logo




أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في Forum Mixixn، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .




اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 4 من 36 < 1 6 7 8 9 10 11 12 36 > الأخيرة




look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 02:58 صباحاً   [25]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الخامس

جلست بخيتة في استكانة تمسك بصينية عليها بعض الحبوب تنظفها و تخلصها من شوائبها و كسبانة بجوارها تطعم حمزة الذى بدأ النوم يداعب جفونه فيدعك احدى عينيه بظاهر كفه و يتثاءب في نعاس واضح .. ضحكت بخيتة لمظهره الناعس فتركت صينية الحبوب جانبا و تناولت حمزة تهدهده وقد لاحظت شرود كسبانة على غير المعتاد فهمست متسائلة :- مالك يا بنتى ..!!.. شكلك مش بعادة .. في حاچة شغلاكى ..!!؟.

تنهدت كسبانة في سأم : لاااه مفيش يا خالتى.. بس انتِ عارفة ان امى و اخوالى مجاطعينى من يوم اللى حُصل بسبب سليم ..و جال انا لطخت سمعتهم في الوحل .. يعنى انا لو مطاوعتش سليم كان هايعمل فيهم و يسوى و احنا غلابة و ملناش حد يا خالتى .. كنت هجوله لاااه ازاى ..!؟.. و احنا ملناش حد يجف لسليم بعد موت ابويا ..و الله يا خالتى لولا عاصم بيه و سى زكريا لكانوا جتلونى من زمن ... و اهو امى جايبة لى عريس من طرف خلانى .. و يا اوافج عليه ليجطعونى العمر كله ..

سألت بخيتة في فضول :- و انت رأيك ايه يا بتى ..!؟.. هاتجبلى العريس اللى جيبينه دِه !!.
اجابت كسبانة :- و الله يا خالتى ما عارفة اجبل و لا لااه .. خايفة يعمل لى البحر طَحينة و يجولى هراعيكِ انت وولدك و بعد الچواز يجولى اديه لأمك تربيه و انا مجدرش ابعد عن ولدى و لا ساعة واحدة و امى معدتش جادرة على تعب العيال كفاية عليها اخواتى اللى لسه صغار ..و لو رفضت.. امى هتجاطعنى تانى .. معرفاش اعمل ايه و اسوى ايه ..!!؟..

ربتت بخيتة على كتفها متعاطفة و هي تهمس في محاولة لطمأنتها :- متجلجيش يا بتى .. ليها رب اسمه الكريم .. تتعدل باذنه .. سبيها على الله ..
أومأت كسبانة برأسها موافقة ونظرت لحمزة الذى راح في سبات عميق منذ زمن لتحمله من بين ذراعى بخيتة متوجهة به لغرفتها و
في منتصف طريقها استدارات تسأل بخيتة :- هو سى زكريا متصلش يا خالتى ..!؟.. بجاله فترة غايب .. ده الحاچ مهران اديله كام يوم متوفى و هو ميعرفش ..!!..

هتفت بخيتة متنهدة :- الغايب حچته معاه يا بتى ..
تابعت خطواتها هاتفة :- صدجتى يا خالتى الغايب حچته معاه .. و هو حچته شديدة .. عريس ماشاء الله .. ربنا يهنيه ..
دخلت كسبانة الغرفة لتتطلع بخيتة للباب المفتوح حيث غابت و هي تتحسر في سرها .. خَسارة يا بتى .. و ألف خَسارة ..بس النصيب بجى ..

تسللت زهرة بحذر من جانب عاصم الذى غاب في سبات عميق و اندفعت لحجرة اطفالها عندما تناهى لمسامعها صوتهما يشق صمت الليل ببكائهما .. ظلت بقربهما حتى غابت هي أيضا في النوم ولم تستوعب أين هي بالضبط حتى فتحت عيونها تستطلع ما حولها لتجد اطفالها على حالهما .. كانت سندس مستيقظة تلهو بصوتها المحبب بينما مهران لا زال يغط في نومه ..

تسللت زهرة من جديد بغية التأكد ان عاصم لازال نائما و لم يستيقظ بعد .. انه بحاجة للراحة و النوم بعد ثلاث ليال من الحزن و الأرق لم يذق فيهما للراحة سبيل ..
هبطت الدرج في تكاسل فهى بدورها لم تنعم بالراحة لكن ما يعنيها ان عاصم بخير ..
دخلت المطبخ تعد فطورا شهيا تقدمه له ما ان يستيقظ ..
حملت صينية الطعام و صعدت بها لحجرة ابيه حيث ينام ..

ببطء شديد فتحت الباب .. كانت في سبيلها لإغلاقه من جديد عندما اعتقدت انه لايزل نائماً لكنه هتف بها دون ان يوجه بصره للباب :- انا فوجت يا زهرة تعالى ..
دخلت بحملها ووضعته على الطرف الاخر من الفراش عندما استدار لها بكليته :- صباح الخير ..
ابتسمت في حنو :- صباح النور .. احلى فطور لعيونك ..
هتف رافضا :- ماليش نَفس يا زهرة ..

استدارت زهرة لتجلس قبالته هامسة وهى تضع كفها على جانب وجهه الذى تطاولت لحيته بشكل واضح :- مينفعش كده يا عاصم.. انت مدقتش الزاد و منزلش جوفك الا المية ..
جذبت الصينية و مدت كفها تستقطع لقيمة تضعها بفمه ليعترضها هو بكفه هامساً :- و الله ما جادر .. حاسس ان چوفى كنه چمر ..
دمعت عيناها وهى تهمس :- و الله ما يرضى حد اللى بتعمله ده و لا عمى الله يرحمه يرضى بكده ..

تنهد عاصم في شجن عند ذكر ابيه و اشفاقا على حالها الملتاع مد كفه في هدوء و تناول كوب اللبن من على الصينية و بدأ في شربه ببطء مما دفعها لتمسح دموعها و تبتسم مشجعة و هي تضع اللقيمة التي لاتزل في كفها في فمه ..
تناول ما استطاع بفضل تشجيعها .. و ابتسمت وهى ترفع صينية الطعام من أمامه و تضعها في احد جوانب الغرفة .. وما ان هم بالنهوض
حتى هتفت مازحة :- على فين ..!؟..

و اندفعت تجلسه مرة أخرى على اطراف الفراش هامسة :- عيالك نفسهم يشفوك ..
همس في محبة :- وحشونى بچد هاتيهم ..
اشارت لذقنه النامية هاتفة :- بدقنك دى ..!؟..لا .. لازم نتظبط الأول و أخرجت من خلف ظهرها عدة الحلاقة .. وهى تهتف في مرح :- اسمح لى اشلفطك بقى ..

اتسعت ابتسامته وهتف :- شلفطى زى ما انت عايزة .. بس اياكِ وشنبى ده انا بربى فيه من عمرك ..
انفجرت ضاحكة :- ليه هو انت شنبك طلع و انت عندك سبع سنين .. !!؟..
ابتسم لمزاحها مؤكدا :- اااه .. سلو عيلتنا ..رچالة من يومنا .. اعترضى لو تجدرى
بدأت في وضع منشفة حول رقبته و وزعت معجون الحلاقة على ذقنه و وجنتيه و بدأت في استخدام الشفرة في حذر هامسة بمحبة مازحة :- انا أقول اللى انا عيزاه دلوقتى لأن رقبة حضرتك تحت ايدى .. اعترض انت بقى ..!؟

همس بعشق و امتنان وعيونه تأسر عيونها :- زهرة ..!؟.. تسلميلى ..
كان يعلم انها تفعل المستحيل لتخرجه من حالة الحزن التي تسيطر عليه على الرغم من حزنها الذى لا يقل شدة لانها ليست فقط حزينة على وفاة ابيه لكن حزنها مضاعفا بسبب حاله التي لن يخرجه منها الا هي.. و لقد نجحت الى حد كبير ..
دمعت عيناها لكلمته رغم بساطتها و انحنت تقبل جبينه في سعادة .. ليهتف هو في مزاح:- خلصى بجى و انچزى .. تاريكِ حلاج غشيم..

اتفجرت ضاحكة :- بقى كده ..!! مااشى .. مسحت ما تبقى من معجون الحلاقة عن وجهه لتهتف في مرح :- نعيما يا فندم .. اول مرة بس مجانا .. بعد كده الدفع مقدماً ..
همس مشاكساً :- جال مجدما .. انت اخرك بيضتين و جرجوشة ( عيش ناشف) زى الحلاجين اللى كانواعلى الچسر زمان ..

انفجرت ضاحكة :- دى اخرتها ..على العموم انا خدت اجرتى خلاص ..
نظر اليها فاستطردت .. كفاية عليا ضحتك اللى رجعت تنور وشك تانى يا عاصم .. ربنا ما يغيبها ابدا ..
جذبها اليه يضمها في عشق و يطبع على جبينها قبلة طوويلة أودعها كل محبته و امتنانه ..

خرج نبيل من احد المحلات التجارية يتنهد في تعب واضح هاتفاً :- كفاية كده يا ندى .. مبقتش قااادر خلااص ..
هتفت ندى حانقة :- كفاية ايه ..!؟.. هو احنا لحقنا .. لسه بدرى ..
هتف نبيل معترضاً :- ايه .. لسه بدرى ..!؟. طب امشى قدامى .. ده احنا لفينا فوق ال خمسين محل لحد دلوقتى .. يا بنتى انت رايحة باااريس يعنى ارض الحب .. هااا الحب ..ورفع يده متضرعا للسماء مازحاً .. يا رب تفهم ..

قهقهت وهى تجذبه من كفه المعلقة :- لا .. مش فاهمة .. اللى فهماه دلوقتى حاجة واحدة..
لسه مخلصتش شرا كل اللى انا عوزاه ..
أشار نبيل الى الطريق أمامها هاتفاً :- حااضر يا فندم .. بس ممكن اكل .. عاادى بنى ادم و لازم ياخد طاقة عشان يقدر على الأشغال الشاقة دى ..
أكدت ضاحكة :- اذا كان على الاكل .. مااشى.. و انا اللى عزماك كمان ..

قال نبيل مدعيا الفرحة :- لا .. روحى يا شيخة ربنا يعمر بيتك ..
جلسا أخيرا على احدى طاولات مطعم راق
و هو يتنهد في راحة :- أخيرا .. مش مصدق نفسى .. هو ده بقى اللى بيسموه شوبنج ..!؟..
ابتسمت ندى :- ايوووه حضرتك ..

استطرد :- و المفروض انه متعة و كده .. اُمال العقاب يبقى ايه ..!؟؟..
أكدت ندى متذمرة :- حد يقول على الشوبنج عقاب .. ده اكبر متعة في الدنيا ..
اقترب نبيل منها مشاكساً :- معلومة خاطئة و وجب عليا التصحيح من فضلك ..
همست باسمة :- تصحيح ايه ..!!؟..

همس بعشق :- اكبر متعة في الدنيا .. هي القرب منكِ .. ثم زفر حانقاً فجأة .. هو احنا امتى هانكتب الكتاب ..!؟..
انفجرت ضاحكة لتحوله المفاجئ .. وهتفت مؤكدة :- ما انت عارف يا نبيل .. ماما ..
قاطعها بغيظ :- ايوه عارف .. ماما عايزة كتب الكتاب قبل الفرح بيوم ..و طبعا عمى كتر خيره واقف في صفها كأنى مش بن عمك من أساسه و بتعامل زى الغريب ..

همست متنهدة في محاولة لامتصاص غضبه المتصاعد من ذاك الموضوع الذى لطالما كان موضع لمناقشاتهما المحتدة و لعلمها انه على حق في مطلبه :- معلش يا نبيل .. عشان خاطرى .. انت عارف بابا بيحاول يريح ماما بالذات الفترة الأخيرة لما عرف بتعب قلبها .. كفاية عليها احساسها بالزعل انى هسافر و اسبها كمان كام شهر ..
تنهد نبيل متفهما :- خلاص .. حصل خير ..

بس القصد يا ندى انى احس انى خارج معاكى و انت مراتى و بكلمك براحتى و بزورك في البيت براحتى .. مش مجرد خطيب و خطيبة
.. على العموم .. اهى هانت .. كام شهر و نكتب الكتاب و ساعتها يمكن اخطفك و يشوفوا مين بقى اللى يحضر لهم الفرح ..!!؟.
علت ضحكاتها على كلماته المتوعدة الممزوجة بالمزاح.. لينظر هو لضحكاتها الندية فيهمس بغيظ :- منك لله يا طنط هتلر ..
سألته في تعجب :- بتقول حاجة ..!!؟..

أكد مازحاً :- لا خاالص .. بدعى من كل قلبى لعمى و طنط .. ربنا يكرمهم ..
نظرت اليه نظرة كلها ريبة .. ليستطرد مؤكدا:- اكيد طبعا .. مش جابوكى ليا ..
لتبتسم في خجل مصدقة ادعاءه ...

نادت نعمة بصوت عال :- يا للاه الغدا يا حاج وهيب ..
نهض الحاج وهيب جاذباً خلفه زكريا مشجعا:- يا اللاه يا زكريا يا بنى ..و لا هاتعمل فيها مكسوف .. ده انت خلاص بقيت واحد مننا ..
ابتسم زكريا لبدور وهو يجلس للطبيلة وقد مرت أمامه لتساعد نعمة في جلب باقى الصحون ..
تساءل الحاج وهيب :- بص بقى يا زكريا يا بنى .. النهاردة ايه في أيام ربنا ..!؟..
أكد زكريا :- الچمعة يا حاچ..

استطرد الحاج وهيب :- تماام .. يبقى الجمعة من كل أسبوع هنستناك انت ومراتك على الغدا ..
اعترض زكريا :- بس يا حاچ..
قاطعه الحاج وهيب :- مفيش بس .. جرى ايه يا زكريا .. هو انا مليش حق في مضايفة بنتى و جوزها يوم في الأسبوع و لا ايه .. !!؟...
أكد زكريا :- لاه .. حچك يا حاچ .. هو حد يجدر يجول غير كِده ..
هتف الحاچ وهيب :- خلاص .. يبقى هنستناكم كل جمعة باذن الله ..

هتف زكريا :- تعيش يا حاچ و يچعله عامر دايما بحس صحابه ..
امن الجميع خلف زكريا .. و طلت الابتسامة على وجه بدور في سعادة لاقتراح ابيها و سعادتها الكبرى جاءت من موافقة زكريا ..
انتهى الطعام .. و توجه زكريا و الحاج وهيب للصالون تاركى النسوة يجهزن الشاي بينما تحدث الحاج وهيب بنبرة هادئة :- بص يا زكريا يا بنى .. انت عارف ان معنديش غير بدور .. هي اللى طلعت بيها من الدنيا ..

و كل همى هو سعادتها و راحتها .. و الحمد لله ربنا كرمها بيك ..و بقيت في معزتها بالظبط و ربنا العالم ..
هتف زكريا :- صادچ يا حاچ ..
استطرد الحاج وهيب :- عشان كده يا بنى .. انا هطلب منك طلب و يا ريت متردنيش ..
هتف زكريا بصدق :- على رجبتى يا حاچ وهيب ..

ربت الحاج وهيب على كتف زكريا ممتنا ثم هتف :- الشقة اللى قدامنا على طول دى شقة ام بدور .. لما اتجوزت نعمة محبتش تدخل على شقة المرحومة و جبتها الشقة دى و من يومها و هي مقفولة بعفشها .. يا ريت انت وبدور تنزلوا فيها بدل الاوضة الضيقة اللى فوق .. اهو توسعوا على نفسكم شوية ..
صمت زكريا للحظات و لم يعقب على الرغم من شعوره بالضيق .. و تمالك نفسه أخيرا و قال في هدوء :- يا حاچ وهيب .. طلبك على عينى و راسى .. بس معلش .. اعفينى ..

انا عايش في المكان اللى أجدر ادفع أچرته و اللى مرتى لازماً تلازمنى فيه .. و يوم ما اجدر ادفع ايچار الشجة .. انا اللى هتلاجينى بطلبها منيك يا حاچ ..
صمت الحاج وهيب للحظات و قد ادرك ان زكريا لن يغير رأيه مهما حدث .. و ان رأسه الصعيدية اليابسة لن تتزحزح عن موقفها لذا تنهد في قبول هاتفاً :- خلاص يابنى اللى يريحك .. لله الامر من قبل و من بعد ..

انهى زكريا الشاي و استأذن في عجالة لتلحقه بدور مسرعة لتجده يهبط الدرج لخارج البيت فتهتف في تساؤل :- هو انت مش طالع تستريح يا سى زكريا..!؟..
هتف في اختصار :- لاااه ..
هتفت مستفسرة وهى تندفع خلفه :- اومال رايح على فين ..!؟.

كانت وصلت لمدخل البيت راكضة ليستدير لها في سرعة هاتفاً بحنق :- مبحبش اللى يجولى رايح فين و جاى منين .. انا اروح مُطرح ما انى عاوز في الوجت اللى انى عاوزه .. محدش شريكى ..
طأطأت رأسها في استكانة و ما ان انهى كلماته الجافة حتى رفعتها تتطلع اليه و هي تومئ بالإيجاب ثم تندفع للأعلى صاعدة الدرج في عجالة حتى لا تخزلها دموعها و تنحدر أمامه .. وهى لا تدرك جريرتها ..

هتف حسام مشفقاً :- مش كفياكى كِده يا سهام .. عيونك دبلوا من البكا ..و الله الحاچ مهران الله يرحمه ما يرضى باللى بتعمليه دِه..
هتفت من بين شهقاتها :- مش بخطرى يا حسام .. و الله ما جادرة ..
جلس بالقرب منها يحاوط كتفيها بذراعه محاولا تهدأتها :- استهدى بالله .. و جومى اغسلى وشك .. و ادعيله بالرحمة هو دِه اللى محتاجه الحاچ دلوجت .. الدعا مش البكا ..

و بعدين مش صعبان عليكِ باسل اللى مهملاه طايح في الدار مرمى على كل يد شوية و محروم منيكِ .. طب مصعبش عليكِ أبو باسل و هو مش عارف ياكل لجمة طايبة ( جميلة ) من يد غير يدك ..
انحنى يلثم جبينها و اذ فجأة تهب رائحة كريهة على غير انتظار .. فينتفض حسام مشمئزا :- واااه .. ايه الريحة العفشة دى ..!؟.

لتنفجر سهام مقهقهة و هي تشير الى الأسفل تحت اقدام حسام حيث ظهر باسل فجأة من تحت الفراش و على ما يبدو .. فان باسل لم يدخر جهدا في تلويث حفاضه والذى نهض وابتسامة بريئة على شفتيه يترنح في مشيته من ثقل حفاضه الزاخر مما دفع حسام ليصرخ هاتفاً عندما اقترب باسل منه :- لااه ..و ينهض مندفعا خارج الغرفة تاركا سهام غارقة في ضحكاتها على مظهر كل منهما و خاصة اندفاع حسام خارج الغرفة و باسل يترنح في عدوه خلفه بحفاضه معتقدا انها لعبة و ان ابيه يلهو معه و باسل يحاول ان يمسك به ..

سار زكريا متوجها صوب مقهى المعلم خميس و جالت عيناه في ارجاء الحارة التي يشملها الهدوء النسبى في مثل تلك الساعة من بعد ظهيرة يوم الجمعة.. وقعت عيناه على رجل يجلس في سكينة خلف طاولة خشبية موضوع عليها عدة بطيخات ويضلل عليهم بقطعة عريضة من الخيش المندى بالماء مرفوع على عدة أعمدة خشبية رفيعة بالكاد تحمل تلك القطعة الندية من الخيش المهلهل و التي يحتمى بها بقرب بطيخاته من حرارة الشمس و لهيبها .. و بدأ ينادى بصوت جهورى لا يتسق ابدا مع مظهر الرجل الجسدي الذى يشبه احد أعواد البوص ..

حاد زكريا عن الرجل بعينيه موجها ناظريه صوب المقهى الذى اصبح قاب قوسين او ادنى فاذا به يسمع عقيرة الرجل ترتفع بالصياح .. ليعود زكريا ادراجه ينظر ما الامر .. فاذا به احد رجال السمرى يتطفل على الرجل و يحاول الحصول على احدى البطيخات هبة بلا ثمن .. ليصرخ الرجل مستغيثا من السمرى و رجاله ..

اندفع زكريا حيث الرجل الضعيف المقاوم لبطش رجل السمرى ليقف بينهما محاولا الزود عنه ..
هتف زكريا في نبرة مهددة لرجل السمرى :- عايز البطيخة تدفع تمنها هي مش تكية ..
دفع حينش رجل السمرى زكريا في كتفه هاتفاً بصوت جهورى :- و انت ايه دخلك .. بايع و شارى .. مدخل نفسك بينهم ليه يا سبع البرمبة..!!؟..

هتف زكريا مزمجراً :- لما تبجى شارى بالادب نبجى نبيعولك .. غير كِده شطبنا .. و لما الراچل الطيب دِه .. و اشار زكريا لبائع البطيخ العم طايع
مستطرداً .. يأذن لك تدفع تمنها و تتكل بالمعروف ..
هتف حينش بصوت أجش مهددا :- و ان معملتش كده .. هاتعملى ايه يا حيلتها ..!!؟..
اندفع زكريا باتجاه الرجل في ثورة :- هنأدبك زى ما أدبنا معلمك جبل سابج ..

ظهر المعلم خميس فجأة و خلفه رجاله ليصرخ بصوت جهورى ليتوقف العراك قبل ان يبدأ :- اياك يا حينش .. لو ايدك اتمدت على زكريا هاتتقطع .. زكريا يتعد من رجالتى .. انا عارف انه يقدر يقوم بعشرة من عينتك بس ما يرضنيش يوسخ ايده ..
وتوجه لزكريا بالحديث :- عندى انا دى يا زكريا ..غلطة و مش هتتكرر تانى ..
و ادار رأسه باتجاه حينش متسائلا :- و لا ايه يا حينش .. !؟

زمجر حينش في غضب مكبوت و عيون حمراء.. ضاغطا على كفيه المضمومتين في حنق وهو ينظر لزكريا نظرات تكاد تقتله ..
و فجأة اندفع من امام الجميع مبتعداً..
هتف المعلم خميس ساخراً :- على فين .!؟.. طب و البطيخة .. تعال خدها انا عازمك عليها انت ومعلمك .. اهو تطروا على قلبكم في الحر ده ..
انفجر الجميع مقهقهين لسخرية المعلم خميس اللول على حينش الذراع اليمنى للسمرى ..

ليخرج طايع بائع البطيخ من خلف نصبته مجرجرا قدمه المصابة خلفه محاولا الوصول لموقع زكريا وسط الجمع .. حتى ما وصله
استند على ذراع زكريا الذى تلقفه في سرعة هاتفاً:- على مهلك يا عم ..
ابتسم طايع في ضعف :- طايع.. اسمى طايع يا بنى ..
وخزة نكأت قلب زكريا للحظات من لفظة ابنى التي خرجت خالصة المحبة تحمل فخرا و اعتزازا حلم بهما زكريا طوال عمره ..
ابتسم زكريا في مودة :- على مهلك يا عم طايع ..ربنا يديك الصحة ..

أسنده زكريا حتى عاد لمجلسه خلف نصبة البطيخ و ربت على كتفه في حنو :- اى حد يضايجك يا عم طايع .. نادم و جول يا زكريا .. هتلاجينى جمبك طوالى اخد لك حجك منيه..
ابتسم طايع :- تسلم لى .. بس خد بالك من نفسك .. سمرى نابه ازرق و مش هيسكت .. و ابتسم في حسرة كستطردا.. اسألنى انا ..

..جلس المعلم خميس ينفس دخان نرجيلته على احدى كراسي مقهاه الجانبية متطلعاً من مكانه لطايع و زكريا .. و الذى يراه الان متوجها صوبه..
جلس زكريا متنهدا في ضيق ليربت المعلم خميس على كتفه في فخر :- وحش بصحيح!!.. بس خايف عليك يا صاحبى..
هتف زكريا :- هو انت هتجول نفس جولة عم طايع .. !؟؟..

اومأ المعلم خميس و دخان نرجيلته الذى يعبق الجو براحته المميزة يحجب رؤية ملامح وجهه للحظات قبل أن يهمس متحسرا :- طايع عنده حق .. لانه عارف مين هو السمرى..
طايع اللى انت شايفه دلوقتى ده .. الأعرج اللى مش قادر حتى يدافع عن نفسه كان يقفل حارة زى حارتنا دى .. بس القوى في اللى أقوى منه .. و ..
قاطعه زكريا مستفسراً في ضيق :- انت عايز تجول يا معلم خميس ان طايع ده بجى أعرچ بسبب السمرى ..!!؟..

اومأ المعلم خميس مؤكدا :- ايوه .. طايع ده كان راجل حقانى زيك كده .. بس ايه فايدة الحق من غير قوة تحميه ..
هتف زكريا :- و انت كنت فين يا معلم خميس من سمرى و رجالته و الراجل بيتبهدل كِده !؟

تنهد المعلم خميس هاتفاً :- يا صاحبى السمرى ده تِعبان لدغته و القبر .. تعرف لو بيعمل اللى بيعمله في عز النهار كنت تلاقى اللى بيوقف له و انا اولهم .. لكن ده يعمل العملة في الدرا من غير ما حد يدرى و كلنا بنبقى عارفين اللى عمل كده مين ..
بس اثبت ..
ساعتها لا مين شاف و لا مين درى .. و الخوف بيخرس الكل ..

عشان كده يا صعيدى بقولك خد بالك .. سمرى غاطس عن الحارة بقاله كام يوم .. و ده ميطمنش ..و خصوصى انه مقربلكش من يوم اللى حصل مع جماعتك.. غيبته دى وراها مصيبة .. مش هيظهر الا لما ريحيتها تفوح ..ربنا يستر..
تنهد زكريا و هو يرتشف من كوب الشاي الذى وضعه صبى المقهى على طاولتهما و عيونه كلها ترتكز على ذاك الرجل الطيب المدعو عم طايع ..

هم زكريا بالرحيل مستأذنا المعلم خميس الذى حاول ان يبقيه معه لكنه تعلل برغبته في الراحة من اجل العمل لليوم التالى ..
خطوات و سمع زكريا العم طايع يناديه فاتجه صوبه :- خير يا عم طايع .. !!؟..
جذب طايع احدى بطيخاته و شقها بسكينه المميزة التي لا تغادر كفه مقدمها لزكريا الذى هتف :- وااه ..ليه بس كِده يا راچل يا طيب!!؟..

هتف طايع نافيا ما جال بخاطر زكريا :- لا يا بنى.. أوعى تفهم انها رد لمعروفك معايا .. ابدا لا سمح الله .. دى هدية .. و النبى قبل الهدية يا زكريا يا بنى ..
ابتسم زكريا في مودة :- هدية مجبولة يا عم طايع .. تسلم ..
و مد زكريا يده ليحمل البطيخة متوجها الى داره حيث تلك التي تركها تدارى دمعها عن عينيه ..

وصل لأعتاب السطح و ما ان دلف للداخل حتى رأها تقف مستندة بمرفقيها على السور تتطلع الى الحارة من عليائها و لم تفطن لوجوده بعد .. يبدو انها نظرت للتو فهى لم تره يدخل من باب البيت او حتى تلمحه عندما اقترب .. او انها قد رأته بالفعل لكنها تتصنع العكس تماما كنوع من أنواع إظهار الحنق و الضيق ..

تنحنح بصوت مسموع حتى تنتبه .. بالفعل استدارت في بطء لمكان وقوفه و تقدمت منه تحمل عنه البطيخة التي يحملها لكنه ابعدها عنها لانها اثقل من ان تحملها بمفردها فاتجه بها لداخل الغرفة ليضعها جانبا ..
هتف أمرا :- جطعى البطيخة نصين و انزلى بنص لبيت ابوكى و تعالى حضريلنا العشا بالنص التانى .. على بال ما أغير و اصلى العشا ..

لم تتفوه بحرف واحد بل نفذت في التو و لم ترفع حتى عيونها لملاقاة نظراته التي تتفحصها ...
فعلت كما امر و أعدت العشاء و جلست تنتظر ان يفرغ من صلاته ..
جلس في هدوء و لا يعرف لما أصبحت عادة ان يرفع كفه اليها ليطعمها أولى اللقيمات لكنها نحت راسها عن كفه جانبا ..
توقفت يده معلقة في اتجاه فمها .. هتف في ضيق متعجبا :- بجى أنتِ اللى زعلانة !؟..

دمعت عيناها :- انا مش زعلانة انك زعقت فيا يا سى زكريا و سمعتنى كلام ضايقنى .. انا اللى زعلنى بجد انى مش عارفة انا عملت ايه لكل ده !!؟..
هتف في حنق :- مش عارفة ..!؟؟.. اذا كان انتِ اللى جايلة لابوكِ ..و انتِ اللى طلبتى منيه يكلمنى عشان عارفة انى مبجدرش ارفض له طلبه ..بس دى بالذات لااااه ..

نظرت اليه بنظرات متعجبة لا تع على ماذا يتكلم لتهمس :- انا مش عارفة انت بتتكلم عن ايه يا سى زكريا .. !!؟..و رحمة امى ما كلمت ابويا و لا طلبت منه حاجة ..
هتف زكريا منتفضاً من مكانه في غضب عماه عن ادراك الصدق في حديثها :- اهااا چبتى المفيد .. امك .. و شجة امك ..اللى ابوكِ عايزنا ننزل نعيش فيها و نسيب الاوضة..

نهضت بدورها تقف أمامه وهو يهمس كازً على اسنانه :- اذا كان اوضتى و عيشتى مش على هواكِ يا بت الناس .. جبلتى ليه بيها من الأول .. انا مغشتكيش و لا جلت هعيشك في جصور و لا ..
وضعت كفها على شفتيه معترضه على استطراده بكلمات تؤلم قلبها بقدر ألم كرامته الذى تستشعره فى كل حرف ينطق به ..

همست و دموعها تغطى وجنتيها :- سى زكريا ..!؟؟.. و غلاوتك عندى .. و اللى جمعنا من غير ميعاد وجعل لى نصيب فيك و في قلبك .. انا ما قلت لأبويا كلمة عن شقة امى .. عارف ليه ..!!؟.. عشان انا راضية .. راضية ابقى معاك في اى مكان ..
و بحمده و بشكر فضله انه جمعنى بيك ..
ابويا قال كده من عشمه و عشان يريحنى ..

ميعرفش ان راحتى معاك فين ما تكون .. متقلقش يا سى زكريا .. كرامتك متصانة و هيبتك محفوظة ..
و اندفعت من أمامه لداخل الحجرة تسبقها شهقاتها المتعالية و التي كتمتها طويلا ..
وقف زكريا بلا حراك .. يشعر انه تسرع في اتهامها بما ظنه .. شعر بالندم يتخلله و يعربد بكل خلية من خلاياه و هو يقف كالمسمار لا يأتي بأى رد فعل ..

أخيرا تحرك في ضيق باتجاه سُوَر السطح يستند عليه متنهدا في ألم و يضربه بقبضته في ضيق حقيقى منع صدره من التقاط أنفاسه بشكل طبيعى .. استغفر الله .. و استدار عائدا للحجرة التي غابت فيها .. طل منها ليجدها تجلس على طرف فراشهما الضيق يهتز كتفاها دلالة على انها لاتزل منخرطة في بكائها .. تنهد مقتربا منها و انحنى اليها يقبل هامتها فهدأت شهقاتها و بدأت في مسح عيونها مد كفه اليها يلتقط كفها و يجذبها لاحضانه ويحيطها بذراعيه في شوق ..

لحظات مرت و هي تتنهد بين ذراعيه و أخيرا همس مشاغبا :- احنا مش هنتعشوا .. !!؟..
رفعت نظراتها لتتطلع اليه بابتسامة موافقة بإيماءة من رأسها :- و ماله نتعشوا ..
ضم كفها و جذبها خلفه حيث الطبلية المنصوبة على السطح بطعام العشاء الذى لم يمس .. جلسا متقابلين فرفع اللقيمة الأولى كالعادة لفمها فألتهمتها في سرعة مما فجر ضحاتهما...

أنصت زكريا لصوت الرنين المتواصل في تلك الكابينة التليفونية التي يقف فيها منتظرا امه ترفع السماعة على الطرف الاخر ..
همس بضيق .. خير .. خبر ايه ياما ..بجالى مرتين اتصل و محدش يرد .. ليه تجلجينى بس ..!؟.. كاد ان يضع السماعة في يأس من ان ترد إحداهن .. امه او كسبانة زوجة أخيه...

الا ان جاءه صوت كسبانة أخيرا و هي تلتقط أنفاسها لاهثة :- ألو .. ألووو ..
أعاد السماعة مرة أخرى على أذنه متنهدا في راحة :- ألو .. كيفك يا مرت اخوى .. ايه عاملة ..!؟؟ و كيفه حمزة ..!؟.. تمام ..
هتفت كسبانة في فرحة :- الحمد لله .. كلنا بخير يا سى زكريا ..
هتف زكريا مستفسراً :- اومال وينها امى ..!!
طلبتكم مرتين جبل سابج محدش كان بيرد .. هي زينة يا مرت اخوى ..!؟..

أكدت كسبانة في عجالة :- و الله خالتى بخير متجلجش .. بس .. اصل احنا كنا ..
كان صوتها مترددا لا تعلم هل تخبره بنبأ وفاة الحج مهران ام لا ..!؟..
استرعى التوتر و القلق البادى في نبرة صوت كسبانة انتباهه و اثار قلقه في المقابل ليهتف في نفاذ صبر :- خبر ايه ..!؟.. ايه في يا مرت اخوى جولى و ريحى بالى ..!؟..

هتفت و ما بيدها حيلة :- اصل الحاچ مهران تعيش انت من شهر و زيادة ..و خالتى بخيتة بتروح السرايا كل فترة اهو تاخد بحس الحاچة فضيلة ..
صمت و طال صمته حتى ظنت انه أغلق الهاتف و خاصة عندما هتفت باسمه عدة مرات دون إجابة و أخيرا أجاب بصوت متحشرج :- طب اجفلى يا مرت اخوى دلوجت و هبجى أكلمكم تانى ..

أغلق الهاتف بيد مرتعشة و خرج يسير باتجاه بيت الحاج وهيب في ألية و كل ما يجول بخاطره و يرتسم امام ناظريه هو ذاك اليوم الذى استدعاه فيه الحاج مهران لغرفته بعد كشف عاصم لهويته الحقيقية امام جميع الهوارية .. كان ذاك اليوم هو يوم تحول حقيقى في علاقته بعمه مهران الذى دوما كان يعيش في برجه العال خاصة بعد مرضه و لم يكن يراه الا فيما ندر .. يومها رأى عمه الذى تمنى ان يعيش في كنفه العمر بطوله ..

ظل يتذكر الحوار بينهما طوال الطريق ليعود بالذاكرة لتلك اللحظة التي ارتسمت امام ناظريه طوال مشواره ..
هتف الحاج مهران بصوت يملؤه المودة و المحبة الخالصة :- جرب يا زكريا ..
سار زكريا باتجاه فراش عمه ووقف عندما وصل لحافته .. أشار الحاج مهران لعاصم بطرف خفى ليغادر الغرفة فأطاع عاصم سريعا و ابتسامة تعلو شفتيه وهو يغلق الباب خلفه ..

أشار الحاج مهران للفراغ المقابل له على الفراش رابتاً عليه بكفه :- اجعد هنا يا زكريا..
نظر زكريا للمكان المشار اليه من الفراش غير مصدق على انه سيكون بهذا القرب من الحاج مهران بذات نفسه .. عمه الذى لم يجرؤ على الاقتراب منه طيلة حياته .. سيكون منه بهذا القرب الحميمى ..

أمره الحاج مهران بنبرة هادئة و كأنه يدرك ما يعتمل بنفسه :- اجعد يا ولدى ..
كانت كلمة ولدى تلك هي دوما كلمة السر لدك حصون الثبات داخل زكريا ليجلس في التو و هو يتجنب التطلع لعينى عمه النافذة النظرة حتى أعماق نفسه..

ربت الحاج مهران على كف زكريا القريبة من كفه فتطلع زكريا الى تلك الكف الحانية و نفسه تمور بالعديد من المشاعر لم يستطع ان يضعها كلها حيّز التنفيذ الا واحدا غلبه لينحنى فيلثم كف عمه المتغضنة و هو يحبس دموعا تمنعه رجولته و ادعاءه الثبات الإذعان لها حتى تنسدل في حرية ..

لم يجذب الحاج مهران كفه من بين كفى زكريا و لكنه رفع كفه الاخرى ليربت على رأس زكريا المنحن في حنو هامساً :- سامحنى يا زكريا .. سامحنى يا ولدى ..
رفع زكريا رأسه مقابلا نظرات عمه المحملة بالندم و الإحساس العميق بالذنب هاتفا في ذهول:- وااه يا حاچ مهران .. أسامحك..!؟؟..
ابتسم الحاج مهران هاتفاً بنبرة مازحة:- جولى يا عمى ..انا اخو ابوك يا واد ...

ابتسم زكريا بالمقابل ليستطرد الحاج مهران و سعاله يقاطع كلماته في بعض الأحيان :- ايوه تسامحنى يا زكريا .. عشان كنت عارف ان حجك تتربى وسط الهوارية واحد منيهم لكنى سكت و كتمت الحج دِه .. بس غصب عنى يا ولدى
يوم ما امك جابتك و هملتك أمانة عندى ابوك معترفش بيك لكن انا كنت متوكد انك ولده ..
جلت استنى لما يشد عودك و ساعتها اجدر اجف جدام الهوارية كلاتهم بالورج اللى معايا لكن المرض رجدنى و مجدرتش اجف جصادهم و عاصم كان لساته عود أخضر ميجدرش عليهم و على جبروتهم ..

هتف زكريا :- كل حاچة و ليها أوانها يا عمى .. كل شى بأوان ..
اومأ الحاج مهران :- صدجت يا ولدى .. صدجت .. اهم حاچة عِندى دلوجت انك خدت حجك و الناس كلاتها مش الهوارية بس عرفوا انت مين و تبجى واد مين ..
و ربت على كتف زكريا في فخر :- انت زكريا واد غسان صادج الهوارى ..
أعاد زكريا رفع كف الحاج مهران ليقبلها في امتنان و محبة ..

ليهمس الحاج مهران :- جوم يا زكريا يا ولدى .. جوم و ارفع راسك وسط الخلج كلاتها ...
نهض زكريا و انحنى باتجاه رأس عمه ليقبل هامته في إجلال و اكبار .. و يخرج من الغرفة و قد امتلأت نفسه محبة لهذا الرجل ..
دمعت عيناه و هو يتذكر ذاك الحوار الذى دار بينه و بين عمه الفقيد الغالى ..
وصل بيت الحاج وهيب ليدخل مترنحا لا يدرى من حاله شيء .. كان نبأ وفاة عمه مهران قاصما .. أتى على كل ما لديه من قدرة على التحمل او حتى الادعاء بها ..

لقد مات ابوه الثانى دون ان يودعه .. مات الأول غسان الهوارى و لم يكن يجرؤ على إظهار حزن الألم على فراق ابيه ..غاب ابوه و ما كان له الحق في ان يقف مع الرجال ليأخذ بعزائه كولده سليم .. كان يبكى أبيه و يبكى حاله و سره الذى رحل مع رحيله ..
و الان رحل ابوه الثانى في غيبته و غربته و تلك التوهة التي فرضها على نفسه ..
رحل عمه الذى لولاه لظل كما كان دوما زوزور الذى تربى في كنف الهوارية و الذى ظل عمره بالكامل لا ينطق حرفا خوفا من بطشهم ..

رحل عمه و ما كان يقف في ظهر عاصم يعضده و يشد من اذره و يكون له دوما الأخ الذى تمنى بديلا عن سليم ..
وصل زكريا لغرفته و دفع ببابها ليطالعه محيا بدور الصبوح الذى تغيرت ملامحها فجأة ما ان رأته بهذه الحال ..
هتفت صارخة في لوعة و هي تندفع اليه تسند ذاك الجسد المترنح :- سى زكريا ..!؟.. مالك يا خويا .. !!؟..
اتكأ عليها حتى وصل لطرف الفراش فألقى بنفسه عليه هامساً :- متجلجيش .. هنام شوية و هبجى كويس ..

تمدد في وهن .. و راح فجأة في نوم عميق ظلت هي على حالها لا تدرى ما عليها فعله ان جسده يشتعل بالحمى .. و بدأ يهزى بكلمات غير مفهومة و يهتف بأسماء أشخاص لا تعرفهم ..كان يهتف باسمها في بعض الأحيان ..فتنتفض تضمه بذراعيها معتقدة انه استفاق و يناديها الا انها تكتشف انه لازال غارق في هزيانه ...

اندفعت تهبط الدرج تطرق باب شقة ابيها في لوعة .. فتحت نعمة في تعجب :- خير يا بدور .. جرى ايه .!؟..
هتفت بدور و هى تشير للأعلى :- ألحقينى يا نعمة .. سى زكريا قايد نار فوق و مش عارفة اعمل ايه ..!؟.. صحى ابويا يتصرف
يجيب حكيم من اى حتة .. الراجل تعبان قووى ..
هدأتها نعمة :- حاضر هدخل اصحيه اهو .. اهدى بس تلاقيه وقف في الشمس زيادة حبتين انت مش بتقولى المعلم مرشدى بقى بياخده معاه في طلعاته على العمارات اللى بيبنيها ..يبقى اكيد هو كده زى ما بقولك ..

اندفعت نعمة توقظ الحاج وهيب الذى اندفع بدوره يبحث عن طبيب في تلك الساعة المتأخرة ..
عادت بدور لحجرتها بجانب زكريا حتى يعود ابوها بالطبيب .. ظلت بجواره و قد اصبح من شدة الحمى كأنه غارق في بركة ماء ..
احضرت منشفة نظيفة بللتها بالماء الفاتر و بدأت بالمسح بها على جبينه و جانبي وجهه الذى خالطت سمرته حمرة من شدة حرارة جسده الذى اصبح ينتفض في تلك اللحظة مما دفعها لتحتضن راسه في لوعة باكية على حاله التي جاء بها من الخارج .. انه بالفعل اصبح الذراع اليمنى للحاج مرشدى يأتمنه على الكثير و يأخذه دوما معه في جولاته حول مواقع البناء المختلفة ..لكن أي شمس تلك التي تؤثر فيه بهذا الشكل ..!؟..

فعلى حد علمها الشمس في الصعيد حارقة كأنها فوق الرؤوس و هو تربى هناك و نشأ حيث لهيب الشمس في أشهر الصيف امر اعتيادى كالتنفس ..
اخرجها نداء ابيها من شرودها وخواطرها لتندفع تفتح باب الحجرة على مصرعيه ليدخل الطبيب و الحاج وهيب معه و تنتحى هي خارج الغرفة تقف على أعتابها في انتظار الفرج من الله تفرك كفها في توتر حتى انتهى الطبيب من فحصه لزكريا ..

تحدث الطبيب بلهجة مطمئنة :- متقلقوش .. حاجة بسيطة .. الأهم الاعتناء بمواعيد الدوا و الغذا ..
أومأت بدور برأسها إيجابا و تبع الحاج وهيب الطبيب و غادر مؤكدا انه سيبتاع الدواء و يعود سريعا ..
دخلت بدور تجلس على الأرض بجوار زكريا المسجى على الفراش .. لازالت تتأكله الحمى و لازال هزيانه في زروته وكذلك نداءاته لا تنقطع.. استمرت في ترطيب جبينه و وجهه بمنشفتها المنداه حتى تنخفض الحرارة و تدعه الحمى ينام في سلام دون مزيد من تلك التأوهات التي يطلقها فتخلع قلبها من منبته هلعا على حاله ..

عاد من جديد لنداءته و زاد فضولها لتعلم من هؤلاء الذين يحتلون عقله و باله حتى يهزى بهم .. من عاصم ..!؟..
من هو الحاج مهران ..!؟..
والاهم .. من هي سهااام ..!؟؟..

هتفت الحاجة فضيلة في سهام الشاردة حتى انها لم تنتبه لابنها الذى يناديها في إصرار :- سهااام ..!؟.. ولدك بينادم عليكى .. ايه مسمعاش دى كله .. !؟.
انتفضت سهام من شرودها هاتفة :- ايه .. خير.. ايه فيه يا باسل ..!؟.. روح ألعب في الچنينة ياللاه ..
جذبته جدته لاحضانها هاتفة :- تعال يا ولدى .. سيبك من أمك دى.. اللى ما عارفة مالها من ساعة ما چت ..!؟..
هتفت سهام بحنق :- هيكون مالى ياما ..!؟.. ما أنا زينة اهاا ..

هتفت الحاجة فضيلة و هي تحتضن باسل تهدهده حتى ينام :- سهاام .. ايه في ..!؟.. انت متخانجة مع چوزك و لا ايه ..!؟..
هتفت سهام :- لااه ياما .. مش متخانجين بس .. أصل أنا كنت عند الداكتورة..
هتفت فضيلة في جزع :- داكتورة ..!؟.. ليه!؟..

هتفت سهام مؤكدة :- متخافيشى.. أنى بخير
بس الحكاية انى جلجت على حالى جلت اروح اطمن ..
سألت فضيلة مستفسرة :- تطمنى على ايه بالظبط !؟..
همست سهام :- اطمن على الحمل .. أنا ..
هتفت أمها في فرحة :- أنتِ حامل يا سهام .. يا..

قاطعتها سهام في ضيق :- لاااه .. مش حامل .. يااريت .. أنا رحت عشان اعرف ليه محصلش حمل لحد دلوجت .. أهو باسل داخل على التلت سنين و نفسى أنى و حسام نجيب له اخ أو أخت .. اديكِ شايفة ياما متعلج كيف بولاد عاصم .. ده الْيَوْمَ اللى مبجيش فيه هنا السرايا بيبهدلنى هناك بكا و نواح عشان ياجى .. و اهااا على يدك كان خارب الدنيا لما لجى ولاد خاله نايمين و زهرة معاهم فوج ..

سألت فضيلة في قلق :- طب و الداكتورة جالت لك ايه ..!؟..
أكدت سهام :- جالت لى كله تمام و متجلجيش مسألة وجت مش اكتر و اسلمها لله ..
هتفت فضيلة :- و نعم بالله .. صح .. سلميها لله ..
رددت سهام بتضرع :- الامر لله .. يااارب

ثلاث ليال مرت .. يستفيق زكريا لبعض الوقت و يعاود الغوص في الحمى و الهزيان من جديد .. و بدور جالسة على ارض الغرفة بجوار فراشه لا تغادر موضعها ابدا تمده ببعض الماء عندما يهتف بطلبه ما بين نومه و صحوه .. تحاول قدر استطاعتها إطعامه لكنه يرفض و يعاود النوم من جديد و كأنه مهربه من امر ما لا تدركه ..

استيقظ زكريا يتلفت حوله و كأنه عائد من ارض بعيدة بعد غربة طويلة و أخيرا وقعت عيناه على بدور التي كانت رأسها تتكئ على مرفقها المسند على حافة الفراش بجوار كتفه كانت نائمة موضعها على الأرض لم تتمدد حتى .. نظر اليها باشفاق على حالها و هي في هذا الوضع لاجله .. وضع كفه على رأسها يملس شعرها فانتفضت في ذعر هاتفة باسمه :- سى زكريا ..!؟؟..

تنبهت لإفاقته فابتسمت في سعادة مندفعة لاحتضان راسه بين ذراعيها :- حمد الله على السلامة.. كده كنت هتموتنى من خوفى عليك..
ربت زكريا على ذراعها المحيطة به في محبة هامساً :- بعد الشر عنيكِ ..
قبلت رأسه و تركته مندفعة تشعل الموقد و تدفع على احد عيونه المشتعلة بقدر به بعض الحساء المعد مسبقا استعدادا لافاقته ..

وضعت صحن الحساء على حجرها و اعتدل هو قليلا حتى يستطيع تناول طعامه .. بدأت تطعمه في حبور لشفاءه مشاكسة :- عارف انت بقالك كام ليلة راقد ..!؟.. رفع رأسه بنظرات متسائلة لتستطرد هي :- تلت ليالى بحالهم و انت محموم و على حال لا تسر عدو ولا حبيب ..
اندهش مكررا :- تلت ليالى ..!؟.. طب و الشغل و الحاچ مرشدى ..!؟..

أكدت هي :- اطمن .. بعت يسأل عليك ابويا و عرف انك تعبان و راقد .. قاله لما يقوم بالسلامة يبقى يرجع الشغل .. ربنا يبارك له..
همس زكريا :- و يبارك للحاچ وهيب تعبناه معانا و كلفناه اكيد ..
هتفت بدور بابتسامة :- تعبك راحة يا سى زكريا .. المهم انك قمت لنا بالسلامة ..
انتهى زكريا من تناول الطعام و نهض من فراشه ليشعر ببعض الدوار لرقدته الطويلة ..

هتفت بدور بلوعة :- هتقوم ليه ..!؟.. خليك مرتاح و انا اجيب لك اللى انت عاوزه لحد عندك ..
ابتسم زكريا و اتكئ عليها مطمئناً :- انا بجيت زين متجلجيش .. انا عايز اجعد بره شوية ..
أحاطت بدور جذعه بذراعها و هي تقول :- من عنايا .. أخرجك بره بس أخاف تستهوى يا سى زكريا ..
ابتسم زكريا و نظر اليها من عليائه :- لاه متخفيش .. مش هستهوى ..

اجلسته على الأريكة الملاصقة لباب الغرفة و امعانا في الحفاظ على شفاءه المستجد وضعت شالها على كتفه تدثره به ..
امسك بأحدى كفيها يرفعه ليلثمه في محبة خالصة هامساً في امتنان :- ربنا يخليكِ ليا .. انى مش عارف من غيرك كنت هعمل ايه..!؟
هتفت مشاكسة :- كنتِ هتعمل ايه يعنى ..!؟.. كنت زمانك قاعد مرتاح كافى خيرك شرك من الحكايات اللى جرتها عليك البت بدور دى..
انفجر زكريا ضاحكاً .. و مال هامساً بالقرب من اذنها :- البت بدور دى ..اللى هي البت الجمر بت الحاچ وهيب ..!؟..
كان دورها لتتعالى قهقهاتها :- قمر ايه بس.!!؟ أمر بالستر ..

ابتسم جاذباً أياها لاحضانه مدثرها معه تحت شالها هامساً :- شكلك عتغيرى منيها .. دى بدر البدور ..
استكانت في احضانه تتلمس دفء الأمان الذى تحيا بأنفاسه .. و لم تجده الا وهى بين ذراعيه.. مد كفه بطول ظهرها يمسده في رفق .. كان يعلم انها نامت الثلاث ليال الماضية تحت أقدامه مستنده برأسها على طرف الفراش و لم تتمدد بجواره لضيقه و لتدعه له ينام فيه دون مشاركته لها.. ثلاث ليال كانت بالتأكيد مرهقة لها جدا و رغم ذلك ما تزمرت او اشتكت بل قابلته بكل فرح حين استيقاظه و كانه ما نام مغيبا ثلاث ليال ذاقت هي فيهم وحدها مرارة الخوف و تجرعت القلق و الهم على حاله ..

تأوهت بلطف عندما مست اطراف أصابعه موضع الألم في ظهرها فانحنى يقبل هامتها التي تلامس ذقنه و همس في عشق :- بدور..!!.. تنبهت و رفعت ناظريها ملبية .. فاستطرد في محبة .. چهزى حالك عشان ننزل الشجة اللى تحت ..
نظرت اليه في دهشة هاتفة :- شقة ايه يا سى زكريا ..!؟..
رد مبتسما :- شجة أمك يا بدور ..!؟.. نضفيها و روجيها و ننجل فيها باذن الله ..
انتفضت في فرح غير مصدقة :- صحيح يا سى زكريا ..!!؟..

اومأ براسه مؤكدا :- ايووه .. شدى حيلك و ربنا يعينا على إيجارها .. انت مش لساتك شايلة نجوط الحاچ مرشدى اللى عطتهولك !؟.
أكدت في سرعة :- اه .. لسه معايا ..
هتف :- طب زين .. و أعادها لاحضانه من جديد هامساً بمزاح:- المهم بدر البدور تكون مبسوطة و تفضل تحبنى زى البسبوسة
قهقهت وهى تذرع رأسها باحضانه اكثر :- مبسوطة دى كلمة قليلة عليا قووى يا سى زكريا ..وعلى فكرة بقى .. بحبكِ اكتر من البسبوسة بكتير ..
ضحك زكريا هاتفاً :- و الله و ايامك هتيجى ملزجة كيف العسل يا زكريا ..
ضحكت وهى تتعلق برقيته تذيقه حلاوة الشهد..



look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 03:00 صباحاً   [26]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل السادس

رن جرس الهاتف في غرفة مكتب عاصم عدة مرات و لم يُجب احدهم و لكن لحسن الحظ دخل عاصم الغرفة لأداء بعض الاعمال ليلحق بالهاتف قبل ان ينقطع رنينه هاتفا في لهفة لمعرفة كنه المتصل لان رنين الهاتف دال على ان المكالمة من محافظة أخرى و ليست مكالمة محلية :- ألووو..
صوت صمت وتنهد على الطرف الاخر و اخيراً هتف المتصل:- البقاء لله يا عاصم..

جلس عاصم على كرسى مكتبه يلتقط الصوت في شك هاتفا :- سبحان من له الدوام .. بس مين ..!؟.. و صمت للحظات هاتفا بلهفة :- .. زكريااا..!؟..
رد صاحب الصوت بنبرة متحشرجة :- آه يا واد عمى .. زكريا .. زكريا اللى عينه منيك في الأرض و مش عارف يجول ايه و لا يسوى كيف ..!؟..
وجت ما كان لازماً يبجى في ضهرك كان لساته تايه عن الدنيا .. تايه حتى عن حاله يا واد ابوى ..

هتف عاصم متنهداً :- عارف يا زكريا .. عارف .. بس متحملش روحك أكتر من طاجتها .. مش ناوى تجولى فينك ..!؟....و منتش ناوى ترچع برضك .. !؟؟..
هتف زكريا :- ارچع فين يا عاصم ..!!!.. معدش ينفع ..مش هاينفع ارچع الا لما ألاجى روحى .. و بعدين أنا اتچوزت ..
هتف عاصم :-اتچوزت ..!؟.. اتچوزت مين!؟..

قال زكريا :- اتچوزت بت صاحب البيت اللى سكنت فيه .. راچل طيب و بته عايزة تعيش.. أهو تعينى على حالى ..
أكد عاصم :- خير ما فعلت .. ربنا يچمعنا بيكم على خير وتاجونا عن جريب ..
هتف زكريا في شوق غير راغب في إنهاء الحوار مع بن عمه و صديقه الوحيد :- و انت يا عاصم .. كيفك ..!؟.. أحوالك عال ..!؟..

أكد عاصم :- الحمد لله يا زكريا .. ربنا رزجنى بواد و بت .. مهران و سندس ..عمرهم ست شهور تجريبا..
هتف زكريا مهللا :- الله اكبر .. ربنا يبارك لك فيهم و يچعلهم من الصالحين يا رب ..
هتف عاصم :- يااارب ..

عم الصمت قليلا ليهتف زكريا مودعاً :- اشوفك على خير يا واد عمى ..مش هوصيك على امى و مرت اخوى وولده .. عارف ان حملك زاد يا عاصم .. بس انت كدها .. سامحنى يا واد عمى .. مش بيدى غربتى و لا بيدى رچوعى ..
هتف عاصم في نبرة تحمل الكثير من الحزن على حال زكريا :- ربنا يعينك يا زكريا .. ربنا يعينك يا واد عمى على حالك ..
همس زكريا في استكانة :-أمين ..

و أغلق كل منهما الهاتف لكن الحوار لم يتوقف فكلاهما أخذ يجادل نفسه و يعنفها من اجل الاخر .. عاصم يؤنب نفسه من اجل بن عمه و غربته اللى فرضها على نفسه و عدم قدرته على أثنائه عن الرحيل بعيدا عنهم في ذاك التيه الذى لا يعلم متى سينتهى و هل له نهاية من الأساس ..

كذلك زكريا ظل يوبخ نفسه على ابتعاده عن عاصم .. بن العم و الصديق الذى ما حظى بمثيل له طوال حياته .. الذى رد له الحق الضائع .. كان الأولى البقاء بقربه و تدعيمه و مساندته لا الهروب من البلدة بما و من فيها من اجل إثبات الذات و البحث عن الهوية في البعد عنها..
كلاهما كان تائه .. لكن لكل تيه مبرراته ..

ناداها زكريا مؤكدا على مجيئه من عمله هاتفاً باسمها وهو يجلس يلتقط أنفاسه على الأريكة الملاصقة للغرفة :- بدور .. يا بدور ..
ردت من داخل الغرفة :- نعم يا سى زكريا .. انا جاية اهو..
طلت من الحجرة هاتفة في حبور :- حمدالله على السلامة يا عيون بدور ..

ابتسم في وجهها لتكمل :- انا بحضر الغدا اللى بقا عشا ده عشان اتاخرت قووى النهاردة..
دخلت تتابع قدر على النار ليدخل خلفها مجهدا يلقى بجسده المنهك على الفراش هاتفاً :- معلش اعمل ايه ..!؟.. الحاچ مرشدى بعد لف طول النهار على العماير و احوالها .. رچعنا المحل نراچع كام طلبية فاتاخرنا ..

نهض متكاسلا يخلع جلبابه ملقياً أياه جانبا و يرتدى اخر منزلى .. و يسبقها للخارج لتتبعه واضعه صحون الطعام على الطبلية ..
جلسا يتناولا الطعام في هدوء .. و ما ان انتهى حتى عاد لاريكته يجلس على احد أطرافها مستنشقا بعض من الهواء النقى الخال من ذرات الرمال و مواد البناء المعبق بها جو المواقع التي يرتادها مع الحاج مرشدى ..

جلست بدور و هي تحمل صينية الشاي لتضعها على الأريكة بينهما و تجهز له كوبه الذى لا يستطيبه الا من صنع يديها ..
ارتشف عدة رشفات و تنهد في راحة مما جعل بدور تتشجع هاتفة :- ألا مقلتليش يا سى زكريا .. مين عاصم و الحاج مهران دوول!!؟..

ارتجفت يد زكريا الممسكة بكوب الشاي و رغم محاولته السيطرة على ثباته و قد نجح في ذلك لحد كبير الا ان بدور لاحظت تلك الاهتزازة اللحظية التي انتهت سريعا .. لم يعقب فاستطردت :- اصلك أيام تعبك الله لا يعيدها ..كنت و انت محموم قاعد تخترف بأسماء منهم عاصم و تقوله سامحنى .. و بعدها الحاج مهران ده و برضك تقوله سامحنى .. يسمحوك على ايه ..!؟..

كانت ملامح زكريا مبهمة بالنسبة لها لم تعرف هل ما تخبره به يغضبه ام لا يمثل بالنسبة له فارقا .. هي كل ما لاحظته تلك الاهتزازة التي تؤكد ان الامر يعنيه لحد كبير..
همس زكريا :- دوول اكتر ناس عزاز على جلبى يا بدور .. اكتر ناس لما كان المفروض ابجى وسطيهم وجت ما احتاچونى كنت انى بعيد جووى عنيهم .. تايه و لسه مش عارف لى بر .. و لا لاجيلى مرسى ..

وضع زكريا كوبه و نهض متوجها للسور مستندا عليه محاولا الا ينكئ جروح لم تندمل بعد .. لكن يبدو ان بدور قد سيطر عليها الفصول بشكل كلى و لن تتركه لحاله ..
و كان على حق حينما تبعته لتجاوره في وقفته هامسة :- طب و مين سهام ..!؟..

لاحت منه نظرة الي بدور أيقن من خلالها أسباب سؤالها .. ابتسم في تفهم قائلا :- دى بت عمى يا بدور .. تربية يدى من وهى بت تلت سنين ..الحاچة فضيلة أمها و ام عاصم .. ومرت عمى الحاچ مهران .. مكنتش بتستأمن حد عليها غيرى ..و ابتسم متذكرًا و مكررا كلمات الحاجة فضيلة :"خلى بالك منها يا زرزور .. اوعالها يا زرزور .."...

هتفت بدور متسائلة في تعجب :- زرزور ..!؟
اومأ زكريا بالإيجاب هامساً :- دى حكاية طويلة جووى يا بدور .. حكاية بطول عمرى كله .. هبجى احكيهالك بعدين ..
هتفت بدور و نبرة الغيرة تطل جلية من كل حرف من حروف تساؤلها :- و حلوة على كده سهام دى ..!؟..
رفع زكريا عضديه من على السور و احتضن وجهها بكفيه هامساً :- زينة لصحابها يا بدور.. هتكلم عن واحدة بجت في عصمة راچل .. انا اللى تهمنى دلوجت هي مرتى .. اللى مشيفش حد في چمالها ..
هتفت في سعادة :- صحيح يا سى زكريا ..!؟؟

أكد مبتسما :- صحيح يا بدور .. انا بحمد ربنا انه هداكى ليا .. انا معرفش كيف كانت هتعدى عليا الأيام دى و أنتِ مش چارى ..!؟
ابتسمت و دمعت عيناها و ما ان همت بالرد عليه حتى علت أصوات زغاريد صادحة من مكان ما على اطراف الحارة ..
هتفت في سعادة :- شايف الفال الحلو يا سى زكريا ..!؟..

اندفعت تحاول بقامتها الضئيلة التطلع من سُوَر السطح العريض إلى الحارة راغبة في معرفة اخر الاخبار و من أين تأتى تلك الزغاريد المجلجلة بالفرحة ..!؟..
شهقت في صدمة عندما وجدت نفسها مرفوعة بعض الشئ عن الأرض لتستطيل قامَتَها فتصبح قادرة على متابعة ما يحدث بالأسفل ..
هتفت و هي تدير رأسها لزكريا الذى وجدته يحملها من خصرها الذى كبله بذراعيه :- انت بتعمل ايه يا سى زكريا ..!؟..

ابتسم مشاكساً :- بنفرچوكى على اللى بيُحصل تحت ..و مش ببلاش على فكرة .. الحساب يچمع ..
انفجرت ضاحكة و اعادت رأسها في سعادة تتابع ما يدور من حوار بين جارتين جذبهما صوت الزغاريد المتعالية و التي لم تنقطع ..
لتدرك من خلال حوارهما أسباب تلك الفرحة
لتستدير مرة أخرى لزكريا هاتفة بملامح متبدلة :- نزلنى يا سى زكريا ..

ابعدها زكريا عن السور لكنه ظل محتفظ بها بين ذراعيه لتستدير له و ملامحها تشى بخبر ليس سارا على ما يبدو .. سأل في فضول :- خير يا بدور .. مين اللى اتچوز و لا نچح و لا الزغاريد دى سببها ايه ..!؟..
هتفت دون مواربة و هي تلتصق به محتمية:- ده السمرى ..!؟..
هتف زكريا حانقاً :- ماله البعيد .. جُطع و جُطعت سيرته ..!؟؟..

أكملت مرتعشة وهى تتذكر حالها يوم ان حاول ارغامها على الزواج به :-كتب كتابه على البت صباح بنت الحاج مرعى صاحب البيت اللى جنب قهوة المعلم خميس ..
صمت زكريا و لم يعقب مما شجع بدور على الاستطراد قائلة :- بس غريبة .. البت صباح دى كانت متقال عليها من..
طاعها زكريا مؤنبا :- خلاص يا بدور بلاه الكلام في سيرة الناس.. دى بجت في عصمة راچل تانى و ربنا يعينها عليه ..

ارتجفت وهى بين ذراعيه تحتمى بهما هامسة:- صدقت يا سى زكريا .. ربنا يعينها على ما بلاها ..
شعر زكريا بارتجافاتها فسأل بقلق :- ايه في يا بدور .. !؟؟..بردتى و لا ايه ..!؟.. مالك بترجفى كِده ..!؟؟..
تمسكت به هامسة :- ابدا مفيش يا سى زكريا، بس كل اما أفتكر انى كان ممكن ابقى مكان البت صباح جسمى كله بيتنفض، صمتت و رفعت رأسها هامسة:- اكيد انا عملت حاجة حلوة قوووى في حياتى عشان ربنا يرزقنى بيك ساعتها .. مش عارفة اشكر ربنا عليك ازاى ..!؟.. و لا عارفة أرد لك المعروف ده ازاى..!؟..

سأل زكريا متصنعا الجدية :- صليتى العشا .!
أكدت بإيماءة من رأسها و هي تقسم واضعة سبابتها على شفتيها :- اه و الله يا سى زكريا .. ده انا من ساعة ما عرفتك ما فوتش فرض
ابتسم رغما عنه و جذبها من كفها باتجاه حجرتهما لتصرخ هي متسائلة :- خبر ايه يا سى زكريا ..!!؟..
غمز لها بأحدى عينيه عابثاً :- هجولك كيف تردى المعروف ..
انفجرت ضاحكة و هي تتبعه متعلقة بذراعه هاتفة في مشاكسة :- و الله ما عارفة أودى جمايلك دى كلها فين يا سى زكريا ...!؟؟..

دخلت سمية تشهق باكية في لوعة لسراىّ عمها هاتفة في نفاذ صبر :- وينه واد عمى يشوف لى صرفة مع واد محروس دِه ..!؟..
انتفض عاصم من مجلسه بقرب أمه الحاجة فضيلة عندما طالعته سمية مندفعة لداخل السراىّ بهذا المظهر الباكى و بيدها ولدها الأكبر ماهر و بطنها ممتدة أمامها بحمل جديد..

هتف عاصم في قلق :- ايه في يا سمية ..!؟.. تعالى اجعدى بس ..خير ..
سحبت الحاجة فضيلة ماهر لاحضانها مشفقة عليه من عنف أمه الذى جاءت به تلك المسافة من بيتها حتى السراىّ لاهثا خلفها ..
هتفت تندب حظها و هي تجلس في بطء متأوهة بسبب بطنها المنتفخ الذى ينبئ بقرب الولادة :- آه يا واد عمى .. تعبت خلاص معدتش جادرة شوف لى صرفة مع عدلى .. و مع أمه .. أنا بت غسان الهوارى يُحصل فيا كِده ..!؟.. معايرة باخوى سليم طول الليل و النهار و ان المفروض احمد ربنا انه اتجدم لى وانا ليا اخ هربان من عملة مهببة وهيبجى سوابج و رد سچون .. و اخر المتمة يضرُبنى..

شهقت الحاجة فضيلة .. و زمجر عاصم هاتفا:- كيف يضرُبك يعنى ..!؟.. هي سايبة!؟..
لكن عاصم تمهل قليلا قبل حكمه متسائلا :- بس يعنى .. أنتِ عملتى ايه عشان توصليه لكِده حاكم انى عارفك..!؟..
أكدت في عجالة :- معمِلتش حاچة يا واد عمى .. هو اللى في الروحة و الچاية لازماً يضايجنى عشان خاطر أمه تتبسط .. ما أنى بجيت سلوتهم .. خلاااص معدتش جادرة .. أنا لا طيجاه و لا طايجة عشته .. أنى عايزة ا..

هتف عاصم مقاطعا لها هادرا في غضب :- أنتِ بتجولى ايه ..!؟.. يعنى ايه مش طيجاه و مش عيزاه ..!؟.. مش بخطرك .. ولدك دِه مين يربيه و اللى چاى كمان .. فوجى لحالك و أنا هكلمه .. و ربنا يجدم اللى فيه الخير ..
نكست سمية رأسها في استكانة بعد غضبة عاصم و لم تجب على كلامه الأخير الا بايماءة من راْسها توافقه و بكاء في صمت ..

تنهد في إشفاق على حالها فهو يعلم تماما من هي أم عدلى و كيف تُسير عدلى باشارة من إبهامها و لا يطيق ان يرفض لها طلبا لكن في المقابل هو يدرك أيضا من هي سمية ابنة عمه و انها ليست هينة على ايه حال و بالتأكيد هي لها القسم الأكبر من الاستقزاز و الذى حمل عدلى ليتطاول عليها بالضرب و خاصة و هي بتلك الحالة و على وشك وضع طفله الثانى ..

نهض عاصم هاتفا في تأكيد :- اطمنى .. كله هايبجى تمام يا سمية خليكى معانا انت و ولدك أتغدوا و هدى حالك و ربنا يجيب الخير باذنه .. سلام عليكم ..
نهض عاصم مغادرا و همست هي وراءه :- تسلم يا واد عمى ..
هنا هتفت الحاجة فضيلة مؤنبة :- لما أنتِ مش عارفة تاخدى حج و لا باطل من عدلى واد محروس و أمه .. رايحة تجيبى عيال تانية منيه يا خايبة ..!؟..
هتفت سمية في حنق :- اعمل ايه يا مرت عمى .. أمى جالت لى اربطيه بالعيال يعمل لك حساب جَصاد أمه ..

قهقهت فضيلة هاتفة :- يخيبكم نسوان ناجصة عجل .. عيال ايه اللى تربطه .. طب كانت أمك ربطت ابوكِ بخلفتكم الشينة .. جال اربطيه بالعيال ..!!.. كانت نفعت نفسها ..
صمتت سمية و لم تعقب لتشفق فضيلة على حالها لتربت على كتفها هاتفة بنبرة تحمل رغبة حقيقية في نصحها :- اسمعى يا سمية ..انت كيف سهام بتى .. و اللى هجولهولك دِه .. جولته لسهام جبل سابج .. مفيش حاچة تربط الراجل لمرة(امرأة) الا جلبه .. لكن جولت عيال تربط راجل لمرة مش طايجها و الله و لو جابت منيه ميت عيل.. ما هيربطوه ..اربطى چوزك بالطاعة و المحبة يا بتى تلاجيه خاتم في صباعك .. سمعانى يا بت رتيبة ..
اومأت سمية برأسها في تأكيد و فضيلة تنظر اليها متمنية ان تكون سمعت ووعت كلماتها بالفعل ..

كان اليوم الأول لهم في شقة أمها التي قرر تأجيرها على الرغم من تأثير ذلك على ميزانيته المحدودة لكنه أشفق على حالها عندما رأها تنام ليالى مرضه بالقرب من فراشه الضيق تاركة له أياه .. قرر ان يمنحها بعض من براح و سعة بديلا عن تلك الغرفة التي بالكاد تحتمل شخص واحد بداخلها...
لقد أكدت عليه بدور ان لا يعود للحجرة عند عودته من عمله و انها تنتظره في شقتهما بعد ان انتهت من تجهيزها كما يجب ..

وصل بالفعل لباب الشقة و ادخل المفتاح في بابها الخشبي ذو الضلفتين مما دفعه ليمسك احداها و يدفع الأخرى للداخل حتى يفتح الباب بسهولة ..
دفع الباب ينظر حوله في استحسان و ينادى باسمها :- بدور .. يا بدور ..
لم ترد .. تراها أين ذهبت ..!؟؟.. ربما هي بالأعلى نسيت شيء ما بالغرفة فصعدت لاحضاره .. كان في سبيله للباب مرة أخرى
و فجأة قفزت هي من خلفه صارخة في شقاوة :- عليك واحد يا سى زكريا ..

انفجر ضاحكاً و هو يتلقفها بين ذراعيه و هتف بها :- واحد ايه بس اللى عليا ..!؟ دِه العفاريت تخاف منى و تچرى ..
نظرت اليه في غيظ و قد ايقنت صدق ما يدعيه عندما لم ينتفض فزعا عندما فاجأته :- طب كده .. يعنى ايه !؟.. مبتركبش الهوا يا سى زكريا .. و انا اللى قلت هخضه بقى واعمله مفاجأة زى الأفلام ..!!؟؟..

علت قهقهاته هاتفاً :- بزمتكِ في صعيدى يركب الهوا .. ليه !؟.. صعيدى ورج ..
ضمها اليه اكثر وهو يهمس في اذنيها :- اومال لو سمعتى اللى كنت عسمعه و انا نايم في إسطبلات الخيل ..!!؟.. و لا ندهتك النداهة على شط التُرعة و عرفتى تنفدى بجلدك منيها.. و لا ..
وضعت كفها على فمه تسكته متعلقة به في رعب :- خلاص و النبى يا سى زكريا .. حرمت .. ده انا اللى اترعبت ..

تعالت ضحكاته من جديد و أخيرا ابعدها عنه قليلا ليطالع مظهرها الجديد على ناظريه ..
كانت تبدو في أروع صورة بذاك القميص الحريرى الأحمر الذى يبرز قدها المياس
و يجعلها كتلة من فتنة لا تقاوم ..

شعرت بحرارة نظراته المسلطة عليها فتوهجت وجنتيها خجلاً .. و خاصة عندما همس مبهورا :- ايه الچمال ده يا بدور !!؟..
همست في خجل :- عجبك يا سى زكريا ..!؟
و طأطأت رأسها هامسة :- ده جابتهولى نعمة
و قبل ان تسمع اعتراضه هتفت مسرعة :- هي قالت لى انى عروسة و الجواز جه على السريع و متجهزتش زى بقية العرايس يا سى زكريا ..و لولا كده مكنتش قبلت .. و الله العظيم ده اللى حصل ..

ربت على كتفها يهدئ من روعها :- تمااام .. و ماله .. حجك برضك .. عروسة و لازماً تفرحى ..
واتسعت ابتسامته و زادت مشاكسة وهو يهمس وهو يجذبها لاحضانه :- بس و الله كتر خيرها الست نعمة .. و انت احلى عروسة يا جمر ..
تملصت من بين ذراعيه في شقاوة و اندفعت
باتجاه حجرة نومهما الجديدة و التي لم يراها بعد هاتفة :- تعال شوف و قولى رأيك ..

فتحت باب الغرفة على مصرعيه ليتوجه زكريا اليها في ترقب و ما ان طالع الغرفة حتى هتف في انبهار :- وااه يا بدور .. دِه انتِ خلتيها و لا الجصر ..
و كان على حق .. فلقد تبدلت الغرفة تماما بعد
ان زينت انحاءها بما توفر لديها من ستائر و
ازهار جافة و فرشت على السرير شرشيف حريرى كان المفضل لأمها و ظلت هي محتفظة به حتى جاءت اللحظة الأنسب لتضعه مرة أخرى على فراشها ..

كانت غرفة مريحة للنفس .. هي المكان الأمثل ليستلقى فيه صانعا عالم لنفسه بعيد عن صخب العالم المحيط .. هي تلك الملاذ الذى سيلجأ اليه دوما ليحتمى فيه بين أحضان تلك الرائعة هناك من ذكريات جارحة و دنيا يصعب التكيف مع تقلباتها العوجاء ..
ابتسم في سعادة و استدار مسرعا ليغلق باب الغرفة و يعاود النظر اليها بنظرات عابثة و هو يقترب منها في تحفز حتى اختطفها بين ذراعيه من جديد ..
همست في خجل :- عجبتك الشقة يا سى زكريا ..!؟؟..

أومأ في تأكيد هامساً بدوره و هو يبحث عن عمق عينيها يتطلع الى تلك الروح الشفافة التي ما خلقت الا لتهدهد نفسه الجريحة :- عچبتنى جووى .. و اللى عاچبنى اكتر صاحبة الشقة ..
رفعت رأسها هاتفة بسذاجة :- أمى ..!؟؟..
لم يستطع زكريا تمالك نفسه لينفجر في قهقهات متتابعة أورثته دمعا مترقرقا في حدقتيه ..

جلس على اطراف الفراش يتنهد بعد تلك النوبة من الضحك ليهتف ساعلا :- ايوه امك يا بدور .. الله يرحمها .. خلفت اكتر واحدة غشيمة في الدنيا كلها ..
كانت تقف كالتلميذ البليد تعلو التكشيرة ملامحها الطفولية و هي لا تعرف ماذا فعلت ليسخر منها.. جذبها اليه لتسقط بين ذراعيه فيتلقفها هامساً في عشق :- بس بتها الغشيمة دى هي في كفة و الدنيا كلها في كفة ..
كانت كلماته كافية و كفيلة تماما ليتبدل مزاجها للنقيض وهى تبتسم في سعادة مطوقة عنقه بذراعيها ..

هتف سعيد مندفعا خلف عاصم الذى توقف ليرى ما يريد غفيره هاتفا :- خير يا سعيد .. ايه فى .!؟..
هتف سعيد محرجا :- مَعلش يا عاصم بيه ..!!.. بس هو طلب خصوصى...
هتف عاصم وهو يضع كفه في جيب جلبابه:- ايه يا سعيد .. عايز فلوس ..!؟..
رفض سعيد مؤكدا : - لاااه يا عاصم بيه .. خيرك مغرجنا .. بس يعنى .. انى كنت عايز استأذنك فى حاچة كِده ..

هتف عاصم بنزق :- ما تنطج يا سعيد نشفت ريجى .. ايه فى ..!؟..
استشعر سعيد نفاذ صبر عاصم فهتف فى عجالة:- اصلك انا نويت اتچوز يا عاصم بيه و كنت بستأذنك فى الاوضة بتاعت سى زكريا اللى فى الچنينة.. !؟..
صمت عاصم للحظة و اخيراً هتف مقهقها :- عايز تتچوز يا سعيد ..!؟..
هتف سعيد مؤكدا :- دِه بعد إذن چنابك ..

ليربت عاصم على كتفه مشجعا :- و ماله .. اتچوز و اتبسط .. و الأوضة بتاعتك من دلوجت و لو عايز تبنى چنبها أوضة تانية أو حتى توسعها .. و ماله .. اطلب اللى انت عاوزه .. واعتبره نجوطك يا عريس ..
هتف سعيد فى فرحة :- تسلم يا عاصم بيه .. ربنا يخليك لينا ..
هتف عاصم ضاحكا :- وااه .. كل دِه عشان الأوضة و لا عشان الچواز يا فجرى .. !؟..
هتف سعيد ضاحكا :- التنين يا بيه ..

قهقه عاصم هاتفا :- ماااشى يا حزين .. و نجيت العروسة .. و لا لسه .. !؟..
أكد سعيد منتشيا :- نجيتها .. نچاة بت عم عمران البجال اللى على اول البلد ..
ربت عاصم على كتفه من جديد : - تمااام .. عم عمران راچل طيب .. و بته زينة .. ألف مبروك يا سعيد .. ربنا يتمم بخير و اى حاچة تعوزها اطلبها
و ميهمكش..

هتف سعيد ممتناً :- ربنا يبارك لنا فى عمرك يا عاصم بيه .. و انى اهااا مش عفوت البوابة واصل .. بدل ما انى كنت رايح چاى على دارنا فى اخر البلد هيبجى بينى و بين الأوضة اللى هبيت فيها خطوتين ..
قهقه عاصم هاتفا فى عبث :- برضك مش هتفوت البوابة .. !؟.. دى العروسة هتنسيك بوابة السرايا و صحابها كمان ..

نكس سعيد رأسه فى احراج يرتسم على وجهه ابتسامة خجلى .. ليربت عاصم على كتفه فى قوة هاتفا فى مرح :- و ماله .. اتچوز و اتهنى يا واد ..
حرج ابو البوابة ..
و قهقه فى سعادة و سعيد منتشيا لموافقة سيده على ما كان يتمناه منذ رحيل زكريا عن السراىّ ..

وصل لمدخل الحارة المعتمة الساكنة تماما في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل .. كان مرهقا بحق فاليوم كان شاقا و طويلا بشكل غير مسبوق و قد ظل مع الحاج مرشدى لتلك الساعة حتى انهى العمل و رحل كل منهما ..
خطواته كانت بطيئة رتيبة .. تعكس مدى تعبه و رغبته الملحة في الراحة لساعات طويلة ..

بالكاد وصل ساحبا قدميه حتى مشارف مقهى الحاج خميس اللول و كل ما يدور بخلده مدى القلق الذى يعترى بدور في تلك الساعة .. فهو كان يتاخر في بعض الأحيان .. لكن لم يتأخر ابدا لمثل ذاك الوقت المتأخر ..
توقف فجأة عندما لاحظ حركة غير اعتيادية في مثل ذاك الوقت امام مقهى المعلم خميس
تنحى جانبا في بطء و اختبئ في سلاسة حتى لا يشعر أحدا بوجوده ..

هتف في نفسه ." دوول رچالة السمرى .. بيعملوا ايه هنا .. و خصوصى چنب جهوة المعلم خميس .. !؟.."
رأى على ضوء مصباح احد أعمدة الانارة الخافتة ..رجال السمرى يخرجون من احد الأركان المظلمة يحملون بعض الزجاجات البلاستيكية و التي على ما يبدو تحمل مادة حارقة بدأوا بنشرها و رشها في الأركان الثلاثة للمقهى هنا لم يستطع الوقوف متفرجا
فاندفع من ركنه الذى كان يختبئ فيه صارخاً بصوت كالرعد :- انت بتعمل ايه منك ليه!!؟..

كانت صرخته مباغتة لهم بالفعل فلقد فراثنان هاربين بينما الثالث تشجع ليهاجمه و اشتبك بالفعل مع زكريا و دارت بينهما معركة
طاحنة جعلت زكريا يندفع لينزع سكين العم طايع المغروسة ببطن احدى البطيخات مهددا بها الخصم الذى يصارعه و لكن على حين غرة ظهر احد الرجلين الفارين من خلف زكريا و باغته بضربة قوية من عصاه على رأسه مما دفع زكريا ليترنح متأوها وممسكاً برأسه المصاب تحت عمامته البيضاء التي بدأ الدم يصبغها بلون احمر قان ..

اندفع رجال السمرى هاربين عندما بدأت أصوات الشجار ترتفع و تجذب المصلين الذين بدأوا يفدون لصلاة الفجر في الجامع الكبير على مدخل الحارة و لكن في غمرة الاحداث ظهر ظل ما تقدم بجوار جسد زكريا المصاب و المطروح ارضا ليلتقط سكين العم طايع ..
بدأ المصلون القادمون من قلب الحارة يمرون بشادر العم طايع و مقهى المعلم خميس ليلتفت احدهم صارخاً في الظلام لرؤية جسد زكريا مضرج في دمائه و مقهى المعلم خميس الذى
أُضرم فيه النار و التي ألقيت شرارتها من قِبل نفس الشبح الذى حمل سكين العم طايع و اختفى..

صرخت بدور عندما رأت من شرفة شقتها زكريا يسنده رجال من الحارة حتى يدخل بيت الحاج وهيب .. فتحت الباب و اندفعت على صرخاتها نعمة و الحاج وهيب الذى كان
يتحضر للنزول لفتح بقالته ..
ما ان رأها زكريا و هي تقف على اعتاب الشقة حتى هتف فيها بكل ما استطاع من قوة :- خُشى جوه ..
اندفعت للداخل مرغمة تتدارى عن اعين الرجال الذين كانوا برفقة زكريا يساعدونه على الصعود للشقة بعد عودته من المستوصف الطبي في اخر الشارع الرئيسى و رأسه تلفه الضمادات الطبية اثر الجرح الذى تعرض له من جراء ما حدث امام مقهى المعلم خميس ..

هتف زكريا للرجال شاكرا وهو يستند على باب شقته :- تسلموا يا رچالة ربنا يخليكم ..
رد الرجال السلام و بدأوا في الرحيل و ما ان اختفوا على الدرج حتى اسند الحاج وهيب زكريا لداخل شقته و تبعته نعمة تسأل بفضول عما حدث ..
ما ان جلس زكريا على الأريكة القريبة من الباب حتى أعقبه الحاج وهيب و نعمة و ظهرت بدورمسرعة من الداخل ما ان ايقنت رحيل الرجال ..و قد هتفت في لوعة :- خير يا سى زكريا ..ايه اللى حصل..!!..

قال زكريا بلهجة واهنة :- ابدا .. اتاخرت امبارح في الشغل مع الحچ مرشدى لجرب الفچر و انا داخل الحارة لجيت تلاتة من رچالة السمرى عايزين يولعوا في جهوة المعلم خميس ..
صرخت نعمة و بدور في صوت واحد :- يا مصيبتى ..
و أكملت بدور :- ده كان الحارة كلها ولعت ..

رد زكريا :- ما انا لما وجفت لهم خدونى على خوانة و واحد منيهم ضربنى على راسى ..
و الحمد لله چت سليمة .. و الجهوة اهى لحجوها و خصوصى ان صبى المعلم خميس كان لساته جافلها على روحه جوه و نايم .. كان هيروح فيها الواد الغلبان .. الحمد لله ..
هتف الجميع :- الحمد لله .. و استطرد الحاج وهيب :- بس خلى بالك على نفسك يا زكريا انت كل شوية ربنا يوقفك في طريق السمرى عشان توقف له مصيبة من مصايبه اللى بيعملها .. و هو مش هايسكت على كده كتير .. ربنا يسترها..

هتف زكريا في صوت واهن :- ربك الحافظ يا حاچ .. هي بتاجى معايا كِده .. لا انا جاصده و لا يهمنى في حاچة .. ربنا يكفينا شره ..
هتف الحاج وهيب :- امين يا بنى ..
و نهض و تبعته نعمة للعودة لشقتهما و قبل ان يغادر هتف الحاج وهيب :- لو عوزتوا حاجة
نادوا و احنا معاكم .. ربنا يشفيك يا زكريا ..

هتف زكريا :- تسلم يا حاچ و تعيش ..
أغلقت بدور باب شقتها خلف ابيها و زوجته
و استدارت عائدة لزكريا .. تناولت كفه تجذبه في صمت حت ينهض لتسنده حتى يتمدد على فراشه .. شملهما الصمت حتى سحبت الغطاء على جسده المسجى على الفراش ..
همت بالرحيل ليمسك هو كفها لتستدير له و عيونها تملأها نظرات مضطربة و خائفة ..
همس زكريا :-مالك يا بدور .. ايه فيه !؟..

همست مجيبة :- مفيش يا سى زكريا .. قلبى مقبوض .. هموت من خوفى عليك و كلام ابويا رعبنى اكتر ..
ابتسم محاولا بث الطمأنينة في نفسها :- متخفيش .. عمر الشجى بجى ..
ثم أشار للجانب الاخر من الفراش قائلا :- ياللاه تعالى اجعدى چارى لحد لما انعس..
استدارت و اتخذت مكانها بجواره ليمد كفه محتضناً كفها ليلثمه ثم يرفعه واضعا أياه على جبينه المعصوب.. و لم تمر دقائق حتى كان يغط في نوم عميق ..

رفعت كفها عن جبينه ببطء و تنهدت في قلق و انسحبت من الغرفة في هدوء تعد له ما تستطع ويجود به مطبخها ليتناوله عند استيقاظه استغرقها الوقت في الاعداد و التجهيز حتى سمعته ينادى من الداخل طالبا لكوب من الماء ناولته إياه و قد تناهى لمسامعها عدة طرقات متتابعة تُقرع على باب الشقة لتندفع بدور تفتح و هي تحكم وضع غطاء رأسها حول رقبتها و ما ان اشرعت الباب حتى هتف المعلم خميس منكس الرأس :- سلام عليكم يا ست بدور .. زكريا صاحى!!؟..لو مش صاحى .. اجيله وقت تانى اطمن عليه ..

أكدت بدور :- اه يا معلم .. هو صاحى ..اتفضل .. و اشارت الى حجرة النوم مستطردة .. بس هو مريح شوية الخبطة اللى على دماغه عملاله صداع بعيد عنك..
ما ان هم المعلم خميس بالاتجاه للغرفة هاتفاً في استئذان :- يا رب .. يا ساتر ..
حتى وجد زكريا يقف على اعتاب الغرفة يخرج له حتى اندفع المعلم خميس تجاهه مسندا أياه حتى الأريكة ..
هتف المعلم خميس في عتاب :- ايه اللى قومك بس من فرشتك ما انا كنت داخل لك!؟..
ربت زكريا على فخذه ممتنا :- الجومة ليك يا معلم خميس ..

تنحنح خميس :- و الله انا ما عارف أرد لك جميلك اللى عملته ده ازاى ..!؟..
هتف زكريا عاتبا :- جَميل ايه بس يا معلم!!؟.. مفيش بناتنا الكلام دِه .. المهم جولى
صبيك اللى كان جوه الجهوة بخير..!!؟..
أكد خميس :- اه الحمد لله .. لولاك لكانت القهوة دى كوم تراب ..و الواد ده راح فيها ..
تسلم يا صعيدى .. القهوة دى كل راس مالى..

و تقولى مش جميل ..!!؟.. ده انت لحقت رقبتى .. و شوف كام بيت كان هايتقطع عيشهم لو القهوة دى حصلها حاجة ..!!؟..
أكد زكريا :- متجلش كِده .. لولا ربنا .. انا مكنتش الا سبب و ربنا بعتنى في الوجت المناسب .. كلنا أسباب يا راچل يا طيب ..
نهض المعلم خميس هاتفاً بنبرة ممتنة :- انا هقوم دلوقتى عشان اسيبك تستريح و أمانة عليك لو احتجتوا اى حاجة .. نادى علي اى عيل في الحارة ينادينى او ينادى حد من صبيانى هنكون عندك في ساعتها ..
هتف زكريا :- تسلم يا معلم .. كلك واچب ..

خرج المعلم خميس وهو يقسم على زكريا الا ينهض خلفه مودعاً و يعود ليرتاح في حجرته من جديد ..
عادت بدور من الداخل بعد ان تأكدت من رحيل المعلم خميس انحنت تقبل راس زكريا هامسة :- ترجع أوضة النوم يا سى زكريا.!؟..
جذبها من يدها لتندفع جالسة بالقرب منه على الأريكة هامساً في غيظ :- و لما أنتِ واعية انها أوضة النوم .. مدخلة لى الراچل فيها ليه..!؟..
همست محاولة تبرير فعلتها :- مكنتش عيزاك تقوم من مكانك و انت لسه تعبان وتجيله ..

هتف محاولا السيطرة على ألم رأسه :- أجي ان شالله زاحف و لا تدخلى راچل غريب أوضة نومك .. أفرض كنت حاطة حاجة ليكى كِده و لا سايبة حاجة ليكِ هنا و لا هنا يبجى ايه الحال وجتها ..!؟..
صمتت و لم تعقب بعد ان ألجمها بحجته بينما استطرد هو هاتفاً :- جومى جيبيلى دوا راسى ..وچعها بيزيد ..

انتفضت في عجالة تحضر له قرص الدواء المسكن لألم رأسه .. قذفه في جوفه برشفة ماء و نهض متوجها للغرفة دون ان ينتبه اليها..
وقفت لا تدرى ما عليها فعله .. هي لم يخطر على بالها ما ذكره للتو .. لكن على قدر حنقها من غضبه و ثورته المحكومة بمرضه .. على قدر فرحتها الطاغية بغيرته عليها .. انه يغار.. و كم أسعدها ذلك حد الابتسام ببلاهة و التوجه خلفه تتأكد انه على ما يرام و ان الدواء قد بدأ مفعوله و سكن من ألم رأسه المصابة..

فتحت الباب في حذر و دلفت للغرفة على اطراف أصابعها لعله راح في النوم و هي لا تريد ان تقلق منامه ..
اقتربت تسحب الغطاء المنحسرعلى جسده
و تستدير حول الفراش لتجلس على الجانب الاخر تجاوره متطلعة لملامحه الخشنة المتجهمة .. انه لا يتجهم بهذا الشكل وهو نائم!؟.. دوما ما كانت ملامحه مستكينة و وديعة وهو يغط في نومه.. لطالما راقبته و حفظت ملامحه عن ظهر قلب..

نقشتها على جدار الروح .. و كأنها ما رأت من الرجال غيره و لا اقترنت قبله .. هو رجلها الأول و الأخير ..قبله ما كان رجال .. و بعده ما عادت ترى إلاه يستحق لقب رجل و عن جدارة .. انتهى عصر الرجال عندما دخل لحياتها ليصبح هو الملك الأوحد لتلك المملكة التي ما عادت تعنى لها شيء و ما عادت تحمل الا مدلول واحد هو .. زكريا ..

تنهدت في هيام وهى تسند ذقنها على باطن كفها و هي غارقة في تأمل ملامحه التي بدأت تستكين و تعود لطبيعتها .. و بعد ان كان حاجباه المقوسان على شكل هلالين أشد تقوسا بدأ كل منهما يرتخى لتختفى تلك التكشيرة التي كانت تكلل مفرق حاجبيه .. و يفتح عيونه في بطء متطلع الى تلك الهائمة فيه..
ابتسم رغما عنه عندما طالعته ملامح وجه بدور و لم يستطع ان يستمر في تزمره منها..

دوما كانت قادرة على جلب الضحكة الى شفتيه و العفو و اللين لقلبه .. فمهما ارتكبت من أخطاء .. هي .. و ستظل هي .. مصدر سعادته .. و منبت سروره ..
هتف لها ساخراً وهو يراها تحملق فيه بهذا الشكل :- خدتى الصورة و لا لسه!؟..
انتفضت من شرودها و اتسعت ابتسامتها متسائلة :- لسه زعلان منى يا سى زكريا!؟..
همس مشاكساً :- جربى ..

اقتربت ليهمس في عشق :- حد يزعل من روحه .. يا غشيمة ..
دمعت عيناها وهى تتمدد تريح رأسها على
صدره و هي تبتهل الى الله الا يحرمها من هذا الرجل الذى تعشقه اكثر من روحها ذاتها.

انتفض كل من زكريا و بدور من فراشهما صباح احد الأيام لتندفع بدور وهى لاتزل غمامة النوم تؤثر على استيعابها نحو باب شقتهما .. لتفتح نعمة باب شقتها في نفس اللحظة و ملامح الفزع مرسومة على ملامحها
هتفت بدور في ذعر :- ايه الصويت و الصريخ ده .. هو في ايه على الصبح كِده..!؟
ردت نعمة :- و النبى ما انا عارفة ..ربنا يسترها ..

عادت كل منهما لداخل شقتها تحاول معرفة ما يحدث من خلال متابعة ما يجرى من شرفات المنزل ..
سألت زكريا في فضول عندما وجدته يدخل من الشرفة لتوه :- خير يا سى زكريا ..!؟..
شرد زكريا هاتفاً :- و الله ما عارف يا بدور ان كان خير و لا شر ..
هتفت و الفضول يقتلها :- ليه !!.. في ايه في الحارة .. و الصويت ده كله ليه ..!؟..
نظر زكريا اليها في قلق هاتفاً :- السمرى اتجتل ..

لتهتف هي صارخة :- ايه ..!؟.. أتقتل ..!!؟
انت متأكد يا سى زكريا ..!؟..
قال زكريا :- و الله ده اللى بيجولوه في الحارة.. الله يرحمه بجى ..
هتفت متسائلة في فضول :- مين اللى عملها!؟.. مسكوه ..!؟..

هتف زكريا :- مسكوا مين يا بدور.. دوول لسه عارفين انه مجتول ساعة ما سمعتى الصراخ .. ايه ..!؟.. الجاتل هايجعد چاره مستنى الحكومة تجبض عليه ..!!؟..
دق باب الشقة بطرقات متتابعة قلقة مما دفع زكريا ليشير اليها لتستتر و يفتح الباب ليجد المعلم خميس هاتفاً قبل حتى إلقاء السلام :- شفت اللى حصل يا زكريا ..!؟؟. السمرى أتقتل امبارح بالليل ..

هز زكريا رأسه مؤكدا :- اه .. الله يرحمه .. انا جمت على صوت الصراخ ..
هتف المعلم خميس ناصحا :- زكريا ..بقولك ايه ..!!..
قال زكريا :- خير يا معلم .. !!؟..
هتف المعلم خميس :- انا قلبى مش مطمن .. بص .. من الاخر كده انت لازم تختفى لك شوية لحد لما الليلة دى تنتهى ..
تعجب زكريا :- ليه ..!؟.. انا مليش صالح بالحكاية دِى ..

هتف المعلم خميس بنفاذ صبر :- اسمع بقى يا أخى .. انت هتكون واحد من المشتبه فيهم اكيد لانك اكتر واحد عمل معاه مشاكل و قلق.. و الكل هايشهد بكده .. و ده مش في صالحك .. الحكومة على وصول .. أنجز و ابعد ..
هتف زكريا برفض :- انا معملِتش حاچة عشان اهرب زى المچرمين .. انا هجعد لا رايح و لا چاى و اللى عِنده حاچة يثبتها..

اندفعت بدور في تلك اللحظة من خلف باب الغرفة الذى كانت تسترق السمع من خلفه هاتفة في لوعة :- خلينا نمشى يا سى زكريا ..نروح مطرح ما نروح.. بس

صرخ زكريا مقاطعا توسلاتها أمرا :- خُشى جوه ..
انتبهت لغلطتها الفادحة و حمدت الله انها كانت تضع عليها غطاء رأسها و شالها على كتفها
و اللذان وضعتهما عندما كانت تهم بالخروج للشرفة لتستطلع الاخبار..

تنحنح المعلم خميس محرجا :- طب انزل انا للقهوة و انا تحت امرك يا زكريا و فكر بسرعة في اللى قلت لك عليه ..و لو غيرت رأيك ..أبعت لى .. و انا معاك ..
خرج المعلم خميس ليكون خروجه إيذانا بغضب هادر منه حيث اندفع تجاهها يمسك بذراعها يهزها بعنف هاتفاً :- انتِ ..
قاطعته و الدموع تندفع من عينيها :- انا خايفة عليك .. مش هقدر استحمل يخدوك قصاد عينى و انا عارفة انك برئ ..

رغم غضبه الهادر لمخالفتها أوامره و اندفاعها امام المعلم خميس بهذا الشكل الا انه كان يقدر قلقها و ذعرها بعد ما سمعت ما قاله خميس لتوه ..
جذبها لاحضانه لتنفجر في نوبة من البكاء العاصف .. اعتصرها بين ذراعيه هامساً في محاولة لطمأنتها :- متخفيش ..انا معملتش حاچة ..و ربك هو المطلع ..
كان يطمئنها و لكن سمة قلق يتسلل الان الى أعماقه و يحتلها كبقعة حبر تنتشر على صفحة بيضاء و خاصة عندما تعالت اْبواق سيارات الشرطة تنعق عند مدخل الحارة ..

وقف كل من وكيل النيابة و الضابط المكلف على رأس جثة السمرى و التي كانت ملقاة على بطنها و قد طُعنت عدة طعنات من الخلف اندفع على اثرها القتيل ساقطا على مجوعة من الارجيلات و كؤوس الشراب و التي كانت تُعلن ان هذا المكان ما هو الا وكر كان يمارس فيه السمرى و رجاله ما يحلو لهم من أنواع الفحش و الرذيلة ..

هتف وكيل النيابة مؤكدا :-واضح ان القاتل انتظر لما القتيل يعمل دماغ تقيلة من السم اللى كانوا بيشربوه ده عشان ميبقاش عنده قدرة يقاومه ..
أكد الضابط :- الواضح كده يا فندم ..
سأل وكيل النيابة و هو يجول بنظراته في المكان الذى اكتظ برجال المعمل الجنائى المختصين بجمع الأدلة و رفع البصمات :- اخبار التحريات ايه يا حضرة الظابط ..!؟..

هتف الضابط :- التحريات السريعة اللى عملتها قبل وصول حضرتك بتأكد ان المجنى عليه كان ليه أعداء كتير و مكنش محبوب في وسط الحارة .. بس من اكتر المشتبهين فيهم واد صعيدى لسه جاى الحارة من سنة كده .. عمل اكتر من خناقة مع السمرى و كانت في الأساس بسبب واحدة تبقى مرات الواد ده دلوقتى ..

همهم وكيل النيابة :- طب هاتولى الواد ده ..
اومأ الضابط إيجابا ومع انصرافه اندفع احد رجال المعمل الجنائى بكيس بلاستيكى محكم الغلق في اتجاه وكيل النيابة هاتفاً :- وجدنا سلاح الجريمة يا فندم..
برقت عينا وكيل النيابة في حبور و هو ينظر الى تلك الأداة الحادة الملوثة بدماء المجنى عليه .. كانت سكين قاطع مقبضه معقوف بشكل مميز ..و التي لم تكن الا سكين العم طايع ..بائع البطيخ

هتفت بدور في لوعة :- عشان خاطرى يا سى زكريا اسمع كلام المعلم خميس و اهرب من هنا ..
و أمسكت بعضده متوسلة و الدموع تغرق وجهها :- طب بلاش عشان خاطرى .. عشان خاطر امك الغلبانة اللى مستحملة غربتك عنها و بتستنى تسمع صوتك عشان تطمن عليك .. حرام عليك يا سى زكريا تسمع عنك مصيبة زى دى ..

هتف زكريا :- بس انى معملتش مصايب ..ربنا عالم انى برئ من التهمة دى ..
هتفت بدور مصرة :- ربنا عالم .. لكن الحكومة لااا.. مش هيسيبوك .. انت اللى قصادهم .. و كمان مستنيهم لحد لما ييجوا يخدوك .. و حلنى بقى اما يثبتوا انك مش اللى عملها ..

هتف زكريا في حنق :- لو هربت يبجى بثبت التهمة على نفسى ..ما هو طالما برئ اهرب ليه ..!؟..
هتفت بدور في المقابل :- لو مهربتش هيثبتوها عليك يا سى زكريا و هاترجع تقول يا ريت اللى جرى ما كان ..

تنهد زكريا في ضيق و شيء في صدره يخبره انها على حق تماما في كل حرف .. و تنبه عندما هتفت من جديد :- هو انت هتختفى العمر كله يعنى .. لا .. هم يومين بس تدارى فيهم لحد ما الحكومة تمسك اللى عملها ساعتها لما تظهر محدش يبقى ليه عندك حاجة .. قلت ايه ..!؟؟..

أنهت كلامها و هي تربت على كتفه في تشجيع و قد لاقت كلماتها الأخيرة صدى مرحب بعقله جعله يتنهد من جديد و أخيرا ينهض متأهبا .. لتسأله هاتفة :- على فين !؟..
رايح للمعلم خميس مطرح ما اتفجنا نتجابل لو غيرت رأيي .. و على جولك .. هم بس يعرفوا مين اللى عملها هبجى انا في السليم و ارچع رافع راسى و محدش ليه عِندى حاچة .

هللت بدور :- ايوه كده .. هو ده الكلام يا سى زكريا .. متنزلش من الحارة .. اطلع السطح و عدى الكام سطح دول لحد سطح بيت المعلم خميس و اخرج من الباب الورانى لبيته اللى يخرجك على الحارة اللى ورانا ..
هز رأسه موافقا و نظر اليها متأثرا :- يعز علىّ افوتك لحالك و انا معرفش هرچع ميتا ..

تمالكت نفسها حتى لا تحمله همها و همست:- متقلقش عليا يا سى زكريا .. انا معايا ابويا و نعمة .. ربنا معاك ..
هم بفتح الباب ليندفع للسطح منفذا لما اتفقا عليه .. لكنها هتفت في لوعة باكية :- سى زكريا ..!؟.. و اندفعت نحوه ما ان استدار ملبياً نداءها لتلتقطها احضانه تبكى بحسرة و حزن لا يوصف على فراقه ..

اعتصرها بعشق بين ذراعيه و قبل جبينها هامساً بنبرة متحشرجة :- مكتوب عليا يا بدور افارج كل اللى بعزهم في حياتى ..بس فراجك انت غير .. ده انتِ اللى كنت مهونة عليا ..
قبل جبينها من جديد .. و تنهد وهو يبعدها قصرا عن احضانه رغما عنه و عنها..

و اندفع يصعد الدرج الى السطح و ما ان وصل لاعتابه حتى التفت خلفه ينظر اليها وهى تقف على مدخل شقتهما تنظر اليه مودعة بدموع حارقة تلهب وجنتيها و أخيرا هتفت قبل ان يتوارى عن أنظارها :- سى زكريا ...لا اله الا الله..
ليهتف مجيباً :- سيدنا محمد رسول الله ..
ثم يندفع لداخل السطح ليبدأ رحلة جديدة لا يعلم الى أين ستأخذه ..

كان زكريا يهم بفتح باب شقته استعداداً للذهاب لعمله و ما ان انفرج الباب حتى ظهر أمامه عدد من العساكر يتبعهم ضابط هتف ما ان رأه بلهجة أمرة :- انت زكريا الهوارى !؟؟
أكد زكريا في ثبات على الرغم من القلق الذى يتأكله :- ايوه يا بيه .. خير ..!؟..
لم يعبء الضابط بإجابة سؤال زكريا و إنما امر عساكره في صوت حازم :- هاتووه..

اندفع العساكر لتنفيذ الامر لتندفع بدور من الداخل و نعمة من الجانب الاخر و التي خرجت ما ان سمعت تلك الجلبة على الباب
لتصرخ بدور بحرقة :- ليه ..!؟.. سى زكريا معملش حاجة.. وخدينه ليه ..!؟..
انتفضت بدور مستيقظة من ذاك الكابوس الذى يلازمها في نومها المحموم منذ اللحظة التي جاء فيها الضابط و عساكره لباب شقتها بحثا و تنقيبا عن زكريا في البيت بأكمله بعد رحيله .. ولم يتركوا شبرا واحدا يحتمل وجوده فيه دون تفتيش ..

اندفعت نعمة تحتضن بدور و تعطى لها كوب من الماء ..شربت بدور عدة رشفات بعد إصرار من نعمة و انفجرت باكية فجأة في أحضانها و قد ظهر الحاج وهيب على اعتاب حجرة بدور في شقته بعد ان اصر على عدم تركها و حيدة في شقتها و هتف عندما رأى بدور تبكى بحرقة :- متقلقيش يا بنتى .. و الله هايخرج منها هو برئ ومعملش حاجة ..

هتفت بدور في لوعة و هي تترك أحضان نعمة مندفعة باتجاه ابيها:- اه و النبى يابا .. ده زكريا بن ناس ملوش في الكلام ده .. ده من عيلة كبيرة قوووى في الصعيد ..
هتف ابوها متسائلا :- هو حكى لك ..!!؟..
هتفت هي متسائلة بدورها :- لهو انت كنت تعرف يابا ..!؟..

هتف ابوها متعجباً منها :- طبعا عارف هو انا كنت هجوزه بنتى من غير ما اعرف اصله و فصله و اسأل عليه كمان .. هو فعلا بن ناس يا بنتى .. و ميعملش العملة السودا دى .. ربنا يسترها و يخرج منها على خير ..
واندفع الحاج وهيب للخارج ليستطلع الاخبار و هي تؤمن من خلفه...



look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 03:01 صباحاً   [27]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل السابع

انتفض زكريا في مكانه الذى لم يبرحه منذ اكثر من نصف ساعة عندما هتف المعلم خميس باسمه متوجها اليه بكليته: - معلم خميس..!؟.. ده انى جلت انك مش چاى..
هتف المعلم خميس لاهثاً: - لااا.. مش جاى ازاى..!؟.. بس انت عارف كله دلوقت محطوط تحت عين الحكومة فماصدقت عرفت أنفد و أجيلك.. بص و ركز معايا بسرعة عشان مفيش وقت.. انت لازم تسيب القاهرة النهاردة من غير تأخير..

هتف زكريا مستنكرا: - هروح فين يا معلم!؟؟.. ده انا جلت هتلاجيلى اى حتة ادارى فيها يومين لحد لما الموال ده يُخلص..
هز المعلم خميس رأسه رافضا: - يا ريت كان ينفع.. انا معرفش حد ثقة هنا استأمنه عليك لكن اسكندرية..
هتف زكريا بتعجب: - اسكنَدرية..!؟..

أكد المعلم خميس: - ايوه.. هتسافر اسكندرية عند ناس معرفة كلمتهم عنك.. و متقلقش كل حاجة مترتبة هناك.. الواد غندور هيظهرلك في اى لحظة انا مرسية على الدور كله هيستناك في الموقف هناك..اول ما يشوفك هيقولك تبع المعلم خميس المرسى..
قبل ان يتساءل زكريا أكد خميس: - ده اسمى الحقيقى و اللى معروف بيه هناك في اسكندرية.. اللول ده شهرتى هنا.. بص انت بس سلم الواد غندور نفسك و متقلقش.. ده تربيتى..

هز زكريا رأسه موافقا ثم أخيرا هتف في امتنان: - انى مش عارف أتشكر لك ازاى يا معلم..!؟.. انى..
هتف المعلم خميس متأثرا: - انت بن حلال يا زكريا و يعلم ربنا انا بعزك زى اخويا و اكتر
خلى بالك على نفسك يا صعيدى.. و اهل بيت الحاج وهيب في عنايا متقلقش..

مد زكريا كفه مودعاً و ابتسامة امتنان ترتسم على شفتيه الا ان المعلم خميس جذبه ليعانقه عناقا حارا رابتاً على كتفه في تشجيع هامساً:- هتهون يا صعيدى.. و هتخلص على خير و هاترجع و نحكى عنها و نضحك..
أكد زكريا متأثرا: - هتهون عشان فيها ناس طيبين زيك يا معلم.. ربنا يبارك لك..

اندفع المعلم خميس مبتعداً في تأثر هاتفاً: - انا اتأخرت قووى.. لازم امشى.. خلى بالك على نفسك و أوعى تتصل بحد هنا.. أوعى يا زكريا.. في حفظ الله..
و لوح مودعاً منصرفا على عجالة و سار زكريا في اتجاه موقف السيارات المتوجهة للإسكندرية.. لكن غصة في حلقه و انقباض بصدره دفعة دفعا لإحدى كبائن الهاتف لتنقر أصابعه رقم يحفظه عن ظهر قلب فقد تكون المرة الأخيرة التي يستمع فيها لصوتها قبل ان يندفع لوجهته و ينقطع عن كل من يعرفهم..
انتظر الرد في وجل لتهتف امه في لهفة: - ولدى.!؟.. زكريااا..

دمعت عيناه مع أزدياد الغصة بحلقه هاتفاً في صوت يحاول السيطرة على نبراته: - كيفك ياما..!؟..
هتفت الام الذى التقطت بحسها و غريزتها التي لا تخطئ خطب ما في نبرات صوت وحيدها: - انا زينة يا ولدى طول ما انت زين و طيب.. ايه فيك يا زكريا.!؟..

حاول الابتسام هاتفاً بعكس ما يعتمل به صدره:- زى الفل يا حاچة.. بس ادعيلى...
همست الام و قلقها في ازدياد: - دعيالك يا زكريا.. ربنا يحفظك و يريح بالك يا رب..
هتف زكريا بزفرة قوية من صدر يحترق: - يااارب..

دوت سرينة عربة الشرطة لتقف امام السراىّ
ليهب عاصم متعجباً: - ايه فيه..!؟.. ايه اللى بيچرى بره..!؟..
اندفع سعيد في عجالة هاتفاً ما ان طالعه عاصم متسائلا: - عاصم بيه..!؟.. الحَكومة بره وعندها اذن بتفتيش السرايا..
هتف عاصم مندفعا لباب السراىّ الخارجي: -ليه..!؟.. ايه چرى..!؟.. تفتيش ليه يا حضرة الظابط.. !؟..

هتف الضابط بلهجة رسمية: - احنا معانا اذن من النيابة بالتفتيش يا عاصم بيه و كمان طلبينك معانا..!؟..
هتف عاصم متعجباً: - انا تحت امركم.. بس لما اعرف ايه فيه الأول يا حضرة الظابط !؟.
نظر الضابط لبعض الأوراق هاتفاً: - المفروض الكلام ده تعرفه لما تيجى معايا يا عاصم بيه..بس انا هقولك.. ابن عمك..
قاطعه عاصم هاتفاً: - لجيتوا سليم..!؟..

هز الضابط رأسه رافضا: - لا يا عاصم بيه.. كلامى على زكريا الهوارى..
هتف عاصم مذهولا: - زكريا..!!.. زكريا واد عمى..!!.. ليه عايزينه.. دِه..
كان دور الضابط ليقاطع عاصم هاتفاً في نفاذ صبر: - عاصم بيه.. !! زكريا بن عمك متهم في جريمة قتل و مطلوب ضبطه و إحضاره و في مصر قالبين عليه الدنيا..

هتف عاصم مصدوما: - جتل..!؟.. زكريا يجتل..!!..لاااه.. اكيد في حاچة غلط يا حضرة الظابط..
هتف الضابط: - و الله ده اللى عندى يا عاصم بيه.. تسمحلنا بتفتيش السرايا و كمان تفتيش بيت زكريا..
تهكم عاصم: - و يعنى فكرك هيكون موچود فيهم يا حضرة الظابط.. اكيد لااه..
اومأ الضابط متفهما: - دى إجراءات و تعليمات بنفذها.. اتفضل ادخل و وسع لنا الطريق عشان نقوم بشغلنا..
زفر عاصم في ضيق: - اتفضل يا حضرة الظابط شوف شغلك.. و انا هبلغ الحريم فوج...

اندفعت العساكر بأمر الضابط في كل صوب و اتجاه تبحث عن طريدتها و توجه عاصم بدوره للدور العلوى للسراىّ ليجمع النساء معا خارج الغرف في احد الأركان بعيدا عن مسار العساكر الذين جابوا السراىّ من شرقها لغربها.. همست زهرة مذعورة:- في ايه يا عاصم.. ايه اللى بيجرى..!؟..
همس عاصم: - بعدين اجولك..!!؟..

حمد الله سرا ان الحاجة فضيلة لم تكن بالسراىّ في تلك اللحظة.. فقد ذهبت كعادتها لزيارة بعض الأقارب..
اندفع لحجرته بعد ان تأكد ان العساكر عادوا للطابق السفلى و وضع عمامته و عباءته السوداء و امسك بعصاه الابنوسية و اندفع للأسفل ليصطحب الضابط الى بيت زكريا..

همست زهرة خلفه في قلق قبل ان يصل للدرج: - طب.. هو خير يا عاصم..!؟؟..
أكد متعجلا: - اه.. خير بإذن الله..
و لكنها ادركت.. ان الامر ابعد ما يكون عن الخير.. و ان هناك حدث جلل اثار قلق عاصم بهذا الشكل..

هتف غندور مرحبا بزكريا: - اتفضل يا زكريا.. بيتك و مطرحك..
دلف زكريا لشقة واسعة قديمة التأسيس كتب على بابها "بانسيون السعادة "..
ادار زكريا ناظريه في المكان لتظهر فجأة من الرواق امرأة فى النص الأول من العقد الخامس هاتفة في ترحيب شديد: - اهلا.. اهلا بريحة الحبايب.. اتفضل يا سى زكريا.. اتفضل.. مش زكريا برضة.!؟

أومأ زكريا برأسه مؤكدا وهو يغض بصرة في تأدب كعادته مرحباً بعد ان عرفه عليها غندور:- اهلا بيكِ يا ست تهانى..
وقفت خلف طاولة الاستقبال و فتحت دفترها العريض هاتفة: - بطاقتك و بيانتك يا سى زكريا.. !؟
هم زكريا بتقديم هويته الشخصية لها الا ان غندور هتف في حنق و هو يجذب هوية زكريا الشخصية من كفه الممدود بها لتهانى:- جرى ايه انت وهى..!؟.. البطاقة دى هاتفضل معايا.. و انت يا تهانى البيانات دى بعدين نتفاهم فيها..

لاكت تهانى علكتها في بطء و هي تنظر لزكريا نظرة شاملة و أخيرا هتفت: - هي الحكاية فيها إن بقى..!؟؟.. طيب و ماله..
وتنهدت مستطردة مغلقة دفترها: - طالما من طرف المعلم خميس يبقى استبينا.. نحطه في عنينا من جوة..
هتف غندور مؤكدا: - الراجل أمانة عندك يا تهانى.. كل طلباته أوامر لحد لما نظبط له اموره..
و توجه لزكريا متحدثا.. و ما تخرجش من هنا الا معايا و بمعرفتى..تمام يا صعيدى.!؟

هز زكريا رأسه موافقا: - تمااام.. بس ده كله بكام..!؟؟.. الحساب يعنى..!؟..
ابتسم غندور هاتفاً و هو يربت على كتف زكريا: -الحساب ادفع مقدم يا زكريا.. المعلم خميس دفعه و قالى ده دين قديم لك عنده و هو بيسدده.. يعنى دى حاجة بينكم مليش فيها..

اومأ زكريا رأسه موافقا و هو يبتسم ممتنا للمعلم خميس الذى أنقذه من مأذق كبير فما لديه لا يكفى بقاءه في مكان كهذا و طعامه لأكثر من ثلاث ليال..
اندفعت تهانى هاتفة في زكريا: - اتفضل يا سى زكريا.. افرجك اوضتك و اهو ترتاح شوية قبل حصة الغدا..

سار زكريا خلفها غاضا بصره على طول الرواق الممتد على جانبيه العديد من الأبواب المغلقة و التي لا يعلم هل هي حجرات فارغة ام يقطنها أناس كل منهم يملك حكاية ما دفعته ليستتر خلف الباب عن اعين البشر.. فتحت تهانى باب احدى الغرف و دخلت تشير بيدها للغرفة في فخر: - احسن أوضة عندى.. هسيبك تستريح و اى حاجة تحتاجها بس قول يا تهانى هتلاقيها عندك..
ابتسم زكريا شاكرا: - ربنا يخليكى يا ست تهانى.. تسلمى..

خرجت تهانى وهى تنظر لزكريا بنظرة متفحصة تتساءل متعجبة " ماذا فعل يا ترى ذاك الرجل الذى لا يكاد يرفع أنظاره عن الأرض حياءً.. !!؟.."
تنهد زكريا بعد رحيل تهانى و تمدد على فراشه يسترجع كل ما حدث و صورة واحدة ترتسم امام ناظريه تجعله يلعن الظروف التي فرقتهما.. بدور.. لكم يحتاجها.. يشتاقها..

فوجودها جواره في حد ذاته يخفف عنه الكثير مما يعانى.. نظرتها اليه تزيح عن كاهله هما لا يطيقه.. و تفرش له بابتسامتها
و نظراتها الصافية طريقا معبدا من الفرح الخالص.. لكم يشتاقها..!!؟..

هتفت بخيتة في هلع: - ايه في يا عاصم يا ولدى..!؟.. الحكومة جاية عندينا ليه..!؟..
طمأنها عاصم: - متجلجيش يا خالة..الحَكومة بتفتش على سليم.. دوول حتى فتشوا السرايا..
هتفت كسبانة مستنكرة: - طب و هو انتوا مالكم و مال سليم.. هتداروه عن الحكومة!!؟.. متچيش.. ده انتوا اللى طلبينه يا عاصم بيه و مُصلحتكم من مُصلحة الحَكومة!؟..

تنهد عاصم و قد أيقن ان محاولته في مداراة الحقيقة عن الخالة بخيتة ستصبح امرا صعبا في وجود كسبانة التي تدقق في كل كبيرة و صغيرة..
أنقذه هتاف احد العساكر للضابط بعد ان تم التفتيش: - ملجيناش حد يا فندم..
اومأ الضابط لعساكره مشيرا لهم بالانصراف و تبعه عاصم في هدوء..

تنهدت بخيتة و هي تشعر ان سمة امر ما غامض يحدث و لا علم لها به و ان ما يجرى لا علاقة له بسليم و هروبه و رغبة الشرطة في الإمساك به.. انقبض صدرها فهتفت في تضرع: - الستر من عِندك يا رب..
بينما اندفعت كسبانة خلف عاصم تتوسّله: - عاصم بيه..!؟.. حضرتك و انا نِعرف ان اللى بيحُصل دِه ملوش دعوة بسليم.. جلى رب يريح جلبك.. سى زكريا بخير..!؟..

ارتفعت نظرات عاصم التي يغضها ارضا و قال في هدوء: - ايووه الموضوع مع زكريا.. زكريا متهم في چريمة جتل في مصر و الحَكومة بتفتش عنيه..
ضربت صدرها بكفها هاتفة: - يا واجعة مربربة.. بس سى زكريا ميعملهاش..
انت تصدج يا عاصم بيه..!؟؟..

هز عاصم رأسه نافيا و أخيرا استأذن منها مسرعا ليلحق بالضابط لاستكمال الإجراءات و همس قبل ان يغادر: - أياكِ الحاچة بخيتة توعى باللى بيحُصل.. انا جلت لك عشان تبجى عارفة و تدارى الحكاية عنيها لحد ما نشوف هاتُخلص على ايه..
هزت رأسها متفهمة وعيونها يحتبس فيهما دموع قهر و لوعة..

و لم يكن يدرك كلاهما ان بخيتة سمعت كل ما دار بينهما من حديث بشأن وحيدها و الان فقط عرفت لما ذاك القلق الذى اعتراها عندما استشعرت الحزن يقطر من صوته يحاول ان يداريه عنها في مكالمته الأخيرة..
تمسكت بالباب مترنحة و هي لا تدرك ما عليها فعله من اجل فلذة كبدها.. و أخيرا هتف صوت الامل بداخلها.. طالما ان الشرطة تبحث عنه فهو لا يزل حرا.. هو بخير.. هو بعيد عن أيديهم..

هي اعلم بولدها.. هي ادرى الناس انه لا يرتكب مثل تلك الجريمة البشعة.. ليس زكريا.. لذا هي تدرك براءته و ان الله سينجيه و يخفيه عن اعينهم حتى يقضى امرا كان مفعولا.. سالت الدموع من عينيها هامسة في تضرع: - احفظه بحفظك ياارب..

مرت ثلاث ليال على زكريا لم يذق فيهم طعما للنوم.. و ما ان يغفل للحظات حتى ينتفض في قوة مصببا عرقا يلتقط أنفاسه بتلاحق يؤكد على عمق الرعب الذى عايشه في كابوسه ذاك الذى لم يفارقه منذ جاء الى هنا..
ندرة النوم تهلكه و ما يهلكه اكثر هو تلك المشاهد التي تتراءى له في نعاسه..

قلقه يتجسد في أمور ترعبه حد اللا معقول.. فتارة يحلم بأمه و هم يجذبوه من أحضانها لحبل المشنقة.. و تارة أخرى يسمع صرخات بدور المستغيثة به و هي تحاول التخلص من ذراعى السمرى القابضتين عليها و رقبته تسيل منها الدماء و يضحك بشكل هستيرى..
هو يعلم ان كل هذا ما هو الا نزغ من شيطان رجيم يريد إحزانه لذلك لا يجد ما يدفعه الا الصلاة..

فيتضوء و يصلى لعل صدره المضطرب يهدأ و قلبه الثائر يستكين و عقله الذى يمور بالافكار يستقر... و ساعتها ينام عدة ساعات قبل ان ينهض من جديد لا يغادر غرفته الا للضرورة القصوى و هي الوضوء و الحمام غير ذلك هو قابع فيها يتناول طعامه بين جدرانها و كأنه حبيس قبل ان يرى للسجن أسوارا..
رفع رأسه للسماء الغائمة الملبدة بالغيوم من خلف زجاج النافذة المطلة بشكل جانبي على البحر، ابتسم عندما تذكر عندما شاهد البحر لأول مرة كيف بدا كالأحمق..

فلقد هتف في ذهول من روعة ما طالعه و هتف برهبة.. سبحان الله..
فأخر ما شاهده في النجع كانت تلك الترع و المصارف القديمة التي يشق منها قنوات لرى الأرض الزراعية.. و هناك النيل و الذى يدعونه البحر في النجع حيث كان يتسلل هاربا مع بعض الأولاد ليتباروا في السباحة في أيام القيظ الشديد.. او لملئ الجرار لأهاليهم في السابق قبل ان تدخل صنابير المياه العذبة لقريتهم الصغيرة..
هتف في تضرع: - يا رب..

و اسند جبينه على الزجاج البارد لعله يهدئ من حرارة أفكاره التي تغلى في رأسه كمرجل.. و قلقه على امه و ما قد يستتبعه معرفتها بما يحدث له.. و شوقه لبدور التي لا يعلم الان كيف حالها.. انه لم يفارقها يوما منذ أراد الله جمعهما على ميثاقه و الزواج بها...
كانت دوما أمنة بين ذراعيه و كان دوما راضيا بين أحضانها الحانية التي عوضته الكثير مما عانى من حرمان و قسوة..

انه يفتقدها بشدة.. يفتقد حضورها الأسر المجهض لأحزانه و الداعم للفرحة و الموشح بالبهجة.. يحتاجها الان.. في تلك اللحظة التي اصبح فيها العالم كله ضده و هي وحدها التي باستطاعتها دعمه لاخر نبضة بصدرها في تلك المعركة.. يحتاجها حد الوجع.. و يعلم انها بحاجته و تأن لبعاده و تصرخ شوقاً لمرأه...هو يعلم بل على يقين انها كذلك..

انه يراها الان بعينى قلبه.. و نور بصيرته..
و هتف في نفسه برغبة قاتلة تمزقه لمرأها.. ليتها هنا...

هتفت نعمة مشفقة: - يا بدور مش كده.. يابنتى كلى حاجة.. الاكل مدخلش جوفك من ليالى..
هزت بدور رأسها رفضا في وهن: - مليش نفس يا نعمة.. جوفى نار قايدة و مش هايرتاح لى بال الا لما اعرف ها يحصل ايه لسى زكريا..

ربتت نعمة على كتفها متفهمة: - و الله حاسة بيكِ بس و الله خير.. اهو المعلم خميس و ابوكِ راحوا يشوفوا مع المحامى ايه اللى هيحصل بعد ما طلع.. اللى اسمه ايه ده..اه التقرير بتاع السكينة و البصمات..
عشان خاطرى كلى عشان لما سى زكريا يرجع بالسلامة يلاقيكى زى الوردة المفتحة مش دبلانة كده..

همت بدور بالكلام الا ان طرقات الباب قاطعتها لتنتفض هي ونعمة من مكانهما تسابقان الريح لفتحه و معرفة الاخبار..
وصلت نعمة في البداية وفتحت الباب في لهفة ليطل منه الحاج وهيب منكس الرأس يسنده المعلم خميس وهو ليس باقل منه وجوما..

هتفت بدور متلهفة بأمل و هي تعدل غطاء رأسها عندما شاهدت المعلم خميس يرافق ابيها: - هاااه.. مالكم.. في ايه طمنونى.. براءة مش كده..!؟.. اصل سى زكريا ميعملهاش.. و الله ما يعملها..
نظرت لابيها و صرخت: - قول يابا.. أتكلم
في ايه.. !؟..

هز الحاج وهيب رأسه حسرة و ضرب فخذاه بكفيه و هتف بوهن و هو يتوجه لغرفته ساحبا قدماه سحبا: - اللهم لا اعتراض.. اللهم لا اعتراض..
توجهت بدور للمعلم خميس: - طب قولى انت يا معلم.. ايه اللى جرى.. هو عشان سى زكريا هرب يعنى..!؟.. طب يرجع بس يسيبوه..
قرر المعلم خميس إنهاء حيرتها التي تكاد تقتلها ليهتف في دفعة واحدة: - لقوا بصمات زكريا على السكين اللى أتقتل بيها سمرى..

مرت لحظات من الصمت القاتل بعد شهقة نعمة المصحوبة بضربة قوية على صدرها..
و لم يقطع ذاك الصمت الذى امتد..الا صوت ارتطام بدور بالأرض ساقطة فاقدة الوعى..

اندفع عاصم لداخل حجرته في عجالة جعلت زهرة تقفز مجفلة و تسأل في قلق: - خير يا عاصم.. في ايه..!؟..
هتف عاصم امرا في ضيق: - حضرى لى الشنطة بسرعة.. انا مسافر دلوجت..
ازداد قلقها لتهتف متسائلة من جديد: - طب خير يا عاصم.. طمنى.. مسافر ليه..!؟.. في حاجة جدت...؟؟..

خرج عاصم و راسه تقطر ماء يجففها في سرعة و يبدأ في تبديل ملابسه: - انا مسافر عشان زكريا.. المحامى اللى بعته يتابع التحجيج بلغنى ان السكين اللى اتجتل بيها الراچل اللى بيتهموا فيه زكريا طلع عليها بصماته..
شهقت زهرة في صدمة هاتفة: - بس زكريا ما يعملهاش يا عاصم..

أكد عاصم: - ايووه.. ميعملهاش.. و انا تايه عن واد عمى.. لو سليم كنت جلت يعملها و يعمل اللى أوعر منيها.. لكن زكريا.. لاااه..
هتفت زهرة و هي تضع له ملابسه في الحقيبة:- يا ساتر يا رب..سيرة سليم ده بتعكننى.. اهو التانى ده كمان هربان.. و لسه متمسكش..
أنجز عاصم ارتداء ملابسه و اخرج سلاحه و بعض من نقود من خزانة الملابس ووضعهم في جيب سترته الداخليه أسفل جلبابه..

و أخيرا وضع عمامته و عباءته هاتفاً: - كان نفسى تاجى معايا.. اهو تزورى الداكتور ناجى.. بس انا مستعچل و أصلا مش هطول
ربتت على كتفه قائلة: - ميهمكش يا عاصم.. انا فعلا مش هاينفع اروح الفترة دى عند بابا..اولا لانه مشغول بتحضير فرح ندى و نبيل
و عشان مسبش خالتى لوحدها.. سافر انت و أرجع بالف سلامة..
قبل جبينها على عجالة و تركها مندفعا للزود عن بن عمه.. الذى يعتبره اقرب من اخ له..

انتفضت تهانى من مجلسها عندما انتبهت لظابط وبعض العساكر يندفعون لداخل البنسيون..
استجمعت رباطة جأشها التي فارقتها للحظات وهتفت بترحيب: - اهلا يا باشا شرفتنا..
هتف بها الضابط بنزق: - هاتى بطاقات النزلاء اللى عندك.. انجزى..و تعالى ورايا
خبطى على اوضهم..

حاولت التلكؤ.. لكن هل هناك من مفر..!؟
هي تعلم ذاك الضابط جيدا.. لن يترك البنسيون حتى يتأكد من هوية كل نزيل و زاد تأكدها و هي تراه يطابق الهويات الشخصية التي سلمته أياها بذاك الدفتر العريض الذى تدون فيه كل ما يخص نزلائها من معلومات و بيانات..

تحركت في آلية تدق الأبواب احدهما تلو الاخر فيخرج النزلاء للإجابة على أسئلة الضابط.. و ما ان مرت بحجرة زكريا حتى
كادت ان تدعِ كذبا انها خالية..
لكن تكبيرة زكريا الواضحة في صلاته لم تدع لها خيارا اخر لتفتحها في بطء و دقات قلبها ترتفع للضعف..

نظر الضابط لذاك الذى يقف بجلبابه الصعيدى
يوليه ظهره راكعا.. اضطر الضابط لينتظر لبضع لحظات حتى ينتهى زكريا من صلاته
و ما ان سلم السلام الأخير إيذانا بذلك حتى انتفض واقفا و قد شعر بوجود اناس غريبة تقف بترقب خلفه..
هتف في تعجب: - خير يا ست تهانى..!!؟..

لم يكن يعلم ان من يقف على يمينها ذاك هو ضابط... فلم يكن يرتدى حلته الرسمية
و الذى سأل زكريا في شك: - اسمك ايه..!؟
هم زكريا بالكلام الا ان قاطعته تهانى هاتفة: - كرم الصعيدى يا باشا.. المعلم كرم عبدالعال الصعيدى.. من أعيان المنيا..
نظر الضابط لزكريا في شك ليهتف في تهانى:- فين بطاقته ده..!؟ و ليه مشفتهاش مع باقى البطايق و لا حتى لقيت اسمه متسجل عندك في الدفتر..!؟..
أسرعت تهانى متصنعة التيه: - العتب على دماغى يا باشا..

و أخرجت من جيب مئزرها احدى الهويات الشخصية ناولتها الضابط في ثقة مستطردة:- المعلم ادهالى اول ما وصل.. اصله وصل في قطر الفجر اللى جاى من الصعيد.. و كان تعبان دخلته اوضته يستريح و انا سُهى عليا يا باشا و دخلت نمت انا كمان.. و نسيت اسجل البيانات..
تطلع الضابط الى البطاقة يقلبها ذات اليمين و ذات الشمال.. و أخيرا أعادها لتهانى و هو يهتف في حنق مندفعا من الحجرة: - طب متنسيش تانى.. و الا هايبقى فيها مشكلة المرة الجاية.. سمعانى..

خرج راحلا و خلفه عساكره لتسقط تهانى على اقرب مقعد منهارة..
خرج غندور من ذاك الرواق الجانبى القصير الذى ينحرف باتجاه المطبخ.. لتنتفض هي من جديد ليطمئنها هاتفاً: - متخافيش..ده انا غندور الرايق اللى يفرفش المضايق..

انفجرت ضاحكة لتعليقه و هي تهتف في راحة:- اه و الله يا غندور.. جيت في وقتك..
ده لولا ما رميت في جيبى بطاقة سى زكريا الجديدة وانا ورا الظابط و هو مش واخد باله
كنا روحنا في داهية و سى زكريا أولنا..
ليتنحنح زكريا قادما من اخر الرواق و ما ان وصل اليهما حتى ألقى السلام لترد تهانى: - اتفضل يا سى زكريا.. و الله ده انت امك داعية لك..
هتف زكريا في تأكيد: - صدجتى يا ست تهانى..

هتف غندور محذرا: - لااا.. من هنا ورايح مفيش زكريا ده.. اللى عايش هنا في اسكندرية اسمه ايه.. كرم عبدالعال الصعيدى
زكريا ده تنسوه لحد لما نشوف المعلم خميس و اخر الاخبار اللى جاية من مصر.. و قضيتك و صلت فين يا سى.. كرم.. !؟؟..
طأطأ زكريا رأسه متنهدا في ضيق: - ربنا يچيب الصالح...

نهضت تهانى تدون بيانات زكريا من بطاقته الجديدة و تعود بعد لحظات لتسلمها له..
تناولها زكريا في هدوء ظاهرى و استأذن ليدخل غرفته..
أغلق عليه بابه و رفع بطاقة الهوية يتطلع اليها في ضيق.. ذاك الوجه وجهه.. لكنه ليس هو.. الاسم ليس اسمه و الهوية ليست هويته.. هتف حانقاً في نفسه و قد ود لو يصرخ بها من اعلى قمة: - مكتوب عليك التوهة عن نفسك و عن اسمك يا زكريا..

الاولة زرزور.. و معرفلنكش أب يحن عليك و يديك اسمه.. و التانية هربان و ما جادر تنطق بلسانك اسمك.. ميتا ترجع يا زكريا
.. لزكريا.. ميتا..!؟؟..
قذف ببطاقة هويته الجديدة بعيدا في غضب هادر.. ووضع رأسه التي تمور بين كفيه.

و هو يجلس على طرف فراشه محاولا ان يهدأ.. لكن هيهات.. وكيف له ذلك بعد كل ما يحدث..!؟.. و كيف له ان يهدأ و دواءه ليس في متناول يده.. دواءه الذى يسكن ألامه و لو كانت بحجم الكون.. دواءه المدعو.. بدور..

خرج الطبيب من الغرفة في هدوء يخط بقلمه أسماء بعض الادوية و هتف عندما طالعه المعلم خميس و الحاج وهيب الذى هتف في لهفة: - خير يا دكتور.. طمنا !؟..
هز الطبيب رأسه في ألية وهو يرفعها عن دفتره الطبي هاتفاً:- خير.. متقلقوش.. شوية ضعف عام و واضح انها اتعرضت لضغط شديد او اخبار سيئة اثرت عليها..

وجذب ورقة وصفته الطبية من دفتره منتزعها و قدمها للمعلم خميس الأقرب له متسائلا: - انا مش قصدى التدخل.. بس مين زكريا اللى المريضة قاعدة تكرر اسمه ده!؟..
صمت الحاج وهيب و لم يعقب الا بهزة رأس متحسرة بينما أجاب المعلم خميس: - ده جوزها يا دكتور بس مسافر..
ابتسم الطبيب: - واضح انها متعلقة بيه قووى.. ربنا يجمعهم على خير..

هتف الحاج وهيب داعيا: - ياارب..
بينما اصطحب المعلم خميس الطبيب للخارج
خرجت نعمة من غرفة بدور هاتفة في زوجها متسائلة: - هنسيب البت كِده يا حاج وهيب !؟.
البت هتروح مننا..

هتف الحاج وهيب بصوت يملؤه العجز: - و انا بأيدى ايه بس.. بأيدى ايه..!؟..
اشفقت عليه نعمة فربتت على كتفه في حنو:- ربنا يحلها من عنده يا حاج.. قول يا رب..

هتف الحاج وهيب من أعماق قلبه الذى يئن وجعا على حال ابنته و زوجها بعد ان كان يعتقد ان الدنيا أخيرا ابتسمت لها و انها تعوضها ذاك الظلم و القهر الذى عاشته مع زوجها الأول الذى أذاقها العذاب ألوان.. لكن يبدو ان ابنته مكتوب عليها ذاك العذاب حتى ولو بشكل مختلف.. فصرخ متضرعا: - يااارب

دقات على باب شقة الحاج وهيب لتندفع نعمة تفتح الباب و هي تعدل من غطاء رأسها بعد ان انفرج الباب قليلا عن رجل غريب يولى لها ظهره.. لا تعرفه.. فهو ليس من اهل الحارة و لم تراه من قبل
لكن حدسها اخبرها ان له علاقة ما بزكريا فملابسه تدل على اصله الصعيدى هتفت في
وجل: - ايوه.. مين..!؟..

هتف عاصم وهو يستدير نصف استدارة بجسده: - الحاچ وهيب موچود..!؟؟..
أكدت نعمة: - ايوه موجود.. اتفضل..
أغلقت الباب.. لتعاود فتح باب اخر يُدخله على الصالون..
همهم مستئذنا و دخل.. خرجت هي في عجالة تدعو زوجها لمقابلة الغريب..

و ما ان تأكدت ان زوجها دخل له بالفعل حتى اندفعت نحو بدور هاتفة: - ألحقى يا بدور.. شكل اهل جوزك هلوا بره بعد ما جالهم خبر!؟..
هتفت بدور بنبرة تائهة:- اهل جوزى مين..!؟
هزت نعمة كتفيها: - مش عارفة.. بس واحد كِده ميتخيرش عن سى زكريا.. طول بعرض
و اخلاق.. بس عليه هيبة ايه.. الله اكبر..

همت بدور بالكلام الا ان دخول الحاج وهيب
اسكتها ليهمس هو مؤكدا صدق حدس نعمة: - قومى يا بدور.. بن عم جوزك بره و عايزك..
نهضت و ارتدت عباءتها و حجابها و دخلت في هدوء ملقية التحية.. نهض عاصم ما ان طالعه محياها ليهتف: - اهلا بيكِ يا ست بدور.. متجلجيش على زكريا.. انا مجوم له محامى كَبيير.. و ان شاء الله خير..

و اخرج عاصم من جيب جلبابه النقود التي كانت بحوذته هاتفاً و هو يضعهم على الطاولة:- اتفضلى دوول..
نظرت بدور الى النقود نظرات فارغة بينما هتف الحاج وهيب معترضاً: - ايه ده يا عاصم بيه..!؟.. بدور في بيت ابوها و مش محتاجة اى..

قاطعه عاصم مؤكدا: - عارف يا حاچ وهيب انها في بيت ابوها بيت الكرم و الخير كله و انها مش محتاچة حاچة طول ما هي معاك.. بس دِه حجها علينا و حچ واد عمى اننا نصون مرته في غيبته.. و اقسم بالله يا حاچ الفلوس دى من ماله.. يعنى حجها.. و لو هي حابة تاجى معاى البلد تستنى رجعته.. تاجى و نشلوها فوج روسنا معززة مكرمة.. و لو عايزة تجعد معاك هنا.. برضك تحت امرها.

هتف الحاج وهيب في راحة: - عداك العيب يا عاصم بيه.. بن أصول صحيح..
هتف عاصم: - عشت يا حاچ..
ثم اخرج ورقة من حافظته مدها للحاج وهيب
مؤكدا: - دى نمر تليفوناتى كلها.. لو احتجتم اى حاجة او جد اى خبر في موضوع واد عمى.. هتلاجينى هنا عِندك في ساعتها..
و أخيرا نهض عاصم للمغادرة هاتفاً: - يا دوب ألحج انا طريجى..

هتف الحاج وهيب: - ما لسه بدرى يا عاصم بيه.. ملحقتش تقعد و لا عملنا معاك الواجب!؟..
هتف عاصم و هو يتجه للدرج هابطا: - معلش مرة تانية.. و اى حاچة انى موجود كنى زكريا بالظبط..
هز الحاج وهيب راسه موافقا: - شرفتنا يا عاصم بيه..
هتف عاصم و قد وصل لاخر درجات السلم:- الشرف لينا يا راچل يا طيب.. سلام عليكم..

عاد الحاج وهيب لشقته و ما ان طالعته نعمة حتى هتفت في فخر: - بجد نسب يشرف..ولاد أصول صحيح.. واحد غيره كان قال وانا مالى..لكن ده جه و سأل و اطمن عليها
كمان..

همست بدور في نبرة ملؤها حزن العالم: - قلت لكم ان سى زكريا بن ناس و اصل و ميعملش العملة السودة اللى تهمينه بيها دى..
ربنا يفك ضيفتك يا سى زكريا..
اندفعت نعمة تحتضنها في جذع بعد ان انفجرت بدور في نوبة من البكاء الهيستيري
على زوجها و قرة عينها الذى غاب عن عينيها و تتمنى لو تقايض سنين العمر مقابل التطلع الى محياه من جديد..

هتف زكريا في غندور:- غندور..!؟.. عايز اشتغل..
هتف غندور:- تشتغل..!؟.. استنى بس نشوف حالك هترسى على ايه..
هتف زكريا حانقاً: - لااه.. مصبرش.. انا مش متعود على الخانجة دى.. و كمان كِده
كَتير.. تجلت على المعلم خميس.. جاعد بلا شغلة و لا مشغلة غير الاكل و النومة.. انا هنزل اشتغل و لو حُصل ايه..
هتف غندور:- طب بس اهدى يا عم الصعيدى.. و اللى انت عاوزه هعملهولك..

ادينى بس يومين كده ادور لك على شغلانة
تمشى بيها حالك.. لحد ما نشوف المعلم خميس هيقول ايه..
هتف زكريا ممتنا: - تسلم يا غندور.. انا لو مشتغلتش هتچنن و انا جاعد لحالى طول النهار و معرفش الحالة ايه في مصر و لا ايه اللى بيحُصل.. و الاتصالات المعلم خميس مانعها و لولا ان في حد من طرفك بينزل مصر كل أسبوع مكناش عرفنا ايه اللى بيچرى هناك.. ربنا يعديها على خير..

ربت غندور على كتفه: - هتخلص على خير يا صاحبى.. متقلقش.. كل تأخيرة و فيها خيرة و اهو البطاقة الجديدة اللى عملناها هاتفرق معاك كتير.. و هتسهل لنا أمور ياما..
نهض غندور يتأهب للرحيل هاتفاً: - انا همشى دلوقتى و هغيب لى يومين كده و لو في جديد وصلنى هتلاقينى عندك..
و انت لو عايز تنزل اهو تغير جو شوية..

انزل.. بس بطاقتك معاك و متبعدش عن هنا.. استبينا (اتفقنا)..
هتف زكريا في راحة: - استبينا..و متجلجش
لو نزلت مش هبعد.. هروح فين يعنى.. اخرتى الجعدة على البحر..
اتسعت ابتسامة غندور هاتفاً: - عجبك البحر يا صعيدى.. طبعا معندكوش زيه في بلدكم..

هتف زكريا مازحاً ومتصنعا الغضب من تلميح غندور الذى اعتقد انه يذكره بردة فعله الأولى عندما رأى البحر..رفع كفه المضمومة امام وجهه ملوحا بها:- اه يا خفيف معِندناش.. بس عِندينا حاجة تانية تحب تجربها..!!؟..
اندفع غندور خارجا يهتف بنبرة مازحة: - و على ايه يا بلدينا..الطيب احسن..
ابتسم زكريا و كانت المرة الأولى التي يبتسم فيها منذ وطأت قدماه ارض الإسكندرية..

خرج عاصم من عند الحاج وهيب يشعر ببعض الراحة فهو على الأقل قابل اهل بيت زكريا و اطمئن انهم بخير و ترك لهم ما يحفظهم من شر الحاجة.. توقف عند قهوة المعلم خميس و جلس يتمنى كوب من الشاي يخفف من ألم رأسه التي تمور بالافكار منذ وطأت قدماه القاهرة و خاصة بعد مقابلة المحام الذى و للأسف أكد على ضعف موقف زكريا بالقضية خاصة بعد ظهور الدليل الأخير الخاص ببصمات زكريا على أداة الجريمة..

تنهد في ضيق وهو يصفق بكفيه مستدعيا صبى المقهى لجلب الشاي فاستدعى نداءه المعلم خميس الذى نهض مستفسراً عن ذاك الصعيدى الغريب الذى يجلس على احدى طاولات مقهاه النائية قليلا عن مرأه..
تقدم في حذر هاتفاً في تساؤل: - مرحب يا بلدينا.. الأخ غريب مش من هنا..!؟..
أكد عاصم: - اه.. من الصعيد..

مد المعلم خميس كفه لتحية عاصم هاتفاً: - احسن ناس.. و منين في الصعيد..!؟..
أكد عاصم: - من جنا (قنا)..
برقت عينا المعلم خميس ليهتف معرفا نفسه: - اهلا بأهل الصعيد و ناسه.. محسوبك المعلم خميس اللول صاحب القهوة..
ارتشف عاصم بعضا من كوبه رشفة واحدة و هو يهتف: -مرحب يا معلم.. وانا عاصم الهوارى..

تأكد الان لخميس ان من يجالسه الان هو احد أقارب زكريا فهتف متحسرا: - و الله كان في واحد في الحارة هنا اسمه زكريا الهوارى بس ايه راجل مجدع بصحيح..
هتف عاصم في دهشة: - انت تِعرفه..!!..
هتف خميس: - و مين ميعرفهوش.. كان راجل حقانى و مداين الناس كلها بأخلاقه..ربنا يمسيه بالخير و يرده سالم..

همس عاصم لخميس: - انت تِعرف طريجه يا معلم..!؟..
هتف خميس متعجباً: - انا..!؟.. و انا هعرف منين..!؟.. اللى اعرفه انه هربان و طالما ممسكتهوش الحكومة يبقى خير..
طلب عاصم قلم وورقة و كتب عليهم ارقام تليفوناته و قدمها للمعلم خميس هاتفاً: - دى ارقامى يا معلم خميس لو عرفت او سمعت حاچة عن زكريا يا ريت تبلغنى..

أكد المعلم خميس بصوت عال الغرض منه إسماع بعض العيون التي ترسلها الشرطة للتنصت و الاتيان بالاخبار عن اى امر يجد:- طبعا.. اكيد يا عاصم بيه... اى حاجة جديدة هتوصلنى هبلغك طوالى..
نهض عاصم راحلا و هو يشعر بعجز لم يشعر به من قبل.. عجز عن مساعدة بن عمه الذى يكن له مشاعر اخوة صادقة..

مرت عدة أشهر منذ عمل زكريا في الميناء بناء على توصية غندور و اخذ ينقل بعض البضائع الخفيفة هنا وهناك على تلك العربة الحديدية ذات العجلات و التي كان يدفعها
محملة بما كانت تجود به بعض المراكب او السفن.. ليذهب بها لاصحابها..

جاءته الاخبار من القاهرة وعلم بان بصماته كانت على سكين طايع وسيلة مقتل السمرى
كانت ليال قاسية تلك التي مضاها بعد معرفته و قد أيقن ان التهمة أصبحت ملتصقة به كالغراء و انه بهذا الشكل اصبح مطارد بشكل فعلى.. و انه سيُصبِح كرم و سيظل كرم..

و عليه ان ينسى زكريا و اسمه و سيرته و كل ما يتعلق به... لكن بعد عدة أيام من اليأس و الأحباط عاد له الامل من جديد في رحمة ربه و عفوه.. و تيقن ان الفرج قريب
طال او قصر الوقت.. فالفرج قريب..

كان يومه ينتهى مع اخر طلبية يوصلها و يعود لبنسيون تهانى يتناول طعامه و يعود من جديد لينزل عابرا الطريق ليتخذ مجلسه امام البحر
يحدثه بالساعات و يرى وجه بدور و ابتسامتها التي يفتقدها حد اللانهاية بين أمواجه
ووجها الصبوح يلوح له عبر الأفق..
ثم يعود ليطرح نفسه على فراشه و يروح في سبات عميق..

و اليوم لم يكن استثناءً.. فها هو يجلس على الشاطئ الرملى يولى ظهره للعالم و يتطلع لعالمه الذى ينسجه بين طيات البحر و أمواجه الثائرة تارة و الوديعة تارة أخرى.. انتفض عندما تناهى لمسامعه تلك الهمهمات الخائفة و صوت الأنين الذى يصله من احد الجوانب..

نهض في اضطراب ينفض جلبابه و يتطلع حوله في ترقب و أخيرا رأها.. تقف مذعورة تضع كفاها على اذنيها في هلع و تنتفض في رعب.. لمح على بعد خطوات منها ثلاث شباب اندفعوا هاربين و زادوا من سرعة خطواتهم حتى أضحت عدواً عندما ادركوا ان زكريا يقترب للذود عن الفتاة التي كانوا يحاولون مضايقتها..

اقترب زكريا من الفتاة المذعورة في إشفاق وهتف عاليا حتى تسمعه لأنها كانت تصم آذانها بكفيها عن اى كائن و كذلك بسبب صوت الأمواج العال في تلك اللحظة: - انتِ كويسة..!؟.. حد من الشباب دوول ضايجك.!؟...
لم ترد الفتاة و كأنها لم تسمعه و لا تراه من الأساس بل ظلت على انتفاضتها و ذعرها و آذانها التي تصمها بكفيها..

تلفت زكريا حوله من جديد.. فكر في الاستعانة باحدى النساء لعلها تفهم ما يحدث مع تلك الفتاة و التي لا يطاوعه قلبه لتركها بتلك الحالة..
عاد ليهتف من جديد بالقرب منها: - طب جولى بيتك فين وانا اوصلك لو خايفة..!؟؟..
دقائق مرت و الفتاة على حالها و أخيرا بدأت ارتجافاتها تهدأ و ترفع كفيها عن مسامعها و ترفع رأسها رويدا.. رويدا..
لتلقى بنظرات دامعة لوجه زكريا القلق..

تنهد زكريا في راحة.. و هتف عارضا عليها:- تحبى اوصلك..!!؟.. لو لساتك خايفة الشباب دى يرجعوا تانى..
هزت رأسها رافضة و اشارت لسيارة كانت تقبع بالقرب..
غادرت في هدوء.. و ظل زكريا يتابعها من حين لاخر بعد ان عاد لموضعه الأول وما ان تأكد انها ركبت سيارتها و رحلت..
حتى عاد من جديد لعالمه بين الأمواج ووجه بدور الذى يطالعه مبتسما ينير الأفق الحالك الظلمة
في تلك اللحظة..

تساءلت نعمة في حزن: - و بعدين يا معلم خميس.. !؟؟.. قدمت له الشاي و هو ينتظر
الحاج وهيب في الصالون ليتباحثوا فيما يجب فعله بعد ان تم الحكم على زكريا غيابيا بالسجن المؤبد لخمسة و عشرين عاما..
استطردت وهى تجلس متحسرة تعدل حجابها على رأسها: - هنسيب بدور كده..!؟؟.. ده من ساعة ما عرفت و هي مبتنطقش.. دى بتموت بالراحة..و ابوها الغلبان مش عارف يعمل لها ايه..حتى هو صحته اتاخرت من قهرته عليها..

تنهد المعلم خميس دون ان يعقب و تناول رشفة من كوب الشاي و أخيرا هتف في حماسة لفكرة مجنونة راودته: - انتِ منين يا يا ست نعمة..!؟؟... مش من طنطا برضة..!!؟...
أكدت نعمة بإيماءة من رأسها: - اه يا خويا
من طنطا.. ليه..؟؟.
هتف المعلم خميس باسما: - مدد يا سيد يا بدوى..هو مش مولد السيد البدوى قرب !؟..

أكدت من جديد في تعجب: - اه يا معلم.. ليه!؟؟..نفسك في شوية حُمُّص و مشبك من هناك..!!؟..
اتسعت ابتسامته: - اه يا ريت.. و انتِ اللى هتجبيهملى بنفسك..
هتفت في دهشة: - انا..!؟.. ده انا بقالى زمن مرحتش طنطا و لا زرت اخواتى..
أكد المعلم خميس: - يبقى واجب تروحى تزوريهم قريب.. قريب قووى..

تعجبت مما يقول و همت بالاستفسار الا ان دخول المعلم وهيب قطع عليها استرسالها و نهضت مستئذنة لتتركهما و تتوجه لمصاحبة بدور الذى ما عاد يؤنسها الا جلوسها بالقرب من تلك النافذة المطلة على مدخل الحارة يحدوها الامل بظهور زكريا حتى ولو حلما و في أحضانها يقبع ذاك الجلباب الذى تركه زكريا خلفه محمل برائحته التي تحييها و كانت السبب الوحيد في بقاء روحها منتشية مليئة بأمل اللقاء الذى تنتظره و لم تمل من الانتظار..

دخل عاصم السراىّ في وجوم لم يكن من عادته الا اذا كان هناك ما يسوء.. انقبض قلب زهرة لمرأه بهذا الشكل حتى الحاجة فضيلة
استشعرت ان وراء تجهم ولدها خبر قاصم للظهر.. لم تجرؤ زهرة على سؤاله و هو يجلس متنهدا في ضيق بينما هتفت الحاجة فضيلة من مجلسها المفضل في صحن السراىّ: - خير يا عاصم.. ايه فيه..!؟..

وضع عاصم راسه بين كفيه زافرا في ضيق و أخيرا هتف و هو يمرر أصابعه بشكل مضطرب بين خصلات شعره: - زكريا.. أتحكم في جضيته النهاردة.. تأبيدة يا حاچة..
شهقات الصدمة ارتفعت من صدر كل من زهرة و الحاجة فضيلة ليستطرد عاصم في غضب مكتوم كازا على آسنانه: - أجول لامه ايه..!؟.. اجولها ولدك راح.. مكنش بكفاية التوهة اللى كانت مكتوبة عليه جَبل سابج عشان دلوجت تبجى توهة إچبارى.. !!؟..

هتفت الحاجة فضيلة في إشفاق: - حچة يا عاصم ده أمه تروح فيها.. دى عايشة بس عشان توعاله راچع لداره..
هتف عاصم متحسرا ضاربا كفت بكف: - ليه بس كِده يا زكريا.. ليه يا واد عمى.. !؟؟.. ما كنت جاعد وسطينا و جلنا بلاها الروحة و البعاد.. أدى اللى كسبناه.. روحة بلا رچعة.

ربتت زهرة على كتف عاصم الذى كان يستشيط غضبا يكاد يحرق كل من يقترب منه لتهمس في خوف عليه: - اهدى يا عاصم.. ربنا مش هيسيبه.. ربك عادل.. و اكيد مسير الحقيقة تبان و عن قريب باذن الله..
هتف عاصم زافرا في محاولة منه لتهدأة نفسه: - و نعمة بالله.. صدجتى.. ربنا جادر ينجيه من الهم دِه.. و يرحم امه اللى ملهاش غيره..

جاءت سندس في تلك اللحظة تجرى مندفعة لاحضان ابيها ليتلقف أياها بين ذراعيه مقبلاً وجنتيها الشهيتان في محبة همست زهرة في دلال بالقرب من مسامعه محاولة إخراجه من حزنه: - على فكرة.. انا كده هغير.. و غيرة زهرة وحشة..
همس عاصم محاولا الابتسام لمجاراتها: - اللى تأمر بيه زهرة كله ماااشى..
همست من جديد مشاغبة: - البوسة لسندس بعشرة لام سندس..

رد مشاكساً: - عشرة بس.. طب لاحجى انتِ لو جدعة..
كادت تنفجر ضاحكة لولا انها انتبهت لوجود خالتها فكتمت ضحكاتها و هي تنظر اليه في محبة و قد شعرت بالرضا لانها استطاعت و لو قليلا إخراجه من تلك الحالة التي كانت تتلبسه بسبب زكريا...

دخل زكريا بنسيون تهانى كعادته كل ليلة قبيل العشاء بقليل لتفاجئه تهانى هاتفة: - سى كرم..فى ورقة سبهالك غندور.. جه بعد ما انت نزلت بشوية و قالى اديهالك..
اختطف زكريا الورقة من يدها مندفعا الى حجرته ليفضها في لهفة فهو يعلم ان بها اخبار جلسة النطق بالحكم في قضيته..
جرت عيناه على السطور و من شدة توتره أعاد قراءتها عدة مرات حتى استوعب أخيرا ما كان بها من أخبار زادت من همه..

ذهب الامل الأخير في النجاة بغير رجعة..
أصبح التيه إجباريا.. و الوجع إجباريا..
و العذاب الذى يخالطه اعتياديا كالماء و الهواء..
طبق الورقة بغضب في كفه و اعتصرها كما يعتصر الألم قلبه..و ألقاها بطول ذراعه و هو يسقط على ركبتيه في يأس..

وضع رأسه بين كفيه.. و لم يستطع ان ينطق لم تكن هناك كلمات تعبر عما يجول بصدره و يرتع بقلبه و يتأكل فكره من ألام و عذابات..و فجأة وجد نفسه بلا وعى منه يردد دعاء كان دوما ما يردده عندما كانت تضيق به نفسه و لا يجد ملجأ الا الى الله.. دعاء ردده النبى عليه الصلاة و السلام يوم خروجه من الطائف مخذولا من أهلها.." اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟

إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك".
ما ان انتهى من دعائه حتى سالت دموعه انهارا..

وفي خصم تلك المشاعر التي احتلته لم يدرك ان باب غرفته قد دق مرة و لم يسمعه لينفرج الان قليلا و يدخل احدهم للغرفة ثم يُغلق من جديد..سمع همسا مرتجفا يهتف بأسمه فرفع رأسه يتطلع أمامه في تعجب و أنتفض عندما لامس كتفه كفا وُضعت عليه هاتفة بأسمه من جديد في نبرة اكثر ارتعاشاً.. استدار ليواجهها و قد فغر فاه و جحظت عيناه لمرأها و قد غطى الدمع وجنتيها..

همست من جديد شاهقة: - سى زكريا.. انا هنا.. انا بدور..
و انحنت تجلس قبالته و تمد كفيها تحتضن وجهه بملامحه المشدوهة.. متطلعة الى تفاصيل ذاك الوجه التي كانت تظن انها ستموت شوقاً اليها..
استفاق أخيرا من صدمته على لمساتها الحانية ليجذبها شاهقا الى احضانه يعتصرها بين ذراعيه..هامساً بأسمها في شوق و مرددا أياه في تكرار محموم كأنه لا يصدق انها هاهنا..

أبعدها قليلا عن احضانه ليتفحص ملامحها التي أفتقدها حد الجنون.. يستعيد من جديد روعة تلك الملامح التي أورثته السهد ليال طويلة.. و رافقته دوما في جولاته على الشاطئ.. و عاتبته بتكشيرة طفولية لعدم اهتمامه بصحته في غيابها و واسته دائما و ابدا في حزنه و همه..
لكم يعشق تلك المرأة و روحها التي تسكنه كروحه..

همست تخرجه من شروده فيها: - متزعلش يا سى زكريا.. ربك موجود و قادر يظهر الحق.. بعد يوم.. بعد سنة.. المهم انك بخير ومعايا..
هتف زكريا و هو يتطلع لعمق عينيها:- المهم انكِ مصدجة يا بدور انى برئ..!؟؟..

هتفت في تأكيد: - طبعا يا سى زكريا..ده لو الدنيا كلها قالت انك تعملها انا مصدقش..ازاى أصدقهم.. و اكدب روحى..!؟.. اكدب عنايا..!؟..و اصدق ان الراجل اللى عاشرته و مشفتوش فوت فرض ربه و خلانى انا مفتهوش ممكن يعمل كده.. اكدب الراجل اللى عينه مكنتش بتترفع عن الأرض و اللى مشفتش منه غيرالخير.. و اللى عينى مشفتش في الرجالة قبله و لا بعده.. الراجل اللى قلبى اتخطف اول ما شفته..

اكدب ده كله.. واصدق الناس و كلامها!؟..
تطلع اليها في عشق و احتضن وجهها بين كفيه و قبل جبينها في شوق طاغ و أخيرا جذبها من جديد لأحضانه متنهدا في راحة فما عاد الان شيئا يعنيه من امر الدنيا.. و قد جاءت اليه.. من تغنيه عن الدنيا و من فيها..

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 4 من 36 < 1 6 7 8 9 10 11 12 36 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
رواية ، ميراث ، العشق ، والدموع ، موال ، التوهة ، والوجع ، رباب ، النوح ، والبوح ، العمر ، وزواده ،











الساعة الآن 11:55 AM