رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الخامس
وصل اكرم للشركه بأسرع ما يمكنه، دلف واقفا امام موظفه الاستقبال متسائلا عن مكان مكتب عاصم فأخبرته فتحرك للاعلى متحفزا و اثناء ذلك قابله فارس الذى ابتسم مقتربا منه مشيرا اليه بأصبعه محاولا تذكره حتى هتف: اكرم ماجد الالفى، صح!
ابتسم اكرم ناظرا اليه باستغراب منتظرا ان يعرف فارس عن نفسه فابتسم فارس و هو يمد يده مصافحا فصافحه اكرم واثناء ذلك عرف فارس عن نفسه: فارس الشرقاوي و طبعا انا مش مهم المهم ان والدتي تبقي نهال العسوي. اتسعت ابتسامه اكرم مع اتساع عينيه و رفع حاجبيه قائلا بدهشه ساخره: خالتى! اتسعت ابتسامه فارس لرؤيته لملامح اكرم الساخره و تحرك معه قائلا بمرح: اظن انت مش عاوز تتعرف على العيله اصلا..
ضحك اكرم بسخط متمتما بسخريه لاذعه: هى فين العيله دى! رمقه فارس بطرف عينه ف على ما يبدو ابن خالته لا يحب اى فرد من افراد العائله و لكن فليكن بالتأكيد سيعتاد اما على القرب او ان يظل بعيدا، تجاوز الامر متسائلا: انت جاى تشوف عاصم! اومأ اكرم موافقا فأشار له فارس على غرفه عاصم مصافحا اياه مجددا قائلا بود لا يصطنعه: اكيد هيبقى لينا كلام تانى..
دفع فارس ابتسامته دفعا لوجه اكرم العابس موافقا اياه فلم يستطع العبوس اكثر امام كل هذا الود ثم تحرك باتجاه غرفه عاصم، طرقات خفيفه على الباب، اذن بالدخول، ثم مصافحه رسميه و جلوس.. بدأ عاصم الحوار قائلا بهدوء ينافى ملامح وجهه المرهقه لحد كبير باضافه لظهور بعد علامات الضيق: قولى انك مش جاى تسأل عن اسباب المشاكل و ايه السبب و و و!
ابتسم اكرم فيبدو ان عاصم لا يحب الحديث الطويل و الاكثر وضوحا انه لا يحب الحديث عن مشاكل العائله فوافقه بهدوء هو الاخر فما جاء لاجله شيئا اخر: لا كل ده ميهمنيش انا جاى ليك لسبب تانى. اومأ عاصم زافرا هاتفا بتحفز: جميل، انا بقى عندى سؤال.
نظر اليه اكرم منتظرا سؤاله فتحدث عاصم بنبره ساخره رغما عنه وعيناه تتطلع لاكرم بسخط ايضا رغما عنه ربما لانه يؤمن تماما بما يقول: انا سمعت من والدتى اساطير عن حب والدك لوالدتك و ازاى اتجوزوا عن حب و بدون تفاصيل واضحه ان حبه ليها و تمسكه بيها كان السبب في انه ينفصل عن العيله.
تابع اكرم كلامه مستنبطا سؤاله القادم و وضح هذا سخطه الظاهر في كلماته و قد كان عندما تسائل عاصم بنبره كادت تجعل اكرم يقوم بلكمه بضمير مرتاح: ليه والدك اتجوز؟ بعد كل الكلام - اللى ملوش معنى عندى بس يمكن بيمثل عندهم حاجه - ده، ليه اتجوز؟!
ابتسم اكرم ابتسامه مصطنعه محاولا تجاوز مدى سخريته و تقليله لشأن ما سمع ولكنه اجاب بهدوء ينافى اضطراب اجفانه غضبا: متحاولش تحكم على حاجه من جانب واحد يا سياده النقيب، الحقيقه دائما ناقصه و انت متعرفش حاجه عن اهلى علشان تسأل او تحاول تبرر او تفهم ايه اللى حصل و ازاى؟ داعب عاصم جانب فمه بتفكير ثم تمتم متسائلا مجددا: و اهلك فين حاليا؟ و ازاى والدتك تقبل بوضع زى ده؟
اغلق اكرم عينه لحظه و الالم يتجسد بوضوح على ملامحه متذكرا يوم زواج ابيه بكوثر و كيف كان انهيار والدته، لم يستطع عاصم تفسير سبب الالم الذى رآه على وجهه و لكنه لم يتحدث و انتظر الاجابه بصبر لا يملكه كثيرا، حتى نظر اليه اكرم مغلقا الموضوع قائلا بحده: والدتى توفت يا سياده النقيب، اما.. قاطعه عاصم مندفعا بسخريه اشد رغم مواساته: ربنا يرحمها، يبقى علشان كده اتجوز، واضح انها اساطير فعلا.
و هنا لم يتحمل اكرم و لم تسعفه اعصابه كثيرا فنهض ضاربا على المكتب بغضب هاتفا بصوت عالى فاقدا نفسه: لاحظ انك بتتكلم على اهلى اللى هما المفروض اهلك، في حاجه اسمها اسلوب يا سياده النقيب، اسلوب. و تركه متحركا للخارج بعدما اشعل فتيل الغضب لدى عاصم فأكثر ما يمقته ابن الحصرى هو ان يعلو صوت احدهم بوجهه.
جلس اكرم بسيارته ضاربا المقود عده مرات بيده حتى سرى تخدير بسيط بها فضمها اليه بيده الاخرى زافرا بغضب، هو جاء ليسأل عن شيئا واحدا يصله بمكان شقيقته.. لمَ تحدث عاصم بهذا الحوار الذى لا معنى له! لمَ ضغط على جرح لا يستطيع الزمن مداواته! لمَ فتح باب نار يكتوى بها اكرم حتى تحرقه تماما! القى برأسه على مقعده متنهدا بأسى فليس امامه الان سوى طريق واحد سيسلكه لربما يأتى بنتيجه ما.
جلست هاله مع جنه بالمكتبه حمحمت قليلا ثم تحدثت مباشره بما اتُفق عليه: اسمعيني للاخر و بعدين قوليلى رأيك، اتفقنا! اومأت جنه موافقه و متعجبه فلقد رحبت بها سيدتان لا تعرف من هم، نظراتهم غريبه و نبراتهم الحانيه كانت اغرب و من ثم لم تمنحها هاله فرصه للتفكير و طلبت منها الحديث على انفراد في امر هام. و االسؤال الان، ما الذى يحدث؟!
انتبهت لحديث هاله التى بدأته بتوضيح ما ترغب، ثم بدأت بمدح العائله التى ترغب منها العمل معهم ثم تجاوزت هذا لتتحدث عن الاجر الذى ستأخذه مقابل عملها لتنتهى بتنهيده مرفقه بسؤالها المتلهف: ها ايه رأيك؟ صمتت جنه لا تدري بماذا تجيب! فهى لم تستوعب حتى ما شرحته هاله، عمل، و تحت رحمه امرأه اخرى؟! أتقبل ام ترفض؟ أتقبل و تأخذ بكلام هاله عقد و ثقه؟ أم ترفض و تبحث عن عمل بمفردها؟
و لكن ان فكرت بمنطقيه الان فستجد في عرض هاله فرصه ذهبيه، فهى ليست بمتعلمه اذا لن يُقبل بها في اى وظيفه بسهوله، بالاضافه لانها لن تسكن هنا بمفردها و ستعود فهل ستكون فرص العمل هناك مثلما هى هنا؟، ستلجأ لصديق والدها و لكن هى لا تعرف ان كان قد انتقل او ربما توفاه الله. أتسير نحو المجهول كليا ام تتبع هاله و تسير نحو المجهول جزئيا! منزل و مال و ربما تكون عائله ان احبتهم و أحبوها.
ربما تكون تلك الفرصه هى فرصه القدر لها. ابتسمت عندما وصل تفكيرها لهنا فاتسعت ابتسامه هاله منتظره الجواب فتمتمت جنه بتردد: تعتقدى هينفع يا طنط هاله، انا معرفهمش، مش عارفه هيحبونى و لا لأ!، انا مش متعلمه، و يتيمه هيثقوا فيا ازاى؟ ازاى اعيش وسطهم!
ابتسمت هاله بحنان وهى تُمسك يدها بقوه تمنحها الثقه هاتفه باصرار: انا الضامن ليكِ و لهم، دول اهلى يا جنه و انتِ بنتى، صدقينى هيحبوكِ زى ما انا حبيتك و اكتر، اما بالنسبه للتعليم فا انتِ مجتهده جدا و هتقدرى تساعدى شذى ثم ان البنت لسه صغيره في ابتدائى.. ثم ضحكت متذكره شقاوه تلك الصغيره و أردفت: أينعم عفريته بس طيبه و انا متأكده انها هتتعلق بيكِ و هتحبك.
عادت تنظر اليها لتكمل بنبره اكثر دفئا: انا عارفه انك مش هتقبلى اى مساعده منى فعلى الاقل اقبلى دى علشان ابقى مطمنه عليكِ. ثم اضافت مسرعه كأنها تطمئنها اكتر: و بعدين انتِ هتجربى و لو مرتحتيش تقدرى تسيبى الشغل هناك و انا اتفقت مع ليلى و وضحت لها كل اللى يخصك فحتى محدش هيسألك عن اى حاجه تضايقك. صمتت لحظه و تعلقت عيناها بها في لهفه متسائله: ها قولتِ ايه؟
ظلت جنه على صمتها قليلا، تثق بهاله لا شك و لكنها تخاف، تخاف بشده و لكن هذا العرض بالنسبه اليها مغرى لدرجه ان توافق دون تفكير، فتمتمت بهدوء بعدما دعت الله ان يوفقها لما هو خير لها: طيب انا موافقه بس عندى سؤال. انتظرت هاله سؤالها بسعاده فأردفت جنه بتسائل مترقب: هى عندها اطفال غير البنوته دى؟ ضحكت هاله و اجابتها بمرح: هما مش اطفال، كلهم اكبر منك تقريبا.
و اردفت و جنه متحمسه للاجابه: عاصم تقريبا 28 او 29 سنه، سلمى مخلصه كليه هندسه و حنين اخر سنه في صيدله تقريبا، و شذى اخر العنقود.
وقبل ان تعلق جنه اكملت هاله بتوضيح لسؤال كادت جنه تطرحه: و بالنسبه لعاصم هو اصلا نقيب، اخر اخبارى عنه انه بيسافر 4 ايام في الاسبوع و بيبقى موجود 3 ايام بس في البيت، مستقل بنفسه جدا و ظهوره في البيت مش كتير غير انه بيقضى وقت اجازته مكان والده في الشركه، يعنى مش هتشوفيه كتير، ثم انتِ هيبقى ليكِ اوضه خاصه بيكِ هتقعدى فيها وقت ما تحبى، ها كده الامور تمام!
اومأت جنه موافقه فاتسعت ابتسامه هاله سعاده فها هى الصغيره تعود لعائلتها و لكن كيف ستكون العوده! و الاجابه، لا تدرى!
الحياه مسرحيه، أعجبتنا أم لم تعجبنا، فقد دفعنا ثمن التذكره. وليم شكسبير.
في احدي الاماكن الراقيه الهادئه في بلده اخرى بعيده جدا عن تلك التى تقطن بها كوثر، دلفت سياره ليلي لتقف امام بوابه ثواني قبل ان تُفتح البوابه على مصرعيها ليظهر من خلفها المنزل، لم يكن ضخما و ايضا لم يكن صغيرا، به لمحه من الهدوء و شعور يطغى بالامان و الطمأنينه، ما يميزه حقا تلك الاشجار الكبيره المحاوطه له، و التى ذكرتها بتلك الشجيرات الصغيره حول منزلهم القديم، بالاضافه لحديقه تحاوط المنزل مليئه بالعشب الاخضر يدعوها لتلامسه بقدمها لعله يمنحها شعور بالانتعاش و السعاده، و كذلك الازهار المتفرقه بشكل جميل بألوانها المختلفه.
لم يكن المنزل مميزا و لكنه ايضا لم يكن تقليديا، به لمسه استثنائيه من الجمال، احبته و لو عرفت انه من تصميم والدها لم تكن لتغادره بعد الان ابدا. توقفت السياره امام باب خشبى يبدو المدخل الرئيسى للمنزل، تحرك السائق مسرعا ليفتح الباب لليلى التى اشارت لجنه بالترجل فأفاقتها من تطلعها المعجب بالمنزل و هدوءه، نظرت اليها جنه بتردد. هى تشعر بمشاعر متخبطه، متضاربه. تعانى من صراع بداخلها، مشاعرها تتسابق عليها..
لا تدرى أتشعر بالفرح ام الخوف! ولكنها حتما تشعر بالقلق و التردد من حياه جديده ربما تكون هى حياتها بالفعل و ربما تكون مجرد مسخ اخر ستتعلم منه الكثير. ابتسمت ليلى و هى ترى تشتتها فمنحتها نظره مطمأنه و مدت لها يدها هاتفه بنبره دافئه: يلا يا جنه، انزلى. ترجلت جنه بتوجس و هى مازالت تتطلع حولها برهبه، لماذا يحاوطها خوفها دائما! رغبه في الهروب، الابتعاد، و ربما الركض بمفردها.
كل شئ حولها يبدو جميلا، شعرت بألفه للمكان لن تُنكر و لكن مازالت تخشى. ماذا سيحدث؟ كيف ستكون ايامها هنا؟ هل ستفرح ام ستحزن اضعاف حزنها؟ هل ستعجبها حياتها الجديده أم ستزهدها و تهرب مع اول فرصه تأتيها! حسنا ستخوض التجربه و لكن، لا استسلام، لا خنوع، لا تحكم، و الاهم من هذا كله ابدا و ابدا لا تعلق و لا حب. و ان وجدت عكس هذا، اذا مرحبا بالهروب من جديد و ليس هذا بالغريب عليها.
ايقظتها ليلى من تفكيرها فيما ستفعل بقولها و هى تدفعها بخفه لتسير معها: النهارده تتفرجى على البيت و تتعرفى على البنات و ترتاحى من الطريق و بكره تبدأى مع شذى، اتفقنا؟! طالعتها جنه باستنكار و هى تنظر للمنزل امامها و مازالت مبهوره بجماله البسيط و دون وعى رددت خلفها: بيت!
امسكت ليلي يدها ضاحكه و اسرعت بخطواتها للداخل و بمجرد دخولها من الباب الخشبي الكبير رأت عالم اخر، وكان اول ما جال بخاطرها هذا البيت يقطنه فنان.
كانت الالوان هادئه و مبهجه بالوقت ذاته، معلق على الجدران لوحات مرسومه بدقه فائقه، يتدلى من السقف ثريا على شكل حلزونى تعانقها الكريستالات اللامعه، الفازات المتراصه هنا و هناك تسكنها عناقيد من الازهار التي اعطت للمكان رائحه ساحره و ذلك الدرج الذى يزين المنتصف جعلها تصعد عليه بعينها لترى ابواب غرف بالاعلى لتخبرها ان للمنزل بقيه.
قطع تأملها للمكان صوت ليلي مجددا و هى تنظر لها بابتسامه واسعه متمتمه بفرحه: ها البيت عجبك؟! ابتسمت جنه بالمقابل لتقول بمرح مدعيه الاستنكار و الذهول لتُبدى اعجابها بالمنزل بوضوح: حضرتك ليه مصممه انه مجرد بيت! المكان جميل جدا و مريح كمان.
نظرت ليلي حولها بضحكه بسعاده فجنه الان لا تُبدى رأيها بيتها فقط و لكنها تعبر عن اعجابها بتصميم اخيها فقالت بلهفه لا تدعيها: مبسوطه انه عجبك بس قولى ليا بصرااحه حاسه فعلا انك مرتاحه؟! تنهدت جنه و مخاوفها تعاود لتطرق باب قلبها وهمست بصدق لم تخفيه: بصراحه انا حاسه اني خايفه و قلقانه، بس في نفس الوقت حاسه ان قلبي مطمن. تحركت ليلي ممسكه بيدها لتجلس وتجلسها امامها متسائله بود: ليه خايفه؟
حركت جنه كتفيها دلاله على جهلها للسبب وتمتمت بضياع: مش عارفه يمكن لان المكان جديد و حياه جديده لسه هبدأها. ضغطت ليلي يدها بدفء تطمئنها و ربما لاول مره تشعر بالفعل انها مطمئنه اسفل لمستها التى اخبرتها انها ستبدأ بأول تنازل الان فإن استمرت ليلى على اسلوبها هذا ستتعلق جنه بها حتما. تحدثت ليلى بشغف تعجبت له جنه قليلا: انا مش عاوزاكِ تخافى ابدا طول ما انا جنبك، كام يوم بس و اكيد هتتعودى.
ثم اضافت و زدات نبره الحماس في صوتها: هنادي البنات تتعرفي عليهم. صدع صوت ليلى تنادى بصوت عالى نسبيا: ام على، يا ام على.
لحظات و جاءت سيده تبدو في الخمسين من عمرها يبدو على ملامحها الطيبه و الهدوء و لكن ايضا نظراتها تدل على الفطنه و الذكاء و بعضا من الوقار ابتسمت لها تلقائيا و هى تذكرها بزهره، امها الروحيه و رفيقه سنوات عمرها، بادلتها ام على الابتسامه بود و هى تشملها بنظره متفحصه حتى اقتربت منهم ناظره لليلى قائله: حمد لله على السلامه يا دكتوره. ثم عادت ببصرها لجنه مردفه بترحيب: منوره يا بنتى.
همت جنه بالرد و لكن سبقتها ليلى بلهفتها التى لا تدرى جنه لها سببا: الله يسلمك يا ام على، ممكن لو سمحتِ تنادى البنات بسرعه، عاوزه اعرفهم على جنه. اشارت ام على الى عينها الواحده تلو الاخرى قائله بابتسامه واسعه: من عنيا يا دكتوره..
تحركت ام على باتجاه الدرج و جنه تتابعها بعينها و هي في حاله من الدهشه قليلا، فلم تكن زهره تبتسم بوجه كوثر ابدا، و كوثر لم تكن تحترمها ابدا، لا يوجد بعد اذنك ، اذا سمحتِ او حتى ممكن ، كانت اللهجه محتقره آمره، ولكن هنا، شتان بين هذا و ذاك و ها هو الفرق الاول.
بعد عده دقائق، عادت ام على و خلفها ثلاث فتيات، فابتسمت ليلى مشيره لهم بالتقدم ثم هتفت معرفه بسرور يبدو بوضوح على ملامحها: تعالوا يا بنات، ثم اشارت لجنه قائله بشغف: دى جنه، و توقفت و لم تُكمل مما اصاب جنه بدهشه و الفتيات باستنكار، بينما عادت ليلى تشير على الفتيات واحده واحده: دي سلمي مخلصه هندسه و دي اكتر واحده عناديه و مجنونه في البيت.
رمقتها سلمي بغيظ و زمجرت بغضب: في ايه يا ماما؟ ايه مجنونه دي الله؟ الملافظ سعد يا لوله. ابتسمت جنه فمدت سلمى يدها اليها مصافحه بترحاب هاتفه بمرح: متسمعيش كلام ماما دا انا اعقل و اهدى واحده في الكون. اتسعت ابتسامه جنه مستجيبه ليدها مصافحه متمتمه و قلبها يزداد اطمئنانا: اهلا بيكِ يا سلمى.
تجاوزتها ليلى دافعه اياه لتبتعد عن جنه قليلا و اشارت على ابنتها الثانيه هاتفه: اما دي بقى، حنين، عكس سلمي خالص و اكيد هتعرفي بنفسك لما تتعاملى معاهم، و السنه دى اخر سنه لها في صيدله. اقتربت حنين مصافحه اياها بابتسامه عذبه صافيه عكس ابتسامه سلمى المتمرده الصاخبه: اهلا بيكِ يا جنه نورتِ بيتنا. صافحتها جنه و عدوى الابتسامه تنتقل اليها هامسه: تسلمي البيت منور بأهله.
امسكت ليلي يد شذى تجذبها اليها واضعه يدها حول عنقها منهيه العنقود بأكثرهم شغبا: و دى يا ستى اخر العنقود شذي و من النهارده بقت مسئوليتك، اعملي فيها اللي تحبيه. مدت جنه يدها لتصافحها و هى تبتسم بحبور قائله: احنا هنبقي صحاب اكيد، ايه رأيك يا شذى؟
نظرت شذي شذرا ليدها ثم اشاحت بوجهها ممسكه بيد والدتها المحاوطه لها مبعده اياها عنها متراجعه للخلف خطوه تعقد ذراعيها اامام صدرها بتململ صائحه بعد اهتمام و نبره معاديه: مبحبش يبقى عندى صحاب. ثم نظرت لوالدتها بضيق هاتفه بغضب طفولى تتذكر جنه انها كانت تكتنفه دائما مع والدها: و انتِ عارفه كويس يا ماما انى مش عاوزه حد يبقى مسئول عني.
سحبت جنه يدها باحراج ظهر جليا على وجهها و لكن تأبطت سلمى ذراعها بيد و باليد الاخرى داعبت شعر شذى بعبث تعرف مدى كره شذى له هاتفه بتوضيح او ربما انقاذ للموقف: شذي غلباويه جدا يا جنه، العفريته طفشت حوالى عشرين واحده قبلك. ثم اضافت و هى تمنحها نظره متفهمه و اضافت و هى تمنحها صك التحدى: بس عندى احساس انك هتبقى مختلفه.
استقبلت جنه نظرتها بتفهم هى الاخرى و مضت بموافقه على صك التحدى متمتمه: ان شاء الله هنقدر نتفاهم مع بعض.
اصدرت شذى صوتا ساخرا و تحركت من امامهم صاعده لغرفتها بالاعلى، بينما تبادلت الفتيات الحديث فيما بينهما، لم يخلو الامر من المزاح بينما تتابعهم ليلى بسعاده، بناتها اجتماعيات بشكل كبير، يسهل الاعتياد عليهم، دائما ما يتعاملون مع من تحضرها كمربيه لشذى كأخت لهم و لكن شذى تنهى الامر سريعا و تجعلها تهرب من معاملتها الجافه و لن تبالغ ان قالت ان معاملتها سيئه تصل لحد الوقاحه و لكن هى لن تسمح بهذا هذا المره..
تناهى لمسامعها سؤال حنين الهادئ: انتِ خريجه ايه يا جنه! فقاطعتهم قائله بحنان: يلا يا حنين قومى مع جنه وريها اوضتها.. اومأت حنين موافقه بينما قالت ام على التى قدمت للتو لتقول: بس اوضه الضيوف محتاجه تتروق الاول يا دكتوره. ابتسمت ليلى مجيبه اياها بأمر جعل الجميع يتعجب اهتمام ليلى الزائد بجنه: جنه هتقعد في الاوضه الفاضيه فوق مع البنات مش في اوضه الضيوف.
عقدت سلمى حاجبيها تسائلا ناظره لوالدتها بتفحص فتجاهلت ليلى نظرتها واضافت بود: ومن النهارده جنه بنتى و اختكم، مش عاوزه اى مشاكل، ثم نهضت لتردف و هى تتجاوز النظرات المتعجبه: انا هروح المستشفى و اشوفكم بالليل بقى. نظر اليها الكل باستغراب و اولهم جنه فموقفها غير مبرر! لما تنحاز اليها هكذا و هي لا تعرفها و لم تراها سوي اليوم فقط!
بينما نظرت الفتيات لبعضم البعض بتعجب و لكن تجاوزا الامر مؤقتا و قالت حنين باستدراك: اكيد يا ماما. تحركت جنه مع حنين بينما امسكت ليلى يد سلمى هامسه لها: استنى عاوزاكِ.. جلست معها فقصت ليلى عليها ما تعرفه عن جنه ما عدا انها من العائله منهيه حديثها قائله: البنت صعبانه عليا جدا، بلاش تضيقوها بالكلام و فهمى حنين و بلاش اسئله كثير، و ابقى خدى بالك من شذى..
ظهرت ملامح الشفقه على وجه سلمى متمتمه بحزن: حاضر يا ماما، متقلقيش! كنت جنه تتطلع للوحات على الجدران باعجاب واضح و قالت معبره عن ذلك: اللوحات دي تحفه، رغم بساطتها بس احساسها حلو قوى.. جاءهم صوت سلمي التى ركضت على الدرج حتى وقفت بجوارهم هاتفه بتوضيح: على فكره دا كله رسم حنين. التفتت اليها جنه بدهشه و صاحت باعجاب اكبر: ايه ده، بجد! اومأت حنين برأسها مضيفه بتواضع مع ابتسامه واسعه: اه، ايه رأيك انفع!
ضحكت جنه وهتفت بحبور: انتِ مبدعه، بجد ما شاء الله عليكِ. اغلقت حنين عينها و اثنت ركبتيها واضعه يدها امام صدرها في تعبير منها على الشكر فضحكت جنه و كذلك سلمى و صعدوا ما تبقى من درجات فتوفقت سلمى مشيره على غرفه ما في منتصف غرفتين اخرتين: دى يا ستى اوضتك.
ثم التفتت مشيره على غرفتين في الاتجاه الاخر قائله بتحذير صريح و لكنها اضافت نكهه دراميه على صوتها فبدا الامر كمزحه: اما الجانب ده بقي ممنوع منعاً بتاً حد يدخله. ابتسمت جنه بفضول لم تستطع قتله و اضافت بنفس النبره الدراميه: و يا ترى ايه السبب؟
ضحك ثلاثتهم ثم اضافت حنين بجديه مفرطه: لا بجد يا جنه، الجانب ده بتاع عاصم اخويا الكبير، اوضته و اوضه المكتب و فيها مكتبته، تقريبا دى حياته كلها، وعاصم بيكره جدا اى حد يتدخل في حاجته و خصوصا بدون اذنه.
اكملت سلمى و هى ترى استغراب جنه و استماعها باهتمام و لمحه من عدم التصديق: ام على بتطلع يوم في الاسبوع تروقهم و لو صادف و لعبت في حاجه او نقلت حاجه من مكانها عاصم بيتجنن و بصراحه جنانه وحش اتمنى متشوفيهوش. ثم اضافت بنبره خالطها المزاح مجددا و لكنها هذه المره حاولت تضخيم صوتها لترعبها: علشان كده محدش بيهوب ناحيته او بس يفكر لان يا ويله يا بنتى يا ويله.
ثم ضحكت بصوت عالى هاتفه: تحسى انى بحكى ليكِ على مغاره على بابا. ابتسمت جنه على مزاحها ولكنها اضافت بتعجب لم تستطع انكاره: حاجه غريبه انا عمري ما شوفت حد كده! اضافت حنين بابتسامه فرغم جنون عاصم و غضبه المستمر والذى يصعب عليه التغلب عليه ولكنها تحبه كثيرا و تفتخر به دائما: عاصم مش زي اي حد و فعلا مش هتلاقي منه اتنين.
صمتت جنه و للحقيقه شعرت بالفضول يتملكها في رؤيه ذلك المكان و لكن فضولها اكبر و اكبر لرؤيه الشخص صاحب هذا الغموض.
دلفت جنه لغرفتها و تركتها الفتيات لترتاح قليلا، كانت غرفه متوسطه الحجم، تحتوي على فراش كبير و دولاب متوسط الحجم و مرآه عريضه تشغل ربع الجدار تقريبا بجوارها على بعد قليل اريكه موضوعه امام شرفه صغيره تطلع على الحديقه الاماميه و من كل هذا كان المميز بالامر وجود مرحاض صغير نسبيا داخل الغرفه مما منحها شعور بالاستقلال.
خرجت للشرفه نظرت للاسفل فلفحتها رائحه الياسمين التى تراصت عناقيده فابتسمت ثم رفعت رأسها للاعلى متحدثه بشرود كأنها تطلب مساعدته: بابا، انا مش عارفه القرار دا صح و لا لا؟ و مش عارفه الخير فين؟ و يا تري وجودى هنا هو الطريق الصح و لا هندم في الاخر؟ حاسه انى مشتته و محتاره بس كمان حاسه انى مطمنه!
اغلقت عينها متمتمه بشجن و الاشتياق لصدره الحانى - و الذى دائما ما احتواها داخله يطمئنها - يفتك بها: يا ريتك جنبى يا بابا يا ريت. ثم زفرت بقوه هامسه بألم: يارب! تنهدت و دلفت للغرفه مجددا بدلت ملابسها و توضأت وصلت فرضها و جلست تقرأ بعض ايات كتاب الله حتى داعب النوم جفونها فنهضت و ألقت بجسدها على الفراش و سرعان ما ذهبت في نوم عميق.
عاد عاصم للمنزل بعد صلاه العشاء وجد الجميع مجتمع بالاسفل فاتجه اليهم ألقى السلام ثم القى بجسده المنهك على الاريكه بجوار والده. ربتت ليلى على ركبته بحنان قائله باشفاق على انهاكه: اجهز لك العشا! منحها ابتسامه صغيره محركا رأسه يمينا و يسارا رفضا متمتما: اكلت مع فارس قبل ما اجى. نهضت شذي جالسه بجواره فحاوطها بيده فهتفت بابتسامه ماكره قائله بسخريه: عارف يا ابيه، ماما جابت ليا مربيه جديده.
رمقتها ليلى بغيظ بينما ابتسم عاصم بسخريه رافعا احدى حاجبيه ناظرا لوالدته بطرف عينه مدركا انها لن تتراجع عن هذا الامر ابدا و لكن يبدو ان شقيقته الشيطانيه لن تهدأ حتى تُرميها خارج المنزل و الدوامه نفسها لا نهايه، فتحدث موضحا سخريته: تاني! ضحكت شذى و هى تردف بتوعد: اه تخيل، مش راضيه تقتنع اني هطفشها برده.
اشاح عاصم وجهه بسخط بينما رمقتها حنين بغيظ هاتفه بها: و الله حرام عليكِ اللي بتعمليه فيهم ده، انتِ مابتتهديش! بينما لاحقتها سلمى و هى تنهض جاذبه خصله بغل من شعر شذى التى صرخت دافعه يدها و صاحت بأسى: اصلا جنه شكلها خام و شذي مش هتغلب معاها، بس برده عندى احساس ان المره دى هتختلف. جذب الاسم انتباه عاصم فاستدار لها مرددا بتساؤل: جنه! اومأت سلمي مجيبه اياه بتوضيح: دي المربيه الجديده.
انتفضت ليلي بعصبيه خفيفه تهتف بحده و قد ضايقها قول مربيه التى يردده اولادها: هو ايه اللي مربيه، مربيه مفيش كلمه احسن من دي شويه!
التفت اليها الجميع بدهشه فقام عز بالضغط على يدها لينبهها لما تقول بينما رمقها عاصم بنظره متمعنه فارتجفت عين ليلى فان شك عاصم للحظه ان في الامر امور اخرى لن يهدأ حتى يعرف و بالتأكيد سيعرف فحاولت تدراك الامر قائله و لكن خانتها نبرتها لتخرج متلعثمه: قصدي يعني طالما هتعيش معانا مش لازم كل شويه نقول مربيه، علشان تاخدوا على بعض اسرع يعنى بدون حواجز..
وكزها عز مره اخرى بينما كل هذا لم يغفل عن عين عاصم فحاولت ليلى تغير مجرى الحديث فأردفت: هى فين؟ لسه نايمه! اومأت سلمي فابتسمت ليلى بحنان و تسائلت مجددا: أكلت طيب؟ نفت حنين الامر وقالت بحرج: لا، انا بصيت عليها من شويه و انا نازله كانت نايمه فمرضتش اصحيها، باين عليها الارهاق.
تابع عاصم الحوار بهدوء ثم قبل ان تنطق ليلى مره اخرى تسائل هو في استغراب فما يحدث يبدو مميزا على مجرد مربيه: ثانيه واحده، اولا هي نايمه فوق ليه المفروض انها تبقى في اوضه الضيوف تحت! ثانيا هي المربيه جايه علشان شذي تسهر و هي تنام! ثالثا المفروض ان حنين تهتم اذا كانت حضرتها اكلت او لأ، نايمه و لا صاحيه! هو مين بيشتغل عند مين بالظبط!
ثم رمق والدته بنظره جاده مردفا بسؤال واضح و ان خرج بنبره متلاعبه اخبرتها جيدا ان عاصم سيبحث في الامر: هو ايه الحوار يا مدام ليلي؟ تلعثمت ليلي اولا من نظرته، ثانيا من سؤاله، ثالثا خوفا من ان يدرى بالامر فقالت محاوله الهدوء فعندما تتوتر تُعقد الامور اكثر: انا قولتلها بلاش شغل النهارده اول يوم و كده، و بعدين قولت اخلي اوضتها جنب البنات علشان يبقوا مع بعض يعني.
نظر اليها عاصم بتفحص مره اخري و تأكد تمام التأكد ان والدته تخفي شيئا لا يدري بشأن ماذا و لكنها حتما تخفي امرا و سيعرفه و لكن انشغاله بمجرد خادمه الان امر تافه. نهضت حنين قائله لتنهى الحوار فهى بطبيعه الحال كانت تتقرب لكل واحده سابقا فلن تفعل شيئا جديدا مع جنه: انا هطلع اصحيها. وايضا نهض عاصم مستأذنا ليصعد لغرفته فأوقفته ليلي مسرعه وقد تلبسها الارتباك مره اخرى: رايح فين! مش تستنى تتعرف على جنه!
اتساع عين و رفعه حاجب مستنكر كانت الاجابه قبل ان يقول بسخط و هو يحاول استيعاب مدى تحمس والدته الغير مبرر: و دا من امتى؟ امسك عز يدها بينما اشار لعاصم بألا يبالى فاستدار عاصم متجاوزا اياهم صاعدا للاعلى قائلا: قولى لام على تعملى قهوه! التف عز اليها هامسا من بين اسنانه: هدي اللعب شويه و اتعاملي عادي انتِ كده هتخلى الولاد يلاحظوا، سيبي الامور على طبيعتها.
اومأت ليلى فالحماس يقتلها، جنه ابنة اخيها، ابنة ماجد.. كيف تتعامل مع الامر بهدوء، فهى اليوم عندما اخبرت عز كانت تطير فرحا.. بحياتها لم تكن تتخيل انها ستفرح بظهور جنه هكذا.. ولكن هى قطعه من ماجد و كفى هذا بالنسبه اليها. استيقظت جنه بعد محاوله حنين التى لم تكلمها حتى منتفضه متمتمه باسم كوثر بوجل، و لكن بمجرد رؤيتها لوجه حنين التى كانت تبتسم لها، اطمئنت.
تفاجأت حنين قليلا من انتفاضتها و صرختها المفزوعه و لكنها تجاوزت الامر فلقد عرفت من سلمى بعد الاشياء عن حياتها السابقه، مسكينه. ارتدت جنه اسدالها و ادت فرضها ثم هبطت للاسفل لتجد الجميع جالسا فتقدمت بخجل فابتسمت اليها ليلى قائله و هى تنظر لعز: دى جنه يا عز. نظر اليها عز ثواني ادت لزياده خجلها و هو يتذكر ملامح ماجد لم تأخذ هي سوي اتساع عينيه و لكنها ضمت من ملامح امل الكثير..
ابتسم مرحبا بها بابتسامه صافيه حنونه ذكرتها بدفء ابتسامه والدها: اهلا يا جنه، ياريت تبقى مبسوطه عندنا. ابتسمت بتوتر دون ان تقوى على الرد من شده خجلها و هى تشعر انها محور نظر الجميع حتى قطعت ليلى سكونها مناديه بصوت عالى على ام على، طالبه منها تحضير الطعام لجنه و لكن جنه رفضت بلباقه و اصرار على ان تحضره هى، حاولت ليلى منعها و لكن كان اصرار جنه اقوى، دلفت مع ام على للمطبخ.
نظرت اليها ام على بتمعن قليلا ثم ابتسمت قائله بتحليل: باين عليكِ طيبه و ملكيش في شغل الانعره الكدابه. بادلتها جنه الابتسامه بأخرى اوسع متذكره زهره و طيبتها وتمتمت بضحكه: على رأي داده زهره كلنا ولاد تسعه هنتكبر على بعض ليه؟ و بعدين حضرتك في مقام والدتي و مينفعش اتعبك معايا.
اتسعت ابتسامه ام على فيبدو انها تختلف قليلا عمن قبلها بابتسامتها الصافيه و نظراتها الطفوليه رغم سنها فوجدت نفسها تدعو لها: ربنا يحميكِ يا بنتي، مامتك عرفت تربى صح. تلاشت ابتسامتها تدريجيا ليغزو الالم عينها و يتملك الخوف من قلبها مجددا و هى تجيبها بنبره متوجعه: الله يرحمها. تجهمت ملامح ام على لرؤيه ملامحها تنطفئ مع نبرتها فتمتمت بحزن رابته بخفه على كتفها: الله يرحمها.
ثم حاولت تغيير مجرى الحوار فتسائلت بابتسامه و هى تقول بنبره جعلت جنه تتضور جوعا: بتحبى الشكشوكه! عادت البسمه تنير وجهها وأومأت برأسها مسرعه وعينها تتسع بلذه وهمهمت بصوت عالى قائله: مممممم، جدا جدا. تحركت ام على لتُحضر ما يلزمها لتحضيرها و هى تردف: هعملك طبق بقي هتاكلي صوابعك وراه. وافقتها جنه و تحركت تساعدها و هى تفرض شروطها بمرح: بس بشرط تاكلى معايا، انا متعوده اكل مع داده زهره دائما.
اومأت ام على وهى تتأكد ان الامر حتما سيختلف هذه المره، اندمجت كلتاهما في تحضير الاكله بينما يتبادلا بعض المزحات و القليل من الجديه عن حياه ام على و كيف اتت لتعمل هنا، وظلت تحكى عن العائله و كيف يتعاملون معها كأنها فرد منهم..
شعرت جنه معها بألفه كبيره وكم كانت بحاجه لها، تلك السيده كانت نسخه اخرى من زهره، المعنى الحقيقى للحب الفطرى و الراحه، ملامح العجز و التى اخذت منهم مأخذها، الخطوط التى رسمتها تجارب الحياه و اوجاعها على وجوههم، فقط من يتعامل معهم يُدرك معنى ان تُختصر الحياه في شخص. واثناء اندماجهم شهقت ام على تاركه ما بيدها هاتفه بقلق: يا نهااار مش فايت نسيت القهوه.
انتفضت جنه على صرختها فنظرت اليها بدهشه هاتفه بتعجب: قهوه ايه! تحركت ام على بعشوائيه وهى توضح بقلق بدا واضحا وضوح الشمس على وجهها: الاستاذ عاصم طلب اعمله قهوه و انا نسيت. ربتت جنه على كتفها موقفه اياها عن الحركه مهدءه اياها فيبدو ان عاصم هذا يصيب جميع من بالمنزل بالقلق أهو مجنون! ثم قالت بعرض سخى: طيب اهدي بس، انتِ ايدك مش نظيفه قولى ليا قهوته ايه و انا هعملها. رمقتها ام على بتشكك متسائله: بتعرفي!
ابتسمت جنه بثقه و قامت بتعديل طرف اسدالها دلاله على تفاخرها هاتفه بغرور: عيب كده على فكره دا انا استاذه و رئيسه قسم. ابتسمت ام على و اشارت على مكان ما مجيبه اياها: قهوته ساده و البن بتاعه على الرف اللي هناك ده. بدأت جنه باعداد القهوه بينما تعد ام على اخر ما كان بيدها حتى انتهت كلتاهما، فاتجهت ام على للاعلى لتعطيه قهوته بينما جلست جنه تنتظر عودتها..
وابتسامه هادئه ترتسم على وجهها، يبدو ان القدر ابتسم لها، فشتان بين ما انتهى به يوم امس و ما انتهى به اليوم. و لكن سرعان ما تلاشت ابتسامتها و حاوطها من جديد خوف، قلق، تردد، و مع كل خطوه للامام، مائه خطوه للخلف. هى لا ترغب في كسر جديد، لا ترغب في وجع جديد، اكتفت من الامر طوال حياتها. كيف لها ان تخطو للامام دون خوف! كيف تتجاوز ما يؤلمها و لا تفكر فيما سيحدث!
كل جديد مؤلم و قاعده حياتها انه كلما ابتسمت اكثر زاد قلقها اكثر، فبعد كل ابتسامه، ألم على قيد الحدوث. فهل لقاعدتها تغيير! لا تدرى!
التغيير سنه الحياه، و من يقصرون نظرهم على الماضى او الحاضر سوف يخسرون المستقبل. (جون كنيدى).
الرابعه بعد منتصف الليل استيقظت جنه بابتسامه على وجهها، وحلمها المعتاد عانق ليلتها ليمنحها السكينه... نظرت لابريق الماء بجوارها لم تجد فيه ماء فأخذته و خرجت من الغرفه بهدوء لتملأه، تحركت على الدرج ببطء و لم تُشعل الضوء حتى لا تُقلق احد.. وصلت للمطبخ بسلام اتجهت للثلاجه و اخرجت الماء و ملأت الابريق ثم تحركت عائده لغرفتها...
في ذلك الوقت كان عاصم قد استيقظ ايضا، فالان سيتحرك لمكان عمله، حمل حقيبته وهبط للاسفل، بهدوء دون ان يُقلق احد فهو يكره ان يتنظم الجميع امامه مودعين بدراميه لا يقبلها ولا يحبها كأنه راحل بلا عوده، فهو يحب الخروج دون ان يراه احد او يودعه احد! فتح باب سيارته و استعد للرحيل عندما تذكر ان زجاجه الماء معه فارغه فأخذها و عاد للداخل مره اخري تاركا باب المنزل مفتوح قليلا..
تقدم ببطء و لان غرفه والديه على بعد ما يقارب مترين او اكثر قليلا من المطبخ لم يُشعل الاضواء، عندما هم بالدخول وجد جنه على وشك غلق باب الثلاجه، لم يتبين ملامحها ولكنه عاد بغيظ للخلف.. فتلك الحمقاء الان لن تفعل شئ سوا انها ستصرخ و ان فعلت سيخنقها. ان تحرك ستراه و ان ظل واقفا مكانه ستفزع بمجرد رؤيته باختصار في كل الاحوال ستصرخ ان رأته. لابد ألا تراه.
رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل السادس
و اثناء حواره مع نفسه كانت جنه على وشك الخروج فتحرك و وقف بجوار الحائط حتى لا تراه و هي خارجه و هو يضم قبضتيه غيظا، خرجت جنه و حمدا لله لم تراه و لكنها على بعد خطوتين او ما يقارب ذلك توقفت، تعجب عاصم، و زاد تعجبه عندما وجدها تتحرك بهدوء شديد اشبه بتسلل لص و هى ترفع طرف اسدالها، تابعها بسخط و هى تضع ابريق الماء على الطاوله الجانبيه و تُمسك بالفازه بعدما اخرجت الازهار منها، حسنا هو ادرك انها المربيه الجديده و لكنه جاهد ليتبين ملامحها في هذا الضوء الخافت ولكن لم ينال سوا ظلها فعقد حاجبيه يتعجب ما تفعل و تمتم بسخريه: بتعمل ايه المجنونه دي!
كاد يتحرك و لكن يبدو انها ليست بطبيعيه فالمجنونه امامه لن تصرخ فقط و لكنها ستجمع كل من بالمنزل وربما من بالمنزل المجاور ايضا، رفع احدى حاجبيه بدهشه عندما وجدها تسير على اطراف اصابعها و هى تتلفت حولها يمينا و يسارا كأنها تحارب شيئا ما ثم اتجهت للدرج وصعدت عليه بهدوء ولكن ما جعله يصل لاقصى حدود دهشته صعودها بظهرها و وجهها مازال يتحرك يمينا و يسارا كأن احدا ما يلاحقها فتتهيأ له..
علت شفتيه ابتسامه تهكميه و هى تصل للاعلى بسلام بعدما كادت تسقط عده مرات حتى اختفت عن ناظريه و بلحظه واحده صرااخ، صراخ، صراخ مع قولها بصخب: حرااااااااامى، الحقونا حراااااااااااااامى.
اختفت ابتسامته ليعقد ما بين حاجبيه بغضب عاصف و عيناه تنظر اعلى الدرج بشرر واضح، كز على اسنانه و هو يقترب من الدرج حتى يراها و لكنها كانت تعطيه ظهرها، خرج الجميع على صوتها فأغلق عاصم عينه محاولا كبح جماح غضبه لكى لا يصعد طابقا على عنقها حتى تزهق روحها، فالان سيبدأ حفل الوداع الذى يمقته.. ورغم ان الجميع حولها مازالت تصرخ فهدر بها بصوت لم يخرسها فقط بل انتفض له جسدها فزعا: اخرسى بقى.
صمتت جنه بصدمه بينما انتفضت الفتيات و تقدموا لينظروا من اعلي الدرج ليجدوا عاصم يقف كالقنبله الموقوته، تسائل الجميع عما حدث، فأخذت جنه نفسا عميقا و تمتمت بصوت متقطع دون ان تتقدم خطوه من مكانها: انا، انا كنت نازله اجيب مايه، و لما خرجت من المطبخ لقيت باب البيت مفتوح، فخوفت يكون حد دخل فصرخت علشان تلحقوه قبل ما يهرب.
حاولت ليلي كبت ضحكتها بينما لم يستطع عز فانفرجت شفتاه عن ابتسامه و بمجرد ان رأها عاصم، القي بالزجاجه من يده ارضا فاصدرت صوتا عاليا و تحرك باتجاه الباب و خرج مغلقا اياه خلفه بقوه، فنفجرت ليلي و عز ضاحكيين عليه بينما انتفضت جنه و هي لا تستوعب اين كان اصلا! من اين خرج! و كيف لم تراه!
انفض الامر بتوضيح ليلى لسبب غضب عاصم فازداد احراج جنه مما فعلت و لكنها لم تستطع منع ابتسامه من الظهور على شفتيها نهضت بعدها لتُصلى كما فعل الجميع و بدأ يوم جديد بمراقبتها لاشعه الشمس وقت الشروق ثم بصباح جميل تبدأه بالحديث مع والديها لتبدأ احداث اليوم و التى لا تدرى سعيده ستكون ام حزينه؟
جلس اكرم خلف مكتبه واضعا مرفقيه اعلاه دافنا رأسه بينهما يُفكر... اخطأ هو عندما فكر باللجوء لتلك العائله، لطالما تجنبت والدته الحديث عنهم و غضب والده من مجرد ذكر هذا الحديث.. هو تربى و كبر على النفور من تلك العائله و الان و بعد ما مر من سنوات يلجأ اليهم! لما لم تسأل العائله عنه من قبل اذا؟ لماذا لم يكن احد بجواره وصغيرته بعدما توفيت والدته! لما ابتعدوا من البدايه و ما سبب هذا الكره المتبادل!
اخطأ يعترف و الان لا مجال لاخطاء اخرى، سيسير في الطريق الصحيح دون حياد عنه. قرار و فورا وضعه قيد التنفيذ، طريق طويل، ازدحام ضيق الخناق عليه، تفكير شتته، ثم مرور و ساعات تمر حتى وقف اخيرا امام مدخل الشركه التى تقبع بداخلها زوجه ابيه المبجله..
ثم روتين، لم يعرف عن نفسه فبالتأكيد سترفض مقابلته ان عرفت، انتظار ميعاد، ضيق و غضب ثم نصف ساعه اخرى و ها هو يجلس امامها، ناظرا اليها من اعلي لاسفل كيف تطالعه بابتسامه طاووسيه منتشيه بغرور، ابتسم بتهكم و لانه يكره كثيرا الطرق الملتويه القي بسؤاله مباشره دون ان يُعرف عن نفسه من جديد، فلقد حان وقت الحصول على اجابه تهفو اليها نفسه منذ سنين مضت: جنه فين يا مدام كوثر!
دهشه، ذهول و اتساع عين مستنكره و لكن ذلك الرابض خلف ضلوعها انبأها بخطر، انتفض يخبرها ان تدميرها ها قد اوشك على البدأ، و لكن السؤال هنا من هذا! عرفت هى عن كل ما يخص عائله زوجها الذى لا يعرف عنه احد شيئا، عرفت مقصد ابن الحصرى تلك الليله، و لكنها علمت ان زوجها كان على قطيعه معهم فهل الان ارادوا صلحا، هل الان سيتسربون واحدا تلو الاخر داخل حياتها حتى تصبح جحيما، اولا ابن الحصرى و الان هذا؟
لما يسأل عن جنه؟ هل لجأت اليهم! هل عرفت عن اهلها هى الاخرى! نظرت لعيناه التى تترقب اجابتها فتوترت قليلا و لكنها حاولت تجاوز ذلك و اخرجت علبه سجائرها و اشعلت احداها مُرجعه خصلاتها خلف اذنها بارتباك و قالت بمحاوله للتماسك و قد نجحت: انت مين؟
نظر اليها باشمئزاز مما اصبحت عليه، ناظرا اليها من اعلى لاسفل ثم اقترب منها و عيناه تشتعل غضبا و ضرب بكفه على المكتب بقوه صارخا بسؤاله مجددا و لكن بصوره منحتها اجابت تساؤلها: اختي فين يا كوثر هانم؟ احتقن وجهها عاجزه عن التنفس للحظه لتسعل بعنف و هى تنظر له بصدمه اكرم ! وعبرت عن دهشتها بصوت عالى مستنكر: اكرم!
اومأ برأسه موافقا، ثم اعاد تساؤله مره اخرى فنظرت كوثر لوجهه الذي ارتسم الغضب عليه بصوره وترتها بشده ثم اخفضت رأسها و صمتت قليلا حتى استطاعت الاجابه بما يريحها و ربما يريحه قليلا مصطنعه الحزن و الاسى و الذى لم يصل لعينها فلم يصدقه: هربت. ارتد اكرم خطوه للخلف رافعا احدي حاحبيه بدهشه: هربت! هربت يعني ايه؟ ازاي و فين و امتي و ليه!
حركت كتفيها ببراءه اجادت ادعائها نافيه معرفتها و مازالت تحمل نبرتها حزنا: معرفش صدقنى، لما تشوفها ابقى اسألها. رمقها بنظره تشكك و هى تتابعه بتفحص وجل: يعني انتِ متعرفيش مكانها؟ مش عايشه معاكِ! و كانت الصدق حقيقيا هذه المره فلم تكن بحاجه لادعائه: صدقنى و الله مش عايشه معايا و لو حابب تيجى البيت تتأكد بنفسك انا معنديش مشكله.
وضع اكرم يده على عنقه بقلق و هو يفكر يبدو انها صادقه بالفعل، و لكن ماذا يعنى هربت! يعنى ان اخر خيوط تمسك بها وجدها واهيه تسللت من بين يديه عنوه، يعنى انه ربما يمضى ما بقى من عمره يبحث عنها و لا يجدها، يعنى انه ربما يصيبه شيئا قبل لقياها او ربما يصيبها شيئا و هو بعيدا او ربما بالفعل اصابها مكروها ما.
زفر بعنف نافضا رأسه كأنه يُمحى افكاره المتشائمه ثم نظر لكوثر بحده هاتفا فيها: عملتِ فيها ايه علشان تهرب! اقسم بالله لو عرفت انك اذتيها هحرق الدنيا باللي فيها على دماغك. نظرت كوثر اليه و لم تنطق و ان جئنا للحقيقه هي كادت تموت خوفا، كذبت اليوم و صدقها و لكن ماذا ان اكتُشف كذبها...
مال على المكتب بجذعه ليرميها بنظره مشتعله و انفاس ملتهبه تكاد تحرقها متسائلا: و هي هربت قبل ما تم 21 سنه، و اظن انتِ فاهمه مغزى سؤالى كويس! خوف، شحوب و نظرات تهرب و ادرك هو هذا و لم يعجبه الامر و بالنهايه اجابه كاذبه اخرى و لكنه لا يملك سوى التصديق: ااه، الكلام ده مر عليه سنين.
طالعها بغضب ثم رفع سبابته في وجهها محذرا مهددا و ملقيا اوامره: بما ان وصيتك عليها انتهت، قدامك مهله اسبوعين تظبطى امورك و تسجلى ميراثها كله باسمها، مفهوم! نهضت كوثر و وقفت امام النافذه معطيه اياه ظهرها و قالت بنبره حاولت جعلها ثلجيه و لكنها خرجت حاده رغما عنها: انا مش هنقل الاملاك باسمها الا لما هي تطلب ده و تبقي موجوده، ما انا مش عبيطه انقلها باسمها مش يمكن تكون ماتت!
عقد اكرم ما بين حاجبيه مشمئزا من صراحتها الوقحه و لكنه لا يستطيع فعل شئ فلقد اخطأ والده مرتين، الاولى يوم قرر الزواج منها و الثانيه يوم منحها الوصايه على شقيقته: فعلا امي غلطت غلط شنيع لما فكرت تدخل واحده زيك وسطنا... ثم اضاف بحزم و هو يشملها بنظره استحقار اخرى: ماشي يا كوثر هانم بس اوعدك اليوم ده هيبقى قريب قوى، جهزي نفسك له كويس.
و نظره غضب اخرى و اندفاع للخارج تنفست معه كوثر الصعداء، لا تدري صدق ما قالت ام لا! و لا تدري ايضا ما فعلته صحيح ام لا! و لكن ما تعرفه جيدا انها لن تضحي بكل شئ لاجل تلك الفتاه حتى وان كان حقها. هى حاربت ليالى و سنين طوال حتى تطور نفسها و عملها و ربحها، كيف تتخلى عن كل هذا حتى و ان كان حق اليتيمه. هو لن يستطيع الوصول اليها بهذه بسهوله و حتى ذلك الوقت ستنفذ قرار وصلت اليه و هو الحل الامثل، الهروب.
صعد اكرم لسيارته و ظل يسير بها على غير هدي و هو في حاله متخبطه من المشاعر، غضب، خوف، حزن و ضيق. لا يدري ماذا يفعل! من يسأل؟ اين يبحث؟ امله الوحيد كان زوجه ابيه و لكنه كان هبائا. اين سيذهب الان للبحث عنها؟ زفر بقوه ضاربا مقود السياره بغضب عده مرات حتى ألمته قبضته فبعدما اعتقد انه وصل منتهى الطريق ادرك الان انه لم يبدأ حتى و ان ما سار فيه لم يكن سوى سرابا.
كانت ليلي تستعد للذهاب لعملها بالمشفي عندما جاءت اليها سلمي واستندت على الحائط خلفها تقول باهتمام: ماما عاوزه اخرج اجيب ادوات تلزمنى علشان المشروع اللى بعمله. حدقت ليلي بها و هى تنهى احكام حجابها حول رأسها متسائله: هتروحي لوحدك!
اصدرت سلمى صوتا ساخرا قبل ان تضيف بتهكم لامبالى و كأنها اسطوانه متكرره يجب عليها تسميعها قبل كل خروج: انا و نفسى يا ماما، شذى في المدرسه و حنين رايحه الكليه و حضرتك وبابا كل واحد على شغله و عاصم مش موجود، ليا مين انا غير نفسى اخدها معايا! وكزتها ليلى بيدها في كتفها هاتفه بها: يا بنت اعقلى بقى و بطلى لماضه، الناس تكبر تعقل و انتِ تكبرى يركبك الهبل اكتر!
ابتسمت سلمي بسماجه: تحبى اخد جنه اهى تبقى حرس حدود؟ تحركت ليلى باتجاه الدرج و سلمى خلفها متأبطه ذراعها و الان حان دور الوالده لتعيد الجزء الاخر من الاسطوانه التى لن تنتهى ابدا: السواق معايا و انتِ عارفه ان باباكِ و عاصم مش بيحبوا انك تخرجى لوحدك، خايفين عليكِ.. اكملت سلمى عنها بملل: و قلقانين و مش عاوزين حد يضايقك او يتعرض لطريقك.
ثم اضافت بتمرد مندفع و ها هو طبعها التى لن تتخلص منه على ما يبدو: يا ماما انا مش صغيره، ثم كفايه بقى التفكير الصعيدى دا، احنا في القاهره، واضح انكم سيبتوا الصعيد بس نسيتوا عقلكوا هناك..
همت ليلى بنهرها و هى ترمقها بغضب و لكن سلمى بادرتها هاتفه بغيظ: يا ماما هو انا خارجه اصاحب و لا اشرب كاسين، عاوزه اجيب ادوات ضرورى بلاش عقد بقى، و بعدين بابا في الشغل و عاصم مش موجود، خلاص بقى يا لوله مش هتأخر و الله. زفرت ليلى بضيق و لكن امام نظرات سلمى المتوسله و رموشها التى رفرفت ببراءه مصطنعه و التى لا تستطيع ليلى غض الطرف عنها: طيب يا سلمي بس متتأخريش.
صرخت سلمى بسعاده و قبلتها بسرعه على و جنتها صارخه و هى تركض لتصعد لغرفتها: حاضر انا هلبس في ثوانى و هقول لحنين و توصلينا في طريقك بالمره.
حركت ليلى رأسها بمعنى لا فائده، بينما اسرعت سلمى للاعلى، هي بالفعل ترغب في شراء ادوات تلزمها و لكنها ترغب بشكل اكبر في الخروج لرؤيته، لرؤيه من حرك القلب الرابض خلف ضلوعها، لرؤيه من تعلق به تفكيرها، قلبها و عقلها منذ الصغر، منذ كان العمر لا يقف حائلا بين حديثها معه و قربها منه، وكبرت هى و كبر حبها له، تستطيع رؤيته من بعيد و لكن هذه هى الطريقه الواحده لتحادثه، ليبتسم لها و يخصها بسؤال عن حالها.
زفرت حنين بضيق و هى تنظر لساعتها فلقد تأخرت عن موعد معملها: يوووه بقى، هتأخر يا ماما، كل ده الست سلمى بتلبس؟ وقبل ان تُجيب ليلى ركضت سلمى على الدرج حتى توقفت امامهم قائله و هى تلتقط انفاسها: انا جاهزه.. اطلقت حنين صوتا يدل على اعجابها و هتفت بمرح: الله الله ايه الشياكه دى كلها يا انسه سلمى!
دفعتها سلمى في كتفها بغيظ ثم تحركا للخارج و بمجرد عبورهم من البوابه الخارجيه، كانت سياره فارس تخرج من البوابه المجاوره، توقفت السيارتان و ترجل من بهما... وبعد القاء السلام تحدثت ليلى و نهال معا و لم يكن حوارهم سوى اطمئنان على جنه بينما تبادل الشباب حديثا سريعا من اطمئنان و توزيع ابتسامات هادئه، خجله و اخرى شغوفه..
كان فارس يتطلع اليها بنظرات حانيه، تلك الفتاه التي اسرت قلبه و عقله منذ ان كانت صغيره، بضفيرتين و ابتسامه طفوليه جعلت قلبه الصغير يتعلق بها بل يحبها و يتجاوز الامر ليصبح عاشق لها، قلبه يهرب منه اليها كلما رآها، نظراتها الخجله كلما تُدرك نظراته اليها، كأنه يذكرها باعتراف الحب الذى صرح هو به لها لتبادله اياه بأخر مثله و هى خجلى رغم صغرهم، يومها قبلها على وجنتها بعبث طفولى لتجذب هى خصلاته بنزق تاركه اياه مع كلمه قليل ادبٍ القتها بوجهه، و خصام دام ثلاث ليالى كاد هو يموت شوقا اليها ليكون اصغر عاشق يختبر اشتياق الحب رغم صغر سنه، كبر هو و لم يدرك ان هراء الطفوله سيُصبح حلم الصبا و غايته، و لكن الان عائلتيها في صراع، تعارض و كره متبادل، فكيف لقلبه ان يقابل قلبها و لكنه حتما سيفعل، لن يظل يناظرها هكذا من بعيد خشيه ان تلاحظ والدتها او والدته، لن يخفى عن شقيقها و صديق عمره اكثر من هذا، سيشرح، سيقول، سيعبر، و سيحقق حلمه بأن يضم بنصرها حلقته الذهبيه اللامعه حتى و ان كان اخر الايام بعمره.
افاق من شروده بها و نظراته الخفيه التى تبادلت بينها و بين شقيقتها محاوله منه لتمويه الامر فهو بسهوله سيُقبض عليه متلبسا ان اطال النظر لها و هو لن يتراجع بل سيتقبل الجريمه و ينال العقاب بصدر رحب... كلمات قليله و وعد بلقاء اخر ربما قريب ثم رحيل كلا الى وجهته، و انقطعت النظرات و صرخت القلوب ببدأ الاشتياق من جديد.
عادت شذى للمنزل و صوتها يعلو بالنداء على جميع من بالمنزل: ماما، بابا، لومى، نونا، يا داااااده، حد يرد عليا. خرجت الداده من المطبخ و خلفها جنه التى اقتربت منها قائله بابتسامه أُلفه: محدش هنا يا شذي كلهم برا. ابتسمت شذي بخبث ثم القت بحقيبتها على الارض و تبعتها بحذائها لتلقى بهما واحده بكل اتجاه ثم القت بنفسها على الاريكه و اخرجت هاتفها الصغير تعبث به رافعه قدميها على طرف الاريكه بدلال..
اقتربت منها جنه بينما ادركت ام على ان شذى بدأت عادتها السيئه، فوقفت تراقب ما سيكون رد فعل جنه، طافت عين جنه على الاشياء الملقاه ارضا متمتمه و هى تعقد ذراعيها امام صدرها: حمدلله على السلامه.. نظرت اليها شذي شذرا بطرف عينها و هي تحرك العِلكه بفمها بطريقه اقرب للاستفزاز و لم تُجب.
اقتربت جنه منها اكثر و هى ترى في لامبالاتها كوثر و بناتها، فاشتعل وهج الغضب في عينيها خاصه عندما هتفت شذى بعدم احترام و صوت آمر و تعنت اكبر من عمرها بكثير: جهزى الاكل بسرعه يا اسمك ايه انتِ.. ثم اشارت بلامبالاه على اشيائها المتفرقه على الارض: بس لمى الحاجات بتاعتى الاول.
اغلقت ام على عينها بزفره حاده فشذى لن تنسى ما حدث لها من قبل و لن تمنح احد اخر الفرصه مره اخرى، يقولون ان الاطفال لا يعرفون معنى الكره و لكن شذى لم تعد تعرف معنى الحب او ربما تتردد..
نظرت ام على لجنه - التى رمقت شذى بغضب لا يخلو من ذهول لحديثها - و منحتها نظره مترجيه لكى لا تغضب فتفعل ما يُجبر والدى شذى على طردها، و انحنت هى تلملم الاشياء و لكن جنه اقتربت منها ممسكه يدها لتجعلها تقف و منحتها نظره مطمئنه قائله بهدوء: انا اللي مسئوله عن شذي يا داده اتفضلي حضرتك على المطبخ، و انا هتصرف متقلقيش.
رمقتها ام على بنظره اعتذار فهمست جنه لها دون ان تسمعها شذى: متقلقيش انا هحاول بأقصى ما عندى معاها و اكيد مش من اول موقف هتخانق.. ثم نظرت لشذي بحده و ارتفع صوتها قليلا قاصده: من الواضح كده ان كلنا لازم هنتعود على حاجات جديده. اومأت الداده موافقه فلقد حملتها ليلى مسئوليه مساعده جنه حتى تعتاد عليها شذى و ها هى تحاول، ثم نظرت لشذي التي نقلت بصرها بينهم بعدم اهتمام و هي تلعب في الهاتف..
ظاهريا كانت موافقه و لكن خفيه خلف ذلك الباب وقفت تراقب ما سيحدث.. اقتربت جنه من شذي و وقفت بجوارها تنظر اليها بغضب فهى كادت تصرخ بوجهها، لماذا هذا التعنت! تلك الطفله هي مثال حي للتعجرف رغم صغر سنها بل هي التعجرف ذاته و لكن مهلا هى لها دورا هاما الان!
من امامها ليست سوى طفله مدلله لا تعرف تعجرف او تعنت فقط لا تحب ان يقيمها احد طوال الوقت، ان يراقبها و يأمرها و ربما يعاقبها و واجبها الان كمربيه هو توضيح معنى الالتزام برضا و الفارق الكبير بينه و بين التزمت. وقفت جنه امامها مباشره تنظر لها من علو قائله بلهجه شبه آمره: اتعدلي.
ابتسمت شذى بسخريه ناظره اليها من اعلى لاسفل ثم اشاحت بوجهها و نظرت لهاتفها مجددا بلا مبالاه، زاد ذلك من اصرار جنه فشذى تتصرف بعناد ليس الا، و الان لابد من الصبر فعادت تتحدث بهدوء و لكن مازالت نبرتها آمره: قومي يا شذي لمي حاجاتك و الا.. و قبل ان تكمل جنه قاطعتها شذي بتحدي: و الا...
ادركت جنه على الفور نظرتها المتحديه فابتسمت و ردت عليها بنظره اكثر تحديا: و الا عقابي مش هيعجبك خلينا كويسين و نبدأها كويس سوا بلاش نزعل من بعض. ضحكت شذي بمياعه و هي تعتدل جالسه و ابتسامه طفوليه تشق جانب شفتيها مردده بسخريه: نزعل و عقاب! ثم اضافت بحده و هى ترمقها بعدم تصديق: و لا هتقدري تعملي حاجه.
ثم نظرت لهاتفها مره اخري و لكن قبل ان تلقى بجسدها على الاريكه فوجأت بجنه تسحب الهاتف من يدها ببساطه، حسنا لم يجرؤ احد على هذا من قبل و لكن تلك جرُأت، تصاعد غضبها و جنه تجلس على الاريكه بجوارها بهدوء تقلب الهاتف بين يديها بملل قائله: خلاص براحتك، تلمى الحاجه او تسبيها براحتك، بس مفيش تليفون لحد ما اسمع كلمه حاضر و اشوف بعدها تنفيذ.
وقفت شذي على الاريكه بغضب تنظر اليها بدهشه و تصرخ بضيق: انتِ اتجننتِ ادينى التليفون احسنلك! و الا.. ابتسمت جنه ناظره لها بتحدى كأن الادوار قد تبدلت: و إلا...! برقت عين شذى بغضب طفولى و قبل ان تتحدث بصراخ مجددا تحدثت جنه بهدوء موضحه: هتزعقى زعقى، هتصرخى صرخى، و لو عاوزه ممكن تشدي في شعرك بس مش مفيش تليفون غير لما تلمي حاجتك و وقتها هفكر اديهولك او لا؟
تحركت شذي بغيظ و وقفت امامها متمتمه بتهديد اعتقدت انه سيُخيفها: انا هقول لبابا عليكِ، انتِ بأي حق تعملي كده! قلبت جنه الهاتف بيدها عده مرات اخرى و هى تجيبها بلامبالاه: و الله انا اول ما جيت مامتك قالت لي انك مسئوليتي و اعمل اللي انا عاوزاه، أينعم انا كنت حابه نكون صحاب، بس واضح انك مش عاوزه.
ثم انهت كلماتها وهى تنظر اليها بخبث فهى تدرك جيدا عبث الاطفال هذا فيوما ما كانت طفله دللها والدها حد التعجرف: التليفون هيفضل معايا لحد ما باباكِ يرجع بالسلامه و نقوله اللي حصل و نشوف رد فعله. بُهتت شذي فأخر ما تريده هي ان يعرف والداها، فازداد الغضب و رويدا تناقص رغما عنها، تقهقر، تراجع ثم استسلام و ادراك ان التحدى هذه المره لن يكون سهلا.
نظرت لها بنظرات طفوليه بريئه بادلتها جنه بابتسامه اكثر براءه و هنا حاولت شذى مره اخيره وقالت بلطف: طيب ادينى التليفون و انا هلم الحاجه.
فارتفع صوت جنه بضحكه عاليه كم تشببها حقا تلك الطفله، فهكذا كانت تراوغ والدها دائما رمقتها شذى بترقب حتى قالت جنه موضحه لتصبح اللعبه صريحه بلا مراوغات: على فكره انا كنت في يوم من الايام طفله و كنت مشاغبه جدا، كنت بخلى بابا هيتجنن و كنت بعرف ابقى لئيمه، فنصيحه بلاش تحاولى معايا علشان مش هتنجحي خااااالص.
حسنا الرايه البيضاء تم رفعها، و هدنه قصيره او ربما طويله قليلا هذه المره، تمتمت شذى بنزق طفولى مع انحناء جانب شفتها بضيق: عاوزه ايه انتِ دلوقت؟ نظرت جنه للاشياء على الارض و اشارت عليها بيدها دون ان تتكلم، فتحركت شذى و هي في اقصي درجات الغيظ و لملمت اشيائها و اتجهت إلى جنه و وقفت امامها و مدت يدها اليها قائله: اهه، ادينى التليفون بقى.
حركت جنه رأسها يمينا و يسارا نافيه مردفه بتوضيح: دلوقت بقي هنطلع على اوضتك تغيري هدومك و تنتعشي كده و بعدين نتوضي و نصلى سوا و بعدين نقعد نخلص الواجب اللي ورانا تكون باقي العائله وصلوا ناكل سوا و باقي اليوم نعمل اللي انتِ عاوزاه.. نظرت اليها شذى وفرغت فاهها و انطلق صوتها يعلو بالغضب مجددا: ايه ايه! انا مش هعمل حاجه من اللي قولتيها دى، ادينى التليفون بتاعي بقي.
نظرت اليها جنه مستعيره نظراتها اللامباليه ثم نهضت و اتجهت للدرج صاعده درجاته بابتسامه خفيفه هاتفه: هسبقك على الاوضه حصليني. حسنا تحدى جديد و ربما اول التحديات بحياتها، و ستنجح فيه لا نقاش، ستحاول مره، اثنان، ثلاثه و اكثر و اكثر حتى تفوز بشذى و تنجح في عملها و ربما يكون هذا اول نجاح لها بحياتها الجديده..
ضيق، ضيق، و ضيق، يقولون ان السباب يريح النفس احيانا، و هذا ما فعتله شذى و انطلقت تسبها طوال طريقها للغرفه وهى تضرب الارض بقدمها في غضب و لكنها مجبره.
الان، ربما غدا و ربما بعد غد و لكن حتما سيأتى يوما تنال منها و تُجبرها على الرحيل من هنا كما فعلت مع من سبقها، فهى لن تتحمل التعلق بأخرى لتتركها ببساطه و ترحل كما فعلت غيرها من قبل و لو انها تشعر ان هذه المره تختلف و لكن خوفها من المستقبل جعل التردد و العناد حليفها.
و بالطبع ابتسمت ام على التي تابعت الموقف من بدايه الدفاع، الهجوم، حتى الاستسلام و بداخل عقلها امرا جيدا و هو سيكون هناك تغيير بالتأكيد .
اللهجه المهذبه المخيفه، احيانا يكون التهذيب مرعبا او يسبب التوتر اكثر من قله الادب بمراحل.. احمد خالد توفيق مرت ايام، تعلقت، احبت و شعرت انها منهم و هى بينهم، شعرت بأنها حقا وسط عائله، تضحك، تغضب، تفرح و تجول هنا و هناك، تعمل، تساعد و تجد مقابلا، تجد السكون، الهدوء، راحه البال و الاكثر اهميه، تجد احتراما.
استقامت شذى بشكل اثار دهشتها قبل عائلتها، سكون غريب و طاعه لكل امر اكثر غرابه، لا نقاش، لا جدال و لا مشاغبات.. تقلق، تفكر و لكنها بالنهايه تفرح انها وصلت لمثل هذه النقطه، بينما نبهتها الاخت الكبرى فهى اكثر درايه بشقيقتها و لكنها لم تأبه، فلقد تصاحبا و انتهت التصرفات العدوانيه، فلم يصدق احد تصرفات شذى سواها.
صادقت ام على واعتبرتها بمكانه زهره التى اشتاقتها كثيرا، شكلت فرقه نسائيه مع الشقيقتان المتناقضتان تماما كما قالت والدتهم، فسلمى عنوان التمرد و تعشق كسر القواعد فلقد اتخذت قاعده واحده بحياتها و هى ان تعيش بدون قواعد، بينما حنين هى عنوان البراءه و الحنان، يقولون ان الانسان يحمل من اسمه الكثير و هى تحمل من الحنين و الحنان ما يفوق الحد، هادئه و غير عبثيه بالرغم من خفه دمها و مزاحها الممتع، و احباها الاثنتان بقدر ما احبتهم و اكثر.
وهنا حان وقت الخوف، القلق و التفكير بعواقب تعلقها و حبها هذا. هى السبب بموت من احبت يوما فهل ستكون السبب بهدم حياه احد اخر! حاولت تجاوز الامر فهى مده و ستغادرهم، احبتهم و لكنها في البدايه و في النهايه مجرد عامله تخدم صغيرتهم بعنايه ثم سترحل. وفى احدى الامسيات اجتمع الجميع بالاسفل بينما جنه بغرفتها في الاعلى تاركه المجال للعائله دون تدخل.
ارتفع رنين الهاتف الداخلى فنهضت شذى مسرعه تجيب و كان عاصم المتحدث كعادته كل يوم اثناء غيابه، سلام، مزاح، حوار صغير للاطمئنان، رفض منها ان يحدثه احد غيرها، ثم مفاجأه و حقا كانت ساره جدا بالنسبه لها، ثم توديع بخبث و شفتيها تفضح ابتسامه توعد فيبدو ان الوقت قد حان.
ركضت على الدرج حتى وقفت امام غرفه جنه و بيدها دفاترها المدرسيه فتحت الباب و صعدت على الفراش بجوار جنه قائله بمرح هو حليفها الايام السابقه: انا عاوزه العب، بس عارفه انك مش هتوافقى الا لما اخلص واجبى، صح كده؟ ابتسمت جنه و هى تمسح على خصلاتها بحنان دفع بشذى للارتباك و تمتمت بايضاح: انا مش بضغط عليكِ انا بس عاوزاكِ تخلصى كل حاجه علشان تلعبى براحتك.
و كلمات دافئه انهتها بقبله اكثر دفئا على وجنتها جعلت الصغيره تتوتر اكثر فها هى تعلقت من جديد، و لكنها نفضت رأسها لا لن تفعل، فقط صبرت و خططت و اليوم حان وقت التنفيذ لترحل تلك جنه عن حياتها قبل ان تزداد تعلقا بها.. ابتعدت شذى عن مرمى يدها و قالت: خلاص يلا هنعمل الواجب و بعدين نلعب سوا. ضحكت جنه ناظره اليها بمشاكسه هاتفه: انا و انتِ؟
ثم وضعت يدها على جبينها تحسسه مردفه بمرح: انتِ متأكده انك كويسه مش سخنه و لا حاجه! ضحكت شذى ببراءه و هى تنفى صائحه بمزاح: خلاص بقى ميبقاش قلبك اسود، مش انتِ قولتِ نبقى صحاب؟ اومأت جنه فأكملت شذى: خلاص هنلعب سوا الغميضه ، هغمى عنيكِ وانتِ تدورى عليا لو مسكتينى هعمل اللى انتِ عاوزاه و لو خسرتِ هتعملى اللى انا عاوزاه. ثم مدت يدها مصافحه لعقد الاتفاق: اتفقنا؟
صافحتها جنه ضاحكه مردده بطفوليه و هى تداعب انفها باصبعها: اتفقنا. ضحكه خبيثه يقابلها ضحكه صافيه، ثم اعتدال، تركيز، تفكير، ثم انتهاء يتبعه زفره حاره و ابتسامه متحفزه تلاعب شفتى الصغيره فلقد انتهى وقت المذاكره و حان وقت العبث..
احضرت شذي عصبه عين و ضعتها لجنه و مازالت تبتسم بخبث و بدأت اللعبه، ضحك و فرحه، ركض هنا و هناك، استراحه قليلا لالتقاط الانفاس، ادوار تتبادل حتى انتبهت شذى فجأه فنظرت من شرفه جنه لتجد سياره عاصم تدلف للمنزل.. فركضت بسرعه تنفذ خطتها، بدأت تجذب جنه اليها بخطوات واضحه و صوت عالى حتى اوقفتها في نقطه الهدف لتركض مسرعه تاركه اياها لتواجه ما سيقابلها من اعصار.
خطتها بسيطه، المربيه الجديده تجاوزت حدودها و دلفت لغرفه المكتب الخاصه بالابن الاكبر، امرا غير مسموح به، اذا صراخ و جنون اخيها يتبعه بكاء الحمقاء ثم طرد بملأ صوته للخارج ل ينسدل الستار وينتهى الامر. و ها هى جوله جديده و تحدى جديد تفوز به اصغر افراد عائله الحصرى رغم رغبتها بالتراجع، رغم تعلقها الواضح بجنه و لكن لن تسمح لما صار من قبل ان يحدث مجددا هذا و فقط.
و اما تلك المسكينه التى ابتلعت الطعم غير مدركه لما اقبلت عليه، تدور هنا و هناك، تشاكسها و تنادى اسمها بدلال مازحه، تحاول الاستماع لاى صوت و لكن لا صوت، تنادى اسمها مرارا وتكرارا و لكن لا اجابه.. دلف الابن الاكبر، عقده حاجب، لا يوجد من يستقبله، طقوس التهافت عليه يوم عودته اليوم ليست موجوده، صمت يعم المنزل و هدوء لم يتوقعه، زمه شفاه مع نظرات في ارجاء المنزل ثم تجاهل للامر و صعود لغرفته..
و مازالت هى تدور غافله ان اللعبه انتهت و للاسف خسرتها، بحركه سريعه و عنيفه استدارت عندما اصطدم ظهرها بشئ صلب لتصرخ بدهشه و مع تأوهات خافته و شيئا ما يتتابع بالسقوط على رأسها، حتى سقطت ارضا من ألمها، نزعت العصبه بتأوه لتتسع عينها بصدمه و هى تنظر حولها بذهول، اين هى؟ ماذا فعلت؟ ما هذا المكان؟ و قبل ان تفكر حتى انتفضت صارخه برهبه عندما ارتفع صوت احدهم خلفها بنبره رجوليه خشنه: انتِ بتعملى ايه هنا؟
استدارت بفزع رافعه عينيها اليه بخوف حقيقى اصاب قلبها، لحظات صمت، عاد هو فيها لتلك التى اصابته بأرق من قبل، تلك التى غضب من اجلها و سعى ليأخذ و لو قليلا من حقها، تلك التى ناظرته في حلمه بعتاب و الان تناظره بجزع، لن ينكر دهشه علت ملامحه لرؤيتها هنا، ببيته، و بغرفه مكتبه الخاصه...
وهنا احتدت عيناه بغضب اسود ستتعرف عليه هى للمره الاولى و يبدو انها لن تكون الاخيره، نهضت بارتباك واضح عن الارض لتسقط تلك الكتب التى سقطت على فخذيها ارضا، فتتابعها عيناه باشتعال و هتافه بها يتعالى: ايه اتخرستِ، انطقى بتعملى ايه هنا! انتفضت جنه من صوته العالى و ذكريات صراخ كوثر تملأ اذنها من جديد فلمعت عينها بخوفها ليتسلل الالم لملامحها مجددا، ألن يُكتب عليها الانتهاء منه!
رفعت عينها اليه شعرت به يحاول التحكم بنفسه فهمست بتوتر بالغ اصاب قلبه، فها هو يفعل ما فعلته تلك التى اغضبته و عاقبها، ها هو يصرخ و يعنف و يساعد في رسم الالم على ملامحها، ها هو لا يفرق عنها شيئا: انا، انا، مع، معرفش، جيت، هنا، هنا ازاي!
نظره لما سقط ارضا، نظره اليها مجددا و شعور برغبه في قتلها، دفع بشرارات غضب من عينيه لتسقط بعسل عينيها ليهتف باستنكار و استحقار: انتِ ازاى تتجرأى تدخلى هنا؟ انتِ ناسيه انك هنا مجرد خدامه! استهانه مزقت ما بقى من كرامتها امامه و دموعها تخونها لتنهمر بخزى. فأخفضت عينها عنه لينظر اليها بغضب لصمتها، خوفها و عتاب عينها و نزيفه القاسى فخرجت منه صرخه عاليه بآمر واجب التنفيذ: اطلعى برا.
و قد كان هرولت مسرعه و لكنها توقفت امامه لحظه و جسدها يرتجف بوضوح، هى لم يزعجها صوته فقط، لم يفزعها صراخه بقدر ما ارعبتها تلك الاصوات التى حاوطتها، صراخ كوثر، اصطدام سياره والدها بالسياره الاخرى، صفعه كوثر.. الماضى، الماضى، الماضى و جرح اخر يترك ندبه جديده حتى وصلها صوته القاسى بغلظته: انتِ واقفه ليه؟ انا قولت اخرجى برا! ارتجفت اصابعها و هى تهمس بصوت بالكاد سمعه: الباب، انت واقف قدام الباب..
و صعقه ابريق العسل بعينيها و الذى انهمر شهده على وجنتيها لتشهق هى محاوله تجاوزه و قد فعلت بعدما صدم كتفها كتفه بخفه هاربه من امامه.. ليستوعب هو انه كان يغلق الطريق للخارج واقفا امام الباب، ابتعد مستديرا للخلف ينظر لمكان رحيلها و رجفه خفيه تصيبه.. عاد ببصره للكتب ارضا فاشتعلت اوداجه من جديد مغلقا الباب بعنف دالفا لترتيب ما سببته تلك الحمقاء!
راحه قليله ثم انتعاش سريع و دقائق كان يقف امام العائله بالاسفل، ليعلو وجه الجميع استنكار، تبعه ترحيب، سلام، اطمئنان ثم حيره و تسائل بادرت به سلمى: غريبه يا عاصم اول مره متقولش انك جاى! توترت شذى و اخفضت رأسها ارضا فهو اخبرها و كم كانت مفاجأه رائعه استطاعت بها تنفيذ مرادها.. رمقها عاصم بطرف عينه و لكنه تغاضى عن الامر مجيبا بهدوء: قولت لشذى بس شكلها نسيت.
ابتسمت ليلى و هى ترمقها بغيظ و هتفت: دماغها مش معاها اصلا. صمت قليلا ثم طلب عَرَضَته ليلى فجر غضب ابن الحصرى المكتوم: نادى على جنه يا شذى تجى تقعد معانا. ليكون الرد التفاته حاده منه ليصيح بضيق من اهتمام والدته الواضح و غضب من تلك الحمقاء التى اشعلت فتيل غضبه بفعلتها: تقعد معانا بتاع ايه؟ انتِ ليه بتتعاملى معاها كأنها فرد من العيله!
ثم اضاف بحزم و قد اتخذ قرارا عبر عنه بصرامه: و بعدين البنت دي تمشي من هنا بكره الصبح لولا ان الوقت اتأخر كنت قولت تمشي دلوقت.. تحديق، دهشه و تسائل اخر بينما هناك ابتسامه خبيثه تدل على اصابه الهدف بنجاح ثم عتاب صارم يتبعه تعجب بادر بهم عز: صوتك مايعلاش و انا قاعد يا سياده النقيب، ثم يعنى ايه تمشى؟ ايه اللى حصل!
ثم اعتراض و توضيح و اثبات تعلق الجميع بالحمقاء حتى قالت شذى باندفاع: على فكره ابيه عنده حق، انا اصلا مش بحبها و بعدين الغلطه اللي عملتها مش سهله. لتُعلق سلمى بتركيز على جملتها: اصلا مش بتحبيها؟ ثم اضافت و قد اصابت هدف هى الاخرى: كان عندى حق انا اصلا مكنتش مصدقه دور الطيبه اللى كنتِ رسماه ده. واثناء ملاحظه سلمى لما قالت لاحظ عاصم امرا اخر فنظر لشذى بتمعن متسائلا: انتِ عرفتِ منين انها غلطت؟
صمت الجميع بينما تركزت الانظار على شذى و نظره عاصم كانت كفيله بجعلها تتوتر، فخرجت نبرتها مرتبكه: انا، انا يعني.. ثم قالت بسرعه كأنها وجدت ضالتها: شوفتك و انت بتزعقلها بس خفت اكلمك تزعقلي انا كمان فدخلت اوضتي من سكات. وهنا انفعلت ليلي بدهشه لتصرخ بوجهه: زعقلها! فهمني يا عاصم ايه اللي حصل؟
استقرت عين عاصم على شذى قليلا ثم نظر لوالدته و هو يقول بهدوء ينافى الغضب الذى اكتنفه منذ قليل فهو نقيب و وظيفته سبر اغوار من حوله: الانسه دخلت مكتبى و كمان وقعت رف كتب كامل من المكتبه، وانتِ عارفه يا امى انى مبحبش حد يقرب من حاجتى، دى بأى صفه تدخل و كمان في وقت متأخر زى ده!
عقدت حنين حاجبيها و همت بالحديث عندما علقت سلمى على نقطه كانت ذات اهميه لعاصم: مش معقول جنه تعمل كده و بعدين اشمعنا النهارده هى هنا بقالها فتره، كان قدامها ايام سفرك كل مره! اشمعنا النهارده و كمان اليوم اللي انت جاي فيه!
نجاح و بجدراه، اتسعت ابتسامه شذى ليلمحها عاصم فيعقد حاجبيه مفكرا، عندما وصله صوت عز قائلا بنبره قاطعه بعدما طلبت ليلى مساعدته بنظراتها المتوسله فعاصم لن يتجاوز كلمه والده: جنه من يوم ما جت مغلطتش، محترمه و هاديه و دائما في حالها، محاولتش تتعدى على حدود غيرها و الكل هنا حبها و اتعلق بيها، مكتبك مش مكان مقدس لكن من حقك تتضايق بس كمان من حقها انك تسمعها يمكن تدافع عن نفسها..
ثم نهض واقفا لينهى الحوار بكلمته الاخيره: البنت مش هتمشى، والصباح رباح، قوموا ناموا و بكره نشوف الموضوع ده. و كان عاصم اول الناهضين، لن يستطيع تجاوز كلمه والده، ان قال انها ستبقى اذا ستبقى و لكن السؤال هنا او الادق سؤالين، الاول لمَ يهتم والديه كثيرا بتلك الفتاه! و الاخر لمَ يشعر ان في الامر تدبير ما! و لكن كما قال والده غدا صباحا له في هذا الحوار بقيه.
القوه لا تأتى من المقدره الجسديه، انما تأتى من الاراده التى لا تُقهر. المهامتا غاندى تجلس على مكتبها بالشركه، تلك الفتاه في ريعان شبابها، عينها التى تحمل زرقه السماء و لمعان البحر، تهيج ساعه لتمنح من امامها العنفوان و القوه و تهدأ في ساعه اخرى لتمنح من يناظرها السكينه و تجذبه للغرق داخلها...
هبه، خريجه جديده من كليه الهندسه، تعيش في بيت متوسط الحال، قررت مساعده والديها في مصاريف دراستها فقررت ان تتكفل بنفسها دون ضغوط اخرى عليهم، كانت مازالت تحتفل بنتيجه الثانويه عندما تقدمت للعمل بأكثر من مكان حتى انتهى بها الامر بشركه اكرم، و منه تضرب عصفورين بجحر واحد، تعمل و تكسب ما يلزمها بعرق جبينها، و تتعرف على مجال الهندسه شغفها منذ الصغر، بالبدايه لم يوافق اكرم فشركته كانت في بدايتها، يحتاج لذكاء و تركيز لا لفتاه مراهقه مازالت تتعلم و لكنها بفطنتها و ذكائها و لباقه حديثها و بعضا من الدهاء لا مانع، استطاعت اقناعه و وافق على ان تكون سكرتيرته الخاصه، علمها اساسيات العمل، قرأت، ارهقت نفسها ليالى و ليالى لتستوعب كم ما فوقها من عمل، حتى نجحت، و الان ها هو لا يستطيع الاستغناء عنها حتى بعدما تخرجت و اصبح من حقها العمل كمهندسه، و لكن لا فارق معها فهى غالبا تشاركه جميع صفقاته دراسه و تنفيذ، هى كما يقولون ذراعه الايمن و كما يقول عنها هو هى عصاه السحريه .
تُجهد نفسها بشده و تحب هذا، ابتسمت و هى تنهى بعض الملفات بيدها تجهيزا لما طلبه منها اكرم، شعرت بظل يقطع عنها الضوء قليلا فرفعت عينها ليقرأ اكرم بهما ارهاقها و لكنه ايضا رأى اصرارها مازال موجودا فتسائل و هو ينظر لساعته: مروحتيش ليه يا هبه! ابتسمت تجيبه بعمليه يقدرها بها بشده و تزيد من احترامه لها: في ايدي ملف هخلصه و امشي يا بشمهندس.
سحب الملف من اسفل يدها دافعا اياه جانبا و صرح بحسم: الوقت اتأخر اتفضلي حالا و الشغل يكمل بكره. همهمت و هى تهم بسحب الملف مجددا فهى تكره ترك اى امرا عالقا: طيب هخلص الملف ده بس و همشى.
ابتسم باعجاب فمن اين تأتيها هذه القوه بينما هو قد اضناه التعب اليوم و ها هو راحل و لكنه وضع يده على الملف بعنف فارتدت للخلف تطالعه بدهشه فعاود حروفه بحزم اكبر: انا قولت قومى اتفضلى روحى و الشغل هيكمل بكره، و مش عاوز اكرر كلامى كتير يا انسه؟ لم تغضب فهى تعرف انه يعاملها كأخته الصغيره، يقلق عليها، و يهتم لامرها و ايضا يخاف عليها من الطريق في وقت متأخر حتى و ان كانت تملك سيارتها الخاصه.
لحظات كانت هى بسيارتها و هو على وشك الانطلاق بسيارته عندما وجدها تترجل من سيارتها و هي تضرب اطارها بعنف غاضب. ترجل من السياره هو الاخر مقتربا منها متسائلا: في ايه يا هبه؟ نظرت اليه باحراج و حركت كتفها بجهل متمتمه: العربيه مش راضيه تدور مش عارفه ليه! ابتسم و هو يتحرك باتجاه باب سيارتها هاتفا بمرح: ما قولنا بلاش حريم تسوق. ثم مد يده اليها مضيفا: هاتِ المفتاح.
اعطته هبه المفتاح بخجل بينما حاول هو مره و اخرى و اخرى و لم يفلح فترجل و قبل ان يتحدث قالت هى باعتذار: مش مشكله هبقى اوديها لميكانيكى بكره ان شاء الله، معلش تعبت حضرتك معايا. عَرَضَ بسخاء لا يدعيه و ان كان لا يجوز: و لا تعب و لا حاجه، تحبي اوصلك! يعرف الرد و لكن لم يجد بد من السؤال و كانت الاجابه كما توقع: اسفه مش هينفع.
و متوقعه للسؤال التالى منحته الاجابه قبل ان يسأل: انا هكلم محمود يعدى عليا في طريقه، هو بيروح من شغله دلوقت. اومأ موافقا ثم اشار على سيارتها مبتعدا عن الباب فاتحا اياه لها آمرا: تمام اتفضلي اقعدي في العربيه و انا هستني هنا على ما اخوكِ يجي. تنحنحت هبه بحرج و توردت وجنتاها خجلا و شهامته تفوق الحد معها و تمتمت محاوله منها لمنعه: ملوش لزوم ان..
و كانت المقاطعه منه بحسم و هو يشير بعينه لها لتركب: مفيش بس الوقت اتأخر مينفعش تقفي لوحدك كده اتفضلي يلا.
و انصاعت لرغبته و دلفت لسيارتها و فأغلق الباب عليها بينما استند هو على السياره حتى يأتي اخيها، دقائق يتلوها دقائق هى يزداد خجلها و هو لا يبالى، فهو بالتأكيد لن يترك فتاه واقفه على الطريق بمفردها في هذا الليل، و فتاه بجمال هبه و بجمال عينيها فتنه لاى رجل، و دون سابق انذار تخيل جنه مكانها، كم اشتاق لابريق العسل المنهمر من عينيها، لدلالها و مشاغبتها، كان سيقف بجوارها هكذا، كان سيحميها، سيحافظ عليها و يكون بجوارها دائما ولكن الان بأى حال هى لا يدرى!
تنهيده حاره فارقت شفتيه قبل سماعه لصوت سياره تقترب و ترجل منها شابين احدهما يعرفه فلقد رآه من قبل اخيها و الاخر لا يعرفه.. خرجت هبه من سيارتها بينما اقترب محمود منها فهمست له بغضب لائمه: اتأخرت كده ليه يا محمود؟ و بابتسامه اعتذار واجهها معللا بأسف: حقك عليا العربيه بنزينها خلص فاضطريت استني معتز يوصلنى.
و بينما كان محمود يتهامس معها في عتاب كان معتز يطالعها بنظرات متفحصه، راغبه و منتشيه، مما لم يروق اكرم كثيرا خاصه انه لا يفهم رجل سوى رجلا مثله..
تابع معتز نظراته بينما ازداد اشتعال اكرم غضبا حتى كاد يتحرك ليحطم وجهه فهو لم يكن مستقيما فيبدو انه تعاطى شيئا ما، و هذا اغضب اكرم اكثر و لكن قبل ان يتحرك وجد محمود يقف مقابله، ثم ابتسامه يتلوها شكر و عبرات ممتنه تقبلها اكرم ثم اقترب هامسا بالقرب من اذنه بحده اثارت ضيق محمود: لما تبقي جاي لاختك بلاش تجيب صحابك مش حلوه لا في حقك ولا في حقها، و خصوصا لما يبقى صاحبك شارب.
تعجب محمود ادراك اكرم و تمتم بضيق فهو يثق بصديقه و بالتأكيد اخته ستكون بمثابه اخت له: انا حصل مشكله في عربيتى و بعدين معتز مش... قاطعه اكرم ناهيا الحوار بجديه: انا حبيت الفت انتباهك بس. ثم نظر لهبه ثم لاخيها ثم تحرك مغادرا المكان: عن اذنكم.. كانت لحظه عابره و انقضت و لكن ربما لحظه عابره، تكون بدايه اساس الحياه و جنتها في المستقبل، من يدرى!
يجب عليك تخطى كل هذا الحطام، لان بكل الاحوال الحياه لن تقدم لك رساله اعتذار و اسف على ما يجرى و لن تعدك ان هذه اخر مره. اقتباس استيقظت جنه بألم شديد يغزو رأسها وجدت نفسها مازالت جالسه ارضا مستنده على باب شرفتها حيث كانت تحادث والدها بالامس، تأوهت ناهضه، وجسدها يأن تعبا، لقد حل الصباح، حل الصباح!
نظرت للخارج لتجد السماء بنورها البراق و الشمس تنشر اشعتها في المكان من حولها، بهتت و هى تحدق في اشعه الشمس قليلا ثم اتسعت عينها حلمها ، مر الليل لم تقلق، لم تنهض، و لم يعانق اميرها حلمها ككل ليله! رفيقها منذ عشر سنوات، اليوم لم يأتى! خوفا جديد اصابها، كان هذا بقايا الامل بحياتها. يقولون و لنا في الحياه خيال، و لنا في الخيال خيوط امل. وها هى اليوم تناثرت خيوط املها، و تبعثر خيالها، لتغفو و لا تعانقه.
امتلئت عنيها بالدموع، بعوده ذلك المغرور، عادت هى لحياتها السابقه.. تزعزع حاضرها و عاودها ماضيها. صراخ، أوامر، غضب و هى لابد من التنفيذ. كوثر جديده في صوره اقوى و اعنف و اكثر غلظه. عركلتها شباك خوفها لتلتف حولها اكثر، فجلست على طرف الفراش تضم جسدها بيدها. عاد بالامس رأته مره واحده، اول مره، و اختفى حلمها. لن تسمح بان يحطم احد ما تبقى منها. لن تسمح لمغرور جديد بالعبث بحياتها و اذلالها.
هى تعمل هنا حسنا، لكنها عاهدت نفسها على عدم الاستسلام، عدم الخنوع و الانكسار. هى لن تبقى هنا حتى و ان كانت ترغب. ابدا لن تبقى هنا.
ارتدت ملابسها و لملمت اشيائها، نظرت للغرفه نظره اخيره، حسنا ليست بالمره الاولى التى يتزعزع كيان حياتها، ولكنها هذه المره تشعر بألم قلبها، تشعر انها تفقد جزء من سعادتها، هنا شعرت انها ستبدأ من جديد، هنا احست انها وجدت عائله ستمضى معهم فتره لا بأس بها، هنا و هنا فقط عاشت ايام قليله و لكنها تُعد اسعد ايام حياتها..
دفء نظرات ليلى، تمرد سلمى و عنفوانها، براءه حنين و هدوئها، مشاغبات شذى و عنادها و طعام ام على و حنانها. هنا وجدت شيئا طالما افتقدته و لكن قرارها هذا المره ايضا لا رجوع عنه. خرجت من الغرفه وجدت شذي تخرج من غرفتها ذاهبه لمدرستها، شذى! مهلا! كيف دلفت جنه للمكتب، شذى! لماذا لم تمنعها؟ لماذا لم تحذرها؟ عقدت ما بين حاجبيها، تفكير، تحليل ثم استنتاج، شذى ارادت هذا بل هى من فعلت هذا..
حدقت جنه بها قليلا بعدم تصديق لاستنتاجها و الصغيره بابتسامه ساذجه تعلو وجهها اقتربت منها قائله بلؤم: ايه رأيك في عقابي؟ وتقولها الان صريحه! كم كنتِ بلهاء يا جنه! هى من فعلت و ها هى تخبرك. أوفت الطفله بتهديدها و ها انتِ الان خاسره على وشك الرحيل. اقتربت شذى منها خطوتين اكثر و رفعت رأسها اليها تفكرها بتهديد لم تعنيه جنه من الاساس: كنتِ بتقولي اني هزعل من عقابك مش كده!
ثم ليه شفاه ساخره مع ضحكه استهزاء: انتِ صعبانه عليا قوى. ثم اردفت بحقد ملأ صوتها لتتسع عين جنه له بصدمه: يلا اخيرا هتمشي و اخلص انا من شروطك الغبيه... و بلهجه حملت من الغل و الغضب ما يفوق عمر الصغيره بمراحل كأنها تردد كلمات تحفظها: و دا بقى درس صغير علشان تحرمي1 تلعبي و تعملى فيها فاهمه. نظرت اليها جنه بدهشه، و الصغيره تسرد تفاصيل ما خططت له ببساطه ثم قهقه عاليه قبل ان تتحرك لتتركها و ترحل..
ولكن جنه تركت حقيبتها و انحنت على ركبتيها ممسكه بذراعها لتجذبها امامها من جديد لتتحدث بما يعتل صدرها الان شارده ببصرها بعيدا و هى تقول: انا المفروض احيى ذكائك، فكرتِ و رسمتِ و لعبتيها صح، صح قوى كمان.. اختنق صوتها و هى تُمسك يدها مردفه: انا مش زعلانه منك، عارفه ليه!
صمتت فنظرت لها شذى بتقطيبه متسائله فأكملت جنه و هى تسرد مشاعرها الحقيقيه فها هى راحله فلترحل ببصمه جيده اذا: لانى اعتبرتك اختى الصغيره، انا معنديش اخوات يا شذى، ليا اخ بس بعيد قوى عنى، انتِ و سلمى و حنين اعتبرتكم اخواتى..
تساقطت دموعها دون ان تشعر بها و هى تردف: انا مش عارفه انتِ ليه عملتِ كده؟ و لا انا اذيتك بايه علشان تكرهينى كده؟ بس اللى انا متأكده منه، انك اليومين اللى فاتوا مكنتيش بتمثلى حبك ليا،.
ارتجفت عين شذى و قلبها الطفولى الذى امتلئ بخوفه الان يمتلئ ندما ربما لم يعد يفيد بينما اكملت جنه باعتذار صادق: انا اسفه اذا كنت ضايقتك او حتى ضغطت عليكِ بس صدقينى كل ده كان علشانك، انا مش مستفيده حاجه، بالعكس انا لو سيبتك براحتك و مهتمتش بيكِ كنت برده هاخد مرتبى و محدش في البيت هيعرف حاجه،.
نظرت شذى ارضا و كلمات جنه تضايقها، تطعنها، تُشعرها انها اجرمت و هى بالفعل فعلت، هى تعلقت بجنه لن تُنكر و لكن هذا اخافها اكثر، فعلى ما يبدو ان قلب الاثنتين محمل بنفس عبء الخوف مع فارق حجمه و سببه..
انهت جنه حوارها قائله بنبره ظهر بها بعض الرجاء: على فكره انتِ لو كنتِ طلبتِ منى امشى كنت همشى، بس عموما انا كده كده همشى، عاوزه بس اطلب منك طلب، ياريت لو والدتك فكرت تجيب ليكِ مربيه جديده ارفضى، او قولى مش عاوزه بس بلاش تجرحى حد تانى اوعى تعملى كده تانى يا شذى.. و نهضت لتهبط للاسفل فها هى طفله صغيره تسبب كسر اخر، اكبر و اعمق.
و هى الان ستبدأ من جديد، حياه جديده، بدايه جديده و كأن كُتب عليها ألا تستقر ابدا. تركها من قبل من احبتهم عنوه و اليوم ستترك من احبتهم رغما عنها. ولكن ربما ما زال في حياتها جديد.. و ها هى الصغيره تتابع رحيلها، تفزع، تحزن، و تخشى من جديد، و دعوه تتراقص على شفتيها بعدم الرحيل.
مع كل درجه تتخلى عن مشاعر كونتها هنا حتى و ان كانت في ايام قليله، ثم مواجهه، طلب بالرحيل، تساؤل، حيره، ثم اعتراض و رفض صارم من ليلى: انا قولت مش هتمشى يا جنه. اعتراض منها هى و تحايل من جديد، قرار بأن تُبدى هى رغبتها في الرحيل قبل ان يطردها هو، اصرار و اصرار و مع اصرارها يهوى قلب ليلى ارضا، فالمسئوليه تتسرب من بين يديها، و خساره، فشل في ان تحتوى صغيره اخيها..
قطع المشاده بينهم صوت عاصم الصارم: في ايه! اضطرب قلب جنه بمجرد سماعها صوته و لكنها لم تلتفت، لم تتحدث، اسوار حصنت نفسها بها، هى من طلبت الرحيل، لن تمنحه اى اهميه، فهو ليس له الحق هنا برفع صوته او ابداء اوامر مهما كان خطأها و لانها لن تتحمل هذا فاذا سترحل. شاء الجميع ام رفضوا، رفعت يدها تُزيل دموعها فهو اخر شخص تريد ان يري دموعها الان..
و كان الرد من ليلى عتاب له، تعنيف طفيف على صوته الذى ارتفع عليها، بادلها هو الرد بنبرات غامضه و كلمات اكثر غموضا، فطالبته باعتذار و خرج صوتها مهتزا فأدركت جنه انها تدرك ان الواقف خلفها بعنجهيته و غروره لن يعتذر، و هى لا ترغب في اعتذرات هى ترغب في الرحيل و فقط فلماذا تبقى! تعجب عاصم تمسك ليلى برأيها رغم ان الطفله لا ترغب بوجود مربيتها فلمَ تبقى جنه اذا!
صمت صمت صمت لا حديث يُسمع، تعجبت جنه فاستدارت لتشهق مرتده للخلف بعنف و هى تجده خلفها مباشره، فارق الطول بينهم اربكها، لم ترفع عينها و التى كانت تواجه صدره الان بخوف، حسنا لا تماسك فهى تخافه، يكفى اانها ترى به الصوره الذكوريه من كوثر..
نظرات متفحصه عقبها سؤال هادئ منه عن سبب رحيلها، و هنا رفعت عينها بدهشه اليه ليحاوطها بحصونه السوداء ليرتجف ابريقها العسلى لحظه مرفرفه برموشها عده مرات، أحقا يسأل! هو افزعها البارحه، صرخ بوجهها، اساء اليها و اهانها، طردها من المكتب و لو ظلت امامه دقيقه اخرى لربما تطاول و رفع يده عليها، لتقضى بعدها ليلتها باكيه، خائفه و ذكريات اسوء ايام حياتها تحاوطها من كل اتجاه و صدى صوته يتردد داخلها باستمرار، حتى نامت مكانها ارضا لتستيقظ دون حلمها، دون صوت اميرها يبتسم لها، لتشعر انها فقدت جزء كبير من سكينتها، و الان بكل تلك البساطه يسأل ما بها!
كانت هى شارده بينما هو لم يكن، قرأ بعسل عينها سطور عن ألم يعيشه قلبها، صراع يرهق روحها، قرأ رجاءا يتوارى خلف ضباب خوف و لمعه مطر، مطر يبدو انه يسكن عينها دائما، لمعه الحزن التى اغضبته لاجلها اول مره رآها و لمعه حزن اخرى اغضبته عليها بالامس و لمعه حزن اغضبته من نفسه الان..
اختبار صغير و سؤال واضح و اجابه ستُظهر كل شئ، خرج صوته عميقا كأنه نابع من روحه يخبرها ان تقول الحقيقه رغم يقينه الكبير انها ستكذب: ليه دخلتِ مكتبى امبارح! و هتاف حانق من ليلى فهى على حافه الخساره و لن تستطيع ان تخسرها و ان اضطرت ستقول انها ابنة العائله و ليحدث ما يحدث.
ارتجفت عين جنه و هى ترى اسهم حصونه السوداء تلاحق ابريقها العسلى بترقب بطئ و مُربك، ارتفع صوت سقوط شئ من الاعلى فرُفعت الاعين لاعلى وجدوا شذي قد اسقطت حقيبتها، رفعت جنه بصرها اليها لتجد معالم الخوف تبدو على وجهها بوضوح و منحتها نظره رجاء واضحه، فابتسمت جنه بسخريه محدثه نفسها هل تعتقدين انى سأقول الحقيقه !
اقترب عاصم خطوه جعلت جنه تعود ببصرها اليها بفزع و ارتجافه بسيطه تسرى بجسدها، خافت من كوثر طوال عمرها و لكن هذه اللحظه كانت بخوف عمرها كله، بينما هو يتابع خوفها و يحسبه ارتباكا و كم بدت لذيذه بحمره الخجل التى زينت وجنتها و يا ليته يعلم انه خوف و انها في وضع لا تُحسد عليه.
و للغرابه اعاد عاصم سؤاله للمره الثانيه بنبره هادئه و بطيئه مما اثار تعجب ليلى فابنها لم يُعتاد عليه بهذا الهدوء: مبحبش اعيد كلامي كتير دخلتِ مكتبى امبارح ليه؟ ترقب جديد و خوف اكبر ثم ارتباك واضح و تمتمه خافته: ف، ف فضول..
رفعه حاجب و ليه شفاه ساخره، كان مدركا انها ستكذب، بينما رمقتها ليلى بدهشه فلم يبدو على جنه الفضول من قبل ابدا و مع تعجب والدته ابتسم ابتسامه تكاد تُري و تحرك خطوه اليها فرفعت نظرها بسرعه و هي تعود للخلف بخوف نظر لعينها الخائفه و كادت ابتسامته تتسع و لكنه عوضا عن ذلك تجاوزها و وقف ظهره يقابل ظهرها و نظره موجه لشذى بالاعلى قائلا بحسم: شذى محرومه من النادي او اي خروج و يتسحب منها التليفون و مفيش لعب على الكمبيوتر ولا فرجه على التليفزيون و هي عارفه السبب كويس.
ثم استدار ناظرا لجنه التى ما زالت تمنحه ظهرها بذهول تام هذا المره، فهو يعرف الحقيقه على ما يبدو، اذا لمَ كل هذا؟ أيستمتع باخافتها و ارباكها بهذا الشكل! سترحل بالتأكيد..
شهقه خافته تسربت من بين شفتيها و هو يهتف بجوار اذنها بتقرير: بناءا على رغبه امى و كمان لان واضح انك عارفه شغلك كويس، مفيش خروج من البيت و مسئوليتك تجاه شذي زادت الضعف و أي غلطه منها انتِ اللى مسئوله قدامى، اتصرفي معاها زى ما تحبى بس بشرط تتعلم الصح، وتعرف ازاى تتعلم من الغلط و يُفضل تعرف ازاى متغلطتش.
تجمدت تماما مع شعورها بوقوفه الجامد خلفها مع نبرته الحاده و التى اخبرتها بحسم انها لن ترحل و ان كان يخفى في ثناياها مدح وصلها واضحا، و لكنها فوجئت به يتحرك ليقف امامها لترفع عينها بقلق زاد من وتيره تنفسها لتنفرج شفتاها بخوف، لتستقر عينه على شفتاها قليلا قبل ان يهتف بخبث يخبرها انه يُدرك جيدا ما فعلت و ما حدث: و يُفضل تعلميها ان الكذب حرام.
ثم تحرك من امامها خارجا من المنزل ليلحق بوالده في الشركه متذكرا كيف صادف خروجه من الغرفه حديث جنه و شذى سويا ليصله الامر دون نقصان و كم توعد شذى و لكن يبدو ان والدته احسنت الاختيار هذا المره.. بينما حدقت هى بالمكان الذى كان يقف فيه منذ قليل قبل ان تجد شذى تملأ ذلك الفراغ بنظراتها الدامعه لتهمس برجاء باكيه: ماتمشيش يا جنه، انا اسفه.
ابتسمت ليلى و هى تربت على كتفها بحنان و هتفت موضحه و هى تحاول اثنائها عن االامر: كلنا هنا حبناكِ، بلاش تزعلى من شذى و خليكِ معانا. تفكير، قلق، و تشتت ثم قرار و محاوله اخرى و لمره واحده تُرك الخيار بيدها، اذا فلتختار ما تشاء، و هى حقا ترغب بالبقاء، فنظرت لشذى مبتسمه و هى تمسح على خصلاتها بدفء فاتسعت ابتسامه شذى. فتمتمت ليلى بمحاوله منها للتأكد من قرار جنه: كده خلاص مش هتمشى!
غمزت جنه لشذى و استدعت ما تملك من مرح هاتفه ببلاهه مصطنعه: هو انا لو مشيت ايه هيحصل؟ هيعمل فيا ايه؟ حاولت شذى تجاوز حزنها هى الاخرى مستجيبه لدعوه جنه للبدء من جديد بمرح فعلى ما يبدو ان هناك كيمياء تفاهم بينهما فصاحت بدراميه: هيعرف يوصلك دا سياده النقيب عاصم الحصري و وقتها بقى ثم ضخمت صوتها رغم فشلها في هذا و ضحكه شيطانيه تقلدها بمهاره: هاهاهاها، تخيلى بقى هيعمل فيكِ ايه!
وضعت جنه يدها على فمها في اشاره منها للخوف و كم كانت حقا تشعر به و لكنها تجاوزت الامر ممسكه حقيبتها متجهه للدرج هاتفه بفزع مصطنع: فين اوضتي! لحقت بها شذى ضاحكه لتأخذ حقيبتها و تتجه لمدرستها بينما تابعتها ليلى بابتسامه و هى تشعر ان هناك شراره جديده ستبدأ بين عائله الالفى و الحصرى!
رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل السابع
بين خيال المرء و ادراكه، مسافه لا يدركها سوى حنينه. (جبران خليل جبران).
جلست جنه بحديقه المنزل، هواء يداعب وجهها، عيناها ترفرف بعذوبيه، يدها تحتضن الورقه كأنها تحتضنهما هما و قلبها يُغرد حزنا و يغنى اشتياقا لان تكون حقا بين ذراعيهما..
سطرت والدتها اكثر الكلمات حبا و اقواها شعورا تصف حبها لوالدها بل و تواسيه فراقها و يا ليتها تعرف انه لحق بها، تمر عينها على الكلمات بنهم، تشعر بكل حرف، يستقر بقلبها كل احساس و تشاركها دموعها في سعادتها و رساله والدتها تصف و بوضوح كم عشقها لوالدها.
حتى قطع الرؤيه عليها جسد صغير فرفعت عينها مُزيله دموعها لترى شذى، تلك الشقيه التى فكرت بعقل الاعداء حتى تتخلص منها، جلست الصغيره و تبع ذلك جلسه اعتذار، بكاء و توضيح بسيط عن سبب الكره؟ مربيه جديده، تعلق شديد، طاعه تامه و بالنهايه زواج و رحيل، لتبقى الصغيره بمفردها ثم سرعان ما تعوضها والدتها بأخرى و تمر بنفس التجربه من جديد و لكن اشد قسوه، تعلق اكبر، و طاعه وصلت لحد الاستسلام و احيانا الخنوع و هى تأمر دون مساعده ثم اكتشاف صادم بأن غايه المربيه السرقه، و كم كانت ذكيه جدا في استغلال الصغيره، و من هنا عقده كبُرت و اصرت بعدها على عدم التعلق بأحد خوفا من الخساره و ابدا لن تسمح باستغلال اخر..
و من جنه حضن يحتويها و كلمات تواسى و اصرار على بدأ صفحه جديده و نسيان الماضى على ان يكون درسا جيدا لحسن التعامل في المستقبل. اعتدلت جنه ناهضه بحماس و هى تضع الرساله بجيب عبائتها و لكن لم تشعر و هى تسقط منها ارضا بدلا من ان تحتضنها حنايا جيب عبائتها هاتفه بمرح و هى تمد يدها لشذى: ايه رأيك نتمرد! عقدت شذى حاجبيها ثم مدت يدها لتتعلق بيد جنه و هى تتسائل بتعجب: نتمرد! ازاى؟
حكت اسفل ذقنها تُفكر ثم ضيقت عينها قليلا تُجيبها: انتِ حاليا ممنوعه من الخروج، التليفون مسحوب منك، مفيش نادى و كمان مفيش تليفزيون و لا كمبيوتر، صح! و جاءت الاجابه برأس منحنيه فمدت جنه يدها لذقن الصغيره ترفعه و لكن شذى لم تفعل فانحنت جنه على ركبتيها ناظره لعينها بعبث افقدته منذ ان كانت بعمر شذى تقريبا هامسه بنبره خبيثه: مفيش خروج و مفيش تليفون بس في تليفزيون، ممكن نتفرج عليه..
ثم راقصت حاجبيها متمتمه بخبث: ايه رأيك...! و حاولت الصغيره الاعتراض خوفا من غضب الاخ الاكبر: بس عاصم.. و بدون ان تمنحها فرصه لتُكمل او تمنح نفسها فرصه للتفكير اضافت مسرعه: مش هيعرف، و سلمى هتساعدنا، ها! و اومأت الصغيره بموافقه شغوفه فيبدو ان تلك التى امامها ستمنحها شعورا جديدا و تعلقا جديدا و ربما لا ينتهى هذه المره، ربما.
ضحك و عبث، تمرد جذب سلمى لحد كبير، قلق حقيقى تملك من حنين، اندفاع اثار شذى و حياه جديده حاوطت جنه، احاديث و غناء، لعب و ركض، حتى انتهى الامر بوعاء مملوء بالفشار، الغرفه مظلمه الا من ضوء التلفاز و تجمع صامت امام فيلما مشوقا اندمجوا سريعا بمشاهدته...
سأحيا كما تشتهى لغتى ان اكون، سأحيا بقوه هذا التحدى. (محمود درويش).
كلمات مبعثره، حروف ترفض التجمع، عرق يُظهر توتره و عيناه تهربان من الجالس امامه هنا و هناك حتى صرخ محمود في وجهه بملل: يا بني انطق بقالك ساعه عمال تقول اصل و فصل ادخل في الموضوع عالطول يا معتز. دفعه خفيفه تلقاها في كتفه من المرتبك امامه و الذى رفع يده يشد على خصلات شعره بضيق من تلعثمه و تمتم بحنق: اسكت بقى و سيبني اجمع كلمتين على بعض.
واجهه الاخر بحل ذراعيه المعقودتين اامام صدره ثم اشاح في وجهه صارخا و قد طفح به الكيل: لا يا راااجل... ثم اضاف بنفاذ صبر: انا ساكت بقالي ساعه يا معتز في ايه اخلص؟! صمت دقائق، قطعه همهمه لم تصل لاذنه ثم مفاجأه القى بها معتز مباشره دون اطاله للامر كأنه يحاول التغلب على توتره باندفاع: من الاخر كده انا عايز اتجوز.
حملق به محمود لبرهه ثم قضم شفته السفلى ليكتم ضحكته و لكنه فشل فاندفع يضحك رافعا كفه امام معتز كأنه يعتذر و استقبل الاخر رد فعله بغيظ كتمه رغما حتى هتف محمود من بين ضحكاته يحاول تمالك نفسه: انت عبيط يا بنى، كل ده علشان تقولي عاوز اتجوز، دا انت لو بتخطب اختى مش هتعمل كده. ثم قطع صوته ضاحكا بقوه مجددا، فما قاله معتز يوما واحدا و سيتنازل عنه.
كازانوفا الجامعه القديم يقيد نفسه الان بامرأه واحده بل و زواج! الشاب الطائش الذى لا يعرف كيف يُدير الاعمال حتى يريد ان يُدير بيتا و يُنشئ اسره! عاشق العبث و الجموح و الليالى الحالمه مع من خلق الله من النساء يريد ان يجعل جموحه لامرأه واحده! ذلك الذى خُلق ليبذر اموال عائلته و يعيش حياته يوما هنا و يوما هناك سيستقر الان ببيت واحد!
و الاهم من هذا كله انه منح قلبه لاحدهم من قبل، خذله او خذلها لا فارق فالنتيجه واحده و مازال حتى هذا اليوم يحبها او هكذا يعتقد بل و يؤلمه ضميره لاجلها حتى بات يلجأ لكل الطرق الممكنه لينساها الان يقول انه سيسمح لاخرى بالتربع على عرش قلبه! يعلم انه حقا يجاهد نفسه و يحاول الوقوف على بدايه طريق جديد و بالفعل بدأ و لكن الزواج، ربما ابعد ما يكون عنه الان.
قطع ضحكاته عندما شعر انه يتمادى و اعتذر متسائلا بجديه حاول قدر الامكان اصطناعها: انا اسف، اسف، بس قولى المهم مين العروسه؟! و يستعد لنوبه ضحك جديده و لكن الاجابه جمدت الضحكه على شفتيه بل جمدت جسده كله و هو يحدق به كأنه يُكذب اذنيه عندما تمتم معتز بخفوت كأنه عار و ربما هو كذلك حقا: اختك، هبه!
انتفض جسد محمود دفعه واحده ناهضا بغضب و عيناه تشتعل غيظا هاتفا بدهشه لم تخلو من استنكار و تعجب: مين يا اخويا، انت بتهزر يا معتز؟ ألجمه رد الفعل لحظه حتى رفع عينيه بثقه هاتفا بضيق: و انت شايف ان دى حاجه ينفع فيها هزار يا محمود؟ هاج و ماج و ازداد غضبه اكثر مشيحا بيده بعنف لم يتخيل معتز ان يصل لتلك الدرجه: انت ازاى تفكر في حاجه زى دى؟ ازاى تفكر في هبه يا معتز!
اعتدل معتز مواجها اياه و هو يشعر ان محمود على وشك لكمه بعد ثوانى و كأنه يطالبه بزواج سرى او علاقه غير شرعيه فحاول التحدث بهدوء لا يفضله كثيرا و لكنه ابدا لن يخسر رفيقه مهما كان: ممكن تسمعنى... و لم يمنحه فرصه الاجابه بل اضاف مباشره كأنه يسابق الوقت معه: محمود انت تعرف كل حاجه عني، اتربيت ازاى؟ كبرت ازاى؟ تقريبا تعرف كل حاجه عن حياتى؟ لانك اقرب واحد ليا فيها ان مكنتش انت الوحيد.
اخذ نفسا عميقا و اردف: انا عارف ايه سبب اعتراضك، سالى اتجوزت يا محمود و خلاص صفحه و اتقفلت بلاش تفكر في الموضوع ده لانه انتهى فعلا، انا معجب بهبه و من فتره بس كنت مستنى اتأكد من مشاعرى ناحيتها. و هنا لم يعد هناك صبر و ازدادت العين شده و توترت الانفاس ليصيح محمود: تتأكد من مشاعرك! انا عارف كل حاجه عنك فيوم ما تحاول تلعب متعلبش عليا انا يا معتز، دا احنا دفنينه سوا.
احتدت الاعين مواجهه و محمود يهدر مردفا: سالى بقالها اقل من سنه متجوزه، تقدر تقولى نسيتها ازاى بعد ملحمه قيس و ليلى اللى كانت بينكم و لا انت بتحاول تدفن القديم بجديد.. ثم رفع اصبعه محذرا منهيا الحوار بكلماته الاخيره: انا مش هسمح ان اختى تبقي بديل يا معتز، ابداااا.
اضطربت الاعصاب و تلاقت الاعين قليلا حتى تمتم معتز و هو يرى جانب الاخوه في صديقه لاول مره: و انت فاكر اني يوم ما افكر ادور على بديل هتبقى اخت صاحبي و كمان انت بالذات، انت فاكرنى واطى قوى كده؟ و دون ان يسمح لصداقتهم ان تكون عائق بينه و بين حمايته لاخته تسائل بهدوء مدعيا اياه بأقصى ما يملك من قوه: لو انت مكانى هتوافق لاختك بواحد زيك؟ صمت معتز و ما اسوءه من صمت. مقارنه صغيره و الاجابه لا لن يوافق.
هو بتلاعبه و مغامراته السابقه ليس بعريس مناسب لأى امرأه كانت. و لكنه يتغير او على اقل تقدير يُحاول، ألا يستحق فرصه! فرصه يختار و يقرر و ينفذ دون ان يشعر بنقص! ألن تنتهى عقده حياته من التهميش و الاستنكار و عدم الاهتمام! ألا يحق له ان يبدأ من جديد، حياه نظيفه مع امرأه راقته و يتمناها؟ انتظره محمود ليُفكر، فإن كانت هى شقيقته فهو ايضا صديقه، لا يستطيع خسارته و لا يستطيع موافقته..
لن يسمح لشقيقته بأن تعيش امرا كهذا، ببساطه لانها لا تستحق. وصله صوت معتز مهزوزا قليلا و ان حاول هو كبح جماح اضطرابه: معنى كده انى لو حبيت ابدأ صفحه جديده هلاقي الماضي و اقف لي بالمرصاد؟ وضع محمود يده على فخذه يربت عليه كأنه يمنحه قوه: لا يا معتز، تقدر تبدأ صفحه جديده تانى و ثالث و تنجح و تحقق نفسك و تتخطى الماضى بكل اشكاله و تبقى افضل مليون مره..
ثم سحب يده لينظر اليه بقوه كأنه يخبره ألا تراجع في هذا: بس مش اختي يا معتز، انا و انت عارفين كويس انك بتحب التغيير كل فتره، بتمل بسرعه و ممكن بسهوله تزهق، لكن اختى مش كده، اختى عاوزه راجل يفضل دائما معاها، في ظهرها، يصونها و يحافظ عليها مش واحد ماشي جنبها و هيبص على غيرها.
اخذ نفسا عميقا و هو يرى معتز يشرد قليلا فجذب انتباهه مجددا بالربت على ركبته بقوه نسبيه موضحا: معتز علشان ابقى صريح معاك هقولك انى فعلا خايف على اختى منك، خايف تأذيها او تجرحها..
حدق به معتز منتظرا الكماله حتى اكمل هو ناظرا لوجه صديقه يخبره الحقيقه التى يعرفها كلاهما: انت متعبتش علشان تذاكر و اخذت كل سنه بسنتين و بمزاجك، و لا تعبت علشان تكسب فلوس، و لا تعبت علشان تلاقى وظيفه او مكان كويس تشتغل فيه حتى لو مش بشهادتك، و لا تعبت علشان تعيش في مكان محترم او حتى تجيب عربيه، كل حاجه بالنسبه لك كانت جاهزه، فلوسك جاهزه، عربيتك جاهزه، شقتك جاهزه، شغلك جاهز، تقدر تقولى تعبت في ايه علشان تعرف قيمه اللى في ايدك؟
عقد معتز ما بين حاجبيه، صحيح فهو من قيل عنه وُلِدَ و بفمه ملعقه ذهب. عاش حياته مثلما يحب بلا تعنت اب لم يراه، بلا حنان و ملاحقه ام لا يراها سوى مرات معدوده هذا ان رأها، بلا رقيب او حسيب، كل شئ تحت امره و طوع رغبته و ها هو الان يسمع ذلك من وجهه نظر صديقه الذى عاش حياه تخالف حياته تماما.
اردف محمود بعدها بشرود في ايام حياته السابقه قبل ان يساعده معتز بعمل في شركتهم: اما انا، انت عارف كويس انا عملت ايه علشان اوصل لهنا، السهر و الجرى و الاهانه و المرمطه، كله علشان اقدر اجيب فلوس تساعد ابويا و اختى نفسها بدأت تشتغل قبل ما تبدأ جامعتها، صرفت على نفسها و كانت دائما تساند ماما، لحد ما وصلت للى هى فيه دلوقت، انا اشتريت عربيتى بالتقسيط و اختى كذلك حتى البيت اللى احنا فيه اكلنا التراب علشان نقدر نشتريه بعد كام سنه ايجار و قرف...
ثم انهى حواره بكلمات اصابت معتز في الصميم و ربما بدلا من ان تمنحه خزيا منحته قوه للفوز بتلك المميزه و كم يعشق هو كل مميز: اختى اقوى و اصلب اراده منك، عندها دافع للنجاح و الشغل مش عندك و لا حتى عندى، تعتقد انى ببساطه كده اوافق يتجوزها واحد لسه بيبدأ يعرف يعنى انه شغل و حياه صح!
صمت معتز و عقله يُفكر، محق هو في كل كلمه تفوه بها، محق في خوفه و قلقه و لكن هو ايضا محق في تمسكه بتلك العنيده القويه، ربما اراد محمود ان يبعده عنها و لكنه اخطأ فهو بهذا رسخ القرار في عقله اكثر و سيحاول و بكل الطرق الفوز بها. تحدى جديد و ابدا ابدا لن يخسره.
حمحم بهدوء ثم نظر لصديقه بثقه ربما يراها محمود لاول مره بهذه القوه: كلامك كله على راسى من فوق، بس مش معني اني كنت مستهتر و واخد الدنيا طناش اني افضل كده..
ثم اضاف بحزم و صدق و ظهر ذلك جليا في صوته و نظراته: انا هاجي اتقدم و اطلبها رسمي، لاني دلوقت اتأكدت كويس قوي انا عاوز ايه؟ و انا اخترت الانسانه اللي نفسي تكون مراتي و تشاركنى حياتى، و مش ناوى اتنازل، و اللي هتطلبه سواء انت او اهلك و هى قبلكم انا هنفذه، و انا متأكد انى هقدر اثبتلك و اثبتلها و اثبت لنفسي اولا اني اقدر افتح بيت و انجح و اني استاهل اتجوز انسانه زي هبه..
ثار محمود و هم بمقاطعته فبادره معتز و اردف: ارجوك يا محمود، فرصه اثبت نفسى، لو اهلك رفضونى او اختك رفضت ان مش هتكلم تانى، لكن بلاش انت تحكم عليا بالماضى و تمنعنى اخذ اهم خطوه في حياتى. ثم ربت على كتفه و اكمل بصدق ادركه محمود على الفور: انت عارف انك غالى قوى عليا و انى مقدرش اخسر صداقتنا و انا عمرى ما هأذى هبه و لا هجرحها اولا علشانها و ثانيا علشانك و علشان صداقتنا.
و امام توسله لم يستطع محمود ان يُعطى الرد او يحدد القرار. معتز دخل منزله، يعرفه والديه و تعاملت شقيقته معه مرات قليله جدا من قبل. يعرف جيدا انه ما عاد كالسابق تماما و لكنه ايضا لم ينجح في تخطيه كاملا. ربما يستحق الفرصه! و عند هذا تشتت عقله فربما ما زال هناك وقتا كثيرا على ان يتحمل مسئوليه شقيقته كامله. سيترك القرار لها ثم لوالديه و ليحدث ما قُدر لهم.
انهى الحوار وهو يغادره فما عاد هناك ما يُقال: اللي فيه الخير يقدمه ربنا.. اجتماع يتلوه اخر، اوراق يطلع عليها، مناقشات هامه مع فارس، حركه هنا و توتر هناك، صفقه جديده و اخرى تنتهى و هو مندمج يبذل اقصى ما يملك من جهد، حتى صرخ جسده طلبا للراحه، مط يديه بقوه ثم نهض يتحرك بهدوء حول المكتب يراقب الطريق من نافذه غرفته.
طيف حزين شغل فكره، ابريقها العسلى الذى انهمرت دموعه حزنا، جسدها النحيل الذى انتفض خوفا من صرخته، شفتاها المرتجفه قلقا من تصرفاته، ارتباكها، و خلف كل هذا يتوارى قوه تسعى للخروج و لكن تعجز، لم يراها سوا ثلاث مرات و في الثلاث تعرفت هى على غضبه او ربما جزء منه فقط، عيناها يسكنها ألم يرفض الخروج، روحها يُرهقها وجع لا يدرى ما سببه، هى... هى!
تفكير سريع، شرود لحظات ثم سؤال ينتظر ان تُجيبه نفسه عليه، لماذا يفكر بها؟ حزنت أم فرحت، ما شانك؟ تألمت أم ضحكت، ماذا يخصك! و هى من لتُفكر بها! من الطبيعى ان يغضب المرء من الاخرين و احيانا قليله يغضب من نفسه اذا اخطأ و لكن ابن الحصرى يغضب من نفسه اذا وجد نفسه يغضب بلا سببا للغضب. عجبا لتفكيره و سحقا له. و تبا تبا تبا لها. و بغضب لا يدرى مصدره ترك غرفته بالشركه متحركا للخارج بعدما قرر و حان وقت التنفيذ.
دقائق تتبعها دقائق حتى توقف امام مبنى أمنى و رغم ان خدمته ليست بالقاهره و لكن له اصدقاء كُثر هنا. بخطوات هادئه تنافى طاقه الغضب التى تكمن داخله دون سببا يرضيه - فالغضب احيانا ما يكون مرض و ابن الحصرى مريض به مرضا مزمن - تحرك عاصم باتجاه غرفه المقدم طرقات للاستئذان ثم دلف هاتفا باعتياد على الجالس خلف المكتب امامه: جمال باشا..
ترحيب خاص، لوم و عتاب على التقصير في السؤال، حوار صغير، و حديث طويل عن العمل و حديث اطول و اوضح عما يريده عاصم تبعه نقاش حول حياه كلا منهم حتى وصل الحوار للاسره، يعرف عاصم جيدا كم يُحب المقدم زوجته و كم سعى ليتزوجها رغم رفضها في البدايه و لكنه فعل ما بوسعه و اكثر حتى يفوز بها و قد كان، لا يصدق هو شيئا كهذا، نعم يعلم انه سيأتى يوما ما و يتزوج و لكنه متيقن تماما انه لن يقع في الحب او يحاول السعى وراء احداهن مهما كانت الاسباب و استهزاء قاسى من المقدم بمشاعره الجافه و رأسه الصلبه و رهان صريح منه بأنه سيأتى يوما يسقط قلب ابن الحصرى في هوه لن يستطيع الخروج منها مهما اراد و مهما فعل و بابتسامه عابثه واثقه وافق ابن الحصرى على الرهان متأكد تماما انه لن يخسره.
قاطعهم طرقٌ على الباب فانتبه كلاهما و لحظات و دلف صديق له بزيه العسكرى مؤديا التحيه و بعد ترحيب صغير بدأ بسرد ما يملك من اخبار و انتباه كلا من عاصم و جمال معه كاملا.. حادث ارهابى، مجموعه اشخاص يحاولون تفجير مكان ما، تتعقبهم الوحدات الأمنيه و يتم القاء القبض على واحد منهم و ها هو قيد التحقيق حتى يعترف بمكان الاخرين..
يحاولون معه باللين و لم يأتى بنتيجه، فحاولوا بالعنف و إلى الان لا يأتى بنتيجه ايضا، قانونى أم غير قانونى لم يُفكر فقط عرض المساعده فما افضل من العنف ليُفرغ به طاقه غضبه، واجهه اعتراض ثم اصرار و عرض مره اخرى بالتزام و وعد بعدم التهور و قد كان و قبل ان يدلف للمجرم المعتقل هتف بسؤال واحد للصديقه و الذى رحب بمشاركته لما في الامر من عبث: معاك سجاير؟
دلف عاصم للغرفه مغلقا الباب خلفه بهدوء بينما يتابعه صديقه و المقدم من خلف زجاج غرفه المراقبه بفضول و استمتاع.. رفع المجرم رأسه ليرى عاصم تلك الكدمات التى ظهرت متفرقه على وجهه و جسده من اسفل ملابسه الممزقه، ساقه مثبته بسلسله حديده متصله بحلقه مثبته بالحائط و يديه مقيده اسفل ظهره.. و بمجرد ان رأى عاصم ابتسم بسخريه ناظرا اليه من اعلى لاسفل: وجه جديد، هو اللي فات تعب ولا ايه؟
يقولون ان الظباط لابد ان يتحلوا بضبط النفس مهما كان ما يصير، يقال او حتى يُفعل حولهم مجبرون هم على ضبط النفس، و رغم ان عاصم لا يعرف معنى تجاوز غضبه و ضبط النفس في حياته الشخصيه لكن لا يوجد من هو افضل منه في ذلك في عمله و كأنه ينفصل تماما عن الواقع ليُكن العمل و العمل فقط امام ناظريه، تقدم ببرود باتجاه الجالس و تسائل و هو يحل عقده يديه: اسمك ايه!
و ليه شفاه ساخره تبعها تساؤل اكثر سخريه: ليه هتعملي بطاقه؟ دار عاصم حول مقعده و هو يحك جانب فمه ببطء: ممكن.. اشاح المجرم بوجهه في سخط و مازال وجهه يحمل معالم سخريته: عثمان. حرك عاصم رأسه مرددا ببطء شديد: ع، ث، م، ا، ن حلو، حلو قوى.. لفته ساخره اخرى و ضحكه قصيره تبعها باندهاش يهزأ: مكنتش اعرف ان اسمي حلو!
اخرج عاصم السجائر من جيبه و اشعل واحده و جانب شفتيه يرتفع بابتسامه جانبيه متسائلا باهتمام و هو ينظر للجالس اامامه بترقب للاجابه: بتحب تشرب سجاير؟
قالها و هو يمد يده بها اليه فعقد عثمان حاجبيه تعجبا بدأ يُثير توجسه و لكنه استجاب له و هو يأخذها، بينما نزع عاصم جاكت بذلته بهدوء واضعا اياه على الكرسي المقابل رافعا اكمام قميصه للاعلى ثم رفع قدمه على الطاوله امام عثمان الذى ازداد تعجبه و قام بسحب رباط حذائه مما دفع عثمان لقمه استغرابه فإلي الان لم يسأله عاصم عن شئ يخص العمليه او زملائه.
اخفض عاصم قدمه و رفع الاخري نزع منها رباط الحذاء ايضا ثم امسكهم بيده و وقف ثواني ينظر للرجل ثم تحرك بهدوء واقفا خلفه، ازداد توتر عثمان و ازداد معه سرعه استنشاقه للدخان بيده و قبل ان يخفض السيجاره عن فمه، امسك عاصم ذراعيه واضعا اياها خلف ظهره مره اخرى مقيدا اياها باحدي الاربطه بيده، ثم رفع يده ضاغطا انفه مانعا اياه من التنفس، احتقن وجهه، برزت عروق جبينه، جحظت عيناه و انفاسه يخنقها الدخان بفمه، و لا مجال للتنفس..
حاول الافلات من بين يدى عاصم و لكنه لم يستطع و ازداد احتقان وجهه حتى وصله صوت عاصم و هو يهمس بجانب اذنه بتوضيح بسيط و كأن الذى امامه لا يكاد يختنق: عايز اساميهم واحد واحد و عنوان كل واحد فيهم و الاماكن اللى بتتجمعوا فيها، كل حاجه.
كادت انفاسه تزهق و لم يقو حتى على اجابته حتى عاود همس عاصم و هو يضغط انفه اكثر و بنبره اكثر قوه و قسوه: يا اما نقرأ الفاتحه على روحك، و مات ليه؟، احتقان شديد، يبقى انا عملت حاجه؟!، لا برئ، و زمايلك عايشين و انت الله يرحمك و لا من شاف و لا من دري، ايه رأيك!
صمت عاصم لحظه و عثمان يُخرج اخر انفاسه ثم رفع يده عن انفه و سحب السيجاره من فمه ملقيا اياها على ركبته فسحب عثمان نفسا عميقا و هو يسعل بقوه و لكن ما لبث ان صرخ بألم نتيجه شعوره بسيجارته تحرق جسده تاركةً ندوبا عليه... تحرك كالمجنون يحاول اسقاطها ارضا ولكن لم يستطع فصاح بصراخ متألم: شيلها من عليا الله يخرب بيتك. حرك عاصم رأسه يمينا و يسارا قائلا ببرود: مقولتش رأيك ايه؟
ازداد شعوره بالاحتراق حتى اصبح لا يُطاق و لكنه اصر على موقفه رافضا الاعتراف فهتف بحده: مش هقول حاجه، اي و قبل ان ينطق بحرف اخر رفع عاصم يده برباط حذائه و دار به حول عنقه ساحبا رأسه للخلف بعنف حتى شحب وجه عثمان و اتسعت عيناه بصدمه و هو يرى الموت بعين عاصم المحدقه به و الذى تبعها بهمسه خافته و نبره اقوى من الرعد: يبقى البقاء لله...
كان يقتله حقا، ازرقت شفتى الرجل اسفل يده و مازال عاصم مُصراً على ما يفعله، حتى وصله صوت صديقه من جهاز الصوت المثبت بالغرفه انت اتجننت يا عاصم، الراجل هيموت . جحظت عين الرجل مدركا ان التهديد هذه المره ليس بتهديد فقط، صمت هو عن الحديث يقينا منه ان الظابط لن يقتله و لكن الان هو يٌقتل حقا.. فحاول الاماء برأسه موافقا هامسا بصوت مختنق: ه، ه، هق، هقول...
لحظه كادت تكون اللحظه الفارقه بين حياه الرجل و موته و بها تحرك صديق عاصم باتجاه الغرفه و لكنه توقف بمجرد ان دفع عاصم عثمان تاركا اياه و عاد للخلف خطوتين، مال الرجل للامام يسعل بشده و يسحب اقصى ما يستطيع من الهواء... نظر اليه عاصم و تحرك واقفا امامه مستندا على الطاوله ليقول بهدوء قاتل: سمعك..
بدأ عثمان بسرد الاسماء و عنوانهم بينما ازاح عاصم السيجاره عنه و القاها ارضا مطفئا اياها، و عندما انتهي اخذ عاصم نفسا عميقا فاتحا اول زرارين بقميصه و نزع ساعته و اخرج هاتفه و محفظته و وضعهم على الطاوله بجواره دافعا اياها للخلف قليلا، ثم اتجه لعثمان الذى راقبه بذعر وقام بحل وثاق قدمه و يديه مجددا ثم ابتعد عنه خطوتين للخلف متمتما بابتسامه جانبيه مداعبا جانب فمه بطرف اصابعه: اُقف.
وقف عثمان بارهاق جسدى و خوف نفسى و هو يرمقه بنظره حذره و قد كانت في محلها عندما اصطدم جسده بالارض في اللحظه التاليه بعدما ضرب رأسه بالكرسى ليسقط معه اثر لكمه عاصم العنيفه.. بينما رفع عاصم يده يعبث بخصلاته هاتفا: اُقف. حاول عثمان النهوض حتى وقف و هو يُزيل السائل اللزج الذى غطى فكه و لكنه اصطدم بالارض مره اخري اثر لكمه اكثر عنفا.
بينما اتسعت ابتسامه عاصم و اشار له مجددا متمتما بتلك الكلمه اليتيمه: اُقف. رفع عثمان كفه يُوقفه متوسلا بارهاق و تعب مضنى: ارحمني ابوس ايدك. اغلق عاصم عينه رافعا رأسه لاعلي زافرا بقوه، هو جاء ليُنفس عن غضبه و لكنه لا يستطيع بل زاد غضبه اشتعالا، و من ماذا لا يدرى! و ربما هذا ما يغضبه. فهو لن يغضب لاجل تلك الفتاه ابدا.. لن يفعل، لن!، أهو لن يفعل حقا!
ازداد اشتعال فتيل غضبه فسحب اشياؤه بعنف و وضع الجاكت على كتفه و نظر للزجاج الذي يعلم جيدا ان المقدم و صديقه يقفون خلفه و القي التحيه العسكريه و خرج مسرعا من الغرفه ثم لخارج المكان، دلف لسيارته وصدره يعلو و يهبط باضطراب متحركا بسرعه عاليه باتجاه المنزل فكفى عمل اليوم فعقله و جسده بحاجه للراحه.
انتهى الصراخ حماسا و انتهت المشاهده و اعلن الجميع عن اعجابهم بالفيلم، تثاءبت شذى معلنه رغبتها المُلحه في النوم، و كذلك فرت حنين معلنه هروبها قبل ان يأتى عاصم و أيدتها سلمى بالطبع بينما اتجهت جنه للاسفل لتجلس مع ام على بالمطبخ فلا نوم يداعب اجفانها الان..
دلف عاصم بسيارته للمنزل، جلس بها قليلا، هدأ غضبه و لكنه لم يهدأ، تفكيره ما زال يعبث به، سبب تمسك والدته بها، قرار و الده الصارم لصالحها، دفاع الجميع عنها و الاسوء تعلق الجميع بها، ان كان هذا تصرف معتاد من شقيقاته فهو بالطبع ليس تصرف معتاد من والدته و لكن يبدو انها اطمئنت اخيرا على صغيرتها..
اخذ نفسا عميقا مترجلا من السياره و لكنه لم يدلف للمنزل بل قادته قدماه للحديقه الخلفيه تجول بها قليلا يستمتع بالهواء الذى يداعب وجهه و صدره، لا يدرى كم مر عليه من الوقت و لكنه كان بحاجه لهذا الهدوء ليعزف الهواء مقطوعه من السكون داخل رأسه ليقطع افكاره قليلا، تحرك ليدلف للمنزل و لكنه لمح شيئا على العشب امامه، انخفض، التقطها، قرأها و ليته لم يفعل.
حبيبي اعلم انك اشتقت إلى كثيرا و لكنك تعلم ايضا ان ابتعادى ليس اختيارا بل قدرا، انا في مكان افضل لا تقلق عليّ و لا تُفكر بي، فقط ادعى لىّ كثيرا، لا تحزن حبيبى فأنت رجُلي و حتى و انا بعيده عنك إعلم اني احبك، احبك كثيرا، اعتني بنفسك جيدا لا لاجلك بل لاجلى، اعلم انك افتقدت وجودي، حضني و كذلك قُبلاتي و لكن حبيبي معك ألف ذكرى و ذكرى ألا تكفيك! اعلم ان عشقك لى لا ينتهى و اعلم ان قلبك لن تأخذه غيرى حتى و ان كنتُ بعيده و لكن افرح يا عزيزى، املأ حياتك بالعنفوان و القوه مثلما كنت دائما، لا تستسلم لأى حزن او وجع يصيبك، فأنا اُريدك كما كنت دائما بطلي ، احبك، احبك، احبك كثيرا، فانتبه لنفسك جيدا و اعلم ان قلبى دائما معك مهما لم أكن انا، و ها انا ارسل اليك قُبلاتي فتلمع عيناك بذلك البريق الخاطف الذي لطالما عشقته، امل حياتك.
انكمشت الورقه بين يديه، اصابعه تضغطها بعنف، عيناه تصرخ بالشرر و جسده ينتفض بالغضب... تفكير سريع، صاحبه تلك الرساله اما احدي اختيه و والله ان كانت ليقتلها، و اما تكون تلك! اتسعت عيناه و زادت حدتها كازا اسنانه بقوه، اغلق عينه لحظات محاولا التماسك حتى لا يهدم البيت على من فيه الان و تحرك ليصعد لغرفته قبل ان يفعل شيئا ربما يندم عليه و لكنه حتما لن يمرر الامر مرور الكرام.
دلف للمنزل و تحرك مسرعا باتجاه الدرج و لكن قبل صعوده استمع لصوت ضحكات عاليه تصدر من المطبخ و لكن ما الهب عقله و صدره و الاسوء قلبه هو صوتها و هى تهتف بسعاده كعادتها كلما قرأت رسائل والدتها: انا فرحانه قوى، قوى، قوى يا داده.. اقترب خطوه اخرى و هو يسمع صوت ام على تجيبها: الله الله، ربنا يفرحك دائما يا جنه، بس ايه السبب المميز النهارده بقى؟
اصدرت جنه صوتا مستمتعا اشعل اوداج عاصم غضبا اعمى و كلماتها تضغط بقوه على عرقه الاسود: الحب يا داده، الحب. لم يستمع عاصم لكلمه اخرى بعدما تأكد انها لتلك الحمقاء، تلك التى سطرت يدها كلمات مفعمه بالحب والشغف، كلمات سترسلها لأحدهم ليقرأها فيفرح و ربما بعد ايام ترحل كمتزوجه، ربما هى في ارتباط رسمى و هو لا يعرف، اغلق باب غرفته خلفه و نظر لفراشه غضبا و نارا اكلت من روحه ما شاءت.
دار هنا و هناك عله يهدأ، من هى لتُشغل تفكيره، احبت، تزوجت، حييت او ماتت ما شأنك! و لكن روحه لم تهدأ، ابدل ملابسه بأخرى رياضيه و خرج من الغرفه مره اخرى متجاوزا كل ما يعتل روحه خارجا للحديقه مره اخرى محاولا تفريغ شحنه الغضب - التى يبدو انها بوجود تلك الفتاه حوله - لن تهدأ. ارتفعت ضحكات ام على لتغمزها بحنان و خبث في مزيج يُذكر جنه بزهره دائما: ايه ده؟ ايه ده؟ دا انتِ بتحبي بقى!
تجهم وجه جنه بحزن فهى لم تفعل و لن تفعل و لن تقع ابدا في فخ الحب، لن تسمح لنفسها بأن تكون لعنه في حياه احدا ما، لن تسمح بأن يحترق قلبها على عزيز لها مره اخرى، لن تحب و هذا قرار لن تعود فيه ابدا.. تمتمت بثقه تعجبتها ام على مع ملامحها التى سطر الالم نفسه عليها بوضوح: انا مينفعش احب يا داده.
ثم استدركت الامر سريعا حتى لا تُسأل عن معنى كلامها و اخبرتها عن رسائل والدتها لوالدها و التى تقرأها باستمرار علها تجدهم بجوارها و ان لم يكونوا حقا، شملتها ام على بنظرات حنونه و هى تستمتع اليها حتى هتفت جنه بشغف: استنى يا داده اوريكِ.
ثم وضعت اصابعها بجيب عبائتها لم تجد الرساله، عقدت ما بين حاجبيها تعجبا، نهضت تبحث حولها لم تجدها، حتى تذكرت انها تركتها بالخارج بعدما نهضت مع شذى فصرخت متذكره: لما شذي جت انا سيبتها على العشب بره.. ثم نهضت متحركه للخارج: ثانيه واحده يا داده هطلع اجيبها..
خرجت جنه لتذهب للمكان الذي كانت تجلس به لتبحث فيه، ظلت تبحث يمينا ويسارا بلا فائده، انخفضت تبحث عنها بين العشب و ايضا لم تجدها، فوقفت واضعه يدها على خصرها تُفكر: يمكن تكون وقعت منى فوق..
استدارت بلهفه لتصعد و لكنها شهقت بحده و هى ترتد للخلف عده خطوات حتى اصطدم ظهرها بالشجره خلفها واضعه يدها على صدرها الذى يعلو ويهبط اثر فجأتها فور رؤيته، ابتسامه جانبيه زينت ثغره جعلتها تضطرب اكثر و هى تعتدل في وقفتها تلتقط انفاسها التى هربت منها، مظهره لم يكن طبيعيا، عيناه حمراء، ملامحه منقبضه رغم ابتسامته، تى شيرت رياضى بأكمام قصيره ابرز عضلات جسده و الاسوء حصونه السوداء التى حاوطتها بغضب جعلها تزدرد ريقها ببطء عندما اقترب هو منها خطوه و صوته الخشن يداعب اذنها: بتدورى على حاجه؟
نفت برأسها و نظرت ارضا محاوله التحرك من امامه، لكنه ضغط اسنانه بمحاوله منه للتماسك معترضا طريقها يتسائل مجددا: بتدوري على ايه! اخذت نفسا عميقا و رفعت رأسها لتنظر اليها لتفزعها نظرته الحاده و اسهمه تصيب ابريقها العسلى بارتجاف بسيط فأخفضت عينها مسرعه متمتمه: بعد اذنك عدينى مينفعش كده.
داعب جانب فمه ليظهر غضبه واضحا كشمس الظهيره مجيبا اياها بصوت اقوى و نبرته يشملها سخريه تعجبتها: مينفعش! انتِ تعرفي ايه ينفع و ايه مينفعش يا محترمه؟! عقدت ما بين حاجبيها بقلق اصاب قلبها و لحظات من الماضى تضرب عقلها، هدوء كوثر المتوعد الذى يشابه كثيرا هدوءه هذا. خوف تملك منها فانتفض جسدها و ارتجف جفنيها لتتحرك مقلتيها يمينا و يسارا تتطلع للمكان من حولهم، فراغ، سكون، صمت، خوفها و غضبه.
و ببطء شديد اخبره عن مدى خوفها رفعت عينها اليه فاختفت ابتسامته تدريجيا و هو يتعجب كم الخوف الذى سكن ابريقها العسلى، شدد قبضته بضيق زاد من غضبه و نظرتها هذه تشعره بعجز غريب عليه، ف القى بأخر اوراقه متسائلا باقتضاب يخفى لهفه غريبه و ترقب اغرب للاجابه: انتِ مخطوبه؟ و نظره الاستغراب بعينيها اخبرته بإجابتها، لا ، اذا من هذا الذى خطت يدها عشقها له فوق اسطر رسالتها؟
من هذا الذى تعشقه بل و يتلذذ بحضنها، ضحكها و قُبلاتها؟ نيران اشعلت صدره و هو يتخيل جسدها يحاوطه اخر. اخر يغرق في ابريقها العسلى و لمعانه. اخر يُضحكها و يستمتع بضحكه لم يراها هو حتى الان. اخر يُزيل دموعها و تلامس اصابعه بشره وجهها. اخر يفعل ما يعجز عن فعله هو!
و قبل ان يقبض على نفسه متلبسا و قبل ان يحتار لغضبه و جدها تحاول المرور من امامه، فوقف امامها مره اخرى رافعا الرساله امام عينها ناظرا اليها بظلام شمل حصونه السوداء و نبرته تزلزل قلبها خوفا خلف ضلوعها: بتدورى على دى!
توقفت ناظره اليه بتوجس لتتسع عينها بدهشه لم تخلو من اضطراب و توتر و هى ترى الرساله بين يديه مُكرمشه، رفعت يدها لتأخذها بهلع حسبها هو لهفه فعاد خطوه للخلف و رفع يديه بالرساله امامها لحظه بينما هى تتبين نيته فسقط قلبها في هوه ماضيها و هو يمزقها امامها بغضب بينما هى تستعيد ذكرى موت والدها بفزع و مع كل وريقه تسقط ارضا، تهرب انفاسها منها فهو ببساطه منحها نفس الشعور الذى تحاول الهروب منه..
جعلها تشعر للمره الثانيه بموت والديها، اخبرها انها ليست سوى يتيمه لا سعاده تجوز لها، منحها نفس الاحساس الذى منحتها كوثر اياه سنين طوال... قتل سعادتها، لهفتها بل و كل قوه تدعى انها تملكها... امتلئت عينها بالدموع و هو يلقى بالورق الصغير على رأسها هاتفا بحده: طول ما انتِ هنا، تحافظى على احترامك، فاهمه؟
تركها و رحل صاعدا لغرفته، جلس لحظات على فراشه و لكنه لم يستطع السكون فخرج لشرفته ليجدها واقفه كما تركها تنظر للارض بصمت و ذهول...
عيناها تتطلع للوريقات الممزقه و قلبها يأن ألما، صور بعيده تداهم عقلها، صفعه كوثر، اغلقت عينها كأنها تهرب من الرؤيه، فارتفعت اصوات صراخ كوثر بها تؤلم اذنها، فرفعت يدها تغطى اذنها تمنع اصوات الماضى عنها، و استنتاج جديد يرسخ ندوب مؤلمه بقلبها عاصم ما هو إلا النسخه الذكوريه من كوثر... سقطت على ركبتيها امام الوريقات الصغيره بينما هو يعقد ما بين حاجبيه صدمه بما تفعله..
حسنا ربما تحب ذلك الرجل و لكن هى تُبالغ. راقبها تلملم الوريقات الصغيره لتجمعها بيدها ثم تنهض بعجز غريب لتختفى عن عينيه، دلف لغرفته يُفكر، ماذا بها تلك الفتاه! و عاتبه ذلك الصوت بداخله بل السؤال الانسب هنا، ما به هو! اغلق عينه فتشكلت عيناها امامه، حزينه، خائفه و دائما متوجسه. فتح عينه فلا مهرب منها، لمَ هذا العجز الذى غلف جسدها و روحها؟ لمَ نظرت له و لما فعله بذهول و عدم التصديق؟
لمَ شعر انها سافرت بأفكارها لعالم اخر؟ ماذا يحدث! شعور غريب اكتنف روحه بالامتلاك، بالسلطه و بالسيطره التامه. رغم انه لا يملك اى من هذه الامور فهى مجرد خادمه لاخته لا اكثر او اقل.. و هنا عادت افكاره لناصبها الصحيح، هو لا يعرفها و لا يهتم و لن يفعل، لن يُفكر بها بعد الان، و عقله لن ينشغل بها مجددا ابدا.
تكفل اكرم بالبحث مجددا و ابتعد كل البعد عن كل ما يربطه بالعائله و لكن فارس لم يفعل، حدثه اكثر من مره، سأل عنه، ذهب لزيارته حتى نشأت علاقه طيبه بينهما بعيدا عن اى شيئا يخص العائله و التى كان يتجنب فارس اى حديث عنها، طلب منه اكرم ألا يُخبر احد و على هذا الاساس طلب فارس من عاصم ألا يخبر احد و لهذا لم يعرف احد، و اليوم قرر فارس مقابلته مره اخرى، و اجتمع كلاهما في احد المطاعم الهادئه بالقاهره و بدأ فارس في تنفيذ قراره فرغبته تتصاعد باخبار والدته عن ابن شقيقتها، عرض و رفض اكرم رفضا قاطعا فأصر فارس هاتفا بضيق: انا مش فاهم ليه الاعتراض؟ ليه مش عاوز العيله تعرف و لو على الاقل خالتك و عمتك!
بعثر فارس صفحات كتاب قديم دون ان يقصد بل و وقف عند اسوء الصفحات وجعا، و اقساها ألما، و فهم هو ذلك عندما صرح اكرم بهتاف يخفى خلفه صراخ يأن له قلبه: عيله! عيله ايه اللي معرفش عنهم حاجه غير و انا عندي 32 سنه؟ عيله ايه اللي عمري ما سمعت اهلي بيتكلموا عنهم غير بخناق او كره؟ عيله ايه اللى بتتكلم عليها دي؟
راقب فارس تغضن ملامح وجهه و انفاسه التى تسارعت و هو يردف بنبره ساخطه يتوارى خلفها عتاب قاسى: و هي كانت فين العيله لما كنا عيال محتاجين حد معانا؟ كانت فين لما والدتي تعبت و كانت في عز احتياجها لحد جنبها؟ كانت فين العيله لما كان نفسي حد يهتم بيا بدل مراه ابويا؟ فين العيله يا فارس فين ؟ صمت و صمت فارس معه فأى كلام يقال الان؟
اكرم محترف في اخفاء ما يعانيه من ألم، و لكن الجرح الذى اعتقد فارس انه سطحى اكتشف انه اعمق بكثير مما قد يتوقع احد... زفر اكرم بقوه مشيحا بوجهه مانعا سيل ذكريات الماضى من تشتيت عقله حتى وصله سؤال فارس بتردد: انا نفسى افهم حاجه واحده ليه والدك اتجوز تانى، انا اتفاجأت يوم المؤتمر بالموضوع ده؟
عاد اكرم بوجهه اليه، ورفع كوب قهوته مرتشفا منه بهدوء ينافى احتراق صدره بحكايه الماضى الذى لا يرغب في العوده اليه ابدا ثم رفع نظره لفارس الذى احترم صمته و انتظر حتى تمتم اكرم محذرا: بحكم ان احنا صحاب هحكى لكن بحكم اننا ولاد خاله لو حد عرف الكلام ده يبقى نهايه خط معرفتنا يا فارس..
اومأ فارس موافقا فسرد اكرم باختصار شديد ما يعرفه عن زواج ابيه بكوثر و ان هذه رغبه والدته و ما اخطأها من رغبه، حتى انتهى فهتف فارس بصدمه: انت ليك اخوات؟ و ضغط فارس على الجرح الاكبر و الاعظم و الذى مهما مر من الزمن لن يجد اكرم من يداويه سواها، ضحكتها، عينها، شغبها و طفوليتها التى لا يعلم كيف عاشتها، ارتجافه بسيطه اصابت عيناه و هو يوضح باختصار ما ألت اليه الامور مع جنه الصغيره، و كيف فقدها حتى الان..
ظل فارس يناظره بذهول، فالحِمل ليس بهيناً ابدا، اخبره اكرم عن محاولاته العديده و التى باءت بالفشل دائما، سؤاله عنها في المستشفيات و اقسام الشرطه و محاولته لنشر صورتها بصحفيه او جريده ما و كيف عارضه الجميع حتى قرر ان يصنع لنفسه اسما و مكانه حتى يستطيع المحاوله من جديد، حتى يساعده احد، و لكن الى الان لم يجد!
طالعه فارس بحزن قابله اكرم بقوه تعجبها فارس في شخصا مثله و لكنه احترمها و تمتم بثقه: ان شاء الله هنلاقيها، انا هعمل كل اللى اقدر عليه، و عاصم لم... قاطعه اكرم بحده و هو يضرب على الطاوله امامه بقبضته و عيناه يلوح بها الغضب: عاصم لأ، اى حد من العيله لأ يا فارس.
ادرك فارس ان عاصم قابله بشخصيته الحجريه و التى لا يعرف الجميع ما يخفيه عاصم خلفها، و لكن اكرم لا يعرف مدى نفوذ عاصم و التى من الممكن ان تجعل وصولهم لطريق شقيقته اسرع، و لكن ربما لا يجب عليه اخباره..! فأومأ موافقا و داخله نيه اخرى و سينفذها فور ان تُتاح الفرصه لذلك. جلس معتز على الاريكه بمنزله يُمسك بالهاتف في يديه، يفكر يتصل أم لا؟ يطالبها لاول مره بأمرا يحتاجه أم يتعامل كعادته دون ان يأبه لها؟
هى أمه و لكنها تعامله بجفاء قاسى. و والده لا يعرف عنه شيئا سوى كنيته. لم يكن احد بجواره من قبل و لا يوجد الان و لن يكون. و لكن ليفوز برضا والدىّ هبه و موافقه محمود بل و الاهم اطمئنان هبه له عليه ان يطالب عائلته بالوقوف معه، و كم يكره هذا.
و بقرار حاسم رفع هاتفه، ضغطت اصابعه على اسمها، رنين، رنين ثم صوتها يصله بثباتها المعتاد و نبرتها الجافه، اغلق عينيه يتمالك احساسه الان و هو يعلن بداخله ان هذا اول تنازل يقدمه لاجل الفور بصاحبه العيون الزرقاء. سلام، ترحيب بابتسامه مصطنعه منه و لزجه منها و كلام لا يقدم او يؤخر شيئا ثم صراحه قال مطالبا اياها بالقيام بدروها كأم لمره واحده: انا عاوز اخطب..
و ضحكه ساخره اصابت قلبه لتُعيد القاء حفنه من الملح على جرحه الذى لا يندمل مهما مر عليه من الزمن: ضحكتنى يا معتز، ايه خلاص خلصت المغامرات و كبرت و عقلت و ناويت تتجوز و تستقر؟ اتسعت ابتسامته المتهكمه و هو يعتدل في جلسته بسخط: دا بدل ما تقولى لى الف مبروك، ربنا يفرحك يا بني؟ تجاوزت نجلاء ما قاله و استندت على المقعد امامها تسأل ما تعتقد انه اهم ما يكون الان: و مين العروسه؟ بنت عيله ميين!؟
زفر بغضب و هو يجيبها بلا مبالاه: مش عيله معروفه يا امى. لتُصدر صوتا ساخرا تبعته بهتاف حاد و قاطع و بنبره حاسمه: ابن نجلاء الحصري ميتجوزش اي واحده، لازم تكون عيله مرموقه، مستوى اجتماعى عالى و مستوى مادى فوق الممتاز. ليجيبها ساخرا هو الاخر بنبره اشعلت غضبها: دا على اساس انها هتصرف عليا و لا هتحاول توسع دائره معارفى باجتماعيتها؟
ثم اضاف بانهاء لهذا الجدال السخيف كما يرى، فهو بموافقه والدته او رفضها سيتزوجها، بموافقه اخيها او رفضه سيتزوجها و ليضرب من يعترض سواها رأسه بالحائط : انا هخطبها يا امى سواء وافقتِ تيجى معايا او لأ، انا عايش طول عمرى بمزاجى و لوحدي و قراراتي انا اللي باخدها و دي حياتي و انا اللي هعيشها يبقى مراتي انا اللي اخترها و خلاص اخترتها..
هاجت و ماجت و ارتفع صوتها بالصراخ فابعد الهاتف عن اذنه حتى تنتهى ثم اعاده عندما صاحت بسؤال قطعى: هتتجوزها غصب يعني يا معتز؟ اغلق عينه و هو يشعر انه يقوم بشيئا لم يفعله منذ ان كان بالخامسه عشر من عمره و الان اوشك عمره ان يصل للضعف و ها هو يقوم به، صمت لحظه ثم اجابها بهدوء: مش غصب يا امي بس هى عاجبانى و عاوزها و مش هتخلي عنها، كل اللى بطلبه منك انك تيجى من النجع علشان نروح نخطبها؟
استسلمت اخيرا دون نقاش مره اخرى و هذا اثار تعجبه عندما صرحت بلامبالاه: طيب يا معتز هحاول.. فحاول اشراكها مره اخرى فيما هو مقدم عليه فأولا و اخيرا هى و الدته: طيب يا امي انا هروح مبدأيا اعرفهم بنفسي و اشوف طلباتهم و اخد رأى العروسه، علشان لما تيجي نلبس شبكه عالطول. و كأنها تعاقبه اضافت بلامبالاه مجددا: اعمل اللى انت عاوزه، انا وقت ما هفضى هاجى.
و هنا عرف انها لن تأتى و انه مجبر ان يقوم بكل ما يريد بمفرده، صمت و هو يرغب في توضيح رغبته بحضور والده، ربما لم يراه طوال حياته، ربما لا يعرف كيف اصبح بعدما اصاب الشيب رأسه، و لكنه يبقى والده. و لكن مره اخرى كبت اى رغبه داخله و انهى الحديث بكلمتين و اغلق الهاتف متمتما برجاء واحد: امتى هترجعى يا مها؟
تنازها نفسها مرات و مرات ان ترحل و لكن تعلقها بشذى ابقاها، مرت الايام وتتابعت الاسابيع و تعلقها بكل من في المنزل يزداد و تعلقهم بها ايضا، إلا هو، تجنبت التعامل معه تماما، شعور بالكره تجاهه يتشكل، كلما رأته نفرت عروقها و تجسد بعينها بغضها، لم يتحدثا او يتعاملا مطلقا، و هذا كان يمنحها بعضا من سكينه نفسها..
عاد من العمل اليوم، حمام بارد، قهوه ساخنه، و كتاب انجليزيا لكاتب معروف، يجلس في شرفه غرفته، يداعب الهواء وجهه، و تفكيره منصب على ما يقرأه، جذبه صوت باب المنزل يُفتح فانحنى بجذعه ناظرا للاسفل ليجدها تتحرك ببطء و هدوء للخارج شعورا بالتوجس اصابه، و لكنه تجاهل الامر مراقبا اياها قليلا حتى وجدها تجلس اسفل احدى الاشجار و بيدها شيئا ما لم يتبين ما هو، اعتدل مغلقا الكتاب زافرا بضيق، منذ ذلك اليوم و هى لا تتطالعه سوى بكره يقرأه حتى الاعمى بعينها، انفاسها تضطرب وجلا و خوفا لمجرد رؤيته، خطواتها تهرب بعيدا عنه بنفور يضايقه، مرت ايام عده، ذهب و عاد، ذهب و عاد و كلما رأها يجد طنا جديدا من الكره قد اُضيف لرصيده داخلها..
اغلق عينه مستكينا في مقعده رافعا رأسه لاعلى ليسمح للهواء بمداعبه مساحه اكبر من جسده..
استفسر من والدته عنها اخبرته ان زوجه عمه هاله هى من اخبرتها عنها، و ان زوجه عمه هى الضمان الوحيد لتلك الفتاه، و عندما حاول الاستفسار عنها من زوجه عمه رفضت و بشده اخباره، ادى الامر لمشاداه بينه و بين عمه و لكنه لم يستطع الحصول على جواب يرضيه، كيف تكون بشخصيه مبهمه هكذا، ما اصلها؟، من اهلها؟، ما حكايتها؟، و الاهم ما سر هذا الغموض الذى يحيط بها!
نهض نافضا رأسه كأنه يُقصيها عن فكره و تحرك بإتجاه المطبخ في الاسفل ليأتى بشيئا بسيطا يأكله.. كان المنزل هادئا في هذا الوقت من الليل و اثناء مروره بباب المنزل جذبه صوت همهمات تأتى من الخارج، اقترب قليلا ليجدها تبكى بخفوت و لكن يبدو ان صوتها يخونها..
اقترب منها اكثر و اقفا بالقرب منها و هم بسؤالها عن سبب بكائها و لكنه تفاجأ بها تُمسك بصوره ما بين يديها لا تبدو ملامح من بها جيدا و لكن كان واضحا انها لرجلا و امرأه سويا، اشتعل غضبه مره اخرى، و ازداد اكثر عندما وجد انتفاضتها تزداد و هى تتحدث مع الرجل بالصوره.. تشكى ما تعانيه بالبعد عنه، تشكى تعبها من اشتياقها اليه، تشكى ما فعله هو بها، تشكيه لرجلا اخر.
هم بالاقتراب اكثر و لكنه توقف مندهشا من كلماتها المشبعه بحبها و رغبتها بقرب بعد البعد، تخبره انها عاشت به و تتمنى لو يعود ليجاورها مره اخرى، تبكى حبه و فراقه.
تخبره ان حلما ما لم يعد يراودها، تطلعه على شكل حياتها معهم و كيف تفتقد المنزل القديم و الذى جمع ذكرياتهم سويا، تتلعثم و ترتبك ثم تعتذر عن شيئا ما هو لا يعرفه ثم تكرر و تكرر مرارا و تكرارا اعتذارها قبل ان ترفع الصوره لتطبع قبله دافئه عليها ثم تضمها لصدرها لتشهق باكيه.
هاج قلبه و ماج عقله و تسارعت انفاسه بشكل لفت انتباهها و هى تستدير له بجزع لترى بعينيه نظره اسوء مما رأتها ذلك اليوم، ضمت الصوره لصدرها بقوه كأنها تخفيها عنه و هى تشدد بيدها على ملابسها و كانت كمن تهرب من امامه و لكنه للاسف لم يفكر، لم ينتظر و لم يسمع، فقط تسائل بصوت ارعد مفاصلها و جبينها يتصبب عرقا من قوه خوفها و توترها و الليل يحيط بهم من جميع الاتجاهات: ايه اللى مسهرك لحد دلوقت؟ و بتكلمى مين؟
ثم اشار على الاطار بيدها و التى قربته لصدرها اكثر ثم رفع عينيه ليرمى بأسهمه لتحاوطها لتتراجع خطوه خوفا: و ايه اللى في ايدك ده؟! و دون ان ترفع عينها او تجيبه قررت تجاهله لتمر بجواره متجاوزه اياه و هي ترغب بصراخ و ما شأنك انت و لكنه في لحظه تراجع خطوتين ليكون امامها لتناظره بذهول بينما خرج صوته آمرا: اما اسألك سؤال تردى عليا.
ابعدت الصوره عن صدرها لتنظر اليها و لكن قبل ان تفعل سحبها هو بعنف و دون ان يراها القاها جانبا بلامبالاه متقدما منها خطوه اخرى و دون ان ينتبه دعست قدمه على صورتها لتختفى وسط تراب الارض المبتل قليلا و هو يحاوط ابريقها العسلى بحصونه السوداء بغضب اسود صارخا: لما اكلمك تبصيلى و تردى عليا.
انتفضت جنه بفزع ليس من صوته ولكن لصوت الزجاج المتهشم الصادر عن اطار صورتها بعدما اصطدمت بجذع الشجره التى كانت تجلس اسفلها و مره اخرى يُجبر هو ذكرياتها على تمزيق عقلها و قلبها معا، يدفع بصور الماضى لتلاحقها فتتمنى هى الهرب جزعا، يكسر جزءا اخر داخلها بقصد او دون قصد، يُزيد خدوش روحها خدشا جديدا و مازال القديم لم يلتئم بعد..
و امام نظرتها، انتفاضتها و صوتها الذى ارتفع ببكاءها، صمت و هو يرى عينها تنظر بذهول اكثر من المره السابقه للاطار ارضا و الصوره التى حاوطها التراب اسفل قدمه فتراجع خطوه بينما هى لم تأبه له و لم تمنحه سوى نظره زلزلت كيانه بقوه حزنها لدرجه تعجبها هو، تجاوزته و انخفضت ارضا و مدت اصابعها بارتجاف فعقد ما بين حاجبيه و هو يراها تحاول ابعاد قطع الزجاج الصغيره العالقه بالصوره التى غطى نصفها التراب و النصف الاخر تحاول اخراجه من بين اطارها المتهشم و مع انتفاضه جسدها و ارتجافه اصابعها، لامس الزجاج يدها بعنف لتتراقص قطرات الدماء متساقطه على الصوره لينكمش جسدها وجعا و يتخبط هو.
وافقا قبل ان ينحنى يمنعها لتنهض و لكنها رفعت رأسها اليه لتكن تلك المره الثانيه لها بمثل هذا القوه، و المره الاولى له يرى بعينها قوه تعجبها و بغض اعمى اصاب قلبه فأن، عينها غرقت بدموعها التى كتبت وجعها سطرا بسطر على وجنتيها، اصابعها المرتجفه تحذره بهتاف حاد: متقربش منى، ابعد، ابعد عنى.
و خرجت الاخيره منها بصراخ اجفله فابتعد وافقا بينما هى عادت تحاول اخراج الصوره متغافله عن جرح يدها حتى اخرجتها لتقف ناظره اليه بغضب عاتب و نفور قاسى هامسه بنبره اخبرته انه اخذ اكبر علامات الكره داخل قلبها: انا بكرهك..
ثم تحركت من امامه مسرعه للداخل بخطوات راكضه بينما هو ينظر للاطار ارضا و بقع الدماء التى لونت العشب، و صراع قاسى اطبق روحه و جعله يلفظ اقسى و اسوء الانفاس ندما غلفها شعورا حارق بالغضب.. من السهل جدا جرح مشاعر الاخرين، و من الصعب جدا مداوتها ببساطه، لان الجروح تترك ندوب يصعب ازالتها.