رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون
-اسمك الرباعى.. وسنك !!؟.. سأل وكيل النيابة فى جدية اجاب زكريا فى حروف مترددة.. مرتجفة.. فهو عندما يتعرض لضغط ما.. ترتجف حروفه.. ويتلعثم :- زكريا غسان صادج الهوارى.. سنى ٣٤سنة.. -تعرف ايه عن اللى حصل ساعة الحادثة..!!؟..
-واد عمى عاصم.. طلع بالكارتة جرى.. وجالى خليك عشان ارجع الحاچة فضيلة امه من عند نسايبهم.. لكن انا چويت ورا الكارتة.. ونزلت اداريت لما بدأت سرعتها تهدى وفجأة وجفت الكارتة.. وسمعت ضرب نار..ورد عاصم بسلاحه.. بس اللى ضربه عرف يطوله.. فصابه وهرب.. وانا جريت عليه..واتصلت بنسايبه عشان يلحجوه.. هو ده اللى حُصل يا باشا سأل وكيل النيابة فى اهتمام :- انت اتعرفت على شخصية القاتل..!!؟.. يعنى عرفت هو مين..!؟..
اومأ زكريا بالإيجاب.. مما دفع وكيل النيابة لسؤاله فى لهفة :- هو مين..!؟؟.. تلعثم زكريا بشكل واضح..وهو يجيب :- سليم أخوى.. -أخوك !!؟.. سأل وكيل النيابة فى تعجب.. مستطردا.. وليه يعمل كده فى بن عمه.. !!؟.. -دى حكاية طويلة يا بيه.. لو عندك وجت اجولهالك.. !!؟.. جلس وكيل النيابة فى إنصات وهو يدعو زكريا.. ليقص عليه القصة منذ البداية.. دون ان يغفل اى تفاصيل.. مهما كانت بسيطة..
ما كل تلك الأحلام الذى راودته فى نعاسه.. احلام وخيالات كلها تنصب عليها.. فهى تحتله كليا.. تحتله حد غزو احلامه.. فلا تكون الا متمركزة حول محياها.. رفرف بأهدابه.. وهو يشعر بثقل عجيب يجثم على قدميه و دفء عجيب يشمل كفه الأيسر.. فتح عينيه الان على اتساعهما وهو يراها منكمشة على نفسها تمد كفها تضعها فى احضان كفه الأيسر.. ورأسها تلقيها على قدميه.. وشعرها المبعثر فى فوضى.. تغطى بعض خصلاته ملامح وجهها...
رفع كفه عن كفها فى حذّر ولانت قسمات وجهه وهو يمد يده يحمل تلك الخصلات بعيدا عن محياها.. لتنكشف ملامح وجهها الصبوح.. شعرت هى بلمساته.. فاستيقظت دون ان تفتح عينيها.. تمتع روحها بلمساته الحانية.. بديلا عن جفاءه المشروع معها فى الايام الماضية.. اذن ما رَآه فى احلامه.. كان حقيقة.. كان الالم يعتصره يتأوه... ويتأوه.. احضرت هى الطبيب بعد ان استيقظت فى فزع عندما ادركت مسامعها تأوهاته.. أعطاه الطبيب مسكنا قويا.. وجلست هى تحت أقدامه.. ليستيقظ فيجدها على هذه الحالة الرائعة.. ليتطلع لملامحها الناعسة بحبور هامسا فى نفسه.. يا له من صباح رائع..!!.. فتحت فجأة عينيها.. لتتوقف كفه فى منتصف طريقها مبتعدة عن خصلاتها التى كانت تمسدها ويصدم بنظراتها المفعمة بالبسمة وهى تقول :-صباح الخير..
استفاق من صدمته سريعا.. ليحول نظراته عنها.. مضطربا وهو يقول فى صوت أبح:- صباح النور.. ليستطرد... واضح انى تعبتك امبارح.. !!؟.. نهضت فى تثاقل.. وابتسامتها وشعرها الغجرى.. يثير جنونه.. ولا تعب ولا حاجة.. المهم.. انك بخير..الحمد لله واستطردت.. اكيد انت جعان.. كان يتضور جوعا بالفعل لكنه قال :- مش جوووى..
لتهتف هى فى جزل :- استنى.. هعمل لك كباية شاى بالحليب.. ومعاها فايش جابته الحجة امبارح... لحد ما يجى فطار المستشفى اللى ملوش لازمة ده.. لم يستطع ان يدارى ضحكاته فابتسم هاتفاً فى سخرية :- شايف انك بجيتى بتحبى اكل الصعيد اها.. الله يرحم يوم ما جبنالك الداكتور بسببه يوم الصباحية..
انفجرت ضاحكة.. مما جلب له المزيد من السعادة وهى تقول :- انا متعبتش من الاكل.. انا تعبت من الكمية اللى انت اكلتهالى... كل اما اقولك شبعت.. تزغرلى وتقولى كولى.. وانا بصراحة كنت عايزة اتقى شرك.. والليلة تعدى على خير.. واستمرت ضحكاتها.. على عكسه تماما.. فقد انقلبت ضحكاته لوجوم.. مما استرعى انتباهها.. لتستدير لمواجهته.. فيسألها فى صدق :- هو انا كنت جاسى جووى كده..!؟؟..
صدمها سؤاله الذى لم تتوقع ابدا.. ان يخطر بباله ويطرحه على مسامعها فى يوم ما.. حتى انها احتارت بما تجيب.. لكنها اجابت :- عايز الصراحة.. كنت بكرهك ساعتها.. سأل بلهفة :- طب ودلوجت..!!؟.. انفجرت ضاحكة وهى تقول :- دلوجت تفتح بقك وتآكل دى.. وهى تضع قطعة من المخبوزات الصعيدية المسماه بالفايش فى فمه.. فيعقد ما بين حاجبيه فى غيظ..
و ضحكاتها تعلو.. لمرآى محياه العابس دخل كل من نبيل وندى والدكتور ناجى لحجرة المشفى لتوديع عاصم.. قبل سفرهم للقاهرة بعد ان اطمأنوا عليه - الحمد لله انك قمت بالسلامة.. هتف الدكتور ناجى.. وهو يربت على كف عاصم فى حنو غير معهود من جانبه تجاهه.. ابتسم عاصم فى حبور..تسلم يا داكتور.. ربنا يخليك وتوجه بحديثه لنبيل قائلا بامتنان :- بتشكرك يا داكتور نبيل.. لولاك مكنتش عارف هبجى فين دلوجت..!؟؟..
ابتسم نبيل ابتسامته الهادئة المعتادة وهو يقول :- شكر ايه بس.. احنا اهل و مفيش بينا الكلام ده.. وبعدين انا معملتش حاجة.. زهرة اللى قامت بالواجب كله تقريبا.. ومكنتش عايزة حد غيرها يتبرع لك بالدم.. انفجر الجميع ضاحكين.. انا خدت مكانها بالعافية لما الدكاترة خافوا عليها..
لم يكن عاصم على علم بذلك.. اذن هى من أعطت له من دمها.. وهبت له حياة جديدة.. اصبح دمها يجرى بأوردته وشرايينه... اما كفاها انها تحتل روحه وتغزو مخيلته ليل نهار.. حتى يتدفق دمها بين كل نبضة من نبضات قلبه معلنا انه لها.. وانها مليكة ذلك الخافق بلا منازع.. كان ينظر اليها الان.. وكأن ما من احد فى الكون بخلافهما.. حتى ان الدكتور ناجى ابتسم بحبور وهو يهتف مخرجا عاصم من شروده فى محياها :- طب احنا جينا نسلم عليكم قبل ما نسافر.. وترجعوا بيتكم بالسلامة..
قال كلمته الاخيرة وهو يغمر بطرف عينه لابنته زهرة التى كسى الخجل وجنتيها بلون احمر قان.. وعلت وجهها ابتسامة محببة وهى تقبل ابيها مودعة.. وتشكر نبيل فى امتنان حقيقى.. وتحتضن اختها ندى.. التى تمنت لو انها قضت معها فترة أطول قبل ان تتداعى الأحداث بهذا الشكل.. رحل الجميع فى سعادة.. وكلمات ابيها على باب الغرفة والتى القاها على مسامعها وهى تودعه.. ترن بعقلها.. وتستقر بقلبها..
" يوم ما روحت لأهل امك عشان أتقدم لها مرة واتنين وتلاتة وانا عارف انى هترفض.. مكنش استقلال بكرامتى.. كان حب وتقدير ليها لاخر لحظة.. وهو ده اللى عمله جوزك.. جه لحد عندى.. عشان يرد لك كرامتك اللى هو جرحها بعملته.. عايز يصلح غلطه من غير ما يفقدك.. عارف ان ده اللى ممكن يرجعك ليه حسسيه انك مقدرة اللى عمله.. وساعتها.. عمره ما هيقدر على بعدك.. وهاتفضل كرامتك متصانة معاه دايما"...
صرخت الحاجة رتيبة فى ابنتها سمية بغضب... بعد ان داهمت الشرطة دارهم.. يبحثون عن سليم.. او اى شئ يتعلق بالحادثة :- جلت لكم انت واخوكى بلاها السكة دى.. مسمعتوش كلامى.. اهااا لا انتِ طولتى واد عمك اللى وجفتى حالك عليه.. ولا اخوكى طال بتهم ولا الورث اللى كان طمعان فيه.. واخرتها... ينجلب الدار تفتيش على اخوكى بعد عملته السودا.. خلاص يا سمية بجيتى اخت جتال جتلة رسمى.. والحكومة بدورعليه..
اخوكى راح.. وانت كمان.. هتجعدى جارى.. ومفيش حد فى النجع كله.. هايرضى يناسبنا.. ويطلب يدك.. صرخت سمية :- بكفياكى ياما.. وهو انا كنت اعرف انها ممكن توصل لكده.. وان سليم يفكر يجتل عاصم.. صرخت الام من جديد :- عجله شت بعد ما عاصم جابله الاخرس ده.. يجوله ده اخوك.. وهيجاسمك فى الجرشين اللى فاتهملولك ابوك.. بعد ما الله يرحمه كان ضيع ماله كله على الحريم.. وفى الاخر اهااا يطّلع لنا واحد.. يجول انا ولده.. وتضيع سمعتنا.. وتضيع فرصتك فى چوازة زينة.. تعدل حظك المايل.. ويبجى لنا بيها راجل.. يوجف للخلج فى غيبة سليم..
ضربت سمية على رأسها بكفها فى لوعة :- يعنى خلاص.. مش هشوف اخوى سليم تانى.. وهفضل كده زى البيت الوجف.. ثم هتفت متذكرة..بس لاه.. ما عدلى واد محروس الهوارى.. كان طالبنى من اخوى.. ومردناش عليه.. هتفت الام فى حسرة :- دى اخرتها يا بتى.. عدلى واد نجاة.. اللى الكفر كلاته يعرف انه واد أمه.. مابيتحركش الا بشورتها.. دى اخرتها يا سمية.. !!؟..
بكت سمية فى حرقة :- طب هعمل ايه طيب.. !!؟.. يا مرك يا سمية.. كان مخبيلك الهم ده كله فين..!؟؟.. تركتها امها.. وتحركت ببطء باتجاه الدرج.. تعتليه فى صمت وهى تتمتم فى حسرة.. يا ميلة بختك فى عيالك يا رتيبة.. يا عمرك اللى ضاع هدر.. يا رتيبة..
وضعت حجابها على رأسها وفتحت باب غرفة المشفى للطارق.. والذى كان احدى الممرضات التى تتناوب على احضار الطعام او قياس الضغط وإعطاء بعض المسكنات.. أدخلتها زهرة مرحبة.. لتقترب الممرضة من عاصم تقيس حرارته وضغطه هاتفة فى مرح موجهة حديثها لزهرة :- انتِ بجى زهرة..!!؟..
أومأت زهرة برأسها ايجابا وهى على يقين من كلماتها التالية والتى سمعتها مسبقا من الطبيب المناوب..لتكمل الممرضة وهى توجه حديثها لعاصم وهى تضع بين شفتيه مقياس درجة الحرارة والذى بدأ يغلى عندما استطردت.. بصراحة عندك حج تهلوث بيها.. ومتناديش غيرها طول ما انت فى البنچ عند هذه النقطة احتقنت ملامح عاصم وقذف بمقياس الحرارة من فمه.. وهو يدفع نفسه دفعا حتى يصل لاقصى درجات ضبط النفس ولا يخنق تلك الممرضة بيده السليمة على ما تتفوه به من حقائق يود لو ينكرها..
انجزت الممرضة مهمتها لتستوقفها زهرة واضعة بكفها عدة اوراق مالية لتهتف فى فرحة :- يجوملك بالسلامة وتفرحوا باولادكم.. نظرت اليه زهرة وهى تؤمن سرا.. وعيونه تنأى عنها.. وما ان خرجت الممرضة حتى اقتربت منه تشاكسه :- كنت بتهلوس بيا.. صحيح..!!؟.. نظر اليها متصنعا الحنق :- وانا ايه عرفنى.. هى اللى بتجول..وبعدين دى خترفة بنچ.. يعنى اى كلام.. ابتسمت وهى تتطلع الى اعماق عينيه هامسة :- خترفة البنج.. بتبقى اكبر حقيقة عايز يداريها البنى ادم حتى عن نفسه.. سحب نظراته بالضالين بعيدا عن عينيها.. وهتف ليغير مجرى الحديث :- أنا جعان..
انفجرت زهرة ضاحكة وهى تعلم تماما انه ليس بجائع وان هذه هى حجته التى فطنت اليها والتى يستخدمها دوماً ليغير وضعاً ليس على هواه والتى استخدمها سابقا ليغير موضع نومها من غرفة اخته سهام الى غرفتهما.. هتفت من بين ضحكاتها :- حااضر.. اى أوامر تانية جنابك..!!؟؟.. ليحرك هو راْسه رافضا غير راغب فى متابعة الحديث الذى يعرى حقيقة مشاعره أمامها..
لماذا يتجاهلها..!؟؟. منذ عادوا جميعا من الكفر وهو ينأى عنها.. حتى انه لا يناقشها فى محاضراته كما كان يفعل فى السابق قبل ان يكتشف انها ابنه عمه.. كانت تتوقع تقارب اكثر.. لا تباعد بهذا الشكل السافر..
خرجت من الجامعة.. شياطين الدنيا تتبعها فى غضب تضغط على السيارة باقصى سرعة تملكها رغبة فى تفريغ طاقة الغضب التى تختزنها لإهماله إياها.. لكن.. يبدو ان السيارة لم تحتمل هذا الضغط الرهيب عليها لتزمجر غاضبة هى الاخرى.. وتتوقف وقد أعلنت العصيان.. صرخت ندى فى غيظ عندما أدارت مفتاح التسغيل عدة مرات وفى كل مرة تعاند السيارة اكثر ولا تريد التحرك خرجت ندى من السيارة تركلها بقدمها فى غيظ.. ليهتف صوت بغيض من خلفها :- ليه كده!؟؟.. مش حرام عليكى...
لتنتبه لصاحب الصوت لتجده شاب وصديقه.. يقتربان منها وعيونهما تحمل بريق غير مطمئن.. يتطلعان اليها بنظرات جائعة.. حاولت ادعاء الشجاعة.. لتهتف ناهرة كلاهما فى صوت حاولت تغليفه بالقوة قدر استطاعتها..لكن.. ذلك لم يثنيهما عن الاقتراب منها فى جزل.. و.. فجأة تجد جسد ما يقطع الطريق بينها وبينهما فى صلابة.. هاتفاً فى صوت قوى :- أى خدمة..!؟؟.. اتسعت عيناها عندما تاكدت ان هذا الستار الحامى الذى فرض نفسه بينها وبين هؤلاء الحمقى.. ما هو الا نبيل أستاذها وبن عمها العزيز..
ضحك احد الشابان ساخراً:- اه فى خدمة.. بس مش منك يا خفيف.. من الم.. لم يدعه نبيل يكمل لفظته السوقية.. حتى كان يخلع نظارته الطبية يلقى بها بين كفيها.. ويدفع قبضته المضمومة فى وجه ذاك الحقير.. الذى تأوه منكباً على نفسه صارخاً.. ولحسن الحظ يتركه صديقه ويفر من امام نبيل مرتعباً.. ليجذبها نبيل خلفه قبل ان يستفيق الاحمق من كبوته.. مندفعين لسيارته التى انطلق بها فى سرعة جعلت اطارات السيارة تصرخ.. مرت دقائق ولم يتفوه بكلمة.. فتشجعت هامسة :- شكرًا يا... نبيل..
كانت المرة الاولى التى تنطق فيها اسمه مجرداً.. وبمثل تلك الرقة.. مما استرعى انتباهه ليلقى اليها نظرة سريعة متعجبة جعلتها تتورد خجلا.. ليعود بنظراته للطريق.. ويلتزم الصمت مرة اخرى.. حتى وصلا أمام بيتها.. ليوقف السيارة ويستدير قليلا اليها أمراً :- هاتى مفاتيح عربيتك هوديها للميكانيكى.. ولحد ما تتصلح هخدك الكلية و أرجعك بنفسى..
انقلب امتنانها لحنق فى لحظات فهى لم تعتد على النبرات الآمرة فى التحدث اليها :- شكرًا.. انا اعرف اهتم بنفسى كويس.. مش محتاجة.. قاطعها ساخراً على غير عادته :- عارف..مش محتاجة سواق..بس للاسف مش بمزاجك.. بقيتى مسؤولة منى.. اعمل ايه..!!؟؟.. انا مجبور اكتر منك..
هتفت فى حنق:- للدرجة دى وجودى معاك عبء على حضرتك.. !!؟.. على العموم انا مرضهاش.. ولو حكمت هقعد ومش هروح الجامعة.. ولا انك تبقى مجبور على حاجة متحبهاش.. واندفعت من السيارة تجرى باتجاه باب البيت وكأن الشياطين تتعقبها.. لكن هو وللعجب ظل يتبعها بنظراته حتى اختفت.. وارتسمت على شفتيه ابتسامة..
اطلق سعيد الخفير.. عدة أعيرة نارية عندما دلفت سيارة عاصم التى كان يقودها زكريا.. لداخل السراىّ.. لتقف امام الباب الداخلى لها.. لتترجل منها زهرة اولا.. يتبعها عاصم.. وذراعه اليمنى مرفوعة لحامل يتعلق بعنقه.. استند على ذراع زهرة التى قدمتها له.. فتقبلها بسعادة وهو يصعد السلالم المؤدية لداخل السراىّ.. التى ما ان خط بداخلها.. حتى علت الزغاريد احتفالا برجوعه سالما..
هتف فى سعادة :- وااه.. ايه كل ده يا حاجة..!؟.. كان يستفسر عن ما يحدث بالخارج.. من تجهيزات لاحتفال و ذبائح تذبح.. هتفت بسعادة وهى تربت على كتفه :- حلاوة رجوعك بالسلامة.. اُمال ايه !!؟.. خلى الغلابة ياكلوا.. والنَّاس تدعيلك.. -بس ده تعب عليكى يا حاجة.. هتف عاصم معاتبا هتفت بدورها :- وااه.. انت فاكرنى انا اللى عملت ده كلاته.!؟.. والله ده زكريا هو اللى عمل كل حاچة.. انا كان يجولى نعمل كذا يا حاچة.. أجوله وماله..
ضحك عاصم بأريحية وهو يربت على كتف زكريا الذى كان يشعر بالحرج :- وااه يا زكريا.. وخليت الحاجة فضيلة بجلالة جدرها تسمع كلامك.. تاريك مش هين يا واد عمى.. ابتسم زكريا فى حبور ولم يعقب.. لتهتف الحاجة فضيلة فى سعادة :- يا الله على فوج انت ومرتك.. أرتاحوا.. لحد ما الناس اللى جاية تبارك بسلامتك تهل.. هنادوك تستجبلهم..
تحرك باتجاه الدرج ولا زالت كفه.. تستند على كفها لم يتركها.. ولكن قبل ان تخط قدمه على اولى الدرجات.. سمع صوت يناديه فى ترجى :- عاصم بيه.. عاصم بيه كانت فتاة ملتحفة الوجة.. جاء سعيد وراءها جريا ليمنعها من دخول السراىّ.. لكنها كانت الأسرع.. هم سعيد بإخراجها.. لكن إلحاحها فى النداء.. جعل عاصم يأمره بتركها.. ليعود مستندا على زهرة.. يجلس بأقرب مقعد مشيرا اليها ان تتقدم هاتفاً فيها :- انتِ مين يا بت !!؟.. وعايزة ايه..!؟..
رفعت الفتاة الشال الذى كان يغطيها.. عن وجهها.. ليهتف عاصم :- مش انت اللى البت اللى كانت بتشتغل هنا.. واختفت فجأة بعد حادثة حسام التهامى.. !!؟.. اااه.. انت اللى سرجتى سلاحى.. مش كده.. انطجى.. مين اللى وزك تعمليها..!؟.. هتفت الفتاة فى ذعر :- ما انا جاية عشان اتكلم.. بس غيتنى الاول يا عاصم بيه. -من مين..!؟.. هتف عاصم..
اجابت فى سرعة :- سليم واد عمك.. عقد عاصم ما بين حاجبيه هاتفاً :- وايه دخل سليم بيكِ.!؟ اخرجت الفتاة ورقة مطوية من بين طيات ملابسها.. وأعطتها لعاصم... و الذى انفجر ضاحكاً عندما طالع فحواها :- والله كنه التاريخ بيعيد نفسه صوح... بجى انتِ مرت سليم.. وعرفى كمان..
شهق الجمع الذى كان محيطاً بالفتاة.. أومأت الفتاة برأسها قبل ان تكمل..:- هو اللى جالى لو جبت له سلاحك.. هايكتب عليا رسمى.. ولما عملت اللى جالى عليه..وهربت مطرح ما هو جالى استناه.. حسّيت منيه بالغدر ودلوجت خايفة يرچع لى يجتلنى بعد ما عرف انى.. وصمتت الفتاة قبل ان تقول بصوت مرتجف.. بانى حبلى منيه.. هتف عاصم ساخرا :- واااه..حبلى كمان.. كملت..
هتفت الفتاة فى تضرع :- غيتنى يا عاصم بيه.. محدش هايجدر يحمينى منيه غيرك.. هنا تحدث زكريا..فى تردد:- بعد إذنك يا عاصم يا واد عمى.. اسمحلها تعيش مع امى فى البيت اللى انت وهبتهولنا..اهى تاخد بحس امى وانى مش موچود.. تعجب عاصم :- يعنى ايه مش موچود..!؟.. ليه هتروح فين.. !؟.. -انا نويت.. والنية لله.. اچرب حظى بعيد عن النچع.. ومش هرچع.. الا لما احس ان بجالى جيمة ومركز.. بعيد عن الهوارية واسمهم..
-ياعنى هتفوتنا يا زكريا.. !!.. هتف عاصم بضيق قال زكريا بحرج :- معلش يا واد عمى.. انا مهرتاحش الا كده.. بس وصيتك أمى.. دى ملهاش غيركم دلوجت أومأ عاصم برأسه دون ان يجيب بحرف واحد.. واتجه بحديثه لكسبانة التى كانت عيناها تتطلع اليه فى ترقب :- خلاص.. هتروحى تعيشى مع الحاچة بخيتة.. تخدى بحسها.. وانا الورجة دى هوديها للمحامى نثبتوا صحتها ونخليها عنده فى الحفظ والصون..
-و ماله يا عاصم بيه.. هتفت كسبانة بثقة.. والحاچة بخيتة فى عنايا.. ثم نظرت الى زكريا فى امتنان هامسة تسلم يا سى زكريا.. اجاب زكريا بجفاف :- انا عملت كده عشان واد اخوى اللى شيلاه.. ميجيش الدنيا ميعرفلوش اب.. ولا يعرف له اصل.. وميدجش المرار الطافح اللى انا دجته.. ثم أشاح بوجهه عنها... ليحدث عاصم :- انا هرجع لاوضتى اللى فى الجنينة يا عاصم.. لحد ما ارتب امورى و اروح.. سأل عاصم :- مفيش صرفة تانية غير السفر ده..!؟.. ما تخليك معانا يا زكريا.. ايه لزمته.. !!؟..
أكد زكريا :- معلش.. انا هرتاح كده يا واد عمى.. ثم خرجت كسبانة ليذهب بها زكريا لداره.. لتصبح ونيس أمه.. حتى يعود من رحلته.. التى لا يعرف من أين يبدأها.. ومتى تكون نهايتها.. ليعود للكفر من جديد.. نهض عاصم.. واستند على زهرة من جديد.. والتى لم تتفوه بحرف واحد طوال الجلسة الماضية.. كانت تنظر اليه.. وهو يدير الامور بحنكة ومهارة.. تتطلع اليه.. بعين جديدة.. عين عاشقة.. عين ترى فيه كل ماهو رائع وتسأل نفسها.. كيف لم ترى فيه كل هذه الخصال من قبل!!؟...
وصلوا لغرفتهما.. ففتحت الباب لتدخل.. ليتبعها هو يخطو باتجاه الفراش ليجلس على أطرافه فى هدوء حذّر شعرت به.. فاقتربت هى تقول فى لهجة مرحة وهى تحرك كفها على جانب وجهه.. الذى نبتت لحيته:- لازم تحلق.. عشان مينفعش تقابل الناس كده.. فجأة امسك بكفها التى كانت تمررها على خده.. بشدة آلمتها.. نظرت له بتعجب.. فوجه نظراته اليها هامسا بشكل خطر :- بكفياكى يا بت الناس.. عملتى اللى عليكى وزيادة كمان.. والمفروض كنت تسافرى مع ابوكى امبارح.. الف شكر.. تجدرى تجهزى حاجتك..
وهوصلك لهناك معززة مكرمة.. زى ما طلبتى.. ترك كفها.. ونهض مبتعدا عنها يدير لها ظهره.. لا يريد ان تتقابل نظراتهما.. حتى لا يضعف فيتمهلها كى لا ترحل.. او تعلنها هى.. بانها بالفعل راغبة فى الرحيل فتقتل أملا يراوده..انها يمكن ان تبقى..
هتفت هى بصوت مرح لا يعكس مطلقا حالة الحزن التى من المفترض ان تعتريها بعد كلماته مما استرعى انتباهه وتعجبه فى نفس ذات الوقت :- بقى ده بذمتك..عمايل راجل صعيدى.. لِسَّه طالب أيد واحدة من ابوها.. وهى حتى لِسَّه مدتلوش الرد..!!؟.. انتفض مواجها لها.. وهو يقول فى ترقب :- يعنى ايه طالب يدها من ابوها.!؟... و رد ايه اللى بتجولى عليه !!؟... ما ردّك وصلنى.. وانت جولتى انك عايزة تسافرى معاه..
اقتربت منه فى حذّر.. حتى وقفت مواجهة له ترفع رأسها تتطلع اليه فى عشق تحاول مداراته :- عاصم.. انا لما كلمتك.. مكنش لِسَّه بابا قالى على اللى عملته.. مكنش لِسَّه قالى.. ان فى واحد ممكن يروح يطلب ايد مراته من ابوها.. عشان يردلها كرامتها ويرضيها.. عشان يحسسها انها غالية.. وانها لما هتفضل معاه.. هاتفضل عشان هى عايزه تفضل معاه.. عشان هى عايزاه.. مش عشان هى مغصوبة..
كان يقف كتمثال شمعى.. لا يصدق ما يسمع.. ينبض ذلك العرق بجانب صدغه بتوتر ينبأ عن صراع داخلى رهيب تدور رحاه بداخله.. عيناه تجول بمحياها.. يحاول ان يستشف الحقيقة فيما تقول.. يحاول ان يثبر أغوار نفسها.. واخيرا همس متسائلا :- يعنى انتِ لما كلمتينى جبل الحادثة مكنش لِسَّه الداكتور ناجى كلمك..!؟.. حركت رأسها تجيبه بنعم.. وابتسامة رائعة ترتسم على شفتيها..
سأل بترقب و عيناه تضيق :- طب وكان ايه ردّك.. لما الداكتور ناجى جالك.. !!؟.. قالت مشاكسة :- قلت له.. انا هبلغك ردى.. بنفسى.. قال متلهفا :- اللى هو..!؟.. انفجرت ضاحكة.. وهى تشاكسه من جديد:- اللى هاتسمعه بعد ما تحلق.. وتنزل للناس تضايفها.. وتيجى..
هتف فى حنق :- تولع الناس.. على الضيافة.. على الكل كليلة.. انا عايز ردّك دلوجت.. قالها هامسا وهو يجذبها اليه من ذراعها لتصطدم بصدره غير عابىء بجرحه الذى لم يشعر بألمه.. الذى لا يوازى آلالام روحه التى تترقب فى جنون.. فهمست هى ونظراتها تتعلق بعينيه :- تفتكر يا عاصم ممكن يكون ايه ردى..!!؟.. وايه اللى ممكن يخلينى أغير رأيي وأوافق..!؟.. ايه يا عاصم..!!؟..
كانت تريد ان تدفعه دفعا ليعترف بحبها.. كانت تريد ان تسمعها منه.. هى تعلم ان هو يريدها.. يريد بقاءها.. لكنها لم تسمع منه.. انه يريدها لانه يعشقها.. يريد بقاءها لانه لا يقوى على بعادها.. وان لا قبل له على فراقها.. انها تموت شوقا لها.. لتلك الكلمة من بين شفتيه.. تريده لدرجة الجنون.. لكنها تريد ان تطرب لسماعها لتتيقن انها امرأة حياته.. و انها حقا ملكت قلبه..
هى تعلم علم اليقين.. انه ليس سهلا على رجل مثله لم يكن يؤمن بالحب والعشق ان ينطق كلمات الهوى على شفتيه.. وانها على يقين ايضا بانه يوم ان ينطقها فهو بحق يعنيها.. وكل حرف فيها.. سيكون خارجا من اعماق روحه.. لما لا يقولها.. قلها أرجوك.. اهتف بها لاجلى.. حتى اطمئن أننى بقلبك للأبد...
دفع بذراعها التى كان لايزل ممسكا بها بعيدا عنه.. وهو يظن انها تتلاعب به.. تدنيه ثم تشقيه... تمنيه بالجنة حتى يكون على أعتابها.. فاذا بها جحيم مستعر.. لن يكون لعبة بين يديها.. حتى ولو كانت روحه معلقة بها.. نظراته لها كانت قاتلة وهو يقول بنبرة جليدية حضرى حاجتك.. لحد ما ارجعلك من تحت.. واندفع للحمام يحضر نفسه للاحتفال الذى يقام لاجله بالأسفل.. وهو يشتعل غضبا وألما.. وحسرة.. وشوقا..
وقفت امام المرأة عيونها مغرورقة بدموع تهدد بالانهيار تنظر الى ملابسها.. وشعرها.. وجسدها.. تشعر انها تفتقد شئ ما.. شئ يجعلها فى نظر نفسها راضية.. قبل ان تكون فى نظر الجميع.. لقد أنقذها نبيل اليوم من مصيبة محققة لا تعلم ما كان يمكن ان يحدث لولا وجوده بقربها.. فتحت خزينة ملابسها تتطلع لكل تلك الملابس الرائعة غالية الثمن التى تقتنيها.. وفجأة وجدت نفسها تجذبها جميعا فى غضب لتلقى بها على ارض الغرفة وبدأت دموعها فى الانحدار واخيرا تشهق بالم ملقية بجسدها على فراشها.. وتذكرت كلمات سمعتهم من زهرة عندما كانت تحاول إقناعها بوجة نظرها فى ملابسها المتحررة.. "الحرية فى التخلى لا فى التعرى."
لم تفهم معناها لحظتها.. ولا أرادت ان تفهم.. لكنها الان فى تلك اللحظة وعت معناها تماما... ووصل لروحها.. حريتك فى ان تتخلى عن كل ما يستعبدك.. وهى كانت تستعبدها الأزياء والملابس الراقية وأحدث خطوطها..معتقدة ان الرقى فيما تفعل.. لا تعرف ما الذى جعل ذاك الخاطر يقفز فجأة لخاطرها.!؟
ربما نظرات هؤلاء الحمقى الذين لم يروا فيها الا جسداً.. ام الادهى.. نظراته هو.. التى على قدر تشبعها بالاحترام لعقلها.. على قدر انصرافها عنها لتحررها بهذا الشكل.!؟ انه دوما يؤكد على انها انسانة حرة فى اختياراتها.. ولم تتغير وجهة نظره هذه بعد معرفته بقرابتهم.. بل حتى بعد ان حدث ما حدث اليوم.. لم يلق باللوم عليها ولا على ملابسها فيما جرى.. بل انه لم ينطق بكلمة جرحتها..
لكنها صرخت هاتفة فى نفسها.. بل فعل.. الم يقول ان رفقته لها عبء عليه.. لم يحدثها احد ابدا بمثل هذه اللهجة التى جرحتها حقا ً.. على ايه حال.. هى لن تذهب الى اى مكان معه.. وستعتكف فى المنزل بضعة ايام حتى الانتهاء من إصلاح السيارة.. فبضع ايام بالمنزل ربما تعيد لها هدوء نفسها وصفاء بالها الذى غادرها.. على الاقل ستكون بعيدة عنه وعن تأثيره فى قرارتها.. بتلك النظرات الهادئة التى تقتلها اكثر من مئات الكلمات.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون والأخير
دق جرس الباب عدة مرات.. وما من احد يتطوع لفتحه لتنهض ندى فى تثاقل وتفتحه لتفاجئ به يقف على أعتابه وبدون اى مقدمات.. وحتى دون ان يلقى السلام هتف فى حنق:- مبتجيش الجامعة ليه بقالك كام يوم..!؟.. وباجى استناكى بالعربية تحت عشان تيجى معايا.. عمى يقولى تعبانة..بس اللى انا شيفه.. انك مش تعبانة ولا حاجة أهو.
ردت ببرود :- مليش مزاج اروح الجامعة.. ومبحبش ابقى تقيلة على حد.. عدل من وضع نظارته الطبية و عقد ذراعيه امام صدره و هو يتحداها قائلا بهدوء :- هتروحى غصب عنكِ ولو حكمت هاجى اخدك من ايدك وأوديكى لحد المدرج بنفسى.. اشتعلت غضبا حتى انها نسيت انهما لازالا على اعتاب الباب ولم تأذن له بالدخول حتى..لتهتف فى حنق :- مش هروح.. ولو رحت مش هحضر ولا محاضرة من محاضراتك السخيفة..
انفجر ضاحكاً على عكس توقعها ليقول مثيراً غيظها اكثر :- هتواضع واتكرم واتعطف و أجى بنفسى اديكى المحاضرات هنا فى البيت.. حاولت اصطناع البرود على قدر استطاعتها وهى تهتف :- هدخل اوضتى ساعتها وابقى ادى المحاضرة العصماء بتاعتك لكراسى الصالون.. وبجد هقول لبابا على اللى بيحصل منك ده..وشوف ساعتها هيعمل ايه..!!؟..
وكادت ان تخرج له لسانها كالأطفال الصغار.. لكنه فك عقدة ذراعيه ليضع كفيه فى جيبى بنطاله وهو يقف فى لامبالاة قائلا :- طب ما انا كمان هقول لعمى.. هتفت بحنق :- هتقوله ايه..!!؟..انا معملتش حاجة وكنت مهذبة معاك لاخر لحظة لكن.. قطع كلامها بوضع إصبع سبابته على شفتيها مما جعلها تقف مشدوهة لفعلته.. تحملق لموضع إصبعه حتى كاد يصيبها الحول..وخاصة حينما همس وهو يقترب منها خطوة :- هقوله يا عمى.. انا بحب بنتك الشعنونة دى.. اللى كنت فاكرها عاقلة.. وعايز اتجوزها..
ردت ببلاهة وهو يرفع إصبعه عن شفتيها :- هااا... ليومئ برأسه مؤكداً وهو يكاد ينفجر ضاحكا من رد فعلها ليستطرد.. وانا عايزها تنجح بتقدير عشان تقدر تسافر معايا للبعثة بس واضح انى كنت غلطان.. قال كلماته الاخيرة متصنعا الحسرة وهو يستدير راحلا.. لتستفيق هى من صدمتها وهى تهتف :- نبيل.. ليعود ليستدير ناظرا اليها وهو يكتم ضحكاته.. لتستطرد هى فى خجل..:- بابا جوه على فكرة.. قال يشاكسها :- طيب سلميلى عليه..
هتفت فى حنق مصطنع :- مش هتخش تقابله..!!؟.. ليزيد من مشاكستها ونظراته المرحة تفضحه :-..أقابله ليه.!؟ لتهمس هى فى خجل :- عشان تحددوا مع بعض ميعاد المحاضرات.. لينفجر هو ضاحكا اخيرا.. و هى تفسح له الطريق ليدلف الى الداخل وقلبها يقفز فرحاً..
طرقت الحاجة فضيلة باب غرفة عاصم و دخلت فى سرعة تنادى زهرة التى استدارت لها فى تعجل مجيبة :- نعم يا خالتى.. همت الحاجة فضيلة بطلب ما جاءت لاجله.. لكنها وقفت مشدوهة للحظات عندما سمعت كلمة خالتى من زهرة.. لحظات كانت فارقة مع تلك الشخصية الفولاذية التى لا تهتز الا اذا مُسَّت روحها بعمق.. وهذا ما حدث بالفعل..
ثوان مرت وهى تتطلع لزهرة فى وله واخيرا طفقت الدموع من عيونها انهاراً.. دموع حبيسة لأكثر من ثلاثين عاماً لوعة وألما لفقدها اختها الحبيبة.. فتحت ذراعيها بشوق لتندفع اليها زهرة فى محبة تتمتع بدفء ذاك الحضن الحانى الذى افتقدته دوماً أطبقت الحاجة فضيلة ذراعيها حول زهرة فى شوق وهى تشهق بلوعة هامسة :- واااه يا فاطنة.. وَيَا روايح الغالية اللى هلت على جلبى وردت لى روحى..
بكت زهرة فى أحضانها تأثرا لكم المشاعر الحانية التى كانت ومازالت تكنها تلك السيدة الرائعة لاختهاالغالية و الغائبة الحاضرة بذاك الشبه بها فى ملامحها و روحها.. جلست الحاجة فضيلة وهى تجفف دمعها و تجذبها لتجلس بقربها و هى تسألها :- ابوكى اللى جالك..!!؟.. هزت زهرة رأسها نفيا.. فعقدت الحاجة فضيلة حاجبيها لتسأل :- أومال مين..!!؟..
صمتت زهرة لحظات ثم بدأت تسرد كل ما حدث مع سمية وما أخبرتها به بالحرف الواحد.. واخيرا تنهدت الحاجة فضيلة لتقول فى نبرة قاسية :- طول عمرها هى وامها عينهم من عاصم.. وهتموت وتتجوزه وتبجى ست السرايا دى تحكم وتتحكم فيها وفى خلج الله.. معلوم مش هاتبجى مرت عاصم الهوارى..لكن لا انا ولا عاصم نولناها مرادها.. بس يا ترى انتى يا بت اختى الغالية.. اللى حاربت الدنيا عشان حبها.. هتسيبى سمية تنتصر عليكى وتبعدك عن چوزك..!!؟..
صمتت الحاجة فضيلة لحظات لتترك اثر كلماتها يتوغل فى نفس زهرة واستطردت هاتفة وهى تنهض مغادرة الغرفة.. ورينى اذا كنتى بت امك صوح.. ولا لاه..!!؟؟.. تذكرت زهرة انها سمعت نفس الكلمة من الحاج مهران.. فابتسمت فى سعادة لكن الحاجة فضيلة قاطعت ابتسامتها وهى تستدير لها فجأة قبل ان تصل للباب بخطوات وهى تقول بلهجة حانية :- زهرة يا بتى.. اجولك على سر محدش يعرفه.. ولا حتى ولادى.. تنبهت زهرة تستمع فى شغف..
لتستطرد الحاجة فضيلة بابتسامة حالمة وهى تسترجع الماضى البعيد... انا وعمك الحاج مهران.. اتجوزنا غصب فغرت زهرة فاها مدهوشة لا تستطيع التعقيب بكلمة لتبتسم الحاجة فضيلة ابتسامة واسعة قائلة :- هو مش غصب..غصب يعنى.. بس هو كان واد عمى وانا بعد هرب فاطنة اختى مع ابوكى كان مين اللى ممكن يفكر يتچوزنى ولا يجرب من دارنا بعد الفضيحة دى.. وانا طول عمرى جوية ومبيهمنيش.. بس عمك مهران لجيته اتجدم وجال بت عمى وانا اولى بيها.. واتجوزته وكنت كيف الفرسة الچامحة.. لكن هو.. وصمتت قليلا لتقهقه على غير عادتها وتقطع حديثها وعيونها تلمع ببريق حالم.. جُصره يا بتى.. اها بجالنا كد ايه مع بعض... عمر بحاله..
مجدرش على زعله.. وهو بيفهمنى من جبل ما انطج.. يا الله لحسن اتأخرت على الناس اللى تحت.. يجولوا ايه.. دعيناهم ونسيناهم.. وانتى لو مجدراش تنزلى خليكى استريحى.. وفتحت الحاجة فضيلة باب الغرفة وقبل ان تهم بالذهاب.. استدارت لتاخذ زهرة فى أحضانها من جديد وتهديها قبلات دافئة على وجنتيها.
كان يجلس بين الناس جسدا بلا روح.. حتى ان الجميع لاحظ شروده.. واعتقدوا ان ذلك من جراء جرحه الذى لم يندمل بعد بشكل كاف والى حاجته للراحة ه فبدأ البعض فى التهانى والمغادرة.. حتى يتسنى له تلك الراحة.. التى يحتاجها..لا يعلم احدهم.. ان راحته راحلة الى غير رجعة.. راحلة معها ولن تعود.. وكيف تكون الراحة عنوان لمن فقد روحه بغيابها.. انه يعشقها.. هو يعلم ذلك.. بل هو على يقين من عشقه لها الذى يزلزل أركان روحه..
يا الله.. انه يدفع ثمن كل ما جناه بحقها.. لقد اختطفها لينتقم فاذا به يدفع هو.. ثمن ذلك الانتقام.. من قلبه وروحه.. يدفعه من راحة باله.. التى ولت بغير رجعه منذ وطأت قدماها تلك السراىّ.. انه يدفع الثمن الان.. وسيظل.. فحبها ذاك الذنب الذى لايغتفر.. احد الخطايا التى ما كان له ان يقربها.. لكنه.. أحبها وانتهى الامر.. تورط فيها حد الجنون.. وليس من العقل.. ان تخبر المجنون.. ان يتعقل..
نهض بتثاقل.. يحاول ان يؤجل لحظة الرحيل.. صعد بلا رغبة.. يشعر بروحه منهكة وعلى الرغم من ان هناك العديد من الهوارية لازالوا بالخارج.. والاحتفالات والموسيقى على أشدها.. لكنه لم يعد يشعر بكل ذلك.. هو يريد العودة لحجرته.. يلقى بجسده المتعب على الفراش ربما يذهب فى نوم عميق.. يأخذه بعيدا عنها.. وعن التفكير فيها.. فتح باب حجرته فى هدوء.. دخل واغلق الباب.. وهو يلتفت ليفتح نور الغرفة التى يكسوها الظلام..
توقفت يده كالمصعوق وهو يرى من خلال انوار الحفل الساطعة بالأسفل ظلا فضيا يتألق بجوار النافذة.. وتذكر ليلة زفافهما.. كانت تقف بنفس الهيئة.. وبفستان زفافهما الذى اختاره خصيصا لاجلها.. كانت تقف الان فى ترقب تنتظر منه ان يتحرك صوبها..مد كفه المرتعش لمفتاح الضوء يشعله..ليتأكد انه لا يهزى.. وانها بالفعل هاهنا. تحرك باتجاهها فى هوادة.. مما جعل قلبها يقفزبين اضلعها..وصل عندها أخيراً.. وأدراها فى بطء لتواجهه وعيونه تحمل نظرات غير مصدقة ومتسائلة.. فهمست وهى تطأطأ رأسها خجلا :- هو ده ردى على بابا..يا عاصم مد كفه يرفع رأسها ليقابل عينيها.. متسائلا بنبرة تحمل مجامع الشوق :- بتجولى ايه..!؟؟..
همست مكررة وعيونها تتعلق بعينيه العاشقة :- ده ردى يا عاصم..ردى على طلبك من بابا..اقترب منها اكثر لتهمس بشوق مرتجفة :- أنا موافقة يا عاصم.. و راضية افضل جنبك.. ولو خيرونى بينك وبين الدنيا دى كلها.. هختارك انت جف ريقها الان..وهى تراه يتطلع اليها بنظرات شوق تجول بملامح وجهها فى اضطراب وذهول.. واخيرا يبتعد لحظة يلقى الحامل الذى كان يضم ذراعه لعنقه بعيدا.. ليعود بلهفة ليدنيها اكثر لقلبه وهو يحتضن خصرها بذراعيه... ويهمس من أعماقه :- وااه يا زهرة.. كن اتردت ليا روحى رفعت رأسها مشدوهة لكلماته وقد لمعت بعينيها الدموع هامسة باسمه :- عاصم..
شدد من احتضانه لها.. وكأنه مازال غير مصدق لقربها هامسا:- نعم.. يا زهرة.. همست فى خجل وشوق :- بحبك.. وكانت تلك الكلمة هى الباب الذى عبرت منه السعادة لحجرتهما وعلى الرغم من انه لم يرد بأى كلمة لكن رده كان ابلغ من آلاف الكلمات.. بين ذراعيه ايقنت هى انه يعشقها حد اللامعقول.. وان كلمة احبكِ... لن ينطقها. ولكن سيغزلها دوماً لأجلها دفءً..وشوقا.. وحنانا.. وعشقا... بين احضانه..
هتف الدكتور ناجى محاولا إقناع زوجته:- نبيل شاب ممتاز.. ومستقبله هااايل.. وبجد بيحب ندى.. وهيحافظ عليها... عايزة ايه اكتر من كده !!؟.. هتفت فى حنق.. وبعناد واضح :- كفاية انه بن اخوك عشان ارفض.. انا بنتى مش هايبقى لها صلة بالبلد دى ولا بناسها.. هتف ناجى من جديد :- ليه.!؟.. ما انا من الناس دى ووافقتى على جوازنا.. ايه اللى اتغير.. !!؟..
هتفت فى حزن :-. انا ايه اللى يضمن لى ان نبيل ده.. محبش غير ندى.. ومش عايزها لمجرد انها بنت عمه.. وانها زوجة مناسبة وخلاص... مش عايزة بنتى تفضل عايشة مع واحد شايف مراته القديمة وحب عمره طول الوقت... ومش شايف انه بقى ليه زوجة وبنت تانية... نظر اليها الدكتور ناجى فى هلع :- انتِ بتقولى ايه يا منيرة..!؟..
هتفت فى ألم عمره سنوات طويلة :- بقول الحقيقة يا ناجى.. بقول اللى عيشته طول عمرى معاك.. حب فاطمة عمره ما خرج من قلبك.. اللى انا كنت مجرد ضيفة فيه.. بدل ما انا اللى ابقى فى قلبك بعدها... اتاريها مسبتش مكان لحد لا قبلها ولا بعدها..عارف كنت بعامل زهرة وحش ليه..!!؟؟..
وبدأت فى البكاء بشكل هستيرى.. عشان كانت بتفكرنى بيها.. انا شفتها فى الصور القديمة اللى انت لِسَّه محتفظ بيها..عرفت ان هى وزهرة.. نسخة واحدة.. كنت بحس فى وجود زهرة ان امها لِسَّه معانا.. وانى عمرى ما هقدر أفوز بقلبك طول ما هى موجودة.. انا تعبت يا ناجى ومش عايزة بنتى تتعب كده.. عايزة حد يحبها هى.. وتكون الاولى والاخيرة بقلبه..
كان ناجى يقف مشدوها امام ذاك السيل من الاعترافات.. لا يصدق انه السبب فى كل ما آل اليه حال تلك السيدة التى لم تكن تتوق الا للحب الذى لم يكن بمقدوره منحه لكن على الاقل.. كان باستطاعته أشعارها بان لها قدرها ومكانتها فى قلبه..ذاك القلب الذى حلمت بامتلاكه.. ولم تستطع..مما دفعها لإحباطات متكررة.. كونت منها تلك الشخصية الباردة التى اصبحتها.. وللمرة الاولى.. يشعر برغبة حقيقة تدفعه.. ليعوض منيرة عن ما عانته جراء عدم ادراكه لمشاعرها..
احتضنها برفق.. لتجهش بالبكاء من جديد.. تفرغ على صدره أوجاع سنين خلت.. كانت تتمنى فيها ولو قدر بسيط من محبته.. و مكان ولو منزوٍ بقلبه.. همس بالقرب من مسامعها :- انا اسف يا منيرة.. لم تتفوه بحرف واحد ردا على أسفه لكنها رفعت رأسها تجفف دموع عينيها هامسة :- انا عارفة ان ندى موافقة على نبيل.. بس انا المهم عندى.. انه يكون الشخص المناسب وانه ميكسرش قلبها مهما حصل.. انا موافقة على جوازهم..
عاد يحتضنها من جديد.. لتستكين هى بين ذراعيه لأول مرة وهى تشعر بأمان عجيب يغمرها.. وكأنها تحررت من قيود كانت تقتل روحها ببطء..
رفرفت اهدابه فى تثاقل واستدار قليلا ليكمل نومه لكنه وجدها قابعة فى احضانه..تطلع اليها فى عشق.. لا يصدق انها اخيرا بين ذراعيه راضية..وانها حقا تحبه..مد كفه يزيح بعض الخصلات عن صفحة وجهها الناعس..وينحنى بهدوء مقبلاً وجنتها و هامسا باسمها فى شوق :- زهرة.. لتجيب هى من بين همهماتها :- نعم.. ليهمس من جديد :- أنا..
لتقاطعه هى ضاحكة..مستكملة جملته..:-... جعان. لينفجر ضاحكاً معتدلاً فى جلسته وهو يسألها :- عرفتى كيف انى هجولك كده!؟... لتقفز فى حجره على قدميه المتشابكتين.. متعلقة برقبته وهى تقول متصنعة الجدية :- انت متعرفش انى فهماك اكتر من روحك.. لف ذراعاه حول خصرها وهتف مازحاً :- حجيجة.. ليستكمل هاتفاً فى محبة خالصة وبنبرة تحمل عشق الكون:- بدليل انك عذبتينى عشان تعرفى انكِ بجد اجرب ليا من روحى...
ازداد تعلقها برقبته واخفت جبينها بكتفه وهى تنكمش اكثر فى احضانه.. ليهمس لها من جديد :- زهرة.. لتهمس متصنعة الغضب :- خلاص يا عاصم عرفت انك جعان.. ليقهقه مغتبطاً وهو يشدد من احتضانها وهو يعاود الهمس اليها من جديد :- ايوه جعان.. جعان لحبك.. لترفع رأسها متطلعة اليه فى شوق لانهائى..
-بكفاياكى يا سهام.. كل دى مانجا كلتيها..!!؟.. هتف حسام صارخا فيها وهو ينظر الى كومة عالية من قشر المانجو التى تستقر بجوارها على ارض غرفة نومهما لتهتف هى ساخطة :- ايه.. مستخسرها فيا..!!؟؟.. ليهتف ضاحكاً :- لاه.. هنا وشفا عليكى.. بس مش لدرجة انكِ تجومى فى نص الليل تجمعيهم من تحت السجر وتكليهم دلوجت يا بت الناس..
هتفت فى حنق من جديد :- اعمل ايه طيب.. وانا نايمة بصيت عليك جارى شفتك كنك مانجاية كبيرة.. أكلك.. ولا انزل اجمع المانجا فى نص الليل..!!؟.. هتف حسام شاهقا :- سلام قول من رب رحيم.. لاه انزلى جيبى المانجا اللى انتى عاوزاها.. واجولك.. هجيب لك المانجا اللى فى جنينتكم كمان..وكتم ضحكاته وهو يستكمل بس ركزى وانت نايمة الله يسترك..
هتفت فى غيظ :- بتتريج عليا.. مااشى يا حسام..خلى ولدك يطّلع له مانجاية فى جفاه.. صمت فى صدمة يتطلع اليها.. فلانت ملامحها وبدأت فى الضحك وهى تراه على هذه الحالة.. لتهتف مشاكسة إياه :- هتسميه ايه.. !!؟.. لتنفجر ضاحكة.. نسميه مانجاوى.. ليستفيق هو من صدمته اخيرا وهو ياخدها بين ذراعيه معتصرا إياها لاحضانه غير عابئ بكفيها ووجها الذى تغطيه اثار المانجو.. لتهمس فى احضانه متسائلة :- فرحان يا حسام..!!؟..
ليجيب فى سعادة :- فرحان بس.!!؟.. ده الدنيا مش سايعانى من الفرحة.. لتهمس من جديد تكتم ضحكاتها :- طب انا نفسى فى.. ليقاطعها فى ترقب وهو يبتعد عنها ليغير ملابسه ليندفع لإحضار ما تشتهيه مهما كان :- ايه.. نفسك فى ايه.. جولى..!!؟.. لتنفجر ضاحكة وهى تفتح له ذراعيها :- نفسى فى.. ولا حاجة.. كنت بضحك معاك.. ليبادلها ضحكاتها وهو ياخدها لاحضانه
سألت ام سعيد الحاجة فضيلة :-احضر الفطار يا حاجة !؟ أومأت الحاجة برأسها ايجابا لكنها استوقفتها قائلة :- حضريه ليا على السفرة لوحدى.. وطلعى صينية كبيرة عليها خيرات ربنا لأوضة عاصم.. -حاضر.. هتفت ام سعيد وهى تهم بالذهاب لتنفيذ الامر.. لكن الحاجة فضيلة استوقفتها من جديد قائلة :- و بجولك ايه.!؟.. تحطى الصينية جدام الباب وتخبطى مرة وتروحى سمعانى..!!؟..
أومأت المرأة من جديد هاتفة :- حاضر يا حاجة.. وتندفع لتلبى الأوامر.. وتصعد بصينية الطعام وتطرق الباب مرة واحدة وترحل.. فتح عاصم الباب ليجد صينية الطعام فيهتف فى سعادة وهو يحملها للداخل :- اه.. الحاجة كلها واجب والله حاسة بابنها لتبتسم زهرة وهى تنهض تجلس قبالته تتناول لقيمة لتضعها فى فمه يتناولها فى جوع حقيقى ويعقبها باخرى لتهتف هى ضاحكة :- بالهنا والشفا يا عصومى..
ليهتف حانقا :- ايه عصومى ده..!؟.. احنا مبنجلعوش رجالتنا.. لتصمت هى دون ان تعقب.. ليسألها حتى يخرجها من نوبة صمتها راغبا فى ارضاءها :- انت جولتى ايه.!؟.. عصومى.. ماشى..لتبتسم هى فى سعادة.. ليكمل مؤكدا.. بس بجولك ايه..!!؟. ده بناتنا وبس.. مش جدام الناس.. تمام..!!؟..
لتهتف فى فرحة :- تمام.. وتضع لقيمة جديدة بفمه يتقبلها فى سعادة.. انتهيا من افطارهما.. وهبطا معا لملاقاة الحاجة فضيلة التى استقبلتهما بالترحاب.. لتسأل عاصم بنبرة مؤنبة :- هو انت لازماً تخرج النهاردة !؟ اجعد استريح.. ليهتف عاصم :- حاجات كتير اتعطلت فى رجدتى يا حاجة.. كفايانا بجى نشوفوا مصالحنا..
وهم بالرحيل لولا تذكره انه نسى حافظته..لتنظر الحاجة فضيلة لزهرة نظرة ذات مغزى.. لتندفع زهرة منفذة وهى تهتف صاعدة الدرج :- انا هجيب لك المحفظة يا عصوم.. وتقطع كلمتها الاخيرة المقصودة.. متصنعة الفزع وهى تضع كفها على فمها تنظر لعاصم الذى كان يضغط على اسنانه غيظا لتندفع صاعدة الدرج متصنعة الخوف ليتوجه بكليته للحاجة فضيلة والتى كانت تتابع التمثيلية المقدمة من ابنة اختها فى استمتاع قائلا فى توتر يحاول مداراته :- طب.. انا هطلع أچيبها يا حاچة..
انا عارف.. اصلها مش هاتعرف.. وبدأ فى صعود الدرج فى تؤدة.. لتشير اليه بالصعود متفهمة.. وما ان اختفى عن مجال رؤيتها حتى انفجرت ضاحكة.. وقفز هو الدرج عدة درجات فى كل مرة حتى وصل اخيرا لباب حجرتهما فطرق فى غيظ..هاتفاً :- افتحى يا زهرة..
لتجيب وظهرها مستندا على الباب وهى غارقة فى ضحكاتها:- لا.. ليهتف من جديد فى نبرة مازحة :- افتحى يا زهرة بجلك.. لتطلب فى مرح :- قول كلمة السر الاول.. ليتلفت حوله يميناً ويسارا قبل ان يهمس لها قرب الباب :- عصومى..
لتنفجر ضاحكة وهى تفتح الباب..ليدخل مسرعا ويتلقفها بين ذراعيه.. تيقنت الحاجة فضيلة بالأسفل ان التمثيلية التى قامت بإخراجها.. قد نجحت نجاحاً منقطع النظير عندما مرت عدة ساعات ولم يظهر عاصم فى الأسفل من جديد.. فأنفجرت ضاحكة فى حبور..
الخاتمة -وااااه.. اجول بوووه ويجولوا الحاجة فضيلة اتجننت..!؟.. صرخت الحاجة فضيلة فى أحفادها.. وهم يتقافزون حولها فى مرح وشقاوة.. صرخاتها استدعت ضحكات سهام وزهرة الجالستان أمامها.. غير قادرات على التدخل لانقاذها من عبث أطفالهما..
لتعاود الصراخ من جديد.. ولكن فى سهام وزهرة هذه المرة..:- كل واحدة تحوش عيالها.. انا مش جادرة عليهم.. ولا كل واحدة فيكم فالحة تخلف بس.. ايه داخلين مسابجة!!؟.. انفجرت كل من زهرة وسهام ضاحكتين.. وبطن كل منهما المنتفخة فى شهورها الاخيرة تهتز بشدة..
واعادت الحاجة فضيلة هتافها فى الاطفال :- هات يا واد السبحة.. ابعدى يا بت عن المصلاية.. ثم توجهت بحديثها لزهرة وسهام فى نفاذ صبر :- بالكم..!؟.. انا سيبهالكم انتوا وعيالكم الجرود دوول وجايمة.. اما أروح اجعد مع الحاج مهران شوية.. بدل جعدتكم اللى تتعب دى.. وحملت مسبحتها ومصحفها وتحركت فى تثاقل بحكم سنها وتوجهت للدرج تعتليه.. ونظرات سهام وزهرة تتبعها.. حتى ما ان ابتعدت سألت سهام فى حزن :- هى لساتها يا زهرة.. بتجعد فى أوضة ابويا الله يرحمه.. وتكلمه كنه عايش!!؟..
هزت زهرة رأسها ايجابا وهى تقول :- أه يا سهام.. احنا على طول مش حابين تفضل لوحدها.. وبنحاول انا وعاصم نقعد معاهم.. بس اديكى شوفتى.. بتتحجج بشقاوة العيال عشان تقعد لوحدها فى أوضة عمى الله يرحمه... برغم ان روحها فيهم.. بس... هنعمل ايه..!!؟.. سبع سنين من يوم ما عمى أتوفى.. وهى مش مصدقة انه غاب عنها.. دى انا بسمعها بتحكيله كل حاجة بتحصل فى السرايا.. كأنه سامعها وبيرد عليها.. ومرة دخلت عليها وهى على حالتها دى.. زعقت فيا.. وقالت لى.. محدش يخش عليها هى والحج الا لما يستأذن..
دمعت عينا سهام وهى تهمس :- يا حبيبتى ياما.. طال الصمت حزنا على حال الحاجة فضيلة الا ان هتفت زهرة محاولة اخراج سهام من حالة حزنها على امها.. فهمست بصوت يغلّفه المرح :- شوفيلك حل فى باسل ابنك ده!!؟.. شايفة بيعمل ايه..!؟..
انتبهت سهام عند ذكر اسم باسل ولدها.. لتنفجر ضاحكة على افعال ابنها ذو الأعوام التسع.. وهو يهتف فى ابنة خاله سندس صارخا :- تعالى هنا يا بت.. يا اللى اسمك اوله ذى أخره انتِ... تحركت سندس والتى كانت تشبه زهرة لحد كبير ناحية باسل الذى يكبرها بحوالى عامين.. لتقول فى براءة.. وهى تخرج لسانها فى حرف السين.. فيبدو كثاء :- نعم يا باثل.. هتف باسل مغتاظا :- انتِ هاتعرفى امتى تنطجى اسمى صوح!؟..
لتأخذ سندس جانباً وتبكى وحيدة.. وهنا يتدخل مهران الصغير دفاعا عن توأمته سندس. :- انت بتكلمها كده ليه !؟ عارف يا باسل لو ضايجتها تانى.. هزعلك..!؟.. لينفجر باسل ضاحكا.. وهو يقول ساخرا :- طب ابجى ورينى.. هتزعلنى كيف..!؟.. كانت كل من زهرة وسهام تشهد هذا الحوار.. تداريان ضحكاتهما.. لتهمس سهام :- ولدى باسل طالع لخاله.. هوارى أصيل.. ولا حاجة بتهمه..
لتنفجر زهرة ضاحكة :- انت هتقوليلى..كلهم هوارية حتى مهران سبحان الله كأنى شايفة فيه عمى.. عقل وقوة مع بعض.. هتف مهران مقتربا من امه متسائلا فى حنق:- هى بنتك الهبلة دى بتسمع كلام باسل ليه ومش بتعارضه..!؟.. طلعة لمين دى!!؟.. لتهتف زهرة ضاحكة :- طالعة لامها يا حبيبى..
لتقهقه سهام فى المقابل... التى بادرها مهران متسائلا:- هى فين تسنيم يا عمتى.. مش بتاجى معاكى ليه..!؟.. لتجيب سهام متحدثة عن طفلتها التى تصغر مهران بحوالى عامين وهى تنظر لزهرة :- تسنيم روحها فى جدها جدرى.. مش بتفارجه لا فى صحيان ولا فى نوم.. وهو روحه فيها.. تجعد تحت رجله تنفذ له طلباته وهو يحفظها قرآن..سبحان الله..مش عارفة جايبة التجوى دى منين !!؟..
لتنفجر زهرة ضاحكة بدورها.. لتسألها سهام :- مفيش اى اخبار.. عن ندى ونبيل..!؟؟.. انا بطلت اسأل حسام من زمن.. لتؤمى زهرة برأسها نفياً :- للاسف يا سهام مفيش.. اهو شوفى بقالهم أكتر من خمس سنين متجوزين.. وربنا مأردش باولاد.. ندى قالت لى فى اخر مكالمة بِنَا.. انها رايحة لدكتور جديد.. وَيَا رب يكون فى ايده الشفا..دعواتك..
لتهتف سهام فى صدق :- يااارب لتستطرد سهام متسائلة :- طب و زكريا..!!؟.. برضك لِسَّه معرفينش فين أراضيه.. ولا بعت لعاصم... ده أمه الحاجة بخيتة هتموت عليه. هزت زهرة رأسها نفياً وهى تعقب قائلة :- كسبانة بتقول انه بيكلم أمه على فترات بعيدة.. وفى كل مرة بغير النمرة ومبيعرفوش يوصلوله..وأهى البت كسبانة طلعت جدعة وبتراعيها و قاعدة مبسوطة معاها هى وولدها..
وفجأة ينتبه الجميع وقطعوا استرسال حديثهم.. وخاصة زهرة التى ارتسم على وجهها الوجوم.. عندما دخلت سمية باكية كعادتها يتبعها طفلاها صارخة :- وينه واد عمى!!؟؟.. يشوفلى صرفة مع عدلى بن محروس.. هتفت سهام فى نبرة من اعتاد على هذا المشهد :- خير يا سمية.. ايه حُصل تانى..!!؟.. صرخت سمية :- خلاص مجدراش استحمله.. لا هو ولا أمه..الله يرحمك ياما جالتلى بلاش.. وانا اللى ركبت راسى واتجوزته بن أمه ده.
دخل عاصم فى تلك اللحظة هاتفاً فى سمية :- كيف تجولى على چوزك كده.. !!؟.. چوزك سيد الرجالة.. انتفضت فى صدمة لظهور عاصم المفاجئ لكنها استطردت باكية:- ماهو يا واد عمى.. أصله عمره ما عمل لى خاطر.. وعلى طول جالل من جيمتى.. رق عاصم لبكاءها فهتف :- خلاص.. هكلمه يا سمية.. بس انتِ برضك راعى انه چوزك وأبو عيالك.. هنا هتفت زهرة :- أه.. عاصم..ألحقنى..
اندفع عاصم باتجاهها هاتفاً :- ايه خير.. نطلع على المستشفى.. استندت عليه ناهضة :- لا.. عايزة استريح فوق شوية.. مصمصت سمية شفتاها وجذبت اطفالها خارجا وهى تلقى التحية بحقد.. بينما انفجرت سهام ضاحكة وهى تلقى التحية هى الاخرى وهى ترى زهرة تتكئ على عاصم فى دلال صاعدا الدرج.. وفى اعلى الدرج عندما تاكد عاصم من رحيل اخته وابنة عمه حملها بين ذراعيه فى سعادة على الرغم من علمه ان زهرة بصحة جيدة ولا تعانى أيه آلام سار متخطياً تلك الردهة وهو ينظر اليها مشاكساً.. وما ان وصل بها امام غرفتهما حتى همس بإذنها :-انت مش هتبطلى عمايلك دى كل اما تشوفى سمية..!؟
هتفت كطفلة مشاغبة :- لا.. مش هبطل انفجر ضاحكا أمرا :- طب.. افتحى الباب.. لتهلل هى كطفلة صغيرة :- لا.. خلينى كده شوية.. فتتعالى قهقهاته..وهو يقول :- وماله.. خليكى.. لتهمس وهى تتعلق برقبته وتشبك كفيها خلف عنقه.. متصنعة العتاب :- ايه خلاص.. تقلت عليك انا واللى فى بطنى..!؟..
همس بشوق على مسامعها :- ولو مية سنة يا زهرة.. مدت كفها لتدير مقبض الباب.. ونظراتها متعلقة به وهى تهمس بشوق :- واااه.. بحبك يا واد خالتى.. لينفجر ضاحكا وهو يدفع الباب بقدمه..ليدلفا للغرفة.. فتمد كفها تغلق الباب.
باب الحقد والانتقام والكراهية وتفتح نوافذ الامل.. وشرفات الحب.. فقد أنهت على يديها ميراث الدمع ليبدأ عصرا جديدا.. من ميراث العشق تمت الجزء التالي رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) تقديم الرواية
تائه هو ما بين عشقه لأرضه و بحثه المحموم عن ذاته.. و ما بين رغبة و رغبة يندفع مبتعدا فى رحلة طويلة باحثا فيها عن ذاته.. كانت موالا من التيه و الوجع .. فهل ستنتهى غربته و يعود لعشقه أم سيظل تائها لا يعرف لسفينة قلبه مرسى!؟ فصول رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الأول
تسلل ذاك الظل الأسود من خلف أسوار سراىّ الهوارية .. و اندفع مبتعداً قبل ان يشق الفجر خيوطه الاولى في عتمة الليل .. ما ان وصل لنهاية ذاك السور الذى يحفظ تفاصيله عن ظهر قلب الا و توقف لحظات و استدار في إجلال يتطلع لتلك السراىّ التي شهدت عمره بالكامل فقد تكون تلك المرة الأخيرة التي يتطلع اليها .. غاب عن واقعه لحظات و أخيرا استدار موليا ظهره عنها وهو يزفر في ضيق .. ثم اندفع مستكملا طريقه عازما على المضي فيه ..
خاض تلك الأرض الزراعية التي تفصل السراىّ عن تلك الدار التي خصصها له عاصم بن عمه ليعيش بها مكرما مع امه .. وها هي تقبع فيها منعمة أخيرا بعد سنوات من الغربة و التيه الذى على ما يبدو مكتوب على كليهما سمع من البعد صوت عواء احد ذئاب الجبل في تلك الليلة شديدة البرودة.. شد كوفيته الصوفية التي تغطى وجهه و رأسه بالكامل لا تُظهر من وجهه سوى عينيه..
ربما يستشعر المزيد من الدفء و ها قد وصل لباب داره .. كان من المفترض به الدخول مباشرة لحجرة امه ليودعها لكنه تذكر ان زوجة أخيه باقية في الدار بناء على طلبه لخدمتها و لتجد لها ملجأ بعد كل ما حدث من سليم أخيه الغير شقيق .. طرق الباب عدة طرقات .. و انتظر عدة لحظات ليعاود الطرق من جديد حتى تناهى لمسامعه صوت انثوى مرتعب خلف الباب يسأل في ذعر :- مين اللى عيخبط..!؟..
-انا زكريا يا مرت اخوى .. افتحى .. اندفعت كسبانة تفتح الباب في تعجب :- سى زكريا ..!!؟.. اتفضل .. -معلش .. طأطأ رأسه تأدبا ما ان طالعه محياها.. انى چاى في وجت مش مناسب .. بس كان لازماً اشوف امى .. هتفت كسبانة في عتاب:- متجلش كده يا سى زكريا .. ده دارك و احنا ضيوفك .. حد هيستأذن في داره برضك ..!؟..
تنحنح في احراج و توجه في سرعة الى حيث غرفة امه التي و كأنها كانت تعلم بمجئ ولدها الليلة فكانت بانتظاره ..تلقفته بين ذراعيها ما ان هل عليها من الباب .. و هتفت وعيناها تكللها الدموع :- خلاص ..نويت يا زكريا .. هز رأسه بالإيجاب دون ان ينطق حرفا واحدا .. ربتت على كتفه و قبلت هامته التي تسكتين بين ذراعيها..
و همست في وجل :-..كن الفُراج مكتوب علينا يا ولدى ..تنهدت في حزن .. مع السلامة يا جلب امك .. خلى بالك على نفسك ولو ضاجت بيك .. ارچع يا زكريا .. متجاوحش ..ومتغيبش على امك .. و طمنى عليك يا ضنايا .. هز زكريا رأسه موافقا على كل كلمة نطقتها امه وهو بين ذراعيها .. لكنه كان عازما ألا يعود حتى يحقق ما أنطوت عليه نفسه.. خرج مسرعاً جاذباً حاله من دفء أحضانها الذى حُرم منه طويلا غير قادر على المضي في البقاء أكثر حتى لا يفتر عزمه و تلين إرادته في الرحيل ..
اندفع خارجاً من باب الدار الا ان كسبانة اندفعت خلفه تستوقفه:- سى زكريا .. وقف مجيباً نداءها لتدفع بين ذراعيه بلفافة ما وهى تقول :- خد دوول .. حاچة بسيطة من خيرك .. تعينك على طريجك.. قال في امتنان :- تشكرى .. و هم بأن يستدير مغادراً ألا انه توقف لبرهة حتى قال :- مش هوصيكى يا مرت أخوى على امى .. قاطعته هاتفة :- دى في عينى يا سى زكريا متجلجش ..
ابتسم في امتنان :- لو عزتوا اى حاچة اطلبوا من عاصم اللى انتوا عايزينه .. ومتجلجيش كله من مالى .. انا تركت ورثى كلاته تحت يده عشانكم .. سألت في فضول :- انت هتروح فين يا سى زكريا ..!!؟.. -معرفش .. ارض الله واسعة .. و رزجه أوسع .. مش هوصيكى على امى تانى .. و اشار لبطنها .. وعلى واد اخوى ولا بته ..ربنا يجومك بالسلامة ..
ابتسمت في خجل :- تسلم يا سى زكريا ربنا يجدرنى و أرد لك چميلك و معروفك معانا انا واللى في بطنى .. هتف زكريا في عجلة :- ده مش چميل ولا معروف .. ده حج اللى في بطنك .. اندفع خارجا من الدار وهى تهتف خلفه :-مع السلامة يا سى زكريا .. ربنا يسلم لك طريجك.
وما ان أغلقت الباب خلفه.. حتى استدار مودعاً بنظرات حزينة داره التي لم يقطنها و كأنما اصبح قدره الوداع لكل الاماكن و الأشخاص.. لكن ما باليد حيلة لم يعد يطيق البقاء في بلد اصبح كل شيء فيها برغم ما فعله عاصم بن عمه لاجله يذكره انه ما زال زرزور ولن يكون زكريا ابدا .. فأقسم انه لن يعود اليها حتى يصبح زكريا الهوارى بحق... أخيرا وصل للجانب الشمالي من النجع .. وانحرف قليلا ليصل لمقابر الهوارية ..صعد تلك التبة القريبة وقطعها مرددا بعض آيات من القرآن الكريم والفاتحة على روح اموات الهوارية جميعا .. حتى وصل لقبر ابيه غسان الهوارى.
مسح التراب عن شاهد القبر بكفه المرتجف و جلس صامتا للحظات واخيرا تحشرج صوته وهو يقرأ الفاتحة في تأثر و اختتمها وهو ينظر لاسم ابيه على الشاهد في إمعان .. اعتدل قليلا و زاد وجيب قلبه و كأنه بالفعل في حضرة ابيه .. وتنحنح في تردد هامساً :- كيفك يابا ..أنى عارف ان لو لساك عايش مكنتش هستچرى اجولها لك ..
معلوم .. ماهو اصلك كيف لواد عويل زيي يجولك يابا ..!؟...وانت من الاساس مش مصدج انه ولدك ومن صلبك .. صمت قليلا و تنهد بضيق و أخيرا هتف بصوت متحشرج :- بس انى ولدك يا حاچ غسان .. ومن صلبك و واحد من الهوارية اللى خلتنى بدل ما ابجى واحد من اسيادهم ابجى خدامهم .. صمت لحظات من جديد و أخيرا استطرد في عزم :-..بس عهدا عليا .. و جدام تربتك ما انى راچع النچع ده تانى .. الا و انى زكريا الهواري على حج ..و يومها هاجيلك تانى اجف على جبرك في نفس مكانى دِه ..
عشان تشوف انى بجيت ايه .. و تجول يا ريتنى اعترفت بيه و رفعت راسه بين الخلج و خليته سيدهم باسم ابوه .. لكن انى هرچع ..هرجع يابوى .. وهكون واحد من اسياد الهوارية ..بس مش باسمك اللى بخلت عليّ بيه .. لاااه.. باسمى انى يا حاچ غسان .. و اخرج زكريا الناى من طيات ملابسه و حفر بعنف بجوار قبر ابيه و دفن نايه و كأنه بذلك يودع زكريا القديم.. زكريا الذى كان يحتاج لذاك الناى بديلا عن صوته الذى لم يكن يسمعه احد خوفا و قهرا .. لكن بعد اليوم لن يخرس صوته و لن يدع حقه مهما حدث ..
و اندفع زكريا و كأن الشياطين في أعقابه تاركا المقابر خلفه متوجها للطريق الشرقي للنجع حتى يستقل احدى العربات التي بدأت تتوافد على الطريق مع خيوط الفجر الاولى .. دفع نفسه في احداها بالفعل و التي توقفت ما ان أشار اليها .. و ألقى بنظرة أخيرة على النجع الذى قضى فيه حياته كلها نظرة مودعة تحمل الكثير من الوجع و الحسرة مخلوطة بعزم لا يلين وإصرار على عدم العودة .. و القسم مرة أخرى بألا تطأ قدميه ارض ذاك النجع الا و هو زكريا الهوارى على حق ..
دخلت سهام تترنح في خطواتها و بطنها المنتفخة تسبقها فقد دخل حملها بالفعل شهره التاسع .. دخلت تتطلع الى حيث تجلس أمها الحاجة فضيلة دوما .. فوجدتها برفقة زهرة تتسامران ألقت سهام السلام و جلست في تثاقل وهى تلتقط أنفاسها بتتابع مرهق .. ابتسمت زهرة في مودة هاتفة :- ايه يا سهام .. خلاص ..بقيتى على أخرك ..
أومأت سهام إيجابا و هي غير قادرة على الرد ومازالت تلتقط أنفاسها .. ابتسمت الحاجة فضيلة لأبنتها في محبة واخذت تدعو لها :- ربنا يرزجك ساعة سهلة من عنديه جادر يا كريم .. ردت سهام أخيرا :- يا رب يا حاچة ..ياارب ثم استدارت لزهرة و قد استعادت روحها المرحة بعد ان هدأت سرعة أنفاسها المتلاحقة :- و انتوا يا زهرة .. فين الإنتاچ ..!!؟.. كِده النتيجة واحد صفر للتهامية..
انفجرت زهرة ضاحكة على تعليق سهام .. و الذى على الرغم من مرحه الا انه لمس وترا حساسا داخلها .. فها هي شارفت على تسعة أشهر زواج ولم يأذن الله بعد بخبر سعيد ينبأ بمولود في طريقه اليهم .. كانت الحاجة فضيلة بعينيها الخبيرة هي التي استشفت ما شعرت به زهرة رغم ضحكاتها فقالت في حزم :- كل شيء بأوانه .. كله بأمر الله .. حد ليه في نفسه حاچة ..!!.. كله مجدر و مكتوب ..
ابتسمت سهام مؤكدة على كلام أمها :- صدجتى يا حاچة .. في تلك اللحظة دخل عاصم و هو يرغى و يزبد .. و جلس ملقياً جسده على الأريكة بجوار أمه وهو يحمل بين أصابعه ورقة مطوية ..صمتت النسوة الثلاثة في قلق وأخيرا ربتت امه على كتفه متسائلة :- خير يا ولدى ..!؟ فيه حاچة كفالله الشر ..!!..
هتف عاصم في حنق :- زكريا ياحاچة ..سافر زى ما جال وساب وراه الورجة دى في أوضة الچنينة .. بيوصينى بأمه و مرت اخوه .. و بيجول مش عارف هو ممكن يرچع ميتا شهقت الحاجة فضيلة :- هو برضك عِمل اللى ف راسه و هملنا وهمل امه الغلبانة اللى ما صدجت اتلمت عليه ..!!؟.. وااه يا ولاد غسان .. واخرتها معاكم ..!!.. زفر عاصم في ضيق .. وأخيرا هتف في دعاء صادق من القلب:- ربنا يسهله طريجه .. همست سهام و زهرة مؤَمِنات..
اندفع عاصم من على الأريكة ناهضاً يصعد الدرج لحجرته فنهضت زهرة مستأذنة سهام وخالتها و اندفعت خلفه .. ما ان ولج باب الغرفة حتى كانت في عقبه .. أغلقت الباب و هو يخلع عباءته و عمامته و يضعهما جانبا و يلقى بجسده على الفراش في إرهاق واضح .. جلست على طرف الفراش بجواره، وضعت كفها على صدره تربت عليه في حنو، فهى تدرك مدى حزنه على رحيل زكريا، ذاك الأخ الذى اعتقد انه سيظل بجواره سندا له..
رفع كفه يلتقط كفها من على صدره ليقبل باطنه وهو مغمض العينين .. و فجأة همس متسائلا :- مالك يا زهرة .. !؟.. ابتسمت في سعادة .. فهو أبداً لم يخيب ظنها .. هو قادر تماما على استشعار فرحها وحزنها حتى ولو أغلقت عليهما الف باب وباب في أعماق نفسها .. وكيف لا ..!؟.. و هوهناك يسكن حيث منابع الروح .. حيث هو دوما وابدا مصدر كل فرحة .. و مزيل كل ألم وحزن ..
دمعت عيناها .. و برغم انه كان مغمض العينين الا انه نهض في عجل معتدلا ليواجهها ..و ما ان رأى بريق الدمع المتراقص في مأقيها حتى جذبها في رفق لأحضانه .. همس بالقرب من أذنها في نبرة حاول ان يكسوها بغلاف مرح:- هتجولى في ايه ..!؟.. ولا أجررك بطريجتى ..!!؟.. همست بدورها في صوت متهدج تجاريه في مرحه:- لا .. مش هعترف .. قررنى..
انفجر ضاحكاً وهو يجذبها حتى تسقط على الجانب الاخر من الفراش ليشرّف عليها وهو يحاصرها بين ذراعيه .. وما ان اقترب منها في نظرات عابثة حتى رفعت ذراعيها في استسلام هاتفة في ذعر مصطنع :- خلاص حرمت يا عصومى بيه .. هعترف .. قهقه عاصم وهو يهتف :- ايوه كده .. الطيب احسن .. ثم تبدلت نظرته .. ونبرة صوته ليشوبها خليط من الاهتمام و الحنان وهو يستطرد متسائلا :- في ايه .. عن چد يا زهرة ..!؟
قررت ان تلقى ما بجعبتها دفعة واحدة .. فهى لا قبل لها للمواربة او الدوران .. خاصة امام تلك النظرات التي تهيم فيها و بها عشقاً .. -الصراحة يا عاصم .. انا قلقانة من تأخر الحمل .. صمت دون ان يعقب بكلمة و نظراته لازالت تجول على محياها المضطرب .. وأخيرا تنهد وكفه تبعد احدى خصلات شعرها عن خدها و انحنى في عشق يلثم جبينها ..و همس :- بجى ده اللى مضايجك ..!؟..
ردت في جدية :- ايه .. حاجة مش مهم اقلق عليها ..!!؟.. -لاه .. مجلتش كده .. بس كل حاچة بأوان .. -يعنى انت مش مستعجل على موضوع الاولاد ده ..!؟.. تطلع الى عمق عينيها وهو يهمس صادقا :- انا مجدرش اجولك مش هاممنى .. يبجى بكدب عليكى ..انا لو مهتم بموضوع الخلفة دِه ومتسربع عليه يبجى عشان حاچة واحدة بس . -ايه هي ..!!؟؟.. سألت في اهتمام وفضول ..
-انى افرح أبوى يا زهرة جَبل ما .. و توقف دون ان يكمل ..لكنها فهمت ما كان يقصد ..فاستطرد وهو ينظربعيدا عنها شاردا .. نفسى احط بيده ولدى وافرح جلبه و اجوله يا حاچ ده واد ولدك اللى عشت طول عمرك تتمنى شوفته و اللى هيشيل اسمك و اسم الهوارية .. تنهد من جديد وهو يعاود النظر اليها .. انتِ عارفة يا زهرة صحة أبوى في النازل و بتتأخر كل يوم عن اليوم اللى جبله ..عشان كده لو متسربع هيكون ده السبب لكن أنى مش هاممنى حاچة غيركِ.. خلاص هعوز ايه تانى من الدنيا و انتِ چنبى ..!!؟..
رفعت ذراعيها تطوق عنقه وهى تهتف في عشق مازحة:- صُح يا عصومى ..!؟.. ليقهقه في سعادة :- صُح يا عيون عصومك ..!؟.. ليكون دورها الان لتقهقه وهى تغيب في سعادة بين احضانه ..
كانت السيارة تتهادى على الطريق الصحراوى متجهة في عزم الى القاهرة .. تطلع زكريا الى الصحراء الممتدة على جانبي الطريق و شرد في الشمس التي توسطت كبد السماء ..و غاب ذهنه في تذكر النجع و احواله .. و ظهرت صورة سهام امام ناظريه فابتسم رغما عنه في سعادة ممزوجة بالحسرة ..و تذكرعندما رأها ذات مرة تخطو لداخل السراىّ متباهية بحملها .. عيناها تشع فرحة لا توصف ..
كم تمنى لو كان هو السبب في تلك الفرحة .. وكان هو صاحب السبق في ذرع ذاك الفخر في مشيتها المترنحة المتباهية .. قفزت الابتسامة على شفتيه من جديد ..لكن هذه المرة .. لانه بحق تمنى لها السعادة .. حتى و لو في البعد عنه .. فهى على كل حال.. ابنة عمه الغالية .. التي شبت على كفيه و أحاطها دوما بعنايته .. كما ان جميل عاصم أخيها .. سيظل يطوق عنقه ما دام حياً ..فلولاه ..لظل حقه ضائع و كان لايزل زرزور .. فقط زرزور .. بلا هوية او اسم عائلة يشرف اى ممن ينتسب اليها ..
قرقرت معدته.. فتذكر الطعام الذى يحمله في اللفافة التي وضعتها كسبانة بين كفيه عند مغادرته ..شكرها في سره و بدأ في تناول طعامه بشهية و قد دفع ببعض الشطائرلجيرانه من المسافرين ..
انهم الان على مشارف القاهرة ..هكذا هتف احد المسافرين .. هو لا يعرف أين يذهب ..!؟..ولا حتى أين يبيت ليلته ..!؟.. وما المفروض عليه فعله بالضبط ..كل ما يعرفه انه يخط اولى الخطوات في طريقه الذى ارتضاه لنفسه .. لن يعود مهما حدث .. لن يطأ ارض ذاك النجع منكس الرأس ابدا .. لن يدخله الا مرفوع الهامة و الكل يشير اليه بالبنان ..
فجأة .. استيقظ من شروده على همهمات داخل السيارة التي تقلهم و لم يعرف سبباً لها .. تطلع في الوجوة المكفهرة و الهمهمات الساخطة و تنبه ان السيارة تُبطئ من سرعتها و أخيرا .. عرف السبب .. أحد كمائن الشرطة تسد الطريق امام السيارات العابرة ..
توقفت السيارة امام بوابة الكمين مباشرة ليندفع رأس احد الضباط الى النافذة و هو يهتف بالركاب:- كله ينزل و معاه بطاقته .. ياااللاه.. بدأ الجميع في النزول و تقديم الهويات الشخصية لذاك الضابط الحانق الذى يتصبب جبينه عرقا رغم برودة الجو ..
كان يتناول الهويات من البعض فيعيدها اليه من جديد و البعض الاخر يحتفظ بهويته هاتفاً فيه بنزق مقيت و هو يشير لأحد الأركان البعيدة نوعا ما :- اركن هنا على جنب .. و أخيرا جاء دور زكريا ليقدم هويته في هدوء تلك الهوية التي استخرجها له عاصم تأكيدا لهويته الجديدة كفرد من الهوارية.. تطلع اليها الضابط في اهتمام ثم رفع نظراته متطلعاً لزكريا بنظرة شاملة من قمة رأسه حتى اخمص قدميه ..
ثم هتف فيه بصوت جهورى:- أركن على جنب مع الباقيين .. رد زكريا في تعجب :- بس يا باشا .!!.. انا بطاجتى سليمة .... هتف الضابط في حنق :- هو انت اللى هتعرفنى اذا كانت سليمة و لا مضروبة ..ما تيجى تعلمنى شغلى.. اركن على جنب من سكات .. قال كلماته الأخيرة و هو يدفع بزكريا من كتفه لينضم الى حيث يقف الباقون بلا حول و لا قوة ..
كظم غيظه .. فَلَو ان احد من النجع فعلها و دفع به هكذا لكان الان في عداد الأموات .. لكن هنا .. هو غريب و لا يملك من أمره شيء .. انه قانون جديد عليه احترامه .. قانون يختلف تماما عن قوانين نجع الصالح التي تعتبر اسم عائلتك الذى يزيل اسمك كاف تماما لتحمل صك الرفعة او الدناءة ..
انتهى الضابط من فحص هويات الجميع .. ليستقل المحظوظون منهم السيارة من جديد .. بينما من وقع في الجانب الاخر لسوء حظه ولم ينل الحظوة عند ذاك الضابط المتجهم فكان مصيره الدفع به الى سيارة الشرطة في صندوقها الخلفى لتنطلق بهم الى قسم الشرطة .. و التهمة ..!؟.... مجرد اشتباه...
بدأت جحافل الليل في إسدال أستارها .. و زكريا لايزل متكوم بجوار زملائه في احد أركان القسم .. يروح و يغدوعشرات الضباط و العساكر دون ان يهتم احدهم بإلقاء نظرة على هؤلاء المهمشين في ذاك الركن البعيد .. و أخيرا .. جاء احد الضباط الذى هتف في حنق :- ايه دوول ..!؟.
رد احد العساكر في سرعة بعدإلقاءه التحية العسكرية في انضباط :- دوول وارد الكمين يا فندم .. أشار الضابط اليه في قرف :- هاتهم خلينا نخلص و نشوف حكايتهم ايه !!.. استعرضهم الضابط في لامبالاة .. و استعرض هوايتهم الشخصية الموضوعة على المكتب .. و عندما طالع هوية زكريا بدأ في تفحصه من جديد و أخيرا سأل في ريبة :- انت صعيدى طبعا..!؟..
هز زكريا رأسه مؤكدا:- ايوه يا باشا .. تطلع الضابط من جديد لهوية زكريا و سأل مجدداً:- من محافظة قنا .. مظبوط ..!!؟.. أعاد زكريا هز رأسه بالإيجاب .. فهتف الضابط في سخرية :- طب اركن لى انت بقى على جنب كده .. لحد ما اخلص من الباقيين و أفضالك .. هتف زكريا في حنق :- ليه يا باشا .. انا بطاجتى سليمة ومعملتش حاچة..
رد الضابط متهكما :- ما ده اللى هانعرفه بنفسنا .. لو حضرتك سمحت طبعا .. و نشوف انهى داهية اللى حدفتك علينا من بلدكم مش يمكن عامل مصيبة هناك و لا عليك تار .. و لا خدت بتار و هربان .. هتف زكريا في حنق متزايد :- و الله يا باشا مفيش الكلام دِه.. هو عشان اكمنى صعيدى يبجى يا اما هربان يا جتال جتلة .. !!؟..
هتف الضابط و قد بلغ به الحنق مبلغا جعل زكريا يزعن رغما عنه لمطلبه بالبقاء في احد الأركان حتى يعود لاستجوابه من جديد .. جلس زكريا في الركن المشار اليه وهو ينعى حظه العسر الذى أسقطه في يد احد كمائن الشرطة وقدمه لم تطأ ارض المحروسة بعد .. وما تكحلت عيناه برؤية شوارعها الواسعه ولا ميادينها المكتظة ..
ابتسم في حسرة .. وهو يهمس لنفسه .. اول خطوة لك في مشوارك الطويل بدأت باشتباه في قسم شرطة .. فما التالى يا زكريا!؟..و أين ذهبت بركة دعاءك يا حاچة بخيتة ..!!..تحولت ابتسامة الحسرة تلك لابتسامة راحة عندما تذكر وجه امه .. و ارتكن دون ان يدرى على راحة كفه .. و راح في سبات عميق ..
حركات متسارعة و جرى هنا وهناك في تلك الردهة الطويلة التي تنتهى بغرفة العمليات .. الان فقط أعلن طفل سهام و حسام رغبته في الوصول لدنيانا فهرع الجميع لاستقبال الحدث السعيد .. حسام يزرع المسافة الطويلة جيئة و ذهابا في توتر ملحوظ .. الحاجة فضيلة تجلس تقرأ القرأن الكريم و تدعو في تضرع..
عاصم يقف مستندا على احد الحوائط ينظر الى حسام الذى أصابه غدوه و رواحه بعدوى التوتر و القلق على الرغم من عدم رغبته إظهار ذلك .. بينما زهرة تقف على الجانب الاخر من الردهة بالقرب من باب غرفة العمليات تتطلع من الجزء الزجاجى في بابها لعلها تلمح او تسمع اى خبر يطمئن الجميع و لكن لا شيء سوى الصمت المطبق بعد ان كانت صرخات سهام المتألمة تشق الأجواء ..
اصبح الوقت ثقيلا .. و ما من أخبار تهدأ من روعهم .. و أخيرا خرجت احدى الممرضات التي كان اول من لمحها زهرة و ذلك لالتصاقها بالباب ..فصرخت في لهفة :- هاا .. ايه الاخبار..!!؟.. طمنينا من فضلك .. ابتسمت الممرضة في حبور :- الف مبروك .. ولد زى الجمر .. هلل الجميع و كبر .. بينما اندفع اليها حسام يسأل في لهفة :- المهم هي .. سهام .. اخبارها ايه ..!؟..
هتفت الممرضة :- الام بخير متقلقش .. هم خارجين حالا و هاتطمنوا عليهم بنفسكم .. الف مبروك .. دفع عاصم بمبلغ مالى لا يستهان به في كف الممرضة التي كادت تقفز فرحاً.. انتقل الجميع لغرفة سهام التي كانت في إعياء تام يتناقلون بين اكفهم الوليد الرائع و يهنئونها بذاك المولود الذى يعد الحفيد الاول لكل من التهامية و الهوارية على حد سواء ...
هتفت زهرة في حماسة :- هتسموه ايه ..!؟.. هتفت سهام بصوت يحمل الكثير من الإرهاق :- جده جدرى هو اللى اختار الاسم .. باسل .. ان شاء الله .. ابتسم حسام في مودة :- ابويا كان نفسه ياجى .. بس رجليه مش مسعداه .. ربنا يديله الصحة .. هو وصانا لو ولد .. نسميه باسل و لو بت نسميها تسنيم ..
ابتسمت الحاجة فضيلة :- مبروك ماجالكم يا ولدى.. يتربى في عزك و عز چده و يچعله من الصالحين.. هتف الجميع :- امين .. تحرك عاصم من موضعه ليقف مقتربا من اخته ليربت على راسها وعلى شفتيه ابتسامة سعادة لا توصف وهو يقول :- بجيتى ام يا سهام ..!!؟.. ربنا يبارك لك فيه و تشوفيه عريس كد الدنيا ..
دفعت سهام رأسها للخلف قليلا لتقابل نظرات اخيها الحانية :- يخليك ليا يا عاصم و ميحرمنيش منيك ابدا .. وهمست حتى لا يسمعها سواه .. عجبالك يا واد أبوى لما نشوف عوضكم .. وأشارت بطرف خفى لزهرة التي كانت تتخذ مقعدا في احد اطراف الغرفة .. و لم يخف على عاصم نظراتها الشاردة و عينيها التي تلتمع بدمع شوق و ترقب وهى تحمل باسل الصغير بحرص و إجلال بين ذراعيها .. فاستدار يطالع اخته من جديد هامساً :- على الله .. كله على الله يا بت أبوى ..
ثم اخرج من جيب جلبابه حزمة نقدية ليضعها بين طيات ملابس المولود وهو يهتف مغتبطاً :- ده نجوط باسل .. مبروك ما جالكم عجبال ما تخاووه باللى ربنا يجدركم عليه .. انفجر الجميع ضاحكاً ..ثم هتف عاصم :- طب احنا نمشوا عشان سهام تستريح و عشان كمان نطمنوا على الحاچ .. سيبينه لحاله في السرايا .. ثم توجه لامه متسائلا :- خلاص يا حاچة هتجعدى انتى مع سهام و لا تجعد زهرة ..!؟
قاطعهم حسام :- و لا اى حد يتعب نفسيه .. انا اللى هجعد معاها .. ابتسم عاصم :- لازماً حد من الحريم يجعد معاها يا أبو باسل.. انتشى حسام للقبه الجديد فلم يعقب او يعترض على اى قرارات .. فلقد قررت الحاجة فضيلة البقاء بجوار ابنتها مؤكدة ان الحاج مهران لم يعد يطالب بالبقاء مع احد اكثر من مطالبته و راحته بوجود زهرة دوماً بجواره ..
فانتهى الامر برحيل عاصم و زهرة للسراىّ اللذان وصلاها و قد شملهما الصمت المطبق طوال الطريق من المشفى حتى اعتليا الدرج لحجرة الحاج مهران ليطمئنا عليه .. ليجداه في سبات عميق .. توجه عاصم للحمام فور ان دلفا للغرفة .. كان يهرب من ملاقاة عينيها و نظراتهما المنكسرة ..
لم يستطع ان ينسى تلك التعبيرات التي كانت مرسومة على ملامح وجهها المحبب وهى تتلقف بن سهام بين ذراعيها .. نظرات عينيها و ملامح وجهها .. لازالت محفورة في مخيلته .. انه يقدر مشاعرها .. لكن ماذا بيده ان يفعل .. همس رغبة في تخفيف همه .. اللهم لا اعتراض .. اما هي فجلست على حافة الفراش تتلمس موضع طفل سهام على ساعدها و تستنشق رائحته المحببة التي تركت اثرها على ملابسها .. تستنشقها في شوق حد اللامعقول و في ارجاء روحها لا يتردد سوى صدى لدعاء و ابتهال .. بان يرزقها الله ما يقر به عين زوجها الحبيب ..
تطلعت الى باب الحمام حيث غاب منذ لحظات .. و قررت إنهاء حالة الصمت المخيمة عليهما منذ خروجهما من المشفى و كأن كل منهما يعلم ان الكلمات في تلك اللحظات قد تقتل لا تداوى فقرر السكّات .. خرج عاصم يكمل ارتداء جلبابه و ما ان طالعت محياه المحبب حتى اقتربت منه محاولة تصنع السعادة و ارتكنت على صدره وهى تهمس :- لما ربنا يريد و يرزقنا باولاد يا عصومى .. تحب تسميهم ايه ..!!؟..
لم يتعجب من تبدل مزاجها فهو ادرى الناس بها فهو يعلم علم اليقين انها تحاول كسر حالة الصمت التي اعترتهما لذا قرر مجاراتها و هو يهتف مبتسما :- لو ربنا رزج بواد يبجى مهران على اسم أبوى .. و لو بت تبجى سندس .. هتفت متصنعة الضيق :- ايه ده .. انت اخترت خلاص .. و انا ماليش رأى و لا ايه ..!؟..
قهقه و هو يجذبها اليه مطوقا أياها بين ذراعيه :- كيف .. ده انتى تختارى .. و تختارى اللى على مزاچك كمان .. تحبى تسميهم ايه يا عيون عصومى..!؟.... صمتت لحظات مدعية التفكير ثم هتفت في حماس :- مهران .. او سندس .. تعالت ضحكاته وهو يمازحها هاتفاً :- برضك ..!؟.. لتؤكد بإيماءة من راسها و ابتسامة تكلل شفتيها ما لبثت ان تحولت لصرخة دهشة ممزوجة بقهقاتها عندما وجدت نفسها محمولة بين ذراعيه فجأة .. لتهتف في تعجب :- عاصم .. نزلنى ..
همس في مرح :- اتحايلى عليا الاول.. ضحكت :- وحياتى .. عشان خاطرى .. هتف :- ايوا.. ها كملى .. هتفت في مشاغبة :- وحياتى .. عشان خاطرى .. صمتت لحظة وهى تتعلق بعنقه هاتفة .. متنزلنيش .. لينفجر ضاحكاً لتشاركه ضحكاته و فجأة يهتف في جدية مصطنعة وهو يضعها على اطراف الفراش :- تصدجى .. انا تأخرت على ميعاد مهم .. زمت ما بين حاجبيها متسائلة :- ميعاد ايه بقى .. هو ده وقته .!!؟.
اقترب منها ليقول في شوق :- ده مفيش وجت احسن من كده ..زمنهم مستنينا .. تساءلت في تعجب :- هم مين دوول ..!؟؟.. جذبها لاحضانه من جديد و هو يهمس مازحاً :- مهران و سندس .. انتى نسيتى .. انفجرت ضاحكة وهى تتعلق بصدر جلبابه :- تصدق صح .. اتاخرنا عليهم قووى .. تعالت ضحكاتهما ممتزجة بدقات قلبيهما..
ثلاثة أيام ..بثلاث ليال ..وهو قابع مكانه لم يحرك ساكناً ... و لولا ذاك الشاويش الطيب عم رمضان لكان مات جوعا و عطشا و إهمالا .. فمنذ تركه الضابط هاهنا .. وهو على هذه الحالة .. لا يعرف لما هو محتجز بهذا الشكل المهين .. لا يعرف له تهمة او جريرة .. كل ما يعرفه انه موضع اشتباه لانه صعيدى نزح من بلدتهم ..لكن لمتى سيظل على هذه الحالة ..!؟.. لا يعرف..
اندفع اليه الشاويش رمضان في مودة و في يده لفافة تحمل طعاما متواضعا .. فتح اللفافة امام زكريا و هو يهتف به قائلا :- بِسْم الله يا زكريا يا بنى .. و قدم له احد الأرغفة الطازجة .. تناولها زكريا في شرود و على الرغم من جوعه الا انه شعر بالشبع فجأة وسأل الشاويش رمضان في نفاذ صبر :- هو انى هفضل هنا لحد ميتا يا عم رمضان ..!!؟..
رفع العم رمضان كتفيه ثم اخفضهما كإشارة لعدم معرفته وقال مؤكدا :- علمى علمك يا بنى .. بس اهو حضرة الظابط يجى من الحملة اللى طلعها بالسلامة و نشوف .. وما ان أتم كلماته حتى اندفع الضابط لحجرة مكتبه في سرعة و هو يهتف بالعساكر ان تضع المتهمين في الحبس و اندفع يلقى بنفسه على مقعد مكتبه في إنهاك واضح مغلقا عينيه .. و أخيرا فتحهما ليطالعه الشاويش رمضان و زكريا في احد اطراف الغرفة ليهتف في نزق :- انتوا بتعملوا ايه هنا ..!!؟.. و الواد ده.. مشيرا لزكريا .. الذى استشاط غضبا لنعته بلفظه ( الواد) ..لسه بيعمل ايه هنا ..!!؟..
اندفع الشاويش رمضان مؤديا التحية العسكرية وهو يقول :- حضرتك اللى امرت بحبسه هنا لحد لما نعرف لو كان وراه مصيبة و لا حاجة .. أشار الضابط في نفاذ صبر لباب المكتب :- لا .. معليهوش حاجة .. غوره من هنا .. يا اللاه.. اندفع زكريا للباب ما ان سمع كلمات الضابط الذى استوقفه في صرامة هاتفاً :- بص يا صعيدى انت .. لو جيت لى القسم هنا بأى مصيبة .. صدقنى مش هرحمك .. أمشى جنب الحيط و كل عيش بالحلال .. سمعنى ..!؟..
اومأ زكريا برأسه إيجابا .. و ما ان أشار الضابط له بالخروج حتى اندفع خارج المكتب في عجالة كأن الهواء دخل رئتيه أخيرا بعد طول اختناق داخل تلك الغرفة الكئيبة التي لا يتمنى أن يعود اليها ابدا ..
شقت صراخاتها قلب الليل وهى تتقلب على فراش من جمر .. فقد فاجأتها ألام المخاض الان و لا يوجد معها الا الحاجة بخيتة ..التى اندفعت تعد العدة لاستقبال المولود المنتظر .. توالت الصرخات وهتفت كسبانة من بين احداها :- هموت يا خالة بخيتة .. انى بموت هتفت فيها بخيتة مشجعة :- بتموتى ايه بس .. شدى حيلك اومال خليكى شَديدة .. ده انى ولدت زكريا و انى اصغر منيكى و جومت ليلتها عشيت ابويا الله يرحمه .. و قوت نفسى .. ما انتى عارفة كنا غلابة و ملناش حد ..
صرخت كسبانة من جديد عندما عاودتها احدى نوبات المخاض .. وهى تتمسك بالأعمدة المعدنية للفراش خلف رأسها تستمد منها قوة تعينها على تحمل ألمها الذى يمزقها .. تقدمت بخيتة لتمسح العرق المتصبب على جبين المسكينة التي تعانى الان أوجاع قاتلة لتدفع بجنينها للحياة .. وهى تهمس بالقرب منها :- هانت يا بتى .. هانت .. شدى حيلك ..
كانت تلك الصرخة الأخيرة التي اطلقتها كسبانة .. كانت صرخة استثنائية .. ما ان انقطعت حتى وصلها صراخ الجنين الذى اندفع لكفى بخيتة التي استقبلته في حماس .. هاتفة :- الله اكبر .. الله اكبر .. واد زى البدر ابتسمت كسبانة في وهن و هي تلتقط أنفاسها أخيرا .. و أغمضت عينيها باستسلام و قد اولت بخيتة اهتمامها للصغير الذى بدأت في تنظيفه و إلباسه ثيابه ..
هتفت بخيتة بعد انتهاءها :- هتسميه ايه يا كسبانة ..!؟.. همست في سعادة و هي تتلقف صغيرها بين ذراعيها:- مش انى اللى هسميه يا خالة.. هتفت بخيتة متسألة في تعجب :- اومال مين يا بتى .. أوعاكِ تجولى انك مستنية .. قاطعتها كسبانة قبل ان تكمل استنتاجها .. فكيف تنتظر سليم ليطلق اسما على طفلهما الذى لا يعترف به من الأساس .. كيف يمكن ان تفكر ان تدعه يطلق اسما على طفلها وهو هارب من العدالة .. ينتظره السجن فاتحا ابوابه على مصرعيها لاستقباله .
هتفت كسبانة في عزم :- اللى هيسميه عمه زكريا .. -بس يا بتى .. مين يعرف فينه زكريا دلوجت !!؟.... وميتا يتَصل بينا .. !!؟؟..محدش يعِرف أكدت كسبانة في إصرار :- يبجى يجعد من غير اسم لحد لما عمه يسميه .. ابتسمت بخيتة وهى تربت على كتفها في محبة :- بشوجك يا بتى .. ربنا يرد الغايب .. و يجرب البعيد .. همست كسبانة :- ياارب يا خالة.. ياارب ..
كانت تجئ و تروح في الغرفة بشكل متوتر ينبئ عن نفاذ صبرها .. فها هو عاصم ما ان حادثته كسبانة حتى اندفع في سرعة اليها .. لا تعلم ما الذى حدث ..!؟.. و ما الذى جرى ليدفعه للذهاب اليها في تلك الساعة المبكرة من الصباح ..!؟.. تكاد تجن .. فها قد انتصف النهار و لم يظهر له اثر.. و لا تعرف لما ذهب بتلك السرعة العجيبة !؟
ربما طفلها مريض ..!؟.. هكذا استنتجت .. فقد رزقها الله بصبى منذ عدة أيام ..ربما .. هكذا همست .. لكن ايستدعى ذلك بقاءه النهار بطوله هناك ..!؟.. أخيرا قطع انفراج الباب عن محياه خواطرها و استنتاجاتها لتهتف في قلق :- خير يا عاصم .. في ايه ..!؟.. هتف في حنق :- مفيش ..
هتفت بدورها متعجبة :- يعنى ايه مفيش ..!؟.. غايب النهار بطوله عند كسبانة وتقول مفيش .. هتف في حنق متزايد :- انا مكنتش عند كسبانة .. انا كنت في بيت زكريا واد عمى .. و بعدين رحت جضيت مشاويرى.. كظمت غيظها :- طيب ماشى .. وهى كانت عيزاك في ايه ..!؟.. رد في لامبالاة :- ابدا .. عادى ..
-يعنى ايه عادى .. في حاجة اسمها عادى .. انفجر في غضب :- زهرة .!؟.... جلت لك ميت مرة .. مبحبش حد يراجعنى في الحديت .. و لا بحب حد يحجج معاى .. رحت فين وجيت منين .. سمعانى .. هتف بكلمته الأخيرة في غضب هادر جعلها تنكمش على نفسها و تركها ليندفع خارج الغرفة ..
استجمعت قواها بعد تلك العاصفة الغاضبة و جلست على اطراف الفراش تسترد هدوءها و تستجمع شتات افكارها ويكاد فضولها يقتلها لمعرفة سبب رغبة كسبانة في مقابلته .. و اندفاعه لتلك المقابلة .. بدأت الغيرة تنهش قلبها و شيطانها يزين لها أفكارا و تخيلات عديدة عما قد يكون بينهما .. هي متاكدة حد اليقين من حب عاصم لها .. لكن .. هل سيستمر هذا الحب بنفس القوة اذا لم ترزق منه باولاد ..!؟.. و هل سيفكر يوم ما في الزواج من أخرى من اجل ذاك الغرض ..!؟
و لما لا تكون تلك الأخرى هي كسبانة .. فهى جميلة و صغيرة و تنجب .. !!.. استشاطت غضبا من تلك الخواطر التي تستعر بداخلها كنار لا تجد من يطفئها.. و لا تتذكر الا شيء واحد .. ان عاصم صرخ في وجهها غاضبا من اجلها .. من اجل تلك الكسبانة و سرها الذى لا تعلم عنه شيئا..
استغفرت قدر استطاعتها محاولة طرد وساوسها و اندفعت للحمام فربما حمام دافئ يزيح عنها خواطرها التي باتت تؤرقها.. وقد يساعدها في استرجاع هدوء نفسها و صفاء سريرتها..
ما ان انتهت من حمامها حتى خرجت تتطلع لفراشهما لعله جاء ينام في اثناء غيابها .. لكن الفراش كان فارغا منه .. دخلت هي الفراش و تدثرت حتى عنقها تحاول الحصول على بعض الدعم لطرد ما يعذبها من وساوس أغلقت عينيها مدعية نوم عزيز المنال ..لكن كيف يأتي النوم..!؟.. و الوجع يذيب صدرها ..و وسادتها كجمر مستعر .. كيف يأتي النوم ..!؟..
و هي لا تعرف له طعما الا بين ذراعيه .. متوسدة صدره .. تطمئنها نبضات قلبه انه هاهنا لاجلها .. انتفضت في مكانها مدعية النوم عندما فُتح باب الغرفة بشكل مفاجئ .. فهى لم تشعر بخطواته على الدرج و ما استطاعت أدراك وصوله الى الغرفة .. فقد استغرقتها افكارها حد الغرق و التيه عن ما حولها ..
ألقى هو نظرة سريعة على جسدها المدثر بشكل مبالغ فيه بعد ان فتح احد الأضواء الجانبية الخافتة .. و غاب قليلا في الحمام ليعود ليستقر على طرفه المعتاد من الفراش بعد ان أغلق الأنوار و تدثر بدوره معطيا لها ظهره .. مرت بضع دقائق لم يحرك احدهما فيها ساكنا .. كلاهما يعطى ظهره لصاحبه .. و ذاك الفراغ في منتصف الفراش و الذى طالما جمعهما متلاحمين يئن ألماً واشتياقا ليعودا لسابق عهدهما من جديد ..
كان هو يغلق عينيه رغبة في نوم سريع بلا مقدمات .. لكن هيهات ان يزوره النوم و هو على هذه الحالة من الغضب و الاشتياق .. غضب منها وعليها ..و اشتياق الى الدفء و السكون اليها .. ان ذراعيه خاليتين منها .. يشعر ببرودة عجيبة لم يستشعرها يوما ضم ذراعاه لبعضهما و كبرياءه يكاد يدميه لرغبته في قربه منها ولكن أخيرا انتصر شوقه ليقترب قليلا لداخل الفراش عله يصطدم بها فيتعلل بضيق الفراش .. انتظر قليلا .. ليعاود التقهقر لداخل الفراش من جديد .. وتحققت أمنيته بان عثر عليها .. اصطدم بظهرها .. فقد كانت تتحين الفرص لذلك ..كما كان يفعل تماما ..
استدار لييقابلها بكليته اما هي فقد ظلت توليه ظهرها .. فهل يستطيع الان ان يتراجع ..!؟.. لم يستطع و خاصة عندما وجد جسدها يهتزبشهقات بكاء مكتوم مد ذراعه أسفل خصرها يجذبها بيسر الى احضانه لتستجيب هي من فورها و تندفع بشوق لدفء ذراعيه .. لم يقل كلمة .. بل لم ينبس بحرف .. وهى كذلك ..
لكنه زاد من طوَّق ذراعيه حولها ليأسرها تماما في احضانه و يقبل جبينها بشوق .. و يربت على رأسها بحنو .. كان ذلك كافيا .. بل اكثر من كاف لتكف هي عن البكاء و تطبع قبلة دافئة على أسفل عنقه و تدفع رأسها في التجويف بين كتفه و ذقنه التي تميل على رأسها .. ليستوطن فيه جبينها في سعادة .. و يبدأ النوم يداعب جفونهما أخيرا ..
دس الشاويش رمضان ورقة مطوية في كف زكريا هامساً له في حذر :- خد يا زكريا .. ده عنوان ناس طيبين من قرايبى .. انا أديت لهم خبر انك رايح لهم.. هم عندهم أوضة فاضية ليك و هيدبروا لك شغلانة .. هتف زكريا في حبور:- ربنا يبارك لك يا عم رمضان .. انا كنت لساتنى بسأل روحى .. هخرج اروح على فين ..!؟..
ابتسم رمضان في مودة :- الناس لبعضيها .. وانت شكلك طيب وبن حلال و لولا كده مكنتش هبعتك عند حد معرفة ..بص.. هم قريبين من هنا .. تقريبا شارعين تلاتة و تكون في حارتهم .. اهو العنوان عندك في الورقة اللى في ايدك .. لو انا فاضى كنت جيت وصلتك بنفسى .. هتف زكريا مهللاً :- لاه .. ده كِده رضا جووى .. انا هعرف أوصل لحالى متجلجش ربت رمضان على كتفه وهو يودعه على السلالم الأمامية لباب قسم الشرطة داعيا:- ربنا يسهل لك طريقك يا بنى ..
ودعه زكريا بدوره و استدار مغادراً القسم و كلمة ( ابنى) يرن صداها في اسماعه و تشعره بوجع هاهنا بين حنايا صدره .. ابدا لم يسمع تلك الكلمة المحببة و التي تشعره بالتقدير و الفخر .. ظل يحلم باعتراف ابيه ببنوته و سماع كلمة ابنى من بين شفتيه لكنه لم يحظى بذاك الشرف .. لم يعترف ابيه به .. ولا سمع منه غير التقريع و السخرية ..
نفض زكريا عنه تلك الخواطر التي تلهيه عن التركيز في طريقه و اخذ يسأل كل ذاهب و أيب عن تلك الحارة التي يقصدها .. حتى أخيرا وصل على أعتابها .. اخرج الورقة المطوية من جيب جلبابه و قرأ الاسم المطلوب .. استوقف احد المارة يسأله :- لو تسمح .. تعِرف بيت الحاچ وهيب فين ..!؟.. أشار الرجل بالنفى .. فقرر زكريا الولوج الى الحارة لسؤال احد أصحاب المحال التجارية بسيطة العرض و البضائع التي تظهر على جانبيها توقف عند محل خردواتى ليسأل من جديد عن بيت الحاج وهيب فأشار الرجل إلى دائرة من البشر على مسافة منهما وقال :- هتلاقى الحاج وهيب عند الناس الملمومة هناك دى ..
شكره زكريا واندفع لتلك الحلقة البشرية الملتفة لا لسبب الا لمشاهدة شجار ما .. لا يعرف من أطرافه و لا ما سبب اندلاعه ..وقف يشارك الناس فضولها و ذاك الرجل الضخم ذو العضلات المفتولة و الشارب الكث يجذب رجل خمسينى من ياقة جلبابه البسيط هاتفاً فيه بتجبر :- ما انا قلت هتدفع يعنى هتدفع .. بالذوق بالعافية هاتدفع ..مش قادر على الدفع ..!؟.. انت عارف ايه اللى يعفيك من الدفع طول عمرك ..
هتف الرجل الخمسينى باستكانة:- يابنى .. مقدرش ادفع .. و طلبك أترفض .. أعملك ايه بس ..!!؟.. زمجر الرجل الضخم في غضب:- دى مش مشكلتى .. انا مشكلتى دلوقتى هاتدفع و لا لأ.. هتف الرجل المسكين:- منين يا بنى ..!؟.. طب حتى ادينى فرصة ..
قال الضخم :- اديتك فرص كتير و خلاص مبقاش .. و دفع بالرجل الخمسينى خارج اعتاب محله الصغير و اندفع هو و رجاله لنهب بضاعته .. الا ان توقفوا جميعا عندما هدر صوت انثوى بكل قوة :- اللى هيمد ايده على بضاعة المحل .. هقطعهاله و اعلى ما في خيلك اركبه يا سمرى .. هتفت بشجاعة في وجه الرجل الضخم المدعو سمرى .. و دون ان يطرف لها جفن ..
اندفع سمرى الذى فوجئ بظهورها و هتف فيها بحنق :- انت شكلك ناقصك تربية .. اسمى المعلم سمرى يا بت .. هتفت في استنكار :- بت ..!؟.. لااا .. ده انا ستك و تاج راسك غصب عنك ..و التربية الناقصة دى انت اللى تعرفها ..يااااسمرى اندفع سمرى اليها في غضب اعمى ليرفع كفه لأعلى منحدرا ليصطدم بخدها .. لولا ان وقف ظل شخص ما ليمنع حدوث ذلك و يتلقى كف سمرى الثقيل على كفه دافعا به للخلف في قوة جعلته يتقهقر خطوة للوراء ..
هتف زكريا بسمرى في غيظ:- و بتسمى نفسك معلم و انت يدك بتتمد على الحريم .. طب جليت أدبك على راجل كَبِير في سن ابوكِ و جلنا جلة عجل .. لكن تمد يدك على الحريم .. لاه .. ده يبجى البعيد نسى كيف يكون راچل و عايز اللى يفكره .. هتف سمرى في غضب :- انت مين يا واد .. !!؟.. روح العب بعيد يا سبع الرجال ..
استفزت كلمة ( واد) زكريا ليهتف في غضب :- واااد .. طيب ..أنى هوريك كيف الواد ده هيعرفك مجامك .. و اندفع زكريا كالثور الهائج و دفع بمقدمة رأسه لتنطح جبهة سمرى بعنف جعل الأخير يترنح قليلا .. ثم يعاود السيطرة على ثباته و هو يشير لرجاله المحيطين بالحلقة مع جمع البشر الذى لازال الفضول يدفعهم للمتابعة و قد ازدادت المشاهدة متعة و اثارة بعد تدخل زكريا الغير متوقع..
ازدادت الدائرة البشرية اتساعا و دخل احد رجال السمرى في نزال مع زكريا و الذى استطاع زكريا التفوق عليه .. ليدفع السمرى باخر .. وهكذا .. استمر الوضع في نزال متتال حتى تناهى من البعد صوت سرينة عربة شرطة فتفرق الجمع في طرفة عين و اختفى السمرى و رجاله في لمح البصر و ما ان تنبه زكريا لما يحدث .. حتى ظهر أمامه ضابط القسم و عساكره حوله ..
هتف الضابط في تقريع :- انت تااانى ..!!؟.. انا مش حذرتك توقع تحت ايدى مرة تانية .. ده انت لسه خارج من القسم مبقلكش ساعة .. طيب .. انت اللى جبته لنفسك .. واندفع عائدا للسيارة وهو يهتف لعساكره باحضار زكريا الذى امتلئ وجهه ببعض الخدوش و الجروح و جسده ببعض السحجات جراء المعركة الطاحنة التي دارت رحاها منذ قليل ..
سار في استكانة خلف الضابط محاطا بعساكره .. و قد أيقن الان انه لن يغادر ذلك القسم الذى غادره منذ ساعتين ممنيا نفسه بعدم العودة اليه من جديد .. لكن يبدو ان دعوته لم تستجاب .. فها هو يعود اليه الان اسرع مما توقع و يبدو انه لن يغادره الا بعد فترة طويلة جداااا..