رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر
لحظات مرت كأنها ساعات وقد توقف الوقت وتجمد الزمن، كليهما يرمق الآخر بصدمة... كليهما يإن قلبه شوقا وفرحة.. عاشوا شهورا قليلة من الشوق ولكنها مرت كالسنوات العجاف... أبحروا فى محيط الأحزان دون مجاديف العشق أياما طوال... صارت الدموع أمطارا فى الغياب.. والكون ماهو إلا فراغ قاتل... سنين يعيشون فى غربة ولكنهم لم يشعروا بها حقا سوى عند مغادرة أوطانهم الصغيرة، قلوب أحبابهم.
روعة اللقاء كانت أبلغ من الكلمات، وطيف الحضور زين المكان، وصارت السعادة، بالإمكان. قطع أفكارهم صوت (عويس)الذى قال بود: -عارف فدوى تبجى مين ياعسران؟ قال (عسران)بحيرة: -كنها مش غريبة عنى ياعويس مع إنى واثج إنى مشفتهاش كبل إكده فى الناحية كلياتها. إبتسم (عويس)قائلا: -فدوى تبجى بنت خيتي ولسة راجعة من بلاد برة. إقترب منها (عسران)حتى توقف أمامها قائلا بدهشة حانية:.
-بت حسنة وحافظ، جربى يابتى خلينى أتأملك، ما شاء الله بتاخدى العجل، زينة بنات هوارة و الجبالية، عتجمعى أحلى مافى العيلتين، شد حيلك ياعويس ونجيلها عريس زين يربطها بأرضنا وميخليهاش تفارجنا من تانى. كاد أن يصرخ معلنا.. انا هنا... لا أحد غيرى أحق بها... ولكن قيوده منعته من التصريح بمكنون قلبه بينما ظهر صراعه على وجهه لتلحظه هي فقط، زوجته (بدارة).
زادت نارها إشتعالا، وهي ترى نظرته تجاهها، نظرة تمنتها هي فلم تنالها قط، تتعجب من وجود تلك المراة قدر ماتكره حضورها الآن، ولكن مهلا.. ألم يخبرها عن عشقه لأخرى، ألم يخبرها عن شذاه؟إذا لماذا يبدى هذا الإهتمام بتلك المرأة التى كرهتها بقوة، فقط لحصولها على إهتمام زوجها وإنتباهه بالكامل. صدحت ضحكة(عويس)بالمكان ثم قال:.
-اطمن معتفارجناش تانى واصل، فدوى مخطوبة لإبن عمها رحمان وبكرة ولا بعده هبعت أنادم عليه وعلى بوه توفيج يرجعوا لأرضهم وميخافوش منينا واصل، الظاهر الفرح عيدج بابنا بالنوبة، وهنجاوز فدوى و ناجى اللى لجينالوا عروسته هو كمانى فى ليلة واحدة كيف ماعملنا مع باجى ولادنا.
زفرت (بدارة) بإرتياح، بينما شعرت (راوية)بغصة فى قلبها وهي تدرك أن (ناجى)سيتزوج قريبا بدوره، تلعن تسرعها وتعلق قلبها به، وهي تأمل ان يكون من نصيبها، لترنو بسرعة بإتجاهه فوجدته يطالعها بإبتسامة هادئة، أشاحت بوجهها على الفور تشعر بدقات قلبها تتسارع وكأنهم فى سباق، بعد أن ضبطها وهي ترنوا إليه بنظراتها، بينما عقد (مهران )حاجبيه بشدة وهو يستمع إلى كلمات حماه، يطالع (فدوى)بعيون غائمة تطالبها بتوضيح فأرادت أن تمنحه إياه ولكنها غير قادرة فى الوقت الحالى، فهي لم تكد تخبر خالها أنها خطبت لإبن عمها حتى دلف (ناجى)مرحبا بها فى البداية ثم أخبر والده بعرض (عسران الهوارى)ودعوتهم لزيارته، فإنشغل (عويس)بتلك الدعوة كلية، لذا أجلت الحديث عن موضوعها لوقت لاحق، وها هي الآن فى ورطة لا تدرى كيف تخبرهم والجميع يطالعونها بنظراتهم التى تثير توترها إلى أقصى حد، أفاقت على صوت (عسران )وهو يقول:.
-إن شاء الله ياأخوي. ثم إلتفت إلى (فدوى)قائلا: -طيب فين أبوكى وأمك، ماجوش معاكى ليه أمال؟ قالت(فدوى)بصوت رقيق يشوبه بعض الحزن: -ماتوا، الله يرحمهم. قال(عسران)بحزن: -الله يرحمهم يابتى، الله يرحمهم. حاول الخروج من جو الحزن هذا فسحبها من ذراعها قائلا: -تعالى يابتى لماأعرفك بإبن عمك مهران ومرته بدارة وباجى عيلتك.
كانت تبتسم بخجل وهي تمد يدها لتسلم عليه وما إن إستمعت للجزء الثانى من عبارة هذا الرجل، حتى تجمدت كلية وأصابتها الصدمة للحظات، فتحركت بآلية تهز رأسها بهدوء ل(مهران)، لم تقوى على لمسه فستتداعى وقتها كلية وتنهار بين يديه، ثم سلمت على تلك المراة التى تقف بجواره وتطالعها بنظرات حادة. يقولون زوجته... هل تزوج غيرها بتلك السرعة؟ هل نسيها كما يبدو وأكمل حياته دونها؟ بينما هي لاتزال تعيش معذبة على أطلال عشقه..
تبا لمعشر الرجال، يغدقون على النساء أجمل كلمات الحب ثم عند أول إختبار حقيقي لهم، يضربون بتلك الكلمات عرض الحائط ويخونون، ومع خيانتهم يتحطم القلب مطعونا بسكين الخيانة، ينكسر، يحترق بنيران الغدر ولكنه بطريقة ما، مازال ينبض. عرفها (عسران)ببقية العائلة، فكانت تبتسم بمجاملة وروح، خلت من الحياة.
كان يقف بالخارج يتطلع إلى شرفات المنزل بلهفة، لم يهدأ له بال حتى وصل إليها، يبغى فقط رؤيتها فقد إشتاق إليها حتى أصبح مجنونها، مجنون (نوار).
يريدونه أن يسلاها، كيف يسلاها وقد ابتلي بحبها فصارت بشرايينه تسرى كما تسرى الدماء؟هي نفسه التى يفتقدها بجنون، يبحث عنها بين جنبات وجدانه فلا يجدها فيشعر بالتيه، أكثر مايخشاه القدر والفراق، يختنق لمجرد شعوره بأنهم يبقونها بعيدا عنه، يتساءل عن السبب، هي زوجته، روحه التى سكنته، هي إبنة عمته، أولم ترد أمها ان تزوجها إبن أخيها (عسران)، هاهو ذا، أوليس ولده؟!
لا، ليس ولده، فإن كان ولده حقا ماتخلى عنه لأي سبب من الاسباب، هو مجرد طفل أنجبته الخطيئة فصار هكذا، لا قيمة له بين البشر.
لا يهمه، لقد إرتضى بنصيبه أيا كان، ولكن فراقها هو شيئ لن يرتضيه أبدا، شعوره بأنها تلومه يقتله، ظنها الخائب فيه يمزق روحه لأشلاء، يبغى أن يفسر لها، يخبرها بالحقيقة كاملة، لا تدرى أنه مااخفى عنها ماضيه سوى لخزي يقبع بدواخله، ماأخفاه عنها سوى لشعوره بأنه منذ عرفها وأحبها صار رجل آخر لا يشبهه فى شيئ، سوى إسمه.
جلس على الرصيف، ينتظر طلتها، يكفيه أن يكون حدها، لم يعد يطيق الوجود فى بلدته، حيث كان بين عبقها يحيا، فأخذت معها عبقها حين رحلت، تهمس له تلك الأماكن التى جمعته بها قائلة... لقد كانت هنا يوما واليوم رحلت.. توقفت به الحياة وأصبح حقا غريبا فى وطنه بعد إن رحل من وطنه الصغير، قلب(نوار). أمسك عصا صغيرة يكتب على الرمال أمامه إسمها، يدندن بحب وشوق امتزجا بمرارة الغياب: -الفراق جاسى.. أيامه ولياليه طويلة..
والضلمة محاوطانى من كل يما.. مستنى أشوفك عشان السمس تشرج وتنور صباحى وتعدل الميلة... كيفك انت.. جوليلى عاملة إيه فى ليل الفرجة، جوليلى عتلومينى ولا جلبك سامحنى خلاص ونسى النار والحرجة؟ طب مش هتاجى؟ مش هتبلى ريجى الناشف بكلامك المعسول؟ مش هتسد جوعي بلمستك اللى كيف الزاد، اوعاكى غيابك يطول؟ ياأغلى علي م الدنيا ومن روحي.. ياكيف البلسم اللى عيطيبلى جروحي.. يانسمة بتهل تبرد جلبى اللى والع نار..
ياما نفسى يجمع مابينى وبينك دار... بجيت زي مجنون ليلى بنادم عليكى ليل ونهار... وعم بستنى تطلى كيف صاحب الكيف لما يستنى الجهوة... طلى ياسمسى، يانوارة جلبى، طلى لجل تبرد نارى وينطفى لهيبي من جوة.. كيف الشجرة عشطان والريح بتهبد فية وتهزنى، مستنيكى تسجينى عشان أجف جصاد الريح وعودي من تانى يزداد جوة.
لم يستطع النوم، يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، يشتعل قلبه بأتون الغضب فلا يغمض له جفن دون ان يشعر باللهيب، حانت منه نظرة إلى وجه زوجته النائمة فى سلام، أغمض عيناه وهو يشعر بالذنب تجاهها، فها هي بجواره ولكن عقله وقلبه مع أخرى، أخرى تركته راحلة بعد أن عادت إليه ذاكرتها، لقد قالت له (ناتالى).. دع مسافة بينك وبينها، ربما تكون مرتبطة، أنت لن ترضى لها ان تكون خائنة.
نعم حذرته (ناتالى)ولكن بعد فوات الأوان لقد كان قد أحبها بالفعل وإنتهى الأمر، ولكنها هي المخطئة، (شذا)، كان لابد وأن تدرك حين عادت إليها ذاكرتها أنها إمرأة مرتبطة فلا تكتب لآخر عن العشق. (أنا حبيتك جدا)... لماذا قالت تلك الكلمات وعلقت قلبه بها أكثر إن كانت مرتبطة؟ لما منحته أملا فى عشقها؟! (شذا ومش هكون غير شذا، بحبك)... وهاهي تنكرت ل(شذا )و أصبحت( فدوى )...
ولم تكترت لهذا الهوى الذى تشدقت بالتصريح عنه... بقربه هي ولكنها بعيدة كل البعد عنه.. يلوم والده على عذاب قربها الذى يقض مضجعه.. فهو من دعا حماه وعائلته لقضاء بضعة أيام معهم هنا، ولم يدرى كم يصعب عليه تحمل ذلك، يتركه مشتعلا بنار الجحيم ولكنه عاد ليدرك أنه هو، من أشعل الفتيل.
فتح عيونه وهو يزفر بقوة، يشعر بأنه لن يستطيع البقاء فى سريره لحظة واحدة، بل فى حجرته بأكملها، نهض يسحب عبائته وهو يغادر الحجرة متجها إلى الحديقة بخطوات سريعة غاضبة، توقف متجمدا حين رآها جالسة على إحدى المقاعد تمنحه ظهرها، تنسدل خصلاتها خلف ظهرها، تتمايل مع إهتزاز جسدها فيميل قلبه مرغما، أغمض عيناه عن مرآها فشوقه يغمره وينسيه هذا الأتون المستعر فى قلبه غضبا، يود لو اسرع بخطواته وضم جسدها الصغير هذا إلى صدره يشبع توقه الشديد لها، ينفض عنه شعور الغربة الذى ينخر فى كيانه ويشعر بأنه صار، بالوطن.
فتح عيونه الغائمة بالعشق وهو يلتفت مغادرا ولكن شهقاتها الصغيرة أوقفته متجمدا، إلتفت إليها ببطئ يتأكد من أن تلك الشهقات تصدر منها هي، لتتسع عيونه وشهقة أخرى تصله ليقترب منها فى خطوتين يتوقف خلفها تماما وهو يقول بصوت هامس: -شذا. إنتفاضة إعترت جسدها ويداها تتحركان بسرعة تمحو دموعها على مايبدوا قبل أن تنهض وتواجهه بنظرات باردة قائلة: -فدوى، إسمى فدوى.
عيونها المنتفخة قليلا من أثر البكاء رق لهما قلبه فقال بصوت حان: -اللى عرفتها وحبيتها كان إسمها شذا لكن فدوى دى انا معرفهاش. قالت بصوت هادئ:.
-حبى ليك خلانى إتحولت لشذا، كنت بحاول أقاوم عشان ماأغرقش بهموم فدوى بس دلوقتي مبقاش في داعي لشذا، الظاهر ان قدر فدوى هيلازمها حتى لو غيرت اسمها وحياتها ودنيتها كلها، روح دور على شذا يامهران فى حتة تانية، لإنها خلاص مشيت ومبقاش لها وجود، اللى أدامك دلوقتى تبقى فدوى، فدوى اللى ميهمهاش فى الدنيا دلوقتى غير نفسها وبس. قال بقلة حيلة: -وشذا راحت فين؟! قالت: -رجعت لنصيبها.
تقصدين (رحمان)أليس كذلك؟تلقين بها بكل قسوة فى وجهى، أمسك ذراعها بقوة يقول بمرارة: -جبتى القسوة دى منين؟انتى مكنتيش كدة. طالعته بعيون غاضبة وهي تقول: -انتوا السبب، انتوا اللى خلتونى كدة، متلوموش غير نفسكم، أنا بكرهكم، بكرهكم كلكم. عقد حاجبيه قائلا: -كلنا مين؟
كادت أن تقول(أنتم عائلة الهوارى، فأحدكم قتل امى ويريد أن يزوجنى بآخر شاركه الجريمة، وانت ياهواري، من أحببتنى ومنحتنى أملا فى الحياة ثم حين رحلت تزوجت بأخرى ونسيتنى وكأننى لم أكن يوما جزء من حياتك وكأن عيناك لم تعدنى بالكثير، فصارت كل الوعود رمالا تذروها الرياح)ولكنها إكتفت بقول: -الرجالة، مبكرهش فى حياتى أدكم ولو طولت أجرحكم كلكم هعملها، هعملها ومش هندم أبدا. ترك يدها قائلا بجزع:.
-انتى قصدك ان مشاعرك كانت تمثيلية قصدتى بيها تعلقينى بيكى وبعدين تمشى وتعذبينى؟! لم تجبه وإنما طالعته ببرود فأردف قائلا بغضب: -معقول إنى إتخدعت فيكى بالشكل ده، معقول تكونى بالقذارة دى؟ قالت بسخرية:.
-لا، أرجوك، عذاب إيه اللى بتتكلم عنه، إنت مش آخد بالك إن حضرتك معشتش على أطلال حبى لمدة سنة حتى، ده انت إتجوزت علطول وعايش حياتك بالطول والعرض ولا كأنك عرفتنى وحبيتنى زي ما كلامك بيقول، فبلاش تمثل دور الضحية لإنه مش لايق عليك. عقد حاجبيه قائلا:.
-إنتى تخرسى خالص، إنتى متعرفيش حاجة عنى ولا عن مشاعرى، كويس إنى قابلتك من تانى، عارفة ليه؟عشان أبطل الهبل اللى كنت عايش فيه وأفوق، وأقدر مراتى اللى مكنتش عارف أسعدها بسببك انتى وبسبب لعنة حبك، دلوقتى هقدر أكمل وأنا... أمسك رأسه فجأة يضغط عليها بقوة، فعلته تلك مع شحوب وجهه أصاباها بالقلق، فإقتربت منه بسرعة تربت على كتفه قائلة: -مهران إنت كويس؟ نفض يدها عنه قائلا: -بعدى عنى.
تراجعت خطوة بينما عاد ليمسك رأسه بكلتا يديه، وهو يإن لتقول بصوت قلق: -مهران... قاطعها بجلوسه المنهك فجأة فرأت تلك الدماء التى تنزف من أنفه لتقول بجزع: -مهران انت بتنزف.
اقتربت منه تجلس على ركبتيها أمامه وهي تمسك بشالها وتمسح به الدماء من على وجهه ليطالعها بعينيه التى تعلقت بعينيها فتوقف الزمن، لم يعد هناك غضب او لوم او عتاب، لم يعد هناك زيف فى المشاعر، لم يعد هناك سوى شعورهما الذى لاريب فيه، عشق خالص لا تشوبه شائبة، كانت هي اول من قطع تلك العلاقة وهي تبعد ناظريها عنه قائلة: -وطى راسك عشان النزيف يقف. قال بصوت منهك: -شذا، انا... قاطعته قائلة بحزم:.
-قلتلك وطى راسك عشان النزيف يقف. أطاعها بصمت، نهضت تنوى إخبار أحدهم ليساعده فوجدت (محمد)قبالتها يناظرها ببرود، فقالت له بسرعة: -إلحق مهران يامحمد، بينزف مش عارفة ليه؟! إقترب (محمد)من (مهران)يفحصه بسرعة قبل أن يقول: -متجلجش يامهران، الموضوع باذن الله بسيط، لكن عاخدك المستشفى عشان أفحصك ونطمن أكتر. هز (مروان)رأسه ببطئ وهو منهك الجسد و يشعر بوجع فى رأسه لايحتمل، قالت(فدوى): -أنا هاجى معاكم؟
قال(محمد)بإستنكار: -تاجى فين بس؟خليكى إهنه، عشان تبلغيهم باللى حوصل ومتخرعيهمش، الموضوع مش كابير وآنى هبجى أطمنهم بالمحمول. هزت رأسها مرغمة على المكوث، بينما أسند (محمد)(مهران) حتى وصلا إلى سيارة الأول فأجلس الأخير بحرص ثم إتخذ مكانه فى مقعد القيادة راحلا، بينما تبعتهما هي بسرعة وهي تشير لسيارة أجرة، تخبر سائقها أن يتبع تلك السيارة التى غادرت للتو وأن لا يجعلها تغيب عن ناظريه، أبدا.
ماإن غادر (محمد)مع الطبيب، حتى دلفت هي إلى الحجرة متسللة بهدوء، رأته نائما فى السرير، قد عاد اللون قليلا إلى وجنتيه، إقتربت منه تتشرب من ملامحه التى عشقتها دوما، أمسك بيده الرابضة إلى جواره تقول بهمس مرير:.
-سامحنى، أكيد انا السبب فى اللى حصلك، أنا آسفة بس كان لازم اعمل كدة، لازم كنت تحس إنى عمرى ماحبيتك وإنى كنت بضحك عليك وبخدعك، انت خلاص مبقتش لية، بقى قلبك ومشاعرك وحياتك ملك لواحدة تانية، وهي أحق بيك منى، مبقاش ينفع تجمعنا حكاية واحدة، كان لازم تكرهنى عشان تكمل، أنا شفت نظرتك ليها، مفيهاش الدفا اللى بشوفه فى عنيك لما تبصلى، ذنبها إيه إنى حبيتك وانت حبيتنى من قبل ماتشوفها أو تعرفها؟لما إتفاجإت بوجودك وجوازك من بدارة سألت زهرة، حبيت أعرف خنتنى إزاي وليه؟حبيت أتأكد انك لما عرفتنى مكنتش خاطبها وبتلعب بية وبمشاعرى، حكيتلى عنكم وعرفت انت إتجوزتها إزاي، وإيه اللى ممكن يحصل لو إتخليت عنها عشانى، فلازم تنسانى يامهران عشان خاطرها وخاطر عيلتك، وانا كمان لازم أنساك عشانك، أنا مش ورايا غير التار والدم، مش ورايا غير هلاكك وموتك، عيش يامهران، عيش عشانى أنا.
تأملته للحظات قبل ان تميل وتطبع قبلة على جبينه رافقتها دمعة، إستقامت تمسحها بأناملها، تترك يده وتغادر الحجرة بسرعة ودموعها تتساقط على وجهها كشلال متدفق، بينما ظهر (محمد )من أحد الأركان ينظر فى إثرها بعيون غائمة حزنا، قبل أن يجرجر قدميه ويجلس على كرسي أمام الحجرة يستند بكوعيه على فخذيه ويضم رأسه بين يديه، ألما.
إستقبل الجميع (مهران)بالترحاب، والعبرات خاصة والدته ثريا وزوجته (بدارة)اللتان أخذت كل واحدة منهما بذراع له تأبيان تركه او الإبتعاد عنه، مما أثار مزاح الآخرين، إضطرتا (زبيدة)و(نوار)للخروج من حجرتيهما للمشاركة فى إستقبال (مهران)فتعجبت(ثريا)من إستكانة (زبيدة)وإنكسار نظراتها، إلى جانب شحوب (نوار)وهزلانها، تنوى البحث ورائهما ومعرفة السر فى ذلك، تشعر بوجود مشكلة ما تخصهما وتنوى مساعدتهما قدر الامكان، فرغم كرهها لتصرفات (زبيدة)إلا أنها تظل من عائلتها والعائلة شجرة تظلل على أفرادها تحميهم من كل شر وتسندهم وقت الحاجة.
إنفض الجميع وذهبوا إلى حجراتهم بعد أن دلف (مهران)إلى حجرته بينما غادر(عسران) و(عويس)إلى الفندق، ينوى (عويس)ان يفاتح(عسران)لخطبة إبنة الأخير لولده (ناجى)و ظلت ثريا بالمطبخ تحضر الطعام مع (حورية و نفيسة). وجدت (زهرة)زوجها(محمد)يجلس فى حجرتهما، هادئ على غير عادته، إقتربت منه وجلست بجواره قائلة: -مالك ياسى محمد، إيه اللى شاغل بالك و مكدرك إكده؟! طالعها للحظات قبل أن يقول بحزن: -خيك يازهرة.
نهضت قائلة بجزع: -ماله مهران؟إوعاك يكون مرضان وانت عتخبى علينا؟! سحبها من يدها يجلسها قائلا: -إهدى بس، خيك زين، اللى فيه ده شوية سحر، الشيخ وهدان عيخرجه منه بإذن الله. طالعته بحيرة قائلة: -وده اللى شاغلك ومكدرك بالشكل ده؟انت مش جلت حاجة بسيطة؟ شرد قائلا: -انى مش خايف من سحر الشياطين يازهرة، ده مجدور عليه وربنا جادر يرد سحرهم، لكن سحر الإنس كيف بس نرده؟ إزدادت حيرتها قائلة:.
-سحر الإنس، جصدك إيه؟أنى مفهماش حاجة واصل. عاد يطالعها بعينيه قائلا: -خيك عشجان يازهرة. لمعت عيناها قائلة بخجل: -وفيها إيه دى؟ماإنت عشجان ياسى محمد. قال(محمد)بحزن: -أنى عشجان مرتى، حلالى، لكن هو عشجان مرة تانية غير بدارة خيتي. إتسعت عيناها بدهشة قائلة: -مرة تانية، تبجى مين المرة التانية دى وعرفها فين وإزاي، يكونش جصدك نوار، لع، دى... قاطعها قائلا: -خيك عشجان فدوى.
تجمدت ملامحها للحظة قبل ان تنفجر ضاحكة وهي تقول: -فدوى، كيف يعنى عيشجها؟ده لسة عيشوفها امبارحة بس، شكلك جنيت إياك. طالعها بغضب فأسرعت تقول برجاء: -سامحنى يااخوي مجصدش والله، أنى بس مش عارفة اعجل الكلام. لانت ملامحه وهو يقول بمرارة: -اللى معيعرفش هيجول كيف مابتجولى تمام، بس أنى سمعتها بودانى وشفته كيف بيطلعلها، خيك عشجها لمن كان فى روما، جبل ماياجى بلدنا ويتجاوز بدارة. إتسعت عيونها بصدمة قائلة:.
-طب والعمل ياسى محمد؟ده كنه هيبجى خراب مستعجل. اطرق (محمد)برأسه قائلا: -مش عارف يازهرة بس على صدرى هم تجيل ومش عارف آخد نفسي او أفكر منيه، خيتى لو عرفت أو أبوي... قاطعته وهي تمسك بذقنه ترفع رأسه ليطالعها قائلة بحنان: -سيبها لربك يامحمد، جوم إتسبح وإتوضى، زيل عن جسمك همه وابعد عن عجلك الأفكار العفشة وتعالى نصلى وندعى ربنا يفرج الهم وهو جادر يكتب اللى فيه الخير.
هز رأسه وهو يربت على يدها بيده الحرة بحنان قبل أن ينهض ويتجه إلى الحمام بخطوات بطيئة حزينة.
عاد كل من(عسران)و(عويس)من الفندق تحمل وجوهم فرحة المصاهرة مجددا، ليلمح (عسران)(راجى)يجلس أمام المنزل، توقف بالسيارة، قائلا ل(عويس): -إسبجنى إنت ياحاج، أنى ورايا مشوار هجضيه وأعاودلكم، مش هعوج بإذن الله. هز (عويس)رأسه وهو يهبط من السيارة متجها للمنزل، بينما يتابعه (عسران)حتى اختفى داخل المنزل، ثم هبط بدوره يتجه ل(راجى)و يمسك بتلابيبه قائلا بغضب: -عتعمل إيه إهنه يابومة؟إيه اللى جابك ورانا؟
قال(راجى)بجسد هزيل أنهكه الشوق وقلة الطعام: -عستنى سمسى لما تطل وتضوى نهارى عشان تزول العتمة اللى عايش فيها. قال(عسران)بإستنكار: -كنك جنيت، هم ياواكل ناسك، كدامى على الحية أمك، كداااامى. إستسلم(راجى)ليد(عسران)يجرجره خلفه وقد شعر بالضعف، ليضعه فى مكانه بالسيارة ويصعد بدوره إليها يقودها إلى بلدتهم بسرعة وكأنه يسابق الريح.
كانت تجلس منهكة بعد ليلتين قضتهما فى القبور، تصنع العمل ل(مهران)، وتدفنه هناك، طرقات عنيفة على الباب فتحاملت على نفسها ونهضت تفتحه، ولكنه فتح فجأة ووقف (عسران)على عتبته، يمسك بتلابيب إبنها شاحب الوجه مغبر الثياب، ظهر على ملامحها الجزع وهي تجرى عليه قائلة: -راجى، ولدى، عملت فيه إيه ياعسران؟ دفعه (عسران)ليقع بين يديها فاسرعت تسنده و(عسران)يقول:.
-أنى لساتنى معملتش حاجة بس جسما عظما لو جرب من بتنا تانى لأجتله وأشرب من دمه كمانى. قالت (عوالى)بغضب: -جادر وتعملها ياإبن إحسان، جادر تجتله بدم بارد ولا كنك بتجتل حشرة وبتدوسها برجليك، جادر تجتل ولدى اللى ماليش غيره بالدنيا، سندي وعزوتي وناسي، وتحسرني عليه، بس ياترى لو تعرف إن الواد ده من صلبك هتجتله برديك بدم بارد إياك؟!
إتسعت عينا(عسران) بجزع وهو ينقل بصره بينها وبين (عوالى)قبل ان يستقر بصره على (راجى)الذى طالعه بعيون ذابلة وأنفاس متهدجة وجسد على وشك الوقوع أرضا، ليستمع إلى صوت (عوالى)وهي تقول بشماتة: -إيون ياعسران، ملى عنيك منيه، عيشبه جدك صالح الله يرحمه مش إكده، لازمن طبعا مش حفيده، إتطلع ياعسران لولدك منيح، ولدك اللى إتخليت عنه وعن أمه زمان، وجه الوجت عشان تدفع التمن.
كاد (عسران)ان يقع أرضا من هول الصدمة ولكنه إستند على الجدار وألم فى قلبه يزداد، مع الوقت.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الخامس عشر
الحقيقة عندما تباغتك فجأة تكون كالعاصفة، تجتاح الوجدان وتقصف برياحها العاتية جذور قلبك فتقتلعه بقوة وتدخله فى دوامة من الأحاسيس... تثير بركانا من الدهشة التى تمتزج بالغضب والإستنكار... تثير أسئلة عديدة من الأفضل أن يكون إجابتها الآن الصمت... فقد طوى الزمان الذكريات ولم تعد عودة المشاعر بالإمكان.. الحب قد أصبح كراهية، وقست القلوب لتصبح أحجارا قاسية.
لا أحد كسرته الحقيقة مثلى ولا أحد أخرسته برودتها وارتجفت لها أضلعه مثلى، قلبى يإن بلا صوت ويصرخ بلا آهة.. فالحقيقة مؤلمة وثناياي تأسى منها لوعة، والجسد يموت حزنا، ورغم كل ذلك أجدنى مضطر للصمود، فعائلتى مازالت تحتاجنى وماأراه امامى شرا، لابد وأن أتصدى له بكل قوتى. أفاق من صدمته المفجعة على صوتها وهي تقول: -سكت ليه ياحاج؟الجطة كلت لسانك عاد ولا الحجيجة مرة هتحرج جلبك وتخرس حسك؟
طالعها بعيون قاسية، وقد تمالك نفسه، يقول بغضب: -حجيجة إيه ياولية؟بكفاياكى عاد، روحى شوفى حدا تانى تلزجيله المحروس إبنك، أنى ميخرجش من صلبى حدا يهتك الأعراض ويكون جلبه سو إكده، أنى ميخرجش من صلبى غير راجل صوح كيف مهران، أما البغل ده، فبجولهالك أهه من تانى، لو شوفته هوب حدا دارى ولا حدا من عيلتى فهجتله وملوش دية عندى كمانى، مفهوم؟ إستدار يغادر المكان دون أن تجيبه، فقالت بغل:.
-بتخونى لتانى مرة ياعسران، وبتخون ولدك، بتسيب يده وهو فى حاجتك، بس معستغربش لإنك طول عمرك جبان، إخلج لنفسك ألف عذر عشان تتخلى عنيه، إجنع نفسك إنك عتعمل الصوح عشان خاطر عيلتك، سيبنا وإرحل من تانى ياحاج بس وعد منى، العيلة اللى عتهمك أكتر منى ومن ابنك هدمرهالك، وابنك اللى عمن بتتفاخر بيه عخليه كيف الورجة اللى جعطناها من كراس ومبقالهاش عازة غير الرمي، عتشوف كيف راح أسوى فيك وفى عيلتك ياعسران..
لتصرخ بمرارة وهي تضم ولدها خائر القوى إلى صدرها: -عتشووووووف.
كان يجلس شاردا، يفكر فى تلك المفاجأة التى ضربته اليوم فى وجهه، ترى هل فعل الصواب أم أخطأ كما فعل بالماضى؟يشعر بوجود خطب ما، يشعر بأن هذا الذى يدعى (راجى)من صلبه حقا، يشبه كثيرا جده (صالح)كما قالت تلك الحية(عوالى)، ولكن ماذا يفعل تجاه تلك الحقيقة؟هل يعترف به إبنا له ويحطم تلك العائلة التى بناها فى سنوات؟لا يستطيع أن يفعل ذلك مطلقا، سيخسر كل شيئ إن فعل. زفر بقوة، ثم إنتفض على صوت (عويس)وهو يقول:.
-عتجعد لحالك ليه ياحاج؟كنك زهجت منينا إياك. أرغم نفسه على إبتسامة باهتة وهو يقول: -واه متجولش إكده ياعويس، ده انتوا منورين الموكان ومونسينا. طالعه(عويس)بنظرة متفحصة قبل أن يقول: -جواتك حاجة كابيرة مخبيها فى جلبك ومتاويها بين جدرانه، عتفط ع خلجتك ومرايداش تفضل جواتك ياولد عمى. تنهد(عسران)قائلا:.
-الهم ورانا ورانا ياأخوي، معيرضاش يفوتنا، السحر اللى عم يصيب اولادنا ويصيبنا هم ملوش آخر ومعرفش إزاي أجضى عليه وأريح الكل. ربت (عويس)على فخذه قائلا:.
-متشيلش الهم ياأخوي، احنا جنبك وحدك ومعيرتحلناش بال غير لمن نلاجى ولد المحروج اللى عيعمل الأعمال دى وندفنه وهو حي عشان يتعذب كيفنا ومبجاش يإذى حدا واصل، فوج بس وجوم غسل وشك وتعالى نفرحوا الولاد بخبر خطوبة ناجى والمحروسة بتك، عايزين نفرحوا شوية، بكفايانا حزن عاد.
هز (عسران)رأسه ونهض يتكئ على عصاه ببطئ، يمشى بخطوات حزينة تحمل هما لا ينقضى، يتابعه (عويس)وهو يدرك مع كل خطوة ان هناك شيئ قد حدث فى تلك الساعات القليلة الماضية، شيئ كدره وكسر ظهره هما، لايريد البوح به فى الوقت الحاضر ولكنه سيبوح به قريبا، فالهم مثل شيئ سام ابتلعته فوجب أن تلفظه خارجا وإلا دمر جسدك وأفناك رويدا رويدا.
قال(عويس): -خير يابتى؟! نقلت (فدوى)بصرها بين(عسران)و(عويس)قائلة: -الحقيقة أنا حبيت أتكلم معاكم على إنفراد لإنى مش عايزة حد يعرف خالص باللى هقولهولكم ده، ولا حتى طنط ثريا أو ولاد خالى وولادك ياعمى. قال(عسران)بقلق: -جلجتينا يافدوى، جولى يابتى وسرك فى بير غويط ملوش جرار. قالت بنبرات حزينة:.
-مكنش قصدى اخبى حاجة عنكم بس ملقيتش الوقت المناسب اللى أحكيلكم فيه، أنا صحيح اتخطبت لابن عمى رحمان، بس غصب عنى وأنا جيتلكم هربانة من عمى وابنه وطالبة حمايتكم منهم. عقد (عويس)حاجبيه وتبادل نظرات سريعة مع (عسران)قبل ان يعود بنظراته إليها قائلا بغضب: -هم عملوا فيكى حاجة؟هددوكى، إذوكى، غصبوا عليكى كيف يعنى؟ طالعتهما بنظرات محملة بالحزن قائلة:.
-فى البداية، وبعد وفاة والدتى لما عرض علية عم توفيق انى أتجوز ابنه ممانعتش، انا وحيدة وفى بلد غريبة وابن عمى أحسن من الغريب، بس فى يوم سمعتهم بيتكلموا مع بعض، ومن الكلام فهمت إنهم هم اللى... صمتت تبتلع غصة فى حلقها وعيونها تغشى بالدموع، ليقول (عسران)متوجسا: -هم اللى ايه يابتى؟كملى الله يرضى عنيكى. طالعتهم بثبات وهي تقول: -هم اللى قتلوا أمى. ظهرت الصدمة واضحة جلية على محياهما، ليقول (عويس)بجزع:.
-عتجولى إيه يابتى؟حسنة ماتت مجتولة؟وعلى يد توفيج وولده. هزت رأسها ببطئ حزين قائلة:.
-ده اللى حصل ياخالى، لما عرفت الحقيقة هربت منهم ولما لقونى مقدرتش اقولهم انى عرفت والا كانوا هيقتلونى انا كمان، فاستنيت اول فرصة وهربت منهم تانى وجيت على هنا، على بلد أهلى، قلت هلاقى معاكم أمانى اللى ملقتوش فى الغربة، قلت انكم بس اللى هتقدروا تحمونى منهم، لإنهم هيدوروا علية وأكيد هيوصلولى هنا، أنا مكنتش ناوية أقولكم دلوقت، كنت هستنى الوقت المناسب واحكيلكم على كل حاجة، بس لما قلتم من شوية انكم هتبعتوا لعمى عشان يرجع ونعمل فرح جماعى، لقيتنى مضطرة أتكلم.
قال(عسران)بصدمة: -معجول توفيج جتل حسنة، معجولة الغربة عتغير الجلوب وتخلى الدم يبجى مية؟ قال(عويس)بصوت حاد كالسيف يمتلئ بالغضب فى طياته: -عشرب من دمه هو وولده واطفى نارى اللى جادت جوايا، هاخد بتار خيتي منيهم لو هوبوا يمتنا، يمين الله ماعسيبهم الا وهم جاطعين النفس وادفنهم بأرضهم وساعتها هاخد عزا خيتي فى دارى، جلبى جايد نار ياخيتي، جلبى جايد نار يازينة بنتة الجبالى. قالت(فدوى)بألم:.
-من فضلك ياخالي تهدى وتوطى صوتك، انا قلتلك إنى مش عايزة حد غيرنا يعرف. ربت (عسران)على كتفه قائلا: -هدى أعصابك يااخوي، هناخد بتارها وهنريحها فى جبرها بس عايزك تهدى عشان نعرفو نفكروا زين. هز (عويس)رأسه قائلا: -هنبعتله ونجيبه هو وولده وهنجتلهم وناخد بتارنا جبل فرح ناجى، انى مش عفرح غير لمن آخد بتاري ياعسران. هز (عسران)رأسه قائلا: -عيحصل يااخوي، عيحصل.
لتطالعهما (فدوى)بقلب شعر لأول مرة منذ زمن بأنه صار خفيفا غير مثقل بحقيقة أخفتها بطيات قلبها خوفا وأطلقتها حين شعرت، بالأمان.
جلست تطالع تلك الأزهار الجميلة بشرود حزين، طيفه يحوم حولها، تراه دوما ولكنها لاتستطيع الوصول إليه، يحيطه الجميع عاداها، زوجته ووالدته وأخواته، يساعدونه جميعا ولكنها لاتقوى على مد يد العون إليه، مكبلة بقدرها مرغمة على المكوث ثابتة لا تتحرك وهي ترى ضعفه، تبغى ان يكون كتفها هو من يستند عليه ويدها هي من تساعده على الحركة، ولكن عيون زوجته وبعض المحيطين به تقذفها بنظرات الشك فى اهتمامها به، تتساءل عن دوافعها، تجبرانها على إلتزام جانبها وإدعاء التجاهل وعدم الاهتمام، وكم يصعب على المحب الإدعاء بالعكس، ولكن ذكرياتها المحطمة وتلك الغصة بحلقها والتى تخبرها بإستحالة ذلك الحب يساعدانها بقوة، خاصة و(مهران)يعاملها ببرود شديد وتجاهل متعمد منذ عودته من المشفى.
أفاقت من شرودها على صوت (عزام )وهو يقول: -علطول إكده شاردة منينا يابت عمتي.
طالعته بهدوء يخفى حنقها من ملاحقته الدائمة لها منذ عودتها لبلدتها، يظهر اهتمامه ورغبته فيها دوما بكلماته المبطنة ونظراته الصريحة الراغبة، رغم انه رجل متزوج من إمرأة جميلة، تصده(فدوى) دوما بهدوء وروية، لا تبغى أن تفقد آخر سبل الأمان بالنسبة إليها، لا تبغى أن تخلق نزاعا لا داعي له، فيبدوا ان نسوة العائلة لايتقبلنها بينهن، يغرن على أزواجهن بالتأكيد، رغم أنه لاذنب لها فى أنها تجذب إليها الرجال كما تجذب النار الفراشة، ولكنها هي من تحترق.
أشاحت بوجهها قائلة بهدوء: -لما بفكر بحب اكون لوحدى عشان أقدر آخد قرارى صح. جلس قائلا: -طب ماتشاركينا أمورك، مش جايز نجدروا نشورك وندوكى النصيحة الزينة. نظرت إليه قائلة بإبتسامة باردة: -مع الأسف مبحبش أشارك حد فى قراراتى، قرارى لازم يكون من هنا، من هنا وبس. كانت تشير لعقلها وهي تتحدث، ثم اردفت وهي تنهض قائلة ببرود: -عن إذنك، هروح لطنط ثريا لإنها كانت عايزانى.
تركته مغادرة بهدوء، يغلى غيظا لتجاهلها إياه على هذا النحو وصدها الدائم له، بينما هناك من كانت تتطلع إليهما وتنقل بصرها بين تلك المغادرة بملامح حانقة وبين ذلك الذى تجهمت ملامحه، تدرك ان تلك الفتاة أصبحت خطرا على زواجها لابد لها من الخلاص منه قبل فوات الأوان.
أخذ نفسا من سيجارته وأطلقه بقوة، مازال مختنقا ولم تريحه أنفاسها كما إعتقد انها ستفعل، هبط من سريره وإتجه إلى الشرفة يحاول أن يدخل بعض الهواء إلى صدره المختنق، فرك سيجارته فى سور الشرفة، ثم القاها بقوة، يود لو ألقى بهمومه مثلما ألقى بسيجارته بعيدا، لتختفى وتريحه بدورها.
حانت منه نظرة إلى الحديقة فرآها تغادر بخطوات سريعة حانقة بينما يتابعها(عزام)بعينين غاضبتين وملامح متجهمة، عقد حاجبيه بشدة، يتسائل عما دار بينهما من حديث، يشعر بغيرة حارقة تسود كيانه، تبا، ماذا دهاه؟ ألم يقسم على نسيانها؟! ألم يعد نفسه أنه سيقتل حبها فى قلبه؟! سيحرقه حتى يصير رمادا تزروه الرياح؟! ألم يقسم على أن يكون لزوجته قلبا وقالبا؟! ولم يفى بكل قسم أقسمه حتى الآن..
فحتى زوجته، لم يعد يقربها وقد بات طيف حبيبته يحوم بالاجواء، يجبره على أن يكون راهبا فى محرابها وفى محرابها سيظل متعبدا حتى تنظر فى أمره او يفنى ويزول ويظل عشقه ذكرى لا تزول، يرى الظنون تعصف بقلب زوجته وتطل بعينيها، يتعلل بمرضه فتتظاهر بالتصديق ولكنه بات يدرك سكناتها، هي لا تصدقه ولكنها تتظاهر بتصديقه إرضاءا له وهذا يزيده ألما ويغمره فى أتون الذنب وجحيم الأسف.
زفر بقوة قبل ان يدلف إلى الحجرة ويرتدى ملابسه إستعدادا للخروج فقد بات لايطيق وجوده معها فى مكان واحد، ولكنه توقف وظنونه تجتاحه، إلى أين المفر؟وهو فى كل مكان تطارده بطيفها.. ألم يكن مريضا فى المشفى وحلم بها بجانبه؟! ألم تمسك بيده وتسأله السماح؟! ألم تقل له أنها تحبه وأنها خدعته فقط لإنه لم يعد لها، بل صار لأخرى غيرها؟! ألم تخبره بأنها ماإبتعدت سوى لإنها تخشى عليه من هلاك وثأر يحاوطها من كل جانب؟!
ألم يتخيل كل ذلك واهما ليعلل لها خيانة تمزق قلبه وتحطم كيانه؟! تصرفاتها تدحض أوهامه.. تجبره على أن يكذب عيناه التى رأت نظرة العشق ممتزجة بخوف ولهفة فى عينيها حين رأته ينزف دما.. يكذب قلبه الذى يقسم ان عشقها كان صادقا فى روما وكان صادقا فى تلك اللحظة التى جثت فيها بجواره تمسح دمه بشالها..
جلس على سريره مجددا وألقى بظهره على سطحه، يغمض عيناه حتى تختفى صورتها التى تمثلت أمامه فوجدها هناك أيضا، بين جفونه، وكأنه حقا لا مهرب منها سوى إليها هي، شذاه.
قالت (بدارة)ل(زهرة):.
-والله ياخيتي كيف مابجولك إكده، كنها ساحراله، من لمن إطلع فيها وهو بجى واحد تانى غير سى مهران اللى عرفته وحبيته، علطول شارد فى أوضتنا ومعيطلعش لية واصل، ولما باجى اتحدت وياه عيبصلى وكأنه مشايفنيش، طب اجولك حاجة، إنتبهى إكده لما يجمعنا موكان وشوفيه كيف عم يسترج النظرات ليها وكنها عتجذبه كيف النداهة لجل يطلع فيها، وشوفيها كمانى كيف عتبحلج فيه كن مفيش حدا غيره فى جمعتنا، أنا جلبى جايد نار يازهرة، الغيرة عتاكلها وكل، وجتتي عتجيد فيها النار.
لم تستطع (زهرة)ان تنكر كل ماتخبره بها زوجة أخيها، فهي تلاحظ كل ذلك بنفسها إلى جانب ذلك الحديث التى تبادلته مع(محمد)وجعلها تدرك قصة العشق بين أخيها و(فدوى)، لا تستطيع ان تلومهما على مشاعرهما التى تبادلاها قبل أن تفرق بينهما القسمة ويبعدهما النصيب، ولا تملك سوى التعاطف معهما ومع (بدارة)التى لاتعلم شيئا عن ماضيهما لتربت (زهرة )على يدها قائلة:.
-خليكى عاجلة يابدارة ومتعمليش مشكل من مفيش، كلاتها يامين وهنعاودوا البلد وكل حدا فينا هيبجى فى ناحية، ده غير إنها موعودة لابن عمها وفرحها عليه عن جريب مع فرح خيتي وناجى خيك. تنهدت (بدارة)قائلة: -ماهو ده اللى عيصبرنى يازهرة، جاعدة أجول كلاتها يامين وعتغور من كدامى وعرتاح من الهم التجيل ده بجى وتبرد نارى. دلفت(فضيلة)فى تلك اللحظة تزبد وترغى وتتمتم بكلمات حانقة فتطلعا إليها بدهشة قبل أن تقول (بدارة):.
-تجصدى فدوى، هي معتعتاجش حدا واصل، مهران جوزى وخيي عزام، خلى بالك يازهرة لتلوف على محمد هو التانى وتلهفه منيكى. نهضت (زهرة)قائلة:.
-لا حول ولا جوة إلا بالله، بعدوا الشيطان عن عجولكم وسيبوا البنية فى حالها، انى مشفتش منيها حاجة عفشة لاسمح الله وكلاتها يامين وهتتجوز وتعاود بلاد برة من تانى، متخربوش على نفسيكم أومال، انى ماشية هروح أشوف امى فى المطبخ جايز عتعوز منى أساعدها فى حاجة، محمد فى الفندج مع ناجى عيطمنوا عليه وياجوا وانتوا كل واحدة تروح تشوف جوزها وبطلوا كلامكم الماسخ ده عاد.
غادرت تتابعها عيون (بدارة)و (فضيلة)التى قالت بسخرية: -بكرة عنشوفك لمن تلوف على جوزك، وجتها عتجولى ان احنا كنا على حج وياريتنى سمعت حديتهم.
كان يناديها كالمغيب... نوار انتى فين يانوار؟! لو لفوا الدنيا كلاتها معيلاجوا حدا بيحبك كدى.. ميتة هتاجى وتبردى نارى ياميتي وزادى.. اتأخرتى علية كتير وجلبي عيحس كيف اليتيم فى العيد.. لافرح عيدخله ولا سعد، بس حزين وشايل الهم... عاوديلى يانوارة جلبى وردى فية الروح... عموت بلاكى يامهجة الجلب.
نزلت دموع (عوالى)وهي تستمع إليه بينما ترفع عن جبهته تلك القماشة المبللة، وتغمسها فى بعض الماء، ثم تضعها على جبهته مجددا لتخفف حرارته المرتفعة بشدة بينما ينادى على حبيبته بصوت يقطع نياط قلبها، تبكى قلة حيلتها امام مرض ولدها بسبب فقدانه حبيبته.. مأساتها تتكرر من جديد...
فعندما تعشق وتفقد من تحب، يقتل العشق قلب وجسد العاشقين، فمنهم من يستسلم لسكينه ليذوى ويموت ومنهم من يقاتل كي يعيش كما فعلت هي ولكن يبدو ان ولدها اضعف منها قوة وأقل همة، ولكنه يظل ولدها الذى ستحارب الجميع من اجله وستنتقم له ولها، وستبدأ بحرق قلوبهم عندما تحرق ما يعدونه فخرهم وأغلى مالديهم، لا، ليس ولدهم، فسينتظر قليلا حتى يكتمل عمله الذى تعده بكل ماتملك من سحر لتقضى تماما عليه وستكتفى الآن، بفندقهم.
كان الجميع مجتمعون يتناقشون فى تفاصيل حفل (ناجى) و (راوية)التى ظهر عليها الخجل، فإكتفت بإبتسامة خجول وإيماءة برأسها على مايقولون، بينما يتطلع إليها( ناجى )بنظرات مسترقة، يزداد إعجابا بها مع كل لحظة تمر، حتى جاء الحديث عن المسكن، فأخبرهم (ناجى)انه خلال السنة الدراسية يقطن فى الاسكندرية، بجانب مكان عمله بالجامعة وفى الإجازة يعود لبلدته وبالتالى ستعيش معه (راوية)، تتنقل بين الاسكندرية وكفر الجبالية، كادت (ثريا)ان تعترض، لا تريد ان تبتعد عنها ابنتها مدة طويلة بين جنبات بلد غريب عنها، ولكن نظرة واحدة من (عسران)جعلتها تبتلع إعتراضها بجوفها وتحمد الله على زواج ابنتها الصغرى كما زوجت الكبرى من قبلها وقد كادتا ان يظلا إلى جوارها ويحصلان على لقب (عوانس هوارة)، لولا ان أبطل هذا السحر الذى أصابهما على يد أولاد (الجبالى)، وإلا لكانت الآن مع (زبيدة)تلف بإبنتيها على أضرحة اولياء الله الصالحين تسألهم صلاح حال بناتها كما تفعل زبيدة مع (نوار) منذ يومين، رنين هاتف(مهران)جعله يستأذن بالرد عليه فنهض مبتعدا عنهم قليلا، عادوا إلى حديثهم بينما تعلقت عيون(فدوى)ب(مهران) تتابع ملامحه التى تحولت فى البداية من ملامح مصدومة إلى غاضبة ثم أغلق الهاتف لتشيح بنظراتها عنه على الفور ولكنها تقابلت مع عيون أخرى رمقتها بغيرة امتزجت بحدة جعلتها تطرق برأسها فى خجل، بينما إقترب (مهران)منهم قائلا بسرعة:.
-أنى لازمن أروح الفندج وحالا، بعد إذنيكم. نظر إليه الجميع ليدركوا من ملامحه الشاحبة أن هناك خطب ما، قال والده متوجسا: -خير ياإبنى؟! حوصل حاجة؟ قال (مهران): -جناح فى الفندج النار جادت فيه ولولا العمال اتصرفوا بسرعة وطفوه كان الفندج كله إتحرج بس ربك لطف. تنفس الجميع الصعداء بينما أردف (مهران) قائلا:.
-المشكلة إنه الجناح الملكي واللى الامير حاجزه آخر السبوع ده عشان يجعد فيه وهو ومرته، ولازمن يكون جاهز جبل ماياجى ومفيش مهندس ديكور هيجدر يخلصه فى يامين تلاتة بالكاتير، فعروح أشوف حدا يجدر حتى لو هندفع الطاج تلاتة، المهم نوفى بإلتزاماتنا. لم تدرى كيف واتتها الشجاعة لتقول بثبات: -وليه ندور على مهندسين ديكور وأنا موجودة؟زودونى بعماله كويسة وفى خلال يومين بالكتير هرجع الجناح احسن من الأول بإذن الله.
رمقها الجميع، مابين عيون دهشة وعيون حاقدة وعيون لاتدرى لما يزداد صاحبهما إعجابا بها بينما من المفترض أن يكرهها خاصة فى تلك اللحظة التى ادرك فيها أنه أحبها دون أن يعلم عنها شيئا، سوى أنه عشق روحها فحسب. قال(عسران)بدهشة: -انتى مهندسة ديكور يابتى صوح؟ هزت رأسها بثبات بينما تتقافز دقات قلبها توترا من تلك النظرات التى انصبت عليها، ليردف (عسران)قائلا: -وعتجدرى تجهزى الجناح فى يامين؟
هزت رأسها مجددا قبل ان تقول: -اقدر بس يكون تحت إيدى عمالة كويسة ونشيطة زي ماقلت. قال (عزام): -صديجى إهنه عنده شركة توظيف عمالة منيحة جوى ومشهورة كمان بنشاط عمالها و إلتزامهم كمانى، أجدر أكلمه وأخليه يشيعلي احسن ناس عنديه، يشتغلوا تحت يدك حالا يابت عمتى. هزت رأسها بينما قال(عويس)بإستحسان: -عتستنوا إيه عاد؟شهلوا وخلصوا جناح الفندج، ربنا يوفجكم كلياتكم وييسر طريجكم ويسهل مهمتكم ياولادى.
تبادلت كل من (فضيلة)و(بدارة)النظرات بخوف، يخشون اجتماع تلك الفتاة مع ازواجهما بعيدا عن أعينهما، بينما لعن(مهران)كل مايحدث واضطراره لإصطحابها معه من أجل سمعة فندقهم التى على المحك هنا، يود لو كان هناك حل آخر ولكن للأسف، لا يوجد.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السادس عشر
بين العناد والإعتذار يقف الحب بكبرياء بين القلوب الحائرة المترددة، بين الإقتراب والنفور، هناك حيث يرقد العتاب ويرتعد الشوق بين الوجدان، بيت خال من ساكنه حين صاحت الغيرة أنا أحترق تردد صداها بداخله أين سكنايّ؟
كانت (فدوى) تجلس على يسار (مهران) داخل السيارة ينسحب كيانه كله لها، حاول تشتيت أفكاره فقال: لضيق الوقت أنا مضطر أقبلك لكن مش هبقى متساهل في الشغل! قالت بهدوء: ولا يهمك أنا محترفة! قال بسخرية: واضح، أنا مصدقك لو ماكنتيش محترفة ماكنش عَلِم. قالت: إيه ده اللى عَلِم؟! قال بمرارة شابت صوته: جرحك يابشمهندسة! صعب أثق فيكي تاني، انتي رجعتي ليه؟ قالت ببرود ظاهري بينما تمزق القلب بين ضلوعها:.
أنا كنت مضطرة أمشي زي ما اضطريت ارجع بلدي ودي حاجة ماتخصكش، الأفضل اننا نحافظ على مسافة بينا! كلماتها أشعلته غضبا فأوقف السيارة عنوة جانب الطريق وقد صرخت مكابحها هلعا كحالها، التفت نحوها بينما هي كانت تردد: انت مجنون يابني ادم إنت؟ هدر قائلا: مسافة بينا! انتي بتستهبلي؟ قاعدة فى نص بيتي وبتقولي مسافة، أنا فضلت أعذرك لآخر لحظة كنت مستني تفسير بسيط منك، حياتي وكل مشاعري كانت واقفة عندك.. فقاطعته بتهكم:.
آه عشان كدا اتجوزت بالسرعة دي، عشان تلاقي اللي تنسيك مش كدة؟! أمسكها بعنف من ذراعها فاندفعت نحوه حتى تقابلا وجهيّهما التعيسيّن وقال: إنتي السبب! إنتى وبس! إنتي اللي سبتيني من غير كلمة تقنع قلبي ينساكي، بدارة أحسن منك مع إني مقصر في حقها، بس قلبي، قلبي.. ترك يدها واستدار بعنف وهو يضرب على المقود فقالت بصوت متحشرج يختنق بالدموع: آسفة إني جرحتك. أدار محرك سيارته بعنف وهو يقول: اخرسي!
صدح هاتفه باسم (عزام) فرد عليه باقتضاب: أيوة ياعزام!خير؟ قال( عزام): مافيش ياخوي بس لجيتك راكن حدا الطريج جلت يمكن العربية عملتها معاك! قال(مهران)بحنق: لاه العربية تمام أنا وجفت عشان كنت بتكلم في التلافون، أنا وراك هنتحدت لمن أوصل! أقفل الخط وهو يتمتم: -مش ناجصني غيرك تتحشر في أمري! بعد لحظات قليلة وصلا إلى مقر الفندق فقالت بصوت يرتعش: هو دا أوتيلك؟ فأجابها بتهكم:.
عارف مش جد مجامك بس معلاش، خليها من روحك المرة دي! طالعته بخيبة وأردفت: - أنا سألت عشان كنت نازلة فيه مش عشان ماعجبنيش. تقدمته إلى الداخل بثقة بينما يتبعها بخطى متثاقلة وقد تذكر كيف لمح طيفها فيما مضى وتحسر على مافاته من لقائها، فزادت غصته حين تذكر أيضا أنها مرتبطة فارتدى قناع البرود مرة آخرى ولحق بها إلى الداخل حيث ينتظره( عزام) في قاعة الإجتماعات برفقة بعض الأشخاص الذين أرسلتهم شركة العمالة..
جلست على رأس الطاولة فحدق فيها بامتعاض لكنها لم تعطه بالا، فترأست الإجتماع قائلة: أهلا بيكم ياجماعة، أظن الأستاذ عزام عرفكم شوية عن الشغل ومع كدا حابة أضيف حاجة، إنى شخص صارم جدا في الشغل فلازم نتعاون مع بعض لأن الوقت مش فى صالحنا.. قاطع كلامها دخول السكرتيرة وهي تضع بعض الملفات على الطاولة وهي تقول: الملفات اللي طلبتها مهران بيه! تشكرها (مهران )ثم أردف:.
دول تصاميم الجناح، التصميم الداخلي والديكورات كمان قبل مايتحرق! تصفحه العمال كما فعلت (فدوى) ثم قالت بابتسامة: طيب! احنا هنبتدي شغل من هنا، يلا بينا نتفقد الجناح! وقفت وهي تشير بيدها ثم تقدمتهم إلا أن( مهران) استوقفها قائلا: ثواني ياحضرة المهندسة! ثم التفت نحو (عزام )مخاطبا إياه: -اسبقنا ياعزام لو سمحت عايز أناقش حاجة مع البشمهندسة وهنلحقكم..
امتثل (عزام) لطلبه بينما وقفت( فدوى) وسط الغرفة تحدق فيه بحيرة ثم قالت: خير يامهران بيه، فيه حاجة؟ فقال وهو يقترب منها: إنتي إهناه مش فى بلاد برا عشان إكده خدي بالك من تصرفاتك، مش مسموح تديري ضهرك وتمشي كل ما جيه على بالك، انتي حرمة والحريم ماتسوجش الرجالة، عايزة تفرجيهم على الجناح اطلبي منهم باحترام يتجدموا وتمشي معاهم ياوراهم، مش جدامهم يامحترمة! طالعته بشرر وزفرت بضيق وهي تمسح على جبينها:.
بص عشان نتفاهم! مالكش دعوة بتصرفاتي مادام ماتمسش شغلك، أمشي ورا ولا قدام دا مش معيار للاحترام يا مهران بيه! واستدارت مغادرة فأمسكها من ذراعها بغضب حتى مال جسدها نحوه وأردف: عجباكي نظراتهم لجسمك مش إكده؟ بس حركاتك دي ماتمشيش اهناه، فاهمة ياهانم! حاولت تحرير ذراعها من قبضته متألمة فاقتربت أكثر منه وهمست بصوت خفيض: - إنت بتوجعني.
شعر بتدفق كبير لعاطفة كان يكبتها منذ أن رآها وعلى حين غرة ترك يدها وعانقها بقوة وهو يردد: -إنتى واجعاني كمان، انتي كسرتي جلبي مرتين، مرة بغيابك ومرة برجعتك، أنا كل اللي عملته إن حبيتك ماستاهلش الوجع ده منك! لو قالت أنها تحبه.. لو قالت أنها آسفة من أجله.. لو قالت أنها ستظل بين ذراعيه إلى الأبد.. لو قالت أنها تموت من تجاهله..
لكان طوى صفحة الغياب والأوجاع وصفح عنها، لكنها أبعدته عنها بقوة دون أن تقول شيء وسارت بعيدا عنه مغادرة وبقي متجمدا مكانه يحاول لملمة كبريائه المبعثر بسبب عنادها مرة آخرى.. استقلت (فدوى) المصعد وضغطت على أي زر لاح أمامها وجلست القرفصاء تحاول عدم البكاء والثبات لكنها انفجرت صارخة تضرب على جدار المصعد بقوة وهي تردد: - مابقاش ينفع ياميران، مابقاش ينفع!
توقف المصعد فخرجت منه لتجد نفسها تقف على سطح الفندق، تناست ألمها وهي تتطلع في المنظر الساحر للمدينة الذى امتزج بطوابع عمرانية مختلفة، جمال النيل ونقائه والشمس المنعكسة على صفحته، أشجار النخيل المتناثرة على الطرقات، العصرنة والأصالة في قالب واحد هكذا كانت تفكر، عليها توليد تصميم ساحر يعبر عن هذه المدينة، قلب (ميران)!
عادت إلى المصعد وتوجهت إلى الجناح الملكي حيث ينتظرها العمال رفقة (عزام)، تأسفت من أجل تأخرها وهي تطالع بذهول السواد الذي يجثم داخل هذه الغرفة بالرغم من تنظيفها الجيّد فقالت بحماس تخاطب مسؤول العمال: أستاذ مرتضى هنبتدي الشغل حالا، عايزاكم تشيلو سيراميك الجناح كله.. واقتربت من أحد الجدران الفاصلة وأردفت: -الحيطة دي عايزة تهدوها كمان.. وأشارت إلى أخرى مردفة: -ودي كمان.. ابتسم( عزام )قائلا:.
احنا إكده بنهدو البيت لمهران مش عنبنيه! فردت عليه بحزم: هو اللي يهمه يستلم الجناح جاهز، نبني نهد دا شغلنا بقى! وعادت تخاطب العم (مرتضى): ولما تخلصوا ادهنوه كله بالأبيض طبقة سميكة نداري بيها السواد دا كله، أكون أخترت السيراميك اللي هتركبوه وألوان الحيطان! أومأ العم (مرتضى) برأسه وقال: كنت فاكر الشغل هين بس إكده احنا تلاتة بس ومش عنلحج، لازمن أطلب عمال كمان عشان نتساعد ونخلصوا بسرعة.. فقالت:.
لازم ياعم مرتضى. نظرت إلى ساعتها وأردفت: -معاكم للمغرب تعملوا اللى طلبتوا و أكون عملت التصميم الأولي، الله يقويكم أنا هنا بالردهة، أي حاجة تعوزوها ابعتلي فورا.. شخصيتها القيادية ألهبت قلب (عزام) فأصبح يلعن (فضيلة )في سره ويتحسر على عمره الذي ضاع مع جاهلة مثلها..
كان بالردهة طاولة مستديرة كبيرة عليها مزهرية مثبتة بها زهور بيضاء من الغاردينيا، أزاحتها جانبا وأمرت الموظف بإحضار كرسي مناسب لارتفاع هذه الطاولة ويكون مريحا للعمل كذلك، فأحضره لها رفقة حاسوب محمول وبعض الأوراق والأقلام والمستلزمات التي تحتاجها فجلست تباشر عملها باحترافية كما فعل عمالها أيضا، وضعت سماعاتها ورفعت صوت الموسيقى فصارت كأنها في عالما آخر تسبح في خيالها الخصب فقط..
وقتذاك كان (مهران) يجتمع بأمن الفندق من أجل مناقشة سبب الحريق وعلى عاتق من يقع، أعادوا فحص كاميرات المراقبة جميعها لكنها كانت خالية تماما من أي دخيل، لا يظهر سوى اندلاع الحريق وتبقى كيفيته مجهولة وبما أن الأمر كذلك لم يستطع معاقبة أحد، اقترح مسؤول الأمن أن توضع كاميرا داخل الجناح لتفادي حادثة كهذه، لكن (مهران) رفض رفضا قاطعا واعتبره انتهاكا لخصوصية النزيل وفضل أن يتكبد كل مرة خسارة تغيير الجناح على أن يقوم بفعل كهذا...
انفض الإجتماع فجلس( مهران )يتابع عمله بقلب مفطور يلعن ضعفه أمامهت، يستطيع أن يكون باردا جلفا غير مبال مع أي شخص ممكن إلا هي، تنهار لها عواطفه ولا يستطيع التحكم بها وهذا الشعور يغيظه تماما.. أنهى عمله بعقل شارد ثم توجه إلى الخارج لكنه لم يستطع المغادرة تسمر واقفا يقاوم رغبته في الصعود إلى الطابق الثالث كي يرى ماتقوم به أو بالأحرى يراها، قاطع شروده أحد الموظفين وهو يقول:.
مهران بيه فدوى هانم طالبة حضرتك فوق! كأنه انتشله من الغرق فهرول معه دون أن يتفوه بكلمة..
كانت( فدوى) غارقة بين كومة أوراق ومساطر الألوان والأشكال وتجلس بقربها سكرتيرته وعاملة أخرى انتفضتا واقفتين حين لاح لهما مهران وهو يقترب وقف قبالتها متحاشيا النظر إلى وجهها بينما كانت تحدث السكرتيرة وهي تشير إليها بقائمة الطلبات وتشير إلى العاملة الأخرى أن تقدم طلبية سريعة بالقائمة التي أعطتها إياها وما إن غادرتا حتى انتبهت ل(مهران) فقالت بعمليّة:.
مهران بيه بعتذر لحضرتك إني جبتك هنا بس بجد ماأقدرش أتحرك من مكاني.. فقال غير مبال: المهم يكون ورا طلب حضوري شيء مهم! فأشارت إليه أن يقترب منها وهي تدير حاسوبها وجهاز الكمبيوتر الآخر نحوه، انحنى إلى مستواها فراحت تشرح له عن فكرتها في التصميم بينما هو مرتبك من هذا القرب منها.. تبا! كيف تنجح النساء دائما في التعامل مع أمور القلب بصلابة كهذه لدرجة أنك تشعر أنهن كائنات بدون قلب..
هذا مافكر به( مهران) و(فدوى) تتحدث في الكثير من الأمور دون أن ينتبه فقالت: مهران بيه إنت معايا؟! قال بهدوء: كملي يايشمهندسة أنا سامعك! فعادت تقول: -التصميم القديم للجناح كان تصميم فخم وراقي جدا وعصري جدا بس مافيهوش ريحة مصر، ريحة المدينة وطابعها الجميل كأنه مزيف.. فأنا عايزة اعمل حاجة عصرية بس فى نفس الوقت تكون ليها أصالة يعني لما يدخل النزيل هنا يحس حاله فعلا بمصر.. فقال (مهران) بتهكم:.
-نعمل ايه حضرتك؟ نجيب كام جاموسة ونعمله مراجل وغيطان درة مثلا! فغرت( فدوى )فاهها وجحظت عيناها مستغربة وهي تقول: معقول! يعني جمال البلد حصرته فى الجاموس والمراجل والغيطان! شكل بلاد برة غيرتك ياميران! حدقا ببعضهما لثوان حين قالت (ميران )بعفوية كأن الزمن عاد بهما، كأنهما لم يبتعدا ولم تتشكل بينهما مسافات من الألم والعتاب والشوق والغيرة.. أطرقت برأسها بحسرة ثم استأنفت حديثها:.
الأثار والضريح والنيل والجو الساحر ساعة المغرب وبعدين شروق الشمس، كأنه ولادة جديدة للروح.. فقال (مهران) مستفزا إياها: لما انتي شيفاها إكده اتغربتي ليه كل السنين ديه؟ قالت ببرود: خلينا في الشغل لو سمحت! اللي عايزة أقوله إني هدمج الطابع الفرعوني مع الطابع العصري وأختار ألوان من وحي المكان أنا عملت التصميم ده شوف كدا وقولي رأيك...
تصميم بتقنية ثلاثية الأبعاد يظهر على الشاشة لم يكن تاما لكنه كان رائعا، تأمله (مهران) بدهشة واضحة كما كان يتأمل( فدوى) التي تطالعه بثقة ثم قال: هتقدري تخلصيه في يومين دا شغل كتير! فقالت وهي ترسم شيء على ورقة أمامها: مش هنام، هلحق كده بإذن الله! رغما عنه قال باهتمام: ليه ترهقي نفسك إنتي أؤمريهم وهم يعملوا اللي عايزاه! طالعته بخجل وحزن: أنا مدينة ليك.. فانتصب واقفا وقال بحدة:.
دا شغل وهتاخدي حقك، هستلم الجناح بعد 48 ساعة وإلا هيبقى في عواقب، كملي شغلك! طالعته بأسى وهو يغادر مكسور الخاطر ولكنها وعدت نفسها أن تصد ضعفها وضعفه من أجل زوجته التي تعلم يقينا أنها تحبه ولا ذنب لها في غلطتها، عادت لعملها تحاول التحكم بارتعاشة يدها والدموع المترقرقة بين جفنيها...
لم يكن الحب يوما سببا للحياة لكنه أصبح كذلك داخل قلب (راجي) الملتهب كجسده المُصهد بالحمى واسمها على لسانه يهذي به صحوة وغفلة..
لم يكن شيء ليصلحه إلا( نوار) لكن قلب والدته الذي غلفه الحقد والطمع والذنوب لم يكن ليشعر بألمه وحاجته لحبيبته لم يكفيها أنها من تسببت في فراقهما فراحت تقصد أبواب الساحرات في البلدات المجاورة من أجل أن تجد حلا لتعلقه ب(نوار) كما كانت( زبيدة )تفعل مع( نوار) من ضريح إلى ضريح تبتهل إلى الأسياد لينصلح حال إبنتها..
القناعة الجاهلة التي تسيطر عليهما لتصليح الأذى بأذى أشد منه ستكون له عواقب وخيمة، كلتاهما كانتا تعلمان يقينا أن ذلك سيحدث قريبا، جعلا من أولادهما شبحيّن مشوهيّن يفران إلى النوم حتى تتلاقا روحهيّما لينعمان ببعض السلام... بدأ( راجي )يستعيد عافيته كلما سقته والدته بذاك المشرب اللزج المسكر الذي أتت به من الشيخة (سماحات) من الكفر المجاور...
بدأت تطمس عقله كي لايستمع إلى أفكاره ونبضاته وتستطيع السيطرة عليه من جديد. أما( زبيدة ونوار) فعادتا إلى منزلهما بعدما سمح لهما (عسران )بذلك، كانت( زبيدة )تتجرع مرارة كل مافعلته بأخيها وعائلته، كانت تطوف متوسلة على الأضرحة تطلب السماح والصلاح فتعود خفيفة الكاهل لبعض الوقت، كانت تريد الصلاح فتفاجأت بحمل (نوار )فانعزلت كل منهما في غرفتها وحالتهما مزرية تكادان تموتان قهرا..
انسحبت (نوار) من سريرها وقصدت المطبخ تبحث عن أي شيء ينهي عذابها، لقد خانها الجميع وتبرأوا منها، لم تشعر مع والدتها أنها مميزة وأنها فتاة تستحق الحب وحين وجدت ذلك بقلب( راجي ) ومالبثت تشعر بالسعادة حتى تحطم قلبها، لقد عانت بؤس كل من ارتبطت بهم، كانت ابنة أبيها التي ينفر منها الجميع، وإبنة أمها التي لاتستحق أن يحبها أحد، وحبيبة (راجي )الذي جعلها منبوذة ومحتقرة، بأي حياة ستحيا الآن!
لم تجد سوى حبل غسيل بين أدوات الغسيل فأخذته بين يديها وسارت هائمة لتتقاطع طريقها مع والدتها فتسمرت كلتاهما تنظران إلى بعضيهما بعتاب، ارتجف قلب( زبيدة )وهي ترى الحبل بين يدي إبنتها، اقتربت منها وأمسكتها من يدها تسحبها إلى الأريكة فجلست هي وجلست( نوار) أرضا ساهمة ويدها تشد على الحبل ويد والدتها تشد عليها وأخرى تربت على رأسها قالت (زبيدة) بمرارة:.
رايدة تهماليني بروحي يانوار؟ طب كيف أعيش وروحي متعلجة فيكي! إنتي زعلانة مني؟ ماتزعليش، ربنا خابر إن رايدالك الصوح و يعز عليا غلطك.. طب أجولك على حاجة، دام رايدة ولد عوالي أنا موافجة ومستعدة أجف فى طريج خالك وأي حدا في البلد يتكلم بضهرك كلمة.. نظرت إليها (نوار) بدهشة فاومأت( زبيدة )برأسها:.
-موافجة يابتي بس رايداكي تفتحي عنيكي كويس عشان تشوفي الحجيجة، راجي كيفه كيف أبوكي عيفضل عاره ملازمك وملازم ولادك طول عمرهم، الناس عتستعر من نسبهم وجربهم، ماتكونيش أنانية كيفي، ركبت راسي على عباس وعماني كلامه الحلو رميت كل حاجة ورايا وتبعته، وبالاخير طلع واطي مايسواش شلن مصدي بسوج الرجال، زييه زي راجي عتتمرطي وياه انتي وعيالك، الفرج اللي بيني وبينك إن أنا عندي خيّي وجف فى ضهري بس انتي مالكيش حدا غير نفسك، وانتي بتوجعي ماعتلجيش حدا يسندك ويحوش عنك وبكره ولادك لمن يكبرو عيكرهوكم انتو التانين ولو اتحمالتي كل حاجة مش عتتحملي كره ولدك..
فكرى زين يانوار لو لسه رايداه روحيله ورجعيه لجارك، دام حياتك متعلجة فيه روحيله! قبلت رأسها وانتشلت الحبل من يدها ثم تركتها وغادرت إلى غرفتها بحسرة قلبها بينما لم تبارح (نوار) مكانها كأنها تمثال ملح.
حلّ المساء فشعر (مهران) بالجوع يقرص معدته، لم يستطع مغادرة الفندق و(فدوى) به فعاد إلى مكتبه يحاول الإنشغال بأي شيء، اتصل بزوجته وأخبرها بتأخر عودته قليلا فكانت متفهمة كفاية لكي لاتجادله بالأمر، طلب وجبة خفيفة لكنه تذكر أن لربما (فدوى) هي أيضا جائعة تواصل العمل على بطن فارغة، استقام وعاد إلى الطابق الثالث وهو يعزم أن يدعوها لتناول الغداء...
كان العمال قد أنهوا عملهم المبدئي وجلسوا جميعا على الأرض يتناولون طعام الغداء برفقتهم( فدوى) تجمع بينهم أحاديث وضحكات لطيفة، وقف( مهران) يراقبهم من بعيد وقلبه يعتصر غيرة كانت تكفي لإضرام نار أخرى تحرق الفندق بأكمله نزل بغضب وما أن خرج من المصعد حتى ناداه موظف الاستقبال لكنه دون أن ينظر باتجاهه قال: أجل أي حاجة أنا مضطر أطلع. لكن صوتها أوقفه بعد بضعة خطوات...
شعر كأنه يحلم فالتفت ببطيء ليتفاجأ وهي تتجه نحوه تفتح ذراعيها بخطوات ثقيلة وهي تبتسم: ناتالي؟! أسرع باتجاهها يعانقها ويقبل يدها وجبينها وهي تعانقه بشوق أم لإبنها فقال: أنا بحاجتك كثيرا، من الجيد أنك أتيّتِ عزيزتي! قالت بحنان: اشتقت إليك، لم أستطع التفريط بك أيها الوسيم! قال يخاطب أحد العمال: هات ياابني شنط الهانم للعربيّة! ثم أردف:.
-ستفرح أمي كثير للقائك لقد تحققت أمنيتها أخيرا، يا إلهي كم أنا سعيد لتواجدك عزيزتي أكاد لا أصدق أن هذا حقيقة! سارت بجانبه وهو يلف ذراعه حولها ببهجة بينما تقول: لقد حلمت بك أيها الوسيم وقلقت كثيرا من أجلك فرأيت من الأفضل أن تراك عيناي لأطمئن.. فقال بامتنان: لقد أحببت هذا الحلم الذي أرسل بك إلي، سأخبرك شيء سيفرحك، ستحضرين زفافا مصريا تقليديا، يالك من محظوظة!
ابتسمت ناتالي بطيبتها المعهودة وهي تستقل السيارة برفقته وقالت: أمنيتي تتحقق إذن! كان الطريق إلى البيت حافلا بالأحاديث الممتزجة بفرحة غامرة لهذا اللقاء المفاجيء حتى استقرا بالبيت فرحت العائلة ب(ناتالي) كأنها واحدة منهم فغمر البيت جوا بهيجا غير معتاد.. شعرت( ناتالي) بالألفة بينهم مع أنها تزورهم لأول مرة لكنهم ممتنون لها لاعتنائها ب(مهران) كل تلك السنوات التي قضاها بالغربة..
القلوب لاتختار ساكنيها هم من يستوطنونها بنقائهم و أرواحهم الطيبة.