اغلقت دارين هاتفها وهي تتنهد بألم... لقد جاءت هذه الصورة لتصفهها وتذكرها بحقيقتها المرة... فتلك الاحلام الوهمية التي بنتها لن تتحقق مهما حصل... أيهم الهاشمي... الرجل الوحيد الذي حرك بها مشاعر بدائية لم تفطن لها من قبل... والرجل الوحيد الذي ولج الى قلبها...
بإبتسامة واحدة منه يشتت كيانها بأكمله... وبنظرة واحدة يتوقف قلبها عن نبضاته... هي لم تعرف هذا الشعور من قبله... والاكيد أنها لن تتعرف عليه سوى معه... سارت خارج الجامعة متجهة الى مقر عملها... ذلك العمل الذي أحبته يوما وظنت به ملاذها الامن وطريقها للشهرة... اليوم اصبح حبلا طويلا يقيد عنقها وقلبها بقسوة...
وصلت الى مقر عملها والذي لم يكن سوى شركة عالمية مشهورة في مجال الغزل والنسيج... هي تعمل عارضة لديهم ولكن كونها ما زالت في بداية طريقها فلم تجد عملا لديهم سوى ان تكون عارضة للازياء الداخلية على امل ان تنال اعجابهم وتصبح احدى عارضاتهم الاساسيات...
هذا العمل وفر لها الكثير فهي أصبحت قادرة على توفير مصاريفها واحتياجاتها كما سمح لها بإكمال دراستها في واحدة من ارقى جامعات البلاد... دلفت دارين الى مقر الشركة واتجهت بسرعة نحو مكتب مديرها نافضة تلك الافكار السيئة من عقلها... فمديرها طلبها شخصيا كما اخبرتها السكرتيرة لتذهب اليه على الفور...
توقفت أمام باب مكتبه واخذت نفسا عميقا وهي تدعو ربها أن يسير كل شيء على ما يرام... طرقت على باب غرفته ليأتيها صوته سامحا لها بالدخول ففتحت الباب ودخلت اليه بخطوات بطيئة متمهلة نحوه... ابتسم لها المدير الثلاثيني مرحبا ثم اشار لها أن تجلس على الكرسي المقابل له لتفعل دارين ما طلبه... جلست دارين أمامه وهي تشعر بالإرتباك الشديد يسيطر عليها، ارتباك بسبب ما سيقوله مديرها لها...
وجدته يفتح درج مكتبه ويخرج منه مجموعة من المجلات ويقلب بها قبل ان يدير احداهن نحوها فتظهر صورتها على المجلة ليقول بنبرة يملؤها الاعجاب: منذ قدومك الى هنا والجميع يتحدث عنك يا دارين، عن مدى اجتهادك في عملك، وجديتك فيه... ابتسمت دارين في نوع من الراحة ثم قالت بخجل طفيف: أشكرك كثيرا على هذا الاطراء الجميل...
دارين، يجب ان تعلمي بأننا نقدر المجتهدين والطموحين، ونساعدهم في تحقيق طموحاتهم وأحلامهم، طالما يقدمون ما يضيف لنا ويفيدنا... شعرت دارين بأن هناك شيء مهم ينتظرها وبالفعل شعورها كان في محله حيث أكمل المدير بجدية: لذا نحن وجدنا انك تستحقين ان تكوني في صفوف عارضاتنا الاساسيات، حيث ستبدئين في عرض الملابس الرئيسية لدينا... حقا؟!
قالتها دارين بذهول حقيقي ليومأ المدير برأسه فتبتسم دارين بسعادة قبل أن تقول بإمتنان حقيقي: أشكرك كثيرا، أشكرك للغاية... أكمل المدير كلامه بحماس: كما أننا سنعطيكِ مكافئة عالية، هذا بالاضافة الى زيادة كبيرة في مرتبكِ... شعرت دارين بأن قلبها يكاد يتوقف من شدة السعادة... اما المدير فإبتسم لها وأكمل: اتمنى يا دارين ان تجتهدي في عملك اكثر حتى تنالي المزيد... اكيد، سأجتهد اكثر و أكثر...
قالتها بصدق قبل ان تسمع المدير يكمل: هناك شيء مهم اخر يجب ان تقومي به... ما هوو..؟! سألته دارين ليجيبها المدير: يجب أن تختاري مدير اعمال لك، يدير اعمالك فجميع العارضات يتخذن مدير أعمال خاص بهن يساعدهن في تنظيم امور عملهن... حسنا سأتخذ بالتأكيد، ولكن أنا لا أعرف مدير اعمال مناسب لي... سوف اجد لك أحد مناسب واخبرك.. شكرته دارين مرة اخرى ثم استأذنته وخرجت من مكتبه وهي تشعر بأن الحياة ابتسمت لها أخيرا...
ولجت ميرا الى الكافيه الذي اتفقت على لقاء مازن به.. بحثت بعينيها عنه لتجده جالسا في أحد اركان الكافية على احدى الطاولات يتناول كوبا من القهوة... ابتسمت ميرا بحب ثم ما لبثت ان سارت نحوه حتى وصلت إليه... رفع مازن بصره نحوها ليجدها أمامه فابتسم لها نصف إبتسامة قبل ان يشير لها ان تجلس أمامه... شعرت ميرا بشيء ما غير طبيعي به...
ابتسامته لم تكن صافية كالعادة... وكأن هناك شحوب وضيق غريبين يسيطران عليه... مازن، هل انت بخير؟! وكأن سؤالها جاء في وقت فأجابها مازن بعدما وضع كوب القهوة على الطاولة أمامه: كلا ، لست بخير.. شعرت ميرا بالقلق يجول في خاطرها فقالت بسرعة: ماذا حدث؟! لماذا تبدو مكتئبا هكذا؟! أجابها وهو يتنهد بصمت: هذا موضوع طويل يا ميرا يصعب شرحه الان...
صممت ميرا ولم تشأ أن تضغط عليه، حل الصمت بينهما لفترة قصيرة حتى قطعه مازن وهو يسألها: ماذا أردتِ أن تقولي يا ميرا؟! تحدثي، أنا أسمعك... ضمت ميرا قبضتي يديها الى بعضيهما البعض ثم قالت بينما توتر جسدها بالكامل لا اراديا: في الحقيقة اردت إخبارك بموضوع مهم للغاية... اومأ لها مازن برأسه طالبا منها إكمال حديثها، ما ان بدأت ميرا في حديثها حتى قاطعها رنين هاتف مازن الذي حمله على الفور واجاب عليه: اهلا ميري، انا بخير، لا تقلقي علي، كل شيء سيكون بخير، ثقي بي...
كانت هذه الكلمات المختصرة الذي قالها مازن في مكالمته القصيرة لكن ميرا شعرت بأن وراء هذه الكلمات الكثير فسألته بصوت حذر: هل هذه صديقتك؟! بل حبيبتي... قالها مازن مصححا لتتشكل الصدمة والذهول بوضوح على ملامحها... ميرا، هل انت بخير؟!
ابتلعت ميرا ريقها وقد أفاقت من صدمتها أخيرا فقالت بنبرة جاهدت لتخرج طبيعية: من هي؟! أقصد يعني لم تخبرني عنها من قبل... ابتسم مازن لها وقال: لأنه لم تأتِ فرصة مناسبة لأخبرك عنها... سألته ميرا بصوت مبحوح: وهل أتت الفرصة المناسبة الان؟! ماذا تريدين أن تعرفي؟! سألها بحيرة لتجيبه بصوت خافت متألم: كل شيء، اريد ان أعرف كل شيء...
ابتسم مازن مرة اخرى بتلك الابتسامة التي تقتلها ثم قال: اسمها ميري، مسيحية امريكية، عمرها تسعة وعشرون عام، تعرفت عليها بالصدفة في أحد المؤتمرات التي أحضرها، تكونت بيننا صداقة جميلة سرعان ما تحولت الى حب، أحببتها بشدة و... قاطعته ميرا بنبرة حزينة: لما لم تتزوجها اذا.؟!
صمت لوهلة يستوعب سؤالها قبل ان يكمل بشرود: انتظرت أن يأتي الوقت المناسب لأعرض عليها الزواج، وبالفعل عرضت عليها الزواج قبل ان أاتي الى هنا وهي وافقت، لكن عندما أخبرت أهلي برغبتي للزواج بها رفضوا بشدة، رفضوا فورا دون حتى أن يسمعوني... لماذا؟! لأنها مسيحية أليس كذلك.؟! اومأ برأسه واكمل: وأجنبية ايضا... تطلعت اليه ميرا بحيرة ولم تعرف ماذا تقول، هل تواسيه أم تواسي نفسها؟! مازن انت...
قاطعها بإنفعال شديد: سأتزوجها يا ميرا، سأتزوجها مهما حدث... أدمعت عيناها بقوة وهي تستمع الى ما يقوله، إصراره على حبيبته ورغبته بها دونا عن اي شيء اخر... لما عليها أن تكون تعيسة حظ لهذه الدرجة.؟! الشخص الوحيد الذي أحبته طوال حياتها يعشق غيرها... يحارب لأجلها بينما هي تحارب نفسها لتنساه... أي حظ بشع تملكه هي؟! تزوجها يا مازن، تزوجها طالما تحبها...
قالتها أخيرا قبل ان تحمل حقيبتها وتسير بعيدا عنه، هناك سمحت لنفسها أن تبكي، طالما اصبحت وحيدة، انهارت باكية وهي تلعن حظها العاثر الذي وضعها في موقف كهذا...
دلف كاظم الى المنزل ليجد والدته واخته في المطبخ، حيث يجهزان طعام الغداء، اقترب من والدتها وطبع قبلة على جبينها قبل ان يسألها: كيف حالك يا ست الكل.؟! اجابته والدته وابتسامة ترحيب تزين ثغرها: بخير يا حبيبي... اقترب من اخته وقال بحنو بالغ: وكيف حال أميرتنا الصغيرة؟! ابتسمت له سلسبيل وقالت: بخير أخي العزيز... نقل كاظم بصره بين الاثنين للحظات قبل ان يسأل فجأة: أين الاء؟! اجابته والدته بضيق خفي: انها ما زالت في غرفتها...
رد كاظم بدهشة وإستنكار: ألم تنزل من الغرفة ابدا طوال اليوم؟! اجابت سلسبيل نيابة عن والدتها: كلا أخي، نحن لم نر وجهها منذ مساء البارحة... اومأ كاظم برأسه متفهما ثم استأذن من والدته وخرج من المطبخ لتقترب سلسبيل من والدتها وتقول بصوت خافت: لقد تضايق كثيرا حينما علم أنها ما زالت في غرفتها...
لترد الأم موافقة على كلامها: معك حق... يبدو ان ست الحسن والدلال لا تريد رؤيتنا... قالتها سلسبيل وهي تقشر الخيار لتقول الأم بدورها: فلتخسأ، هل تظن بأنني سأدللها هكذا كثيرا، انا فقط سأتحملها الايام القادمة لانها ما زالت عروس، لكن بعدها لن اسكت ابدا...
ابتسمت سلسبيل بخبث فيبدو ان والدتها لم تحب تصرفات عروس اخيها مثلها تماما... اما كاظم فاتجه الى غرفة نومه وولج اليها ليجدها مظلمة كما تركها صباحا... اتجه نحو الشبابيك وفتح البرادي ليسطع الضوء قويا في المكان... اتجه بعدها نحو الاء التي كانت تحاول ان تضم وجهها في الوسادة حتى لا يصل ضوء الشمس إليها... اقترب منها ووقف أمامها قبل ان يهز كتفها بيده وهو يهتف بها بصوت عالي قليلا: الاء استيقظي، هيا يا عروس، استيقظي حالا...
فتحت الاء عينيها لتصطدم بعيني كاظم اللتان تتطلعان إليها بنظرات متجهمة... اعتدلت بسرعة في جلستها وقالت: كاظم، ماذا حدث؟! اجابها وهو يشيح بوجهه بعيدا عنها: ما حدث ان وقت الغداء قد حان وانتِ ما زلت نائمة... مسحت على وجهها بكفي يديها ثم قالت بصوت ناعس: لم انتبه الى الوقت، أخذني النوم...
قال كاظم بنبرة قوية حازمة وهو ما زال مشيح بوجهه بعيدا عنها: يحب ان تنتبهي مرة اخرى، يجب ان تنتبهي يا الاء... لماذا تحدثني وانت تنظر الى الجهة الاخرى هكذا.؟! سألته بنرفزة من تصرفه هذا ليرد دون ان يحرك وجهه نحوها: انظري الى وضعية ملابسك وستعرفين لماذا لا انظر إليكِ! اخفضت الاء بصرها نحو الاسفل وأخذت تتطلع الى ملابسها لتنصدم بقميص بيجامتها الذي فُتحت ازراره الاولى لتظهر من تحته صدرها بشكل مثير و واضح...
اغلقت الاء بسرعة ازرار قميصها وهي تشعر بالإحراج الشديد قبل ان تهمس بخجل فطري: بإمكانك ان تنظر الي الان... استدار كاظم نحوها وقال بجدية حانقة: اسمعيني يا الاء، هناك امور يجب ان تقومي بها كونك اصبحت إمرأة متزوجة من رجل مثلي... وما هي هذه الأمور؟!
اجابها وهو يعض على شفته السفلى: يجب ان تستيقظي مبكرا وتعاوني سلسبيل في امور البيت... ماذا تعني بأمور البيت؟! انا لا افهم عليك... سألته بغباء حقيقي ليرد ببديهية: تنظيف المنزل والطبخ وغيرها... اشارت الاء لنفسها قائلة بعدم تصديق: وهل تظن بأنني سوف أقوم بأعمال كهذه؟! هل تظن بأنني خادمة لديك يا كاظم؟! اجاب كاظم: وهل عملك في منزل زوجك يجعلك خادمة يا مدام... ولكن...
قاطعها كاظم بحسم: لا يوجد لكن يا الاء، هناك امور واجب عليك القيام بها، هل فهمت؟! ولكن انا لا استطيع القيام بهذه الأمور... قالتها بصدق ليهز كاظم رأسه بتعب قبل ان يقول: سوف تتعلمين، مع مرور الوقت سوف تتعلمين... تطلعت إليه الاء بعدم اقتناع ليقول هو منهيا هذا الموضوع: انهضي الان وغيري ملابسك حتى ننزل سويا ونتناول طعام الغداء...
وقفت فرح أمام الثلاجة الموجودة في المطبخ وهي تشعر بالحيرة الشديدة... لا تعرف ماذا يجب أن تتناول الان فهي جائعة للغاية ولم تتناول شيئا على العشاء... نعم منذ ان جاءت الى هذا المنزل وهي لم تتناول الا القليل من الطعام، فهي تخجل أن تأكل على راحتها أمامهم... والان بما أنه الجميع نائم ولا يوجد احد مستيقظ سواها و زوجها فبإمكانها ان تتناول ما تشتهي من الطعام... زفرت أنفاسها بإحباط وهي تفكر بأنها تشتاق لطعام والدتها كثيرا...
ثم ما لبثت أن لمعت عيناها وهي تتذكر أنها ستذهب إليهم غدا بسبب عمل ضروري لأدهم هناك... أدهم زوجها البارد الذي يثير جنونها واستفزازها بغروره وبروده... هي تحاول تحريك القليل من الشعور داخله هذا اذا كان يمتلك شعور من الاساس! كانت تفكر وهي تتناول طعامها المكون من توست صلب مع شرائح الجبنة... لمعت بعينيها فكرة مثيرة فسارعت لتنفيذها وهي تعيد التوست الى مكانك والجبن في الثلاجة...
سارت بسرعة نحو الطابق العلوي حيث توجد غرفتها مع زوجها المغرور... وما ان وصلت اليها حتى صرخت بإسمه قبل ان تقتحم الغرفة... أاااادهم... صرختها جعلته ينتفض من مكانه قبل أن يضع حاسوبه بجانبه ويقفز متجها نحوها لتدلف الى الغرفة وهي منهارة وترتمي بين أحضانه... ماذا حدث؟!
سألها بفزع وهو يحاول تهدئتها لتجيبه من بين شهقاتها المتتاليه: فأر، فأر في المطبخ... لم يستوعب في بادئ الأمر ما قالته... ماذا تقولين؟! فأر، فار يا ادهم، لقد رأيته بأم عيني... فأر، هل هذا البكاء والانهيار كله بسبب فأر..
قالها مذهولا لتحرك رأسها وهي ما زالت بين احضانه بينما عطره الرجولي يتخلخل انفاسها فيثير بها مشاعر غريبة تشعر بها لأول مرة... شعرت بصدره يعلو ويهبط تدريجيا فمالت برأسها قليلا وهو يحاول كتم ضحكته لتهتف بتعجب: لماذا تضحك؟! ثم ما لبثت ان احتدت ملامحها وقالت بنبرة عصبية بعدما حررت جسدها من بين احضانه: هل تضحك عليَّ؟! سيطر على ضحكاته اخيرا ليقول بجدية: في الحقيقة يبدو لي الامر مضحكا قليلا، فراعية غنم مثلك لا يجب ان تخشى الفئران...
انا لا اخاف منها وإنما أشعر بالقرف والاشمئزاز حينما اراها... همهم ببضعة كلمات غير مفهومة لتسأله بضيق: ماذا قلت؟! اجابها وهو يتجه نحو الكنبة: قلت أنني سأخبر الخادمة غدا لتبحث عن هذا الفأر وتخرجه من المنزل... عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بدهشة: يالبرودة أعصابك يا هذا، ستنتظر الى الغد، انهض وابحث عن الفار واقتله قبل ان يهرب الى مكان أخر... قال أدهم وهو ما زال يعبث بحاسوبه دون أن ينظر إليها: هل تريدين مني أن أترك عملي ومشاغلي وأبحث عن الفأر خاصتك...
لم تتحمل فرح بروده المستفز فقالت بغضب كبير: انت حقا رجل بارد! رد أدهم عليها دون أن يرفع انظاره من على حاسوبه الشخصي: أعلم هذا... بالكاد استطاعت ان تكتم غيظها وهي تجلس على سريرها تتطلع إليه بنظرات متوعدة... سمعته يقول فجأة: جهزي نفسك، غدا مدعوان لدي صديق لي على العشاء...
ألن نذهب غدا الى القرية.؟! سألته بإحباط ليرد بجدية: سنذهب بعد الغد... اومأت برأسها متفهمة قبل ان تمدد جسدها أسفل غطاء السرير...
على مائدة العشاء جلس جابر ووالدته ووالده ينتظران ان تأتي ليلى لتتناول طعامها معهما... جاءت ليلى وهي تحمل بيدها صحن بطاطس مقلية ثم وضعته على المائدة وقالت: عن اذنكم، لا شهية لدي بتناول اي شيء... هل أنتِ بخير؟! سألها جابر بإهتمام واضح لتوما برأسها دون أن ترد ثم تتحرك متجهة الى غرفة نومها... ما هذه التصرفات السخيفة يا جابرر؟! من تظن نفسها لتمتنع عن تناول طعامها معنا.؟!
قالتها والدة جابر بنبرة عصبية ليرد جابر محاولا تهدئة والدته: اهدئي امي، ان ليلى متعبة قليلا وبحاجة الى الراحة، هي بالتأكيد لا تقصد شيئا من عدم تناولها طعام العشاء معنا... تقصد او لا تقصد، هناك اصول يجب إحترامها... شعر جابر بالحرج منها بينما قال الاب بدوره: لا تفعلي هذا يا إمرأة، ابنك رجل وسوف يعرف كيف يتحدث معها ويؤدبها...
أشاحت الأم وجهها بضيق ليقترب جابر منها وينحني أمامها قائلا: لا تغضبي علي يا امي ارجوكِ... ردت الام بجدية: اجلبها الى هنا ودعها تتناول طعامها معنا بعدما تعتذر إلينا... نهض جابر من مكانه وقال بسرعة وهو يومأ برأسه: حاضر، سوف تأتي الى هنا وتعتذر منكما، هل مطلوب مني شيئا أخر.؟! أدبها جيدا ودعها تتصرف بأدب وحذر معنا... هز جابر برأسه موافقا على كلامها قبل ان يتجه نحو غرفته...
فتح باب الغرفة ودلف الى الداخل ليجد ليلى نائمة على سريرها ويبدو أنها تغط في نوم عميق من شدة تعبها... جلس بجانبها على السرير وأخذ يهزها من كتفها لتستيقظ اخيرا، فتحت ليلى عينيها الخضراوتين لتتفاجئ بجابر أمامها، اعتدلت في جلستها وقالت متسائلة: ماذا حدث يا جابر؟! لماذا تنظر إلي هكذا؟! اجابها جابر بنبرة متضايقة: بسبب تصرفاتك يا ليلى، كيف تتصرفين بهذا الشكل مع والدي؟!
حاولت ليلى تذكر أي تصرف سيء فعلته لكن بلا فائدة لتهمس له في النهاية وهي تشير لنفسها: مالذي فعلته أنا لتقول لي هذا.؟! أجابها بجدية وغضب: كيف ترفضين البقاء على العشاء معنا؟! لم تحترمي وجود والدي حتى، تصرفتي وكأنه لا يوجد أي احترام لهما... أنا، أنا فعلت كل هذا... رددتها بذهول وهي تشير الى نفسها ليكمل جابر: انهضي فورا واعتذري منهما... واعتذر منهما أيضا!
قالتها ليلى بعدم تصديق محاولة ان تستوعب ما يتفوه به زوجها لينهض جابر من جانبها ويقول بنبرة أمرة: لا تكثري الكلام، هيا انهضي ونفذي ما قلته... انا لا اصدق ما تطلبه مني يا جابرر، أنت تتعامل معي وكأنني مذنبة بحقهما... قالتها بيأس منه ومن تصرفاته لتجده يرد من بين أسنانه: انتِ اسأتِ لهما حينما لم تحترمي إياهما... نهضت من فوق سريرها صارخة: هذا كله لأنني لم أتناول الطعام معهما... اخفضي صوتك...
نهرها بقوة لترد عليه بعناد وتحدي: لن اخفضه يا جابر، ولن اعتذر منهما، ولتفعل ما شئت... وقبل أن تكمل حديثها كانت يده تصفعها على وجهها بقوة... وضعت كف يدها على وجهها وهي تنظر اليه بعدم تصديق... سالت الدموع من عينيها بغزارة لتقول بصوت باكي: تضربني يا جابر... وأحطم رأسك ايضا...
مسحت دموعها بكفي يديها قبل ان تقول بنبرة حاقدة: هذا كله لأجل الست الوالدة، حتى تفتخر بإبنها أليس كذلك؟! اخرسي يا ليلى، اخرسي ولا تجعلينني أتصرف معك بطريقة لن تعجبك بتاتا... عضت على شفتيها بقوة وهي تقاوم دموعها التي بدأت تهدد بالإنهمار من جديد بينما خرج جابر من الغرفة وهو يسب ويلعن حظه...
في صباح ألبوم التالي... وقف أيهم امام المرأة وأخذ يمشط شعره بعناية... وضع الكثير من عطره المفضل ثم خرج من غرفته مسرعا ليجد والدته في وجهه... صباح الخير حبيبي... صباح الخير ماما، ماذا تفعلين هنا منذ الصباح؟! سألها بإستغراب شديد لترد ببساطة: جئت لأراك واطمئن عليك، أصبحنا لا نراك هنا سوى بالصدفة... انا بخير كما ترين...
قالها بسرعة وهو يرغب في الهروب من أمامها لتشعر هي بذلك فتهمس بضيق: ما بك يا أيهم؟! لما تبدو وكأنك تريد التخلص مني.؟! اجابها أيهم بأسف: أسف ماما ولكن لدي محاضرة مهمة، ولا يجب أن اتأخر... اومات الأم برأسها متفهمة ثم فسحت له المجال ليغادر بسرعة قبل ان تتبعه بأنظارها وهي تهتف في داخلها بتفكير: هناك شيء ما متغير بك يا ايهم، هل هي بوادر العشق يا ترى؟!
اما أيهم فقد ركب سيارته وانطلق مسرعا نحو الجامعة... هو بالفعل مستعجل لكن ليس لاجل المحاضرة بل من أجل رؤيتها... نعم يشتاق لها بقوة... ويريدها بنفس القوة... تلك الفتاة العجيبة التي احتلت كيانه بأكمله وسرقت النوم من عينيه لليال طويلة...
اوقف سيارته في كراج الجامعة وهبط منها واتجه بسرعة نحو قاعة المحاضرات، لسوء حظه لم يجدها بها، بدأ يلقي محاضرته على أمل أنها ستأتي فيما بعد، انتهت المحاضرة ولم تأت هي! شعور مليء بالإحباط سيطر عليه، لقد انتظرها طويلا ليراها و يمتع عينيه بالنظر إليها... حمل اوراقة و حاسوبه الشخصي وخرج من القاعة بينما عيناه تبحثان عنها...
كان يسير متجها الى مكتبه حينما لمحها اخيرا تجلس في النادي على أحدى الطاولات وجل تركيزها منصب على مجموعة من الملازم أمامها... ابتسم براحة وهو يتأملها من بعيد قبل ان يخفي ابتسامته ويتقدم نحوها... كانت منهمكة في دراستها حينما شعرت بظل طويل يتكون أمامها... رفعت بصرها قليلا لتنصدم به أمامها... أيهم، أقصد دكتور أيهم...
قالتها بصدمة من وقوفه أمامها بهذا الشكل لتجده يسألها بملامح متجهمة: لماذا لم تدخلِ المحاضرة؟! أجابته وهي تتفحص المكان حولها داعية ألا يراهما أحد: لدي امتحان مهم، قررت أن أذاكره بدلا من حضور المحاضرة... وماذا عن المحاضرة المهمة التي أضعتيها؟! انها محاضرة مهمة للغاية... أرادت ان تصرخ بوجهه ألا يتدخل بها ويكف عن إقحام نفسه في حياتها لكنها تراجعت وهي تجيبه بنبرة جافة: لا تقلق علي، انا أستطيع أن ادبر نفسي... كما تريدين...
قالها بإقتضاب وهو يتجه بعيدا عنها خارج النادي فقد ضايقته نبرتها الجافة معه... اما هي فقد شعرت بتأنيب ضمير شديد فهو لا دخل له بما يحدث ولا يستحق أن تتحدث معه بهذا الشكل... حاولت أن تشغل نفسها بالمذاكرة ولا تضع تركيزها معه لكنها لم تستطع... قررت أن تذهب إليه وتعتذر منه عما حدث... وصلت الى غرفته ووقفت أمامها للحظات...
أخذت نفسا عميقا قبل ان تطرق على الباب بخفة ليأتيها صوته سامحا لها بالدخول... دلفت الى الداخل لتجده ينظر إليها بنظرات حادة أخرستها فورا... ماذا تريدين؟! سألها بحدة جعلتها ترغب بالاختفاء من أمامه... انا جئت لأعتذر منك، انا حقا اسفة...
قالتها بنبرة مرتجفة خافتة لتجده يتنهد بصوت مسموع قبل ان يمسح وجهه بكفي يديه محاولا أن يهدأ من عصبيته قليلا.. حسنا، هل تريدين شيئا أخر؟! المتعجرف المغرور لم يسألها حتى عن سبب اعتذارها... كلا... اجابته وهي ترفع ذقنها عاليا قبل ان تتحرك خارج المكان وهي تلعن نفسها لأنها اعتذرت له...
وقفت ليلى أمام مرأتها وهي تحاول اخفاء تلك الكدمة الزرقاء التي طُبعت على وجهها... سمعت صوت حماتها تنادي عليها فزفرت أنفاسها بضيق قبل ان تتجه خارج الغرفة... نعم عمتي... قالتها وهي مخفضة رأسها نحو الاسفل لتتطلع حماتها الى الكدمة الزرقاء على وجهها وهي تبتسم بإنتصار... هيا ابدئي بعملكِ اليومي...
حاضرر... قالتها ليلى بإذعان قبل ان تسمع حماتها تقول: ولا تنسي أن تخفي هذه الكدمة بالمكياج، فاليوم سوف يأتين صديقاتي لرؤيتك وتهنئتك، لا يجب أن يرونكي بهذا الشكل المخزي... هذا الشكل المخزي بفضل ابنك... قالتها ليلى بنبرة قوية وهي ترفع رأسها عاليا لترد حماتها عليها: لقد فعل هذا من اجل تأديبك، لو كنت استمعتِ لكلامي ما كان ليحدث بك هذا... هل أنت سعيدة بما حدث معي؟!
قالتها ليلى مصدومة من قسوة هذه المرأة وضميرها الميت لترد حماتها ببرود: نعم سعيدة فإبني رجل يعرف كيف يؤدب زوجته... بهذه الطريقة... قالتها وهي تشير الى الكدمة بإنفعال قبل ان تردف بكره: كم أنتِ قاسية القلب... نهضت حماتها من مكانها وقالت بنبرة محذرة: اضبطي لسانك يا ابنة زهران، انتِ بالفعل قليلة الادب... انا لست بقليلة الادب يا هذه...
وترفعين صوتك مرة اخرى بكل وقاحة؟! قالتها الأم قبل أن تصفعها على وجهها... اتسعت عينا ليلى بذهول قبل أن تهتف بها: كيف تجرؤين على شيء كهذا؟! أنتِ بالفعل امرأة عديمة الاخلاق والضمير.. ليلى... تصمنت ليلى في مكانها وهي تستمع الى صوت جابر الذي تقدم نحوها وهو يستمع الى ما تقوله والدته: تعال يا جابر، تعال واسمعها بنفسك وهي تشتم والدتك... جابر انا.. اخرسي...
قالها بصوت حازم قبل ان يمسك يدها ويسحبها خلفه، دخل بها الى غرفتهما وهو ما زال ممسكا بيدها ضاغطا عليهما بقوه، دفعها بقسوه شديده بعيدا عنها حتى كادت ان تقع أرضا الا انها تماسكت في اللحظه الاخيره... نزل بصفعه قويه على وجهها أدمت وجنتها البيضاء، وضعت كف يدها على وجنتها بينما انسابت دموع لا اراديه من عينها، تحدثت بصوت باكي لماذا تضربني؟
أضربك لأنك تستحقين هذا، بل وأكثر أيضا... انت حيوان ومتخلف... صرخت به بنفاذ صبر وقد طفح الكيل لديها مما زاد غضبه اشتعالا فتقدم نحوها وصفعها مرة ، اثنتين ، ثلاثه حتى خرت الدماء من فمها، ثم قبض على شعرها بعدها بيده فصرخت بالم اه..، اتركني... انا حيوان ومتخلف اذا... انا لم اقصد...
لم يمنح لها الفرصه لتبرر بل دفعها بقوة على السرير وتقدم نحوها، وقف للحظات بجانبها هاتفا بها: انت بالفعل بحاجة لاعاده تربيه فيبدو ان والديك فشلوا في تربيتك، لكن أعدك بأنني سآعيد تربيتك من جديد... تطلعت اليه بنظرات خائفه سرعان ما تحولت الى اخرى هلعه وهي تراه يخلع حزامه ويلف على يده... ارجوك لا، اتوسل إليك لا تفعلها، ارجوك سامحني...
كانت تتوسّله ببكاء تترجاه ان يرحمها الا انه لم يأبه لأي من توسلاتها فنزل بالحزام على جسدها يضربها بعنف ولم يكتفِ بهذا بل بدأ يضربها بيده مفرغا غضبه بها بينما علا صوت صراخها واسغاثتها ارجاء المكان، كانت تصرخ بوجع لاذع وهي تشعر بجسدها يتكسر بين يديه... وفِي الخارج كانت تقف والدته وعلى شفتيها ابتسامة شماته وهي تردد في داخلها قائلة: احسنت يا ولدي، تستحق هذا...
في منزل حميد زهران... كان الجميع يجلس على مائدة الطعام يتناولون عشائهم حينما رن جرس باب المنزل... نهض الاب من مكانه ليفتح الباب بعدما قال لهم: ابقوا انتوا في أماكنكم، سأرى أنا من أتى إلينا الان... واتجه نحو الباب وفتحه ليجد ليلى أمامه بملامح يكسوها الالم و عينين مليئتين بالدموع... ليلى، ماذا حدث يا ابنتي؟!
وما ان تقدم نحوها ليحتضنها حتى اغمي عليها بين يديه، حملها الاب بلهفة شديدة واتجه بها نحو صالة الجلوس قبل ان تأتي زوجته وراءه لتشهق بقوة ما ان رأت إبنتها ممددة على الكنبة فاقدة الوعي... اقتربت منها بسرعة وطبطبت على وجهها وهي تهتف بزوجها: ماذا حدث يا حميد؟! لما هي فاقدة للوعي..؟! اجابها حميد وهو يتمعن النظر في وجه ابنته الاحمر من شدة البكاء: لا اعلم يا نجلاء، لقد وجدتها منهارة امام الباب وقبل ان أسألها حتى ما حدث كانت هي قد فقدت وعيها امامي..
جاء كلا من مازن وملك ومريم اللذين انصدموا بشدة مما يرونه قبل ان تصيح بهم الام: ماء، هاتوا ماء... ركض مازن بسرعة نحو المطبخ وجلب كوب من الماء الى والدته، اخذته الام منه وبدأت ترش القليل منهه على وجهها فبدأت ليلى تستفيق تدريجيا من إغمائها...
ما ان فتحت ليلى عينيها ورأت الجميع أمامها جتى انهارت بالبكاء من جديد... حاولت والدتها تهدئتها والفهم منها لكنها لم تستطع هذا وسط شهقاتها وبكاءها الشديد... احتضنتها الام وبدأت تهدأ بها وسط نوبة بكائها بينما هتف مازن بغضب: ليتصل احد بجابر ويفهم منه ما حدث... وبالفعل خرج الاب من صالة الجلوس يتبعه مازن واخذ هاتفه واتصل بجابر لكن الاخير لم يرد...
اغلق الاب هاتفه وهو يشعر بضيق شديد فجابر يتجاهله تماما ليقول بعدها بعصبية بالغة: بالتأكيد هو وراء هذا، لذلك لا يرد على اتصالاتي، ذلك الحقير... قاطعه مازن بحدة بالغة وهو لا ينوي الخير ابدا: نعم هو وراء ما يحدث، اقسم بالله بأنني لن أرحمه... وقبل ان يتحدث الاب كان صوت صراخ الام يملأ ارجاء المنزل، اتجه مازن والاب بسرعة نحو صالة الجلوس ليجدا نجلاء تقترب منهما وهي تقول ببكاء بالغ: لقد ضربها ذلك الحقير، ضربها يا حميد بقسوة...
اتجه حميد مصعوقا نحو ابنته واحتضنها بقوة قبل ان يهتف بها بعد لحظات: اخبريني ماذا حدث؟! اخبريني بسرعة... اجابته ليلى من بين شهقاتها بنبرة متقطعة باكية: لقد ضربني يا ابي، ضربني... لماذا ضربك.؟! اخبريني... اجابته من بين دموعها الحارقة: لأنني لم اتناول العشاء مع والديه، لقد كنت متعبة للغاية وأردت النوم قليلا... عاد الاب وسألها: هذا فقط، ألم نفعلِ شيئا أخر؟!
هزت ليلى رأسها نفيا وقالت بنبرة صادقة: اقسم لك يا ابي انني لم أفعل شيئا اخر بالرغم من كل ما كان يفعلونه معي... هنا تدخلت الام بالحديث فقالت متسائلة: ماذا حدث ايضا.؟! ماذا فعل بك اولئك الاوغاد.؟! كفكفت ليلى دموعها بأطراف أناملها وأكملت موضحة لهم كل ما حدث معها في الايام السابقة بالتفصيل... ذهل الجميع مما يستمعونه من معاملة والدة جابر السيئة لابنتهم وسلبية جابر معها...
بالكاد استطاع الاب أن يكتم غضبه أمام ابنته وقال لها بنبرة هادئة محاولا تهدئتها من بكائها المستمر: كفي عن البكاء، انهض مع والدتك واتجهي نحو غرفتك، وأنا سأتصرف معه غدا صباحا... بالكاد استطاعت ليلى ان تنهض مع والدتها وهي تشعر بألم شديد يغزو كل قطعة من جسدها لتتجه معها بخطوات ضعيفة واهنة نحو غرفتها تاركة الاب يفكر بعمق بما حدث...
جلست ليلى على سريرها بوهن... كانت منكسة الرأس وملامحها توحي بالقهر والخجل بأن واحد... تأملتها والدتها بملامح مشفقة قبل ان تأمر اختيها: اذهبا الى غرفتكما... خرجتا ملك ومريم مسرعتان من الغرفة بينما بقيت نجلاء مع ابنتها التي عادت تبكي لكن بصمت...
احتضنتها نجلاء بقوة وأخذت تربت على ظهرها بينما تقول بألم واضح: ابكي يا ابنتي، وابكي حتى تنتهي اوجاعك... ثم اردفت وهي ترفع بصرها نحو الاعلى: حسبي الله ونعم الوكيل عليك يا جابر، حسبي الله عليكِ يا منيرة انت وزوجك وابنك... استمرت ليلى في بكائها بل زادت شهقاتها أكثر حينما سمعت دعاء والدتها... توقفت ليلى أخيرا عن البكاء لتهتف بصوت مبحوح: اريد النوم...
اذعنت الام لطلبها ومددتها على السرير ثم غطتها باللحاف جيدا بإحكام، قبلت جبينها بحنو ثم خرجت من غرفتها واتجهت الى صالة الجلوس حيث يوجد زوجها وابنائها... ماذا سنفعل الان.؟! قالتها بسرعة ما ان دلفت الى صالة الجلوس ليرد الاب عليها: اجلسي اولا...
الا انها رفضت بعصبية: انا لن اجلس حتى أفهم ما وضع ابنتي بعد الان، هل سنصمت على ما حدث.؟! هل سنترك ذلك الحقير هكذا دون عقاب.؟! اخبروني حالا ماذا ستفعلون؟! اهدئي يا نجلاء، الامور لا تؤخذ بهذا الشكل... قالها الاب بغضب واضح لترد هي بغضب اكبر: كيف تؤخذ اذا؟! لقد ضربها ضربا مبرحا، ماذا سننتظر بعد؟! امي اهدئي قليلا...
قالها مازن محاولا تهدئة والدته لكنها أكملت بإنفعال: يجب أن تأخذوا حق ابنتي من ذلك الحقير، يجب ان تفعلوا شيئا... ما ان اكملت كلامها حتى شعرت بدوار يسيطر عليها فوضعت يدها على جبينها وتأوهت بألم لتقفز ملك نحوها وتسندها بينما تقول مريم بقلق: ماما هل انت بخير.؟!
أجلستها ملك على الكنبة لتومأ الام برأسها وتقول: بخير، انا بخير ولكن اختك ليست بخير ابدا... شعر الاب بالاختناق فخرج من المكان بأكمله يتبعه مازن... وقف مازن بجانبه في حديقة المنزل وقال بعصبية كئيبة: لا اعرف لماذل تمنعني من الذهاب اليه ومحاسبته على فعلته؟! اجابه الاب بنبرة متعقلة: لاننا يجب ان نفكر جيدا قبل أي ردة فعل نقوم بها...
لقد ضربها يا ابي، ماذا سننتظر اكثر، الامر واضح لا يحتاج لتفكير، اتركني عليه، وانا سأربيه من اول وجديد... هنا فقد الاب اعصابه ولم يتحمل اكثر: ماذا جرى لكم؟! جميعكم تتحدثون بهذه الطريقة، كأنكم نسيتم أنني رب هذه الاسرة وأنا الوحيد من يحق له أن يقرر القادم...
هذا لأننا لم نرَ منك اي ردة فعل واضحة على ما حدث... وهل تظن بأن صمتي هذا يعني انني غير مهتم لما حدث؟! قالها الاب مذهولا ليقول مازن بسرعة: الامر ليس هكذا ابدا، لكنك تتصرف ببرود، الامر الذي يجعلنا نشتعل من الغضب اكثر واكثر... لأنني لا اريد أن أقوم بأي تصرف متهور أندم عليه فيما بعد.، اريد ان أتصرف بالشكل الصحيح... تنهد مازن بقلة حيلة وقال: وماذا ستفعل الان.؟!
اجابه الاب بحيرة: لا أعلم، ان الامر صعب للغاية، اصعب مما تتخيل... تطلع مازن اليه بصمت بينما تنهد الاب بصزت مسموع وقال اخيرا: انت اذهب الى الداخل وحاول ان تهدئ والدتك قليلا، اخبرها بأنني سأحل جميع الامور وسأجلب حق ابنتي بالتاكيد... ولماذا لا تخبرها انت؟!
اجابه وهو يتأمل السماء بعينيه: لا رغبة لدي بالحديث مع احد، اريد ان ابقى لوحدي قليلا... اومأ مازن برأسه متفهما ثم دلف الى الداخل تاركا والده لوحده...
كان جابر يسير في غرفته ذهابا وإيابا وهو يفكر فيما فعله ويتذكر كيف خرجت ليلى من المنزل وهي في أوج غضبها وألمها... لا يعرف كيف فعل هذا بها ولكن حديث والدته أغضبه منها وبشدة وجعله يتصرف بطريقة غبية للغاية... نعم يعترف لقد اخطا بما فعله والله وحده يعلم ما تبعات هذا الخطأ... فعائلة زهران لن يسكتوا على ما حدث ولن يمرروه مرور الكرام... سوف يغضبوا عليه وربما سيفوق غضبهم جميع تصوراته... شعر بالقلق يسيطر عليه من ردة فعلهم المنتظرة... الله وحده يعلم ما سيحدث في صباح الغد معه منهم..
جلس على سريره وهو يفكر بليلى و موقفها منه بعدما فعله معها، هل ستسامحه اذا اعتذر منها وطيب خاطرها، أم ستصر على زعلها... في هذه الاثناء دلفت والدته الى غرفته واقتربت منه قائلة: جابر، ماذا تفعل هنا لوحدك؟! اجابها بضيق واضح: ماذا سأفعل يا امي، أفكر فيما حدث وموقف اهل ليلى مني بعدما ضربت ابنتهم بهذا الشكل... هل انت قلق من ردة فعلهم.؟!
سألته بجدية ليجيبها بسخرية: وهل يفترض بي ألا أقلق؟! الا انها كانت مصرة على موقفها وصحته: لا تقلق يا بني، هم لن يستطيعوا ان يفعلوا شيئا، زوج و يربي زوجته، لا يحق لهم أن يتدخلوا بينكم اطلاقا... تحامل جابر على نفسه لكي لا ينفجر في وجه والدته فهي في النهاية السبب بما حصل... تحدث بنبرة جاهد لتخرج منه طبيعية غير متحاملة: وهل سيقتنع عائلة زهران بهذا الكلام؟! هل سيرضوا بما حصل لابنتهم فقط بحجة أنني أربيها؟! وهل لديهم حل اخر؟! وماذا لو طلبوا مني أن أطلقها مثلا.؟! ردت الام بسرعة: مستحيل، مستحيل ان يطلبوا منك شيئا كهذا... من أين جلبتِ كل هذه الثقة؟!
أجابته وهي تجلس بجانبه على السرير: هم لن يخربوا منزل ابنتهم بأيديهم وإن أردات هي هذا... صمت جابر ولم يتحدث لتكمل الام بجدية: ثق بي يا بني، هم سيتحدثوا معك بحجة انهم يحاسبونك على ما فعلته، لكن لن يستطيعوا ان يفعلوا اي شيء سوى الحديث...
تطلع جابر اليها بنظرات غير مقتنعة لتربت والدته على كتفه وتقول بلا مبالاة: هيا انهي وتناول طعام عشائك، فأنت لم تتناول شيئا بسبب ما حدث... لا شهية لدي، سأحاول ان أنام... حسنا نم قليلا اذا... قالتها وهي تنهض من مكانها وتتجه خارج المكان تاركة اياه يتابعها بنظراته حتى خرجت من غرفته...
في صباح اليوم التالي... استيقظت الاء من نومها على صوت طرقات قوية على باب غرفتها... زفرت بضيق وهي ترى كاظم يستيقظ هو الاخر من نومه والذي قفز من فراشه فورا واتجه نحو الباب وفتحها لتطل منه اخته سلسبيل وتقول بسرعة وتعجل: لقد جاء عمي حميد يريد رؤيتك... سأتي حالا...
قالها كاظم وهو يغلق الباب في وجهها ليستدير نحو الاء فيجدها جالسة على سريرها تطالعه بنظرات مستغربة قبل ان تهتف بنبرة ممتعضة: هل يوجد أحد طبيعي يأتي منذ السابعة صباحا الى هنا؟! عقد كاظم ذراعيه امام صدره وقال بنبرة جادة: هل لديكِ مانع؟! كلا... قالتها وهي تعاود النوم ليقترب كاظم منها ويقول: انهضي حالا لتساعدي والدتي وسلسبيل في اعداد الفطور... الان... قالتها مصدومة من هذا الوقت المبكر ليرد مؤكدا ما قاله: الان يا الاء... ثم تركها واتجه نحو الحمام ليغسل وجهه ويغير ملابسه تاركا اياها تشتعل من شدة الغيظ...
خرج كاظم من الغرفة واتجه مسرعا نحو صالة الجلوس ليجد عمه في انتظاره... اقترب منه مسرعا وتسائل بقلق: خير يا عمي، ماذا حدث؟! اجلس يا كاظم لنتحدث... تطلع كاظم بحيرة اليه قبل ان يذعن لما قاله ويجلس على الكرسي المقابل له ويقول بسرعة وترقب: تحدث يا عمي، انا اسمعك... تنهد العم بتعب واضح قبل ان يقول بصوت كساه الجدية: لقد جاءت ليلى البارحة مساءا عندنا... هز كاظم رأسه طالبا منه ان يكمل ما بدأه: جابر ضربها ضربا مبرحا...
اشتعلت عينا كاظم غضبا لما سمعه، غضب بالكاد استطاع ان يكظمه وهو يسأله ببرود مخيف: وماذا حدث بعدها؟! سرد العم له ما اخبرته به ليلى من معاملة جابر وامه السيئة لها، وكيف أنها تحملت الكثير منهم... كان كاظم يزداد غضبا اكثر واكثر ما ان يسمع ما يقوله عمه...
ما ان انتهى العم من حديثه حتى نهض كاظم من مكانه وقال وهو يعتصر قبضة يده: ذلك الحقير، سأربيه بيدي هاتين، كيف يجرؤ على فعل شيء كهذا؟! اهدأ يا كاظم، الامور لا تحل بهذا الشكل... كيف ستحل يا عمي؟! ذلك الحقير ضربها وأهانها هو ووالدته... قالها كاظم بغضب ساحق ليرد عمه بجدية: انا اعرف كيف أجلب حق ابنتي يا كاظم، لا تقلق انا لن اترك مع حدث يمر هكذا، لكن ليس قبل أن أفعل ما هو أهم الان... ماذا تقصد؟! سأله كاظم بعدم فهم ليرد العم بتنهيدة: سأخبرك بكل شيء...
دلفت الاء الى المطبخ لتجد سلسبيل تعد طعام الافطار وحدها... تنحنت الاء مصدرة صوتا يدل على وجودها لتلتفت سلسبيل نحوها وتقول: تفضلي... فركت الاء يديها الاثنتين وقالت: لقد طلب مني كاظم ان اساعدك بإعداد طعام الافطار... ابتسمت سلسبيل في داخلها على اخيها الذي يحرص على جعل زوجته تشاركها في اعمال المنزل...
اقلي البيض... نعم.. ألن تسمعي ما قلته؟! اقلي البيض... ضغطت الاء على شفتيها بقوة وغضب من تلك الصغيرة التي تتأمر عليها... ارادت أن تصرخ بها وتخبرها بأنها ليست بخادمة حتى تتأمر عليها بهذا الشكل لكنها تذكرت حديث كاظم فأبت أن تثير المشاكل... كم بيضة؟!
سألتها الاء وهي تتجه نحو الثلاجة لتفتحها لترد سلسبيل عليها: خمسة... اخرجت الاء خمس بيضات واتجهت نحو الطباخ، ملأت المقلاة بالزيت واشعلت النار تحتها... ثم وضعت البيضات بالمقلاة، وقفت تتابع البيضات للحظات حينما سمعت صوت صراخ عالي يأتي من الخارج، ركضت سلسبيل نحو الخارج وتبعتها هي بفضول غريب عليها، وجدت كامل ابن عم كاظم يتحدث بصوت عالي ويقول: ذلك الحقير سأقتله بين يدي، سأسحقه... وقفت سلسبيل تتلصص عليهم ووقفت هي ورائها...
تراجعت سلسبيل الى الخلف حينما وجدت الثلاث رجال نهضوا من اماكنهم واتجهوا خارج الغرفة بعدما انتهوا من حديثهم الذي لم تفهم منه شيئا... تحركت الاء نحو المطبخ تتبع سلسبيل التي ما ان وصلت الى هناك حتى شهقت بقوة وهي ترى الدخان الاسود يملأ المكان... حريق...
قالتها الاء برعب قبل ان تجد سلسبيل تتجه نحو الداخل لتحل المشكلة... وقفت هي خارج المطبخ تتابع ما تفعله الاخيرة... خمدت النيران اخيرا وبدأ الدخان يتخافت تدريجيا لتدلف الاء الى الداخل وتسألها بوجوم: هل انت بخير؟! التفتت سلسبيل نحوها وقالت بعينين غاضبتين: كيف سأكون بخير طالما انتِ هنا؟! ماذا فعلت أنا لتحدثيني هكذا.؟!
قالتها الاء ببساطة لترد سلسبيل عليها بتهكم: لم تفعلِ شيئا سوى أنك حرقت البيض وكدت أن تحرقي المطبخ... تطلعت الاء الى اثر البيض المحروق بضيق واضح قبل ان تقول: لم انتبه له... طبعا لان العروس المسكينة لا تعرف قلي البيض... هل تمزحين معي؟! بالطبع انا اعرف قلي البيض.. واضح واضح... قالتها سلسبيل بسخرية وهي تتطلع الى البيض المحروق لتشمخ الاء رأسها عاليا بكبرياء قبل ان تخرج من المطبخ...
وقف كلا من كاظم وكامل وحميد زهران امام جابر الذي خرج لإستقبالهم عند باب منزله...
كانت عيونهم تنطق بما يضمرونه له من حقد وكره بشكل افزعه للغاية وزاد من قلقه وتوتره... تفضل يا عمي، تفضلوا لما انتم واقفين هنا.؟! الا ان حميد رد بصوت قوي غليظ: نحن لم نأتِ هنا لندخل، بل جئنا لنأخذك وتأتي معنا... ابتلع جابر ريقه وسألهم بنبرة متوترة: الى اين؟! اجابه حميد بجدية: الى المحكمة...
نقل جابر بصره بين كاظم وكامل اللذان يرمقانه بنظرات نارية مهددة ثم عاد ببصره نحو حميد الثابت الانظار ليسأله بإضطراب: لماذا؟! لتطلق ليلى... اتسعت عينا جابر لا اراديا وهو يفكر بأن ما يطلبونه منه مستحيل ليقول وهو يهز رأسه نفيا: مستحيل، انا لن اطلق زوجتي، مهما حدث... تدخل كامل في الحديث قائلا بصوته العالي: بل ستطلقها، اجبارا عنك...
اشار كاظم له ان يتوقف ولا يتدخل اكثر بينما أكمل حميد بنبرته القوية الثابتة: ستطلقها يا جابر، سواء رضيت او لا... ومن سيجبرني على هذا.؟! سأله جابر بنبرة مستهينة ليرد حميد ببرود يحسد عليه: انا، انا من سيجبرك على هذا، فأنا لن أسمح لإبنتي أن تبقى على ذمة رجل مثلك... انتبه الى حديثك معي يا سيد حميد...
قالها جابر بعصبية لا ارادية ليتدخل كاظم في الحديث قائلا بنبرة محذرة: انت من يجب ان ينتبه الى حديثه يا جابر، انتبه ولا تتجاوز حدودك... طلقها يا جابر، طلقها قبل ان أتصرف معك بطريقة لا تعجبني... قالها حميد مهددا اياه ليرد جابر بلا مبالاة وهو يعقد ذراعيه امام صدره: ماذا ستفعل مثلا؟! كيف ستجبرني على تطليقها؟!
هنا خرجت والدة جابر وقالت بنبرة عالية بعدما كاتت تتنصت وسمعت ما حدث: ماذا تريدون من ابني؟! اتركوه وشأنه، هذا بدلا من أن تشكروه لأنه كان يربي ابنتكم... تدخل كامل مرة قائلا بغضب وهو يكور قبضته: ماذا تقولين انت؟! بل ابنك هو من بحاجة الى تربية... اوقفه حميد بإشارة من يده ثم وجه حديثه لها قائلا: الزمي حدودك يا إمرأة، انا لا أتحدث معك، بل اتحدث مع ابنك...
انت لا تتحدث معه، انت تهدده... دع امك تدلف الى الداخل يا جابر... قالها حميد بصوت قوي ليشير جابر الى والدته قائلا: ادخلي انتي يا امي... كلا لن ادخل...
قالتها الام بعناد بينما تحدث حميد قائلا وهو يجاهد للسيطرة على اعصابه: اسمعني يا جابر، انت مجبر على ان تطلقها، والا فأنني سأرفع قضية ضدك واعتداءك عليها بهذه الطريقة المشينة سوف يجعل القاضي يجبرك على تطليقها... تطلع جابر الى امه بحيرة وقلق لتقول الام بضيق: تريد ان تفضح ابنتك في المحاكم.. صدقوني انا لا اهدد فقط، انا انفذ ايضا، لا تجبروني على اطالة الموضوع وتكبيره، لننفصل بالحسنى كما دخلنا بالحسنى...
ولكن يا عمي انا لا اريد تطليق زوجتي... وهي لا تريدك، وانت اكثر من يعلم كذلك ماذا بمقدورنا ان نفعل بك ابتلع جابر ريقه وهو يتطلع الى والدته التي التزمت الصمت فجأة ليقول جابر اخيرا: ليلى طالق يا عمي... بالثلاثة...
تطلع جابر اليه بنظرات متوسلة ليجد الاصرار واضحا على تقاسيم وجهه: ليلى طالق بالثلاثة... تنهد حميد براحة فأخيرا حرر ابنته من هذا الوغد، منحه ابتسامة متهكمة قبل ان يقول: لا وفقك الله يا جابر من أي إمرأة بعد ابنتي... ثم تحرك مع كاظم وكامل قبل ان يهمس لهما في طريقه نحو سيارته: تصرفا معه كما أخبرتكما لكن ليس اليوم، انتظرا قليلا...
في منزل حميد زهران... استيقظت ليلى من نومها اخيرا بعد ليلة طويلة قضتها تحلم بكوابيس مرعبة تأثرا بما حدث معها... كان جسدها يؤلمها بشدة بسبب الضرب المبرح الذي تعرضت له... اعتدلت في جلستها وهي تشعر بألم قوي يغزو جسدها المجروح... ادمعت عيناها بقوة وهي تفكر وتتذكر ما تعرضت له، لقد تعرضت لأبشع انواع التعذيب الجسدي...
اخذت تبكي بصمت وهي تعتصر قبضتي يديها بقوة من شدة الالم... لم تعرف اذا ما كانت تبكي بسبب ما حدث معها او بسبب الالم نفسه... ظلت على هذا الحال تبكي وبدات شهقاتها تعلة اكثرر... في هذه الاثناء دلفت والدتها مسرعة نحوها بعدما جذبتها شهقاتها، احتضنتها بقوة وأخذت تحاول تهدئتها لكن ليلى ازدادت بكائا... بعد فترة قصيرة توقفت ليلى عن البكاء، لتمسد والدتها على ظهرها وهي تقرأ ايات من القرأة الكريم عليها...
هل أصبحت أفضل حبيبتي.؟! تحررت ليلى من بين احضانها وأخذت تمسح وجهها بكفي يديها... اسمعني حبيبتي، انا اعرف ان ما حدث لم يكن هينا ابدا، ولكن عليك ان تعلمي بأن والدك سيجلب لك حقك كاملا... قاطعتها ليلى بسرعة: انا لا اريد سوى شيء واحد فقط... ماذا تريدين.؟!
سألتها والدتها بتردد لتجيب ليلى بكره تملك منها: أريده أن يتعذب كما عذبني هو ووالدته، اريد ان أراه يتألم مثلما اتألم انا، وكرامته تهان مثلما اهان كرامتي، أريده ان يذوق ما ذقته منه واكثر... قالت جملتها الاخيرة بإنهيار لتسقط الدموع من عيني والدتها التي رفعت يدها الى السماء عاليا وقالت بقلب ام ملكوم على ابنتها: حسبنا الله ونعم الوكيل عليك يا جابر، حسبنا الله ونعم الوكيل عليك انت ووالدتك، لياخذ الله حق ابنتي منك عاجلا ليس أجلا...
كانت ليلى تستمع الى حديث والدتها وبكائها يزداد اكثر... دلف والدها الى الغرفة بعدما طرق الباب ليجد ليلى تحتضن والدتها والدموع تهطل من عينيها... اعتدلت الام في جلستها وكذلك ليلى التي اخذت تنقل نظراتها المشوشة بين والدتها و والدها... ماذا حدث؟! سألته والدتها بسرعة ليتطلع الاب الى ابنته بملامح منهكة ثم اقترب منها وانحنى نحوها مقبلا رأسها ببطء... بابا...
هتفت بها ليلى بضعف ليرد الاب بعينين حمراوتين: سامحيني يا ابنتي، سامحيني لأنني اعطيتك لرجل مثله... هزت ليلى رأسها نفيا بإعتراض وقالت بسرعة: لا تعتذر يا ابي، جميعنا كنا مخدوعين فيه... ألن تخبرني اين ذهبت وما حدث.؟! قالتها الام بضيق واضح ليرد الاب: ذهبت الى ذلك الحقير...
انتفض قلب ليلى رعبا ما ان سمعت ما قاله والدها، شعرت بعدم رغبتها في سماع اسمه او اي شيء يخصه، هي لا تريد ان ان يذكر احد سيرته امامها، تريد ان تنساه والى الابد... ماذا قال لك؟! تطلع الاب الى ابنته وشعر بنظراتها المذعورة لينقبض قلبه داخل اضلعه الما ووجعا على ابنته وما وصلت اليه... طلقها...
اتسعت عينا ليلى لا اراديا قبل ان تبتسم بتهكم مرير فجابر لم يتمسك بها حتى بل طلقها بكل سهولة... اما الاب فأكمل: بالثلاثة... أخفضت الام بصرها وجعا على ابنتها التي تطلقت بعد زواجها بأسابيع قليلة بينما تطلعت ليلى الى والديها المتألمين بوضوح وقالت فجأة: ماذا بكم.؟! لماذا انتم حزينون هكذا؟! لقد تخلصت من ذلك المجرم، عليكم ان تسعدوا بهذا...
ثم اشارت لأمها المندهشة قائلة: افرحي يا امي، لقد تخلصت منه اخيرا، هيا اطلقي الزغاريد احتفالا بهذا النبأ العظيم... تطلعت امها اليها بعدم تصديق بينما أخذت ليلى تزقرط عاليا والدموع تهطل من عينيها قبل ان تسقط ارضا فاقدة للوعي...
وقفت فرح امام خزانة ملابسها المفتوحة تتأمل ما في داخلها بحيرة شديدة... اليوم ستخرج لأول مرة مع أدهم فهي مدعوة معه على العشاء في منزل صديق لديه... عليها أن تجهز نفسها حيث سيأتي أدهم بعد أقل من ساعتين ويأخذها الى هناك... وهي لم تختر بعد ما سترتديه... كانت تريد ارتداء شيء انيق ومحتشم في نفس الوقت...
وبعد تفكير طويل وحيرة اطول وقع اختيارها على فستان احمر طويل يصل اسفل ركبتها ذو اكمام حمراء طويلة... وضعت القليل من المكياج الهادئ على وجهها مع احمر شفاه ذو لون احمر قاني، رفعت شعريها عاليا بتسريحة انيقة بسيطة، ثم ارتدت حذاء اسود ذو كعب عالي ابرز طولها الفارع، ولم تنس ان تضع عطر هادئ الرائحة... تأملت فرح مظهرها في المرأة برضا قبل ان تتنهد بارتياح...
لقد بذلت مجهودا خرافيا لتظهر بهذه الصورة الرائعة، في الحقيقة هي لم تكن يوما من المهتمين في المظاهر ولكن هناك شيء في داخلها أخبرها أن تهتم بنفسها ومظهرها جيدا لأجل الليلة... هل لكونها تريد ان تظهر في صورة تليق بها كزوجة لأدهم الهاشمي؟! ولما لا؟!
هي بالفعل يجب ان تظهر كزوجة تليق به وبمكانته، وعليه هو أن يفهم انها لائقة بالفعل... سمعت صوت الباب يفتح فحبسا انفاسها وهي تشعر بأدهم يخطو اولى خطواته داخل الغرفة... تصنم أدهم في مكانها وهو يراها ترتدي هذا الثوب الاحمر المثير بجسدها الذي يشبه المانيكان...
اخذ نفسا عميقا وزفره ببطء قبل ان يهمس بخفوت وعيناه تلمعان بقوة تتأملان عنقها الطويل الذي ابرزه شعرها المرفوع عاليا: فرح... التفتت فرح نحوه اخيرا لتنحبس أنفاسه داخل صدره وتتسع عيناه بعدم تصديق من جمالها الواضح امامه... زفر انفاسه بقوة بعدما استوعب اخيرا ما يراه...
فالتي رأها الان كانت زوجته ملكه، لعن نفسه لانه حرم شخصه من كل هذا الجمال الرقيق الناعم... تعجب من افكاره وما وصلت اليه، هل بات الان يتحسر عليها؟! هل سيلعن نفسه لأجلها؟! منذ متى وهو يفكر بهذه الطريق ويفقد سيطرته على افكاره؟! هو لم يكن من النوع الذي يتأثر بالجمال بسهولة، فهو لا تعجبه اي إمرأة ولا تروقه اي واحدة بسهولة مهما كانت جميلة، لكن هذه الفتاة تثير بداخله مشاعر غريبة منذ أن رأها لأول مرة...
تنهد للحظات بصمت قبل ان يسألها وهو يحاول الخروج من فورة افكارها: هل انت جاهزة لنذهب.؟! اومأت برأسها دون ان ترد ليقول: هيا بنا اذا... تحركت فرح خلفه بينما سبقها هو في حركته... فتح ادهم الباب وخرج تتبعه فرح واللذان ما ان هبطا الى الطابق السفلي حتى وجدا اسما في وجهيهما... الى اين؟!
تطلع ادهم وفرح إلى بعضيهما قبل ان يجيب ادهم بجدية: نحن مدعوون على العشاء لدى صديق لدي... تأملت أسما فرح بملامح غامضة قبل ان تهتف ببرود: ولماذا ستأخذها معك.؟! كادت فرح أن تجيب عليها بأنها زوجته ومن الطبيعي ان تكون معه لكن رد أدهم بدلا منها فاجئها بشدة: هي زوجتي ومن الطبيعي ان تكون معي... اقتربت اسما منه وهمست بصوت خافت: كان عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تأخذها معك، اخاف ان تفضحك امام أصدقائك... تطلع إليها ادهم بنظرات لائمة مما قالته قبل أن يقبض على يد فرح ويسحبها خلفه دون ان يجيب على والدته..
دلفت الاء الى غرفة نومها لتجد كاظم جالسا على الكنبة الموضوعة في الغرفة صامتا ويبدو عليه الضيق الشديد... جلست على سريرها تتأمله بصمت غريب قبل ان تسأله: هل انت متضايق لما حدث مع ابنة عمك؟! تعجب كاظم من سؤالها لكنه أجابها: ما رأيك انت؟! ألا يجب أن أتضايق؟! اردفت بحيرة: انا اساسا لا افهم لما الجميع يتصرف وكأن هناك مصيبة حلت عليكم، والدتك تبكي وتندب حظ الفتاة، وكذلك سلسبيل، لقد اقاموا مجلس عزاء واخذوا يتقبلون تعازي المتصلين ومواساتهم...
ابنتهم تطلقت بعد اسابيع قليلة من زواجها، ماذا يجب ان يفعلوا.؟! ردت ببساطة اغاضته: لا يفعلوا شيئا، الامر لا يستحق كل هذا، انه طلاق وليس وفاة... الاء، لا ينقصني الان سماع أفكارك الغريبة... لكنها كانت مصرة على التعبير عن وجهة نظرها: ليست غريبة، بل افكاركم هي الغريبة، رجل كهذا يجب ان تقيموا الافراح كونها تخلصت منه... نهض كاظم من مكانه وقال بملل: انظري الي، انا لست بفاض لك، لدي اشياء مهمه يجب أن أقوم بها...
وبالفعل بدأ يقوم بهذه الأشياء واحد تلو الاخر... تأملته وهو يسير داخل الغرفة ذهابا وإيابا يبدو كمن يحمل الدنيا كلها فوق رأسه... اخذ يجري اتصالات مع العديد من الاشخاص... يأمرهم ببعض الامور التي تخص اسرته تارة وامور اخرى تخص عمله... كاظم... استدار نحوها اخيرا يتأملها بهدوء قبل ان يقول: نعم...
سألته بجدية غير ابهة بوضعهم وما يمرون به: ما رأيك ان تأخذني وتريني مقر شركتك؟! تجمد في مكانه للحظات يحاول استيعاب ما تقوله قبل ان يهتف بعدم تصديق: هل برأيك بأن هذا الوقت مناسب لتقولي شيئا كهذا... حاولت ان تتحدث لكنه زمجر بها قائلا: كم انت شخص بارد خالي الشعور.؟! قالت بضجر: ماذا فعلت الان.؟!
تنهد بصمت قبل ان يقول بصبر: مشكلتك يا الاء انك لا تفعلي شيئا، لا تفعلي اي شيء سوى قول بعض الكلمات التي تغيظني منك... زمت شفتيها وقالت: ها قد خرست... ثم حملت بيجامتها واتجهت نحو الحمام... اما كاظم فأخذ يتطلع الى أثرها بسخرية قبل أن يقول بينه وبين نفسه: لم يكن ينقصني سواك يا ابنة الهاشمي...
عاد كلا من فرح وادهم الى المنزل بعد سهرة طويلة قضوها في منزل صديق أدهم... كانت سهرة ممتعة للغاية، وبالرغم من الخجل الذي شعرت به فرح في بادئ الأمر الا انها سرعان ما اندمجت مع صديقه وزوجته التي كانت اكثر من رائعة... فتح أدهم باب الغرفة ودلف الى الداخل تتبعه فرح... خلع سترته ورماها على السرير بينما اندفعت فرح نحو خزانة ملابسها لتخرج بيجامة بيتية منها... اخرجت فرح بيجامتها واتجهت نحو الحمام لغرض تغيير ملابسها...
اما ادهم فجلس على الكنبة يتابع اثرها حتى اختفت تماما قبل ان يزفر انفاسه وهو يفكر في هذه الليلة... لقد فاجئته فرح كليا بشخصيتها المميزة التي جعلت صديقه وزوجته يعجبان بها للغاية، كانت مرحة للغاية بالرغم من خجلها، ضحكتها الجذابة طغت على كل شيء، حتى على افكاره، هو لا يريد ان ينقض عهده لنفسه، لكنها تجذبه بشكل غريب، بعفويتها وضحكتها وعينيها، واه من عينيها تلك التي لا يستطيع تحديد لونها...
خرجت فرح من الحمام وهي ترتدي بيجامة حمراء محتشمة لكنها أنيقة، وقفت امام المرأة وفكت تسريحة شعرها لينسدل شعرها الطويل على ظهرها بنعومة، ثم بدأت تزيل مكياجها تحت انظار أدهم الذي اخذ يتابعها بأنظاره، ابتلع ادهم ريقه وهو يشعر برغبة قوية تسيطر على جسده، رغبة بلمسها ، تقبيلها ، الاقتراب منها، لعن نفسه على افكاره وما وصلت اليه ثم فكر مرة اخرى بأنه بالفعل لم يمسس أي امرأة منذ زواجه بها، لا يعلم لماذا، لكن هناك شيء في داخله منعه من هذا، كان مستغرقا في افكاره حينما وجدها تنتهي من ازالة مكياجها وتتجه نحو السرير بنية النوم، فكر في طريقة يمنعها بها من النوم...
فنهض من مكانه مسرعا وقال: فرح انتظري... تراجعت فرح عما تفعله وتوقفت في مكانها قبل ان تستدير نحوه وتسأله بصوت متعجب: ماذا حدث؟! أجابها وهو يتمعن النظر اليها: اردت ان اتحدث معك قليلا... بشأن ماذا؟!
سألته بإستغراب فلا تذكر أن هناك أحاديث مهمة من الممكن أن تجمعهما، بالاساس لا يوجد اي شيء مشترك بينهما... اجابها ادهم بجدية: بشأن سهرة اليوم... شعرت فرح بالقلق مما سيقوله، هل سينتقد تصرفا صدر منها؟! لكنها لا تتذكر أنها فعلت شيئا يستحق الانتقاد، توقفت عن افكارها تلك وهي تفكر بأنه حر فيما يريد قوله ولن يؤثر عليها او على ثقتها بنفسها...
فرح انا اشكرك كثيرا لانك وافقتي ان تأتي معي اليوم... هل يشكرها؟! ادهم الهاشمي يشكرها هكذا بكل بساطة؟! سمعته يكمل قائلا: لقد كانت سهرة رائعة بوجودك، لقد أضفتي عليها جوا مميزا، حتى انهم أحبوكي للغاية... احمرت وجنتي فرح خجلا وقالت بتوتر ملحوظ: العفو، انا لم افعل شيئا يستحق الثناء، لقد تصرفت بعفوية مطلقة، كما اعتدت ان اتصرف مع الجميع... اعرف ولكن هذا لا يمنعني من ان اشكرك...
لا داعي للشكر يا ادهم، وجودي معك في دعوة صديقك واجب علي، في النهاية انا زوجتك... ابتسم ادهم بطريقة خفق لها قلبها، لعنت قلبها الذي يخفق كلما تحدث معها او ابتسم اليها، حاولت ان تمحي هذه الافكار من رأسها وتتجه نحو الفراش... عن إذنك، أنا سأنام...
شعر أدهم بالاحباط لكنه لم يريد ان يبين هذا، هو لم يستطع ان ينفذ اي من رغباته المخبئة... تصبحين على خير... اجابته بابتسامة خفيفة: وانت من اهل الخير... ثم ذهب كلا منهما الى سريره وهو يفكر بالاخر بطريقة لم يعدها ابدا...
في منزل حميد زهران... دلفت نجلاء الى غرفة نومها لتجد زوجها جالسا على السرير واضعا رأسه بين كفي يديه... رفع رأسه للاعلى ما ان شعر بوجودها ثم سألها بسرعة: كيف أصبحت الان.؟! اجابته وهي تجلس بجانبه: افضل قليلا...
حل الصمت قليلا بينهما قبل ان تقطعه هي بنفسها وتقول: انت تبدو متعبا للغاية، ما رأيك أن تنام قليلا من الوقت... اومأ برأسه وقال: معك حق، أشعر بحاجة كبيرة للنوم... ثم ما لبث أن نهض من مكانه واتجه نحو سريره...
تنهدت نجلاء بتعب قبل ان تلتفتت الى الخلف لتجد زوجها يجلس على السرير واضعا يده فوق قلبه ويبدو عليه أنه يتألم بشدة... ركضت نحوه على الفور واحتضنته سائلة إياه: ماذا جرى لك؟! اجابها بأنفاس مقطوعة: الم فظيع يا نجلاء... ثم ما لبث ان صرخ صرخة قوية وفقد الوعي بعدها لتصرخ نجلاء باسمه قبل ان تركض خارج الغرفة وتنادي على ابنها مازن...
جاء مازن راكضا بعدما سمع صوت والدته تناديه يتبعه كلا من ملك ومريم، حتى ليلى التي كانت نائمة استيقظت على صوت صراخ امها وخرجت راكضة من غرفتها... دلف مازن الى داخل الغرفة لينصدم بوالده ممدد على السرير فاقد للوعي، اقترب منها وحاول أفاقته لكن بلا فائدة، اخرج هاتفه من جيبه واتصل بالإسعاف الذي سرعان ما أتوا بعد فترة قصيرة ليحملوا الاب ويتجهوا به للمشفى...
في المشفى... كان يقف الجميع في انتظار الطبيب ان يخرج من غرفة الطوارئ حينما جاء كاظم وكامل مسرعين نحوهم... ماذا حدث يا مازن.؟! سأله كاظم ليجيب مازن بقلق واضح: لا نعلم، ما زال الطبيب في الداخل، نحن ننتظر خروجه ليشرح لنا ما يحدث...
وبالفعل خرج الطبيب ما ان انهي مازن كلامه ليقترب الجميع بسرعة منه فيتحدث الطبيب قائلا: لقد تعرض لجلطة قلبية، حالته صعبه للغاية، سوف ننقله الى العناية للمركزة، ويبقى هناك الى ان يتحسن وضعه، دعواتكم له... ثم رحل لتنهار ليلى باكية بين أحضان والدتها: انا السبب، لولاي ما كان ليحدث هذا... قاطعها كامل: انت لا علاقة لك بأي مما حدث، جابر الحقير هو السبب، لكن لا تقلقي سنأخذ حقك وحق عمي منه كاملا... سوف اقتله بين يدي هاتين...
قالها مازن بعصبية كبيرة ليقول كاظم بتعقل: انتما الاثنان، اتركا ذلك الحقير الان، المهم هو عمي ووضعه... جلست نجلاء على الكراسي الجانبية الموضوعة في ممر المشفى وهي ما زالت تحتضن ليلى التي كانت تبكي... تحدث مازن قائلا وهو يشعر بالاسف لأجل أخته: معك حق يا كاظم...
اشار كامل لكاظم قائلا بنبرة خافتة: لن ارتاح حتى أجلده بيدي هاتين... رد كاظم بجدية: سنجلده يا ابن العم، لكن لننتظر قليلا، كما امرنا عمي... ثم استدار نحو الاخرين وقال: ' من سيذهب الى المنزل ومن سيبقى الليلة هنا.؟! اجابته نجلاء: انا سأبقى هنا بجانبه... كلا يا امي، انا من سأبقى بجانبه، اذهبي انتِ وارتاحي...
قالها مازن رافضا ان تبقى والدته هنا لكن نجلاء كانت مصرة على ما تقوله: انا لن اتزحزح من هنا ولن اترك والدك لوحده، اذهبوا انتم واتركوني معه... تحدثت ملك بنبرة باكية: وانا لن أترك والدي لوحده... ملك، لا ينقصنا سواك، انت واخواتك ستذهبون... قالها كامل بنبرة حاسمة ثم استدار نحو مازن: وانت اذهب مع اخواتك، انا سأبقى مع زوجة عمي... ولكن...
قاطعه كامل: لا يوجد لكن، انت بالتأكيد لن تترك اخواتك لوحدهن في المنزل ليلا... معك حق.. قالها مازن اخيرا حينما وجد أن كامل معه كل الحق فيما قاله...
دلف كاظم الى منزله ليجد والدته واخته في انتظاره... نهضت اخته بسرعة من مكانه واقتربت منه متسائلة بقلق: ماذا حدث يا كاظم.؟! كيف حال عمي؟! اجابها كاظم وهو يجلس على الكنبة بتعب: حالته سيئة للغاية يا سلسبيل... مالذي حدث بالضبط يا بني؟! أخبرنا! سألته والدته ليجيبها موضحا ما حدث: لقد أصيب بجلطة قلبية...
شهقت سلسبيل بقوة وقالت بنبرة باكية: يا الهي، وكيف اصبح الان؟! اجابها كاظم: لن اكذب عليك، ما زال وضعه سيئا... سألت أمه هذه المرة: من بقي معه هناك.؟! اجابها وهو ينهض من مكانه: بقيت زوجة عمي ومعها كامل... يجب ان نذهب الى هناك منذ الصباح الباكر...
اومأ كاظم برأسه متفهما وقال: سوف أخذك صباحا الى المشفى، وسلسبيل تذهب لبيت عمي... ثم تحرك خارج المكان، واتجه نحو غرفة نومه، فتح الباب ليجد الاء تجلس على السرير وهي تلعب على حاسوبها الشخصي... اغلق الباب خلفه وخلع سترته ورماها على السرير وقال باقتضاب: مساء الخير... رفعت الاء بصرها نحوه وقالت بعد لحظات: مساء النور...
اخرج كاظم بيجامته من خزانة ملابسه واتجه بها نحو الحمام، اخذ حمام سريع ثم خرج وهو يرتدي بيجامته ليجد الاء تقف امام الشرفة مولية ظهرها له... التفتت نحوه وأخذت تتأمله وهو يقف امام المرأة يسرح شعره بعناية فقالت: كاظم، هل لي ان اتحدث معك بموضوع هام؟!
اجابها كاظم بجدية: تحدثي... انا اريد ان أباشر عملي في شركتي... شركتك! لم اكن اعلم ان لديك شركة... قالها كاظم بتعجب لترد بتوتر غريب: بلى لدي، اشتريتها منذ فترة قصيرة، هي شركة خاصة بمواد ومستحضرات التجميل، المهم، انا بحاجة لأن أديرها عن قرب...
وما المطلوب مني؟! اجابته بحرج لاول مرة يغزوها من بروده: اريد ان اسافر الى العاصمة، يجب أن أتابع عمل الشركة من هناك... الاء، هل تظنين بأنني سأسمح لزوجتي بالسفر الى المدينة هكذا بسهولة؟! لا افهم، ماذا تقصد؟! سألته بعدم فهم حقيقي ليجيبها شارحا وجهة نظره: انت متزوجة مني، لا تنسي هذا، وزوجتي لا تترك المكان الذي انا فيه لأي سبب كان... هل أنا في سجن وأنا لا اعلم.؟!
سألته بضيق جلي ليرد بلا مبالاة وهو يتجه نحو الكنبة ليتمدد عليها: اعتبريه كذلك... وقفت متخصرة امامه: كاظم، لا تنام، انا لم أنه كلامي بعد... تنهد بنفاذ صبر وقال: ألا يمكن أن نتحدث غدا.؟! ردت بعناد: كلا، سنتحدث وننهي كل شيء اليوم... الاء لا تستفزيني، انا متعب للغاية ولا رغبة لي بالحديث مع احد...
زفرت أنفاسها بقوة وقالت: انت بالاساس كل يوم متعب، اسمعني جيدا، انا لن اترك شركتي تنهار بسببك، انا يجب ان اسافر الى المدينة خلال يومين، يجب أن أتابع اعمال الشركة... حسنا، سأسافر انا معك، ولكن ليس الان... أنا لا أفهم أين المشكلة، لماذا لا توافق بأن أسافر لوحدي؟! هكذا العادات عندنا يا الاء...
قالها بواقعية لترد بملل: عادات عادات، كل شيء لديكم بناء على العادات، اقسم لك بأنني مللت هذه العادات... يبدو ان الليلة لن تمر على خير... قالها كاظم بينه وبين نفسه لتسأله الاء: ماذا تقول؟! اجابها وهو يتكأ على مرفقه فوق الكنبة: اقول بأننا سنسافر سويا حينما انتهي من اعمالي الحالية واطمئن على عمي... هذا اخر كلام لديك... اومأ برأسه لتضغط على شفتيها بقوة قبل ان تذهب نحو السرير وتتمدد عليه لتنام...
في صباح اليوم التالي... اوقف أدهم سيارته امام منزل عائلة فرح... لقد خرجوا منذ الفجر حتى يصلوا الى هنا عند الصباح... هبطت فرح بسرعة من السيارة وركضت نحو المنزل بلهفة ليهبط ادهم هو الاخر من سيارته ويسير خلفها ببطء... اخذت فرح تطرق على الباب بقوة حينما فتحت لها ملك الباب بوجه باكي... فرح واخيرا اتيت...
ثم ما لبثت ان احتضنت فرح بقوة وأخذت تبكي ليقف أدهم مذهولا مما يراه ويفكر بأنهم عائلة نكدية بحق فكيف لهم ان يبكو فقط لرؤية أختهم التي فارقوا منذ اسابيع قليلة... ماذا حدث؟! سألتها فرح بنظرة مرتعبة لتجيبها ملك من بين بكائها: ابي يا فرح، ابي.. سألتها فرح بسرعة: ماذا حدث له؟ تحدثي...
اجابته وهي تمسح دموعها: لقد اصيب بجلطة قلبية وهو الان في المشفى... شهقت فرح بصدمة قبل ان تهطل الدموع من عينيها وتقول بصوت متحشرج: يا الهي، متى حدث هذا؟! هنا تحدث ادهم محاولا تهدئتها: اهدئي يا فرح... ثم قال لملك: متى حدث هذا.؟!
لجابته ملك بصوت محتقن: مساء البارحة... ولماذا لم تخبروني؟! سألتها فرح بعصبية من وسط دموعها لتجيبها ملك: لم نرد أن نقلقكِ... ما ان اكملت ملك كلامها حتى جاءت مريم مسرعة واقتربت من فرح وضمتها وهي تبكي... ابي يا فرح، ابي... ضمتها فرح بقوة واخذت تبكي هي الاخر...
بعد فترة قصيرة اتجه الاربعة الى صالة الجلوس، جلست فرح بتعب على الكنبة وقالت: اريد ان اذهب الى هناك... تحدثت ملك بجدية: لقد ذهبت ليلى الى هناك منذ قليل، ووالدتي وكامل هناك ايضا... كيف حدث هذا؟! اخبروني... تطلعت كلا من ملك ومريم الى بعضيهما لتشعر فرح بأن هناك مصيبة اخرى فتسألهم بقلق: تحدثا حالا، ماذا تخبئان عني؟!
فرح اهدئي... قالها أدهم وهو يمسك كف يدها بيده لتتحدث ملك اخيرا: ليلى... ما بها؟! لقد تطلقت ليلى يا فرح... اتسعت عينا فرح بعدم تصديق قبل ان تهتف بذهول: ماذا تقولين انتِ؟! هل تمزحين معي يا ملك.؟! هزت ملك رأسها نفيا بينما أكملت مريم حديثها: لقد حدث هذا منذ يومين، ولم نستطع ان نخبرك... لماذا تطلقت.؟! لماذا؟!
اجابتها مريم بمرارة: لقد ضربها جابر بسبب والدته... اكملت ملك نيابة عنها: انها قصة طويلة يا فرح... تطلعت فرح الى ادهم بذهول بينما قابل ادهم نظراتها بأخرى مشفقة...