رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر
قادته قدماه بشكل فطرى لاستراحة الاسطبلات.. حتى من دون ان ينتبه للطريق الذى قطعه سيرًا على الأقدام.. انفاسه تسبقه.. يزفرها فى غضب لا يعبر باى حال من الاحوال عن الثورة المتأججة فى شرايينه.. والتى بثت نيرانها فى روحه.. يغلى من جراءها قلبه كمرجل.. وصل اخيرا ليلقى بجسده المنهك على احد الأرائك فى انهيار كانت الايام الماضية أشبه بالجحيم مرض والده وسهره بجواره.. ومن بعدها إعدادات الزفاف المحمومة.. واخيرا تلك التى تنهكه وتستنزف مخزون روحه الطواقة لقربها..
والتى اصبحت أشبه بالسراب.. كلما تقدم منها خطوة وظن انه قاب قوسين او أدنى منها.. وانه على اعتاب نعيمها الوردى.. حتى يكتشف انها لاتزال بعيدة.. بعيدة.. بعد نجمة عالية.. لا تطولها الايدى.. الا فى الخيال..همس لنفسه متألما.. وااه يا عاصم.. مفيش امر من طعم الظلم.. وخصوصى.. ظلم الحبايب..
اللى كنت مستنيهم يبجوا دواك تريهم هم الجرح.. واللى الناس كلاتها لما تبعدك.. تلاجيهم هم اللى بيجربوك.. ويخدوك فى أحضانهم وينسوك. مين تانى هايفضل يا عاصم بعد ظلم الحبايب.. مين..!!؟
زفر بقوة.. زفرة حارقة تحمل بعض من نيران ذاك الأتون المستعر بصدره.. وقد تنبه اخيرا.. لهذا الصوت الشجى الذى يصله.. والذى لم يعيه عندما وصل من شدة انغماسه فى شجون أفكاره.. فهمس لنفسه.. وهذا قصة اخرى.. كان يقصد زرزور بالطبع.. صاحب الناى.. الذى يعزفه الان مقلباً عليه مواجعه التى لا مهرب منها حتى هنا..اقترب فى هدوء.. من المكان الذى يختلى فيه زرزور بنفسه.. واخذ ينصت فى استحسان لذاك العزف الرائع الذى يقطر عذابا وحرمانا.. لا يع ان الذى يعزف ليس زرزور بل قلبه الذى يئن شوقا.. لحبيبه غائبة حاضرة.. ورغبة مستحيلة التحقيق فى القرب.. ولا حيلة له الا دموع..
تخفف بعضا من أسى وقهر لا حيلة له فيهما.. سوى البكاء وحيدا بعيدا عن الاعين المتلصصة التى تأبى البكاء على الرجال ويوصمون دموعهم بالعار.. وكانهم ليسوا ببشر..و لم تخلق من اجلهم الدموع.. انتهى اخيراً زرزور من عزفه ومسح دمعه.. ونهض.. ليفاجأ بعاصم يقف مشدوها من روعة العزف التى لم يشهدها من قبل..
انتفض زرزور واضعا كفه على رأسه يربت بها عدة مرات متتالية كإشارة سلام لعاصم ويندفع لصنع الشاى كما هو معتاد عند رؤيته له..و ما ان أولاه زرزور ظهره..حتى هتف عاصم فى تأثر :- زكرياا...
توقف زرزور فجأة متخشباً وكانما إصابته صاعقة.. لقد نسى هذا الاسم والذى لا يعلم به احد ولم يناديه به احد.. واستدار فى بطء.. ليطالع عاصم الذى كان يقف فى انتظاره فاتح ذراعيه فى ترحاب.. ليندفع اليه كالسهم ملقيا بنفسه بين احضانه مقبلا كتفه.. وهو يجهش بالبكاء أحاطه عاصم بذراعيه.. رابتاً على كتفه فى قوة.. وهو يهتف بصوت غلبه التأثر.. محاولا مداراته فى المزاح :- واااه.. بجى كده.. فى رجالة بتبكى.. وتنهنه كمان..
ولم يتوقف زكريا عن شهقاته وكانما اكثر من عشرين عاماً من الظلم والدونية قد استيقظت فجأة واندفعت كسيل من دموع عينيه... ربت عاصم من جديد على كتفه وهو يقول بصوت يأتى من اعماق روحه الموجوعة.. :- ابكى يا واد عمى.. ابكى.. الظلم صعيب جووووى.. ولما يجيلك من اجرب ما ليك.. بيبجى وچعه واااعر.. كن سكينة انغرست بجلبك وانت ما جادر تجول آه... وكانما يذكر عاصم نفسه بظلمها... ظلمها الذى تآن له روحه حد العذاب.. الظلم الذى بدأ هو اول حلقاته.. لتدور عليه الدوائر..فيصبح هو المظلوم..لا الظالم.. ظلم يدفع ثمنه الان غالياً...
بعد لحظات.. ابتعد زكريا عن كتف عاصم.. ينظر اليه متسائلا وببعض إشارات استفسر كيف عرف عن اسمه وحكايته.. فاجاب عاصم :- أبوى جالى على كل حاچة.. وسلمنى الاوراج اللى تثبت انك واد عمى غسان.. وربت عاصم على كتف زكريا مطمئناً.. متجلجش والله لأچيبلك حجك.. ولو ده اخر يوم فى عمرى..
انحنى زكريا محاولا تقبل يد عاصم الذى سحبها مستغفراً وقال فى تأكيد:- ده حجك..نستنوا بس لحد بعد فرح سهام هنا اخفض زكريا نظراته متألما عند ذكرها.. ليستطرد عاصم ولم ينتبه.. هجمع الهوارية كلهم وأخوك سليم.. وجدامهم هعلن انك واد عمى غسان واللى حيلته كلمة يجولها ويورينى كيف هايجف جصادى..!
رفع زكريا يديه علامة الدعاء لعاصم وهم بالاندفاع لصنع الشاى.. لكن عاصم استوقفه معاتباً.:- لاه.. خلاص خلصت الشغلانة دى.. انت هنا واد عمى.. وهاتجعد معاى ونشرب الشاى سوا.. بس مش انت اللى هاتعمله هنده على الواد عوّاد يسويلنا كبايتين.. تعال.. اجعد چارى.. وسحب عاصم.. زكريا من يده مبهوتا ليجلسه على احدى الأرائك بجواره وهو لا يصدق ان حقه سيعود له اخيراً حقه الذى فقد الامل فى عودته.. منذ امد بعيد..
كان العمل فى السراىّ.. على قدم وساق منذ السادسة صباحا تحضيرات الطعام والمشروبات.. وأماكن مجالس الرجال.. وعقد القران.. وتحضيرات العروس التى قرر حسام احضار اصحاب الخبرة فى عالم الزينة حتى باب غرفتها..ووقفت زهرة بجوارها حتى اتمت زينتها على اكمل وجة ترتضيه.. وقد اصبحت رائعة بمعنى الكلمة.. لتهتف زهرة فى مرح تحاول اصطناعه :- يا بختك يا حسام يا بن عمى..
لتبتسم سهام فى خجل.. ولم تدرك تلك النبرة المؤلمة التى غلفت كلمات زهرة والتى أرهقها البكاء ومزقها القهر ليلاً كاملاً بعد ان رحل وتركها تلعق جراحها وحيدة بدون حتى تبرير واحد ينفى به فعلته.. او يشرح به أسباب إخفاءه عنها ما اكتشفته.. او.. حتى.. يخبرها ولو كذباً.. انه احبها قبل ان يعلم الحقيقة.. وانه يحبها..
سواء كانت ابنة خالته.. او لم تكن.. لكنه لم يقل ولم يفعل ما ينفى أقوالها ويضحد شكوكها وطنونها... ان جرحها منه اصابها فى مقتل.. وهى الحمقاء التى كانت على استعداد لتكون امرأته.. قلبا وقالبا..
واعترفت لنفسها... انها حقا تعشقه.. ولكن ماذا بعد الاعتراف..!!؟.. وماذا بعد المصارحة..!؟.. هل تستطيع ان تكذب روحها التى تئن وجعا لمجرد مطالعة محياه الذى اصبح موشوما بجدرانها..وصوته الذى تغلغل فى أعماقها مقرونا بكل نبضة من نبضات ذاك القلب الذى يحتضر شوقا وعشقا.. وعقل لا يعلم.. هل يتألم ام يتحسر على عدم الاستماع لنصائحه..فيقف حائرا.. خائرا... لا يجد سبيلا للخلاص..
انتفضت.. عندما وصل الى مسامعها صوته وهو يهتف بالأسفل مؤكداً ان كل شئ على ما يرام.. وانه بدأ توافد الرجال والعريس فى طريقه للسراىّ وانهم فى انتظار المأذون.. دقات على باب الحجرة جعلتها تجفل.. فهى تعلم انها طرقاته التى اعتادتها كدقات قلبها على باب صدرها..
وما ان سُمح له بالدخول.. حتى دخل فى هدوء يتطلع لسهام التى اصبحت فى كامل زينتها.. تقدم اليها فى بطء متطلع الى تلك الجميلة التى كانت منذ أعوام تصرخ طالبة منه ان يحملها على كتفيه.. وتتدلل ليحضر لها ما تشتهيه..
انها الان عروس جميلة.. بل فائقة الجمال.. ستغادرهم بعد ساعات قليلة.. لبيت زوجها.. ولن تعود هنا.. مرة اخرى الا كضيفة لن تطالعه ملامحها المحببة.كل صباح على مائدة الافطار ولن تشاكسه بمداعباتها طوال النهار..
ولن تصبح مسؤولة منه فسوف يسلم مسؤولية راحتها ودلالها لزمام رجل اخر يتمنى ان يصونها وتنعم فى كنفه بالامن والسكينة و المودة والرحمة... لم يستطع ان يتفوه بكلمة وهو يقف أمامها الان.. انحنى يقبل جبينها فى محبة حقيقية.. ويقول بصوت متحشرج يغلبه التأثر..:- مبروك..
ترقرقت الدموع فى عينى سهام.. فشعر بها فهتف فى بهجة مشاكسا إياها :- لااااه.. فى عرضك.. هتبكى وتبوظى الحاجات اللى حطوهالك على وشك دى واللى دافع فيها عريسك دم جلبه.. حرااام.. يجول مسلمينله عفريتة سهام انفجرت سهام ضاحكة فابتسم بدوره.. هاتفاً:- ايوه كده رب يخليكى.. خلى الليلة تعدى على خير..
واستدار مغادرا.. لتقع عيناه على زهرة.. التى كانت تنكمش فى احد أركان الغرفة.. تتابع المشهد من بعيد حمل نفسه ونظراته بعيدا عنها واندفع خارجا..لتلحق به فى عزم لتخبره بما قررت.. دخل غرفتهما ليبدل ثيابه فتبعته هاتفة وهى تغلق باب الغرفة خلفها:- انا هبات الليلة مع ندى اختى.. عند عمى قدرى.. قالت فى لهجة مترقبة لرفضه.. ولكن لدهشتها قال بلهجة باردة وهو يخرج ملابسه من خزانة الملابس..
-وماله.. حجك.. بجالك شهور مشفتيش اختك.. ولا ابوكى.. ولو تحبى.. جبيها هنا.. واهى أوضة سهام ها تفضى الليلة.. -لا.. قالت فى عزم.. انا كمان عايزة اقعد مع بابا فى حاجات كتير عايزة توضيح منه.. اجاب بنفس اللهجة الباردة :- وماله..ولو تحبى... أوصلك لحد عنديهم... سألت فى تعجب :- يعنى انت موافق..!؟..
-وااه.. همنعك عن اهلك..!؟.. طبعا موافج.. و دى عايزة كلام.. نظر بابتسامة مبهمة على جانب شفتيه.. -اصل انا لازم اقعد مع.. قالت تحاول التبرير.. وتتعجب من نفسها لما تبرر.. فقاطعها هو قائلا بلامبالاة:- مفيش داعى تبررى..انت تروحى وجت ما انت عايزة.. -يعنى عادى اروح..!؟.. سألت بتعجب ودهشة من موافقته السريعة وعدم رفضه.. لينفجر ضاحكا فى سخرية :- وااه.. هو انا بتكلم فرنساوي..جلنا روحى..
وتركها فى حيرتها.. وحمل ملابسه للحمام ليستعد لعقد القران.. وقفت فى منتصف الغرفة.. تضرب أخماسا فى اسداسا.. لا تعرف.. ما سر ذلك البرود الذى يحدثها به.. وما السبب وراء موافقته السريعة وعدم رفضه لأبتعادها عنه كما كان يحدث فى السابق عندما كان يتحجج لتكون دوما بقربه.. هل يمكن ان يكون كف عن محاولاته لارضاءها بعد ان اكتشفت علاقة الدم التى تربطهما..!؟..
ام ان.. ما سمعه منها البارحة جعله يعيد حساباته لتكون هى خارج تلك الحسابات.. !؟.. لم تعد تدرى ما يحدث.. حتى انها صرخت فى نفسها معاتبة.. أليس انت من أراد الابتعاد.. !!؟.. وتشعرين بأنك غير مرحب بك كواحدة من التهامية.. لكن مرحب فقط بكونك تحملين الدم الهوارى.. اذن لما تشتكين الان !؟
وأين هى المشكلة..!؟؟.. اتدرين..؟!!.. انت هى المشكلة.. عند هذه النقطة.. اندفعت فى غضب.. لتغلق الباب خلفها بعنف.. فى نفس اللحظة التى خرج هو فيها من الحمام.. وعلى شفتيه نفس الابتسامة المبهمة..
ارتفعت الزغاريد معلنة وصول العريس واهله.. لتدخل ندى لداخل السراىّ منضمة للنساء واللائي اشتعلت قاعتهم بالزغاريد والرقص.. حتى تحضر العروس.. اخذ عاصم بيد المأذون والعريس والشهود مستأذناً الجمع ليصعد لعقد القران.. استأذن الرجال للدخول.. فصمت كل من بالقاعة من نساء حتى مروا فى سرعة لاعلى.. طرق عاصم على باب غرفة ابيه ودخل ليهتف الحاج مهران :- برضك عملت اللى فى رأسك يا عاصم..
هتف عاصم فى فخر :- وااه.. ابوا العروسة منور الدنيا.. وانا ابجى وكيلها.. دى لا عشت ولا كنت.. انت وكيل العروسة يا حاچ.. ويديك طولة العمر وتشيل عيال عيالها.. وانا هبجى شاهد على العقد انا والحاج جدرى ابو العريس تمام كده.. !؟؟.. ابتسم الحاج مهران فى حبور :- تمام..
جلس المأذون مسميا بالله.. ومصليا على رسوله.. ووضع الحاج مهران يده فى يد حسام.. وبدأت مراسم عقد القران وما ان انتهت.. حتى قال الحاج مهران والدمع يترقرق فى مقلتيه:- خلى بالك منها يا حسام.. انا مديلك حتة من جلبى.. ابتسم حسام.. وانحنى يقبل كف حماه فى تقدير قائلا :- دى فى عينى يا عمى.. اندفع عاصم ليطرق باب العروس مهللا..:- مبروك.. كتبنا الكتاب..
لتشتعل الغرفة زغاريدا.. لتقابلها زغاريد انطلقت من القاعة النسائية بالأسفل عندما وعت النساء الإشارة.. امسك عاصم كف اخته التى كانت ترتجف فى خوف.. وفى نفس الوقت تجتاحها الفرحة فى تضارب عجيب من المشاعر التى لا يسهل وصفها..ضم كفها فى حنان.. مطمئناً وهو يسير بها لغرفة ابيها..
افسح الجميع الطريق للعروس.. التى تقدمت لأبيها فى وجل لا تستطيع ان ترفع نظراتها لتقابله حتى لا تنفجر باكية وترفض المغادرة بعيدا عن احضانه.. مد الحاج مهران اليها كفه والتى وضعت كفها الباردة المرتعشة فى أحضانها.. ليجذبها اليه مقبلا جبينها.. وطفقت عيناه بالدموع.. ولم يستطع ان يتفوه بحرف واحد بل أشار لعاصم الذى وعى الإشارة.. ليهتف مهللا فى فرح -الناس كلها منتظرة العرسان تحت.. يا الله يا چماعة..
ومد كفه يسحب اخته المتسمرة بجوار فراش ابيها وكأنها تأبى المغادرة.. ويسلم كفها لكف زوجها والذى التقطه فى سعادة جاذباً إياها خارج الغرفة.. والكل خلفهما.. ما عدا عاصم الذى انتظر حتى خرج الجميع.. لينحنى يقبل جبين ابيه رابتاً على كفه ويخرج فى أعقابهم.. وقد اشتعل صحن الدار بالزغاريد عندما هل العريس مصطحبا العروس يهبطان الدرج.. حتى سلمها للنساء واولهم امها الحاجة فضيلة التى كانت تغالبها الدموع.. فتقهرها مبتسمة..
ويخرج العريس ليحيى جمع الرجال وينال مباركتهم بعد عقد القران.. وتمتد الموائد.. ويبدأ الاحتفال الفعلى.. ظهر سلطان يمتطيه عاصم فى عزة.. وبدأ الطرق على الطبول والنفخ فى المزامير.. ليبدأ سلطان فى التمايل طرباً وعاصم على صهوته موجهاً.. اشتعلت الدائرة المحيطة بالفرس الراقص تهليلاً وحبوراً بمهارات سلطان الذى انتشى من صوت المزامير ليقدم افضل عروضه الراقصة على الإطلاق.. كان عاصم يتمايل مع فرسه فى رشاقة منقطعة النظير وشعر فجأة بإحساس مبهم بالمراقبة فتطلع لا ارادياً للأعلى حيث شرفة حجرته.. ليجدها تقف مع اختها التى يبدو عليها الحماسة يشاهدان العرض الراقص..
تعلقت عيناه بها.. وتذكر ان هذه قد تكون المرة الاخيرة التى يراها فيها تطل من تلك الشرفة.. فهى الليلة ستغادر السراىّ وقد لا تعود.. عندما وصل لهذا الخاطر فقد رغبته فى الاستمرار بتقديم عرضه.. لينسحب هو وسلطان.. والذى كان معترضاً على إنهاء العرض ويرغب فى المواصلة..
عندما عاد ليجلس وسط الرجال لاحظ انها اختفت من على الشرفة.. فجلس ساهماً لا يدرك الصخب الدائر حوله.. فصخب أفكاره كان يحاصره..وفوضى مشاعره كانت تدميه ولم يخرجه من تلك الدوامة الا جذب احد الرجال له.. ليجد نفسه فى وسط دائرة مدعواً للتحطيب بالعصا.. ليبدأ تهليل الرجال دعماً له.. للغول.. الذى بدأ فى هزيمة الرجال احدهما تلو الاخر.. ليشتعل الصخب نشوة راغباً فى المزيد حتى اندفع حسام طالباً المبارزة..
لينتفض الجمع مهللاً ويبدأ كلاهما فى التلويح بعصاه وقرع كلتاهما بصوت مزلزل.. حتى أعلن كل منهما فى نفس اللحظة بلا اتفاق ترك عصاه محبة فى الطرف الاخر.. ليهلل الجمع.. ويحتضن كل منهما الاخر فى سعادة..
انتصف الليل..وبدأت الطلقات النارية.. والتى بدأ اطلاقها منذ الصباح.. فى الوصول لذروتها عندما أعلن العريس رغبته فى اصطحاب عروسه لعشهما السعيد لتشتعل حمى الزغاريد والطبول حد اللامعقول عند وصول العروس للخارج ليأخذها العريس داخل عربتهما.. ويخرج الجميع خلفهما بالسيارات مهللين...
حتى زهرة ذهبت فى سيارة نبيل.. بصحبة ابيها وندى وعمها قدرى دون أدنى اعتراض منه.. حتى انها ألقت بنظرة جانبية اليه.. تنتظر اعتراضه.. لكنه حتى لم يأبه بها ولا نظر يبحث عنها كعادته..بل كان منشغلا بأمه التى غلبتها دموعها اخيرا.. فاخذت تبكى.. عندما رحلت سهام مع عريسها.. فى سيارتهما المزينة..
ظلت نظراتها معلقة به.. حتى غاب طيفه عنها بابتعاد السيارة وخروجها عن أسوار السراىّ.. والتى لا تعلم هل ستعود اليها من جديد.. ام لا..و قد جذب انتباهها فى تلك اللحظة طيف ذَاك الشخص على اطراف تلك الاسوار العتيقة.. وبالتحديد.. عند تلك الحجرة المتطرفة فى اخرها.. يبكى فى لوعة.. حبيبة راحلة.. وقلب ممزق.. وحق عائد فى الوقت الضائع..
اندفعت ندى فى احضان اختها على الفراش الوثير فى تلك الحجرة التى خصصها عمهم قدرى لتبيت فيها ندى منذ وصولها انها نفس الحجرة التى باتت فيها زهرة ليلة عقد قرانها على عاصم ليلة ان عزمت على جعله يدفع ثمن إجباره إياها على الزواج منه بهذا الشكل وإذلال اَهلها امام عينيها.. ولكن هل استطاعت تنفيذ ما عزمت عليه..!؟
أخرجتها ندى من شرودها.. هامسة فى أحضانها بلقبها الذى افتقدته وأصبح غريبا على مسامعها :- روزى.. ايه رأيك فى بن عمك نبيل..!؟.. ولم تنتظر منها الإجابة لتستطرد.. تصورى يطّلع الدكتور بتاعى فى الجامعة.. وانا وهو منعرفش اننا ولاد عم... !!؟.. همست زهرة فى شرود:- هى دى ضريبة الانتقام الأعمى.. لازم الكل يدفعها.. وكنت انا اولكم..
نهضت ندى فى شقاوة جالسة وهى تقول فى مرح وكأنها لم تسمع تعليق اختها :- قوليلى بقى..!؟.. عاملة ايه مع جوزك ده..!!؟.. شكله كده.. وأخذت تبحث عن كلمة مناسبة.. وهى تحرك كفها.. وحدقتيها لاعلى فى وضع التفكير لإيجاد اللقب المناسب.. لكنها لم تجد.. لتبتسم زهرة لأول مرة هذا المساء لتساعدها فى إيجاد الوصف الذى تبحث عنه.. هامسة :- غول ملوش قلب..
لكن ندى هتفت فى نفس اللحظة فلم تسمعها..:- اه.. له هيبة كده.. تخليكى تخافى تقربى منه وتعمليله الف حساب.. انت بتتعملى معاه ازاى ده..؟!!.. ضحكت زهرة لسؤال اختها الساخر ولم تخبرها بطبيعة الحال انها الوحيدة التى استطاعت ترويض الوحش..او كانت تظن ذلك.. حتى اكتشفت انه لم يُروض بعد.. بل.. ان هوسه بأصوله وعراقة دماءه والذى اكتشف انها تجرى بعروقها.. هو الذى دفعه ليعلن الهدنة فى حربه معها.. وهى التى اعتقدت انه رفع رايات السلام الابدى لتسلمه قلبها بسذاجتها المعتادة.
-بس تعرفى يا زهرة..!؟؟... انتبهت زهرة لسؤال اختها.. واضح انه بيحبك.. لتنتفض عندما وصل الكلام لتلك النقطة وهى تنظر لأختها بتعجب متسائلة:- وانت عرفتى ازاى..!؟ ابتسمت ندى فى تفاخر :- انا ليا نظرتى.. لو شفتيه وهو بيبص عليكى من الشباك الاربيسك وانت بترقصى امبارح فى حنة اخته.. مكنتيش... قاطعتها زهرة منتفضة و.. معتدلة فى جلستها.. وهى تسألها من جديد:- بتقولى شافنى فين..!؟..
اعادت ندى كلماتها بتفصيل اكثر:- انا كنت داخلة السرايا عشان اوصل للقاعة اللى الستات مجتمعين فيها.. لقيته واقف..طبعا مخدش باله منى.. بس انا شفته وهو بيبص عليكى من شباك ارابيسك بيطل على القاعة اللى كونتوا فيها كان كل لمحة من تعبيرات وشه بتقول انه بيعشقك يا بنتى.. هتفت زهرة فى سخرية.. تدارى وجيب قلبها واضطرابها الذى دفع الدماء الحارة لوجنتيها :- طب نامى يا اختى.. بقيتى خبيرة فجأة.. والله ما انتى فاهمة حاجة.. لتنفجر ندى ضاحكة..:- انا اللى مش فاهمة حاجة.. بكرة تقولى ندى كان عندها حق..
لتستطرد مشاكسة.. يا الله بقى خدينى فى حضنك زى زمان.. فتحت زهرة أحضانها لأختها تستقبلها بشوق حقيقى... والتى راحت بسرعة كعادتها فى سبات عميق.. ابتسمت زهرة وهمست.. صحيح ما ينام الا خالى البال..
اما بالها هى وخواطرها ولبها وقلبها فكلها تلقائيا تتوجه لشخص واحد فقط.. ذاك القاسى الحانى.. الذى تعترف انها تفتقده بشدة..نهضت ببطء حتى لا تقلق نوم اختها تجيل بنظراتها بجدران الغرفة التى شهدت دموعها وعزمها ليلة زفافها وشاركتها قسمها فى الانتقام منه لما حل بها وتذكرت ذاك الفستان الاسطورى الذى جاءت به سهام.. كيف بكت يومها.. لانها تمنت ان ترتديه لحبيبها ذاك الرجل الذى يختطف قلبها..
فها هو قد اضحى ذاك الحبيب و لكن ماذا بعد..!!؟.. هى من ابتعد.. ابتعدت كى تجمع شتات روحها الممزقة بين كرامتها وكبرياءها وإحساسها بالم الخديعة التى عاشتها معه.. وبين تلك الرغبة التى تشتعل فى قلبها تدفعها للغفران والصفح وبداية صفحة جديدة..
صفحة نقية بلا اى احقاد او أسرارمن الماضى تعكر صفوهم.. وتذكرت تلك اللحظات التى قضتها معه على صهوة فرسه.. والتى كانت فيها اقرب من قلبه اليه..والتى شعرت فيها بصدق مشاعره.. وتذكرت امنيتهما المشتركة فى الحياة على صهوة الفرس دون الحاجة للعودة للأرض من جديد.. وكأن كل منهما كان يدرك.. ان عودتهما لارض الواقع ستفرقهما حتما فحاولا التشبث بلحظات مرت كالحلم.
وها هى الان امام المرأة تتطلع لصورتها وكأنها تحيى تلك الصورة القديمة لها..و التى وقفت تتبخترأمامها يوما فى ثوب زفافها والذى ارتدته له بكل كره وإكراه وها هى الان تقف أمامها مرة الاخرى.. لا ترتدى ذاك الثوب مكرهة..بل هى بعيدة عن عينيه مكرهة.. نظرت لتكتشف ان ما تغير فى الحالتين ليس وجود الثوب من عدمه.. لكن الذى اختلف شئ أخر تماماً.. ورفعت ذراعها لتضع كفها على قلبها الموجوع شوقا له.. هذا هو ما تغير.. قلبها..
تنهد حسام فى نفاذ صبر وهو يلتقط انفاسه ملقيا بجسده المنهك على احد المقاعد فى جانب الغرفة التى تجمعه بعروسه والتى تقف الان فوق الفراش بثوب زفافهما الذى تحمل أطرافه بيدها متحفزة ليهتف هو متحسرا... وهو ينظر اليها وهى متنمرة بهذا الشكل :- والنبى أنا لو اعرف ان الچواز كده.. ما كنت اتچوزت..
لتهتف هى فى حنق مصطنع :- يا سلاااام.. -يا بت الناس.. ما انا لوعارف انى داخل اخد بطولة فى الچرى مسافات طويلة كنت اتمرنت الاول على الأجل.. مش تخدينى على خوانة كده.. وانا لساتنى جرحى تعبان.. وانتِ لففتنى وراكى الاوضة چرى.. ياجى عشر مرات... لتنفجر هى ضاحكة مخرجة له لسانها فى مشاكسة وهى تقول..:- احسن.. ليهتف هو متوعداً :- طب والله لأجول لاخوكى..
نزلت من على الفراش فى توجس وهى تقترب متسائلة :-هتجول لأخويا أيه..!!؟.. هتف متصنعاً الحنق :- هجوله اختك مبتسمعش كلام چوزها لتقترب منه فى حذّر.. هامسة :- وأهون عليك يا حسام..!!؟ ليهتف متصنعاً الجد :- اه.. تهونى.. ما انا هونت عليكى اها.. وانا تعبان.. وحاسس ان جرحى أتفتح.. اندفعت فى لوعة تجاهه هاتفة :- صح..!!.. جرحك أتفتح.!؟
ليظفر بها اخيراً جاذباً إياها لتسقط على حجره.. فيهتف بنشوة المنتصر وهو ينفجر ضاحكا :- كده.. نبجى خالصين حاولت الافلات من يده.. لكنه احكم احتضان خصرها وهو يهمس قائلا فى جدية :- سهام..!! استكانت فى ثوان وهى تنظر اليه فى تساؤل فرضه نبرة صوته ليكمل هو :- انتِ فاكرة صوح انى ممكن اشكيكى لاخوكى..!؟.. لم ترد.. ليكمل هو.. ولا عمره هيحُصل انتى بجيتى مرتى.. ويوم متزعلينى..
فهتفت هى فى عشق مقاطعةً..مش هايحُصل.. ليبتسم هو مستطردا فى شوق.. هشتكيكى لسهام.. عندما سمعت اسمها من بين شفتيه بهذا الشوق واللهفة..نظرت الى عينيه بعيون دامعة فرحا.. ليهمس بصدق وهو يقربها لاحضانه.:- بحبك يا مجنونة..
خرج من غرفة ابيه بعد ان اطمأن عليه.. وظلت الحاجة فضيلة بقربه دافعة إياه خارج الغرفة ليستريح قليلا فى غرفته بعد ذاك العناء الذى لاقاه فى الايام الماضية.. لم تكن تعلم انه احوج ما يكون الان للبقاء بقرب ابيه.. مبتعدا قدر الإمكان عن غرفته الباردة الخالية منها والتى اصبحت ببرودة القطب الشمالي..
عندما ادار مقبضها شعر بخواء غريب يتملكه.. دخل وجالت أنظاره بجوانبها وكأنه يتعرف عليها للمرة الاولى.. واخيرا سقطت عيناه على اريكتها.. تلك الأريكة التى اقسم ذات يوم ان يحرقها حتى لا تجد ملتجأ.. تلجأ اليه الا فراشه.. الان يعتذر لاريكتها اعتذارا صامتا... وكل همه هو وجودها بمحيطه حتى ولو على تلك الأريكة البائسة التى يمقتها.. تنهد فى حسرة.. وجذب عينيه بعيدا عنها.. واتجه ليحضر ملابس نظيفة..
فربما حماما ساخن يعيد له هدوء نفسه وصفاء باله..هو يعلم ان ذلك لن يحدث وهى بعيدة.. لكن.. هو يمنى نفسه.. بان إرهاق الايام الماضية.. كفيل بجعله يغوص فى نوم عميق دون جهد يذكر..فتح خزانة الملابس وهو شارد.. وتنبه انه فتح الجانب الخطأ... انه جانبها.. هل اخطأ حقا.. ام انه أراد التطلع الى اى شئ يتعلق بها.. يذكره بأنها الحاضرة الغائبة.. الحاضرة بقلبه وعقله والمتعلقة بتلابيب روحه... والغائبة عن محيطه بمحياها الذى يفتقده كثيرا..
كافتقاده ملامح روحه.. طالعه ثوب الزفاف الذى أنتقاه خصيصا لها... فقد ظل طوال نهاريوم عرسهما يبحث عن ثوب يناسب عنفوانها وروحها المتمردة وعيونها النارية النظرات حتى وجده أخيرا... وأخذ يتخيلها وهى ترتديه... لكن الحقيقة.. كانت أروع آلاف المرات.. فعندما رأها وهى تتعلق بيد ابيها وهى تخطر به فى ليلة زفافهما... لا يعلم لماذا زاد وجيب قلبه.. وشعر بشئ غريب يتسلل.
إلى روحه.. شئ لم يستطع ان يجد له تفسراً... وكأن.. يد رحيمة. كانت تهدهد فؤاده وتواسى روحه القلقة.. وتبعث أملاً... ظن منذ زمن.. أنه ولى بلا رجعة... أقترب من الثوب يتحسسه.. ويمرر أصابعه على مخمله.. يغبطه... بل يمقته.. لأنه لامسها.. كان قريب منها دونه.. قماشه الحريرى كان يحنو على بشرتها العاجية.. وهو مطرود من فردوسها ولا امل فى مغفرة تعيده... أحتضن الثوب بين ذراعيه متخيلاً انها لازالت ترتديه.. فتسربت رائحة جسدها المعطر لأنفاسه جعلته يثمل بغير شراب..
يا الله.. هتف متضرعاً وهو يعيد الثوب لمشجبه... وهو يعترف الف الف اعتراف... انه بحق يعشقها.. وسيفعل اى شئ.. اى كان.. حتى يستعيدها مرة اخرى لاحضانه وساعتها.. لن يدعها تبتعد ابدا مهما حدث.. تمدد على فراشه.. يتطلع لسقف الغرفة متنهداً فى يأس وأغمض عينيه يتذكر محياها...
لا يعرف متى غفل وزار النوم جفونه مترفقا مشفقا.. كل ما تذكره.. انه رأها هناك تدعوه لفردوسها.. وكلما اقترب يرتشف من نبعه الرقراق.. يكتشف انه سراب.. انتفض مذعورا.. يتلفت حوله.. مسح وجهه بكفيه يدعو نفسه لطرد النعاس..عندما انطلقت الزغاريد من جديد فى أنحاء السراىّ.. جعلته يستيقظ كليا.. فنهض فى تثاقل متوجها لخارج الغرفة ينظر لاعلى الدرج ليجد النسوة مجتمعات.. لتجهيز فطار العروس.. والذهاب به لبيت زوجها.. ابتسم فى حبور..
وهبط الدرج فى تؤدة.. يفرك رأسه.. ويلقى بجسده على اول أريكة مقابلة لمجلس الحاجة فضيلة التى ابتسمت له :- نوم العوافى يا حبيبى.. رد مبتسما:- يعافيكى يا حاجة.. ويسلمك.. حضرتوا فطور العرايس.. !!؟.. ويشير لتلك الصوانى التى تحملها النساء أومأت الحاجة فضيلة فى فخر :- اومال ايه..!؟.. فطور ملوكى.. يليج ببت الحاج مهران الهوارى.. وأخوها زينة الشباب..
انفجر عاصم ضاحكا :- ماااشى يا حاجة.. هنا وشفا على اللى هايكله.. مطرح ما يسرى يمرى.. خلى العرايس يتهنوا سألت الحاجة فضيلة وقد تغيرت ملامح وجهها:- وانت يا عاصم.. ميتا تتهنى..!!؟... لم يجب عاصم على سؤال امه.. الذى لا يعلم له جوابا.. وانتفض مبتعدا تتبعه نظراتها المتحسرة حتى وصل لباب السراىّ.. ينادى سعيد.. الذى حضر فى لمح البصر كعادته..:- امرك يا عاصم بيه..
أمره مشددا:- تفوت على بيوت مشايخ الهوارية.. بيت بيت وتبلغهم يجمعوا كلهم عندى فى الاستراحة.. اها لحجناهم جبل ما حد يجول عندى مُصلحة ولا حاچة.. جلهم ضرورى وأوعى حد ميچيش.. وأخربيت تفوت عليه بيت عمى غسان..تاكد على سليم انه ياچى مهما كان وراه.. حاكم انا عارفة.. وجوله الموضوع يخصه.. ومينفعش ميبجاش موچود.. تمام... يا الله هم عشان تلحج..
اندفع سعيد منفذاً الامر بسرعة البرق.. وعاد عاصم لداخل السراىّ.. يجلس على مائدة الافطار التى أعدوها للتو.. -لساتك عايز تفتح الموضوع بتاع واد عمك مع الهوارية.!؟. - وااه.. ده حج يا حاچة..
-ربنا يجيب العواجب سليمة.. رددت فى همس.. ولم يعقب هو.. بل تناول إفطاره فى عجاله.. يتجنب النظر لعينى امه التى كانت تحاصره تثبر أغوار نفسه.. وما ان انتهى.. حتى نهض فى عجالة يعتلى الدرج وهو يقول لها :- خليكى چاهزة يا حاچة على المغرب كده.. عشان نروح ننجط سهام ونباركولها.. فهزت هى رأسها موافقة ولم تزد حرفا..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن عشر
استيقظت ندى باكرا على غير عادتها.. ولم تشعر برغبة فى العودة للنوم من جديد.. فخرجت للحديقة المحيطة بدار عمها تستنشق نسمات الصباح البكر المحملة بالهواء النقى.. والذى ملأت به رئتيها.. تمشت قليلا.. لتفاجأ به يجلس فى أريحية على احد المقاعد الجانبية.. أسفل احدى أشجار المانجو الوارفة.. ونظارته الطبية تصنع اطارا قيما للوحة عينيه العميقة بلون العسل المذاب.. رفع تلك العيون لها الان فجفلت للحظات.. ثم ابتسمت :- صباح الخير..دكتور نبيل.
ابتسم ببشاشة معتادة :- صباح النور.. مكنتش أتوقع انك من اللى بيحبوا يصحوا بدرى..!!؟.. ابتسمت بإحراج :- بصراحة.. انا فعلا مبحبش الصحيان بدرى.. بس الجو هنا يرغمك.. انك متفوتش الصبح الرائع ده ومتستمتعش بيه.. -عجبتك بلدنا..!؟.. سأل فى مرح.. اجابت عاقدة ما بين حاجبيها :- على فكرة.. دى بلدى انا كمان.. ابتسم مبتهجا لأجابتها :- انتِ صح..
ابتسمت فى خجل ولم تعقب.. فاستطرد هو فى تساؤل..وهو يرى من على بعد.. خيال زهرة.. وهى تتوجه للجانب الاخر من الحديقة.. ويتبعها عمه بعدها بلحظات:- عجيبة.. !!؟.. تعقبت نظراته حتى انتبهت لخيال زهرة ووجهتها لتسأله :- ايه هو اللى عجيب..!!؟..
شرد قليلا وكانما يفكر بكلماته :- انتِ وزهرة.. أختين.. لكنكم مختلفين فى كل حاجة تقريبا.. انتوا حتى مش شبه بعض.. امتعضت وكانما شعرت ان الحوار ينحى باتجاه هى تعلم انه لن يرضيها لكن مع ذلك فضولها دفعها لتسأل :- قصدك ايه!؟.. مش شرط كل الأخوات يكونوا شبه بعض فى الملامح.. ولا حتى فى الطباع..
هز راْسه متفهما :- صحيح.. لكن على الاقل.. الأساسيات اللى أتربوا عليها واحدة.. القواعد.. النظرة للامور.. عادة واحدة.. و ده بصراحة مش شايفه معاكم... احتدت الان وهى تقول :- لو قصدك تقول على طريقة اللبس وأسلوب التعامل.. فدى حاجة شخصية.. وقاطعها هو فى هدوء :- مقصدتش ابدا المقارنة على فكرة.. وانا يمكن وضحت فى موقف سابق.. ان دى حرية.. انا بس بسأل يا ترى.. ايه السبب فى الاختلاف ده..!!.. مش اكتر..
لم تكن لتستطع ابدا ان تعترف ان سبب هذا الاختلاف هو امها التى كانت تدفعها دفعا للتحرر والانغماس فى مجتمع الشباب.. ولم تكن تكترث لزهرة او توجهاتها.. التى دفعتها لارتداء الحجاب.. والاحتشام الذى لاقى من أبيهما فرحة غامرة.. لطالما كانت زهرة.. هى حبيبة ابيها والمفضلة عنده.. وهى كانت حبيبة امها والمفضلة لديها..
مما جعل البيت دوما فى حالة انقسام لفريقين.. وجعلها مسيرة فى صف امها.. ومتبعة لتعليماتها.. والتى كانت تحاول بشتى الطرق ان تبعدها عن أفكار زهرة و تأثيرها على حياتها شعر نبيل بحيرتها وشرودها.. فاشفق عليها من تلك الدوامة التى شعر انه السبب فى زجها بداخلها.. فقال بمرح يجتذبها للحديث من جديد :- يا الله زمانهم حضروا الفطار.. وبصراحة انا جعان جدااا..
ابتسمت وقد شعرت.. انه يغير دفة الحديث لارضاءها فأومأت فى رضا.. وتبعته لداخل الدار.. ربت عاصم على كتف زكريا فى محبة.. وهو داخل غرفة الاستراحة على اطراف إسطبلات الخيل.. هامسا فى ثقة :- خليك هنا.. وأول ما انده لك تاچى.. جبل كده ما تظهرش تمام..!؟
أومأ زكريا موافقا.. وقد غابت عن وجهه ملامح الحياة خوفا.. فربت عاصم على كتفه من جديد مطمئنا :- متخافش.. كل حاچة هاتبجى تمام.. ولو حُصل ايه..!؟.. مش هيجوموا من هنا الا وهم معترفين بيك.. وبأنك هوارى.. وبن هوارى وحجك فى ورث عمك هتاخده.. بمزاچهم او غصب عنيهم. ابتسم زكريا فى امتنان لعاصم.. وهذا الاخير يندفع خارجاً لمكان التجمع.. الذى بدأ يحتشد بالهوارية.. وقد ارتفعت اصواتهم متسائلين عن سبب تجمعهم بهذه الطريقة المريبة والعاجلة.. وقد تعطلت مشاغلهم ومصالحهم..
هلّ عليهم عاصم.. فالتزم الجميع الصمت.. والذى قطعه عاصم ملقيا التحية وهو يتخذ مكانه فى صدر المجلس.. يجول بناظره فى الجمع المحتشد.. يتأكد من حضور الجميع.وخاصة سليم الذى لمحه يجلس على اليمين فى الزاوية البعيدة تبدو عليه الحيرة والحنق فى آن واحد... سأل عاصم فى صوت جهورى:- انتم عارفينى.. عمرى ما كلت حج حد.. وعمر ما كان ليا عند حد حج وسبته..وعمر ما فى صاحب حج.. لجأ ليا ورديته.. صوح !!؟.. هتف الجميع بصوت واحد :- صوح..
فاستطرد هو فى ثقة :- ولما يبجى صاحب الحج ده.. اجرب ما ليا.. ينفع اسيبه من غير ما اخد له حجه..!؟.. هتف الجمع من جديد :- لاه طبعا.. ليضيف احدهم.. بس ايه الحكاية فهمنا... أيه الفوازير دى كلها يا كبير..!!؟..
دفع عاصم يده فى جيب جلبابه مخرجا بعض الأوراق.. دافعا بها لأول الأشخاص من على يمينه.. طالبا منه مطالعتها وتمريرها للجميع.. والذى بدأ الفضول يلعب بوقارهم.. لينهض كل منهم دافعا بعينيه للأوراق قبل ان تصل ليديه فيطالعها بنفسه.. وابتدأت الشهقات تعلو.. مع كل يد تمرر الأوراق لليد الاخرى.. وتعلو وتيرة الفضول.. وعاصم يجلس فى ثقة.. متكئاً على عصاه الابنوسية فى صبر.. ينتظر ان تعود الأوراق ليده من جديد بعد ان تتم دورتها..
ليقاطعهم هاتفاً :- الاوراج دى صور.. مش الاصل طبعا.. الاصل انا محتفظ بيه.. ومش هخرجه الا للمحامى لو متحلتش ودى بناتنا ودلوجت وفى الجاعدة دى.. كان دور سليم.. ليشهق وتجحظ عيناه عندما وقعت على ما تحتويه الأوراق فيصرخ مكذبا :- لاه.. ده كدب.. كله كدب.. أبوى الله يرحمه مكنلوش واد غيرى.. كان يتوقع عاصم تلك الثورة التى يشهدها من سليم :- اهدى يا سليم.. وكل حاجة هنجشوها بالعجل..
صرخ سليم مندفعا بتهور فى أتجاه عاصم :- عجل ايه !!؟.. انت خليت فيها عجل يا واد مهران.. انتفض عاصم من مجلسه فى غضب هادر ممسكا بتلابيب سليم يرفعه بيد واحده ملصقا ظهره بأحد الأشجار.. رافعا إياه عن الارض.. وهو يكلمه من بين اسنانه :- اسمه الحاج مهران يا عويل..
واللى لِسَّه حسه بالدنيا.. تاج رأسك ورأس الهوارية كلاتهم كان سليم الان يشبه الفأر الذى سقط بالمصيدة معلق لا يستطيع فكاكاً.. مما دفع احد المجتمعين للربت على كتف عاصم مهدئا.. :- ميجصدش يا عاصم.. معذور يا واد عمى.. اللى شافه فى الورج مش هين برضك.. نزل واد عمك يا عاصم.. وخلونا نهدا ونفكر.. كيف نحلها الحكاية المغفلجة دى.. ومين هو زكريا ده.. ووينه من الاساس !!؟
ترك عاصم سليم ليسقط على قدميه ساعلا فى قوة.. يلتقط انفاسه بصعوبة.. رافعا راْسه ينظر فى حقد وغل لعاصم..و الذى هتف بصوت جهورى ينادى على زكريا ليظهر الاخير مقتربا من الجمع.. الذى هتف كل من فيه غير مصدق فى صدمة :- زرزور!!؟..
ليستقيم سليم.. ليكون واحد من الذين أخذتهم الصدمة للحظات.. ثم ينفجر ضاحكا بشكل هيستيرى اقرب للمجذوبين وهو يهتف فى عاصم :- واااه يا واد عّمى.. فكرة مليحة برضك.. وزرزور اخرس وميجدرش ينطج ويجول الحجيجة.. وأنك انت اللى كاريه.. عشان الحدوتة الخايبة دى اللى ميصدجهاش عيل صغير.. هنا فاض الكيل بعاصم.. الذى جذب سلاحه من جيب جلبابه وهو يهتف :- كلمة واحدة زيادة يا سليم وبعدها.. لا انت بن عمى.. ولا اعرفك.. ولا ليك عندى دية.. اندفع احدهم مهدئا عاصم.. مبعدا يده التى تحمل السلاح عن اتجاه واد عمه..
ليهتف عاصم وهو يحاول ان يتمسك بالهدوء لاخر رمق :-زرزور هو زكريا اللى عندكم فى الاوراج.. و ده بشهادة الحاچ مهران والحاچة فضيلة.. اللى شهدوا الحكاية من زمن.. واللى أنكرها طبعا عمى غسان الله يرحمه.. واللى هدد ام زكريا بالجتل هى وولدها لو مخدتوش وغارت بيه من البلد.. واللى طبعا استجارت بالحاچ مهران عشان يحمى ولدها.. وسابته فى رعايته.. وهربت من الخوف.. والاوراج دى كلها اللى معاكوا انا عرضت الاصل على المحامى.. اللى أكد انها سليمة.. و ان زكريا يبجى واد عمى غسان الله يرحمه.. وأخو سليم.. وله حجوج لازم تترد له..
هتف سليم فى غضب هادر :- اللى هيجرب على شبر واحد من ارضى هجطع رجله.. ومحدش له عندى حاچة.. تنهد عاصم فى نفاذ صبر موجهاً حديثه لسليم :- برضاك.. او غصب عنيك زكريا هياخد حجه.. وانا كمان ليه منى دار.. يعيش فيها هو وأمه معزز مكرم واحد من الهوارية.. حد عنديه كلمة خلاف اللى جلتها.. ونظر عاصم فى وجوه الجمع المحتشد فى فوضى الان.. ما بين واقف.. وجالس.. ومذهول.. ولا مبال... ولم ينطق احد بحرف واحد.. الا سليم بالطبع الذى اندفع مبتعدا عن طريق عاصم مغادراً الاستراحة باكملها..وهو يهتف فى ثورة :- دى كانت اخر جشة فى كومك الكبير يا عاصم.. وبكرة تشوف مين سليم الهوارى..
لم يعر عاصم اى انتباه لتهديدات سليم الجوفاء.. وصرف ذهنه للهوارية.. الذين حسهم على الترحيب بزكريا كفرد جديد بينهم.. لا يجرؤ احدهم على معاداته او عدم الاعتراف به.. وهو فى حماية... الغول.. عاصم مهران الهوارى نظر ناجى التهامى لابنته.. التى تجلس الان فى احد اطراف الحديقة تفكر بعمق.. حتى انها لم تنتبه لاقترابه من مجلسها كم يشعر بالاشفاق عليها.. فلقد ظُلمت كثيرا... ولا زال الظلم قائما..فبقاءها مع عاصم الهوارى.. يعد اكبر ظلم ارتكبه فى حقها.. كان عليه تحمل تبعات افعاله القديمة.. بدل من ان يتركها تدفع هى ثمنها كاملاً..
انه يشعر بالخزى والعار يكلله.. وقد اتخذ قراره وحزم أمره فلن يعود هذه المرة بدونها.. لن يتركها مع ذاك الرجل.. حتى ولو كان الثمن حياته.. تنهد فى عمق وهو يجلس بالمقعد المجاور لها.. فتنبهت له اخيراً.. لكنها أعرضت عنه بنظراتها.. فهذه المرة هى مختلفة.. ليست هى زهرة التى دوماً.. ما تقابله بابتسامتها البشوش التى لا تفارق شفتيها.. مد كفه لذقنها يرغمها فى محبة ان تنظر اليه :- فى ايه يا زهرة.. اول مرة تخبى عيونك عنى..!؟.. طفقت من عيونها الدموع وهى تقول :- ليه خبيت عنى !!؟
طول عمرى كنت حاسة انها مش امى.. الكل يبقى عارف هنا حتى الغريب.. وانا اخر من يعلم..مكنتش أتوقع منك كده يا بابا.. تنحنح فى تأثر محرج ومصدوم فى آن واحد :- فى ظروف كتير يا زهرة كانت بترغمنى انى اخبى الحقيقة دى لكن اللى عايزك تعرفيه.. انك الحاجة الجميلة اللى سابتها لى امك.. اللى كانت وما زالت حب حياتى..واللى مقدرتش اعوضها.. واللى بشوف فيكى صورة منها..
دمعت عيناه.. فرق قلبها ولم تعلق ليستطرد هو :- انا وامك ضحية عقول متحجرة.. وتقاليد عقيمة.. وعادات ملهاش اصل.. لا فى دين ولا سنة.. اتقدمت لاهلها.. ٣ مرات.. وفى كل مرة اترفض واطرد.. وهى تقع من طولها مريضة بالشهور.. كنّا بنموت.. انا وهى.. وروحنا متعلقة ببعض.. ومحدش حاسس بينا.. واخيرا قررنا الهرب.. واننا نرمى كل البلد دى باللى فيها ورا ضهرنا.. كاننا عمرنا ما عشنا فيها.. ولا عمرنا هانرجعها تانى..
وهربنا واتجوزنا... وعشنا اروع سنين حياتنا.. قعدنا سبع سنين.. ربنا مرزقناش فيهم بأولاد.. كانت هى بتبكى.. وتفتكر ده عقاب ربنا لينا.. عشان عصينا اهلينا..مكنتش تعرف ان ده رحمة من ربنا.. لحد ما ربنا كرمنا بيكى..
لكن.. صمت متأثرا يزدرد ريقه.. ملحقتش تتهنى بوجودك فى حياتنا.. وراحت و سابت لى نسخة تانية منها انتِ.. مكنتش اعرف.. لا انا ولا هى.. ان هروبنا بحبنا.. واللى معرفش كان صح ولا غلطة.. بنتنا اللى هاتدفع تمنه.. بعد كده بسنين طويلة... وان البلد اللى كنت فاكر انا وهى يوم ما هربنا.. ان عمرنا ما هنخطيها... اتارى جذورنا متبتة فى ارضها و رجعنا لها مغصوبين.. زى ما فتناها مغصوبين... تنهد.. ثم قال فى نبرة هادئة تحمل نبرات عزم.. اعملى حسابك.. انتِ هاترجعى معايا على بيتى النهاردة.. وموضوعك مع عاصم الهوارى ده خلاص انتهى.. وأعلى ما فى خيله يركبه.. سامحينى يا زهرة.. انى سبتك ومدافعتش عنك.. بالقدر اللى تستحقيه..
اندفعت تبرر له.. محاولة ان تقلل من شعوره بالذنب.. والذى شعرت به يمزقه :- متقلش كده يا بابا.. انا اللى اخترت.. وانا اللى وافقت على جوازى منه.. وانا اللى اصريت ومحدش كان ليه ذنب فى حاجة.. وانا مش ندمانة على التجربة دى..وبالنسبة لرجوعى معاك.. متهئ لى انا فعلا محتاجة ابعد شوية.. -خلاص جهزى نفسك.. وباذن الله نكون كلنا سوا فى بيتنا النهاردة..
أومأت برأسها ايجابا.. وعلى الرغم من ان عقلها كان موافق على كل كلمة نطقتها.. وعلى قرارها الاخير بالابتعاد حتى تستجمع شتات نفسها وتعيد ترتيب مشاعرها المبعثرة لكنها شعرت بانقباض شديد بقلبها.. وكأن يدا باردة تعتصره فى قسوة.. اما الم روحها.. فكان قصة اخرى من العذاب لم تسطع ان تجد لها تفسيرا..
ارتفعت الزغاريد بدخول الحاجة فضيلة بيت التهامية.. والذى اصبح منذ اليوم.. بيت ابنتها سهام.. وفى أعقابها عاصم الهوارى.. والكثير من الهدايا المحمولة للعروسين.. اندفع حسام هابطا الدرج.. مرحباً بأهل عروسه.. داعياً الحاجة فضيلة وبنات عمه زهرة وندى.. لمباركة العروس بغرفتها بالطابق العلوى..
بينما احتضن عاصم حسام مباركاً وعيونه معلقة لا أرادياً بزهرة التى تتجه لأعلى الدرج ولا تعيره اهتماما حتى انه لاحظ أن ملامح ابيها لا تحمل بشاشتها المعهودة وهو يتجنب النظر اليه او حتى المشاركة فى الحديث الدائر.. اخرج عاصم رزمة من الأوراق المالية.. وضعها فى كف حسام هاتفاً وهو ينهض يهم بالرحيل :- نجوط العرايس.. وألف مبروك.. هتف حسام فى امتنان :- بس ده كتير يا عاصم..
ابتسم عاصم فى حبور :- مفيش حاجة تغلى عليكم.. المهم تحط سهام فى عينك.. وتخلى بالك منها.. ابتسم حسام :- طبعا.. دى فى عنايا.. هتف عاصم للجميع وهو يهم بالمغادرة:- طب أستأذنكم أنا.. هتف كل من نبيل وحسام والحاج قدرى..:- لساتك ما جعدت ولا خدت واجبك.. و دى تيجى.. ابتسم عاصم :- معلش.. مرة تانية.. ثم توجه للدكتور ناجى هاتفاً :- عايزك فى كلمتين يا داكتور ناجى..
نهض الدكتور ناجى فى تثاقل وخرجا سويا للحديقة المحيطة بالدار وجلسا فى المقاعد المتطرفة بآخرها.. كل منهما صامت ينتظر المبادرة من شريكه حتى تنحنح عاصم مستهلاً حديثه قائلا :- أنا عارف يا داكتور ناجى ان العلاقة بناتنا بدأت بداية غلط.. بداية كلها انتجام وكره جديم.. وعارف انك مش طايجنى بسبب الموضوع ده.. لكن احنا بجينا نسايب خلاص و ده يأكد ان الموضوع الجديم ده راح لحاله.. وخصوصى.. ان زهرة فى الاول والآخر.. بت خالتى فاطنة الله يرحمها.. واللى حضرتك تعرف زين.. غلاوتها عند أمى الحاجة فضيلة..
تكلم الدكتور ناجى اخيرا بلهجة معاتبة :- كنت هتوفر علينا كتير يا عاصم.. لو خلتنى أقابل الحاجة يوم كتب الكتاب.. اومأ عاصم براسه مجيبا :- يمكن يا داكتوريكون عندك حج وحاجات كتيركانت اتغيرت ساعتها... ويمكن كنّا اتمسكنا بكتب الكتاب اكتر.. لان الحاجة ما كانت هتصدج ان بت اختها رجعت لحضنها..
قاطعه الدكتور ناجى منفعلا:- اه بس لو كانت الحاجة عرفت من اول يوم على الاقل كانت معاملتك ليها كانت هاتبقى افضل.. انا زهرة مقلتش اى حاجة.. ولا رضيت تذكر تفاصيل.. بس انا حاسس بالالم النفسى اللى هيا عيشاه.. واللى انت سبب فيه.. وللاسف انا كمان سببه لانى ممنعتكش ووقفت فى وشك وحميتها منك.. وكمان معرفتها ان نصها هوارى خلاها تربط ده بالمعاملة الكويسة اللى لقتها بعد اكتشافكم انها منكم.. ده خلاها حاسة انها ملهاش قيمة عند حد لنفسها.. لكونها زهرة وبس..
أومأ عاصم برأسه متفهما فقد سمع منها ذلك فى اخر حوار بينهما ذاك الحوار الذى فارقته بعده.. :- عندك حج يا داكتور.. عشان كده.. انا جاى النهاردة.. وبتجدم لك من جديد.. واطلب يدها..
بهت الدكتور ناجى لهذا العرض المفاجئ.. والذى لم يتوقعه ابدا من شخصية مثل عاصم.. ونظر بتعجب لتلك اليد الممدودة اليه..لا يعرف هل يقبلها ام يرفضها !؟.. نظر لعاصم الذى ولدهشته كانت ملامح وجهه الان تحمل ابتسامة هادئة.. ورغبة قوية فى السلام تنتظر من يجيبها مد الدكتور ناجى كفه مترددا وهو يقول :- مقدرش أديك ردى.. لازم اسألها الاول.. هل هى ليها رغبة فى الاستمرار او الرجوع معايا.. وكمان عايز اضمن انها فعلا هاتبقى مرتاحة معاك.. قال كلماته الاخيرة.. وقد اصبحت كفه بالفعل بكف عاصم..
الذى تشبث بها فى راحة وهو يقول فى نبرة صادقة.. وصلت لقلب الدكتور ناجى فأنصت باهتمام :- صدجنى يا داكتور..لو هى اختارت تجعد وبخطرها مش غصب عنها هشيلها على كفوف الراحة.. مش عشان هى بت خالتى.. لاااه.. عشان هى زهرة.. زهرة وبس..زهرة بت الداكتور ناجى التهامى..
وصمت ولسان حاله يقول.. زهرة.. التى خطفت انظارى بعفويتها.. وأسرت روحى.. واعتلت عرش قلبى الذى لم ينبض لامرأة قبلها ولن يكون لأخرى سواها.. ابتسم الدكتور ناجى فى سعادة وقد شعر ان احساس فظيع بالذنب قد انزاح من على كاهله وهو يجيب :- خلاص يا عاصم.. الموضوع دلوقت فى ايدها هى.. هسألها.. واكيد هاتعرف القرار منها..
نهض عاصم فى سعادة غامرة وهو يشكر الدكتور ناجى.. ويرحل فى انتظار الرد.. الذى يتوقف عليه حياة قلبه.. خرج منتشيا من دار التهامية.. لديه احساس عميق بأنها لازالت ورغم كل ما كان.. ترغب البقاء بقربه.. وتريده كما يريدها.. سار الهوينى يمنى نفسه بعودتها وبقرب وصالهما الذى انتظره طويلا.
كانت ضحكات النساء تتعالى فى غرفة العروس.. التى كانت سعادتها تقفز من عينيها.. تتلقى التهانى وهدايا الزفاف من زهرة وندى.. والحاجة فضيلة التى شعرت بفرحة غامرة وهى ترى تلك السعادة التى تكسو ابنتها من رأسها حتى اخمص قدميها..
وبرغم محاولة زهرة الاندماج مع ضحكاتهم ومزاحهم.. الا انها لم تنسى تلك النظرة الجانبية التى شملها بها عاصم وهى فى طريقها لاعتلاء الدرج.. لقد اشتعلت عندما شعرت بنظرته عليها والتى لاحظتها بطريقة خفية.. نعم هى علمت بانه كان مظلوم فى اتهامها له.. وانه اخفى عنها سر امها بناء على طلب من ابيها وقد احترم عاصم تلك الرغبة..
لكن هذا لا ينفى عنه.. انه لم يحبها قط لشخصها.. بل اعتبرها دوما ابنة غريمه.. او ابنة خالته.. لم يجردها من هاتين الصفتين ابدا.. لم يعاملها ابدا.. كزهرة.. لم يخبرها قط انه يحبها.. انه يريدها.. انه يتمنى بقاءها.. وحتى عندما أخبرته بذهابها لابيها.. لم يتمسك بها.. انها الان ايقنت انها اتخذت القرار المناسب بالسفر مع ابيها مبتعدة عنه وعن كل الالم وعن كل التخبط فى مشاعرها والذى عاشته بقربه..
خرجت للنافذة متسللة بعيداً عن تجمع النساء الضاحك.. وطلبت رقمه بأصابع مرتعشة.. رد على الهاتف فى لهفة حاول ان لا تظهر على نبرات صوته.. وأمر زكريا بالتوقف بالعربة حتى يستطيع سماعها :- كيفك يا زهرة !!؟ ردت فى نبرة مرتعشة حاولت ان تغلفها بالثبات :- الحمد لله كويسة يا عاصم.. -طيب الحمد لله.. اجاب.. يا رب على طول بخير..
اجابت فى تعجل حتى لا تتردد فى الإفصاح عن رغبتها :- -عاصم.. بعد إذنك.. انا هسافر مع بابا.. صمت غلفه للحظات.. وبرودة قاسية كست قلبه.. وأجاب بنبرة باردة قدر استطاعته :- هو ده اللى انتى عوزاه!!؟.. -ايوه.. اجابت بصوت مرتعش -والدكتور ناجى.. عرف بالكلام ده.. !!؟..سأل مستفسراً -اه.. عارف طبعا.. صمت قاتل شملهما من جديد... حتى اجاب اخيرا فى نبرة ثلجية :- اعملى اللى يريحك يا بت الناس..
واغلق الهاتف وكاد يلقى به جانبا فى ضيق.. لكنه وضعه فى جيب جلبابه وهو يزفر فى غضب عارم لا يعرف له حد.. عاد زكريا للعربة التى غادرها عندما استلم عاصم مكالمتها التليفونية.. لكن عاصم لم يمهله ليصرخ به :- انزل يا زكريا.. واستنى الحاچة رچعها على السرايا..
أطاع زكريا وترك العربة على الفور.. لينطلق عاصم وصهيل الأحصنة وهياجها وصل عنان السماء.. معبرا عّن ذاك الغضب المستعر بداخله.. حد الجحيم.. انها لا تريده.. لا ترغب بقربه.. لا تتمنى البقاء.. تريد الرحيل مبتعدة.. تروووح... بس تسيب جلبى..صرخ بقوة.. وهو يلهب الأحصنة بسوطه.. تبعد... بس تسيب روحى.. صرخ من جديد.. لتصهل الأحصنة وتصبح اكثر اندفاعاً وسرعة..
ظلت الأحصنة على سرعتها حتى ألقى أخيرا بجسده على أريكة العربة تاركاً الجوادان يسيران وفقا لرغبتها.. يلتقط انفاسه فى تلاحق.. بدأت سرعة الاحصنة تهدأ... تسير الهوينى لا تلوى على شئ..حتى توقفت.. شعر هو بحركة ما بالقرب من صف الأشجار يساره.. ليتنبه مخرجاً سلاحه النارى ويقفز فى سرعة مختبأ خلف عربته.. لتنطلق اولى الرصاصات باتجاهه..ليبدأ هو فى تبادل إطلاق النار مع ذاك المجهول.. الذى يغير مكان إطلاقه للنار فى كل مرة.. وفجأة.. دوى ذاك الطلق النارى الذى جعل احد الفرسين يجفل.. ليرفع قوائمه الأمامية فى ذعر.وتنطلق العربة مبتعدة لتترك عاصم بلا غطاء يحتمى خلفه.. ليندفع باقصى سرعة محاولا الاختباء خلف احد الأشجار الضخمة على الجهة المقابلة..
لكن للاسف كان الرامى المتربص.. هو الأسرع.. ليسقط عاصم وقد اصابته احدى رصاصته التى كان يمطره بها... وما ان عّم الهدوء المكان.. وتأكد ذاك المجهول من إصابة عاصم..حتى اندفع حيث سقط عاصم مضرج بدمائه ينحنى يفتش عن شئ ما بطيات جلبابه.. فلا يجده فيندفع متوارياً عن الأنظار فى سرعة..
رِن هاتف زهرة ولم تعره اهتماماً تحاول الاندماج مع النسوة بعد ان حدثت عاصم لقد أعلمته بما تريده وهو لم يعترض على الرغم من شعورها بعدم رضاه من نبرات صوته.. لكنها ستنفذ ما ترى فيه راحتها وسترحل بعيدا.. اذن لما هى ليست سعيدة.!؟؟.. او على الاقل لا تشعر بتلك الراحة التى كان من المفترض ان تشعر بها..!؟.. حقا لا تعلم.. لكن هى ترى ان الابتعاد هو الأفضل فى تلك اللحظة للجميع..
استمر الرنين ليطالعها اسم عاصم.. فتنتفض مبتعدة للشرفة من جديد لتجيب :- نعم يا عاصم.. !!؟؟.. لكن على الطرف الاخر لا تسمع الا صوت مبحوح.. لا تستطيع ان تستوضح منه ما يقول.. يا ترى ماذا هناك !!.. ولما هاتف عاصم فى يد غريبة تعبث به.. !!؟.. دخلت فى هدوء مصطنع تنسحب خارج الغرفة حتى لا تشعر احد من النساء بقلقها ثم تندفع فجأة تكاد تسقط من على الدرج وتقتحم مجلس الرجال صارخة :- عاصم جراله حاجة.. فى حد على تليفونه.. ومش فاهمة منه ولا كلمة..
اختطف حسام الهاتف من يدها وهو يهتف فيه صارخاً:- انت مين..!؟. مين..!؟؟. زرزور..!!؟ زرزور كيف.. هو انت بتتكلم من امتى..!؟.. عاصم ماله.. ايه.. طيب انا جاى حالاً.. كان الجميع يترقب كلمات حسام التى كانت تشبه الألغاز فاغرين فاهم غير قادرين على استيعاب ما يحدث.. وأخيراً.. صرخ حسام :- عاصم مضروب بالنار فى اخر البلد..
لم تكن صرخة زهرة وحدها التى انطلقت.. بل صرخة سهام التى كانت تساعد امها على نزول الدرج استعداداً للرحيل... وصراخ الحاجة فضيلة لوعة على ولدها.. ارتبك الرجال جراء الصراخ المتواصل المحيط بهم من النساء.. واخيرا هتف حسام.. يا الله بينا نلحجه.. وهتف فى نبيل.. خليك انت يا نبيل.. هنكلمك تجيب الحريم على المستشفى.. الا ان زهرة صرخت :- لا.. مش هستنى.. هاجى معاكم حالا..
لم يعترض حسام وهو يرى لوعتها.. واندفعوا جميعا لللسيارات..تقلهم حيث عاصم.. يصارع الحياة والموت كان زكريا يمسك بكف عاصم الغارق بالدماء.. هامساً فى صوت متقطع.. كطفل ينطق أحرفه الاولى.. وعيونه تغرقها الدموع :- ها تبجى كويس.. وتجوم بالسلامة يا واد عمى.. ربت عاصم على خده بحنان :- وااه يا زكريا.. قال لاهثا.. وعتتكلم كمان.. يا بحورك الغريجة.. يا واد عمى..!!
ابتسم زكريا ابتسامة شجية مغتصبة ولم يجيب.. ليلهث عاصم فى ألم :- خلى بالك يا زكريا على امى وأختى.. دوول أمانة فى رجبتك.. تهته زكريا من جديد :- متجلش كده.. هاتبجى بخير.. انا شفت اللى عملها.. سأل عاصم لاهثا :- مين..!؟.. -أخوى.. سليم.. انا كنت بچرى وراك.. مسبتاكش زى ما جلتلى.. ووصلت لما بدأ ضرب النار.. اداريت لحد ما شفت سليم بيجلب فى جيوبك على حاچة ملجهاش.. راح چارى.. وانا چيتك اتصل من على تليفونك.. ودوست معرفش فين.. ردت مرتك..
لمعت عينا عاصم عند ذكرها.. فهى كانت اخر من رد عليها.. اخر من استمع لصوتها.. لمعت فجأة اضواء السيارات المقتربة.. حتى توقفت جميعها فى ان واحد.. ليترجل منها الجميع مندفعا لمكان الحادث..
وكانت اولهم زهرة والتى تيبَّست قدماها فجأة وهى تحاول الإسراع اليه.. سبقها الجميع محيطين به حاجبين مرآه عن ناظريها... كان هو يجول بنظره فى الوجوه المحيطة يبحث عن وجهها.. لعله يكون اخر ما يطالع بدنياه.. لكنه لم يجدها بين دائرة الوجوة التى تشرف عليه من علياءها وهو ممدد مضرج بدمائه فاشاح بوجهه جانبا..
كانت قدماها تتحرك بصعوبة حتى وصلت اليه.. افسح لها الجميع لتجثو على ركبتيها تحتضن عاصم فى لوعة بعد ان ترك لها زكريا موضعه.. ليتنبه لتلك الكف التى تحتضن جانب وجهه بارتعاشة لهفة.. فيفتح عينيه بتثاقل وابتسامة فرحة شاحبة ترتسم على شفتيه..
عيونها غمرتها الدموع وهى تضع كفها على موضع الجرح بصدره.. لعلها توقف ذاك النزف المستمر كان ينظر اليها الان كانما يراها بعد فراق دام طويلا.. يرى تلك اللهفة بعينيها والتى تمنى رؤيتها يوماً.. والخوف على فقده مجسدا على ملامحها التى يعشقها كانت تبكى بلوعة وحرقة.. لا تعرف ماذا تقول او تفعل.. غير ان تبكى.. وتكرر اسمه بارتجافة.. وتضغط على جرحه لعلها تمحيه.. همس اليها..
وهو يحمل كفها من جانبه الأيمن المصاب.. ويضعه على موضع قلبه.. وقد بدأ يتفصد العرق من جبينه :- الچرح هنا يا زهرة اضغطى هنا.. وجفى الوجع اللى چوه.. جبل ما تروحى.. او جبل ما اروح انا.. همست فى لوعة شاهقة وهى تحتضن رأسه لصدرها :- مش هروح مش هبعد.. هفضل جانبك.. بس قوم بالسلامة عشان خاطرى..
ابتسم لها فى وهن و هويفتح عيونه بصعوبة متطلعا لعينيها هامسا وكأنه يهزى :- وااه لما روحك تفارجك وانت لساك حى.. روحك اللى كانت مرتك وبجت حبيبتك وبعدها بت خالتك وبعدها واجفة فى صف الدنيا عليك.. ازداد نحيبها وهى تستمع لكلماته وتزيد من ضم رأسه لصدرها تكاد تموت هلعا لمجرد التفكير فى غيابه عن عالمها كان كل من الحاج قدرى والدكتور ناجى يقف مبتهلا الى الله فى لوعة حقيقية..بينما صرخ حسام حانقا :- الإسعاف اتأخرت ليه..!!؟...
لحظات وكانت سرينه الإسعاف يدوى صوتها فى المكان.. بجانب سيارات الشرطة التى أتت على ضوء الحادث.. اندفعت زهرة بجواره داخل سيارة الإسعاف.. تبتهل الى الله ان ينجيه.. وقد غاب الان عن الوعى تماما..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع عشر
رفعت كفها الى وجهها.. تلك الكف المضرجة بدمائه التى جفت... دماءه الغالية.. ضمت أصابع كفها تعتصرها.. وتحتضن تلك الكف لصدرها.. وهى تقف امام غرفة العمليات الجراحية.. ألجمها الخوف بل الفزع من مجرد فكرة فقده حتى عن الدعاء والابتهال الذى كان يرتج به صدرها غير قادر لسانها عن تكراره... عيناها زجاجية النظرة...
فقدت معنى الحياة.. ووجها ازداد شحوباً.. الكل ينظر اليها بشفقة.. وليس بيد احدهم حيلة فى إعادتها لحالتها الطبيعية.. وكيف يمكنهم..!؟.. هى لن تعود الا بعودته.. ستكون بخير عندما تعلم انه اصبح بخير.. ازداد دوار رأسها فقد تبرعت بالكثير من الدماء لاجله.. هى ونبيل بن عمها قدرى.. واللذان وافق زمرة دمهما.. لزمرة دمه.. لقد فقد الكثير من الدماء بالفعل.. ولولا بنيته القوية لكان اصبح الامرخطراً.. هكذا أبلغهم الطبيب..
متى سيخرجونه من تلك الغرفة الباردة التى ينقبض لها صدرها وتجعله بعيدا عنها فى عالم اخر فاصل بين الحياة والموت.. تنظر بعين فقدت دمعها كله دفعة واحدة لتصبح جافة جوفاء بلا روح... لأمه التى تكاد تموت ذعراً عليه.. وعلى اخته العروس التى لم تهنأ بعد بزفافها ولوعتها على اخيها الوحيد.. وماذا عن الحاج مهران.. وهو وحيدا الان !!؟.. هل اخبره احدهم..!؟.. هل يقوم احدهم على خدمته..ويسهر على راحته..!!؟؟
كل عالمها توقف من حولها.. عندما لاح لها شبح مغادرته هذا العالم.. اى عالم هذا بدون محياه..!!،.. اى عالم يمكن ان تعيش فيه بدون غضبه وحلمه... حنانه وقسوته.. بدون حبه الذى يأسر روحها ويعذبها.. نعم يعذبها ويؤرقها.. ويدنيها.. ويدميها.. ويسعدها ويشقيها.. انه حب عجيب.. يفعل بها الافاعيل.. ولا حيلة لها بقلبها..
جفلت عندما ربت ابوها على كتفها فى إشفاق هامساً فى حنو :- تعالى ارتاحى يا بنتى.. باْذن الله كله هايبقى تمام.. قولى يا رب.. همست من اعماق روحها :- ياااارب.. وطفقت الدموع لعينيها من جديد.. وهى التى ظنت ان ينابيعها جفت.. واعتصرت كفها المضرجة بدمائه الى أحضانها اكثر..
وأخيراً.. فُتح ذاك الباب..ليندفع الجميع محيطاً بالطبيب الذى ابتسم فى هدوء وهو يقول بثقة :- الحمد لله.. هو بخير وهاننقله لغرفة العناية للملاحظة.. لولا الدم اللى أتنقل له.. كان هايبقى فى مشكلة كبيرة.. بس ربنا سلم..
تنهد الجميع وتنفسوا الصعداء... واخيرا ظهر على سريره المدولب مدفوعا خارج غرفة العمليات شاحب الوجه.. اندفع الجميع خلفه.. حتى تم ايقافهم خارج غرفة العناية الفائقة.. التى نُقل اليها.. يتابعونه من خلال زجاجها.. موصول بالأنابيب والخراطيم الطبية المعلقة بذراعيه و صدره العارى.. بلا حول له ولا قوة..
الليل قد انتصف ولا طائل من البقاء بعد وضعه تحت الملاحظة.. على الجميع الرحيل.. وغير مسموح الا بمرافق واحد.. تطوع الجميع لشغل المنصب.. الا انها هتفت فى حزم :- انا مراته.. وأولى الناس بالوجود معاه.. هتفت الحاجة فضيلة :- لكن يا بنتى انت واجفة على رجلك من الصبح.. والدم اللى خدوه منك.. لازما ترتاحى..
قالت زهرة فى وهن محاولة ابتلاع دموعها :- انا راحتى معاه وكمان مينفعش تباتى بعيد عن عمى مهران زمانه قلقان مش عايزينه يحس بحاجة.. ولا ايه !!؟.. أومأت الحاجة فضيلة.. وهى تعلم ان زهرة على حق.. ازعن الجميع لرغبتها وبدأوا فى الرحيل على مجموعتين.. كان اخر من غادر.. ابوها.. الذى احتضنها فى محبة..
واخذ يربت على ظهرها عندما شعر بنشيج بكاءها.. واخيرا همس بالقرب من اذنها..:- انا كنت هرتكب غلطة كبيرة قووى لو كنت بعدتك عن هنا.. بتحبيه.. اخفضت نظراتها عينيها الدامعة خجلا.. وهوكمان بيحبك.. رفعت رأسها بصدمة لتصريح أبيها.. ليكمل مؤكداً بإماءة من رأسه وهو ينظر لعمق عينيها الدامعة ايوه بيحبك للدرجة اللى تخليه ينزل عن عرش كبرياءه.. ويجى يطلب ايدكِ منى..
عشان أبلغك.. لكن كان اللى حصل حصل.. شهقت وهى تضع كفها على فمها غير مصدقة.. وهى تتذكر كيف كان يرد عليها.. ويسألها.. هل ابوها يعلم برغبتها.. وهى اجابته بنعم.. يا ألهى.. همست من بين شهقاتها.. هو اعتقد ان بعد ما فعل.. لازالت هى تريد الرحيل وكأن ما فعله ليعيد المياه لمجاريها مع والدها.. وتخييرها.. لم يكن ذَا نفع.. ولا يحمل بالنسبة لها.. اى تقدير..
لم يكن يعلم ابيها ما يجول بخاطرها من أفكار.. وإنما كان يتوقع ان لوعتها ناتجة عن الخبر الذى لم تكن على علم به.. بجانب خوفها القائم بالفعل عليه.. لذا.. احتضن وجهها بين كفيه وطبع قبلة حانية على جبينها.. وقال مشجعا :- هيقوم بالسلامة باْذن الله.. انا اتأخرت على الناس اللى فى العربية تحت.. الصبح بدرى هكون عندك.. وكلمينى فى اى وقت.. لو احتجتى اي حاجة.. سلام يا حبيبتى..
واستدار مودعاً تاركاً إياها تدور فى دوامة من مشاعر. تحركت بخطوات متيبسة حتى وصلت لزجاج غرفة العناية.. والذى تطالع محياه الشاحب الان من خلاله.. تلتصق بالزجاج فى ترجى.. وكانما تتشبث بأستار مقام صالح.. تدعو وتبتهل.. ان يفتح عينيه.. ولو للحظات.. لحظات فقط.. لتخبره انها لن ترحل ابدا.. لن ترحل حتى ولو طلب هو منها الرحيل..وكيف لها ذلك..!؟؟...
والرحيل عنه.. هو والموت سواء.. بل ربما أقصى.. فكيف تغادر روحها.. لتحيا جسدا حى.. ميت.. بلا روح.. لا تعرف كم وقفت على حالها.. ولا متى انتبهت لصوت طبيب المناوبة الليلة يناديها..:- انتِ بخير..!!؟.. انتبهت اخيراً.. محولة عيناها عن محياه من خلف هذا الزجاج البارد لتومئ بالإيجاب.. ابتسم الطبيب مشفقاً وهو يشير لجسده عبر الزجاج :- جوزك..!؟؟.. أومأت من جديد.. والدموع بدأت تتجمع فى مقلتيها.. همس الطبيب :- تعالى.. انا هدخلك تطمنى عليه.. بس لثوانى..
ابتسمت للمرة الاولى وهى تمسح دموعها التى انحدرت بالفعل على خديها.. فتح الطبيب الباب ودلفت هى للداخل خلفه فى وجل.. تقدمت فى بطء تقترب من فراشه.. والطبيب يعاين تلك الأجهزة التى تطن والموصولة بجسده.. وبلا إرادة منها وضعت كفها فى كفه الممدودة أمامها مفتوحة.. وكانما تدعوها لذلك... وتهمس بصوت يرتجف لوعة باسمه :- عاصم..
ليتعجب الطبيب فجأة.. من تلك المؤشرات التى بدأت تزداد على الجهاز الموصول بقلبه.. انتبه فجأة لفراش المريض ليتعجب اكثر.. طلب الطبيب منها الابتعاد قليلا.. أطاعت بصعوبة.. لتعود معدلات ضربات قلبه لطبيعتها تدريجياً.. ليطلب الطبيب من جديد منها الاقتراب من عاصم.. وهو يراقب المؤشرات الحيوية من جديد.. وما ان وضعت زهرة كفها بكفه.. وهتفت باسمه.. حتى ارتفعت تلك المؤشرات..
ليبتسم الطبيب.. عندما همهم عاصم بصوت متحشرج :- زهرة.. انتبهت لهمسه باسمها فقد كانت تعتقد انه استفاق ويناديها فردت بحماس :- انا هنا جنبك يا عاصم.. ليحرك الطبيب رأسه مؤكدا إنه لم يستفق ويشير لها بان تسبقه بالخروج من الغرفة.. جذبت نفسها عنوة مبتعدة.. ليغلق الباب فور خروجها.. لتتعلق عيناها من جديد بجسده عبر الجدار الزجاجى.. ويقول الطبيب بابتسامة مشاكسة :- انتِ بقى زهرة.. اللى كان بيخترف باسمها طول العملية..!!؟..
أومأت بخجل.. ليستكمل مازحا :- واضح انه بيحبك قووى.. ومؤشراته كلها بتتغير بقربك.. على العموم هو كويس الحمد لله.. وبكرة بكتيره.. ممكن ننقله لاوضة عادية.. فى انتظار الإفاقة.. حمد الله على سلامته.. قالها الطبيب بابتسامة اخيرة وهو يغادر.. مدندناً بأغنية عن الحب وسنينه.. لتعاود عيناها التعلق من جديد.. بصاحب الجسد المسجى خلف الجدار الزجاجى..
انقسم الجمع.. على سيارتين.. سيارة يقودها حسام وابوه الحاج قدرى.. وبالخلف كانت سهام تنام باكية فى احضان امها التى لم يتوقف لسانها عن الدعاء ولو للحظة.. والسيارة الاخرى يقودها نبيل ومعه عمه ناجى وابنته ندى.. والتى زفرت فى تعب :- ايه اليوم الغريب ده.. أوله فرحة وزغاريد.. وآخره ضرب نار.. بجد بلد المتناقضات.. قال نبيل فى وهن :- هو ده الصعيد يا ندى.. بلد المتناقضات..
-انا اللى صعب عليا زهرة..واضح انها بتحب جوزها قوى.. مين يا ترى اللى عملها..!!؟..نظر نبيل اليها من خلال مرآة السيارة الداخلية.. فانتبهت.. وحولت نظرتها بعيدا فى خجل.. ليقول ابوها :- واضح ان اللى عملها واحد كان مراقب عاصم كويس قووى ومتربص له.. وبينهم اكيد عداوة.. مين طبعا.. منعرفش.. اللى عايشين فى البلد هم بس اللى ممكن يستنتجوا مين اللى ممكن يعمل كده.. !!؟.. ربنا يقومه بالسلامة..
يا رب.. هتف كلا من نبيل وندى فى آن واحد.. رأته ندى يفرك عيناه إرهاقًا تحت نظارته الطبية.. قالت فى إشفاق تعرض مساعدته.. وخاصة لان ابوها.. لا يستطيع القيادة ليلا.:- لو تعبان.. أسوِّق بدالك.. !!؟.. ابتسم فى امتنان.. :- شكرًا.. مش هاتقدرى.. الطرق هنا صعبة وضيقة قووى بالذات بالليل.. وخلاص احنا على وصول..
وصلوا بالفعل بعد دقائق.. ليترجل الجميع فى وجوم.. ويبدو ان السيارة الثانية لم تصل بعد.. دخل الجميع.. كل لمكانه دون ان يتفوه احدهم بكلمة.. مرت دقائق.. حتى سطعت انوار السيارة الثانية اثناء دخولها بالقرب من الدار.. ليترجل منها الجميع بدورهم.. ويكون اول مغادريها.. سهام التى اندفعت باكية للأعلى.. وحث الحاج قدرى حسام على اللحاق بها ومواساتها.. وعاد لغرفته التى يشاركها واخوه الدكتور ناجى..
ساد البيت الهدوء التام الا من خطوات متسللة.. دقت بخفة على باب حجرة نبيل.. الذى كان يستعد للنوم اخيرا فتح الباب ليسأل فى دهشة :- ندى... خير.. فى حاجة..؟؟؟ همست وهى تقدم له كوب اللبن الذى كانت تحمله.. والذى لم يتنبه لحملها إياه :- لا.. مفيش.. بس قلت.. يعنى.. اكيد محتاج لكوباية لبن عشان تعرف تنام.. وعشان..يعنى الدم اللى اتبرعت بيه..
ابتسم فى امتنان وهو يتناوله منها :- بجد كنت محتاجة فعلا.. دى فايدة أن يبقى فى ست فى البيت.. بعد موت امى الله يرحمها.. عمرى ما حد جاب لى اللبن.. وكان خايف عليا كده.. ابتسمت.. وهى تراه يتجرعه فى تلذذ:- يعنى هو ده بس فايدة الست.. !؟؟..
انتهى من ارتشاف الكوب وقال اخيرا.. :- ابسط الأفعال.. هى اللى ممكن تعبر عن الحب.. ويكون لها صدى يتعلق بالروح.. اكتر من مليون كلمة.. وقفت مشدوهة امام كلماته.. ان الدكتور نبيل قدرى ذو العقلية العلمية يتحدث عن الحب بمثل هذا النقاء والشفافية الروحية.. تنبهت من شرودها على صوت سعال عمها.. الذى وصلهما.. لتلتقط الكوب الفارغ من يد نبيل وتندفع مبتعدة.. وهو يتبعها وابتسامة مرسومة على شفتيه.
دخل حسام غرفته خلف عروسه الباكية.. ليجدها تدفن وجهها فى وسائد فراشهما وجسدها يهتز لوعة من شهقات بكاءها الحار على اخيها.. اقترب فى هدوء يربت على كتفها فانتبهت.. لتندفع لاحضانه بشهقات عالية أدمت قلبه ضمها بين ذراعيه فى حنان محاولا التخفيف عنها :- عشان خاطرى كفاية يا سهام.. ده انتِ مبطلتيش بكا من ساعة ما سمعتى الخبر لدلوجت..
هتفت وسط شهقاتها :- ده عاصم يا حسام.. عاصم. ربت على ظهرها مهدئا..لتكمل هى بعد ان هدأت.. عاصم ده مش اخوى وبس يا حسام.. ده ابويا كمان بعد ما أبوى رجد بجى كل حملنا وحمل الهوارية كلاتها على كتافه..
عمره ما جال يا الله نفسى..وشاف حاله زى بجية الشباب.. وحتى فى جوازته.. كانت تخليص حج عشان خاطر امى والهوارية.. ولما اخيرا حسّيت انه مال بجلبه لزهرة.. فرحت وجلت هايرتاح لكنه اخوى وانا عرفاه.. يموت وعمره ما هيجولها بحبك عايز المسكينة تفهم لحالها.. كان نفسى يتهنى لكن اها الحزن دايما جاره..
ابتسم حسام لها بعد ان انتهت من سرد ما بداخلها ليجذبها من يدها تجاه الحمام ليقف يغسل وجهها من اثار الدموع.. ويعود بها للحجرة من جديد.. ليمد لها يده بأحدى ثمرات الفاكهة الطازجة.. ليهمس لها :- كلى دى يا الله..عشان خاطرى -مليش نفس يا حسام.. مش جادرة..
لينظر اليها متصنعا العتاب :- ده انا قلت لك عشان خاطرى لتبتسم فى وهن وتفتح فهمها تتناول الثمرة من بين أصابعه.. ليبتسم قائلا فى مرح :- عاصم هيجوم منيها ويبجى تمام... وبكرة يرمح زى الفرس.. ما انا اها جدامك.. سبجته وخدتلى رصاصة ومع ذلك كنت بطل وجرتينى الاوضة امبارح وراكى وجطعتى نفسى..
انفجرت سهام ضاحكة لتعليقه الساخر ليشعر بالسعادة لاستطاعته اخراجها من حزنها.. نهض فى حنان ليدثرها ويتمدد بجوارها مقبلا جبينها وهو يطوقها بذراعيه هامسا:- بحبك.. لتنزوى هى بين احضانه تشعر بالسكينة.. دخلت الحاجة فضيلة السراىّ.. تترنح من شدة التعب.. عرضت عليها سهام البقاء معها الليلة لكنها رفضت بشدة وأخبرتها ان مكانها الان لا يكون الا بجوار زوجها..
تحركت بصعوبة لتغلق الضوء الساطع من غرفة المكتب.. قبل صعودها للاطمئنان على الحاج مهران.. مدت يدها لمفتاح الضوء تغلقه وعيونها تقع على الغرفة.. التى لا تطأها الا اقدام عاصم.. وشهقت عندما وجدت الغرفة مقلوبة رأسا على عقب لا شئ بها على حاله.تطلعت لتلك الفوضى وأصبحت على يقين الان ان من اطلق النار على ولدها هو من أتى الى هنا يبحث عن مبتغاه.. كانت تعلم ان فتح موضوع زكريا وارثه لن يمر على خير ابدا.. وقد صدق حدسها.. تراجعت لخارج الغرفة.. وأغلقت الضوء والباب بالمفتاح وحملته معها حتى يعود عاصم على خير وسلامة.. ويرى كيف يمكن ان تُحل الامور..
صعدت بإرهاق واضح درجات السلم العتيق.. وفتحت باب غرفة الحاج مهران فى بطء.. لحظات واعادت اغلاقها عندما تاكدت انه يغط فى نوم عميق.. تنهدت بارتياح واتجهت لغرفتها.. تستعيد احداث اليوم الدامى.. وتطلق العنان لدموعها.. تهدئ من مخاوفها.. بدعاء صادق من قلب ام يرتجف هلعا على فلذة كبدها..
كانت تجلس على احد تلك المقاعد المتراصة امام باب غرفة العناية..ويبدو انها نامت.. من شدة إرهاقها وتعبها.. ولم تع الا وهى تنتفض.. عندما سمعت صوته يناديها فى وهن..اندفعت تنظر اليه من خلال الجدار الزجاجى.. لابد انها تحلم.. فهو راقد على حاله لم يستفق بعد.. أغمضت عينيها فى حسرة.. كانت تتمنى ان تجده قد استفاق.. فتحت عيونها بزفرة حزن وتطلعت اليه من جديد.. ليرتفع وجيب قلبها أضعافا مضاعفة عندما وجدته ينظر اليها الان وعلى وجهه ملامح واهنة شاحبة..
ألتصقت بالزجاج اكثر.. وكانما تريد ان تتخطاه لتصل اليه لتتأكد من استفاقته لكنها انتبهت لإحدى الممرضات.. فهتفت بها طالبة حضور الطبيب.. وصل الطبيب بالفعل.. ولكن مع وصول الجميع.. ابوها وعمها.. والحاجة فضيلة.. وسهام وحسام ونبيل وندى والذين تجمهروا جميعا.. على غير رغبة الطبيب.. للاطمئنان عليه.. هى.. وهى فقط.. التى كانت تقف وحيدة فى احد اطراف الغرفة.. لا تستطيع الحراك.. او الاقتراب..
امر الطبيب بنقله لغرفة عادية.. ليجتمع الكل حوله من جديد وتظل هى على حالها.. بعيدة قريبة.. أعصابها تشتعل.. طوال ساعات.. حتى انتهت الزيارة اخيرا و رحل الجميع فى فرحة لسلامة عاصم ونجاته.. نام هو.. من اثر العقاقير التى يتناولها والتى تدفعه دفعا للنعاس.. لتدخل هى اخيرا للحمام.. تبدل ملابسها.. و تخرج تتطلع اليه من جديد ثم تتمدد على فراش أخر فى الطرف المقابل للغرفة بعد تلك الليلة المرهقة التى قضتها امام غرفة العناية..غلبها النعاس.. فنامت.. لا تعرف كم من الوقت استغرق نومها.. الا عندما استيقظت بسرعة بسبب طرق على باب غرفة عاصم.. كانت احدى الممرضات.. تدفع لها صينية من طعام.. مع بعض العقاقير التى يجب عليه تناولها بعض إطعامه..
تناولتها زهرة.. وأغلقت الباب.. لتجد من يقول أمرا فى وهن :- ابجى أجفلى الباب بالمفتاح.. واتأكدى انك حاطة حجابك جبل ما تفتحى.. جفلت حتى كادت تسقط صينية الطعام من يدها فلم تكن تعلم انه استيقظ وزاد وجيب قلبها حنانا عندما طالعت وجهه الشاحب.. وابتسمت فى براءة وقد اكتشفت انها اندفعت تفتح الباب وهى لاتزل بغشاوة النوم فنسيت وضع حجابها فقالت فى مودة :- حاضر..
أشاح بوجهه عنها.. لكنها لم تعطيه الفرصة ليفعل.. فلقد استدارت تواجهه.. وهى تحمل صينية الطعام.. ابتسمت فى مرح :- لازم تاكل عشان الدوا.. اجاب وهو يشيح بوجهه من جديد :- ماليش نفس.. قالت فى دلال :- حتى لو قلت لك انى هأكلك بايدى..!!؟.. اجاب بجفاء :- برضه ماليش نفس..
صمتت هى.. لانها تعلم.. ان معه كل الحق فى ان يكون غاضب منها لهذا الحد فهو لم يعلم بعد سوء التفاهم الذى حدث.. لم يعلم بعد انها لم تكن تدرى بما اقدم عليه لاجلها الا البارحة بعد الحادثة.. هو معذور فى غضبه وحنقه ورغبته فى تجنبها.. لكنها لن تعطيه الفرصة ليبعدها عنه من جديد.. مهما كانت الأسباب.. وفى الوقت المناسب ستخبره الحقيقة كاملة..
وضعت صينية الطعام جانبا فاعتقد انها كفت عن ملاحقته بها.. وبدأ يتنفس الصعداء لابتعادها فقربها يوتره.. ويدفعه دفعا ليشعر بالحنين لاحضانها الدافئة التى يتوق اليها فى تلك اللحظة كمن يتوق دواءا عزيز المنال.. لما لا تبتعد وتتركه لحاله.. !!؟.. أليس هذا ما كانت تريده..!!؟؟.. لما لم تنفذ.. وتبتعد مجنبة إياه تلك اللوعة التى تلهبه فى قربها..!؟..
كفاه منها اشفاقا على حاله.. هو لا يريد شفقتها.. هو يريد حبها.. حنانها.. تفهمها.. هو..يريدها.. جفل عندما وجد موضع رأسه يرتفع فى بطء.. نظر ليجدها تضغط على احد الروافع فى مقدمة الفراش.. ثم تتجه اليه تنحنى عليه.. لتعدل من الوسادة خلف ظهره فى بطء شديد حتى لا تؤلمه.. اللعنة.. ان اقترابها بهذا الشكل.. وعطرها اللطيف الشذى يكاد يسكره..
فيضعف مقاومته وصلابته تجاه سيطرتها الاخاذة.. أشاح بوجهه عنها من جديد.. لتعود هى بصينية الطعام تضعها على فخذاه.. وتصعد بالقرب منه جالسة على اطراف الفراش.. تتناول بعض اللقيمات بأصابعها تقدمها اليه.. أعاد رأسه لوضعها ناظراً الى كفها الممدودة للحظات يقاوم الرغبة فى إلتهام تلك اللقيمة من يدها.. واخيرا انتصر.. واشاح بوجهه من جديد رافضاً الطعام كطفل مشاكس..
لم يكن يتوقع ما فعلت.. فلقد مدت كفها.. وأدارت وجهه باتجاه كفها الممدودة بالطعام.. وما ان نظر لعينيها الباسمة حتى فتح فمه لا أراديا دون أدنى اعتراض.. لتقذف هى بلقيمتها فى فمه وتهبه ابتسامة جديدة كهدية لانه احسن التصرف..
لا يعرف كيف حدث هذا... وهو ينظر لتلك الصحون الفارغة.. ولا يدرى متى تناولها.. !!؟..كادت ان تطفو ابتسامة شاحبة على اطراف فمه.. لكنه وأدها.. ليعاود تركيب ذاك الوجه الجليدى الملامح.. وقد أقر انه نال كفايته من سيطرتها على أعصابه.. فعاد واشاح بوجهه من جديد متظاهرا بالنوم من اثر الدواء الذى تناوله منذ قليل.. لتتركه لحاله.. تتركه يشتاقها من جديد.. وهى على بعد خطوات قليلة من فراشه..
هتفت الحاجة فضيلة.. عندما وقعت عيناها على ولدها عندما دلفت لداخل حجرته.. :- الله اكبر.. عينى عليك باردة.. زى الفل ما شاء الله.. التقط عاصم كفها.. مقربا إياه يقبله فى محبة :- كيفك يا حاچة.. وازى أبوى.. اوعاك يكون عرف حاچة.. !!؟.. ردت فى جدية:- لاه.. متخافش معرفش.. الدوا الاخير اللى الداكتور كتبهوله.. بيخليه ينعس كتير.. ولما بيسأل عليك بجوله.. يا اما مشغول.. يا اما سافر يومين.. هز رأسه :- طيب الحمد لله..
سألت زهرة فى مرح :- امال فين الباقيين.. محدش جه ليه!!؟؟... ردت الحاجة فضيلة :- انا جلتلهم كفاياهم.. يشوفوا مصالحهم.. وعاصم الحمد لله اها بجى كويس.. كتر خيرهم.. سأل عاصم بفضول :- اومال انتِ جيتى مع مين..!!؟.. هتفت الحاجة فضيلة :- واااه... نسيته بره.. ده زكريا هو اللى جابنى.. وهايتجنن عشان يشوفك..
فتحت الباب تنادى على زكريا.. الذى ما ان دلف للداخل حتى اندفع باتجاه عاصم يقبل رأسه.. ابتسم عاصم فى حبور لمرآه هاتفاً فيه بحنو عندما رأى دموعه :- وااه.. راجل يبكى !!؟.. خليك شديد يا زكريا.. زى واد عمك.. همس زكريا من بين دموعه.. :- سامحنى.. انا السبب..
ربت عاصم على كتفه :- لاه.. منتش السبب.. سليم كان ناويها.. وبعدين انت من ميتا بتتكلم.. !!؟؟.. سأل عاصم متعجباً ليرد زكريا :- الخوف.. الخوف يا واد عمى.. يخليك متنطجش حتى ولو مكنتش اخرس.. يخلى عيل صغير ينسى الكلام عشان يعرف يعيش.. ومتكلمتش الا عشانك.. عشان ألحجك..
ربت عاصم على كتف زكريا غير مصدق ما يسمع حتى هتفت الحاجة فضيلة :- نسيت اجولك يا عاصم.. ليلة الحادثة الله لا يرجعها.. رجعت السرايا.. لجيت المكتب مجلوب فوجانى تحتانى.. مرضتش حد يدخل ينضفه.. جفلته.. لحد لما تعاود السرايا بالسلامة من غير شر.. -انا عارف مين اللى عمل كده.. وكان بيدورعلى ايه..!؟. بس الورج اللى بيدور عليه.. مش هيلاجيه فى النجع كله.. والله يا سليم اتچرأت.. ودخلت السرايا ولا الحرامى.. أخرتك جربت..
أدارت الحاجة فضيلة حديثها لزهرة :- خدى يا بتى.. الشنطة دى.. فيها كل اللى طلبتيه.. عشان اليومين اللى باجيين ليكم هنا.. استلمت زهرة منها الحقيبة قائلة :- تسلم ايدك يا حاجة.. تعبتى نفسك.. -تعبكم راحة.. السرايا من غيركم متطاجش.. ربنا يرجعكم بالف سلامة.. استأذنت الحاجة فضيلة تبعها زكريا للعودة من اجل الحاج مهران..
وضعت زهرة الحقيبة على فراشها.. فتحتها وأخرجت منها بعض الملابس والأدوات.. ووضعتها جانبا.. سمعت حركة خلفها على الفراش.. استدارت لتجد عاصم يهم بالنزول من على فراشه.. اندفعت اليه تمنعه هاتفة :- بتعمل ايه..!!؟؟.. رد بخشونة وهو يدفع ببطء كفاها التى تلامس جلد كتفيه.. فيشعر بحريق مكان لمساتها..:- ملكيش صالح..!؟.. ردت متصنعة الحنق :- يعنى ايه مليش صالح !!؟..
اعتقد انها لم تفهم المعنى فقال بنزق يسخر منها :- معرفاش يعنى ايه..!!؟؟.. اه صحيح ما انا نسيت تربية باريس مش هاتفهمى لغوتنا.. ثم عدل من صوته بنبرة رفيعة ساخرة مقلدا اللكنة القاهرية متلكئاً..:- يعنى ملكيش دعوة.. وضعت كفاها على جانبىّ خاصرتها وقالت فى سخرية :- على فكرة انا عارفة معناها كويس ولا انت نسيت.. ثم غيرت نبرة صوتها وبلهجة صعيدية صحيحة هتفت:- انا برضك صعيدية.. يا واد خالتى..
أشاح بوجهه محاولا مداراة ابتسامة تصارعه لترتسم على شفتيه.. واستطاع ان يغلبها ليعاود النظر اليها من جديد وملامح وجهه تنطق بالبرود الذى اجاد اصطناعه.. وهو يتفرس فى وجهها مسلطا نظراته تأسر عينيها :- دلوجت واد خالتك.. !!؟.. من ميتا.. !!؟.. روحى لحالك.. وسبينى.. شعرت بمدى الالم فى كلماته.. فتألمت بدورها لكنها جذبت نفسها تحضر خفه المنزلى وهى تهتف به قبل ان تلمس قدماه الارض :- طب استنى..
هتف فى ضيق ونظراته معلقة بسقف الغرفة فى تضرع :- عايزة ايه تانى.. !!؟؟... عايز اروح الحمام.. كل ده عشان خطوتين للحمام.. !!؟؟... اخفض نظراته عندما شعر بها تحت أقدامه.. تضع له الخف بقدميه.. لمساتها.. واهتمامها.. وحنانها.. يفعل به الأعاجيب.. وللمرة الألف يبتهل.. لما لا تدعه لحاله!!؟..
نزل من الفراش متجاهلا يدها الممدودة لمساعدته.. يتماسك حتى يصل للحمام بدون مساعدتها.. بدون لمساتها.. بدون شفقتها.. التى تقتله.. وصل بعد جهد مضنٍ.. وجلست هى بالخارج فى انتظاره.. ترتب الأغراض التى احضرتها الحاجة فضيلة.. فى خزينة الملابس القابعة فى احد أركان الغرفة.. لم تشعر به فى البداية عند خروجه.. لكن احتكاك خفه بالأرض فى تثاقل.. جعلها تستدير فى سرعة.. فى الوقت المناسب لتلحق به وهو يترنح غير قادر على المحافظة على اتزانه.. بذلت جهد بالغ.. حتى تستطيع ان تصل به بخطواته المترنحة حتى اطراف الفراش..
ساعدته حتى استطاع التمدد اخيرا وهو يلهث.. وكانت هى تلتقط انفاسها بالضالين وهى تسأله فى إشفاق..:- انت كويس..!!؟.. انادى الدكتور..!؟؟. أشار بيده :- لااااه.. انا هنام.. وهبجى تمام.. جذبت الغطاء عليه ووضعت كفها بتلقائية على جبينه الذى كان يتفصد عرقاً.. لكن.. حرارته كانت معقولة.. فاطمأنت بعض الشئ وتركته.. لتعود لفراشها المجاور.. تتمدد عليه وهى ساهمة تشعر بالقلق عليه.. ولم تكن تدرى.. انه يتطلع اليها..
بعينى ذئب ينام واحدى عينيه مغلقة والأخرى.. يراقبها من خلالها.. وهو يفكر فى أسى مخاطباً نفسه : مكتوب عليها البعاد.. هنا وفى السراىّ.. وكانى استبدلت الأريكة اللعينة.. بذاك الفراش الاحمق.. تبدلت الاماكن.. لكن عذابى كما هو لم يتبدل.. لازال العذاب واحد فى الحالتين أغمض عينيه.. وراح فى نوم عميق.. لا يعرف كيف تسلل الى جفونه المرهقة..!؟