رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن
تجنّبته كثيرا بعد كلماته التي ألقاها على مسامعها، ظلت تؤكد لنفسها انها كلمات مجاملة المقصود منها هو التعبير عن شكره و امتنانه لاعتناءها به في أوقات مرضه و عليها الا تؤلها اى تأويل اخر.. و على الرغم من اقتناعها التام بوجهة نظرها السابقة الا انها كانت تتحاشاه، لا تعرف لما!؟
كل ما تعرفه انها لا تقوى على مواجهته و التطلع اليه بعد تلك الكلمات و خاصة ملاحظته الأخيرة عن أنوثتها و تلميحه عن رؤيتها بثوبها الابنوسى و هي تتمايل وحيدة او هكذا ظنت، و هو قابع هناك يتابع العرض المغرى باستمتاع. رِن جرس جوالها فالتقطته ترد في شوق و ما ان تناهى لمسامعها صوت اختها الباكى حتى اندفعت للخارج في عجالة..
كان هو يتحين الفرص حتى يلتقى بها بعد ان فرضت العزلة على نفسها و لم تعد تخرج من غرفتها الا في أوقات عدم تواجده.. و الان ما ان سمع صوت باب غرفتها يُفتح حتى اندفع خارج من غرفته لملاقاتها لكنه وجدها تندفع كالسهم للخارج.. ماذا هناك يا تُرى..!؟، و ما الامر الذى دفع بها للخروج من الشقة بتلك الحالة!؟.
لم يستطع ان يمنع ذاك الهاتف الداخلى الذى يؤكد عليه ضرورة اللحاق بها، و قد استجاب له من فوره في الوقت المناسب، فقد رأها تشير لإحدى سيارات الأجرة و تندفع داخلها في اللحظة التي وصل فيها لسيارته و اندفع بها خلفها.. الى أين هي ذاهبة..!؟، و لما تلك العجلة!؟. لا يعرف لما هو مهتم لإجابات كل تلك الأسئلة، لكن كل ما يدركه الان هو ان عليه اللحاق بها و التأكد من انها بخير..
وصلت أخيرا بعد فترة ليست بالقصيرة لأحد الأحياء الشعبية البسيطة و بطبيعة الحال لم يستطع سائق سيارة الأجرة الدخول في مثل تلك الحارة الضيقة بسيارته، فرأها تندفع منها خارج و تلج لعمق تلك الحارة، فصف سيارته و اندفع خلفها على مسافة تجعله يراها و لا يفقد اثرها و في نفس الوقت لا يجعلها تستشعر وجوده..
وصلت بالفعل لبيت عتيق من ثلاث طوابق و اندفعت داخله، وقف هو حائر لا يعرف كيف عليه التصرف هل يندفع خلفها ام ينتظر ريثما تتضح له الصورة ولو قليلا..!؟. اندفعت هي تعتلى درجات السلم المتهالكة نوعا ما حتى وصلت تلتقط أنفاسها امام باب خشبى من ضلفتين دقت عليه بكف منهك..
فُتح الباب في عجالة و طالعها وجه اختها سماح الشاحب و دموعها التي تغطى وجنتيها، اندفعت مى تحيط اختها بذراعيها و تجلس معها على تلك الأريكة القديمة التي تعبق برائحة الأيام الخوالى و ذكريات والديها في ذاك المنزل الذى جمعهم سويا منذ زمن بعيد، انها المرة الثانية التي تدخله فيها بعد عودتها من الخارج و قرار استقراراها أخيرا في مصر..
جذبت أنظارها من على جدران المنزل التي تحوى صورلابوها و أمها و ذكريات طفولتهما و وجهتها على اختها التي لازالت تنتحت بقهر بين ذراعيها فهتفت بها في تعقل: - ماذا هناك يا سماح، اما آن لمشاكلكِ مع زوجكِ ان تنتهى!
هتفت سماح من بين دموعها: - انه لا يهتم ببيته و لا أولاده، و لم يعد يحبنى كالسابق، لقد حاربت الجميع لاجله، و زللت له كل العقبات في سبيل زواجنا، حتى أننى كما تعلمين ترجيت و الدينا ليسمحا لنا بالبقاء معهما بعد زواجنا نظرا لصعوبة إيجاد مسكن يجمعنا، ووافقا على مضض طبعا، ماذا فعل هو لأجلنا، لا شيء، كل ما يهمه الان النقود، كيف يأت بها و كيف ينفقها على ما يسعده هو، لا على ما يكفى به بيته و أولاده..
تنهدت مى وهى تربت على كتف اختها الصغرى مهدئة: - ربما كان هذا هو الخطأ من البداية، لقد تعود ان يأخذ و لا يعطى، لكنه أيضا ليس بالرجل السئ، على الأقل هو كان يراع والدينا في فترات مرضهما الأخير، انا لا استطيع ان أنكر عليه ذلك.. صمتت اختها و لم تعقب على تلك النقطة، وما ان همت مى بالحديث حتى صرخت سماح مؤكدة: - لا، انا لم اعد أطيقه، لم اعد ارغب في العيش معه..
اندفع في تلك اللحظة من الخارج نعيم زوج سماح وما ان رأى مى حتى هتف ساخراً: - مرحبا، هل أسرعت حالا باستدعاءكِ كالعادة..!؟. وقفت مى في مواجهته: - وما الضرر في ذلك!؟، فانا كل من تبقى لها في الدنيا بعد ان رحل أصحاب البيت الذى يأويكما.. صرخ مزمجرا: - هل تعايرينى يا دكتورة..!؟ هتفت مى في حزم: - لا، بل اذكرك ان هذا بيتها قبل ان يكون بيتك و بيت اولادك..
صرخ من جديد: - لقد سأمت من ترديد تلك النغمة، ولكن هل لانه بيتها عليها تذكيرى بذلك صباح مساء، أخبريها بان هذا البيت مفتوح بكد ذراعى، ولولا ذلك لكان جدران متهالكة لا تصلح للعيش.. صرخت سماح: - انت لا تنفق علينا الا قروش من مجمل ما يأتيك، انت تبخل عليّ و على اولادك..
اندفع نعيم غاضبا يرفع كفه محاولا اسكات استفزازات زوجته الا ان مى وقفت في منتصف المسافة بينهما صارخة بدورها: - هل ستضربها..!؟، و في وجودى أيضا..!؟.
كانت صرخات مى كفيلة ان يندفع ذاك الشبح الذى كان يتسلل على درجات السلم منذ رأى نعيم يدلف مندفعا لداخل البيت ليتعقبه متوجس من مرأه، و يظهر الان يقف ممسكاً بذراع نعيم العالية التي كان مصيرها وجنة سماح لولا تدخل مى أو بالأدق تدخل ياسين الذى وقف كحائط صد عن مى وأختها..
شهقت مى و هي تكتشف من ذاك الذى يقف كحائط بينها هي وأختها و بين نعميم، و كادت ان تهتف فيه الا ان ياسين استبقها هاتفاً في نعيم زوج اختها: - هل من الرجولة الاستأساد على النساء حتى ولو كانت احداهما زوجتك..!؟. زمجر نعيم هاتفاً وهو يحاول جذب معصمه من كف ياسين القابض عليه: - من انت..!؟، و لما تتدخل فيما لا يعنيك..!؟.
فك ياسين كفه عن معصم نعيم و مدها في اتجاهه ملقياً التحية: - انا الدكتور ياسين نور الدين زوج الدكتورة مى، قالها بابتسامة بريئة على عكس الوجوه الثلاثة الأخرى، و التي حملت تعبيرات مختلفة و متباينة تماما، فالصدمة كانت مرسومة على وجهى كل من سماح و نعيم بينما ما ارتسم على وجه مى كان مزيج من كظم الغيظ و محاولة السيطرة على أعصابها لاقصى درجة ممكنة..
تدارك نعيم نفسه بسرعة وألتقط كف ياسين الممدودة في ترحيب شديد.. -أهلا، أهلا يا دكتور، نورتنا.. ابتسم ياسين مرحبا بعفوية و تلقائية جعلته يكسب قلب نعيم فورا: - اهلا بك، البيت منور بإصحابه، و كأن ياسين تعمد ذكر سيرة أصحاب البيت في حديثه ثم ربت على كتف نعيم ليؤكد له انه رجل البيت و صاحبه حتى ولو لم يكن ذلك قانونيا و لكن عرفيا..
اتسعت ابتسامة نعيم و انتفخت أوداجه و هتف في سماح معاتبا: - الدكتور و الدكتورة سيشرفونا على الغذاء، استعدى لتقديم أشهى طعام لديكِ.. و كأن سماح نسيت كل ما كان بينهما و اندفعت تنفذ مطلبه منتفضة و مهرولة باتجاه المطبخ حتى مع همهمات مى المعترضة و التي حاولت ان تثنى نعيم عن عزومته، لكن ياسين هتف بها مستدركا: - كلمة المعلم نعيم لا تُرد..
هتف نعيم وهو يربت على صدره محييا ياسين في امتنان: - ربنا يعزك يا دكتور ياسين.. و استطرد ياسين موجها حديثه لمى وعلى شفتيه ابتسامة مشاكسة: - لما لا تذهبى و تساعدى اختكِ، فانا اتضور جوعا.. ما ان سمع نعيم كلمات ياسين الأخيرة حتى هتف في زوجته التي كانت تعمل بكل طاقتها داخل المطبخ: - الغذاء سريعا يا سماح.. ردت في تأكيد: - حاضر، حالا..
استشاطت مى غضبا و اندفعت للمطبخ تساعد اختها وما ان همت بدخوله حتى ناولتها اختها صينية عليها أكواب الشاي لتضعها امام زوجها و ياسين حتى يكف عن استعجالها.. نفذت مى بآلية ووضعت صينية الشاي امام ياسين و زوج اختها و هي تنظر لياسين نظرة أشبه بنظرة رَيَّا وسكينة قبل القضاء على ضحاياهم، كاد ياسين ان ينفجر ضاحكاً كعادته لكنه استدرك و بدأ في المزاح مع نعيم..
دخلت مى تساعد اختها حتى تتخلص من هذا المأذق، وقفت تناول اختها ما تطلب وهى ترى حال اختها قد تبدل للنقيض تماما و فجأة هتفت فيها: - زوجك الدكتور، ما اسمه..!؟. اجابت مى بألية: - ياسين.. استطردت سماح: - اه، الدكتور ياسين، انه رائع، أرأيت كيف استطاع ان يسيطر على نعيم ببضع كلمات، أخيرا سيُصبِح لى ظهرا استند عليه ليقف امام نعيم و لا يستطيع ان يعاديه.. صمتت مى و لم تعقب، هذه هي اختها سماح.
، انها حتى لم تسألها كيف و أين و متى تم الزواج..!؟، و ما هي ظروف ذاك الزواج الفجائى..!؟، كل ما فكرت فيه هو مصلحتها التي ستجنيها من وراء هذا الزواج.. تنفست مى بعمق و ابتلعت لسانها حتى تنتهى تلك الزيارة باى شكل.. ساعة من الزمن و كان الطعام بدأ يُوضع على الطبلية تلك الطاولة قصيرة الارجل التي يلتف حولها الجميع لتناول الطعام جالسين ارضا.. هتف ياسين فرحا: - اخيرااا الطعام..
جذبه نعيم من كفه و جلسا ارضا و تجمع الأطفال حولهم و جاءت مى و سماح بباقى الاطباق، و بدأ الجميع في تناول الطعام..
كان ياسين أريحيا و يتصرف بعفوية شديدة و لم ينهض الا وقد جعله نعيم يتذوق كل صنف من أصناف الطعام التي كانت الطاولة عامرة بها، و ياسين لم يكذب خبر، فلم ينهض الا وهو ممتلئ بشكل جعله لا يستطيع النهوض من على الأرض الا بجذب نعيم و الأطفال له و الذين مازحهم ياسين اذا ما استطاعوا جذبه لينهض فسيكون نصيب كل منهم لوح من الشيكولاتة و التي يعشقها الجميع فتجمعوا بالفعل حوله في محاولة لجذبه ناهضاً و بعد عدة محاولات فاشلة و الكثير من الضحكات على مظهرياسين الفكاهى استطاع نعيم التدخل و جذبه مع اطفاله لينهض أخيرا مع تصفيق الجميع، حتى مى انفجرت ضاحكة على ما يفعل مع الأطفال..
و بدأت تستشعر ألفة مريحة للمرة الأولى تغمرها وهى تطأ منزل أبويها، ألفة مفتقدة و مفقودة منذ زمن بعيد، لم يكن هذا فقط ما لفت انتباهها بل كان حنانه و حنوه على أطفال اخته، لقد كان يطعمهم بكفه وكل منهم على وجهه ابتسامة فرحة لم ترها على وجوههم في المرتين اللتين أتت فيهما هنا عندما استدعتها اختها من اجل مشاكلها و زوجها الذى يضحك الان ملأ فيه و قد اعتقدت انه لا يبتسم ابدا..
حان وقت انصرافها هي وياسين، فصمم نعيم على مرافقتهما حتى سيارتهما، سار معهما مختالا، منتفخ الاوداج بنسيبه الطبيب المشهور، دخلت مى السيارة و رأت ياسين ينتحى جانبا بنعيم، دار بينهما حوار قصير كان نهايته إيماءة موافقة من رأس نعيم و ربتة من ياسين على كتفه، و أخيرا عانق كف كل منهما الاخر بمودة خالصة، و عاد ياسين ليجلس امام مقود سيارته يلوح بكفه لنعيم الذى ظل يودعهما حتى اختفت سيارتهما عن الأنظار..
رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع
ظلا طوال الطريق لشقتهما صامتين، حتى ابتدرها ياسين قائلا: - لم أكن اعرف ان لك اخت تعيش هنا و متزوجة و لديها أطفال..!؟ -انت لا تعرف الكثير عنى من الأساس و لا اظن انه من الضرورى ان تعرف..
قالت كلماتها الأخيرة بنبرة عدائية هي نفسها استغربتها، لم تشعر ان عليها ان تضع خط احمر لحياتها و اسرارها و علاقاتها الشخصية عليه الا يتعداه..!؟، لا تعرف إجابة، لكن ربما احساسها ان وجوده مؤقت في حياتها يجعلها تحتفظ بكل تلك المعلومات الشخصية و الخاصة جدا لنفسها دون مشاركته أياها..
لكن هو لا يترك فرصة تمر سدى دون اغتنامها ليتوغل في كل تلك التفاصيل الحميمية لحياتها بل يصبح جزء منها، هذا الخاطر جعلها تتوتر بشكل اكثر من ذي قبل، لتهتف به حانقة: - بالمناسبة، ما الذى جعلك تتعقبنى، و تقتحم حياة اختى بهذا الشكل..!؟، انا قادرة تماما على حل مشاكلها، كما كنت دوما قادرة على ذلك، و لم أكن بحاجة لمساعدتك او دعمك على الإطلاق، لم احتاج لأحد يوما و لن احتاج..
كانت تتوقع ان كلماتها ستدفعه للغضب و الرد عليها بشكل قاس لكن على العكس تماما همس بشكل جعلها ترتجف بشكل لاأرادى: - لم و لن تحتاجى احدهم، اعلم، فانت دوما تلك المستقلة القوية المسيطرة العالمة ببواطن الأمور، و التي تعتقد ان وجودى في حياتها سيقلب ميزان اعتدالها.. كيف استطاع قراءة افكارها بهذا الشكل..!؟. كيف علم بان هذا ما يدفعها لمعاملته بهذا الشكل الفظ، و تلك النبرات العدائية..!؟.
ابتسم عندما ادرك معاناتها الداخلية: - ما رأيكِ لو اعتبرتى وجودى في حياتكِ الرائعة ما هو الا استراحة قصيرة لتعودى أقوى و اكثر إستقلالية، و.. و صمت و لم يكمل.. فاندفعت بفضول تسأله: - و ماذا..!؟.
ندمت انها سألت بتلك النبرة المتلهفة و جعلته يضحك ملأ فيه قبل ان يصمت فجأة و تتحول نبرته لنبرة جادة لا تليق به: - و ماذا..!؟، حسنا، ووحيدة، تتناول الشيكولاته كى تشعرها بسعادة وهمية لا تنبع من داخلها، تتخذ جانبا من العالم لانها تشعر انها لم تعد امرأة مرغوبة الا لمرضاها الذين تخفف آلام مفاصلهم، لتعود حمقاء لا تدرك انها امرأة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. هل اختفى الأكسجين من على وجه الأرض.؟
ام ان أنفاسها المتقطعة هذه والتي لا تستطيع التقاطها لها سبب اخر..!؟. حاولت الشعور بالثبات على قدر استطاعتها و دفعت بوجهها تجاه نافذة السيارة مدعية انها لم تهتم بحرف واحد مما قال.. حتى هو شعر انه قال اكثر مما يجب، و صرح بأكثر من المفترض لذا ألتزم الصمت احتراما لصمتها..
لحظات و كان كل منهما في المصعد يتجنب ان ينظر باتجاه الاخر حتى وصلا لطابقهما، تركت له مساحة ليتقدم ليفتح باب الشقة و ذاك يعد تنازل من ناحيتها لا يستهان به.. فتح باب الشقة و تنحى جانبا ليدعها تدخل أولا، كان يعلم انها ستندفع لتحتمى بجدران غرفتها كعادتها عندما توضع في موقف لا تفضله..
و لم تخلف ظنه، فقد أندفعت تجاه غرفتها و كان خلفها فتوقع دفعها للباب ووطد نفسه على تلقى الصفعة المعتادة له، لكن لم يحدث، بل على العكس، بعد ان همت بغلق الباب عادت و فتحته لتسأله بهدوء: - هل من الممكن ان اسألك، كيف استطعت اكتساب محبة نعيم بهذا الشكل..!؟. أجاب بهدوء مماثل لهدوئها: - أعطيته ما كان ينقصه، وما كان بحاجة اليه، و ما هو جدير به.. سألت بنبرة تهكمية: - و ماهو هذا الشئ..!؟.
أجاب بنبرة جادة: - الاحترام و التقدير.. ألجمتها كلماته وجعلتها تبتلع لسانها للحظات حتى هتفت ساخرة: - كان عليك ان تكون طبيبا نفسيا.. هتف ساخراً بدوره: - انا طبيب أمراض نساء و من يتعامل معهن عليه ان يحصن نفسه ضد جميع الأمراض النفسية.. كادت ان تعتصر مقبض الباب و هي تندفع هاتفة: - محاضرة شيقة يا دكتور، و إلى لقاء اخر باذن الله..
و صفقت الباب، لتنتظر ضحكاته الصاخبة المعتادة، لكنها لم تأت، تعجبت للحظات و فتحت الباب مرة أخرى تتأكد من ان كل شيء طبيعى، شهقت عندما وجدته لايزل امام الباب لم يتحرك قيد اُنملة و ما ان طالعه مرأها حتى انفجر ضاحكاً ملأ فيه و لكن هذه المرة قبل ان تصفع الباب من جديد و هي تهتف في غيظ مكتوم، وقح...
اندفعت من المطبخ تاركة ما تعده لطعام الغذاء وتفتح الباب الذى علا رنينه المتواصل و ما ان فتحته حتى طالعها ياسين يقف مستندا على كتفى عِوَض و الذى كان يأن لطول استناد ياسين بثقل جسده على جسده الضئيل.. أفسحت لهما الطريق حتى تخلص عِوَض من ثقل ياسين على اقرب أريكة للباب زافرا في راحة..
ابتسم ياسين لمعاناة عِوَض و اخرج من جيبه حفنة من نقود أودعها كفه و أخيرا زال كل التعب عن وجه عِوَض و تهلل بالبشر عند مرأى النقود كالعادة و اخذ في الدعوات لياسين بالصحة و العافية وخرج و أغلق باب الشقة خلفه.. شبكت ذراعيها امام صدرها و هي تنظر اليه وهو مدد على الأريكة بهذا الشكل اللامبالي.. هتفت في سخرية: - ماذا فعلت بنفسك هذه المرة يا دكتور..!؟.
هتف مجيباً بلا اهتمام وهو يشير لقدمه: - لا شيء ذو أهمية، أتمنى هذا، اعتقد هذه وظيفتك يا دكتورة، اعتقدت انكِ انتِ من عليه ان يخبرنى ما بها.!؟ أغمض عينيه وكأنه انهى ما لديه فأعاد رأسه للخلف مسندا أياها على ظهر الأريكة..
تنهدت في نفاذ صبر و اندفعت للداخل و غابت قليلا اعتقد انها ستهمله و لكنه اخطأ الظن عندما وجدها قادمة تترنح وهى تحمل طبق من البلاستيك به بعض من ماء فاتر وضعته ارضا بجوار قدمه وهى تلتقط أنفاسها بصعوبة.. جلست على الأرض بعفوية و سألته بهدوء: - اى قدم هي المصابة..!؟، و ما سبب الإصابة يا تُرى!؟..
أشار لقدمه اليسرى و قال وهو يربت على معدته البارزة: - فكرت ان أتشجع و أتخذ قرار أزالة لهذه الشرفة المطلة على العالم.. أمسكت نفسها عن الانفجار ضاحكة لتشبيهه لمعدته البارزة بالشرفة فاستطرد هو مكملا: - ذهبت لصالة الألعاب الرياضية و كان كل شيء على ما يرام حتى انتهيت من التمارين و ما ان وضعت قدمى على الأرض حتى شعرت بألم يجتاح قدمى و لم استطع السير عليها..
كانت تستمع اليه و بدأت في خلع حذاءه عن قدمه عندما لم يستطع هو الانحناء متألماً لخلعها، جذبتها قدر استطاعتها و أخيرا استطاعت نزعها لتندفع للخلف و فردة الحذاء بين كفيها، انفجر ضاحكاً لمرأها تصارع حذاءه بهذا الشكل و قال مازحاً: - يبدو ان علاجكِ سيكون بخلع قدمى من ساقى، لا علاجها هتفت متزمرة: - حذاءك كان ملتصق بالغراء على ما يبدو، ماذا علىّ ان افعل..!؟.
مدت كفها لتنزع فردة الحذاء الأيمن و كذلك الجورب والذى انخلع بسهولة بفضل الله.. ما ان وضعت كفها على قدمه حتى انتفض بشكل لا أرادى، انتبهت هي فابعدت كفها و رفعت رأسها المنحنى لتواجهه متسائلة: - هل هذا موضع الألم، اسفة لو ألمتك..!؟. تحشرج صوته قليلا هامساً: - لا عليكِ..!؟.
همست وهى تتطلع للأعلى مواجهة لنظراته و مفسرة: - سأضغط بأطراف أصابعى على عدة مواضع من قدمك ما ان تستشعر الألم الا و عليك اخبارى فورا، اتفقنا..!؟.
اومأ برأسه موافقا و لم يتفوه بكلمة، بدأت بالفعل تضغط على مواضع بعينها بأطراف أصابعها باحترافية واضحة و ما ان ضغطت على احداها حتى تألم منتفضاً، أومأت متفهمة و نهضت في عجالة احضرت بعض المراهم الطبية و احد الأربطة الطبية الضاغطة و جاءت لتجلس على الأرض قبالته من جديد..
ابتسم عندما مدت كفها لتضع قدمه المصابة في طبق الماء البلاستيكي و تضع بعض الماء على موضع الإصابة مع بعض التدليك الخفيف لموضع الألم جعله يسترخى بشكل مريح، و لكن طبعه المشاكس لم يمهله طويلا ليظهر على السطح الهادئ لمدع الألم ذاك و الذى يرتسم على ملامح وجهه الان فهتف ساخراً: - اااه، يدكِ بلسم شاف يا أمينة.. انفجرت ضاحكة ما ان تنبهت لمشاكسته وقد قررت مجاراته: - تسلم يا سى السيد..
انفجر ضاحكاً و معللا: - حققتى لى احدى امنيات حياتى بان ادع دور سى السيد في الحقيقة و لو لمرة واحدة.. قهقهت: - عد أفضالى، فها انا أحقق لك الأحلام مجانا.. سأل بعفوية: - و انتِ..!؟، متى ستجدين من يحقق أحلامكِ..!؟. غابت البسمة عن شفتيها بشكل فجائي لسؤاله و رفعت قدمه من الماء لتضعها على المنشفة و تبدأ في تجفيفها استعدادا لوضع المراهم و الرباط الطبي الضاغط..
شعر انها أصبحت عادته مؤخرا ان يحرجها بأسئلة عفوية لا مقصودة، فقرر إعادة البسمة المختفية لشفتيها من جديد.. دفع بقدمه الأخرى الغير مصابة لداخل طبق الماء البلاستيكي بعنف فانتشر الماء فجأة في كل مكان و هو يهتف مازحاً: - نسيتى القدم الأخرى يا أمينة.. اخرجها من شردوها بشهقة مصدومة و ما ان استعادت ثباتها حتى عقدت حاجبيها غاضبة و مقررة الثأر من ذاك الاحمق الذى أغرقها بالماء لتوه: - من عينىّ يا سى السيد..
اجابت و هي تنهض في ثورة و بدأت في دفع الماء من الطبق بكلتا كفيها المضمومتين باتجاهه.. اخذ يدارى وجهه بكلتا يديه محاولا تفادى رزاز الماء المتطاير في كل اتجاه و اخذ يضرب الهواء بيديه و هو غير قادر على النهوض حتى يلقنها درسا، وقد كان الحظ حليفه فاصطدمت احدى كفيه بذراعها فجذبها في محاولة لإيقاف سيل الماء الموجه اليه، جذبها و هو لا يدرى انها تعرقلت بأحدى قدميه الممددتين لتسقط مباشرة في احضانه..
كان الوضع صدمة لكلاهما جعلت كل منهما ينظر مشدوها في عين الاخر بلا قدرة على إتيان اى ردة فعل، تنفس هو بعمق و هو ينظر لتلك العيون الحائرة المرتبكة كعين غزال شارد يرتجف رعبا من مطاردة الصياد..
بدأ يستفيق تدريجيا من صدمة وجودها في احضانه بهذا الشكل الفجائى ليدرك ان كفيه كلاتهما لازالتا مرفوعتان في صدمة، كانت هيئته تدعو للضحك و هو رافع ذراعاه كانما ينفى تهمة ما عنه، بينما هي متسربلة في إسدال صلاتها الذى يشبه الخيمة و قد أعاق قدرتها على تخليص نفسها..
وكأن كل منهما وقع في شباك الاخر و لا قدرة لاى منهما على تخليص نفسه حتى قبل ان يفكر في تخليص شريكه، لكنه لا أراديا وجد نفسه يضع كفيه ليحيطا خصرها الدقيق و يدفع بجسدها بعيدا عنه حتى استطاعت هي استجماع شتات نفسها و الوقوف على قدميها من جديد.. و الاندفاع لحمل الطبق البلاستيكي بما يحمله من بقايا ماء و الإسراع باتجاه الحمام في محاولة للهرب من نظراته او احدى تعليقاته الساخرة التي لن تحتملها..
و فجأة و دون سابق إنذار و كأن المصائب لا تأتى فرادى وجدت قدمها تنزلق فجأة في بقعة ماء قد انسكبت في اثناء سيرها حاملة طبق الماء البلاستيكي ممتلأ، طارت في الهواء و سقطت و لكن ليس هذا كل شيء فبقايا الماء تناثرت في كل مكان و نزل الطبق البلاستيكي الفارغ فوق رأسها ليبدو وانها ترتدى احدى القبعات المكسيكية..
انفجار مدو في الضحك كان من قبله بالتأكيد، كان الانفجار الأقوى، فهى تكاد تقسم ان جدران المنزل قد ارتعدت منتفضة لتلك القهقهات.. لحظات مرت و هي تجلس على حالها و ضحكاته المدوية لم يتوقف رنينها و قد دمعت عيناه من أثرها.. و أخيرا نهضت و رفعت الطبق البلاستيكي عن رأسها ناظرة اليه بغيظ و دخلت حجرتها..
توقع للمرة الثانية انها ستتجاهله جراء سخريته و ضحكاته على سقوطها المدوى، لكن ما هي الا لحظات و قد بدلت ملابسها و خرجت تلتقيه همس متأدبا وهى تنحنى تضع المراهم و الرباط الضاغط على قدمه المصابة: - انا اسف، لقد كان مظهركِ.. لم يستكمل جملته و قد ظهرت على جانب فمه ابتسامة حاول وأدها فأومأت هي هاتفة: - اعرف، كنت كمهرج بذاك الطبق على رأسى.
اومأ موافقا و قد فشل في وأد الابتسامة التي ارتسمت مشعة على ذاك الثغر الرجولى.. مدت كفها بعفوية و هي تحاول قدر استطاعتها مساعدته على النهوض من الأريكة هاتفة: - عليك الاستراحة بالداخل و عدم الضغط على قدمك اثناء السير عليها قدر الإمكان، و على انا العودة لتنظيف تلك الفوضى الذى خلفتها مدواتك العصيبة.. سارا معا مستندا على كفها ومتخذ الجدار المواز مساعدا له حتى لا يزيد من ثقله عليها..
وما ان مرا بجوار المطبخ حتى تسللت الى أنفاسه رائحة ما دغدغت حواسه فهمس متسائلا بنبرة ماكرة: - ماذا احضرتِ من اجل غذاءك اليوم..!؟، يبدو شيئا شهيا.. قررت ان تثير فضوله حتى يسيل لعابه: - وما الذى يعنيك فيما أعده من غذاء..!؟، على ايه حال هو لا يصلح مطلقا لحميتك الغذائية.. هتف محتدا: - فلتذهب حميتى الغذائية للجحيم، انا الان مريض و بحاجة للتغذية الجيدة حتى استعيد صحتى من جديد..
انفجرت ضاحكة وهى تشير لمعدته البارزة قليلا: - و ماذا عن قرار إزالة تلك الشرفة!؟ قال مشاكساً: - لا بأس من تأجيل ازالتها حتى إتمام علاجى، و الذى سيكون الجرعة الأولى منه طبق من البامية باللحم الضآن و التي تعدينها الان.. وصلت لفراشه وساعدته في الجلوس على أطرافه و أخذت تنظرمبهورة و متسائلة: - كيف عرفت انى اطبخ بامية و باللحم الضآن..!؟.
ابتسم في فخر و هو يربت على شرفته العزيزة: - تلك الغالية لا تخطأ قرون استشعارها ابدااااا.. انفجرت ضاحكة غير قادرة على تمالك نفسها امام تشبيهاته، بينما هو هتف فيها متعجلا وهو يشير لها لتعد له ما يشتهيه: - هيا يا أمينة، قد حان وقت الجرعة الأولى من العلاج.. استمرت في قهقهاتها و هي تندفع خارجا لتلبى طلب سى السيد، ياسين نورالدين..
رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل العاشر
مرت أيامهما بعد تلك الحادثة هادئة لا يعكر صفوها اى حادث، و لكن على الرغم من ذلك.
وجدت منه تباعدا في الأيام الأخيرة جعلتها تتساءل ما الذى حدث و دفعه ليتخذ جانبا من اى لقاء يجمعهما او تحاشى اللقاء بها ولو صدفة في احد أروقة المنزل، حتى تلك اللعبة الالكترونية التي يعشقها و كانت سلواهما في الأيام السابقة لم تعد تجذب انتباهه حتى انها فتحتها في احد الأيام و رفعت من مستوى الصوت حتى يَصِل لمسامعه فيتشجع و يأتي لمنافستها كالمعتاد او حتى يخرج ليتزمر جراء ارتفاع الصوت لانه يريد ان ينام او حتى يخلد للراحة و الهدوء، لكن كل هذا لم يحدث فقررت جذبه خارج معتقله الاختياري اللامفهوم دافعه بتلك الطريقة التي لا تخطئ نتائجها معه ابدا، الطعااام..
و لكن للعجب حتى تلك الطريقة لم تجذبه رغم إغراءاتها، ليخرج من عزلته.. تنهدت و قررت هي ان تقتحم تلك العزلة بنفسها، حملت طبق الطعام و طرقت على باب غرفته، مرت عدة ثوان لم يستجب للطرق لا بالإيجاب و لا حتى بالرفض، اعادت الطرق على باب حجرته عدة مرات حتى اعتلى القلق عرش فكرها و بدأ الوسواس في نشر خيوطه على مجمل تخيلاتها..
فتشجعت و دفعت بالباب منادية أياه في همس مضطرب غير مدركة انه بالكاد مسموع لها و لن يصل لمسامعه بالتأكيد و خاصة مع صوت صرير الباب الخفيف الذى صاحب نداءها الخافت..
توقفت متصلبة في مكانها و لم تخطو خطوة واحدة بالداخل فما رأته جعلها تتسمر في مكانها وتشعر انها أخطأت باقتحام عزلته بهذه الطريقة، فقد رأته يقف موليا لها ظهره في خشوع يصلى و دعوات هامسة تخرج من بين شفتيه تصل بعضها لمسامعها فتدرك انه يترنم في دعواته باسم صاحبة الصورة ذات الإطار الذهبى و التي تقبع هاهنا في ذاك الركن من الغرفة بجوار فراشه..
همت بالاستدارة و الخروج و هي تدعو الله سرا ان يكون قد غفل عن زيارتها و طرقاتها لبابه.. و لكن يبدو ان دعواتها لم تُستحب فقد هتف بصوت متحشرج و نبرة عميقة لم تزور مسامعها من قبل: - ماذا هناك..!؟. همست وهى تستدير و قد ادركت ان أوان هروبها قد ولى: - لا شيء، كنت.. لم تستكمل حديثها و هي تضع طبق الطعام على الطاولة القريبة من موضع وقوفها.. هز رأسه رافضا: - أشكركِ، لكن، انا اليوم صائم..
قلبت الأيام في عقلها و لم تَر ان منها ما يوجب الصيام اليوم، ر بما صوم تطوع، لكن لما.!؟.. لا تعرف لما انبأها حدسها ان الشقراء صاحبة الصورة لها علاقة بأمر عزلته و صيامه اليوم!؟.. و لا تعرف من الأساس كيف واتتها الجرأة لتهتف به ناصحة: - لا عليك، لست الوحيد الذى تهجره امرأة، و لست الوحيد الذى أعتقد يوما في وهم الحب..
احمرت عيناه و اتقدت كجمرات مشتعلة و هو يقترب منها في خطوات بطيئة و هي غير مدركة ان كل كلمة تتفوه بها تزيد الطين بلة و لا تصلح من الامر كما تعتقد.. وقف الان قبالتها تماما و هو يسألها بنفاذ صبر: - ماذا تقصدين..!؟. اشارت للشقراء و صورتها: - تلك الشقراء التي تركتك معذب بحبها و التي كنت تهزى محموما باسمها، هي لا تستحق وفاءك و اخلاصك، هي..
لم تكمل كلماتها وقد جذبها من ساعده بقوة هامساً بصوت أشبه بالفحيح: - و من ادراكِ انتِ بما هو الحب..!؟، انتِ امرأة جبانة تغلق قلبها و عقلها و روحها حتى لا تسمح لأحد بالتعلق بها او حتى الاقتراب من حرمها المقدس، ما ادراكِ انتِ بالإخلاص و الوفاء و انتِ لا تسمحين لأحد من البشر بالاقتراب من حياتكِ و التوغل في تفصيلها حتى يصبح ليس فقط جزء منها بل هو الحياة نفسها..!؟.
دفع بها بعيدا و هو يصرخ فيها: - اذهبى الان، و فورا من امامى، و لا تتحدثى عن أمور لم تخبريها يا فتاة.. وقفت لحظات تلهث أمامه مصدومة من ردّة فعله النارية و التي لم تتوقع و لو للحظة بأن تلك الشخصية المرحة الاريحية قادرة على الاتيان بها.. و أخيرا استجابت قدميها لهتاف عقلها و اندفعت خارج الغرفة كالصاروخ هاربة من أمام ذاك الياسين الجديد الذى لا تعرفه..
بكاءها في الأيام الماضية كان كافيا و يزيد للتعبير عن ندمها و رغبتها في جلد ذاتها لتؤكد خطأ اقتحامها لخلوته، لكن لم يعد ينفع الندم فقد فات أوانه منذ اللخظة التي اكتشف فيها وجودها في غرفته..
نظرت لصورتها في المرأة لترى عيون متقرحة و جفون منتفخة من اثر البكاء، همت بالبدأ في نوبة بكاءجديدة على ذاك المظهر الذى طالعته لنفسها، لكن صوت رنين جوالها جعلها ترجئ تلك النوبة لوقت اخر و خاصة عندما ظهر اسم صديقتها نادية مضيئا على شاشة الهاتف، تنفست بعمق و تناولت جوالها لترد في محاولة للتماسك و عدم الانفجار في البكاء من جديد: - مرحبا نادية..
هتفت نادية في حماسة: - مرحبا بالعروس الهاربة، هل نسيتى ان لكِ صديقة تسألى على حالها..!؟. و استطردت نادية بنبرة مشاكسة: - ام ان شريكك العزيز كان له النصيب الأكبر من اهتمامك ِ..!؟..
عند ذكر ياسين و تخيل محياه الغاضب امام ناظريها انفجرت مى باكية و لم تستطع كبح جماح ثورتها و بدأت في سرد كل الاحداث الماضية لصديقتها و التي استمعت لها بإنصات كالعادة و تنهدت أخيرا و هي تقول لمى تعقيبا على ما سردته للموقف الأخير الذى دار بينها و بين ياسين: - هذا هو سبب اتصالى بكِ اليوم.!؟. ردت مى: - لا أفهمك ِ..!؟، ماذا تقصدين..!؟ و ما شأن اتصالكِ بتلك الشقراء التي..
قاطعتها نادية هاتفة: - انها زوجته.. شهقت مى: - هل هو متزوج..!؟. تنهدت نادية: - زوجته السابقة.. صرخت مى: - هل هو مطلق.. كان دور نادية لتصرخ: - هل استطيع إنهاء كلامى..!؟، ثم اصرخى كما يحلو لكِ. ردت مى: - حسنا، هات ما عِندكِ و بسرعة. استرسلت نادية قائلة: - هذه الشقراء هي زوجته السابقة رحمها الله.. شهقت مى رغما عنها و تمالكت نفسها حتى لا تعقب على كلمات صديقتها فتفقدها صوابها..
استطردت نادية: - اسمها هاجر و هي ابنة عمه و معلمه و أستاذه، ما بينهما كان كقصص العشق التي نقرأ عنها في الروايات، لكن لم يمهلها المرض الذى بدأ يلتهم جمالها حتى تُوفيت ليسقط الدكتور ياسين في نوبة من الاكتئاب لشهور و أخيرا قرر الانضمام للقوافل الطبية التابعة لإحدى المنظمات الصحية، و هناك استطاع تحقيق شهرة واسعة في مجال العمل الخيري و عاد عندما جاءه خبر وفاة عمه لينفذ وصيته ووراثة نصف الشقة مع ابنه الذى باعك أياها نصبا، و كذلك تحقيق أمنية عمه في شراء النصف الاخر و تحويل الشقة لمركز طبى مصغر لعلاج المرضى الغير قادرين..
و بالطبع انت على دراية بباقى القصة.. خالد زوجى قابل بالصدفة احد أصدقاءه القدامى و اثناء الحديث دار الحوار حول تلك المنظمة الصحية التى كان يعمل الدكتور ياسين تحت لواءها و من هنا جاء ذكر اسمه و استطاع خالد معرفة كل تلك التفاصيل عن حياة الدكتور ياسين، عدوك العزيز..
صمتت مى و لم تعقب بكلمة، اذن فهى أخطأت بحقه و خاصة بسبب تلك الكلمات الحمقاء التي تفوهت بها، لا تعرف ما ذاك الشعور الذى دفعها قصرا لتتفوه بمثل تلك الترهات..!؟، و ما شإنها هي من الأساس اذا كانت تلك الشقراء حبيبته التي هجرته او اى من كانت..!؟.
على قدر ما ألمتها كلماته، و على قدر صدق تلك الكلمات و تعريتها لحقيقة شخصها، الا ان تلك الكلمات ما كانت الا ردة فعل منه على ما اندفعت بإلقاءه من اتهامات تجرح في شخصها العزيز على قلبه...
حاولت ان تبدو على طبيعتها رغم وجيب قلبها المتضاعف عندما ادركت ان خطواته التي تقترب الان تنذر بقدومه، اولت ظهرها متعللة ببعض المهام حتى تعطى نفسها القدر الكافى من الوقت اللازم للتماسك و الظهور بمظهر الثابتة الواثقة قبل مواجهته.. و هاقد حانت اللحظة فتنفست بعمق وهو يقف على باب المطبخ مبتدرا حديثه بالتحية: - مساء الخير.. ردت و هي توليه جانب وجهها: - مساء الخير.
تنحنح في احراج: - انا، انا اسف، فما كان على التفوه بتلك الكلمات ال.. قاطعته بحزم: - لا عليك، لقد نسيت ما قلته.. تقدم بضع خطوات لداخل المطبخ فشعرت ان المطبخ الواسع قد اضحى أشبه بثقب إبرة.. وقف ليسأل من جديد: - هذا يعنى انكِ لست غاضبة او حزينة بسبب ما قلت..!؟. هزت رأسها رفضا: - لا، لست حزينة او غاضبة او حانقة على ما قلت.. سأل مشاكساً: - و كيف لى ان اتاكد من ذلك!؟
هتفت ضاحكة و هي تدس أصبع من المحشى في فمه: - اعتقد هذا أكبر تأكيد فَلَو كنت مازلت غاضبة ما جعلتك تتذوقه و لو سرت على رموش عينيك متوسلاً.. هتف و هو يستلذ طعم المحشى في فمه: - يالها من طريقة رائعة للصلح، لنرى هل هي صالحة لأتذوق المزيد..!؟، مى، انا اسف.. قهقهت و هي تدس إصبع اخر من المحشى في فمه ليتلقاه مرحبا و هي تهتف: - و انا أيضا اسفة.. هتف مؤكدا في حزم: - لا مزيد من الأسف رجاءً..
هزت رأسها موافقة، الا انه استعاد مرحه في ثوان ساخراً: - طبعا هذا لا ينطبق علىّ، و خاصة لو كان المقابل هو تلك الأصابع الشهية.
ابتسمت في حبور لمزحته و نظرت اليه متطلعة لياسين اخر، او بالأحرى ياسين ثالث، ياسين العاشق، هل هو قادر على الحب بذاك العمق الذى سمعت عنه من نادية..!؟، و السؤال الأهم، هل هو قادر على ان يحب بنفس العمق و القوة لمرة أخرى..!؟، نحت نظراتها بعيدا عن محياه الباسم عندما وصلت افكارها و خواطرها لهذا المنحى الخطر...