحراره واضحه: ازيك يا امجد، احنا لسه واصلين من ساعه و قلت لازم اجي اشوفك. و مازالت ممسكه بكفه و لم يحاول هو الخلاص اردف مجيبا: حمدلله على السلامه. تابعت سلمى الموقف لتشتعل غيرتها ثم سرعان ما اشتاطت غضبا و تلك التى امامها ترمقها بنظره جانبيه متمتمه بسخط و هى تشير عليها بطرف اصبعها: هو عادى المرضى بتوعك يقفوا يسمعوا حوارك مع ضيوفك؟
نظر امجد لسلمي و لاحظ تجهم وجهها و اشتعال عينها بغضبها فجذب يده الذى لاحظ للتو ان انجى مازالت تحتفظ بها، ليجد سلمى تبتسم فاخيرا زوجها المصون ادرك الوضع الذى اسقط نفسه و اسقطها به، حملقت بوجهه قليلا منتظره بما سيجيب تلك الانسه المجهوله التى اقتحمت عليهم لا الغرفه فقط و لكن يبدو ان ستقتحم حياتهم او ربما فعلت.
اقترب امجد من سلمى ممسكا يدها يقبلها كمن يعتذر و تمتم بفخر ربما اعتقد انه هكذا سيهدئها: دى سلمى مراتى. رمقتها انجي بنظره شملتها من اعلي لاسفل مجددا متسائله باستنكار بدا لسلمى اهانه: دى مراتك؟
و هنا تركت سلمى يد امجد و تقدمت امام تلك المختله التى لا تعرف كيف تتحدث خطوه، اثنتان ثم شملتها بنظره ساخره من اعلى لاسفل تعيد نظرتها اليها بأسوء و همست باستهزاء واضح: هو عادي ان عامه الناس يدخلوا ليك كده بدون استئذان و لا حتى انتظار، يا قلبى؟
حملق امجد بها قليلا لا لاى شئ سوى لتلك الكلمه الاخيره التى قالتها، فليس من عادتها ابدا ان تفعل بل و ما لبثت تخبره انها لا تحب كل تلك الكلمات المائعه كما تقول، و هنا ادرك انه لن يسلم من جدال طويل، طويل، بل طويل جدا.
و انهت سلمى جملتها بابتسامه نصر بعدما حصدت الواقفه امامها ما زرعته من غضب، فتحرك امجد بها باتجاه مكتبه و اجلسها على كرسيه و استند على المكتب بجوارها و اشار لانجي بالتقدم لتجلس، ثم حمحم بهدوء متسائلا: مدام منار اخبارها ايه؟
ضمت سلمى اصابعها و غضبها يحرقها فذلك الاحمق لم يُعرفها من التى امامها حتى الان بينما ابتسمت انجي له متجاهله سلمي تماما و اجابته بسماجه كما رأتها سلمى: بتسلم عليك كتير و قالتلي اوصلك كده بالحرف وحشتني وحشتني وحشتنى . ضربت سلمي على المكتب لا اراديا بقبضتها ليلتفت كلا منهما اليها فهتفت بغيظ لم تستطع التحكم به فمنذ متى و سلمى تفعل: هى اللى بتقول متأكده؟
ثم نهضت و قد فاق تحملها ان تجلس امام تلك دقيقه اخرى، ناظره لامجد بحده متمتمه بصيغه اشبه بالامر عله يفهم مقصدها: انا اتأخرت على الشغل و لازم امشى، ممكن تيجي توصلنى؟ فتعجب متسائلا و الابله لم يفهم ما قصدته: مش عربيتك تحت!
فدعست بقدمها على قدمه فتأوه بخفوت، اما انجى فقد لاحظت ما ارادته سلمى فلا يفهم الانثى سوى انثى مثلها، و ايضا لاحظت ان سلمى لديها مشكله مع غضبها فعلى ما يبدو انها تندفع بلا تفكير فنهضت واقفه واضعه يدها على كتف امجد متمتمه بدلع ماسخ، هكذا رأته سلمى: معلش يا سلمى انا محتاجه امجد في كلمتين، و طبعا منقدرش نعطلك عن شغلك، تقدرى انتِ تتفضلى.
دلالها لم تتقبله، يدها على كتف زوجها، و حرف نون شملها مع زوجها هى، كلا فالتى تتحكم بغضبها ها هنا لن تفعل. امسكت سلمي يدها بعنف تدفعها بغضب صار جليا تماما، و صرخت بحده و هي تنقل بصرها بينهم: اذا مكنش عندك ذره احترام لنفسك فأنا هعلمك ازاى تحترمى ان انا، مراته واقفه، لكن واضح انك متعرفيش يعنى ايه احترام اصلا،.
ثم نظرت لامجد بقسوه فلن تكون تلك الفتاه بهذه الوقاحه الا اذا منحها هو الفرصه و قد رأت بوضوح انه فعل و يبدو انه كان دائما من قبل يفعل و هتفت و هى تضغط حروف كلماتها لتصل رسالتها: هسيبك انا مع ضيوفك يا دكتور، معلش ضيعت في وقتكم. و تحركت مسرعه للخارج حاول امجد منعها و هو لا يدرى كيف صار كل هذا و لكنها نفضت يده عنها و انطلقت مغادره.
اعتدل امجد ناظرا لانجى و قد ادرك الان ان ما فعلته كان عن عمد و قصد و لكنه لا يفهم من اين واتتها الجرأه لتتحدث، تنظر و تلامسه هكذا، فاشاح بوجهه يدفنه في اوراقه منهيا وجودها بمكتبه: انا عندى شغل يا انجى، ياريت تتفضلى دلوقتى. و بكل سرور غادرت، و قد عقدت العزم بل و بدأت، لن تخسر امجد ابدا و لن تسمح لغيرها بأن تفوز به ابدا و يبدو ان سلمى صيدا سهلا، و بينهم الايام.
و كعادته يقضى اجازته بالشركه، ملف يتلو اخر، توقيعات هنا، دراسه هناك، قرارات و احصاءات ثم اخيرا الفراغ لذلك الملف الذى يحتوى على تفاصيل اخر صفقاتهم، تلك الصفقه التى كفلتها تلك المغروره كاميليا ، تلك التى راقته قوتها و ثقتها لدرجه رغبته في قبول تحدى لهزيمتها امامه ثم امام نفسها.
تمعن، دراسه فائقه الدقه، تحليل و تفصيل، هنا و هناك حتى لاحظ تلك الثغره، و هنا عقده حاجب، حده عين و تدقيق شامل مجددا، ثغره لم يكن سيلاحظها لولا رغبته في التحدى، لولا رغبته في ايجاد ثغره و ها هو فعل.
و بعد تفكير و دراسه مجددا وجد ان تلك الثغره كان من الممكن ان تضع شركتهم في ضائقه ماليه، و لانه يعرف انه ان هدأ سيأذيها اكثر مما سيفعل و فتيل غضبه مشتعل، رفع هاتفه يطلب رقمها و بمجرد ان اجابته تمتم بهدوء: انسه كاميليا، منتظرك في مكتبى علشان نوقع العقد.
عقدت هى حاجبيها تعجبا من مختصر مكالمتهم فبعد انتهاء جملته اغلق الخط دون سماع ردها حتى، و سرعان ما هاتفت تلك التى كلفتها بالامر، لتخبرها بالوضع و مطالبه عاصم برؤيتها لتتحمس الاخرى مسرعه تدفعها دفعا للركض لتفعل. خطوات مازالت رغم توترها ثابته، رأس مرفوعه، حتى جلست امامه مبتسمه بثقتها التى صبغت وجهها بها ربما تهدأ قليلا من فرط خوفها من كشفه لها.
حوار سريع ثم ابتسامه جانبيه و بنبرته الرجوليه البحته تسائل و هو يشملها بحصونه السوداء: ايه رأيك فيا يا كاميليا؟ و اساءت فهم مغزى سؤاله فزدادت ثقتها و هدأ توترها و هى تجيبه بصوت هادئ و لن ننكر مدى اغوائه: هاااايل. عبث بدبلته قليلا لتتابعه هى بعينها متعجبه و مع حفاظه على هدوء نبرته و ابتسامته تسائل مجددا و لم تفارق عينه يديه: دا رأيك في شخصى و لا...
و قاطعته مسرعه و قد اساءت فهم نظراته ايضا: في كل حاجه يا عاصم، في شخصك، اسلوبك و حتى شغلك. و هنا احتدت عينه رافعا اياها لتحمل لها ما يجيش بصدره من غضب و هو يتحدث بوتيره اكثر هدوئا و توضيحا: تعتقدى ان ممكن اسمح لحد يضحك عليا او يأذينى سواء شخصيا او... و صمت لحظه و ادرف و هى يضع الملف الخاص بصفقتهم امامها: او في شغلى؟
و هنا عاودها اضطرابها اكثر و وضح له جليا ان تلك الثغره لم تكن غلطه غير مقصوده بل كانت متعمده فأخذ نفسا عميقا و مال تجاهها متحدثا بنبره لا تقبل النقاش: هسألك سؤال واحد و هتجاوبينى من غير لف و دوران و الا قسما بالله ما هتشوفى منى طيب. اتسعت عينها تراقبه منتظره سؤاله و منحها اياه هو سريعا: جيبتِ الجرأه منين انك تعملى كده و ليه؟
تدافعت انفاسها تفضح ارتباكها و بدون تفكير او محاوله منها للنفى اجابت مسرعه و قد قلقت ان يتم فضح امرها و تعرف عائلتها فانسحابها مبكرا افضل الامور هنا: مش انا اللى جهزت الصفقه، انا مليش دعوه باى حاجه حصلت. عقد حاجبيه و من فرط ارتباكها و خوفها مما قد يفعل بها اخبره انها صادقه اذا من؟! و عبر عن ذلك في التو: مين؟ صمتت لحظات، طالت فضرب بيده على مكتبه غاضبا صارخا بها: انطقى مين طلب منك تعملى كده؟
و جاءت الاجابه بعيدا عن توقعاته قليلا: كوثر، كوثر الحديدى. و ببطء درات عيناه قليلا يستوعب ما كان على وشك الحدوث، ليرفع احدى حاجبيه غاضبا متوعدا اياها مدركا انها لم تتقبل تخليها على ثروتها و التى لم تكن من حقها و قررت اللعب معه و يا ليتها لم تفعل.
ارتفع رنين هاتفها من جديد، ترفض الاتصال مجددا، ثم تغلق هاتفها تماما تدفعه على الفراش و قد فاق غضبها حده، و رغم انها بحاجه لتبرير و توضيح فعنادها منعها الانصات اليه، رأت ما رأت و فعل بها رد فعله ما فعل، لم تفهم و لم تستوعب و لكنها بتمرد اقسمت الا تعطيه الفرصه فليغضب كما غضبت. طرقات جاده على باب الغرفه جعلتها تصيح بعنف: قولت مش عاوزه اشوف حد.
اجفلها عاصم بصوته الحاد يهتف بها، لتتحرك بضيق تفتح الباب لتجده يواجهها بنظرات منفعله: اتفضلى انزلى في ضيف مستنيكِ تحت. ادركت هي على الفور من هو، فقالت بضيق مُدلل و هى تعقد ذراعيها امام صدرها: مش عايزه انزل، مش عايزه اكلمه و مش عايزه اشوفه، قوله يمشى. اقترب خطوه منها يُمسك بذراعها بحده نسبيه و يضغط بوضوح على احرف كلماته: دا جوزك...
فاهمه و لا تحبى اوضح اكتر، دلعك عليه ده لما تبقى في بيته، لكن لما يبقى ضيف في بيتنا يبقى تحترمى نفسك، سامعه. ترك يدها و اشار بعينه على الدرج امامهم متمتما و نبرته بعد ما قال لا تقبل اى كلمه بعدها: اتفضلى قدامى. و بعد ترحيب الجميع به استأذن الجلوس معها بمفردهم و فعل...
استنفذ كل ما يملك من محاولات للتحدث معها، بهدوء، بانفعال، باستفزازها و بغضب حتى نفذت كل محاولاته و معها نفذ صبره و هى مازالت على سكوتها لا تأبه كأنه ليس بموجود، قبض على ذراعها يجعلها تنظر اليه و قد خرج عن هدوئه المعتاد و سيطرته على اعصابه و هدر بها: ممكن افهم هتفضلى ساكته كده لحد امتى، غضبانه انتِ من ايه مش فاهم، هى اى واحده هتقرب منى هتضايقى و تاخدى موقف من لا شئ و تسكتِ؟
نفضت يده عنها و هى تعتدل و بتهميشه لما حدث قد اثار غضبها اكثر حتى خرجت عن سكوتها تصيح و لم تهتم ان كان صوتها يعلو ام لا: اخد موقف من لا شئ!؟ و برفعه حاجب ساخره و ليه شفاه تستنكر اكملت: انت شايف ان اللى حصل، لا شئ!، لما واحده تدخل تتكلم مع جوزى يمكن براحه اكثر منى يبقى لا شئ! لما تتدلع قدامه و تلمسه و تمسك ايده بكل اعتياديه يبقى لا شئ!
احتدت عينها اكثر و هى تردف متذكره تفاصيل ربما اعتقد انها غفلت عنها: لما حضرتك تتفاجئ لما تشوفها و نبرتك تتغير و انت بتتكلم معاها و احس انك اتهزيت و انت بتنطق اسمها، و اما احس انك اتلخبط لما شوفتها يا امجد يبقى لا شئ؟! و بكل غضب و ملامح الاتهمام تلون وجهها هدرت بيه باستهزاء: تقدر تنكر دلوقت يا دكتور ان في حاجه ربطتك بالبنت دى قبلى؟
حدق بوجهها قليلا يتعجب إلمامها بتلك التفاصيل الصغيره التى ابدا لن ينكرها، تلك المندفعه المتمرده و رغم فرط غضبها منه يعرف لم تغفل عن ادنى ما شعر به في تلك اللحظات، ابتسم قليلا مما زاد من غضبها و هى تكاد تطبق على رقبته تقتله لرد الفعل هذا.
امسك يدها و لكنها ابعدته بانفعال تتراجع في مجلسها عنه قليلا و لكنه بهدوء قد عاد اليه اقترب منها و ابتسامته تزداد مما جعلها تصرخ به و هى على وشك النهوض: انت بتضحك على ايه، بطل ضحك. ضم يديها بكفيه متجاهلا محاولاتها للابتعاد و تحدث ببطء يعرف انه يغضبها: دا انتِ بتغيرى عليا بقى. و بذهول اكثر صاحت و هى تضحك بغضب رغما عنها: بعد كل اللى انا قولته، اللى ربنا قدرك عليه هو بتغيرى عليا؟ انت بتهزر صح!
اتسعت ابتسامته ثم بدأ بجديه توضيح، و بدأه بشكل جعلها تفقد اخر ابراج عقلها: كل اللى قولتيه معاكى حق فيه، فعلا في حاجات ربطتنى بيها قبل كده. و هنا جذبت يدها بعنف فأردف هو: كنا مخطوبين. عقده حاجب و اعتدلت بتركيز تنصت: انجى تبقى بنت اخت مدام مروه. رددت بتساؤل: مامتك؟ صحح هو فلا هى تعتبره ابن لها و لا هو يعدها ام له: مراه ابويا.
و بهدوء سرد باختصار ما حدث: لو تفتكرى اول ما اتقدمتلك سألتينى عن حدود علاقتى بمدام مروه و انا وعدتك اقولك بعدين،.
اومأت فتابع: مدام مروه تبقى بنت عم بابا، المفروض كانت العيله متفقه انهم يتجوزوا لما يكبروا، هى عاشت بالحلم ده بس والدى لا، و اختار امى و اتجوزها و دا كان اكبر اسباب كره مروه لامى، و لما والدتى توفت كنت انا لسه صغير، و كانت مروه انفصلت في الوقت ده عن جوزها، فقرر بابا انه يتجوزها لمصلحتى، كان معتقد ان حبها ليه هيخليها تحبنى بس ادرك ان ده مش هيحصل متأخر شويه.
صمت لحظات ثم اردف: و لان مروه كان عندها بنت اصغر منى بحوالى سنتين ثلاثه، طلبت من بابا انه يسيبنى عند اهل امى او اهله و بابا كان مضطر لده بس بدل ما يعمل كده اشترى ليا الشقه اللى انا ساكن فيها و رفضت انا ارجع معاهم تانى، و بدأت اهتم بدراستى و اشتغل و ابنى مستقبلى و تقريبا كنت بتعامل كأن مليش عيله.
و صمت، صمتت سلمى عاجزه عن الرد، لتطيب جرحه، لمواساته، او ربما لتهنئته بما فعل، فمن تراه امامها ليس عاجزا او منكسرا بل هو في اعلى قمته نجاحا. نظر اليها مبتسما و هو يعود لاصل حديثهم: طبعا عاوزه تقوليلى انا مليش دعوه بده كله، مين انجى، صح؟
ابتسمت فحقيقة هى ينتابها الفضول حول هذا الامر كثيرا و هو لم يروى فضولها بعد، اخذ نفسا عميقا و اردف: شوفت انجى، اعجبت بيها، و قررت انى اتقدملها، و فعلا قولت لوالدى و اقنعته و اتقدمنا لها، و رغم ان مروه حاولت تفركش الموضوع على قد ما تقدر بس معرفتش و اتخطبنا، اتعاملت مع انجى عن قرب و بدأت اشاركها حياتها و هى كذلك، و من هنا بدأت احس انى مش واثق تماما من قرارى، اختلافات كتير، تفكير ابعد ما يكون عن بعض، اسلوبها مش بيكملنى، و حصل مشاكل بقى و من هنا و من هناك و اتدخلت مروه تانى و المره دى نجحت و فركشنا الخطوبه.
اعتدل و نظر اليها بابتسامه و اردف و هو ممسك ليدها: اما بقى انى اتهزيت و اتلخبط و الكلام الكبير ده، مش هنكر ان ممكن يكون حصل بس دا بسبب انى من يوم من انفصلت عنها اللى هو تقريبا من 4 سنين مشوفتهاش، فا لما شوفتها اتفاجأت، و اعتقد يعنى دا رد فعل طبيعى و خصوصا انك جنبى و كمان مجتش فرصه انى اعرفك، بس كده.
نظر اليها ينتظر ردها، و لكنها صمتت تنظر بعينها للبعيد تعيد ترتيب كلماته برأسها، ثم تسائلت: طيب و ليه مقولتش ليا الكلام ده قبل كده؟ و بنفس هدوئه اجابها: لاننا اتفقنا ان اى حاجه عن حياتنا قبل كده متخصش التانى الا اذا كان الماضى دا هيأثر على حياتنا حاليا و دا اللى انا بعمله دلوقت، انا مش بس ببرر موقف انا بشاركك حاجه حصلت. و مره اخرى تسائلت و كلماته تثير تفكيرها: معنى كده ان احنا كمان مم..
قاطعها و قد وصله معنى ما ترغب بقوله ليبتسم محاوطا عينها بسماء عينه الواسعه قائلا بثقه: ماتقارنيش، انا اه اخدت قرار ارتباطى بيكِ بسرعه و دا مش من عادتى لكن انا شوفت فيكِ أمى يا سلمى، عنفوانها، تمردها و في نفس الوقت بساطتها، يوم ما شوفتك لما جيتِ لمامتك، انا طلبتك يومها، يوم ما شوفتك،.
اخفض عينه عنها لحظه يتذكر كيف اندفع ذلك اليوم ليتحدث مع والدتها، فابتسم و عاد بنظره اليها و قد حُملت سماءه بنجوم اشعلتها هى و اردف بعاطفه صادقه لامست قلبها: مشاعرى ناحيتك اكتملت بسرعه، و مع الايام بتأكد ان قرارى مكنش غلط، اللى بينا مش حب قد ما هو اكتمال يا سلمى، انا فجأه كده حسيت انى اكتملت بيكِ، لقيت نصى التانى زى ما بيقولوا.
اتسعت ابتسامتها و هو يؤكد على نفى ما شعرت به: امجد بقى ملك لسلمى و لو شاف الف انجى تانيه هيفضل ملك لسلمى. و لم تجد ما تقوله، اقنعها، تلاعب بمشاعرها لتعجز عن المجادله، استطاع خمد غضبها بايقاظ نبضات قلبها، و ربما فقط جرد مشاعره ليصلها صدق احساسه بها فكانت اجابتها اتكاء على صدره تخبره ان حضنه ملجأها الان و تتمنى ان يكون للابد.
و ما كنت ممن يدخل العشق قلبه، و لكن، من يبصر جفونك يعشق. ابو الطيب المتنبى مرت الايام و الاسابيع و الاشهر و ها قد انتهت امتحانات الصغيره و تجهيزات عرس الكبيره و الصغيره، غدا، هو اليوم الذى انتظره كلا منهما. اليوم الذى سيتوج فيه حب الطفوله بعقد مقدس، و ستكتمل فيه قصه بأخر كلماتها، كان الجميع يتحرك على كل قدم و ساق، ضحكات هنا، فرحه هناك، رقص، غناء و سعاده عارمه شملت المنزل بكل من فيه.
و رغم رهبه الحدث، - فتجمع العائلات الاربعه مجددا لن يكون هين، تزلزل المنزل يوم فراقهم فبأى حال يكون يوم جمعهم -، استمتع الجميع بالفرحه. و اثناء اندماج الفتيات بالاعلى، دلفت ام على تنادى جنه تخبرها ان عاصم بانتظارها، لتنهض مسرعه و بمجرد ان اقتربت منه ابتسمت متسائله: خير يا عاصم؟
انخفض مقبلا وجنتها التى صُبغت بحمره دلت على انفعالها مع بقيه الفتيات فاتسعت ابتسامتها و هو يردف بعدها: وحشتينى، قولت اشوفك، فيه اعتراض! لتنفى برأسها ضاحكه فتمتم بوضوح حتى لا تقلق: عندى شغل في المكتب ضرورى، ساعتين مش هتأخر، عقدت حاجبيها بقلق متسائله: شغل ايه متأخر كده، مفيش مشكله صح، و بعدين هتمشى و لسه في ناس هنا كده!
امسك بيدها يقبلها و هو ينفى بتأكيد مجيبا اياها تلك الصغيره المحبه للقلق: انا جاى اقولك علشان متقلقيش لو اتأخرت، شغل عادى بس لازم اخلصه انتِ عارفه يومنا بكره طويل، نامى انتِ و متقلقيش، ثم الناس تقريبا مشيت و مفيش حد غريب يعنى. اومأت موافقه و بجرأه طبعت قبله على وجنته و ركضت مسرعه بعدها، ابتسم و رحل، عادت للفتيات مجددا و دامت سهرتهم ما يتجاوز الساعتين ثم بدأ الجمع بالتفكك لتأخر الوقت،.
وقفت امام غرفتها على وشك الدخول و لكن لسببا ما نظرت حولها تتأكد عدم رؤيه احدهم لها و تحركت بخفوت باتجاه غرفته، انتابها رؤيتها، السبب، لا تعرف، فقط خاطرت و دلفت مغلقه الباب خلفها برهبه.
استدارت تنظر اليها ليواجهها شخصيه عاصم متمثله في كل ركن من اركان الغرفه، الوانها الهادئه و التى يغلب عليها اللون القاتم، الرسومات التي عند النظر اليها لا تعرف ما شعورك أهو الراحه أم الخوف مثله تماما، تنظيمه اياها بدقه جعلتها تخشى تحريك أى غرض، اتجهت لطاولته المرصوص فوقها عده زجاجات عطر، امسكت باحداها تستنشقها لتتذكر ذكرى ما جمعتها معه بها، و اخرى و اخرى لتنساب ذكرياتها معه تُوقظ حقيقه حبها، ذكريات اخرى تجلدها بسوط اهمالها، اخرى تعذبها بتذكر كلماته لها، و غيرها تمنحها شعورا بالامان.
تتذكر اول يوم دخلت لهذا المنزل كيف كانت تشعر بالارتجاف، اول مره رأته، تعاملت معه و تلقت قسوته كيف كان يرتعد قلبها بالخوف. و الان تقف حائره كيف يسكن المكان في شخص في حين ان الشخص اولى ان يسكن في المكان، كيف بعدما ارتعدت ان تخرج محاطه بكل هذا الامان و كيف بعد ان كانت تكره تقع بكامل قواها العاشقه امامه! ابتسمت و فيض مشاعرها يخبرها انها تأخرت، غابت عنه و كفى.
كفى بعدا لها و له، كفى عذابا لها و له، كفى خوفا لها و انتظارا له... تحركت لتقف امام دولابه تنظر لملابسه حينا و تستمتع بعبق رائحته بها حينا اخر حتى استقرت يدها على احدى البذلات المعلقه لتأخذها و قد اشتعلت طفولتها ممتزجه بفتنتها لتتخذ القرار و تنفذه، وقفت امام المرأه مرتديه بذلته لتغطى وجهها و تنفجر ضحكا، على مظهرها الطفولى ربما، او اختفائها تماما داخلها، او ربما لانها تذكرته هو بها و قارنته بنفسها.
اخذت تبحث عن فرشاه شعره حتى وجدتها بمرحاضه، فوقفت ترفع خصلاتها للاعلى لرغبتها ببعض المظهر الرجولى و لكن هيهات.
في ذلك الوقت عاد عاصم للمنزل ليجد الهدوء يعم المكان الا من صوت ضحكات بغرفه شقيقتيه، اتجه لغرفته ليبدل ملابسه و لكنه عقد حاجبيه متعجبا ضوئها المشتعل، اقترب بهدوء ليفتحها لم يجد احد و لكنه تعجب ضوء المرحاض المضاء و ملابس نسائيه على طرف فراشه، حك جانب عنقه بهدوء يحاول تخمين ما يحدث و لكنه فشل حتى وجدها تخرج من المرحاض ليتحرك مسرعا متخفيا في ذلك الفراغ الصغير بين دولابه و الحائط و الذى يمنعها رؤيته.
و بمجرد ان خرجت عض شفتيه كاتما ضحكه كادت تفلت منه و هو يراها بمثل هذا المظهر تلك المستبده تلعب باعصابه حتى بملابسه، وقفت امام المراه ترفع يديها لاعلى و تدور عده مرات حول نفسها و هى تمتم بتلذذ: مسسسسم، طيب و الله قمر. ابتسم و هو يتابعها و استند على الحائط كمن يتابع عرض مسرحى و ما اشهاه و الطفه من عرض،.
حمحت قليلا محاوله رسم الجديه على ملامحها، و رفعت يدها تحك جانب فمها بحركته المعتاده متخذه منه هدفا تقلده، و حاولت جعل صوتها اكثر خشونه و ان كانت لن تستطيع اطلاقا الوصول لصوته، و تحدثت مستعيره اسلوبه بجديه و عنجهيه مفرطه: في بيتى هنا، مفيش صوت يعلى على صوت عاصم الحصرى، انتِ فاهمه!
كتمت ضحكتها و حمحمت مجددا و هي تتذكر بعض كلماته الغاضبه لتعقد حاجبيها و هى تردف: بلاش تخلينى اتجنن عليكِ علشان وقتها هتكرهى نفسك قبل ما تكرهينى. كادت تضحك على هيئتها و لكنها تماسكت لتقلد حركته عندما يرفع يده ليعيد خصلاته للخلف بغضب و هي تقول بصراخ مقلده اياه: نفسى افهم انتِ عاوزه ايه، ردى عليا يا جنه؟! ثم انفجرت ضاحكه و هي تعّدل من ياقه البذله هامسه بغرور: سياده النقيب عاصم الحصرى.
تماسكت و هى تكتم ضحكتها بعض شفتيها، لتضع بعدها يدها على خصرها تجذبه كأنها هو وهمست بعاطفه مقلده اياه ايضا: جنتى. لتضحك بفرحه عارمه بعدها قبل ان تقفز عده مرات صارخه بسعاده لتتطاير خصلاتها معها،.
ثم توقفت تنزع جاكيت البذله لتفتح اول زرين من القميص و ترفع اكمام القميص لاعلى مرفقها ممسكه بفرشاه الشعر كأنه هاتف و صرخت و هو تدعى الغضب: انت سمعت انا قولت ايه، انا مبحبش اعيد كلامى كتير، انا اقول و انتِ تنفذى عالطول.
ثم تحركت تضرب الحائط بيدها مثلما يفعل عندما يعجز عن التخلص من غضبه، لتلقى بالفرشاه جانبا جالسه على طرف الفراش تحرك جسدها للامام و الخلف بغضب مثلما يفعل تماما، لترتفع ضحكاتها بعدها تلقى بجسدها على فراشه قبل ان تمسك بجاكيته تستنشق عطره.
ثم سرعان ما انتفضت ناهضه و قد ادركت انها قد تأخرت ها هنا و ان أتى لن يمر الامر بسلام، اخرجت البنطال و تحركت لتأتى بملابسها، و كل هذا و لم تدرى ما فعلته تصرفاتها بهذا الذى يتابعها، بعثرته، لا تكفى، شتت رجولته، ربما، اهلكت قلبه، مؤكد و بالطبع اشعلت رغبته بدلالها. أوليس من حق المشتاق قرب و عناق، أوليس من حق العاشق قبلة و احتواء، أوليس من حقه، هى!
اقترب منها ببطء لتنتفض هى واقفه بعدما احست بوجوده لتقف امامه في وضع لا تحسد عليه، ترتدى قميصه فقط، ساقيها العاريه، اول زرين و ما خلفهما ادى بأنفاسه للهلاك، خصلاتها التى تعانق وجهها، عنقها و ظهرها تبعث في نفسه مشاعر شتى بشتاتها، قطرات عرق متفرقه على جبينها و اخرى تسير بانسيابيه على عنقها تابعها بعينه قبل ان تفعل يداه.
تسمرت امامه عاجزه عن الحركه، فعينه تتفحصها بعين رجل لا يخطئ تقدير الجمال، قلبه يشعر بها بقلب رجل لم يعرف صدق الحب الا بها، و جسده يهفو اليها بجسد رجل لا يرغبها سوا حب و احتواء. وبابتسامه جانبيه عابثه تملك خصرها يجذبها اليه لتشهق هى بتوتر بالغ و هو يردد بعاطفه الان يدعيها: كنت بقول ايه، اه، جنتى. و على الفور تذكرت ما قلدته منذ دقائق، اللعنه لقد رأها.
أوليس من حق الخجلى ان تفقد وعيها!، أوليس من حقها ان تهرب! ازدردت ريقها بصعوبه تحاول التملص و ان كانت واثقه انه الان لن يسمح لها مهما فعلت و هى حقا لا ترغب بأن يسمح: انا، كنت، كنت بس... و تاهت باقى كلماتها بين شفتيه، ليتوه بعدها كلا منهما كليا في بحر مشاعر غرقا فيه طواعيه، و حلق قلبيهما في سماء عشق اندمجت بها دقاتهم العاليه، ليفوز العاصم اخيرا بجنته و تصبح الجنه له قلبا و قالبا.
اعرف ان الامل خيط رفيع و لكنى اؤمن انه ابدا و ابدا لن ينقطع، و مع شمس كل صباح اثق بما اؤمن به اكثر ففى الليله الماضيه نمت على امل الاستيقاظ و ها انا ذا افعل.
فرشت الشمس اشاعتها و لونت السماء بنورها و معها تململت صاحبه ابريق العسل متأفأفه قبل ان تستعيد ببطء ما حدث الليله الماضيه، لتبتسم بهدوء تخشى بقدر ما ترغب بالنهوض، تريد ان تراه بقدر ما تخجل ان تفعل، استجمعت شجاعتها و اعتدلت تستدير له ببطء و ابتسامتها تزين شفتيها لتتفاجئ بالفراغ جوارها، جلست تتطلع في ارجاء الغرفه عله نهض و لكن لا يوجد، نهضت ببطء و قد اختفت ابتسامتها، ألم يكن من حقها ان يكون هو اول من تراه اليوم؟!
ثم سرعان ما هدأت و هى تنظر لوجهها بالمرآه اليوم تستيقظ كزوجه حقيقيه له، طال تأملها لنفسها حتى اخفت وجهها ضاحكه، لتبدأ بعدها باعداد نفسها للنزول، و بعض القليل من الوقت خرجت لتجد المنزل بحاله من السعاده و الحركه المتعجله، لتندمج معهم محاوله السيطره على ابتسامتها التى تخونها احيانا لتتعجب الفتيات متسائلين، لتخجل و هكذا دواليك.
اما هو فلم تراه، اخبرتها مها انه مشغول مع الرجال بالاسفل لاعداد ما تبقى من امور و عذرته و ما بيدها لتفعل غير ذلك، مالك القلب و معذبه. مرت الساعات سريعه حتى ارخى الليل سدوله و تلون المنزل بمصابيح مختلفه الالوان فاليوم بقدر ما هو فرحه بقدر ما هو حزن فليس بسهل على اب ان يمنح صغيرتيه معا ليخلو المنزل و معه يخلو من القلب بهجته،.
يقولون الزواج بدايه جديده لحياه جديده ربما تكون اجمل و اسعد مما سبقت و ربما اسوء و ربما لا يتغير اى شئ، و لكنه موقن ان شريكه حياته الجديده ستجعلها اجمل و ان اساء هو ستجعله اجمل ايضا. لذا فقد قرر ان يراها قبل ان يفعل الجميع، ان يخبرها قبل المضى خطوه انه يحبها كما لم يفعل احد، يخبرها انه بها شخص اخر افضل بكثير منه بدونها.
طرقات، استظراف من صديقاتها الفتيات ثم السماح له اخيرا بالانفراد بها، وقف يحدق بها قليلا، فستانها الابيض المنساب ببساطه على جسدها خلاف ما تختاره الاخريات من اشياء مبهرجه، وجهها الذى زاده ما وضعت جمالا ببساطته ايضا، و ابتسامتها التى تجئ و تختفى من فرط خجلها من نظرته، فماذا بامكانه ان يفعل امام كل هذا الجمال و كل هذه الفتنه؟
اقترب بخطوات متزنه بخلاف نبضاته التى لا تعرف معنى الاتزان امامها، ابتسم و هو يأخذ نفسا عميقا دلاله على غلبه بحبها: ناويه تعملى ايه في قلبى تانى يا حنين؟
اسبلت اجفانها و وجنتها تتورد اكثر فمن هو قلبها ان لم يكن فيه و ما حياتها الا به، ليضم هو وجنتيها بكفيه لترفع عينها اليه غارقه بدموع فرحتها التى اوشكت على التمام لترتفع قدمها قليلا تقبل جبينه لتتجاوزه لعينيه قبل وجنتيه ثم سلمت حياتها، قلبها و كافه مشاعرها فوق شفتيه لتترك ما تبقى منها في حضنه مرتكزه بطرف انفها على حافه عنقه تأخذ منه ما يتركها على قيد الحياه.
و مع احساس كل فعل مما فعلت اجابته على تساؤله فهى لن تفعل شئ لقلب هو لها رغما عنه، بسكوتها و حديث شفتيها على جسده قالت احبك الف الف مره و ان لم تنطقها ليسمعها قلبه و ان لم تفعل اذنيه. تلك الفاتنه الذى يتذكر بعد كيف كان يعبث بجدائلها، يشاكسها و يتمتع بغيظها ها هى تترك لا فتنتها فقط بل قلبها، عقلها و نفسها بين ذراعيه فأى احمق هو ليترك.
تشبث بحضنها كما لو كان سيفقدها حتى قطع اتصالهم لا الجسدى فقط بل الروحى ايضا طرقات مشاغبه على الباب قبل ان تندفع شذى للداخل تمنعه من الاسترسال ليخرج بأمل و فرحه انها اليوم ستكون له، معه و بجواره من هنا و حتى اخر العمر. تحرك ليخرج ثم عاد بمشاغبه يهمس امام عينها: ما تقوليلى واحده بحبك قبل ما اخرج. و تركت هى خجلها جانبا مغيظه بدلال: ابدا،.
لترتفع ضحكته صائحا بعناد و تحدى: هخليكِ تصرخى بيها قدام الناس كلها قوليها دلوقتى و انقذى نفسك. لتعاود غيظها نافيه برأسها يمنيا و يسارا بضحكه اكثر تحديا: بعينك، لو تقدر اعملها. رفع احدى حاجبيه و قد راقه التحدى فتمتم متوعدا: ماشى يا عروسه اما نشوف،.
و قبله سريعه، صغيره و عابثه منه لوجنتها ثم خرج لتتنهد بسعاده تدور بفستانها امام المرآه الكبيره عده مرات تضع يدها بعدها على قلبها الراقص خلف ضلوعها متشوقه و يلفها الحماس من رأسها لاخمص قدمها و هى تمضى في خطواتها لمشاركته حياته و منحه قلبها حتى تزهق انفاسها.
بدأت الليله، جلس كلا من العريسين ممسكا بيد عروسته و الفرحه تقفز قفزا من ملقتيهما، لم يجد امجد ما يستطيع قوله امام سعادته و هى ممسكه بيده، فقط يتعجب من اين لقلبه كل هذا الحب في تلك الفتره القصيره!، من اين لعقله كل هذا الاقتناع!، و من اين لنفسه ان اشتبكت بنفسها بكل هذه القوه! و صدق من قال ان الحب لا يقيده وقت او زمن بل يقوده قلبان عاهد كلا منهما الاخر على السير معا و حتى تنتهى الحياه لا فراق.
و ذكرها هو بعهدهم بنظراته، لمساته و نبضات قلبه و هى تراقصه الان و أمنت هى على اتفاقه و بصمت بروحها لا فقط بقلبها انها معه، له و ما دامت تتنفس فأنفاسها من اجله. و في تلك الرقصه الاخيره التى يأديها الاختين معا على خلاف المتعارف عليه - بزواج الشقيقين -، تنظر كلتاهما للاخرى مبتسمه و ها قد شعرت بالامان بين يدى شريك عمريهما.
و مع انتهاء الرقصه انطلقت تلك الرصاصه التى استقرت بالقلب مباشره ليتحول اللون الابيض للاحمر، لتعلن عن هدفها تماما الا و هو قد يتوه الحب احيانا بين اروقه الحقد و الانتقام.
عندما نصبح داخل دائره من الحقد، قد يكون الثمن احيانا أرواحنا، و قد يكون اغلي عندما تتعلق روحك بروح اخرى و بالنهايه تُختطف من بين يديك و انت عاجزا، نحب بل نعشق، و لكن هل هناك ضمانا ان نفوز بل و نحتفظ بهذا العشق ابدا؟ نتسائل كثيرا، ما الحل عندما تتلاحم روحين لتصبح روح واحده بجسدين فيأتي احدهم و يقول وداعا، طواعيه كان او قسرا! ما الحل عندما يتسلل الفراق ليسرق منك قلبا طالما عشت به و له!
ما الحل عندما تنزلق يدى من تهوى من بين يديك لينزعك من علياء سمائه لتسقط جثه هامده في قاع الهاويه! ما الحل عندما يشق الموت طريقه بين قلبين ليعلن نهايه احداهما و يبقى الاخر حيا قتيلا! انتفض جسده و اتسعت عيناه بألم صادم، يده تضغط يدها بين راحتيه، و عيناه تعلقت بوجهها الذى حدق به بذهول،.
كان يشعر انه يفقدها و لكنه لم يكن يدرى انها من ستفقده، تمردت قدماه على جسده ليترنح قبل ان يصطدم جسده بالارضيه التي كان يرقص فوقها منذ دقائق، بُدلت الموسيقى صراخا، ارتجفت القلوب خوفا، سُرقت الفرحه و عم الحزن، و هى تسقط بجواره بفزع و صدمه تمكنت من عقد لسانها دون كلمه، اجتمع الجميع حوله في لحظات عجز و عدم تصديق، تصرخ نهال ب اسمه و مازن يحاول التحدث معه و لكنه استكان برأسه في حضنها،.
و ماذا ان كان الحلم لم يكتمل، يكفى انه عاش عمره يتمناها و مات و هو معها. حاول عاصم و مازن النهوض به لاخذه للمشفى و لكنه رفض، منعهم و اصر على البقاء بين ذراعيها، يشعر انها دقائقه الاخيره و لا يرغب ان تضمه سياره او مشفى يكفيه هى. تساقطت دموعها تباعا و هى تردد اسمه فابتسم و هو يغلفها بعينه كما كان يفعل دائما و تمتم بنفس هارب حاول التقاطه عنوه: انا وفيت بوعدى يا حنين، لاخر نفس فيا جنبك.
ضاق نفسه و تقاربت جفونه و لكنه يحاول الصمود لترويه فضيه عينها التى اختفت خلف دموعها و هى تضمه لجسدها تشهق بألم يمزق قلبها: فارس، انا عاوزه اعيش بالله عليك متموتنيش دلوقتى، فارس فتح عنيك رد عليا. بدأت صورتها تهتز امامه، فأغلق عينه عده مرات و هى يشعر بألم حارق في صدره فاقدا احساسه بباقي جسده ثم همس بنبره يطالبها بها لتكمل: انت نصى التانى،.
و لكن انفاسه لم تساعده ليكمل، عاد برأسه للخلف بحده و هو يلتقط انفاسه بصعوبه فحاول عاصم و مازن ابعاده عن حنين و النهوض به و لكنه تمسك بطرحه فستانها و يده تضم يدها بكل ما يملك من قوه الان ليدرك مازن انها النهايه و لن يستطيع انقاذه مهما فعل. امسك فارس كفها واضعا اياه على صدره موضع قلبه و موضع اصابته و اخرج صوته بصعوبه يحاول الابتسام: متزعليش، اكيد هنتقابل تانى، في الجنه.
نظرت ليده المحتضنه يدها و هي تشعر بنبضات قلبه الضعيفه ثم عادت تنظر لعينه و تتسائل كأنها تعاتبه: حلمنا يا فارس، محمد و عائشه. تساقطت دموعه هو الاخر ضاغطا كفها على قلبه و همس برضا: انتِ هتحققيه. ضاعت انفاسه بثقل يلف رأسه و غامت عينه في ضبابات و الصوره امامه تختفي فهتف بصوت مبحوح يمزح و هو يزدرد ريقه قسرا: قولي، قوليلى واحده بحبك.
نظرت لعيناه التي تجاهد لتظل مفتوحه و انفاسه التى تختفى تدريجيا و تذكرت قوله لها، فنظرت اليه بصدمه قليلا و قد توقفت عينها عن ذرف الدموع، تصيح بحده و كأنها تتمني ان تكون حقيقه: انت بتعمل كده علشان اقولها! بتعمل كده علشان اصرخ بيها قدام الكل، ابتسم بوهن قبل ان يستسلم تماما مغلقا عينه لتنظر اليه بفزع تبعته بصرختها: بحبك يا فارس و الله العظيم بحبك، بص لي يا فارس، افتح عينك و بص ليا، بحبك و الله، بح...
توقفت و عينها تتسع بذهول، مع توقف نبض قلبه اسفل يدها، نظرت لصدره بصدمه و دموعها تتساقط تباعا ثم رفعت عينها لوجهه بصدمه اكبر و هي تحرك جسده بيدها الموضوعه اسفل يده هامسه بتقطع: ف، فا، فارس، وضعت يدها الاخري على وجنته لتلاحظ ثبات انفاسه لتميل عليه قليلا تدقق النظر في وجهه و هي تتسائل بتعجب: فارس، انت مابتردش عليا ليه!
انطلقت صرخه نهال المنهاره ب اسمه لتُعطي الجميع الرد و هي تضم فارس لصدرها بقوه لتسقط يده من فوق يد حنين التي نظرت له في حضن والدته و هي لا تستوعب ما يصير حولها، رجفه شفاه، نبضات قلب ثائره، اهتزاز بدن، دموع لا تتوقف، و عدم استيعاب. اقترب عاصم منها و قد غلبه القهر ليهدم كل قوه به، و لمس كتفها يساعدها على النهوض فنظرت اليه و هي تُشير على فارس و تقول باستغراب: عاصم، فارس! هو، هو مش بيرد عليا ليه؟
ضمها عاصم لصدره بقوه و خانته عيناه لتفضح انكسار روحه لكنها حاولت التملص منه و مازالت لا تستوعب مردده باستمرار: عاصم رد عليا، فارس مش بيرد ليه؟! هو زعلان علشان مش قولتله بحبك؟ هقولها يا عاصم و الله بس خليه يرد عليا، خليه يرد عليا.
شدد عاصم من ضمه لها و هو يغلق عينه و لاول مره بحياته يشعر بالعجز بهذا الضعف، و بمجرد ان فرق جفنيه وقعت عينه على تلك الجنه التى صارت خرابا بملامحها الممزقه و هى ترى موت امامها من جديد، فراق مزق اوصال قلبها مره اخرى، ترى خساره نتيجه حب و انهيار نتيجه حزن، لتعيدها الدماء التى لونت ابيض فستان حنين لتلك الدماء التى لونت ابيض حياتها بموت والدها، فتحجرت عينها على فارس ارضا بصمت تكسوه الدموع منهمره يخفى اندثار قلبها و وجع شظايا الفراق به.
تساقطت دموع محمد و هو يجلس بجوار قدم طفله يردد بحسره اب هُدم: انا لله و انا اليه راجعون، بينما انحنى مازن على ركبتيه يلقى برأسه على قدم فارس لتتعالى شهقاته كطفل صغير فجلست حياه بجواره تضع يدها على ظهره تحاول تهدأته و لكن آنى لها ان تفعل و هى فاقده لاى اتزان تماما.
طغى على صوت الجميع صوت صرخه عاليه صدرت عن محمد الذى ضغط صدره موضع قلبه بقوه من فرط ألمه قبل ان يسقط فاقدا للوعى، اقترب منه اكرم و تحرك عاصم يساعده و بمجرد ان ترك حنين سقطت ارضا على ركبتيها لتلحق بها سلمى و ليلى و لكنها ابعدتهم مقتربه من فارس و هى تبتسم، هو بالتأكيد يمزح، وضعت رأسه بحضنها مجددا تمتمت بتلك الكلمات التى ترددها له دائما بنفس منكسره و صوت شُرخ و هى تتحرك به للامام و الخلف: انت نصي التانى، انت حته منى، انت كنزى الغالى، انت ابنى.
نظرت لوجهه متوقعه ان يضحك كالعادته، يسخر منها ثم يبتسم ضاما اياها و لكنها لم ترى سوى شحوب وجهه، صدره الساكن تماما، الدماء التى اغرقت قميصه و فستانها، عينه المغلقه و انفاسه المنقطعه، نظرت لنهال التي انهارت بين يدى اخيها، ثم نظرت للجميع لتري كل العيون تتطالعها بحزن و شفقه و الدموع هى من تتحدث، عادت ببصرها اليه، و هنا ادركت الواقع دفعه واحده لتنطلق صرختها ب اسمه و هي تدفع جسده بقوه قهرها ثم تلاشت الانفاس و الرؤيه و معها سقطت فاقده الوعي بجواره.
قدر كلمه بسيطه من ثلاثه احرف، كلمه تحمل حياتنا بين طياتها، تحمل احيانا من الوجع ما يفوق كل احتمالاتنا، كلمه و برغم بساطتها تقلب الوسط و احيانا تضع النهايه لكل احلامنا. الحياه تعاندنا احيانا لتخبرنا اننا لا نعيش برغباتنا و لكن الواقع من حولنا يفرض علينا ما يشاء باسم القدر . و لكن هل كل من عاندته الحياه يستجيب لها، يفر هاربا منها أم يفوق عناده عنادها و يحصل بالنهايه على ما يريد!
رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الخامس والعشرون
هذه هى الحياه، شئت أم أبيت، لن تتعافى دون ان تتألم، لن تتعلم دون ان تخطئ، لن تنجح دون ان تفشل و لن تحب دون ان تفقد.
و ان كان هناك من يظن ان الحياه ستتوقف وقتما يقع لتساعده على النهوض فهنيئا له بأبد السقوط. مازن لم يسقط و لم ينتظر ان يُجبر فقط تقبل انه تبعثر مع رحيل شقيقه، فقد عفويته و مرحه، فقد سنده و فقد امانه و الذى مهما منحته الحياه دونه دون. خرج بغضب من غرفته يصرخ بذلك الموظف الذى تأخر باحضار ما طلبه من ملفات، لينظر للاخر بحده ينهره و بعنف القى اوامره و دلف مغلقا الباب خلفه.
دلفت هبه للمكتب تُلقى الصباح لتجد الجميع في حاله من التأهب لتتسائل بفضول لتخبرها تلك التى حلت محلها ك سكرتيره لاكرم هناء ، بما يفعله مازن و الذى لم يعد جديدا عليه منذ وفاه شقيقه اى منذ ما يقارب العام، تجاوزت الامر بنظره شفقه لباب غرفته ثم اتجهت لغرفتها - تلك التى خصصها اكرم لاجلها لا كسكرتيره و لكن كمصممه بعد ان عادت لعملها منذ عده اشهر و قبلتها هى بكل سرور و ان كان متأخرا -.
توقفت عند غرفه مها تطرق الباب بخفه ثم طلت برأسها تهتف بضحكه واسعه و هى ترى محمود يجالسها تاركا غرفته كالمعتاد منه مؤخرا: صباح اللعب و الفرفشه. ابتسمت مها و كذلك محمود الذى استدار ناظرا اليها بغيظ مرددا: صباح الرخامه.
و بعد مزاحهم المعتاد كلما قطعت حديثه مع مها، تسائلت عن اخبار العائله، مما اعاد لمها نظرتها الحزينه مجددا، قد يبدو العام وقتا طويلا و لكن في بيتهم كان اشبه بيومين، ربما لانه الا الان لم يستطع احد تجاوز تلك الصدمه و خاصه حنين. في ذلك الوقت دلف اكرم ناظرا اليهم بجديه ثم تسائل: مجتمعين هنا ليه كده؟
ثم ثبت نظره على محمود قائلا بحده فقد فاض به الكيل: ياريت يا استاذ محمود لما تبقى موجود في مكتبك تعرفنى علشان محتاجك في الشغل اذا مكنش دا هيعطلك. اخفض بصره فهو مدرك انه مخطىء فليست المره الاولى التى يتقاعس فيها عن انهاء المطلوب منه، و عندما لاحظ اكرم ذلك هتف بغضب: انك تبص في الارض مش هيفيدنى بحاجه، اتفضل على مكتبك و الشغل اللى طلبته منك بأى شكل يتسلم النهارده.
نظر لمها متجاوزا الامر بابتسامه و ان كان في قمه احراجه امامها و خرج، ليعيد اكرم بصره بينها و هبه مصرحا: عرفتوا اننا رايحين الموقع النهارده؟ اومأت مها و كذلك هبه التى تحركت للخارج فور اجابته استدار ناظرا لمها قليلا قبل ان تختفى جميع نظراته الحاده و الجاده ليحل محلها نظره هدوء و احتواء جعلها تستغربه و هو يتسائل بلطف: اخباركم ايه يا بشمهندسه؟ اشارت بهدوء و مازلت تتعجب تغيره الحمد لله.
تنحنح قليلا ثم اردف متسائلا مجددا: و حنين وضعها ايه دلوقت! ازدرد ريقه بصعوبه و اكمل بحزن: يعنى، هتحتاج تدخل المستشفى تانى؟! وضعت مها يدها على فمها لتتماسك تجبر مقلتيها على عدم الاستسلام لدموعها التى تهدد بالسقوط و لكنها مع نبرته، سؤاله و تذكرها لما تعيشه حنين و تراه هى بها كل يوم، لم تستطع، استدارت تعطيه ظهرها تحاول تجميع شتات نفسها، منعت محمود من التحدث بهذا الامر نهائيا و لكن كيف تمنع هذا،.
اخذت نفسا عميقا و عادت تنظر اليه لتجده ينتظرها محترما صمتها، كسرتها و صعوبه موقفها فأشارت لا مش هتدخل تانى، عاصم رافض تماما و عنده حق وجودها في المستشفى مش هيفيدها، بس هى ان شاء الله هتتحسن.
نظرت ارضا ودرات عينها يمينا و يسارا بقله حيله و رغما عنها وجدت نفسها تحدق به بعدها بتوسل تشير متمتمه بشفتين مرتعشتين و حركه يد عنيفه كأنها تسأله و كم كانت ترجوه الرد بالايجاب هى اكيد هتبقى كويسه، اكيد هترجع حنين القديمه، مش هتفضل عايشه كأنها خيال كده، هتضحك و تفرح و تعيش تانى.
توقفت يدها و لكن لم تستطع ايقاف دموعها التى انهمرت بلا استئذان، فقرر اكرم الانسحاب لعجزه عن فعل اى شئ فقط قال و يا ليته لم يفعل: باذن الله هتبقى افضل من الاول، شده و هتزول. التفتت له بحده لتحدق به بعدم استيعاب ادركه هو فخرج تاركا اياها تتابعه بنظراتها الحارقه و هي تتعجب هدوءه. أيقول مجرد شده و ستزول؟ هل ما مرت به حنين بهذه البساطه؟ لقد توفي زوجها، بين يديها، يوم زفافهما.
ذلك اليوم الذى تفرح فيه كل فتاه بفستانها الابيض ليصبح بالنسبه لها اسوء ايامها و ابشع ما تواجه في كوابيسها، يوم تحول فيه كل جميل بحياتها لسراب، يوم فقدت فيه ليس فقط زوجها و انما روحها و احلامها بالاضافه لصوتها الذى لا يعلم احد ان كانت فقدته قسرا أم لم يعد لديها ما تقوله! ليأتي هو و بكل بهدوء يقول انها شده و ستزول؟ أكرم الالفى، لن يكف ابدا عن جعلها تتعجب ردود افعاله.
عاده ما يحتاج القلب لهدنه مما اعتاد عليه، فمن اعتاد السكون يوما ما سينفجر منفسا عما سكن عنه كثيرا، و من اعتاد الغضب في مره ما سيفاجئ الجميع بهدوءه فما عاد لديه قدره على الغضب، و لكن من اعتاد قلبه الحب، السعاده و الدلال كيف يتحمل الفراق، الحزن و الفقد؟! من اعتادت الاستيقاظ على صوته كيف تقضى بقيه عمرها دون سماعه؟ من اعتادت عبثه بضحكتها كيف تبتسم شفتيها دون مزاحه؟
من اعتادت وجوده يحاوطها كيف لها ان تعيش بدونه! يقولون الوقت كافى لعلاج كل ألم و لكن ما بال الوقت يزيد ألمها! مرت ايام، اسابيع و اشهر و ها قد قاربت سنه على الانتهاء بدونه و لكنها بدونها ايضا، فقدت فارس و فقدها الجميع، ما عادت ابتسامتها تعرف لشفتيها طريق، ما عاد صوتها يُسمع و ما عادت روحها ساكنه بل باتت بقايا امرأه بعثرها قدرها.
امرأه تجلس ليلا نهارا امام باب شرفتها تنظر لمدخل منزلهم عله يدخل، امرأه تنام تعبا و تستيقظ فزعا على صورته، امرأه ما عاد يعنيها من العالم كله سوا تلك الرسمه الذى منحها اياها سابقا، رسمه كانت حياتها التى انتهت برحيله. الألم لن يُمحى و الذكريات لن تُنسى و لكن ما دام التصديق بالواقع قيد التوقف لن تُعاش الحياه. و هى مازالت ابعد ما يكون عن التصديق.
تساقطت دموع ليلى التى وقفت تراقب صغيرتها الجالسه ارضا دون حراك، تنعى ابنتها التى فقدتها و هى على قيد الحياه، ربتت جنه على كتفها هامسه بأسى: تانى يا عمتو! و دون ان تترك عينها صغيرتها اجابت بيأس و قلب حزين: سنه يا جنه، سنه و انا مسمعتش صوتها، سنه و انا شايفاها قدامى بتموت نفسها بالبطئ، سنه و حنين مفيش اى تحسن،.
ثم استدارت و عيناها تحكى معاناه قلب الام: اعمل ايه تانى، مستشفى دخلتها، ادويه و اخدت، علاج نفسى و مفيش فايده اعمل ايه، انا عاوزه بنتى يا جنه، عاوزه بنتى ترجعلى تانى. اغلقت جنه عينها تحاول تمالك ما يصيب قلبها من غصه مؤلمه على ما وصلت اليه فرحه المنزل، تلك الفتاه البشوشه و الهادئه و التى بوجودها نعم هذا المنزل بالحياه و الان لم تعد موجوده.
احضرت ام على الطعام فأخذته جنه منها و دلفت لحنين ساعدتها لتجلس بجوارها على الفراش و لم تبد اى اعتراض، دون مقاومه جلست، تناولت طعامها و دون اى تعابير على وجهها انتهت و هى لا تعرف ماذا تناولت حتى و نهضت عائده لمكانها بجوار الشرفه تنظر للخارج تضم الصوره لصدرها بصمت. جاءت سلمى و امجد لزيارتهم في ذلك اليوم و اجتمعت العائله باسفل عدى عاصم الذى سافر في عمل منذ عده اسابيع و على وشك الرجوع.
بل عاد استقبله الجميع مرحبين بعودته بينما نهضت جنه للمطبخ دون حديث طويل معه، في الفتره الاخيره زادت نقاشاتهم، خناقات و مهاوشات، عادت لغرفتها، و شيدت بينها و بينه الكثير و الكثير من الحواجز، او ربما الظروف من فعلت و ربما خوفها، ما حدث مع حنين ارعبها، اخبرها ان الحياه لن تقف بصف من يحتاجها ابدا، ان السعاده، الاجتماع و الحب لن يكون مقابلهم السلام و الاطمئنان ابدا، و ان كان هناك من يملك دليلا اقوى مما بيدها فاليقنعها بالعكس.
عادت لنقطه الصفر و اسوء، تتلوى ألما و لكنها تكتوى بنار خوفها و فزعها لا عليها بل عليه هو، تخسر نفسها لا فارق لكن تخسره لن تستطيع ان تظل على قيد الحياه، خسرت والدتها و فقدت والدها و عاشت دون شقيقها و الان و بينما هو املها الوحيد، ملجأها الوحيد، حمايتها، قوتها و حياتها لن تتحمل فكره ان يصيبه سوء.
دلف للمطبخ يبحث عنها متذكرا شجارهم الاخير في ذلك المساء قبيل سفره، لم يرضى هو بحواجزها، يتفهمهما ربما و لكنه لا يقبل. لا يقبل ان تكون معه و بعيده عنه مجددا، لا يقبل ان تكون زوجته و اصعب النساء عليه، و ابدا ابدا لن يقبل ان يحبها كل هذا الحب و يدرك ان مقابله موجود و هى تمنعه عنه. بعجز اعطته ظهرها متمتمه ببرود اجادت اصطناعه رغم نزيف قلبها الصامت: حمدلله على السلامه.
عقد حاجبيه ناظرا لظهرها، عندما بدأت هي تكمل ما كانت تفعله و اردفت بنفس البرود الذى اشعل غضبه: انت قولت هتيجى كمان يومين، رجعت بدري ليه؟! اتسعت عينه ثواني يراقب حركتها بدهشه و لم يستطع الا ان يقول ساخطا: هي دى وحشتنى! ابتلعت ريقها و اغمضت عينها قليلا ثم اكلمت بنفس البرود الذي يكويها قبله و كأنها ابدا لا تبالى: شوفت حنين؟
ابتسم بسخريه و قبل ان تغضبه بكلماتها البارده اكثر تحرك للخارج ليتركها تنحنى ارضا تبكى لهفتها لحضنه، لاشتياقها لامانها فوق كتفه و لوجعها مما تسببه له و لها من ألم. دلف عاصم لغرفته القى بجسده على الفراش، ينظر لسقف غرفته بشرود لو اخبره احد انه سيصيبه يوما لقال مجنون. و لكن ان لم يشرد هو من يفعل، شقيقته التى اصبحت جسد فقط بلا حياه، بقايا امرأه ببقايا روح و فتات قلب،.
جنته التى باتت جحيم يصيبه بنار تكوى صدره، تنهى صبره و تشعل غضبه، جنته التى يدرك ان ما تفعله ضعف و خوف و لكن ما عاد لديه قوه، نصف نفسه الذى فقدها يوم فقد رفيق عمره، ضحكته لفارس و مزاحه، همه الذى لا يملك غيره ليلقيه بجعبته، روحه التى انقسمت و ما باتت قوته تكفى لاصلاحها.
اغلق عينه يمسح وجهه بضعف لم يعرفه ابن الحصرى يوما لحظات ثم اعاد فتحتها فان ضعف هو الان لن يستقيم امرا بعده، وقت الحزن لم يأتى بعد، وقت البكاء لم يحن فقط وقت القوه و الثبات ليُعيد الامور لناصبها الصحيح.
تعج الغرفه بأصوات الاجهزه الموصله بصدره على الدوام، حراره الغرفه البارده و نوافذها المغلقه، جسده المسجي على الفراش و اجفانه المتهالكه، اقتربت نهال منه تمرر يدها ببطئ على خصلاته البيضاء و التى ازداد شيبها منذ فقد سنده الاكبر،.
ضمت اصابعه بكفها تطمئن عليه فمنذ نكسته يوم وفاه فارس لم يتحمل قلبه فظل مربوطا بالاجهزه الطبيه، افترق جفناه ببطء يبتسم لها بهدوء فترقرقت عينها بالدموع تسأله بقلق: عامل ايه دلوقتى؟ صمت لحظات تجمعت بها الدموع في عينيه هو الاخر و همس بخفوت مكسور: ابنى واحشنى يا ام فارس. رفعت نظرها للاعلي لتمنع باستماته تساقط دموعها ثم تمتمت بقلب يتمزق ألما: ادعيله يا محمد، هو في مكان احسن دلوقت.
اغمض عينه ثواني ولاحظت هى اضطراب الارقام على شاشه الجهاز جوارها فتحدثت سريعا محاوله ابعاد تفكيره عما يؤذي قلبه و قلبها: بابا كلمني النهارده. فتح عينه مجددا و تسائل و ان كان لا يشغله اى امر: خير؟ اومأت برأسها و هى تتذكر مكالمه والدها: كان عايزنا نسافر الصعيد، نسيب القاهره بمشاكلها و نقضى يومين وسطهم هناك. ابتسم بشحوب و هو لا يبالى بالامر: حلوه الفكره هتفيدك.
عارضته هاتفه باقرار: انا مش هروح لو مش هتيجي معانا. نظر للغرفه حوله و اردف: هسافر ازاى كده يا أم فارس؟ ابتلعت غصه تمكنت من قلبها فهو منذ وفاه فارس لا يناديها سوي بهذا الاسم و اخبرته عن كل ما ستقوم به من تجهيزات لنقله هناك فنالت موافقته و بقى موافقه مازن و بالطبع حياه.
لا يمكن تحقيق النجاح الا اذا احببت ما تقوم به. ديل كارنيجى و هى لا فقط تحب ما تعمل بل و على استعداد تام لتقديم كل ما تملك من طاقه، جهد و عزيمه لتصل لاقصى النجاح به بل و اكثر. اليوم تتجه الى موقع الانشاء لتراه، لتطلع على اخر المستجدات، و لذلك هى في قمه سعادتها.
اتجه مازن و اكرم للتحدث مع العمال و المسئولين بينما انطلقت هبه تعاين و تسجل و اما مها فقط كان تستمتع بالرؤيه، انطلقت من طابق لاخر، و من غرفه لاخرى و من هنا لهناك لاسفل و لاعلى حتى توقفت في ذلك الطابق الاخير تنظر للاسفل من شرفته تبتسم مستقبله نسمات الهواء و التى رغم حرارتها كانت مستمتعه بها.
لاحظت تجمع الجميع بالاسفل للمغادره فابتسمت متجهه للداخل لتلحق بهم و لكن ذلك العامل الذى وقف امامها يسد عليها طريق الخروج شتتها قليلا، و للمره الالف يلفها عجزها و تكويها علتها، فلا صوت لديها لتتحدث و لا صراخ اليها سيصل من هذا العلو، حاولت الابتعاد عنه و لكنه كان اشبه بالخارج عن حدود وعيه، ترنح بسيط، و اعين بارزه، و ضحكه سخيفه و غير متزنه عكرت صفو سعادتها بتخيلها مدى سوء الوضع الذى قيدت فيه،.
حاولت الخروج و لكنه لم يسمح لها، عامل في وقت استراحته لن يسأل احد عنه، منح لعقله الراحه و دفع لجسده بالرغبه، و اتت هى و بكماء ف يا مرحبا بها. في الاسفل القى اكرم السلام هاما بالرحيل و لكنه لاحظ عدم وجود مها، فتسائل فأخبرته هبه انها تقدمت لداخل المبنى و لم تعد،.
ابتسم مدركا كم شغفها بالعمل رافعا عينه لاعلى ربما يراها ليجدها في شرفه الطابق الاخير و يبدو على ملامحها القلق ليجد احدا يجذبها بعنف للداخل، تجمدت الدماء بعروقه و انطلق ركضا للاعلى بينما تعجب مازن ما حدث و هم بالدخول ورائه و لكن وجود هبه التى لفها القلق من اضطراب اكرم المفاجئ ابقاه بجانبها.
حاولت مها التحرك و الابتعاد عنه و لكن قوته زادت ضعفها و خاصه عندما جذب قدمها لتسقط ارضا ليضرب هو بعدها رأسها عده مرات بالارضيه الصلبه لتتلاشى الرؤيه جزيئا و لم يبقى سوى ضباب تشبوه رؤيه ذلك الرجل و انفاسه حتى لفها الظلام مستقبلا اياها بداخله لتجهل ما حدث بعد ذلك.
استند اكرم على حافه الجدار بعد ان وصل للطابق الاخير اخيرا و انفاسه تحاربه هاربه لتتسع عيناه صدمه سرعان ما تحول لغضب و هى يرى محاولات ذلك القذر للتمكن من تلك المستكينه امامه، هجم عليه يبعدها عنها، لكمات غاضبه، تفريغ شحنه شعوره بعجزها و كل هذا وسط ضحكات الرجل و تأوهات ساخره كأنه لا يتألم بل يستمتع.
شهقت هبه بصدمه و هى ترى اكرم يتقدم باتجاههم حاملا مها فاقده الوعى متقطعا الانفاس لتساعده بوضعها داخل السياره لتنطلق بهم للمشفى. استيقظت مها لتجد هبه بجوارها تطمئن عليها متسائله بعاطفه قلقه: مها، انتِ كويسه؟ اومأت مها و هى لا تدرى ما حدث بعد تلك الصدمات التى تعانى الان عاقبتها من صداع يحطم رأسها. فعادت هبه التساؤل ببطء و هى تتعجب كيف صار كل هذا: ايه اللى حصل؟ ازاى وصلتى للحاله دى؟
عقدت مها حاجبيها تحاول التذكر فتساقطت دموعها ببطء فاعتقدت هبه انه وجعا فرتبت على كتفها تهدأها مسرعه بقول: خلاص خلاص، المهم انك بخير. اشارت مها بقلق اوعى تكونى قولتِ لحد اللى حصل! ابتسمت هبه باستنكار تجيبها: محدش يعرف ايه اللى حصل اصلا، احنا اتفاجأنا بالباشمهندس أكرم بيجرى يدخل المبنى تانى بعدين لقيناه خارج بيكِ مغمى عليكِ حتى مازن سأله يفهم منه مردش عليه.
ثم تذكرت صائحه: صحيح هخرج اطمنهم عليكِ اكيد قلقانين. امسكت مها يدها تشير بتوجس حد من العيله يعرف انى هنا؟ نفت هبه برأسها مبتسمه بتذكر و اجابتها: احنا مفكرناش في حد كنا خايفين عليكِ بس، معتز و محمود هيقتلونى لو عرفوا. حركت مها يدها مسرعه بلا قبل ان تشير بتوسل متعرفيش حد يا هبه، مش عاوزه اى حد خالص يعرف و لا حتى معتز.
عقدت هبه حاجبيها متسائله و لكن نظره مها الحزينه و القلقه جعلتها توافقها و ان كانت لا تفهم و لكن اسوء ما قد تتخيله لن يصل لسوء حقيقه ما كان على وشك الحدوث. اطمئنوا عليها و ها هى بالسياره في طريق العوده للمنزل و لكنها تخشى، ان ايعرف احد خاصه عاصم، تخشى غضبه، تخشى عليه نفسه، و اما محمود فهى لا ترغب بمعرفته ابدا.
اوصلت رغبتها لثلاثتهم مترجيه منهم الا يعرف احد بما صار و بنظره اكثر شمولا خصت اكرم بها ادركها و لكن صعب عليه تنفيذها.
صدق من قال اذا اردت ان تؤلم احدا فألم من يحب. عندما يعانى من يعنى لك الكثير تعانى مثله و اكثر، عندما يحزن تحزن اضعاف حزنه، و عندما تعجز امام عجزه تنهار كل قوه محتمله بك.
و ها قد انحنى ابن الحصرى ضعفا امام قدم تلك التى لم تعد سوا جسد رغما عنها يتنفس، ربت على ركبتها لم تعبأ، حاول انهاضها من جلستها ارضا لم تعارض، اجلسها على الفراش جالسا بجوارها يضم وجهها الشاحب بكفيه متمتما بأسى: مش ناويه تتكلمى معايا بقى؟ و عينها تحدق بالشرفه لا تتحرك، انفاسها منتظمه و جسدها ساكن و كأنه ليس بموجود،.
و كمحاوله منه لتأكد انها ما زالت مدركه للواقع حاول سحب تلك الرسمه من بين يديها ليجدها تتشبث بها كما لم تفعل حتى مع حياتها. مضى عليه بعض الوقت يحاول التحدث، ينتظر الاستجابه، و لو فقط اماءه بسيطه و لكنها لا تحرك ساكنا.
بدأ ينفعل لربما ترحمه من صمتها هذا و لكنها ايضا لم تجفل حتى لصوته العالى، قرر ايلامها، جعلها تصدق واقعها لتعيش بقيه حياتها، قرر المصارحه بالحقيقه بأسلوب قاسٍ ربما على نفسه قبلها فضرب المنضده بجواره بعنف لم يؤثر بها و صاح يصرخ: هتفضلي كده لحد امتى!؟ فارس مات يا حنين، فارس مبقاش موجود و مش هيبقى موجود تانى. انتظر اثر كلماته عليها، رجفه، بكاء او ربما صراخ و لكن قابله صمت و اعين تحدق بالشرفه فقط.
تحرك بعجز يحوم بالغرفه و هو يغطى وجهه بكفيه مناعا غصه قلبه بغضبه الاعمى و بعنف دفع بيده يضرب حافه الشرفه لربما الالم يمحى شعوره بالعجز و تحرك للخارج و قبل ان يغلق الباب وجدها تنهض ببطء كأنها مغيبه لتجلس ارضا امام الشرفه مجددا دون ان اهتمام بأيا مما يحدث، زفر بيأس و اغلق الباب.
لا يعرف كيف التصرف، و لا يعرف حتى سبب جلوسها هكذا، و لكن صدق الطبيب عندما قال لا يفل الحديد الا الحديد، خشى عليها النتيجه و لكن ما تعيشه الان اسوء من اى نتيجه كانت. اتجه لغرفته و لكنه وجد تلك الجنه التى صارت جحيما امامه فنظر اليها لحظات ثم تحرك دون كلمه واحده و لكنها لاحظت جرح يده فتحركت خلفه مسرعه متغاضيه عن كل ما تشيده من حواجز، امسكت يده فتوقف فهتفت بجزع: ايدك مجروحه!
ابتسم بسخريه و هو يسحب يده منها متمتما و هذا اخر ما يعنيه الان: لا كتر خيرك انك لاحظتِ. و تركها متجها لغرفته و اغلق الباب و دون ان تفكر تحركت مسرعه خلفه لتفتح الباب دون استئذان لتجده جالسا على طرف الفراش، رفع رأسه اليه ببطء متسائلا بملل: خير؟!
اتجهت لاحدى الادراج بالغرفه لتخرج منها صندوق الاسعافات الاوليه ثم تحركت لتجلس بجواره جاذبه يده اليها دون تحدث، فجذب يده منها مجددا و نهض دالفا للمرحاض ليجدها خلفه فحدق بها بتعجب و صاح مستنكرا بسخط: انتِ رايحه فين؟
و بدون ان تُجيب او تسمح لنفسها بالتراجع امسكت بيده جاذبه اياه معها داخل المرحاض ثم وضعت يده اسفل المياه حتى تزيل قطرات الدماء العالقه بها و تربت على جرحه بهدوء تغسله فاستسلم لها فلا طاقه له لجدال، تمنع او حتى محاوله فهم. انتهت و خرجت و خرج معها اجلسته على الفراش مجددا و بدأت بتضميد يده و تلك ليست المره الاولى فهو اعتاد ان يؤذى نفسه كلما غضب، عجز او تألم لربما وجعه الملموس يمحى وجع روحه.
و لكن هى، هى ايضا ألم لا و لن ينتهى من حياته! و الاسوء انه معها يصبح اخر هو نفسه لا يعرفه، تذهب قوته وغضبه بقربها، تذهب قسوته و غلظته امامها، يختفي تحجر قلبه وسط حصار عينها، فلا يسأله احد اين يكون هو عندما تكون هى؟! تركت يده اخيرا و نهضت واقفه تتحدث بهدوء ينافى رغبتها بالبكاء تعنفه و توقفه عن أذيه نفسه: حاول متضغطش قوى على ايدك. رفع عينه اليها ساخرا: ليه هتوجعنى؟
نظرت لعينه لتتفاجئ بكم الارهاق و الالم الذى غلفها و كيف لا، فابن الحصرى يعيش المشاعر مضعفه، غضبه اعمى، حبه لامشروط، قوته لا تنتهى و لذلك فان حزنه مُهلك. اشاحت بعينها عنه فأمسك يدها ليجعلها تستدير تنظر اليه مجددا فهتف بحديث لا يقوله لسانه بل يبكى به قلبه: في جروح بتوجعنى اكتر من دا يا جنه، في جروح تانيه بتنزف لحد ما قربت انتهى، في جرح تانيه محتاجه تتعالج...
و صمت ثوانى محدقا بها و تمتم بعدها بمكانتها عنده صريحه: محتاجك تعالجيها، يا جنتى. و رغم عينها التى واست عيناه، و يديها التى عانقته مجازا، و دموعه التى بللت ملابسها و هو يلجأ لصدرها لتشاركه دموعها، منعت هى كل هذا و ببطء سحبت يدها من بين كفيه لتتحدث بلامبالاه قتلته: و انا مش دكتور.
و خرجت، خرجت ليغلق هو عينه دون حتى ان يغضب، ليلقى بعدها جسده على الفراش، رفع يده امام عينه ينظر اليها قليلا ثم ابتسم بسخريه يشدد ضمته فيتألم فتزداد ابتسامته، هذا هو الحاصل عندما يعشق انانيه، هذا هو المقابل عندما يحلم بواقع معها لتكن منها صفعه تخبره ان بحياتها و حياته لا مكان للاحلام، فقط واقع و يليق بابن الحصرى. اتسعت ابتسامته اكثر، فو الله ما خُلق بعد ما يعز عرش روحه حتى و ان تزلزل كل كيانه بداخله.
فاللعنه على هذا الحب الذى يحنيه و يضعفه.
نحب، نتعلق، نحارب لنصل لقلب من تعلق القلب به، نسعى بكل الطرق. فيصبح قلبه الغايه و قلبنا الوسيله، انفاسه حياه و انفاسنا القرينه، و لكن ليس كل من عشق تنازل و ليس كل من تعلق خضع.
تحبه، حاربت الجميع من اجله، تجاهلت كل التحذيرات و كل الحقائق التى ادعت عدم رؤيتها لانها فقط لا ترغب بأى امر اخر سواه، و لكن مع قوه عشقها فهى آبيه، و من فرط حنانها فهى قويه، و مع عشق قلبها تهوى كبريائها، و رغم كل تجاهلاتها لامور شتى ابدا لن تتجاهل كرامتها. استيقظ معتز صباحا ليجد الفراش خاليا منها، اعتدل جالسا يستعيد ما حدث الليله الماضيه مساءا. Flash Back.
جالسا بمكتبه يتابع بعض الاعمال بملل، اتته، ابهجته و عرضت عليه الخروج معها لتناول العشاء و قضاء سهره فلقد مر الكثير من الوقت على انفرادهم بحياتهم الخاصه، موافقه سريعه منه، طريق قصير، ثم جلوسه معها في مكان هادئ يطل على النيل يتميز بأضواءه الخافته و موسيقاه الكلاسيكيه القديمه، ابتسمت تتمتم متسائله باعجاب: حلو المكان هنا قوى، بس مش شبهك كده؟
ابتسم و هو يخمن معنى كلماتها و لكنه اراد سماعها صريحه فرفع احدى حاجبيه بابتسامه جانبيه قائلا: مش شبهى ازاى! مش فاهم؟! نظرت حولها معدده مزايا المكان و التى تنافى صخب حياته: موسيقى هاديه، نيل و المكان اصلا تحسه عاطفى كده و اللى انا اعرفه عنك انك بتحب الاماكن الصاخبه، الهيصه و اللى فيها بنات كتير.
و انهت كلماتها بغمزه عابثه و ضحكه هادئه، قهقه على كلماتها ثم اجابها و قد صدق احساسها: انا فعلا بقالى كتير مش باجى المكان هنا بس كنت دايما هنا ايام ثانوى و اول ايام الجامعه، ايام ما كنت محترم و في حالى، شويه. ضحكت تستمع اليه و هو يردف: المكان هنا بيفكرنى بنفسى زمان، بيفكرنى بذكريات حلوه انا متأكد ان عمرى ما هنساها،.
ثم صمت قليلا متذكرا انه ايضا اول مكان جمعه ب سالى لتبدأ بعدها حياته الصاخبه حقا، لاحظت شروده و قررت الا تسمح له بمثله اليوم، و بالفعل حورات كثيره، ضحك اكثر، مزاح، غضب مصطنع، طفولتها و مشاغباتها القديمه، عبثه و فتره مراهقته المستهتره، حتى صرخت و قد لاحظت تأخرهم: يالهوى الساعه 2 يا معتز. و بلامبالاه اجاب: و ايه المشكله؟
بدأت تلملم اشيائها و هى تستعد للنهوض تهتف بغيظ: عندنا شغل الصبح يا استاذ، يلا نقوم. و بالفعل نهضا و لكن على وشك الخروج من المكان تجمد مكانه و هو يستمع لصوت انثوى يردد اسمه بنبره مندهشه، معتز!
استدارت هبه تنظر للمنادى لتجدها فتاه جميله بل رائعه الجمال، جسد ممشوق تظهره ملابسها بوضوح، ملامحها الواضحه و التى ابرزتها الوان مكياجها الهادئه، خصلاتها البنيه التى ظهرت من خلف ما يطلقون عليه حجاب، فعقدت حاجبيها تتسائل عن من تكون فعادت ببصرها لمعتز لتتعجب انه مازال تعطيهم ظهره، انفاسه متسارعه و عيناه تنظر يمينا و يسارا بارتباك، اما هو تجمد لا يدرى ما حدث له، نبضات قلبه الثائره، صوتها!
تلك التى أنب نفسه مرارا و مرارا على تركه لها، تلك التى ظن ان قلبه لن يدق لغيرها مهما كان، تلك التى عاش اشهر بين نيران مقارنتها بزوجته، تلك اول و اكثر امرأه اثرت بحياته سابقا، و الان و بعد ان اعتقد ان حياته على وشك الاستقرار ها قد عادت لتبعثره مجددا، اقترب الصوت منه اكثر مردده باسمه مجددا: معتز،.
اغلق عينه لحظه تابعته هبه بتعجب و الغضب بدأ يتسلل لروحها من مدى تأثره بهذه على الرغم من انه لم يراها بعد، استدار بهدوء ليجدها امامه، لم تتغير، فقط ظلت جميله مثلما كانت دائما، عينها الواسعه و التى كان يعشق التحديق بهما، شفتاها المرسومه بأكثر الالوان تأثيرا على رجولته، و ابتسامتها التى تفتنه و كم كان يعشق رؤيتها.
تعلقت عينه بها غافلا عن اتساع عين تلك التى تسمى زوجته، و هى ترى تحديقه، لهفته، و انفاسه المضطربه، تحدثت الفتاه مجددا بابتسامه اوسع: معتز ازيك؟! نقلت هبه بصرها بينهم بدهشه و غيرتها تكاد تفتك بها و لكن ذهبت غيرتها ادراج الرياح ليحل محلها صدمه عندما نطق معتز بصوت متهدج: ساالى! و لم ينطق بكلمه اخرى فقط سحب يد هبه و خرج من المكان مسرعا. Back..
نهض و هو لا يعرف كيف يواجهها، ماذا يقول فالليله الماضيه بمجرد ان رحلا من المطعم لم تنطق بحرف واحد حتى وصلا للمنزل لتنام دون التحدث معه مانعه اياه من المحاوله حتى، خرج ليجدها تقف بالمطبخ تحضر الفطور فكعادته دائما احتضنها من الخلف يقبل جانب عنقها متمتما و كأن شيئا لم يكن: صباح الفل يا فله. ابتعدت بجسدها عن مرمي يده و قبلاته و اجابته باقتضاب: صباح النور.
اتجه اليها و جذب ما بيدها و وضعه على الطاوله الرخاميه و جعلها تلتفت له و نظر لعينها التي تاه بين امواجها الهادره غضبا و هى تبعدها عنه ناظره ارضا عاقده ذراعيها امام صدرها تستمتع اليه: اغضبى، زعقى، اسألى، عاتبى، بس ماتسكتيش كده.
اجعل ترغب بالغضب، بالغضب منه و عليه، بالغضب لان قلبه مازال مشغولا، لان روحه ما زالت ملك لغيرها، تغضب لانه اهانها بشرود بغيرها في وجودها، اساء اليها بنبضاته التى تبعثرت بغيرها في وجودها، و نعم تحتاج للصراخ به بأقصى ما تملك من صوت، لتخبره عن قسوه احساسها و هى ترى اضطرابه بغيرها، عن مدى ألمها و هى تدرك ان تلك الفتاه هى التى تمتم باسمها في مرضه سابقا،.
و حتما تتمنى سؤاله، عمن تكون، من تلك التى تخطفه من نفسه و منها، من تلك التى تتملكه حتى و هى بعيده لدرجه انتفاضه قلبه هكذا بقربها، و للاسف يميل قلبها لمعاتبته، فكيف يسمح لنفسه بأخذها لاكثر الاماكن ربطته بالماضى، ذلك المكان الذى اخبرها ان به ذكريات لن تُمحى و من الواضح انه وجد به سبب ذكرياته،.
و لكنها تجاهلت كل ما تشعر به و رفعت عينها اليه ببطء تنظر اليه قليلا ثم تمتمت بصرامه نادرا ما تتحدث بها معه: لو عندك حاجه عاوز تقولها اتفضل سمعاك، صمت ثوان فرمقته بنظره ساخره ثم تحركت لتخرج و لكنه امسك بيدها حملها واضعا اياه على الطاوله الرخاميه امامه مانعا نزولها بوقوفه امامها تماما و تحدث بصدق ما يشعر به حقا: انتِ عارفه انا كنت ازاى قبل كده، عارفه اني مكنتش ملاك، و عارفه انى غلط كتير، بس..
رفع كفها يقبله و هو حقا يعنى كل كلمه تخرج منه: بس عارفه كمان انى اتغيرت علشانك، بقيت واحد تانى او يمكن رجعت لمعتز القديم، علشانك انتِ و بس، عارفه كويس انى بحبك و مبقتش اقدر استغنى عنك يا هبه. و لاول مره منذ زواجهم تشعر به يقولها مستجديا حبها ليعفو عنه، يقولها ربما لانه يعرف انها امامها تخنع و لسماعها يهفو قلبها فتنسى ما حدث و تسامح،.
لاول مره لا تفرح بها كما كانت تفعل بل شعرت بها حجه واهيه يتعلق بها ربما لانها اخبرته من قبل ان حبها له هو نقطه ضعفها، ابعدته عنها قليلا و هتفت بحده و صرامه لاول مره يراها بها بل و امواجها الهادره بعينها تخفى حبها عنه و بجداره و كأنه لم يكن ابدا من قبل: حوار انك كنت حاجه و اتغيرت مش شماعه هتعلق عليها كل اخطائك و انا هتقبل و هتعدى يا معتز،.
و بحده اعتدلت واقفه دافعه اياه عده خطوات بعيدا عنها فما عاشته البارحه اهانه لقلبها و انوثتها و ارتباكه لفتاه اخرى امامها تشعر به اهانه لكرامتها، صاحت تعرفه جيدا انها باستطاعتها محو ما تحمله من عشق في قلبها ان فكر فقط ان يهدر كرامتها، تعرفه جيدا ان مكانته لديها لا تساوى اى شئ امام كبريائها و عزه انوثتها: انا مش هعاتب و لا هتكلم، و لا هسألك ايه جواك، و لا مين دى و لا حاسس ناحيتها بايه، بس افتكر كويس يا معتز انى لو اضطريت اختار بين قلبى و كرامتى،.
صمتت قليلا لتنظر لعينه التى طالعتها بصدمه خشيه من سماع ما على وشك قوله، عينه التى توسلتها الا تقلل من شأنه لديها فمشاعرها ناحيته، حبها، قربها و اهتمامها هو ما يبقىه انسانا، هو ما يبقىه قويا متمسكا بها، هو ما غيره و هو من سيحافظ عليه و لكنها القت بكل توسلاته ارضا و اردفت بقوه: هختار كرامتى و هدوس على قلبى و مش هيهمنى يا معتز،.
و تركته و خرجت و لا تدرى ما اخلفته في نفسه من خوف جديد و عند جديد، تحداه الاخرين بأهميته سابقا فابتعد هو ليخبرهم انهم لا شئ، اهملته والدته و تخلى عنه ابيه و فضلت اخته الرحيل و ها هى السند الوحيد الذى اعتقد انه لن يميل قد مال، و مال هو معه.
غرفه الاجتماعات، الاضاءه الخافته، شاشه العرض و كلا يبدى رأيه و فكرته في المشروع الجديد، انتهت هبه من سرد فكرتها و التى نالت اعجاب الجميع ليتم التقييم و حان دور مها و التى ارتبكت خشيه الا تستطيع ايصال ما تريد شرحه للجميع، نهضت تحاول، و لكن صعب على بعض الحضور فهمها ربما لان طريقتها المستخدمه خاطئه، اشارات غريبه و اعتمدت هى على لغتها المميزه و التى لا يفهمها الجميع، اعترض هذا و ابتسم اخر و هو يعبر عن عدم استيعابه، و مع الهمهمات الصادره من حولها شعرت بخزى يغلفها، نظرت لمحمود ربما تستمد منه بعض القوه، و جدته ينظر للجميع ثم يعود بنظره اليها شافقا فازداد احراجها و عادت لمكانها جالسه بصمت.
نهض اكرم يحمل التصاميم من امامها و اعطاها لهبه التى يعرف تمام المعرفه انها ملمه بها و طلب منها تولى مهمه ايصالها للحضور، بدأت بسرد الفكره و توضيح لفتاتها المميزه و ارائها المختلفه، لمساتها البسيطه التى تزيد اتقانها، فنالت كثير الاعجاب و نبرات الانبهار تعالت حولها، فعادت ابتسامتها رويدا رويدا و عندما رفعت عينها لتنظر لمحمود و جدت على وجهه ابتسامه و تعبير اشبه ب معلش ثم نظره فخر جعلتها تبتسم اكثر،.
انتهى الاجتماع و بدأ الجميع في التعليق على تصاميمها المميزه و تهنتئها على افكارها، و اقترب مازن متمتما بفخر حقيقى خلف قناع مرحه: ما شاء الله دماغ الماظ. اتسعت ابتسامتها بنظره شكر، و غمزه من محمود يشيد بها: انا فخور بيها جدا. و كذلك ابتسم اكرم بهدوء و تحدث بصدق سعادته لوجود مثلها بشركته: فعلا يا باشمهندسه، وجودك معانا في الشركه قدم لها كتير.
نظرت اليه لتجد في عينيه ما يأكد صدق كلماته حقا فازدادت سعادتها و هى تعتبرها شهاده تسعد و تفخر بها. تحركت لتخرج و هبه تحادثها و لم تنتبه لنداء اكرم من خلفها، نظر اليه مازن يسأله: كنت عاوزها في ايه؟! عقد اكرم حاجبيه متعجبا سؤاله و اجابه بارتباك شبه واضح: كنت هطمن على حنين. نظر اليه قليلا ثم ابتسم ليلقى بسؤاله التالى و الذى لم يتوقعه اكرم ابدا: بتحبها يا أكرم؟!
و اكثر من ما قد تحبه الحياه هو التعجيز، تجعلك تشعر انه لا طاقه لديك ليوم جديد، لا قوه تملكها لمعضله اخرى، تجعلك تشعر انك تائه و لا سبيل للعوده. و هذا ما قد منحته الحياه لابن الحصرى من جديد، كأنها تخبره، ان كنت مازالت قويا، فمازالت جعبتى لم تنفذ بعد . دلف عاصم لقسم الشرطه ليجد حامد بانتظاره: عاصم باشا اتفضل..
تقدم اليه عاصم و صافحه و اتجهوا سويا لغرفته و هناك جلس عاصم و استند بساعده على المكتب مقتربا من حامد قائلا: مين؟ اعتدل حامد و اضاف بعمليه و هو يعطي عاصم ملف المتهم: عطوه واد خريج سجون، ممسوك في اكتر من قضيه قبل كده، و معروف انه قاتل مأجور، بس كان كل مره يخرج ببساطه بدون اي دليل دا ان قدرنا نمسكه اصلا، معارفه كتير وتقريبا له ضلع في الداخليه، انا لما عرفت انه هو استغربت اننا وجدنا ادله عليه!
تصفح عاصم ملفه باهتمام ثم رفع راسه و هتف: عايز اشوفه.. رفع حامد سماعه الهاتف و هم بطلب العسكري ليجلب له المتهم و لكن عاصم اوقفه و قال بنبره تطلب خدمه: لا انا عايز اشوفه لوحدنا في الزنزانه.. نظر اليه حامد متوجسا خفيه، فغضب عاصم الحصري يعرفه الجميع و لكنه بالنهايه نهض و اشار للباب: اتفضل، و اثناء خروجهم تحدث حامد: هو كمان طلب يشوفك و رافض يعترف تماما..
نظر اليه عاصم بطرف عينه ثم همس بغضب: غالي و الطلب رخيص. وصلوا للزنزانه الانفراديه المحتجز بها المتهم و بمجرد ان فتح الباب و دلف عاصم و نظر اليه اقتحمت ذاكرته صوره فارس و هو مسجي على الارض مضرح بدمائه، فشدد قبضتيه بغضب و حاول السيطره بقدر الامكان على غضبه حتى يحين وقته...
تقدم حامد من المتهم و الذي يبدو كأحد الاطفال الضاله بجسده النحيل و قصر قامته و لكن عيناه حاده بشكل مخيف و لكن اتقف الفريسه مهما كانت قوتها بوجه الاسد! اوقفه حامد معتقلا ياقه قميصه و دفعه باتجاه عاصم فضحك الفتى و هو يندفع بقوه اثر الدفعه ليتوقف امام عاصم مباشره قائلا بسخريه: يا اهلا يا اهلا بسياده النقيب..
ثم اقترب منه اكثر و رفع يده نافضا القميص الخاص بعاصم ضاربا كتفه عده مرات و قال محاولا اثاره غضبه: منور يا باشا، اخبارك ايه، ان شاء الله بخير! نظر عاصم لطرف قميصه الذي لامسه ذلك الفتي ثم ضغط شفتيه رافعا راسه ناظرا بجواره و ابتسامته الجانبيه تأخذ موضعها ثم عاد ببصره اخيرا للفتي الذي كان على وجهه ابتسامه بلهاء و لكن وصل لعاصم مغذاها المتحدى و الواثق جيدا..
نظر عاصم لحامد و قال و هو يمسح جانب فمه بحركته المعتاده و الان تحديدا غضبا بحجم الدنيا و اكبر: سيبنا لوحدنا يا حضره الظابط.. نقل حامد نظره بينهم كلاهما يواجه الاخر بنظرات قاسيه متحديه رغم الابتسامه التي تظهر على وجهيهما، يبدو ان القادم لا ينم عن خير ابدا، و لكنه اومأ و خرج فهو يعلم جيدا ان عاصم لن يفعل شيئا يضر بحياته ومهنته..
اتجه عاصم بهدوء ليجلس على المقعد الوحيد بالغرفه فاستند الفتي بجذعه الصغير على قبضان الزنزانه مترقبا ما سيقوله سياده النقيب.. لحظات قليله اتبعها الفتي بقوله الساخر: مكنتش اعرف ان لما هطلبك هتيجي فورا واضح ان البدله الميري علمتك الانضباط. اتسعت ابتسامه عاصم و رفع يده لفمه مجددا مبتعدا بنظره عن الفتي امامه حاكا اسفل ذقنه باصابعه الخشنه...
قهقه الفتي و هو يتحرك حول المقعد الجالس عليه عاصم و يردد: كنت صعبان عليا قوى يومها، صاحبك و صديق عمرك بيتصفى دمه قدامك و انت مش قادر تعمله حاجه و واقف عاجز زي الولايا، و لا اختك المسكينه اللى مفرحتش بفستانها، و لا أمه يا حرااام فقدان الضني غالي برده، ثم توقف و مال على عاصم قليلا و همس بشماته: بس انا كنت فرحان.. ضحك بقوه و اضاف بعبث و نبره ساخره: بستمتع بألام الناس بشكل انت متتخيلوش،.
وضع يده على كتف عاصم و همس بجوار اذنه: واجعتك مش كده، خليتك ايد ورا و ايد قدام مش عارف تعمل حاجه، حرقت قلبك على صاحبك و اختك كمان، شوفت بقي اني قدرت اعمل فيك كتير،.
في الثانيه التاليه كان الفتي بمحل عاصم على المقعد و عاصم يثبته بمعصمه ضاغطا راسه على حرف المقعد و هو يحدق به بنظرات غاضبه تحرقه حرقا، جعلت الفتي رغم قوته التي استعرضها منذ قليل يرتعد خوفا و لكنه حافظ على ابتسامته الساخره فهو بيده رقبه ابن الحصري. ضرب عاصم بكفه على وجنته عده مرات مضاعفا الضغط على عنقه و همس بصوت يشبه الرعد في قوته: انت معملتش اى حاجه غير انك حللت دمك على ايدى،.
حاول الفتي استجماع باقي قوته و هتف بلامبالاه يدعيها: مش هتستفيد حاجه،.
ابتعد عاصم عنه فاعتدل الفتي ليفاجأه عاصم بمرفقه الذي اصطدم بانفه بقوه ليرتد للخلف بالمقعد الذي يجلس عليه، اطلق الفتي تاوها بسيطا و لكنه اتبعه بضحكات ساخره جعلت البقيه الباقيه من عقل عاصم تختفي لتتسع ابتسامته بشكل مرعب و اتجه ببطء للفتي امامه الذي زحف بجسده للخلف و لكن عاصم اطبق بقدمه على ركبته ليصرخ الفتي بقوه مهوله بعد تأكده من انكسار عظامه فتحدث عاصم ببطء: عيب عليك تصرخ كده زي الولايا،.
ثم انخفض عاصم فجاه واضعا كلتا يديه على كتف الفتي مثبتا عنقه دافعا ركبته - عاصم - لتصطدم باعلي انف الفتي ليترنح ساقطا ارضا بعدما ابتعد عاصم عنه، تركه لحظات ربما سيجعله يعد الثوانى كأنها اعوام.. انخفض عاصم و جذبه من قميصه و همس امام عينيه الذي لم يعد الفتي يري بها شيئا: مين اللي حرضك؟
اغلق الفتي عينه فهو اراد ان يستفزه، اراد ان يشعره بعجزه، اراد ان يخبره انه استطاع ايلامه بقتل صديقه و لكنه بالنهايه هو من تكاد روحه تفارق جسده. رفعه عاصم اكثر ثم تركه ليسقط ارضا مجددا ضاربا اياه بقدمه في صدره ليتلوي الفتي ارضا صارخا بألم عندما رفعه عاصم و تمتم ضاغطا على حروفه: ميييييين؟! تحدث الفتي اخيرا بهمس باستسلام مقررا القاء قذيفته و هو يكاد يسمح لجفونه بالبقاء مفتوحه: جدك...
خرج عاصم من مقر الشرطه و هو يهندم ملابسه اثر ما فعله بهذا الفتي ثم رفع يده ضاغطا على شعره بغضب عاصف و عيونه تحكي قصصا عن ثوارن بركان قادم. هل جده هو المسئول عن كل ما عاشوه! هل جده هو من امر بقتل رفيق عمره! هل جده من رمل اخته و التي هي حفيدته و بكل دم بارد؟! يتذكر ان جده هو من وقف بجوار جد فارس - مدحت - ليواسيه و يستعيدوا معا ايام شبابهم عندما كانوا عونا و سندا لبعضهم البعد في اصعب الاوقات،.
هل جده هو من القي بهم جميعا في حجيم الفراق و لوعه الموت، رفع يده ماسحا جانب فمه بعنف، اقترب من حامد طالبا اياه بعدم اتخاذ اى اجراء رسمى الان، فليمنحه فقط فرصه صغيره قبل التحرك، و وافقه الاخر مقدرا مدى سخافه ما وقع على عاتقه من مسئوليه، صعد لسيارته و انطلق بها بسرعه مهوله، ماذا يجب عليه ان يفعل الان!؟
هل يسمح بالقاء القبض على جده - كبير عائله الحصري - ليكون عبره لكل من يفكر في اذيه عائلته او احد يخصه؟ ام ينتظر ليتأكد من صحه كلام ذلك الفتي؟ ام يترك حق فارس دون اخذه فهذا جده بعد كل شئ؟ ولكن هذا صديقه ايضا!
أينسي دماء صديقه التي اراقت هدر، أينسي دموع اخته و عدم تقبلها للواقع حتى الان، أينسي انكسار مازن و وجع قلبه، أينسي والد فارس الذي اصبح طريح الفراش بعدما انكسر ظهره بفقدانه ولده و كأن جسده يشهد على خسارته للوتد القائم عليه، أينسي تلك الام التي بكت من الدموع ما يكفي و يفيض بعدما خسرت قطعه من روحها، كيف ينسي تلك العائله التي خسرت ضلعها الاول والاغلي؟! ام يتذكر كل هذا و يتصرف كعاصم الحصري دون تفكير؟
توقف بسيارته بقوه عندما مرت من امامه سيده كبيره ليلاحظ ان الاشاره حمراء، ضرب بقبضته على المقود امامه، ابن الحصرى عاجز عن اتخاذ قراره، عاجز عن كسر عائلته، ماذا سيفعل والده و كيف ستتقبل شقيقته الامر، كيف ستجتمع العائله مجددا بعد فضيحه كهذه. افاق على صوت ابواق السيارات خلفه، فانطلق بالسياره مجددا و هو يشعر انه بين شقي الرحي، هذا الاختيار سيكلفه الكثير و الاخر سيكلفه اكثر.
ارتفع رنين هاتفه برقم يخص عمله و الذى اعطاه امرا بسرعه الحضور لمهمه جديده تتطلب سفره عده ايام، تلقى الامر و اغلق. لا وقت امامه لكل هذه التساؤلات، هو رجل العائله، هو السند و العون لهم، سند ابيه، قوه اخته، امان والدته و رجل امرأته، هو سيحمل كل شئ على عاتقه سواء يستطيع او لا، سواء يقدر عليه او لا، سيحمله رغم ثقله، سيحمله رغم كل شئ.
بتحبها يا اكرم؟ صرح بها مازن بشكل جعل اكرم يلتفت له بحده: ايه؟، انت بتقول ايه؟ و تركه دون انتظار رد باتجاه مكتبه فلحق به مازن عنادا، و دلف خلفه مغلقا الباب متحدثا باقرار لا سؤال: بقول انك بتحبها يا اكرم. نظر اكرم اليه قليلا دون كلمه ثم تحدث ببطء و لا نيه له للنفى و لكنه فضل المراوغه: هى مين دى؟ ابتسم مازن من محاولاته الفاشله للهروب و استند على المكتب امامه مصرحا: بشمهندسه مها..
زفر اكرم بقوه مستندا بمرفقيه على المكتب امامه واضعا وجهه بين يديه و صمت، نظر مازن اليه متذكرا نفسه عندما كان يخرج حرائق قلبه على شكل زفرات متتاليه فتأكد من ظنه فقال بتعجب: بس انت مش بتظهر حاجه ابدا، قدامها هي و خطيبها، لا بشوف غضب و لا حزن و لا حتى وجع في عينك، اللي خلاني الاحظ لهفتك عليها يوم ما تعبت في الموقع، الفخر اللي كان في عينك لما الكل شجعها النهارده،.
و متذكرا مواقف شتى اضاف: انت حتى دايما بتضحك و تهزر لا و بتوصي خطيبها ازاى يحافظ عليها، رغم ان اي راجل مكانك كان هيحاول يفرق بينهم علشان يفوز بيها، انت ازاي كده؟! لم يرفع اكرم وجهه عن كفيه و لكنه ابتسم بكل وجعه الذي يخفيه حتى عن نفسه احيانا، بكل الم مزق قلبه و هو يرى محمود سبب ضحكتها، و لكن أيهم السبب!؟ لا و الله، فضحكتها تكفى.
تحدث بخفوت و مازال على وضعه مقتنعا بكل كلمه يقولها: الراجل لما يضحك قوى و هو جنب واحده بيحبها دا حاجه من اتنين، ياما سعيد معاها جدا و هي سبب فرحته دى، ياما بيتألم جدا و مفيش في ايده غير انه يضحك،.
رفع راسه اخيرا ليتعجب مازن ابتسامته الهادئه و رغم لمعه الحب التى ظهرت بوضوح و هو يتحدث عنها الا انه مقتنع تماما بما يقول، لا تحمل عينيه اسى او فقد فقط اغلق على قلبه فلم يعد يحق له غير هذا: الحب مش امتلاك يا مازن او على الاقل بالنسبه لي مش امتلاك، في ناس بتخسر حبها لمجرد ان اللى بتحبه مش بيادلها نفس الشعور، الحب مش اني اتجوزها و ابقي خلاص فوزت بيها، لا،.
و ازداد لمعان عينه بصدق عاطفته و قوتها بل و بثبات ما زال يتحدث بفخر كأنه فاز بها حقا: الحب اني اسعي دايما لضحكتها حتى لو مش بسببي، اني احميها دايما حتى لو مش بايدي، اني افرح لفرحها و أتالم اشد الالم لوجعها، اني و بكامل ارادتي و انا بضحك و مقتنع تماما اشجع اللي بتحبه و بيحبها انه يطلبها للجواز، الحب مش كلام يتقال و لا وصف يتوصف، الحب اكبر و اعظم احساس بتحس بيه و بس،.
و بثقه نظر لمازن مردفا دون خجل او اخفاء: مش هنكر اني بحبها، و انى اتمنيتها زوجه ليا، لكن يشهد ربنا عليا اني مفكرتش فيها ابدا كزوجه بعد خطوبتها و لا هفكر فيها و بكل فخر و سعاده هشاركها فرحتها و هي بتحقق حلم حياتها مع محمود، و يكفى انها تكون سعيده. و للمره الالف ادرك مازن ان ما كان يكنه لهبه لم يكن سوا انبهار، اعجاب او ربما حتى مجرد تعلق واهى اوهم نفسه بامتلاكه،.
فابتسم مدركا انه كذب الكذبه و صدقها و لكنه ها هو للمره الثانيه يرى معنى الحب الحقيقى، ذلك التى تجسد سابقا بعين شقيقه و الان يراه بعين اكرم و للاسف كلاهما خسر.