رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس
طرقت على باب شقة الحاج حسن، وابتسمت عندما تناهى لمسامعها صوته يؤكد مجيئه ليفتح الباب و خطواته الثقيلة تقترب بالفعل و اتسعت ابتسامتها عندما انفرج الباب عن محياه الطيب و ابتسامته المحببة..
هتفت في سعادة: - صباح الخير يا حاج حسن، و دفعت بصينية عليها طبق كبير مغطى، تناولها العجوز في فضول ليرفع الغطاء هاتفاً في سعادة: - أرز باللبن!؟، يبدو شهيا، انا أغبط الدكتور ياسين فهو غارق بالفعل في ما لذ و طاب من صنع يديكِ الجميلتين..
قهقهت هاتفة: - من ناحية غارق، فهو غارق بالفعل، و تذكرت كيف انها وضعت بعض المسهلات في طعام قد أعدته بعد ان تناولت منه ما يكفيها و تركته لعلمها بضعفه امام رائحة الطعام الشهية، و بالفعل اكل منه بشهية كبيرة ليظل غارق حتى أذنيه في نوبات الذهاب للحمام حتى اليوم التالى.. ثم غيرت الموضوع متسائلة: - لا اعرف يا حاج حسن، مر اكثرمن شهر على افتتاحى للعيادة و لم يأتِ و لا مريض واحد..!؟.
ضحك الحاج حسن هاتفاً: - و كيف يأتي المرضى، هل عليهم التنجيم حتى يصلوا لعيادتكِ..!؟. سألت متعجبة: - ماذا تقصد!؟. أجاب في هدوء: - يا ابنتى لا توجد اى إشارة تدل على وجود عيادتكِ من الأساس، أين تلك اليافطة الكبيرة التي أبلغتنى انك ستضعينها على سُوَر شرفتك المطلة على الشارع حتى يراها الجميع والتي تحمل اسمكِ و تخصصكِ..!؟. هتفت في تأكيد: - لقد علقتها بالفعل كما أخبرتك.
أكد في رزانة: - لقد عدت اليوم من مشوارى لأتقاضى معاشى الشهرى من البنك و لم أر أى يافطات.. هتفت متعجبة: - كيف ذلك، انها، و قطعت كلامها و قد طرأ على ذهنها خاطر ما، فأستأذنت الحاج حسن في عجالة و دخلت مندفعة كالصاروخ الى الشرفة لترى يافطتها التي تحمل اسمها و تخصصها ملقاة بأهمال على احدى جانبي الشرفة كادت تنفجر غضبا و قهرا و هي ترى يافطته تنير مكان يافطتها..
الاحمق، هتفت بغيظ و هي تدخل الى الشقة مندفعة تبحث عن من فعل ذلك، تبحث عن عدوها اللدود، ياسين نور الدين..
كانت غرفته مفتوحة خالية منه، يبدو انه في الحمام، لن تبحث عنه مطولا فليكن حيثما يكون عندما يظهر أمامها ستتصرف معه بما يجب، الان طبق من الأرز باللبن الذى تعشق سيهدأ من أعصابها قليلا، دخلت المطبخ و فتحت الثلاجة في شوق لطعم الأرز باللبن لتفاجئ بها خالية تماما، نظرت في جميع جوانبها غير مصدقة ما ترى، أين الاطباق الثلاثة الذين تركتهم هاهنا قبل ان تتوجه للحاج حسن بطبقه..!؟، و كانت الأجابة تنهيدة راحة و استمتاع أتتها من خلف طاولة المطبخ جعلتها تنتفض في ذعر قبل ان تتقدم عدة خطوات لتجده، نعم، تجد ياسين يجلس القرفصاء مستندا على الحائط خلفه مغمض العينين منتشياً و حوله أطباق الأرز باللبن خاصتها و لكن، فارغة..
هتفت ساخطة: - ماذا فعلت بأطباقى العزيزة.!؟ تنبه لوجودها ففتح عينيه في تثاقل: - لم أفعل شيء، تذوقتها.. هتفت و سخطها يتزايد: - تذوقتهااا..!، هل التّذوق عِندك بالأطباق..!؟. انفجر في احدى نوبات ضحكه الصاخبة لملاحظتها و لم يعقب، فاستطردت و هي تجز على أسنانها غيظا، : - انك حتى لم تترك لى طبق واحد فقط لاتذوقه مثلك..
هتف وهو ينهض ليشرّف عليها بفانلته الداخلية التي اصطبغت باللون الوردى مما كاد يدفعها للضحك، فهى احدى معاركها الناجحة معه.. ليقول في اسف: - في هذه، انتِ محقة، لقد تناولت الاطباق الثلاثة و انا مغيب تماما من روعة الطعم.. تبدلت حالتها المزاجية بشكل عجيب لتسأله باهتمام: - هل أعجبك حقا..!؟.
هتف مؤكدا: - جدااا، اعجبنى جدااا، انه يشبه ذاك الذى كانت تصنعه امى منذ زمن بعيد و منذ رحلت لم اتذوق مثله، الان و انا اتذوق، و ابتسم مستطرداً، اقصد أتناول، أطباقك المذهلة تذكرت أمى مع كل قضمة..
همست و دمع ما يتراقص في مأقيها، لا تعرف لما!، لكن كلماته لمست وترا حساسا داخلها جعلها تتذكر أمها التي تشتاقها و ما ان يزيد الاشتياق الحد حتى تهم بصنع الأرز باللبن الذى علمتها كيفية صنعه على طريقتها قبل ان تسافر مبتعدة حتى اذا ما اشتاقت لجو العائلة و لرائحة أمها صنعته متوهمة ان أمها هي الصانعة و انها لازالت هناك حيث أحضان أبويها الدافئة و جدران بيتهم العتيقة تضمهم جميعا...
انه وصل بشكل عفوى لمكنون قلبها و تفوه به بشكل تلقائى جعل الدمع يترقرق في المقل دون جهد يذكر.. همست بشجن: - ما أروع ما تصنعه الأمهات، انه دوما يحمل نكهة المحبة الخالصة، سعيدة ان اطباقى ذكرتك بأمك رحمها الله.. همس بدوره ممتنا: - وانا أشكركِ، فلقد اعدتى لى ذكراها و أنفاسها العطرة بمذاق اطباقكِ..
ثم استطرد مازحاً وهو يربت على معدته البارزة قليلا: - كما ان معدتى تشكرك من صميم أعماقها، فانا اسمعها تزغرد الان. انفجرت ضاحكة لتعليقه الساخر، تعالت ضحكاتها في أركان هذا المنزل ربما للمرة الأولى منذ مجيئه اليه، استرعت ضحكاتها الرقيقة انتباهه فتفرس فيها باهتمام لا أرادى سكتت ضحكاتها على نحو مفاجئ عندما ادركت تفرسه فيها، و اصطبغت وجنتاها بلون وردى.
خجلاً، و اندفعت من أمامه متعثرة تحتمى بجدران غرفتها كالعادة، و تتبعها نظراته المتعجبة، و قد نسيت تماما حقدها عليه، و نسيت امر يافطتها الملقاة في الشرفة..
نهضت منتفضة من فراشها عندما تناهى الى مسامعها بعض الضوضاء و صوت احدى الاَلات التي تثقب الجدران، ارتدت مئزرها و غطاء رأسها و اندفعت للخارج تستفهم عما يحدث.. وجدته يقف و معه احد العمال و عدة صناديق كرتونية مبعثرة هنا و هناك.. هتفت في تساؤل حانق: - ماذا يحدث هنا..!؟.
كاد العامل ان يتوقف عما يفعل، لكن ياسين أشار اليه بالاستمرار في عمله و تنحى بها جانبا وهو يقول: - أضع شاشة تلفاز في الردهة الخارجية.. هتفت في حنق: - لكنك لم تستأذننى أولا.. سأل مدعيا التعجب: - و هل على ذلك..!؟، انها شقتى بالمناسبة.. هتفت في حنق: - و شقتى انا أيضا، رجاءً لا تنسى ذلك، و عليك الاستئذان قبل ان تدق مسمار في احد حوائطها..
ابتسم ساخراً: - لن افعل، و المسمار سأدقه متى يحلو لى، و نظر لرأسها من علياءها ليستطرد جزلاً، و حيث يحلو لى.. تركته و اندفعت لحجرتها تغلق الباب بعنف كعادتها لينفجر ضاحكاً كعادته.. دارت حتى اُنهكت داخل غرفتها محاولة تفريغ شحنة غضبها و حنقها تجاه ذاك الوقح بالخارج، و فكرت، لابد لها من عمل شيء، اى شيء تجاه وقاحته و تجرأه عليها..
تنبهت أخيرا ان الضوضاء قد اختفت منذ فترة فاستنتجت ان العامل قد رحل، عليها مواجهته الان.. اندفعت خارج حجرتها حيث وجدته يجلس القرفصاء امام شاشة التلفاز و بيده احدى أذرع جهاز الألعاب الذى يحبه، و قد فقد اى انتباه لسواه، حتى انه لم يتنبه لدخولها الردهة ووقوفها تشاهد عينيه المعلقة بالجهاز بهذا الشكل الطفولى.. ادعت الجهل و سألت: - ما هذا..!؟.
انتفض متنبها أخيرا لوجودها ليجيب و هو يدفع نظراته اليها: - انه جهاز للألعاب الالكترونية، و تناول الذراع الأخرى للعب و مد يده بها اليها متسائلا: - هل تحبى تجربته..!؟. كانت بانتظار عرضه الذى كانت على يقين من تقديمه لتجلس القرفصاء جاعلة مسافة أمنة بينهما و هي تتناول الذراع..
اخذ هو في عرض الألعاب الذى يحتويها الجهاز و التي تحفظها عن ظهر قلب و لكنها ادعت الجهل بها و هتفت: - ماذا الذى تفضله انت من ألعاب..!؟. أجاب بعفوية: - كرة القدم بالتأكيد.. أكدت في ثقة: - فلتكن اذن كرة القدم.. هتف: - لست مجبرة على لعب كرة القدم لأجلى، يمكنك اختيار ألعاب اسهل، لكِ مطلق الاختيار.. أكدت من جديد: - وها انا قد اخترت، ام انك تخاف الخسارة..!؟.
قهقه ملأ فيه، حتى كاد يسقط على ظهره، و تركته هي يقهقه كيفما شاء و نظرت اليه نظرات واثقة من انتصارها و ما ان هدأت نوبة ضحكه حتى سألها: - أي فريق تختارين..!؟. أصرت على تأكيد جهلها ولم تذكر اسم الفريق المشهور عالميا لتهتف: - الفريق الأبيض.. ليضحك من جديد مؤكدا: - هو لكِ، و انا سألعب بالفريق الاخر..
و أبتدأ اللعب، و ما هي الا لحظات حتى كان هدفها الأول يمزق شباك مرمى فريقه، ابتسمت في براءة عندما وضع ذراع اللعب من يده محملقا فيها لتهتف مبتسمة في وداعة: - حظ المبتدأين على ما اظن..!؟. أقر بإيماءة من راسه: - نعم حظ المبتدأين، صدقتى.. و استمر اللعب، و صراخاتهما تتعالى كلما احرز احدهما هدفا، و أخيرا، انتهت المباراة بهدف أحرزته هي في الثوانى الأخيرة لتقفز من مكانها منتشية و تهلل قافزة في فرحة.
فها هي تنتصر عليه، و في احب الألعاب لقلبه ظلت هي تتقافز في سعادة و هو يتفرس سعادتها بعيون خبيرة جعلتها أخيرا تتوقف عن نشوة انتصارها ليهتف هو في تساؤل مريب: - ليست المرة الأولى التي تلعبين فيها، أليس كذلك..!؟. هتفت متعجبة: - وهل سيشكل ذلك فرقا مع سيادتك..!؟. نهض هاتفاً في سخط: - بالطبع فقد كنت ألعب اسوء مبارياتى لأجلك، بينما انت تدعين الجهل باللعبة و قواعدها.. -انت تعلق فشلك على شماعة الاعذار..
هتف في سخط متزايد: - انا لست فاشل، بل انت المخادعة... هتفت هي في غضب: - انا لست مخادعة، يا فاااشل.. اندفعت مبتعدة عنه و ما ان وصلت لغرفتها حتى هتفت بأعلى صوت: - فاااشل.. ليرد عليها هو ساخطا: - مخاااادعة.. ليذهب صراخه ادراج الرياح وهى تصفق باب غرفتها المسكين في عنف...
اخيرااا خرج من الشقة و كم كانت تنتظر تلك الفرصة بفارغ الصبر، ما ان تأكدت انه ابتعد بعربته التي اشتراها حديثا حتى تنهدت و ألتقطت جوالها و اتصلت بتلك النمرة التي حفظتها من اجل تلك الفرصة.. دقائق و كان النجار امام باب الشقة يغير كالون الباب و يسلمها المفتاح الجديد تسلمته من النجار و كأنها تسلمت مفتاح باب الجنة و أخذت ترقص و تقفز فرحا على رنات المفتاحين المعلقين معا في سلسلة مفاتيحها...
ألقت المفاتيح على طاولة بالقرب من الباب و اندفعت في كل ارجاء الشقة و كانها تتنفس أخيرا بحرية في غير وجوده الذى يعكر صفو حياتها و يقضى على حريتها و التي اعتادت دوما عليها خاصة مع الوحدة التي عاشتها في غربتها..
اندفعت لحجرتها تلقى بأسدال صلاتها الذى اصبح الزى الرسمي الذى ترتديه في وجوده او حتى في غير وجوده خوفا من ظهوره المفاجئ، أصبحت بحق لا تطيق حبسها الانفرادي في حجرتها و عدم قدرتها على التجول في شقتها كيفما يحلو لها، فتحت خزانة ملابسها و أخذت تنتقى منها ماتشاء، وقع اختيارها على فستان رقيق بلون الأبنوس يعكس لون بشرتها المشرب بالحمرة و يظهرها بانوثة طاغية، عندما اشترته لم تعرف انها يوما ما ستُجن و ترتديه، فهو خليط من الشيفون و الساتان مع بعض الزهور الملونة على جانبي صدره المفتوح بسخاء و أطرافه القصيرة التي بالكاد تصل لركبتيها، ارتدته و لم تصدق انها هي من تقف امام المرأة، فقد اختلفت الصورة تماما عن صاحبة الاسدال و كأنهما توأمتين، احداهما نقية طاهرة و الأخرى ماجنة متحررة.
ابتسمت لصورتها في المرأة و هي تهمس لنفسها، : - ما المانع من بعض الجنون، دقائق من استعادة الحرية المفتقدة لن يضر احد. تركت شعرها القصير الذى يتموج حتى يلامس كتفيها بالكاد حرا دون اى زينة و وضعت بعض من احمر شفاه قان جعل شفتاها كحبتى كرز و ارتدت حذاء ذو كعب عال ليضيف بعض من السنتيمترات على قامَتَها فيزيدها ثقة ورغبة في التحدى..
ظلت كثيرا تؤجل التفكير في ردة فعله عندما يأتي و يعرف بما حدث و يجد نفسه بالخارج و هي بالداخل و معها مفاتيح الشقة و ان عودته لهذه الشقة امر من الماضى، فليلجأ للقضاء، و يبقى الحال على ما هو عليه، هي بالداخل و هو بالخارج..
لكنها تساءلت، هل يمكن له ان يكسر الباب!؟ هل يمكن ان يتصل بالشرطة لتمكنه من الدخول!؟، الكثير من هل قفز لذهنها لكن حاولت هي قدر استطاعتها طرد كل تلك التساؤلات بعيد و الاستمتاع بلحظات الحرية الوليدة، خرجت بكامل اناقتها للردهة الواسعة وفتحت جهاز التسجيل تختار اكثر الاغانى صخبا لعل ذلك يجعلها تخرج شحنة التوتر التي تعتريها في انتظار رد فعله..
ظلت تتقافز على أنغام الموسيقى و انتفضت ساكنة فجأة عندما تناهى لمسامعها طرقات قوية على الباب، انه هو، هي تعرف ذلك، حسنا حان وقت المواجهة، اتجهت لجهاز التسجيل لترفع من صوت الموسيقى المنبعثة منه حتى تطغى على ارتفاع طرقاته على الباب.. تمايلت في سعادة و رقة و هي تؤكد لنفسها، انسيه يا مى، انسيه و انسى طرقاته الصاخبة و ركزى مع صخب الموسيقى و نغماتها..
تمايلت و تمايلت و نسيته تماما، نسيت كل شيء واى شيء الا تلك الموسيقى التي تعشقها و التي تسللت الى مسامها و انستها حتى نفسها عاشت لحظات من رقة و مجون و هي تتمايل لحظات لم تحظ بها ابدا في حياتها و ادركت فجأة انها أنثى، امرأة نسيت كيف تكون نفسها و كيف تعيش كامرأة حقيقية، و انها بحق دفنت نفسها و سنوات عمرها في دور فرض عليها، و عليها الان ان تصبح انانية ولو قليلا.
بعض الانانية لن يضر احد، بعض الانانية هو كل ما انا بحاجة اليه.. توقفت الموسيقى، فتوقف تمايل جسدها تلقائيا و تنهدت و هي تلتقط أنفاسها و تفتح جفونها المسدلة منذ بدأت الموسيقى تسيطر على كيانها و تشعرها انها انتقلت لعالم اخر..
فتحت جفونها لتصرخ شاهقة و هي تراه يقف أمامها بغطرسة مقيتة يستند بجسده على الطاولة بجوار الباب و يضع احدى قدميه الممتدة بأريحية على الأخرى و قد بدأ يصفق في استحسان و كانها كانت تقدم عرضا خاصا لاجله، و الغريب ان ملابسه تقطر مياه، كانت بالفعل مبتلة تماما، حتى شعره قد اصبح سبطا بفعل المياه و تناثرت خصلاته بشكل عشوائى.. تمالكت نفسها صارخة: - انت، انت، كيف دخلت الى هنا..!؟.
هتف ساخراً مغيظا أياها: - انا لى اساليبى الخاصة، و أساليبك البلهاء تلك لن تفلح معى. تذكرت هيئتها و ما ترتديه، فصرخت في صدمة و اندفعت للداخل تكاد تسقط على وجهها من شدة اندفاعها و هي ترتدى ذاك الحذاء ذو الكعب العال..
أغلقت باب غرفتها كالعادة بعنف و سقطت على فراشها تبكى قهرا و غيظا فمحاولاتها للاستئثار بالشقة قد باءت بالفشل، و اى فشل، انه فشل ذريع، فهى لم تخسر مجرد فرصة سانحة لاستعادة شقتها و حريتها المفتقدة، لكن الادهى هو انه رأها و هي على هذه الحالة المجنونة، و بهذا الشكل المتحرر.. و زاد نحيبها و هي تتساءل: - منذ متى يا ترى كان هناك يشاهدنى و انا اتمايل بهذا الشكل الماجن.!..
كالعادة سمع صوت صفق باب حجرتها و كالعادة ابتسم بسخرية و نهض يتناول تلك المفاتيح الملقاة على الطاولة التي كان يستند عليها جذب احدى نسختى المفاتيح الجديدة للشقة و اخرجها من جوار اختها ووضعها في سلسلة مفاتيحه الخاصة و دخل لغرفته يخلع عنه ملابسه المبتلة، لقد خرج مضطرا عندما استدعاه احد زملاءه من اجل حالة حرجة في غرفة العمليات لم يستطع التعامل معها و لن يستطع احد التعامل معها سوى الدكتور ياسين نور الدين فاندفع مهرولا و لم يضع ابدا في حسبانه انها ستقوم بمثل تلك الخدع الحمقاء..
أنجز مهمته بنجاح و عاد ليجد ان لا موضع لسيارته امام البناية فأضطر لوضعها في مكان ابعد و عاد مترجلا في ذاك الجو الماطر.. كان قد ابتل تماما عندما وصل الى مدخل البناية حتى ان الماء تسرب الى سترته الثقيلة و اصبح الماء يقطر حرفيا من ملابسه و شعره، اندفع مسرعا للمصعد و ما ان وصل للطابق الذى يقطنه حتى تناهى لمسامعه ذاك الصوت المرتفع للموسيقى و القادم و للعجب من شقته..
اخرج مفتاحه يحاول فتح الباب و لا فائدة، حاول معالجة الباب اكثر من مرة بمفتاحه لكن الباب لا يستجيب، و أخيرا ادرك سر الفرحة و الاحتفال الدائر بالداخل، لقد فطن انها غيرت كالون الباب و اصبح بالفعل خارج الشقة و لها الحق في الاحتفال بانتصارها المزعوم.. لكن يضحك كثيرا من يضحك أخيرا..
ترك الباب بعد عدة طرقات قوية لم تستجب لها بطبيعة الحال و طرق باب الحاج حسن ليستعير منه أداة حادة يستطيع بها معالجة الباب لفتحه متحججا ان مى لا تسمع طرقاته من صوت الموسيقى العالى.. عالج الباب بالفعل و ابتسم من سهولة فعله ذلك و الفضل يعود لها، فقد نسيت في غمرة فرحتها ان تغلق الباب بالمفتاح الجديد مما سهل مهمته في معالجة قفل الباب ليفتح له بسهولة و لا تنتبه هي بسبب صخب الموسيقى..
لا ينكر مطلقا انه ذهل عندما رأها على حالها، فلقد ظن انها ليست مى، لقد تبدلت كليا، أين تلك المتجهمة صاحبة الاسدال التي تتعرقل دوما فيه لقصرها..!؟، انه يرى الان نقيضتها تماما، فتاة متحررة بفستان أبنوسى و طلاء شفاه صارخ و حذاء ذو كعب عال أضاف لطولها طولا فجعلها ممشوقة القد.. تمايلت أمامه برشاقة و خفة رائعة و تذكر كيف انه شهق مصدوما عندما طالعه صدر فستانها..
ان هذه المرأة استثنائية بالتأكيد، كيف يمكن لها ان تجمع كل تلك الصفات المتناقضة في كيان واحد..!؟. كيف يمكن لها ان تكون بتلك البراءة التي تكون عنوان لها و هي ترتدى إسدال صلاتها الذى لا ترتدى غيره تقريبا و يشع وجهها طهرا و عفة..!؟.. و فجأة تنقلب لامرأة أخرى تماما قادرة على اغراء أعتى الرجال باشارة من إبهامها و بدون مجهود يذكر..!؟. دس نفسه في فراشه و تدثر بالأغطية جيدا و قد شعر ان البرد ينخر عظامه..
و عاوده التفكير فيها من جديد و هو يعطس بقوة محاولا طرد البرد الذى يدق بابه، أغمض عينيه و هو يعلم علم اليقين ان طرد البرد اسهل كثيرا من طرد صورتها برداءها الابنوسى و قدها المتمايل من مخيلته..
رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس
تسللت بهدوء من غرفتها تتلفت حولها حتى تصل للمطبخ فهى تشعر بجوع قارص دفعها للخروج من مخبئها في تلك الساعة المتأخرة من الليل لتبحث عن طعام بعد ان نفذ مخزونها الاستراتيجي من الشيكولاتة و الذى تحتفظ به في ادراج طاولة الزينة.. خطت عدة خطوات خارج الغرفة و في منتصف الطريق للمطبخ سمعت صوته يهتف بوهن: - تتسللين لتحضيركارثة جديدة من كوارثك..!؟.
تسمرت في مكانها للحظات ثم استدارت لمواجهته و هي تتخصر هاتفة: - انا لا انتوى تحضير اى كوارث، انا ذاهبة لتحضير عشاء متأخر، هل هناك اعتراض..!؟.
أشاح بذراعه في وهن و هو يقول: - فلتفعلى ما يحلو لكِ، الأهم ان تبتعدى عن طريقى للحمام لاننى.. و لم يكمل كلماته و هو يترنح مستندا على الجدار المجاور له بعد ان قام بجهد مضن ليتابع حديثه معها، اندفعت هي لا اداراديا لتسنده بكل ما أوتيت من قوة، كان مظهرهما كجبل يستند على عشبة ندية..
بلا اتفاق دفعت جسده لحمامها القريب و ساعدته حتى وصل لعتبته بعد ان اضناهما التعب سويا، و ما ان وصل له، حتى كانت معدته تئن ألماً و لم تهدأ حتى أفرغت ما بها كله للخارج.. وقفت على عتبة باب الحمام لا تعرف كيف تتصرف، هل تدخل لتؤاذره ام تبتعد ليأخذ حريته دون شعور بالحرج في وجودها..!؟. انتهى قبل ان تتخذ قرارها، و تأوه بشكل جعل قلبها يترنح ألماً لأجله، لا تعرف لما لم تتوقع ان يمرض مثل باقى البشر..!؟.
تناولت كفه التي ناولها أياها في أريحية و أسلمها زمام أمره دون اى اعتراض، كان بحق لا حول له ولا قوة، استند عليها و هي تحاملت على نفسها حتى اوصلته لباب غرفتها، فما كان هناك، لا قوة من قبله و لا طاقة احتمال من قبلها لتسير به حتى غرفته في اخر الرواق.. دفعت باب حجرتها ليساعهما و أخيرا، نفذت طاقتها معا، لم يعد هو قادر على الوقوف للحظة و لا هي قادرة على احتمال ثقل جسده على أكتافها لثانية أخرى..
سقط على فراشها كشجرة ضخمة اجتثت من جذورها و هي أيضا لم تستطع التوازن فسقطت رغما عنها فوق صدره او بالأدق، فوق بطنه البارز، شهقت رغما عنها وهى تحاول التماسك للنهوض مبتعدة، رفع هو رأسه وسط محاولاتها النهوض ليهتف ساخراً بصوت وَاهن: - محاولة اغراء لا بأس بها، و لكن يمكن تأجيلها حتى اتعافى.. و ألقى برأسه للوراء من جديد، كانت هي بالفعل نهضت مبتعدة عنه، استشاطت غضبا عندما ألتقطت أذناها كلماته المتهكمة..
كادت ان تهتف برد لاذع الا انه استبقها معتدلا على الفراش بصعوبة جاذباً الغطاء على جسده و أشار لها بالخروج، وهو يهمس بنبرات صوته التي تخرج مذبذبة: - فيما بعد، الان وداعا.. خرجت و أغلقت الإضاءة و الباب خلفها و قد احتل حجرتها و فراشها و تفكيرها أيضا.
فقدت شهيتها تماما بعد ان رأته بهذا الشكل و فكرت هل من الأفضل تركه ينام دون ازعاج ام عليها احضار طبيب لمعاينته..!؟. داهمها النعاس فالساعة الان تخطت الرابعة فجرا بقليل، ولكن أين يمكنها النوم و هو قد احتل حجرتها..!، تسللت على اطراف أصابعها و دخلت حجرته و تنبهت لحركتها المبالغ فيها فابتسمت لنفسها في بلاهة، لماذا تتسلل و هي تدخل لحجرته اذا كان هو نفسه ليس فيها بل في غرفتها في تلك اللحظة..!.
همست لنفسها مبررة، لابد ان هذا من اثر الجوع و قلة النوم، عليها ان ترتاح قليلا حتى تستطيع النهوض لمباشرته.. فتحت الإضاءة الجانبية الخافتة بالحجرة ووصلت لمرتبته الارضيّة و انحنت لتدس نفسها أسفل غطاءه و العجيب انها شعرت بدفء محبب يتسلل اليها باعثا في نفسها الشعور بالطمأنينة و الراحة، فراحت في نوم عميق، داهمتها فيه الكثير من الأحلام و الاضغاث، حتى انتفضت أخيرا على احداها مستفيقة من نومها المضطرب.
مدت كفها تتناول جوالها لتعرف كم الساعة و ما ان طالعت شاشته حتى اكتشفت انها نامت اقل من الساعة بقليل مدت يدها تعيد هاتفها للطاولة من جديد فاصطدمت باطار لصورة فوتغرافية كادت ان تسقطها ارضا لولا انها جاهدت لانقاذها لتسقط في أحضانها، تنهدت بأرتياح و و أمسكت بالصورة تعيدها و لكن تجمدت يدها في منتصف المسافة للطاولة لتعيد الصورة مرة أخرى لمرمى بصرها لتدقق النظر بها، انها صورة لشقراء رائعة تبتسم ببراءة و عيونها تحمل مرح الدنيا و شقاوتها..
من هذه..!؟، كان السؤال الأول الذى تبادر الى ذهنها، لم تفكر مطلقا ان ياسين هذا كان له حبيبة سابقة او خطيبة لم يسعده الحظ بالاقتران بها.. همست لنفسها، يبدو انه كان يحبها كثيرا و لا يزل حتى يحتفظ بصورة فوتغرافية لها في إطار ذهبى رقيق بالقرب من فراشه..
شعور عجيب اكتنفها و غمرها كليا، شعور لا تعرف له تفسير و لا تستطيع حتى ان تصفه و تعطى له مدلول محدد، شعور دفعها لتضع الصورة الفوتغرافية بعنف على الطاولة قبل ان تنتفض مبتعدة لتذهب حيث ذاك الذى احتل فراشها و جعل النوم يجافي جفونها، حتى تلك الدقائق التي غفلت فيها لم تخلو من محياه متجسدا في اضغاث أحلامها..
قبل ان تندفع من الغرفة عادت و ألقت نظرة سريعة بفضول على محتوياتها، حقيبته المفتوحة البارز منها ملابسه و اغراضه، المرتبة الملقاة ارضا و التي كانت تفترشها منذ قليل، حقيبته الطبية الصغيرة التي يحتفظ فيها بكل الأوراق الهامة و ملفاته الطبية، و بعض الأزواج من الأحذية بعضها رياضى و الاخر كلاسيكى، قفزت على شفتيها ابتسامة لا أرادية عندما طالعت تلك الاخذية، و بدأت في تخمين مقاسها، و بشكل عفوى اقتربت من ذاك الجانب الذى يحتويها و خلعت خفها المنزلى و دست قدمها في احداها لتشهق ثم تنفجر مقهقة عندما رأت قدمها يغوص في فردة حذائه، كانت أشبه بطفلة قررت ان تجرب حذاء ابيها، أخرجت قدمها من عمق الحذاء و اتجهت لتخرج من الغرفة و لا تعرف لما توجهت نظراتها لاأراديا للصورة و صاحبتها المفعمة بالحياة فاندفعت مغادرة و كأن صاحبة الصورة تتعقبها..
فتحت باب غرفتها ببطء و دلفت للداخل في حذر حتى وقفت بالقرب من الفراش ليطالعها محياه ممددا في منتصفه و على ما يبدو دارت هاهنا معركة بينه و بين غطاء السرير الذى تراه الان ملفوفا حول احدى ساقيه، اقتربت ووضعت كفها على جبينه لتشهق هي من شدة احتراق جبينه و ينتفض هو من لمستها دون ان يستيقظ، دارت حول نفسها لا تعرف كيف تتصرف في مثل تلك الساعة، و أخيرا اندفعت لشقة الحاج حسن تدق بابه، الذى فتح اسرع من عادته لانه كان يصلى بالقرب من الباب..
هتف متسائلا عندما طالعه وجهها المذعور: - خيرا يا ابنتى..!؟. هتفت في توتر: - اسفة يا حاج، لكن، وأشارت لباب شقتها، ياسين حرارته مرتفعة جدا و لا اعرف كيف أتصرف في مثل تلك الساعة.. أجاب مطمئنا: - لا عليكِ يا ابنتى، عودى اليه، و انا سأخبر عِوَض بان يحضر الطبيب الذى يقطن على بعد بنايتين من هنا، نحن دوما نستدعيه للطوارئ، عودى الان و ابقى بجانبه...
أومأت برأسها إيجابا و اندفعت لشقتها في انتظار الطبيب و في طريقها للغرفة احضرت منشفة نظيفة و بعض الماء الفاتر..
دلفت للغرفة ووضعتهما على الطاولة بجوار السرير و جلست جواره تبلل المنشفة و تضعها على جبينه المستعر، وصلت درجة هزيانه لمستوى اعلى من حرارة جسده المنتفض و اصبح يلقى بهمهمات غير مفهومة بالمرة، لكنها استطاعت تمييز اسم كرره عدة مرات بوضوح، هاجر، هل هي تلك الشقراء التي يحتفظ بصورتها بالقرب من فراشه..!؟.
اعادت المنشفة للماء الفاتر مرة أخرى و في منتصف الطريق لجبينه سقطت المنشفة في حجرها و شهقت هي مصدومة حتى انها لم تنتبه للمياه التي بدأت تتسلل لعباءتها فأسمها الذى بدأ يهمس به الان، و طريقة نطقه أياه، جعلت الدماء تتجمد في عروقها، ألتفتت اليه فقد اعتقدت انها أُصيبت بعدوى الهزيان هي الأخرى، لكن، اسمها الذى كان يكرره الان لا يمكن ان تخطئه اذنيها..
ألتقطت أنفاسها في صعوبة و انحنت قليلا تهمس بالقرب من أذنه: - انا هنا ياسين، ستكون بخير، انا بقربك.. كانت تتوقع ان كلماتها ستجعله يهدأ و يستكين و يتوقف عن تكرار اسمها و ترديده بهذا الشكل الذى يجعلها تفقد ثباتها و يتحرك بداخلها شيء ما لا تستطيع ادراك كنهه، شيء يشبه حنان أمومى عزته لحالته التي تراه عليها الان..
انتفضت، و ألتقطت المنشفة التي شعرت ببردتها أخيرا من حجرها و ألقت بها داخل طبق الماء و اندفعت تفتح باب الشقة الذى تناهى لمسامعها عدة طرقات عليه.. فتحت على عجل ليطالعها الحاج حسن و من خلفه الطبيب، أفسحت الطريق و دلتهما على الغرفة باشارة صامتة من يدها.. غاب الطبيب دقائق وما ان قررت اللحاق به الا و كان مغادراً الغرفة يتبعه الحاج حسن مستفسرًا..
أقر الطبيب في هدوء وهو يكتب وصفته الطبية: - سيكون بخير، انه يعانى من برد شديد، عليكم الاعتناء بطعامه، لا ياكل الا مسلوق و اعطاءه الدواء بانتظام، ثلاثة أيام و سيكون على ما يرام، و قبل ان انسى، انه غارق في عرقه نتيجة الحمى، لن اوصيكِ، قالها لمى و هو ينظر اليها، عليكِ بتغيير ملابسه بشكل دورى، كلما عاودته الحمى.. اصطبغ وجهها بلون قان و حمدت ربها انها لم تعترض برعونة كعادتها..
جذب الطبيب الورقة التي دون بها دواءه من دفتره ليختطفها الحاج حسن قبل ان تلتقطها يد مى.. و ينظر لها نظرة معاتبة، و يصطحب الطبيب للخارج.. تبعتهما مى شاكرة الطبيب و همس لها الحاج حسن بانه سيرسل عِوَض لشراء الدواء.. ابتسمت له ممتنة في وهن، ربت على كتفها بحنو أبوى و أشار لها لتعود للاعتناء بزوجها.
عادت للغرفة لا تدرى ماذا تفعل، و تاهت في كلمات الطبيب، حتى سمعت الطرق مجددا على باب الشقة، فتحت ليطالعها عِوَض و هو يفرك عينيه ليطرد اثر النعاس و هو يناولها الدواء الذى ابتاعه، مدت كفها تنقده ثمنه مع إكرامية كبيرة جعلت النوم يهرب من عيونه التي رقصت فرحا و هو يهتف بالدعاء لسلامة الدكتور ياسين، ابتسمت مى و دخلت لتباشر مهمتها من اجل ان يتعافى عدوها اللدود، و يعود لحجرته و يتركها تلوذ من جديد بمخبأها الوحيد، جدران حجرتها التي تفتقدها و بشدة..
رواية ورطة مع السعادة للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع
دخلت للمطبخ و وضعت الدواء جانبا و قد قررت تأجيل تغيير ملابسه بعض الوقت حتى تبدأ في استيعاب الفكرة.. الان هي تفكر في وضع بعض الحساء على النار حتى يتناوله ما ان يستيقظ.. بدأت تعد الحساء بشكل آلى و على الرغم من انها لم تنم تقريبا الا انها شعرت انها متيقظة بكل حواسها...
انتهت من اعداد الحساء، ماذا عليها ان تفعل بعد..!؟، بشكل لاارادى يحاول عقلها ترتيب العديد من المهام التي تلهيها عن مهمتها الأساسية الان.. قامت بكل ما يمكنها فعله، و الان، حانت اللحظة الحاسمة، دخلت لغرفته و انحنت تبحث في حقيبته عن ملابس نظيفة و جافة تستبدلها بتلك التي بللتها الحمى.. تناولت فانلة داخلية بلون وردى و سترة قطنية.
خفيفة و تنهدت و هي تتوجه لغرفتها حيث لايزل على حاله يهمهم بحروف عشوائية على الرغم ان حرارته بدأت في العودة لوضعها الطبيعى وضعت الملابس جانبا على طرف الفراش و اقتربت وهى تؤكد لنفسها، اعتبريه احد مرضاكِ، انه بالفعل مريض و يحتاج مساعدتكِ، اعتبريه كذلك، حسنا، انه كذلك.
تشجعت و اقتربت منه، بدأت في فك اذرار سترته و ما ان انتهت حتى تنهدت جاء الجزء الأصعب من المهمة، كيف تخلع عنه سترته!
جاءت من تحت كتفه و مررت ذراعها و دفعته عن الوسادة بكامل طاقتها ليستقيم قليلا و دفعت نفسها خلف ظهره، ذفرت أنفاسها بإرهاق و هي تثبت الجزء الأعلى من جسده المترنح بكفيها الممسكتين بكتفيه، و لكن ماهى الا ثوان حتى ثقل الجسد على كفيها الضعيفتين فاندفع جسده مسترخيا على جسدها الذى اصبح الان محشورا بين ظهر الفراش و ظهره المتكئ عليها، تحاملت على نفسها و خلعت أخيرا الذراع الأيسر لسترته و جذبتها من تحت جسده و أخيرا خلعت الذراع الأيمن لتحرره بأعجوبة من سترته..
ألتقطت أنفاسها بنفاذ صبر، فلازال الجزء الأصعب لم يُنجز بعد، ارتجفت عندما سمعت همساته تكرر في نبرة مهزوزة و حروف مضطربة، اشعر بالبرد، و بدأ يرتجف بالفعل والادهى من ذلك انه بدأ يتشبث بها و يحتمى في أحضانها من ارتجافاته المتتابعة.. لم يسعها الا ان تهمس له في صوت ترتجف نبراته كصاحبته: - أهدأ، انا هنا، و سأدثرك حالا، فقط حاول ان تساعدنى قليلا ارجوك..
بالطبع لم يستمع او يع اى من كلماتها بل زادت ارتجافاته لان فانلته الداخلية كانت بالفعل مبللة من اثر الحمى بشكل ينذر بالخطر اذا لم يتم تبديلها بواحدة جافة، و فورا..
تحاملت على نفسها و فكت تشبثه بها و بدأت في جذب اطراف الفانلة حتى تخرج يده منها و هكذا سهلت المهمة في الحانب الاخر، ألقت بالملابس المبللة بعيدا و تناولت بصعوبة الملابس الجافة من على طرف الفراش حيث وضعتها و بدأت في ألباسه أياها و تذكرت كيف كانت أمها تلبس بن اختها الصغير ملابسه بطريقة محترفة في ثوان معدودة، حاولت اتباع نفس الطريقة، بالفعل سهلت عليها كثيرا لكن ثقل وزنه على جسدها المطحون بين ظهر الفراش الخشبي و ظهره، جعلها تئن ألماً ما ان انتهت من مهمتها الانتحارية...
جذبت نفسها بأعجوبة ليسقط جسده مترنحا على الفراش، شهقت ذعرا، لكن حمدت ربها ان راسه كانت بعيدة بما يكفى حتى لا ترتطم بظهر السرير الخشبية، بدأت في محاولات وضع جسده باعتدال على الوسادة و أخيرا جذبت الغطاء على ذاك الجسد الذى أنهكها حد اللامعقول و استنفد قدرتها و ثباتها حد اللانهاية.
تأكدت ان حرارته عادت الى معدلاتها الطبيعة الى حد كبير، أُعزت ذلك للمحلول الذى رأت الطبيب يحقنه به، تنهدت براحة و تناولت ملابسه المبتلة و خرجت من الغرفة و أغلقت بابها خلفها و هي تكاد تموت انهاكا و رغبة في النوم تجير اجفانها على الاطباق رغما عنهما.. توجهت لحجرته و ألقت بنفسها على مرتبته و تدثرت بغطاءه و لم تنس ان تولى ظهرها لصورة فوتغرافية بأطار ذهبى لفتاة شقراء فاتنة...
ما كل تلك الرؤى و الأحلام التي راودته..!، و ما كل تلك الخيالات التي داهمت مخيلته و هو راقد في سبات عميق و لا قدرة له على الاستيقاظ منه..!؟. رأى أشخاصا لم يرهم منذ سنوات، و أشخاص رحلوا عنه و لم يعودوا في دنيانا، و أشخاص كاد الشوق اليهم يقتله.. و أشخاص قابلهم منذ أشهر قليلة، لكنه وجد نفسه متعلق بهم وكانه يعرفهم منذ عمر طويل..
ومن بين كل تلك الاوجة لم يتذكر الا وجه واحد، وجه لفتاة قصيرة القامة، هادئة الملامح، ضحكاتها تذيب الجليد و نظراتها يمكن ان تقتلك او تحييك، كيفما شاءت، ووقتما شاءت.. تقلب في الفراش، و بدأت جفونه ترفرف منذرة باستيقاظه و رائحة ما تتغلغل الى حيث روحه لتوقظ بواعث شوق كامن هناك، شوق غادره منذ زمن بعيد و لم يعد، شوق إلى أحضان دافئة و قلب كبير و عقل متفهم..
فتح عينيه و تطلع بذهول الى كل ما يحيط به و بدأ عقله يعمل بسرعة كبيرة حتى توقف به على مشهد استناده عليها وهو خارج يترنح من الحمام بعد ان افرغ كل ما بمعدته، كل ما يذكره هو انه سقط على الفراش و أولاها ظهره متعبا، حاول ان يتذكر اى تفصيل عن حدث ما قد تكون الذاكرة قد ألتقطته، لكنه لم يفلح..
تنهد في إرهاق، و دفع عنه الغطاء كى ينهض من غرفتها و يترك لها فراشها و أغراضها و يعود لحجرته ليحتفظ بمساحة أمنة بعيدة عنها.. فما عاد قادر على ان يغفو و هو يغفو في أحضان عطرها الذى يعبق به الفراش و ينشر شذاه الغطاء و تحدثه عن صاحبته الوسائد..
ترنح قليلا حتى وصل للباب و خرج حافيا حتى وصل لمنتصف الرواق مستندا على الحائط، كانت هي في الحمام تتوضأ لصلاة الظهر و ما ان خرجت و طالعت ذاك الشبح المترنح في نهاية الردهة حتى كادت ان تصرخ رعبا، لكنها استدركت الامر عندما وجدت باب حجرتها مفتوح و بنظرة سريعة وجدت فراشها خال منه، اندفعت اليه تسند جسده المترنح المنذر بالانهيار في اى لحظة.. لكنه أشار اليها بانه قادر على الوصول لمرتبته العزيزة بنفسه..
هتفت في عتاب: - ما الذى دفعك لمغادرة فراشك..!؟، انت لاتزل متعب.. همس ساخراً: - فراشى..!، انا ذاهب لفراشى.. وهمس مخاطبا نفسه، ذاهب حيث لا أرق، و لا خواطر خطرة، و رجاءً البقاء بعيدا قدر الإمكان.. كان يتمنى في تلك اللحظة لو يصل لغرفته ليغلق بابها و يضع عليه يافطة عريضة.. ممنوع الاقتراب حتى اشعار اخر ..
لكن للأسف جسده الاحمق خانه و لم تسعفه قدماه للوصول لمرتبته بمفرده فمدت هي كفها تساعده في صمت حتى وصل أخيرا و تركت كفه فاندفع منهارا على المرتبة.. هتف ساخراً بصوت واهن: - هل من عاداتكِ التخلي عن من تسانديهم في اخر لحظة..!. هتفت ترد سخريته وقد واتتها الفرصة أخيرا لتأخذ بثأرها: - انا فقط أخاف عليك من نوبات إغرائي اذا ما سقطنا معا كما حدث في السابق فتركتك تسقط وحيدا..
ضحك على قدر ما اتاحت له قوته و قد تذكر ما قاله لها عندما سقطت معه على فراشها، أنها لا تنسى ثأرها ابدا.. همس بصوت جاد: - بدأت أخافها بالفعل.. سألت مستفهمة: - هل قلت شيء ما..!؟، اه بالمناسبة، انا ما اعتنيت بك الا لسبب واحد، هو شعورى بالذنب تجاهك، فانا اشعر للأسف ان تركى لك خارج باب الشقة مبلل لفترة طويلة كان سبب في مرضك، فرجاء ألقى بافكار الاغراء الرهيبة تلك بعيدا عن مخيلتك الخصبة..
هز راسه نفيا، و بدأ يعتدل متمدداً على المرتبة و يجذب الغطاء على جسده و للمرة الأولى يتنبه ان ملابسه قد تبدلت، فعاوده حسه الفكاهى و قرر ان يقتص منها لألقاءها أياه بهذا الشكل، و لكلماتها الأخيرة تلك التي ادعى عدم الانتباه لها.. نظر لملابسه بشكل استفهامى مما دفع اللون القرمزي لوجنتيها و أشاحت بوجهها جانبا ليهتف هو ساخراً: - يبدو ان مرضى لم يثنيكِ عن محاولات اغرائى، أليس كذلك..!.
لكن للأسف، انا محبط جدا لانى لا أتذكر شيء.. انتفضت مندفعة للخارج عند تلك النقطة و هي لا تجد ما يليق لتصفه به، الا انها صرخت في ثورة، وقح، و هي تغلق الباب خلفها بعنف، و كالعادة يقهقه هو ويهتف، جباااارة..
لو على رغبتها هي لوضعت له سم قاتل في طبق الحساء لكن لابأس، سأفعل ذلك يوم ما اذا ما زادت استفزازاته عن حدها... طرقت باب غرفته و هي تحمل صينية عليها طبق الحساء الساخن، لابد من ان يأكل شيء ما حتى يستطيع تناول دواءه الذى وصفه الطبيب..
لم تسمع الإذن بالدخول، قلقت فأدارت مقبض الباب و دخلت في حرص، و في منتصف الغرفة وضعت صينية الطعام على الطاولة القابعة هناك، حاولت قدر استطاعتها جذب نظراتها بعيدا عن الصورة و إطارها و صاحبتها الشقراء، و نجحت في ذلك بالفعل، و الفضل في ذلك يعود له.. شعرت بالذنب لانها اغفلته طيلة النهار و ها هو يبدو متعب بتلك القطرات من العرق تكلل جبينه و هزيانه الذى بدأ وصلته الان..
همست ساخطة على نفسها مؤنبة أياها: - حمقاء، ما كان هذا وقت الكبرياء الغبى، انه مريض، كان عليكِ الاعتناء به و غض الطرف عن سخافاته حتى يستعيد عافيته.. كادت الدموع تقفز على خديها نادمة، اقتربت في حذر لتنحنى جالسة على اطراف مرتبته.. لتعاود الحديث لنفسها هامسة: - ما كان على موافقته ليأتى لينام على المرتبة الارضيّة تلك و يترك الفراش الدافئ، يا إلهى، ماذا افعل الان..!؟.
مدت كفها المرتجف لجبينه تمسح قطرات العرق و تتأكد من حرارة جسده.. زمت بين حاجبيها في تعجب و هي تستشعر ان حرارة جسده عادية ولكن من أين أتت تلك القطرات التي تعتلى جبينه..!؟، حتى انه يهزى، ماذا يحدث.!؟، بدأ في تكرار اسمها من جديد، لكن هذه المرة بشكل مختلف، لا تعرف ما هو وجه الاختلاف، لكن، هي تدرك ان هناك اختلاف..!؟. همس مكررا: - مى، مى.. عادت لتهمس: - نعم، انا هنا ياسين، انا بجانبك..
همس من جديد: - مى، انا اسف، سامحينى.. همست بصدق: - لا تتأسف، بل انا الاسفة.. -بل انا الأسف لاننى اضايقك بكلامى و افعالى، و.. صدمت وهى تراه يفتح عينيه و يتطلع اليها و هو لا يشكو شيء و بكامل صحته و لياقته.. هل كان يلهو بها و يستغل قلقها لمرضه..!؟ صرخت غاضبة داخليا و قد انفجر الغضب حتى طال نظراتها الحارقة تجاهه و هي تهتف بداخلها: - هذا بحق فاق الحد..
كادت تنهض مغادرة لتنهى هذا العبث لكنه جذب ذراعها فجأة ليمنعها من الذهاب قبل ان يقول ما كان يرغب في قوله، لكن للأسف كان اندفاعها قويا و جاء جذبه لها بنفس قوة اندفاعها مبتعدة، لتأتى الاندفاعة في الاتجاه المعاكس و تسقط على صدره تماما..
غضبها وصل الان للذروة بحق و هاهو الانفجار قادم لا محالة، لكن نظراته الان لعمق عينيها كان لها فعل انهمار الماء على حديد منصهر، سكنت بشكل عجيب و همس هو في هدوء غير معتاد: - شكراا، و اسف.. استجمعت ثباتها المبعثر و همست: - هل هو شكر ام اعتذار..!؟. همس: - كلاهما، شكرا على تعبك لاجلى، وآسف على سخافاتى..
اندفعت مبتعدة عن صدره، و حاولت ان تتمالك أعصابها و تدفع قدمها لتحملها بعيدا عن حضوره الذى بدا بالفعل يشوش على تعقلها.. ابتعدت بالفعل مترنحة و هي تشير لطبق الحساء.. هتفت تغير الموضوع: - احضرت لك طبق من الحساء الساخن حتى تستطيع تناول دواءك.. هتف ممتنا بنبرة مازحة: - حقا الشكر لا يكفيكِ حقك، ايمكن ان تقتربى..!؟. هتفت في توجس: - لماذا..!؟.
انفجر ضاحكاً لردة فعلها: - بالتأكيد لنتصافح، الا اذا كان لكِ رغبة أخرى.. صرخت معترضة و هي تندفع من الباب وهى تقسم الا تعود لمحادثة ذاك الوقح من جديد.. و لو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.. نهض في وهن و لا زال يقهقه على ردات فعلها التي تدفعه للضحك بشكل هستيرى.. جلس يتذوق الحساء فاستطيبه كعادة طعامها.. هتف يناديها: - مى، مى...
لم تجبه بطبيعة الحال فقد كانت تغلى غضبا بالخارج، أعاد النداء عشرات المرات حتى كادت تضع بعض القطن باذنيها رغبة في عدم سماعه، و أخيرا وقفت على عتبة باب غرفته صارخة: - ماذا هناااااااك..!؟، الرحمة... قهقه ضاحكاً: - اريد القليل من الملح، فالحساء قليل الملح.. هتفت: - قليل الملح افضل.. هتف ساخطا: - لن أتناوله بلا ملح، اريد قليل من الملح الان.. صرخت: - حسنا..
ذهبت للمطبخ تحضر الملح و عادت، و رغم قسمها بالا تطأ ارض هذه الغرفة من جديد الا انها دخلتها بتوجس ووضعت الملح على طرف الطاولة و همت بالاندفاع خارجا.. ليهتف بها: - مى.. هتفت ساخطة: - فلتذهب مى الى الجحيم، ماذا تريد الان..!؟. كتم ضحكاته وهو يقول بنبرة واهنة: - ايمكن ان تاتى لتتناولى طَعَامِك معى، فانا لا استطيب تناول الطعام وحيدا، أرجوكِ، و اقسم ان أحاول ان ألتزم بأقصى درجات التأدب..
أنهكتها المجادلات معه و اضناها احتراق أعصابها لافعاله، و ما بين هذا و ذاك فقدت البقية الباقية من تعقلها و ثباتها، كل ما تتمناه الان القليل من الحساء و القليل من السلام.. لكن هل هذا جائز في حضرة هذا الوقح الذى يتوسلها باشارة صامتة من كفيه..!؟. تنهدت في نفاذ صبر و خرجت تملأ لنفسها طبق من الحساء و تعود لتجلس على الطرف الاخر من الطاولة و قد اعتلت شفتيه ابتسامة انتصار وهو يراها تجلس واجمة و متحفظة..
احنت رأسها على طبقها و بدأت في تناول الحساء بهدوء دون ان ترفع رأسها ولولمرة واحدة، ظل محترم لصمتها و حدودها التي وضعتها حتى هتف ساخراً: - هل كنتِ جائعة لهذا الحد..!؟. رفعت نظراتها اليه و لم تجب، ليشاكسها من جديد: - لم احب الحساء يوما، لكن من يديكِ له طعم مختلف.. رفعت نظراتها من جديد واومأت برأسها شاكرة و عادت لصحنها من جديد..
لم ييأس بالطبع حتى فجر قنبلته الأخيرة: - لما لم تتزوجى للأن، فأنت جميلة و على خلق و بالتأكيد من اصل طيب بجانب انك طباخة ماهرة..!؟.
أصابها سؤاله بالذهول فتوقفت الملعقة في الطريق لفمها و تمر ثوان حتى تستفيق من صدمة سؤاله المباغت فتضع الملعقة في الطبق بهدوء و هي تستجمع هدوءها لترد بنبرات أودعتها ما استطاعت من ثبات: - فيما سبق لم تكن ظروفى مناسبة لأفكربالرجال لان الظروف دفعتني لأتجنبهم و عندما تحسنت الظروف أصبحت انا الغير مناسبة لظروفهم، هل هذا يرضى فضولك..!.
استطرد كانه لم يسمع سؤالها الأخير: - هل تقصدين بكونك غير مناسبة هو مسألة السن!؟ انها ليست بالشئ الهام صدقينى، هم الخاسرون بالتأكيد، طبيبة جميلة و على خلق، قصيرة القامة بعض الشئ تشبه الدمى على أقصى تقدير، عصبية المزاج قليلا لكن قلبها عامر بالحنان، كما انها مفعمة بالانوثة و انا اشهد على ذلك.. فغرت فاها غير مصدقة، هل كان يصفها هي لتوه، و هل تلك الملاحظة الأخيرة بالتحديد يقصدها هي بها..
هذا الرجل يوما ما ان لم يكن الان، سيفقدها صوابها و يجعلها تندفع هاربة بعيدة عن اى مكان يجمعهما، لو ان ما يفعله الان هو خطة ممنهجة لدفعها لتهرب و تترك له الشقة و تنجو بعقلها، فخطته قد نجحت و بجدارة.. استجمعت شتات نفسها و بعثرة روحها و هي تنهض في تثاقل دون ان تنطق بحرف واحد.. وترفع طبقها الشبه فارغ و ترحل مبتعدة عن مجال تواجده الذى بات يؤرقها، و يثقل على قلبها و روحها معا..