رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون
ثلاثة أيام مرت، ولا حس ولا خبر منه، كأن ما جرى محض خيال، لدرجة أنها كانت تفتح الدردشة على تطبيق الواتس بينهما، ليتأكد لها أنه وعدها بمحادثة ابيها، لتحديد موعد حتى يأتي لخطبتها، وكذا تعيد قراءة ذاك الخطاب الذي تحتفظ به بين طيات كتبها، التي تدرك أن ما من أحد غيرها، سيفتحها مستطلعا.
ماذا هناك! هل هو مريض!؟ أو ربما الدكتورة سميحة! والاختمال الأكبر هو جده، ربما أصيب بوعكة صحية، دفعته لتأجيل الأمر قليلا!؟ لكن لو كان الوضع على هذه الحالة! لما لم يتصل ليخبرها، أو حتى أرسل رسالة ما ليطمئنها، فقد اتفقا على عدم الحضور للعمل، وانتهى الأمر، لكنها حاولت الإتصال به، والهاتف مغلق ولا أحد يصبرها ويخبرها أن الأمر خيرا، حتى الدكتورة سميحة لا ترد على هاتفها الوحيد.
إن في الأمر سرا ما، وعليها اكتشافه، لكن كيف لها ذلك! عقلها مشوش وقلبها مضطرب، ولا حيلة لها إلا الدعاء، فكل ما يعنيها اللحظة، أن يكون رائف بخير، وجميع أفراد عائلته.
تناهى لمسامعها صوت سجود، وهي تتغنى من داخل الحمام كعادتها، فقد الكل يستعد من أجل عقد قران سمير وسهام وسمية ومؤمن، النجع كله في حالة تأهب تام، والفرحة تكسي القلوب جميعها، إلا قلبها الذي ما كانت تشغله أمور الهوى وأوجاع العشق، بات منذ عرفته قلب أخر لا ينتمى لها، وكأنه لا تعرفه، ولا يعرفها، قلب لا يشبها أبدا.
خرجت سجود من الحمام، متطلعة نحوها وهي على هذا التيه، تقف أمام النافذة تحول ناظريها في البراح أمامها، لعلها تهديء من ثورة صدرها، لتسألها متعجبة: إيه يا نوارة، مش هتحضري نفسك عشان نروح بيت عمتك سهام عشان الحنة! هزت نوارة رأسها، وهمست في لا مبالاة: اه، هچهز أهو، متقلقيش لسه معانا وقت. هتفت سجود: طب تمام، ياللاه عشان نروحوا سوى، وانا مش بحب افضل قاعدة بعد ما اخلص لبس، هروح واسيبك.
ابتسمت نوارة مؤكدة: لا خلاص هلبس أهو. اتجهت نوارة للحمام، لإعداد نفسها لحفل الليلة، وحملت معها اوجاع قلبها الذي لا يعلم لها خلاصا الا الله. كانت منكبة على كتبها، تحاول إنهاء كل هذه التفاصيل التي ارسلتها نعمة لها، والتي فاتتها في الشهور الماضية، حين دخلت روبى مهللة كعادتها: كل دي مذاكرة، بكفي يا حُسن، عيونك يا حبيبتي. قهقهت حُسن مؤكدة: لازم أخلص، الامتحانات قربت، وأنا مفتحتش كتاب من شهور.
أكدت روبى في عجالة: طب قومي قومي، خلينا نخرج شوي، نغير جو، وناكل أي شي، وبعدين ارجعي كلي كتبك، ما دخلني. أكدت حُسن باسمة: مش هينفع، والله المذاكرة كتير قوي، متلتلة يا أختى. همت روبى بالحديث، لكن تناهى لمسامعهن صوت موسيقى قريبة، تطلعت حُسن في تعجب هاتفة لربى: أول مرة عمتي تفتح حاجة غير خليجي. أكدت ربى متنهدة: دي مش فوز، ده شعيل، واضح إن حالة كل سنة هلت.
زمن حُسن ما بين حاجبيها هاتفة في تعجب: حالة إيه اللي بتجيله كل سنة!؟ همست روبى: يا بنتي بيدخل في حالة نفسية مش مظبوطة ويفضل حابس نفسه الحبسة السودا دي، عشان كده كنت بقولك تعالي ننزل، اهو لو اتحايلنا عليه، وخاصة انتِ، ممكن يخرج عشان يوصلنا، اهو نحاول نخرجه من الحالة دي بأي طريقة. هتفت حُسن متسائلة: طب ليه أصلا، اللي يشوف شعيل مش ممكن يصدق إنه ممكن يوصل لحالة زي اللي بتقوليها دي!
أكدت روبى متنهدة في وجع: إنه العشق، ووجع الفراق. تعجبت حُسن ولم تعقب، لتستطرد روبى شارحة: شعيل كان بيحب بنت زميلته فالجامعة، اتعلق بها كتير، و كان بينهم قصة حب ولا فالأفلام، اجتمعوا أخيرا وتزوجوا. هتفت حُسن مصدومة: اتجوزوا!؟ أكدت ربى: إيه، اتزوجوا، وكانوا في سعادة منقطعة النظير، ما اعتقد إن في حب امرأة متل ما حب شعيل رهف، لكن كيف ما بيقولوا، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
تطلعت لها حُسن، هاتفة في تعجل: إيه اللي حصل! أكدت ربى، وقد بدا عليها التأثر: كانت حامل بشهرها الثالث، تعبت كتير، كانوا مفكرينه تعب الحمل، لكن مع التحاليل والفحوصات، اتاكد أن معها كانسر، وفحالة متقدمة، وطبعا مش محتاجة أشرح الباقي، وايه اللي حصل عشان شعيل يوصل للحالة دي. هتفت حُسن مصدومة: ماتت!
هزت روبى رأسها في تأكيد، وتحشرج صوتها هامسة: إيه، ماتت، هي وجنينها، ودخل شعيل في حالة نفسية رهيبة، وبكرة ذكرى وفاتها، ودايما يدخل فالحالة دي مع اقتراب الموعد. تسمعا ليصلهما غناء هامس: وكأن الوقت في بعدك واقف مبيمشيش وكأنك كنت معايا، بعدتي ومبعدتيش. دمعت عينى حُسن تأثرا لحاله، وتطلعت لربى التي بدأت تبكي في قهر. اقتربت منها حُسن، وضمتها لصدرها مواسية، هامسة متسائلة: بتحبيه يا ربى!
هزت ربى رأسها إيجابا، وهي بأحضان حُسن، ليرتفع نحيبها، فيزداد ضم حُسن لها، ومن مثل حُسن يدرك لوعة العشق، وأوجاع العشق من طرف واحد، محبوبه لا يدرك بمعاناته، ولا علم له كيف يقاسي في بعاده كما بقربه، لأنه يدرك أن لا أمل في خلق حكاية بينهما. همست حُسن متسائلة: طب ما يمكن هو صعبان عليكِ بس، مش حب يا روبى!
أكدت ربى وهي ترفع راسها من أحضانها، هاتفة: لا بحبه، بحبه من قبل حتى ما اعرف أنه عاشق لرهف، بحبه من يوم ما وعيت ع الدنيا وما في إلا شعيل، لكن ما بعرف، ليش ما عم يتنبه لإلي، أني بموت شوقا وعشقا، وهو لوح من الثلج، كأنه فقد قلبه برحيل رهف. ربتت حُسن على كتف ربى في تعاطف، تشاركها وجعها الذي تدركه جيدا حد المعاناة.
همست ربى تمسح دموعها: عطلتك عن درسك، بكفي دموع وأوجاع، أنا هروح أعمل نسكافيه، اعمل لك معاي. هزت حُسن رأسها موافقة، لتمسك روبى هاتفها، وتضغط على إحدى أغانيها المفضلة لتدرك حُسن لما تحبها بالأساس، نهضت من موضعها تضغط على زر الاتصال بنعمة، تحاول أن تعرف أية اخبار عنه، عن مالك القلب الذي لا يدرك أنه مالكه من الأساس، ظل الرنين متواصل، ولكن لا إجابة، كانت على وشك إغلاق الخط.
ارتفع الرنين داخل حجرة نعمة، التي ما رغبت في التواصل مع أحدهم، كانت تبكي وجعا على حال راضي، تستشعر أن الجميع يطمئنها، لكنها لن تطمئن إلا إذا رأته بعيونها. ارتفع الرنين، ليندفع نادر لداخل الغرفة، لتدعي نعمة النوم، فيجذب نادر الهاتف هاتفا في حنق: كل ده نوم، ما تردي عليه يا إما تقفليه. كاد أن يضغط زر اغلاق الخط، لكنه رأى اسم حُسن، فلم يدرك إلا وهو يضغط زر التواصل، هاتفا في قلب مضطرب: ألوو.
ترددت حُسن للحظة، قبل أن ترد على ذاك الصوت الرجولي العميق، الذي رد على الجانب الأخر، إنه صوته، ذاك الاضطراب بخفقات فؤادها يخبرها بل يؤكد لها يقينا أنه هو، لكن لم يجيب على هاتف نعمة!؟ همست في توتر: السلام عليكم، إزيك يا باشمهندس. هتف نادر في محاولة للثبات بعد أن وصله صوتها الذي لم يكن يتخيل أنه افتقده هذا الحد الذي يقهره وجعا: ازيك يا حُسن، اخبارك إيه! بخير!
أكدت حُسن وهي متلبكة، وكلمات أغنية ربى تتسلل إليهما، تفقدها ثباتها المبعثر من الأساس: مانيش رايداه، ومانيش رايده إلا هو.. ومفيش فايدة، مفيش فايدة.. فالبعد عشقاه، فالقرب عشقاه.. استجمعت أحرفها، وهي تشعر بالحنق من ربى، التي قررت رفع صوت أغنيتها، في هذا المقطع بالذات، وهتفت: الحمد لله، هي نعمة فين!
أكد نادر: كانت نايمة، ومسمعتش رن الموبيل، رديت بدلها عشان اقولك اني وصلت البحث بتاعك للجامعة مع البحث بتاعها، متقلقيش. ابتسمت شاكرة: تعبناك يا باشمهندس. أكد نادر: مفيش تعب، وسأل في تهور: هو أنتِ مش هاتنزلي تمتحني، ولا إيه! صدمها السؤال، لكنها أجابت في هدوء: مش عارفة لسه إيه الظروف، ما الامتحان ممكن يكون اونلاين، ومنزلش. هتف في شوق لم يستطع مداراته: إن شاء الله تقدري تنزلي ونشوفك، ولا الحارة موحشتكيش!
هتفت في اضطراب لكلماته، . التي كانت تحمل لطف غير معتاد، ورقة غير متعمدة، تخرج في سلاسة تطبطب على كتف القلب الذي كان يتنتحب في زاوية الصدر منذ زمن بعيد، ولا يعلم بحاله إلا الله: وحشتني طبعا، هو حد ينسي أهله. دخلت ربى في هذه اللحظة، لتضع أمامها كوب النسكافيه، لا علم لها انها تتحدث على الهاتف، لتهتف في أريحية: كوب نسكافيه وصاية، عشان محدش هيقنع شعيل إنه يخرج إلا أنت، مش بيرفض لك طلب.
كان كل هذا يصل على الجانب الأخر، يجعل نادر يغلي غيرة وحنقا، لكنه لم ينبس بحرف واحد، يحاول السيطرة على غضبه الذي يعرف إلى أي حد يمكن أن يصل، لتهتف هي في ارتباك: طب اقول سلام مؤقت يا باشمهندس، وهتصل تاني. هتف في حنق، لم يستطع مداراته: اه طبعا، ما الاستاذ شعيل منتظر، ربنا يعين ويساعد.
لا تعلم هل كان عليها الانفجار ضحكا، أم البكاء قهرا لسوء ظنه! لكنها استأذنته في هدوء حاولت التمسك به حتى أنهت المكالمة، ومن ثم انفجرت ضاحكة ودموع تكلل مقلتيها، وقد استشعرت أخيرا، أن ثمة غيرة استشعرت ذبذباتها بحديثه، ما أشعرها بفرحة غامرة لم تكن يوما بالحسبان.
وصل لحضور زفاف سمير وسهام، لم يكن ليتخلف عن حضور حفل عائلي بهذه الحميمية، صف سيارته خارج سور الدار، وتلك الزغاريد والموسيقى الصادحة، تصل مسامعه تخبره أن الإحتفال على أشده. دخل متطلعا حوله بالحديقة، باحثا عن سمير والشباب، حتى ينضم إليهم، فقد أخبروه أن اليوم هو يوم عقد القران، وما يوم، يوم ماذا! لقد أخبروه الاسم، لكنه نسي ما يعنيه، فقط عرف أنه اليوم الذي يسبق الزفاف.
لا يعلم ما الذي يحدث، تقدم للداخل، وخطى نحو موضع ما بمنتصف القاعة، صوت الطبل والغناء صادحا، حتى أن صوته لن يكون ظاهرا كفاية إذا ما فكر فالنداء واستدعاء أحدهم.
تقدم في حذر نحو أحد القاعات، التي ما أن وصل بالقرب من مدخلها حتى اندفعت من داخلها إحدى الفتيات، والتي كانت تتحدث مع أحدهم بالداخل لا تنتبه لموضع خطواتها، فاصطدمت به في شدة، كانت في سبيلها للسقوط، حاول بالفعل إنقاذها، لكن للأسف، فشل فشلا ذريعا، لتسقط أسفل قدميه، من براهما اللحظة من على بعد، قد يعتقد أنها تتوسله لأمر ما.
انتفض مندفعا نحو الفتاة التي ما زالت هناك موضعها أرضا، منحنيا في ذعر يعتقد أنها قد أصيبت بالضرر، ما دفعه ليهتف متسائلا: أنا آسف يا آنسة، مكنش قصدي، أنا.. زعقت سجود في غضب: أنت إيه اللي دخلك هنا من أساسه!، المفروض..
رفعت ناظريها نحو من صدمها، لتخرس وتبتلع لسانها، عندما اكتشفت أنه يوسف، مد كفه ليساعدها على النهوض، لكنها تجاهلت الكف الممدودة، ونهضت تتطلع نحوه في تعجب: دكتور يوسف! هو حضرتك بتعمل إيه هنا!؟ أكد يوسف في براءة: أنا جاي احضر كتب كتاب سمير وسهام، وزي ما انا سامع أهو، أنا جيت فالوقت الصحيح. ابتسمت سجود مؤكدة: اه الوقت الصح لكن المكان الغلط.
تطلع نحوها لا يستوعب ماذا تقصد، لتؤكد سجود: كتب الكتاب فالجامع يا دكتور، لكن هنا حنة الستات. هتف يوسف مؤكدا: ايوه حنة، سمير قالي تعالى احضر كتب الكتاب والحنة. قهقهت سجود رغما عنها، ما دفعه ليتطلع فيها متعجبا، شعرت بالخجل هاتفة: اكيد سمير كان يجصد كتب الكتاب، اصل الحنة بتبجى للعروسة، ومش مسموح اصلا بوچود راچل هنا، ولو حد شافك، هتجال عليك كلام مش ظريف خالص. تطلع نحوها في ريبة: كلام إيه!
ابتسمت مؤكدة: هيتجال إنك داخل عشان تشوف الحريم، وهم واخدبن راحتهم بيغنوا ويرجصوا، أنت إيه رأيك! اضطرب يوسف متسائلا في مزاح: طب واللي عايز يحترم نفسه، ويكون بين الرجالة، عشان السمعة مش ببلاش، يعمل ايه! اتسعت ابتسامتها مؤكدة: اتفضل معايا، اوصل حضرتك للجامع، عشان نلحق كتب الكتاب.
أومأ برأسه موافقا، مفسحا الطريق لها، لتخرج من دار عمتها سهام، ومنه للخارج، ينبعها، حتى إذا ما اقتربت من المسجد، إلا وأشارت له مؤكدة: اهو الچامع يا دكتور. همت بالرحيل، لكن يوسف استوقفها متسائلا: آنسة سجود! تطلعت نحوه مستفسرة، ليهتف متسائلا: هو حضرتك في جامعة إيه! تطلعت نحوه متعجبة للحظة، قبل أن تهتف في هدوء باسم الجامعة، ليهز رأسه متفهما، وأخيرا استأذنها متجها صوب المسجد، لحضور عقد القران.
رن جرس هاتفها، تنبهت للطريق أمامها قبل أن تتناوله مجيبة في حماس: ايه يا فرفر، جاهزة ولا الدنيا معاكي مش تمام!؟ أكدت فريدة على الجانب الأخر: كله تمام، ساعة وهكون بالقاهرة ونطلع ع القطر مع بعض، اوعي تتأخري ع المحطة، يا دوب الوقت حاكم أنا عرفاكي. هتفت بدور ضاحكة: لا متقلقيش، مقدرش أتأخر، رغم إني مكنتش عايزة اعتب النجع تاني برجليا، لكن ده فرح سهام وسمية ومينفعش منحضرش.
أكدت فريدة: ايوه طبعا، منحضريش ده إيه، وبعدين مال النجع وموضوع منتصر! أنتِ بدخلي الأمور فبعضها على فكرة.
أكدت بدور متنهدة: لا يا فريدة، أنا فاهمة إن مفيش علاقة، بس النجع فيه ذكريات كانت معاه، وأنا مش حاسة إني لسه مؤهلة لمواجهة الذكريات دي، مش عايزة اضعف يا فريدة، لسه في حتة جوايا بتقولي أن الموضوع بينا منتهاش، وحتة تانية بتلومني اني بفكر فيه من أساسه، وأنا ما بين الدوشة اللي دايرة جوايا دي مش قادرة أقرر، مين فيهم الصح، أنا فين بالظبط!؟
هتفت بدور بسؤالها الأخير، بصوت متحشرج، أثار وجيعة فريدة بالتبعية، متذكرة حالها مع نزار، والذي لم يختلف كثيرا عن حال بدور اللحظة، كان شعورا مقيتا، لا ترغب في تجربته من جديد، كانت أشبه بشخص غرقت سفينته بمنتصف بحر هائج، يشير له أحدهم بشط قريب، عليه السباحة نحوه لينجو، لكنه يفضل البقاء بعرض البحر يرتدي فقط سترة النجاة، والتي هي بالأساس مخرومة، وبالنهاية الغرق هو المحصلة.
هتفت فريدة تحاول إنهاء هذه المحادثة التي اتخذت منحى مرهق للنفس: بقولك إيه، سوقي على مهلك، وخلي بالك على نفسك، واوعي تتأخري ياللاه، وهاتيلي معاكِ سناكس كتير، اوعي تنسي. ابتسمت بدور، مدركة تماما محاولة فريدة تغيير مجرى الحديث الشجي، هاتفة في تأكيد: أكيد، احلي سناكس لأجدع فرفورة، سلام، وإلى اللقاء يا أصدقاء.
قهقت فريدة، وأغلقت الهاتف، لتترك بدور هاتفها جانبا، ورفعت صوت المذياع، تحاول أن تتلهى عن ضجيج أفكارها، لكن كلمات الأغنية جذبتها أكثر لتغرق في خضم مشاعرها المتقلب، ولا تعي لتلك السيارة التي كانت تتبعها منذ وقت طويل، وما أن انحرفت بدور لأحد الشوارع الجانبية، حتى بدأت هذه السيارة في اعتراض طريق سيارة بدور، التي تنبهت لما يحدث، لكنها لم تستطع أن تمنع ما هو كائن.
كانت الزغاريد ما زالت على أشدها، والعروسان يترجلان من عربتهما، بعد انتهاء حفل الزفاف بتلك القاعة الفخمة التي كانت تضم عرسان، على غير العادة.
ظلت الزغاريد، تتبعهما مع أحفان الملح لدفع العين الشريرة عن العروسين، حتى وصلا لحجرتهما، كان من المفترض على العريس حمل عروسه، والدخول بها لشقتهما العلوية حين دفعت سندس باب الشقة ليتفرج، لكن سمير لم يفعل، بل أشار لسمية لتدخل، وتبعها في هدوء، حتى إذا ما أصبحا بالداخل، جذبت سندس الباب لتغلقه دونهما، ليصبحا وحيدان أخيرا.
لم يستطع أن يتطلع نحوها حتى، تحرك نحو غرفتهما المعدة لهذه الليلة الميمونة، لتتبعه هي صامتة، حتى وقفت على أعتاب الحجرة في وجل، لا تقوى على الدخول، ما دفعه مضطرا ليهتف أمرا: ادخلي يا سمية. كان نطقه باسمها مرهقا على نفسه فالأساس، لكنه استطرد شارحا: وأني هروح اتوضا تكوني غيرتي عشان نصلوا لنا ركعتين لله.
هزت رأسها موافقة، ودخلت تقف في منتصف الغرفة، مر بها عندما فكر أن يخرج للوضوء، فشعر أن لهيب من لظى جهنم قد لفح قلبه، ما دفعه ليسرع، مهرولا للخارج، مندفعا نحو الحمام، ليلقي بنفسه أسفل الماء المندفع من الصنبور الفضي، من يره اللحظة يعتقد أنه كان تحت مطر غزير، اغرقه كليا، لا تحت صنبور حمام بيته، مغرقا نفسه بهذا الشكل المبالغ فيه، يحاول أن يطفيء نار مستعرة، لو غطس ببحر الشمال البارد ما انطفأت جزوتها لحظة.
تنهد في حنق، وتناول المنشفة، يجفف نفسه قدر الإمكان، وخرج ليقف في منتصف الردهة، يفرد المصلى هاتفا بها: أني خلصت.
خرجت من الغرفة تضع اسدالها، وازالت عن وجهها بعض مساحيق التجميل الخفيفة التي كانت تضعها كعروس، والتي ما قلل من إزالتها بعض من جمالها الفطري، الذي أسر قلبه لسنوات طويلة، بل إنها ويا لمصببة قلبه! أضحت أكثر جمالا ورقة، تكبله براءة ملامحها عن النطق بحرف واحد، ما دفعه ليوليها ظهره مكبرا، لتقف خلفه، وقد بدأت صلاتهما، كانت هي تتمنى من الله أن يعطيها القوة والقدرة حتى تكون عند حسن ظنه كزوجة، وهو يعارك مشاعره ليبحث عن افضل طريقة ليخبرها بها ما المفترض أن يكون وضعهما في الأيام القادمة، فأي صلاة تلك، التي كانت مجرد وسيلة هروب من مواجهة ما لابد منه ومن المحتم مواجهته.
انهي صلاته، وهي من بعده بلحظة، ليستدير مواجها لها، نكست رأسها حياء، ليهتف بها دون أن يفكر أن يضع يدا عليها: بصيلي يا سمية، لازما اجول لك كلمتين، كانوا فبالي من زمن، وچه وجتهم. رفعت ناظريها نحوه في طاعة، ليترنح قلبه بين جنبات صدره، لكنه استطاع السيطرة عليه في إرادة من حديد، هاتفا بنبرة ثابتة: أني سمعت اللي كان بينك وبين سهام فالچامع، يوم ما اتجدمت لك.
شهقت في صدمة، فاغرة فاها، لكنه استطرد وهو ما زال على هدوئه: أني مش بلومك على حاچة، ومحدش يجدر يلوم حد على ميل جلبه، ده بيد ربنا، بيجلب الجلوب وإحنا ملناش فيدنا حاچة، لكن أني ليا اللي يخصني، أني كنت ممكن اجول متفجناش ونفسخ الخطوبة، لكن اللي منعني حاچتين، أولهم إني واعي لرغبة مؤمن في سهام والعكس، ومكنتش عايز أوچع جلوبهم، والسبب التاني، إني لجيتك راضية، وده كمان هدفك، وبتفكري كيف تبجي زوجة كويسة ليا، لكن اللي يخصني أني، أن أنا مش هجبل اعيش مع واحدة وأني عارف إن جلبها مش ملكي، مش هجدر، عشان كده، أني بجولهالك، أني مش هجرب لك إلا لما أتأكد إن جلبك لسمير، سمير وبس، جبل كده، أنتِ على عيني وراسي، مرتي جدام الناس، لكن بينا، خلينا كل واحد فحاله، لحد ما ربنا يئذن.
همت بالحديث بعد ما استوعبت قراره، لكنه لم يمهلها لتنطق حرفا، وأشار إلى الغرفة الرئيسية هاتفا: دي هتبجى اوضتك من هنا ورايح، وانا هنام فالأوضة التانية، تصبحي على خير. ونهض من موضعه، هاربا من أمام سلطان محياها الذي يعشق، ودخل الغرفة مغلقا بابها على نفسه، يتمدد على الفراش وهو يعلم تماما أن لا نوم سيزوره الليلة، وكيف ذلك، وهي معه تحت سقف بيت واحد، كما تمنى عمره كله!
سألت سندس باسل، تطمئن على وصول حازم وتسبيح وبدور، بعد وصول فريدة، التي أكدت أنها اتفقت عليهم جميعا ليركبوا سويا القطار من القاهرة، للمجيء لحضور حفل الزفاف، لكن لم يصل من المحطة إلاها، والباقون هواتفهم مغلقة، وما من مجيب. اكد باسل في محاولة لطمأنتها: لعله خير، انت عارفة ظروف شغل حازم، محدش عارف إيه اللي حصل خلاهم مش عارفين ياچوا، متجلجيش. تنهدت سندس في قلق ولم تعقب.
دخل كلاهما غرفتهما في دار ماهر الهواري، يتبعهما الزغاريد، حتى أغلق عليهما بابها. اندفعت سهام في وجل مبتعدة، ليبتسم مؤمن هاتفا: مبروك يا عروسة. همست في وجل: الله يبارك فيك. ادخلي غيري هدومك، وأني هستناك.. هتفت سهام في غباء: ليه! قهقه مؤمن هاتفا: عشان نلعبوا عشرة ضغط، هيكون ليه! عشان نصلوا لنا ركعتين نطلب البركة.
هزت رأسها مستشعرة مدى غبائها، واندفعت منفذة حتى إذا ما خرجت ترتدي إسدال صلاتها، وجدته يجلس موضعه يحرك حبات مسبحته في هدوء وخشوع، ما دفع لصدرها قدر لا يستهان به من الطمأنينة. رفع رأسه وابتسم دون أن ينطق حرفا، واستقبل القبلة مكبرا، لتتبعه في هدوء. انهيا صلاتهما، ورفع مؤمن كفيه في تضرع، وبدأ في الدعاء بصوت رخيم، جذب الامان لأحضان قلبها، وهي تؤمن خلفه، عند انتهائه.
استدار نحوها متطلعا نحوها، وما أن مد كفه ليمسك بكفها، حتى نزعته منه في اضطراب، تطلعت نحوه، تخاف أن يكون قد اغضبه رد فعلها، لكنها وجدته باش الوجه، مقدرا لحالتها. مد كفه داخل جيبه، وأخرج منه شىء لم تستوضحه، وتحرك في هدوء نحوها، جاذبا غطاء رأسها، مبعدا إياه عن شعرها، الذي كانت المرة الأولى التي يراه فيها. همس في سعادة: بسم الله ما شاء الله.
لم تعقب هي، رغم السعادة التي شملتها لأستحسانه، ليمد كفه واضعا عقدا ما حول جيدها، تنبهت، لتضع كفها عليه، وهمست في فرحة: الله، حلو قوي، أنا بحب اللؤلؤ. همس بالقرب من مسامعها في عشق: عارف، ما هو ده العجد بتاعك.
شهقت في رقة، وتذكرت يوم أن سقطت أمامها وانفرط عقدها، ليستطرد وقد استدار متطلعا لعمق عينيها، مستطردا: يومها، لميت كل الحبات اللي چريت يمين وشمال، چمعتهم من تاني، وجلت لو لينا نصيب، وبجيتي حلالي، ههاديهولك يوم فرحنا. تطلعت في عشق فاضح لعمق عينيه بالمثل، حتى إذا ما مد كفيه ليحتضن خصرها لم تمانع، وما أن ضمها لصدره حتى غابت هنا، حيث النعيم بين ذراعيه.
علت قهقهات سعفان النادي، من بعد الكثير من النكات التي كانت تلقها نغم، وما أن دخل منتصر إلى موضع اجتماعهما، حتى هتف به سعفان في تساؤل: ها، اكيد سبع يا سيد البشوات! هتف منتصر وابتسامة ظفر مرسومة على شفتيه: وهو فيه مرة مكنتش قد كلمتي يا معلم، وطلعت سيد السباع كمان! هتف سعفان مؤكدا: الشهادة لله، كفاءة يا باشا، قولي بقى إيه اللي حصل!
أكد منتصر: حصل كل اللي اتفقنا عليه، سلم واستلم، خدنا البضاعة متشفية، واديناهم المعلوم، وحبايبتا فالحكومة واقفين يتفرجوا، ويصقفوا كمان. قهقه سعفان هاتفا: فاتني المشهد الجامد ده، بس عندي مشهد أنا عندي مشهد أجدع، حاجة كده من بتاعت زمان، ايام الفن الجميل. تطلع له منتصر متعجبا، وهتف متسائلا: مشهد إيه يا معلم! وتطلع لنغم مستطردا في سخرية: هو أنت شغلت البت نغم فالسيما ولا إيه!؟
أكد سعفان مازحا: لا، متنفعش، أنا بحب مشاهد العشق والغرام، حاجة كده فخيمة زي أفلام عبحليم والست شادية. هتف منتصر متعجبا: والله حيرتني يا معلم، أنا مش فاهم أنت..
أكد سعفان ممتنا: بص يا باشا، أنت خدماتك وجمايلك عليا معملهاش راجل من رجالي، اللي بقالهم سنين معايا، وعشان كده قررت اكافأك بمكافأة كده صغيرة، وخصوصي إن أنا قلبي رهيف، وبياثر فيا قوي الراجل لما قلبه يتكسر، قلت ما عاش ولا كان، ده اللي يفكر يكسر قلب راجلنا، نكسر عينه، وقد كان.
تطلع إليه منتصر في توجس، وتطلع إلى نغم لعلها تدرك شيئا عما يقصده، لكنها أشارت بطرف خفي أن لا علم لها بما يجري، وما نية سعفان بالضبط، لكن حيرتهما لم تطل حينما هتف سعفان في فخر: هديتك يا منتصر باشا، رغم إنها مش قد المقام، بس هنقول ايه بقى!؟ القلب وما يريد.
وهتف سعفان بأحد رجاله، ليحضر هدية الباشا، والتي كان على منتصر التحلي بكل درجات ضبط النفس القصوى، عندما تطلع لبدور تقف أمامه، دافعا بها أحد رجال سعفان، كانت منكسة الرأس، لا تعي من أمرها شيئا، يداها مكبلتان خلف ظهرها، وعصابة ما موضوعة على عينيها، وأخرى تكمم فاها.
لم يكن يعلم بحال منتصر في تلك اللحظة إلا الله، فعلى الرغم من كل شيء قد حدث، إلا أنه ما كان يتوقع توريطها في هذا الأمر، أو حتى فكر فالانتقام منها لأي سبب. ظل منتصر متسمرا موضعه، وسعفان يأمر أحد رجاله، بإزاحة الغطاء عن عين بدور، وتحرير فمها كذلك، صوت نحيبها قد بدأ يعلو ما زاد من شدة توتره الذي كان يغالب حاله، حتى يظهر شديد البرودة تجاه ما يحدث.
هتف سعفان في فخر: جنبالك بت العميد حازم الهواري لحد عندك، مش دي حبيبة القلب اللي طلبتها ورفضوك، ولا يهمك، أهي عندك اشبع بيها بالعند فيهم، أنا واحد من رجالتي يبقى نفسه في حاجة وميطلهاش برضو، ومش أي راجل كمان، ده سيدهم والباشا بتاعنا، والله ما عاش ولا كان اللي يكسر قلبه، أدينا حرقنا قلبهم عليها، واتهنى واتمنى أنت بس.
رفعت بدور رأسها ما أن أزاح الرجل العصابة عن عينيها، وقد تناهى لمسامعها رغم نحيبها، بعض من كلمات سعفان، ما دفعها لتتطلع نحوها، تجيل النظر بالمكان، وما أن همت بالصياح، تسأل سعفان لما هي هنا من الأساس، إلا وسقط ناظريها على منتصر، الذي كان يتنازعه مشاعر، لو اجتمعت على رجل لقتلته لتوه، مشاعر تحمل من التناقض ما لا يمكن استيعابه، لذا لم ينبس بحرف واحد، وهو يتطلع لبدور في شوق قاهر، وعشق لا يمكن مداراته،.
وذعر ممزوج بحنق مغلف بشفقة، تركيبة عجيبة، ومميتة.
لم تصدق عينيها، إنه منتصر الذي يقف هناك، ولم يحرك ساكنا من أجلها، لكن على الرغم من ذلك، اندفعت نحوه في شوق تحاول الاحتماء به، صارخة باسمه: منتصر! لكنها تذكرت في منتصف الطريق أن هذا ليس منتصر الذي تحبه، ما عاد ذاك الضابط الشريف الذي كانت على استعداد لمعاداة العالم من أجله، بل أضحى شخص أخر، شخص دفع بها إلى هنا لتكون بالأخير مجرد هدية لحسن اداءه، وتعاونه مع هؤلاء الخونة.
هتف سعفان متعجبا: إيه يا باشا! المفاجأة معجبتكش ولا إيه! هتف منتصر وقد استعاد الكثير من ثباته، مؤكدا: إزاي يا معلم، دي مفاجأة بمليون جنيه. تقدم نحو بدور، هاتفا في نبرة تقطر غلا: ولاه إيه يا بت سيادة العميد! تطلعت بدور نحوه في عدم تصديق، محاولة فك وثاق كفيها، فقد كان عندها من الرغبة ما يدفعها لصفعة في قوة، لتشفي غليلها. جذبها منتصر لترتطم بصدره، هاتفا في مجون: مبروك يا عروسة.
تطلعت بدور في صدمة، وصرخت في تحدي ما أن استعادت ثباتها: ده ابعد من أحلامك. هتف سعفان في سعادة: ايوه كده، هو ده الكلام، أجيب المأذون يا باشا، ونقول مبروك. تطلع منتصر نحو سعفان، وهتف مؤكدا: مأذون ليه! ملوش لازمة يا معلم، دي بقت اخرتها معايا، كام ليلة وتترمي لأبوها تاني، يتحسر عليها.
صفق سعفان في فخر: الله اكبر عليك يا باشا البشوات، لعب عالي قوي، طبعا اومال ايه مش باشا يا جدعان، حلال عليك، اتهنى يا باشا. أكد منتصر لسعفان، وقد اتسعت ابتسامته على وجهه، غازما بعينه في مجون: طب بعد اذنك يا معلم، عريس بقى وأنت عارف.
وجذب بدور التي بدأت تصرخ في ممانعة وهو يحملها سائرا بها نحو غرفته، ليهتف سعفان في نغم التي كانت تتابع المشهد امامها، والغيرة تاكل قلبها، أمرا إياها: قومي يا بت يا نغم فرحي للباشا وزفيه، اعمل لك منظر بدل ما انت قاعدة كده! نهضت نغم، وبدأت في إطلاق الزغاريد والتصفيق، والغناء، تغطي على صوت صرخات بدور المعترضة، ومنتصر متوجها بها صوب حجرته، التي ما أن دلفها حتى أغلق الباب خلفهما دافعا إياه بقدمه في عنف.
دفع منتصر بدور من فوق ذراعيه، لتهتف به في حنق: لو قربت مني.. قاطعها منتصر مقهقها: هتعملي إيه! ولا تقدري تعملي حاجة، وهقرب واخد كل اللي أنا عاوزه. هتفت به في نبرة مهادنة، تذكره بالذي كان وهي تتقهقر نحو أحد أركان الغرفة: منتصر، أنا بدور، نسيت بدور! صرخ بها في ثورة: ما عشان انت بدور، وأبوك يبقى سيادة العميد، لازم يحصل فيك كده، وابقي سلميلي على الباشا الكبير بالقوي.
واقترب منتصر وعينيه يملؤهما الرغبة، ما جعلها تصرخ في صدمة، وهو يجذبها نحو صدره، قابضا عليها بين ذراعيه: لا يا منتصر، عشان خاطري يا منتصر. صرخاتها المتوسلة تصل إلى موضع اجتماع سعفان برجاله، الذي هتف في فخر: الله ينور يا باشا، فخر العصابة والعصابات المجاورة. قهقه رجاله، على تعليق سعفان الأخير، وصرخات بدور المعترضة، تشجيه وتزيد إفراز هرمون السعادة لديه، والصرخات تزداد توسلا.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث والعشرون
لا تعرف كيف واتتها الجرأة لتأتي إلى هنا، لكنها كانت تريد الاطمئنان عليه بأي ثمن، ومهما كلفها الأمر، طمأنها الجميع، لكنها ما اطمأنت، كان لابد أن تراها بعينها لتتأكد أنه سيصبح على ما يرام قريبا، كما اوهمها الكل.
تسللت في اتجاه غرفة العناية الفائقة، وتقدمت بقلب وجل واقدام مرتجفة نحو الحائط الزجاجي الذي يكشف عن فراشه الممدد عليه بلا حول ولا قوة، كان المكان هاديء تماما، وما من أحد هناك، يجعلها تتراجع عن خطواتها التي تدفعها دفعا لتقف أمام النافذة الزجاجية تطل على جسده الساكن بلا حراك، وكل هذه الخراطيم والأنابيب الطبية تخرج وتدخل لذراعه وصدره، بكت وهمست باسمه: راضي، قوم عشان خاطري.
سال دمعها الذي غشى الرؤية أمام ناظريها، حتى أنها ما تنبهت لاقتراب أحدهم، والذي سأل في تعجب: أنت مين!؟ انتفضت مضطربة، لا تعلم ما عليها قوله أو فعله، استطرد يونس متسائلا: أنت تعرفي راضي! أومأت برأسها إيجابا دون أن تنبس بحرف، ما زال الاضطراب يشملها كليا، فما كانت تعتقد أن تُوضع في موقف كهذا يوما. همست أخيرا، ما أن استعادت بعض من ثباتها، واستشعرت تفهم يونس لحالها، فسألته: هو هايبقى كويس!؟ صح!
أكد يونس، في ثقة: ايوه هايبجى تمام، متجلجيش، ده فاج و.. هتفت في لهفة: فاق بجد!؟ الحمد لله. أكد يونس، وابتسامة تعاطف ترتسم على شفتيه، هاتفا: ايوه والله فاج، بس هو نايم دلوجت، والدكاترة جالوا هينجلوه بكرة على أوضة عادية، وكام يوم ونخرج باذن الله. همهمت نعمة في راحة: الحمد والشكر لك يا رب. هتف يونس بعد أن أدرك همهماتها، متسائلا: أنتِ نعمة مش كده!؟ أصله كان طول الوجت، بيخترف بالاسم ده.
اضطربت نعمة لسؤاله، وهتفت في عجالة: أنا لازم أمشي، عن إذنك، ولو سمحت.. قاطعها يونس مؤكدا على فهمه لطلبها قبل أن تطلبه: متجلجيش، محدش هيعرف إنك چيتي هنا.
أومأت برأسها في امتنان، وتطلعت من جديد نحو جسد راضي من خلف النافذة الشفافة من جدبد، وأخيرا، ألقت التحية في عجالة قبل أن تندفع راحلة، وكل ما يجول بخاطرها كلمات يونس أخيه، أنه ما كان يكرر اسما إلا اسمها، سال دمعها من جديد، وقد أدركت أنها تعشق هذا الراضي الشديد الحمية، مقطب الجبين، حاد اللهجة، ولا ترضى عنه بديلا.
تبسم يونس وهو يتبعها بناظريه حتى غابت أخر الرواق، وحاد بناظريه نحو راضي، الذي كان في عالم أخر، ما زال يكرر اسمها في أحرف متقطعة، كأنما كان يعلم أنها بالخارج، ليهمس يونس وابتسامته تتسع في سعادة، مترنما: أهل الحب صحيح مساكين، صحيح مساكين.
لم تجف دموعها، فبعد اختفائها ولا يعلم أحد أين ذهبت، غابت كأنها فص ملح وذاب سريعا بالماء، فلا أثر لها يجعلهم قادرين على العثور عليها. هتف حازم يحاول طمأنتها، رابتا على كتفها رغم قلقه المضاعف بدوره: اهدي يا تسبيح، والله هتكون بخير، زمايلي كلهم مش ساكتين، وبيحاولوا تتبع اخر مكان كانت فيه، وايه اللي حصل.
هتفت تسبيح في نواح: بنتي بقالها ليلتين بعيد عن البيت ومش عارفة هي فين! وتجولي أهدى يا حازم!؟ طب حتى اعرف هي فين!؟ لكن الاختفاء المفاجئ ده مخليني افكر فمليون مصيبة، أنا بموت كل ما دماغي تروح وتودي فواحدة فيهم، وأني ممكن مشفهاش تاني يا حازم. هتف حازم مصدوما: فال الله ولا فالك يا شيخة، هترجع زي الفل، قولي يا رب. هتفت تسبيح متضرعة في قهر: يااارب.
كان حازم يقف متطلعا نحوها، يدرك وجعها، وهو عاجز لا قدرة عليه على التصرف فيما جرت به المقادير.
صرخات قوية جاءتها من قلب بهو الدار، جعلتها تسرع مهرولة في اتجاه الدرج، كادت أن تتعثر في اضطراب، والصرخات تزداد شدة، فالصراخ دوما ما كان يثير توترها منذ حادثة وفاة والديها، هبطت الدرج في هرولة، مندفعة نحو جدتها، التي كانت تولول في صدمة، أخذت أية تهدئها في محاولة لفهم ما يحدث: إيه في يا ستي!؟ إيه اللي چرى!؟
صرخت وجيدة في قهر: منتصر! منتصر ميعملش كده ابدا! منتصر راچل وسيد الرچالة، لاه، اللي بينجال كدب. هتفت أية في اضطراب: ماله منتصر!؟ عمل إيه! هتفت وجيدة في تيه: لما أتأخر عن ميعاد اجازته، فضلت أدور على حد يوصلني ليه، ما هو مبيردش على تليفونه، زميله جالي، إن منتصر، لاه، مش مصدجة، اكيد كداب. هتفت أية في حنق، وقد فقدت أعصابها ذعرا: منتصر أيه يا ستي ما تقولي، حصل له حاچة بعد الشر!
هتفت وجيدة في ثورة: يا ريته مات ولا سمعت اللي سمعته، زميله بيجولي إنه باعهم لتچار المخدرات، وبجى منيهم، ومحدش عارف له طريج، وبسببه زميله اتصاب، وما بين الحيا والموت، لاه، يا ريتني مت جبل ما اسمع اللي جاله ده، بجى منتصر يعمل كده، تصدجيها يا أية!؟
هزت أية رأسها وقد بدأت فالبكاء على حال جدتها، التي كانت تدور حول نفسها كالمجذوبة، لا تصدق ما قيل لها، وكذا تبكي من اجل ما قيل في حق منتصر، الذي تعلم علم اليقين، انه لا يمكن أن يفعل ذلك، ويجلب العار لهم جميعا. هتفت أية، تربت على كتف جدتها في محاولة لتهدئتها: مش ممكن منتصر يعمل كده يا ستي!؟ دفعت وجيدة كف أية في غضب شديد، صارخة من جديد: لاه، زميله بيجولي حصل، حصل..
وأخذت وجيدة، تكرر الكلمة الأخيرة عدة مرات، وهي تلطم خدها في قهر، حتى صمتت فجأة، وتشنجت، وسقطت ممددة أرضا، تصحبها صرخات أية الملتاعة ذعرا، على جدتها.
كان الصخب ما بين الطلاب، دائر من هنا وهناك، على طول قاعة الدراسة وعرضها، لكنها كانت تجلس كعادتها، تعيش في عالمها الخاص، وهي تضع سماعات هاتفها، تستمع لأغانيها الفرنسية، وتعيش قصصها الخاصة، حتى إنها ما لاحظت أن الضجيج الدائر قد خفت حدته، حتى ساد الصمت بالقاعة فجأة، فتنبهت منتفضة عندما وكزتها إحدى صديقاتها لتبعد عن أذنيها سماعاتها، وقد أدركت أن دكتور المادة قد دخل القاعة ليسود الصمت احتراما له.
مدت يدها وأخرجت دفتر محاضراتها، وما أن وقع ناظرها علبه، حتى شهقت شهقة مكتومة، وعيونها مفتوحة في دهشة، فمن كان على المنصة هناك، هو يوسف التهامي، بشحمه ولحمه، والذي ظلت عيناه تجول بالقاعة، تبحث عن شىء ما، أو ربما شخص ما، وأخيرا سقطت ناظريه عليها، ليبتسم ابتسامة واسعة، جعلتها تحاول أن تتخفى بين صديقاتها، تذوب خجلا، ليهتف في نبرة قوية واثقة، وبفرنسية أنيقة لا تشوبها شائبة: أنا الدكتور يوسف حسام التهامي، استاذ الأدب الفرنسي للسنة دي، أرجو أننا نقضي سنة لطيفة مع بعض.
تعالت الزغاريد الصادحة بخارج شقتهما، ما جعله ينتفض موضعه، يجول بناظريه حوله في تيه، حتى تنبه اين يكون.
نهض من موضعه مسرعا، خرج من غرفته في اتجاه حجرتها، طرق الباب في هدوء، حتى لا تصل اصوات طرقاته العالية لمن يقف بالخارج، زاد الطرق على باب الشقة قوة، وبدأت القهقهات تعلو عليه، مع إلقاء بعض الملاحظات الماجنة من هنا وهناك، جعله رغما عنه، يدفع الباب بعد أن جرب الطرق عليه بشكل أكثر إلحاحا، لكن يبدو أن نومها ثقيل لحد ما، حتى لا تسمع طرقاته هذه، ولا حتى يقلق منامها، الطرق على باب الشقة بهذه الطريقة.
تقدم نحو الفراش الذي كانت تحتل أحد جوانبه، تضم لصدرها إحدى الوسائد التي كان يوسعها اللحظة حقدا وبغضا، فكم تمنى لو كان قد نال بعض من حظها وكان الآن في موضع تلك الوسادة بين ذراعيها، هتف بها في صوت متحشرج، وهو يراها بهذه الرقة، وهذا الاغواء البريء الذي يبدو اللحظة في براءة ملامحها المستكينة: سمية، يا سمية!
همهمت في اعتراض، ما جعل قلبه يسقط صريع لا قبل له على أن يحيد بناظريه عن هذا الكم اللامعقول من الجمال الرباني الذي أودعه الخالق في هذه المخلوقة التي سلبته لبه منذ اللحظة التي وعى أن له خافقا بين جنباته.
هتف من جديد، وهو يمد يدا يدفعها في رفق، حتى تستيقظ، فإذا بها تنتفض في صدمة، متطلعة نحوه، حتى أدركت صوت الطرق على باب الشقة الصادر من الخارج، فهتفت بصوت مرتبك: أنى جايمة حلًا، افتح لهم اكون چهزت حالي. ظل يتطلع نحوها في تيه معجب، حتى هتفت به من جديد، لتخرجه من شروده: سمير.
كانت تناديه، ولا تعلم أنها زادت الطين بلة، واغرقته حتى قمة رأسه، في دنيا من عجب، ما استفاق منها، إلا حين هتفت به من جديد، حتى يخرج ليفتح الباب، تاركا الحجرة لها، لتبدل ملابسها.
اندفعت أمه تعلو زغاريدها، وهي تضع صينية الطعام العامرة جانبا، وما أن خرجت سمية من الغرفة، حتى تلقفتها سندس بين ذراعيها في فرحة، تدعو لهما بدوام السعادة، والذرية الصالحة، مستأذنة حتى تلحق بالعروس الأخرى، ليتطلع كل منهما للأخر في اضطراب، وقد اصبحا وحيدين مرة أخرى، كان لابد أن يتعامل معها بشكل أكثر منطقية، بعد أن وضع القواعد الليلة الماضية، ما دفعه ليتوجه نحو صينية الطعام رافعا غطائها الحريري، هاتفا في جوع وهمي: الله على الحاچات اللي تفتح النفس.
وجلس على أحد المقاعد، وأشار لها في أريحية، أمرا في ود: تعالي يا سمية كلي، مش هتفضلي واجفة عندك كده! اطاعت وجلست في هدوء قبالته، أصبح يمد كفه يتناول ما يحلو له، يقربه لفمه مع نظرة مطولة نحو وجهها الصبوح، ليكون الطعام اشهى مما هو معتاد، بل أكثر حلاوة بفمه من حقيقته. تظاهرت أنها تأكل، فما كانت لها الشهية لتناول أي طعام على الإطلاق، ما دفعها لتهمس متسائلة: أنا جايمة اچيب عصير، اچيبلك معايا!
هز رأسه نفيا، مؤكدا: مليش فالعصير والحلويات، لو فيه أي مخلل عندك فالتلاچة هاتيه. ابتسمت هاتفة في نبرة صادقة: ودي أول حاچة أعرفها عنك، وعن عوايدك.
توقفت يده عن إيصال اللقيمة التي كانت تحمل لفمه، مصوبا ناظره نحوها في صدمة، ما لبث أن استفاق منها، وقد عادت إليه من المطبخ تحمل كوب عصيرها، وطبق به بعض المقبلات المالحة، ليعاود تناول طعامه، والذي أصبح أكثر حلاوة اللحظة، على الرغم من أنه يتناوله مع المخلل الحارق، الذي جلبته بيديها!
رنين على هاتفها، جعلها تندفع نحو الغرفة في لهفة، وخاصة أنه رنين ذاك التطبيق الذي تحدثها عليه نعمة من مصر، والذي حدثها عليه نادر المرة الماضية، منت نفسها أن يكون هو من يتصل، فقد اشتاقت صوته كثيرا، لكن ما أن ردت حتى أتاها صوت نعمة المتحشرج، ما جعلها تهتف في قلق، متسائلة: في إيه يا نعمة!؟ كلكم بخير! أكدت نعمة باكية: كلنا كويسين إلا هو يا حُسن. هتفت حُسن متعجبة: مين!؟
أكدت نعمة تشهق في وجع: راضي يا حُسن، راضي رجالة قدورة ضربوه بالمطوة وهو بيدافع عني. شهقت حُسن في صدمة، وتعجبت كيف لم يخبرها نادر بهذا الأمر، في المرة السابقة، لكنها تجاهلت الأمر، لا تعلم أن نادر يوم أن كلمها، كان بعالم أخر لا يذكر إلا أنه يحادثها بعد طول اشتياق، وما كان بخاطره إلاها، لتهتف حُسن في اضطراب: طب هو راضي أخباره إيه دلوقت!؟
هتفت نعمة ودمعها يسيل: فالمستشفى يا حُسن، رحت زورته من وراهم، وكان لسه بالعناية المركزة، لكن يونس أخوه قالي إنه هايبقى كويس، وزمانهم نقلوه على أوضة عادية. هتفت حُسن مطمئنة: طب ما هو الحمد لله، هايبقى كويس أهو، وباذن الله يقوم بالسلامة، اهدي بقى. هتفت نعمة من بين دموعها: ما هو بعد ما يبقى كويس، أخوه هيخده ويمشوا يا حُسن، هيسبنا ويمشي يا حُسن.
هتفت حُسن في تعاطف، وقلبها يشعر بوجع قلب صديقتها: نعمة! أنتِ بتحبي راضي!؟ ارتفع صوت نحيبها، وكان الجواب الأمثل على سؤالها، لتهتف حُسن في مشاركة لوجع صديقتها: راضي يستاهل قلبك يا نعمة، بس يا ترى هو يعرف انك..
أكدت نعمة: إذا كنت أنا معكنتش عارفة إلا لما اللي حصل ده حصل، كنت حاسة ناحيته بمشاعر عجيبة اول مرة أحسها يا حُسن، لكن لما شوفته كان هيموت قدامي وعشان خاطر يحميني، عرفت إني مقدرش أعيش من غيره، أنا من يومها مش عارفة إيه اللي انا فيه ده، ولما رحت اشوفه كان قلبي هيوقف لما شوفته على سرير المستشفى متربط، أنا بموت من خوفي عليه، ومحدش حاسس بيا.
لكنها كانت مخطئة تماما، فمن كان بالباب وسمعها اللحظة، وهو يتجه لحجرتها كي يسألها عن أمور حُسن، وإن كانت ستعود من أجل امتحاناتها النهائية أم لا! كان من الممكن أن يقلب الدنيا ولا يقعدها عند سماعه اعتراف أخته بحب راضي، لكنه لم يفعل، فقد جعلته تلك المشاعر الذي يكنها قلبه لهذه البعيدة على الخط الآخر، يلتمس لنعمة الكثير من الأعذار للوعة قلبها، ومشاعرها التي لا يد لأحد في منعها أو تقييدها.
هم بطرق الباب رغبة في الحديث لحُسن فقد اشتاق صوتها كثيرا، لكنه تراجع تاركا أخته مع صديقتها على راحتها، حتى لا يحرجها إذا ما دخل عليها باكية بهذا الشكل، ولعل حُسن تهدي بعض من روعها. أبتعد عن باب الحجرة، هابطا الدرج في اتجاه شقة جده، لينتفض في صدمة، ما أن أتاه خبر اختطاف بدور، ولا أحد يعلم أين تكون!؟
تطلع نحوها وهي ممددة بهذا الشكل جواره، ليمد كفه جاذبا عليها الغطاء، مدثرا إياها، لتنتفض في ذعر، وتتقابل نظراتهما، نظراته التي كانت تحمل بعض من ندم، مخلوط بمحبة، ونظراتها التي كانت تفيض هلعا ورفضا. تطلعت نحو موضعها، لعلها كانت تحلم، وما كان بالأمس لم يكن إلا كابوس قذر، إلا أن الحجرة، والفراش، و..
تطلعت لملابسها في صدمة، والتي لم تكن ملابسها من الأساس، فقد قام أحدهم بتغيير ثيابها، و من المؤكد أن أحدهم هذا لم يكن إلا..
تطلعت نحوه في قهر مدثرا بثورة عارمة، وانتفضت نحوه صارخة في وجع، تضرب صدره وتخمش وجهه، وهو يحاول أن يكون هادئا، تاركا إياها تخرج كل ما بجعبتها من أثر الصدمة، التي عليها تقبلها إن عاجلا أم أجلا، فهي منذ قدمت إلى هنا، ما عاد لها أية صلة بالعالم الخارجي، حتى يزهدها هو، ليأمر سعفان رجاله، بنيل ما يحلو لهم من جيفة الضحية، قبل الخلاص منها، وإلقاها لضباع الجبل وضواريه.
أمسك كفيها التي أشفق عليهما من شدة الضربات المسددة لصدره، هاتفا بها: مكانك بقى هنا، حاولي تتعودي على ده، وخلي بالك امانك معايا، يعني لو فلحظة قلت إني قرفت منك، هيبقى مصيرك اسوء من اللي أنت عيشاه ده بمراحل، مع إني مش وحش قوي كده، ولا إيه! قال كلماته الأخيرة في نبرة ماجنة، جعلتها تصرخ به في قرف: أخرج بره، حالا، أخرج.
صرخت بكلمتها الأخيرة في نبرة أمرة، تنذر أنها على وشك ارتكاب جريمة، ما دفعه ليهتف مهادنا: طيب خلاص، خارج أهو، بس راجع لك تاني يا جميل. بدأت في إلقاء كل ما طالته كفاها نحوه، ما دفعه للهرولة خارج الغرفة، وقهقهاته تعلو في سعادة، ما دفع سعفان الذي كان يمر بالقرب من غرفته، ليهتف ماجنا بصوت جهوري: يتمنعهن وهن العايزاتِ.
زادت قهقهات منتصر، على تعليق سعفان، مغلقا الغرفة خلفه بمفتاح وضعه بجيبه، قبل أن ينضم لمجلس سعفان ورجاله.
كان ذاك الرنين المتصل لا ينقطع عن هاتفه منذ البارحة، كان يعلم انهم لن يهدأ لهم بال حتى يعلموا ما الذي يحدث بالضبط، كان عليه أن يفكر بالعديد من الحجج التي يمكن له أن يسوقها لأجل إقناعهم بما جرى. فتح الخط أخيرا، ورد هاتفا في مزاح: ألو، أيوه يا عيشة، إيه الازعاج اللي أنت عملاه ده، معرفش انام لي شوية يعني!؟ هتفت عائشة أمه في حنق: تصدج إنك وأخوك عيال باردة، مشفتش ترباية.
هتف يونس مازحا: غلطتك يا عيوش، مكنتش فاضية، حامد كان واخدك مننا يا جمر. امسكت ضحكاتها هاتفة: مش بجولك معرفتش أربي، بس ملحوجة، هتروحوا مني فين انت وأخوك المعدول التاني، جاعدة أني جلبي واكلني عليكم، وما حد فيكم بل ريجي ورد على تليفونه، يجولي مچاش ليه الفرح عشية.
هتف يونس مؤكدا: ابدا يا ستي، أني العربية وجفت بيا ع الطريج، وفضلت ياما مش لاجي عربية تاخدني لنچع الصالح، وفين بجى لما عترت فحد شد معاي العربية لحد بيت چدي ورچعت نمت، وراضي حصل عند المعلم خميس وأهل بيته ظرف مجدرش يفوتهم وينزل يحضر الفرح، أدي الحكاية كلها يا چميل. هتفت عائشة متسائلة: طب وأخوك مبيردش على تليفونه ليه!؟ أوعاك تكون بتكدب عليّ يا واد يا يونس، أخوك بخير يا واد!؟
ازردر يونس ريقه مؤكدا في لهجة حاول أن يضفي عليها الكثير من الثبات: ايوه بخير وزي الجرد كمان، أني لسه مكلمه من يومين، واتفجنا ننزلوا ع الفرح، بس چت الظروف مخالفة، ويا ستي عشان ترتاحي، ميتا ما يرد عليّ هديله كلمتين واخليه يكلمك فساعتها، مرضية دلوجت!؟ تنهدت تحاول تصديقه، هاتفة: مرضية يا حبة عيني، خلي بالك على حالك يا حبيبي، وربنا يچيبك انت وأخوك بالسلامة، اتوحشتكم.
دمعت عينى يونس تأثرا، رغم ذلك هتف مازحا: إيه ده، جلبك بجي جلب خساية يا عيشة، لاه أني مش متعود على كده!؟ هتفت عائشة معترضة: طول عمري يا واد جلبي مفيش فحنيته، بس انتوا عيال چبنات مبيتمرش فيكم. قهقه يونس مؤكدا: ايوه صح، على يدي، جلالة رباية. قهقت عائشة، ليهتف يونس مؤكدا: بصي، فأجرب فرصة، هچيب لك الواد راضي وناچوا، بس يا رب متطفشيش وتجولي كانوا مريحيني أحسن.
أكدت عائشة في نبرة حانية: على جلبي كيف الشهد المكرر، تعالوا بس، الكل اتوحشكم هنا. أكد يونس: من عنايا يا عيوش. أغلق الهاتف، وتطلع إليه لبرهة حتى تنهد، وهو يدق على سماحة بلا وعي، رغبة في سماع صوتها الخشن، الذي تتصنعه، ابتسم وهو ينتظر ردها، الذي طال، فقد كانت تتطلع بدورها لشاشة الهاتف الساطع باسمه، وأخيرا استجمعت ثباتها، وردت بصوتها الأجش المصطنع: السلام عليكم.
هتف يونس والذي كاد أن ينفجر ضاحكا ما أن تناهى صوتها لمسامعه: السلام عليكم يا سماحة، بجولك، جهز الدنيا عندك عشان هچيب اخوي من المستشفي علينا، تمام. أكدت سماحة في تأكيد: اعتبر كله تمام من دلوجت يا يونس بيه، تاجوا بالسلامة. أكد يونس، وقد رأى الطبيب يتجه نحو الغرفة، فاضطر لغلق الهاتف سريعا: الله يسلمك يا سماحة، مع السلامة.
كان عليها التمسك بما تبقى من تركيز، حتى تضعه بمذاكرتها، فقد أضاعت الكثير ما بين اوجاع الفراق، وأروقة المشافي، لابد لها من أن تنتبه لما بقى حتى لا تفقد معدل درجاتها الذي كانت تعتمد عليه كي تصل لحلمها في التعيين بالجامعة مثل والديها.
جلست بغرفة القراءة، وفتحت أولى الصفحات لتبدأ في استرجاع المعلومات، غابت عن واقعها قليلا، وهي مدفونة الرأس بين كتبها ومراجعها، لتنتفض على صوته، ذاك الأشبه بقطرات المطر المنهمر على أرض روحها الجدباء، لتزهر بساتين من فرحة، والذي هتف في فضول لم يكن من عادته يوما: بتذاكري إيه! تلعثمت قليلا قبل أن ترد مؤكدة: بحاول ألحق اللي ضاع مني الفترة اللي فاتت.
ابتسم، فتشابك بداخلها الحلم بالواقع في نسيج أشبه بالميلاد الجديد، وهتف مؤكدا: بجولك بتذاكري إيه! مش بتذاكري ليه!؟ تنبهت أنه على حق، ومنذ متى لم يكن عاصم يحيد عن الحق!؟ بل كان هو الحق ذاته. ابتسمت بدورها، فكان دوره ليضيع منه طريق المنطق، ويسلب من صدره بعض الخفقات الزائدة عن المألوف في عرف الطب والأطباء، وهمست في تأكيد: بذاكر نقد أدبي. هز رأسه متفهما، وسأل مازحا: مادة سهلة، ولا تحبي أشرح لك!؟
أكدت مبتسمة: كويسة، الحمد لله. أكد عاصم باسما: طول عمرك شاطرة، من وأنتِ صغيرة، كنت دايما الأولى على فصلك، أني فاكر يوم ما طلعتي التانية، چيتي بكيتي النهار بطوله. همست باسمة، تتذكر بدورها: أيوه، وأنت مسكتش، فاكر تاني يوم عملت إيه!
صمت لبرهة، قبل أن ينفجر ضاحكا بقهقهات عالية على غير العادة، سكبت في فؤادها حلاوة الشهد، مؤكدا وهو يهز رأسه في سعادة للذكرى: ايوه، الواد الغلبان اللي طلع الأول ملحجش يفرح، اديته علجة يوميها، خليته يندم ع اليوم اللي طلع فيه الأول، ومعدهاش، صام وفطر عليها. قهقهت بدورها، ليكون التيه الحلو من نصيبه الآن، عندما هتفت تذكره: ساعتها جالك استدعاء من المدرسة، وخدت رفد تلت أيام، فاكر.
هز رأسه مؤكدا، وهتف باسما: يومها أبويا كان هيتچن، مش عارف أني عملت له كده! عمري ما كنت بتاع مشاكل ولا خناجات، كان ماسك السما بيده لجل ما يعرف سبب ضربي للواد، اللي لا هو من سني ولا عمل لي حاچة من الأساس، وكل ما يسألني ماجوبش، لحد ما جلت له أهو كيفي كده، كنت شبه سوكة بالظبط، شكله معچبنيش فضربته.
انفجرت ضاحكة على تشبيهاته، ليشاركها الضحكات بمثلها وأكثر، وهي تدرك تماما أن عاصم هو شريك الماضي بكل ما به من براءة، وشريك الحاضر بكل ما به من غموض ووجع، فهل يمكن أن يكون شريك المستقبل، بكل ما يحمله من غيب، لا يعلمه إلا مقلب القلوب.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون
تنبه عندما تناهى لمسامعه صوت همهات، فانتفض مندفعا نحو راضي، الذي فتح عيونه أخيرا، متطلعا نحوه في تعجب، ليهتف يونس في فرحة: يابوي، حمد الله بالسلامة يا سي راضي. همس راضي متأوها: هو إيه اللي حصل!؟ أكد يونس مازحا: لاه مفيش، حاچة بسيطة، شوية بلطچية ضربوك بمطوة وكنت هتروح فيها. هتف راضي في وهن: الحمد لله.
وتنبه فجأة لأمر ما، فهم بالسؤال عن نعمة، وما حدث لها، ليقاطعه يونس مؤكدا: متخافش، كله تمام، انجبض ع البلطچية، عمك حازم جام بالواچب معاهم، و.. وصمت يونس مشاكسا أخاه، ليهمس راضي في اضطراب: و، إيه! إيه اللي چرى!؟ ما تتكلم دغري، حد حصله حاچة!؟ أكد يونس مقهقها: لاه ياخويا اطمن، محدش حصل له حاچة إلا أنت، وخلت جلبي عليك. همس راضي متعجبا: هو أنت مجلتش لأبويا وأمي!؟
أكد يونس مصدوما: أجول لمين يا مخبل!؟ هي أمك كان هدي لها بال، ولا أبوك جعد مكانه، ما كنت هتلاجيهم كلهم هنا فوج راسك، وسايبين حالهم ومالهم، والچيش اللي وراهم، وچدك وستك اللي محتاچين رعاية كيف العيال الصغيرة. أكد راضي، رابتا على يد يونس، الذي كان يجلس على طرف الفراش، مؤكدا: عملت الصالح يا يونس. وابتسم مستطردا، مازحا بدوره: أول مرة تعمل حاچة عدلة!؟
هتف يونس حانقا: بجي كده، ماشي يا راضي! أني جايم انادم ع الداكتور، عشان يكتب لك خروچ عشان اعرف استفرد بِك على راحتي. أمسك راضي ضحكاته، التي كانت تشعره بالألم موضع جرحه، ويونس يهم بفتح باب الغرفة، هاتفا في نبرة ماجنة، وهو يغمز بعينه: على فكرة، هي كويسة. اضطرب راضي، يحيد بناظريه عن يونس الذي كان يركز النظرة على انفعالات وجهه، هامسا في نبرة محايدة حاول أن يكسوها بالثبات الزائف: هي مين!؟
ابتسم يونس مؤكدا: اللي اتغزيت وأنت بدافع عنها يا سبع!؟ لم يجيبه راضي، ليستطرد يونس بنفس النبرة، مؤكدا: واللي كنت جاعد تهلوس باسمها طول ما أنت غايب. انتفض راضي، متطلعا نحو أخيه في ارتباك، متسائلا في تعجب: أني! أكد يونس من جديد، وابتسامة على شفتيه: إيوه يا سي راضي باشا، وجال حب ومعرفش إيه، ماشي يا عم روميو، هنياله!
تطلع راضي نحو أخيه في حنق، مؤكدا بنبرة حاول أن تكون حازمة رغم وهنه: بجولك إيه يا يونس! الحاچات دي مفيهاش هزار، دي أغراض ناس. تطلع نحوه يونس متعجبا: واه، وايه اللي چاب سيرة الأعراض! لاه ده أنت دماغك تخينة ولازما نعدلوها، أني رايح أچيب الداكتور. واستطرد وهو يمسك بمقبض الباب، مقررا: صحيح، هي چت زارتك هنا وأنت مش دريان بالدنيا. كانت الصدمة من نصيب راضي، ليهتف في دهشة: چت هنا!
لم يرد يونس تاركا سؤاله المندهش معلق بين الدهشة والعجب، وفتح يونس الباب، ليجد صاحبة الحوار ومبتدأه وخبره، أمام الأعتاب تهم بالطرق على الباب مستئذنة، ليهتف يونس مهللا: يا مرحب، اتفضلي. وتطلع نحو راضي، الذي كان يحاول جمع شتات نفسه، وهو يتطلع نحو نعمة التي كانت تقف في ارتباك بادِ عليها، لا تعرف ماذا تقول، إلا كلمة واحدة، استجمعت حروفها في صعوبة: حمد الله بالسلامة.
رد راضي في خشونة معتادة، رغم لين نبرته التي ما استطاع السيطرة عليها فخرجت لا إراديا بهذه الصورة، عكس طبيعتها في حضرة صاحبة الجديلة، التي هتفت تهم بالرحيل: الحمد لله، امشي أنا بقى. هتف يونس يستوقفها: لاه تمشي فين! ده أني ما صدجت إن حد يجعد معاه، لحد ما أروح ادور ع الداكتور بتاعه، عشان ياچي يشوف الليلة بتاعته وصلت لفين، ويكتب لنا على خروچ بجى. همست نعمة في اضطراب: خروج!
هتف راضي حانقا: سيب الآنسة نعمة تمشي يا يونس، هو أني هياكلني أبو رچل مسلوخة وأني لوحدي يعني!؟ أشاح يونس بكفه، كأنه لم يسمع كلام راضي من الأساس، يرد على سؤال نعمة الملتاع: ايوه نخرچ بجى، ونروح بلدنا، هو إحنا هنجضوها هنا ولا إيه!؟
هزت نعمة رأسها متفهمة، أشار لها يونس، لتتفضل بالدخول، حتى يخرج هو، تاركا لهما المجال لينفردا، وقد نسي أمر الطبيب، وذهب للكافتيريا، يشرب كوب من الشاي، مشفقا عن العشق وناسه، بينما تقدمت نعمة لداخل الغرفة، وجلست على المقعد القريب من الفراش، الذي كان يحتله يونس منذ قليل، تفرك بكفيها في اضطراب، لا تعلم ما يجب عليها أن تقول أو تفعل، وخاصة وهو يحاول أن يعتدل قليلا في جلسته، متحاملا على ألمه، كاتما تأوهه، وهو يجذب عليه الغطاء ليستر صدره العارِ، مجنبا إياها الحرج، ساد الصمت، لا يقو على رفع ناظريه نحو محياها، لا يذكر إلا تلك اللحظة التي كان فيها بين ذراعيها، تصرخ باسمه في لوعة، ليكون صوتها المردد لاسمه، هو كل ما كان يجول بلا وعيه، فما كرر إلا اسمها الغالي بدوره، كأنها محاولة منه ليطمئنها.
كانت هي أول من أمسك بطرف الحديث، هامسة في نبرة رقيقة يسربلها الاضطراب: أنا متشكرة قوي على اللي عملته معايا، وأسفة ع اللي حصل لك بسببي. أكد راضي في نبرة محرجة: مفيش شكر ولا حاچة، ده الواچب. هتفت نعمة فجأة: هو أنت هتمشي بجد يا باشمهندس! يعني مش هتشتغل مع نادر وبابا تاني فالورشة!؟ هز راضي رأسه مؤكدا: إيوه، راچع بلدنا.
هزت رأسها بدورها، تحاول أن تبدو متفهمة لقراره، هادئة ظاهريا، لكنها داخليا تموت وجعا، ترغب فالبكاء بلا توقف، وهو يجيب بهذه البساطة، وكأن فراقه لها، بعد أن أدركت كم تهواه، أمر هين على نفسه.
همس راضي قائلا: المعلم خميس والاسطى ناصر ونادر كانوا هنا امبارح، يونس جالي أنهم مكنش سايبني لحظة، رايحين جايين عليا، ولولا إن نادر كان عليه اخر امتحان يوم اللي حصل، وبقى هو اللي قاعد فالورشة وفاتح القهوة بدل من المعلم والاسطى عشان تعبهم، كان زمانه معايا هنا على طول. همست مؤكدة، وهي تنهض مغادرة: أنا لازم أمشي، حمد الله بسلامتك يا باشمهندس، وربنا يوفقك.
همت نعمة بالتحرك نحو الباب، حينما استوقفها راضي هاتفا: آنسة نعمة! توقفت تتطلع نحوه، ليهمس في خجل: خلي بالك على نفسك. هزت رأسها ممتنة، وهمست مستأذنة في هدوء، لتغادر الغرفة، تاركة إياه في حيرة من أمره وأمرها، بينما تنبه يونس الذي كان بالبعد جالسا، حتى إذا ما لاحظ مغادرتها، حتى عاد لحجرة أخيه، متطلعا نحوه وقد أدرك ما يمكن أن يكون حال راضي، بعد أن استشعر حالها، وهي كانت تسرع الخطى مبتعدة.
كان قد فاض الكيل، فما أن انتهى موسم الافراح الذي كان يملأ الأجواء في النجع، حتى أصبح لزاما عليها أن ترى ما الذي يجب عليها فعله. كانت قد قررت أن تلقي الأمر كله خلف ظهرها ولا تعود لنجع السليمانية، وان تطوي تلك الصفحة من حياتها، وتنظر قبالتها على الطريق الصحيح.
لكنها فجأة عدلت عن قرارها، واتخذت وضع الهجوم خير وسيلة للدفاع، وعليها أن تذهب بنفسها حتى عقر داره، لتواجهه وترى ما الذي حدث بالضبط!؟، وما سر هذا الاختفاء الغامض، حتى تقطع الشك باليقين و لا تعاود التفكير في أي إحتمال قد يجعلها متذبذبة في اتخاذ قرارها النهائي، بشأن هذه العلاقة التي ما سعت إليها، وما كانت تتوقع يوما أن يميل قلبها بهذا الشكل لشخص ما.
تطلعت من نافذة سيارتها، وبدأ قلبها في الترنح بين أضلعها، وعبد الباسط يقترب من السليمانية، ووقعت عيونها على تلك التلة التي لطالما انتظرها عليها رائف بفرسه الأدهم، حتى إذا ما اقتربت هبط التلة حتى يتسنى له السير جوارها حتى يصل بها لموضع الاستراحة، غصت بدمع قهر، وغامت عيونها، وغشتها الدموع عن استطلاع الطريق.
توقف عبدالباسط كما هي عادته، عند مدخل الطريق الطولي الترابي المؤدي لدار السليماني، وتطلعت أمامها من النافذة لتبصر نوافذه البيضاء من موضعها، تشجعت واستجمعت شتاتها، وهبطت مودعة عبدالباسط، تسير في خطى متحفزة باتجاه الدار، التي ما أن وصلتها أخير، حتى استشعرت شيئا غريبا، كان الدار والمكان ككل، ينبئان بخلوه من أهله، تجرأت وتناست الذهاب للاستراحة قبل التوجه نحو الدار، لتهتف على أعتابه، تنادي أصحابه، ليخرج لها الخفير والخادمة، والتي هتفت في سعادة لرؤية نوارة: يا مرحب يا داكتورة، طولتي الغيبة المرة دي!
ابتسمت نوارة مجاملة، وهتفت: غيبة ايه بس يا سعدية، ده كلهم تقريبا عشر أيام، بس فين الدكتورة دلال! لم ترغب أن تأتي على ذكر رائف من الأساس، وكأنها خاصمت اسمه، وحرمت ذكره على لسانها، حتى تدرك حقيقة الوضع القائم بالضبط. هتفت سعدية: لهو أنتِ مدرتيش يا داكتورة! تنبهت نوارة، ولم تعقب تاركة المجال لسعدية لتقص الحكاية: مش البيه الكبير، تعب ونجلوه المستشفى فمصر، ورائف بيه، والداكتورة دلال معاه من يوميها.
سألت نوارة في فضول: الكلام ده من أمتى!؟ أكدت الخادمة: من ياچي أسبوع كده!؟ واقتربت سعدية من نوارة هامسة: أني هجولك، أصلك مش غريبة يعني! أصلك جبل ما عبدالسلام بيه يتعب بيوم، كان فيه عاركة كبيرة جوي هنا، معرفش كانت عن إيه، بس الست والبيه الكبار، وسي رائف كان والعة بيناتهم، بعدها تعب البيه الكبير وچريوا بيه، ومن ساعتها لا حس ولا خبر.
هزت نوارة رأسها في تفهم للخادمة، على الرغم من عدم إدراكها لشيء منطقي يُذكر، لتستطرد الخادمة مؤكدة: كويس إنك چيتي يا داكتورة، ده إحنا كنا محتاسين، أهو حضرتك فيكِ الخير والبركة برضك. هتفت نوارة: طيب تمام يا سعدية، أنا رايحة الاستراحة، وهشوف أخبار الوحدة إيه، وربنا يسهل.
هزت سعدية رأسها في امتنان، ونوارة تتجه نحو الاستراحة، وعقلها تتصارع داخله الأفكار، ما الذي يحدث بالضبط! وهل مرض جده مبرر كافِ لهذا التجاهل العجيب منه! أما كان من الأولى في مثل هذه الظروف الصعبة، أن تتواصل معاها الدكتورة دلال، لتضمن وجود بديل لها بالوحدة، لإدارتها في غيابها الذي قد يطول!؟ إن الأمر غامض، ويحمل سر ما، عليها اكتشافه عاجلا أم آجلا، لأن عليه، سيترتب الكثير والكثير من الأمور..
دخلت الاستراحة، وما أن وضعت حاجياتها جانبا، حتى هل الخفير على الباب هاتفا: حمد الله بالسلامة يا داكتورة، النسوان فالوحدة ما صدجوا إن حضرتك چيتي، بجت فوج بعضها، أجول لهم إيه! ابتسمت نوارة، مؤكدة: جولهم الدكتورة نوارة جاية، وهتكون موچودة كل يوم بدل الدكتورة دلال، لحد ما ترجع بالسلامة. هتف الخفير في امتنان: ربنا يبارك لنا فيكِ يا رب، ده الوحدة كان حالها عدم الكام يوم اللي فاتوا، من ساعة اللي حصل.
لعبد السلام بيه، ربنا يرده سالم. همست نوارة: اللهم آمين.
وتحركت مع الخفير في اتجاه الوحدة، فهي تدرك تماما أن دوائها المؤقت حاليا هو عملها، حتى تخرس تلك الخواطر التي تننازعها مؤرقة يومها وليلها، وكذلك، لأن هذا الواجب الذي يقتضيه عملها بعيدا عن أية اعتبارات شخصية، فهي لن تدع قلبها يتحكم في مسار حياتها مرة أخرى، وعليها أن تعيد زمام الأمر، ومقاليد الحكم في إدارة حياتها، للعقل وحساباته من جديد.
دخلت لحجرة جدتها، تتطلع لذاك الجسد المسجى قبالتها، أكثر من أربعة أطباء، فحصوا حالتها، وكلهم اجمعوا أن حالتها صعبة، قد تتحسن بالعلاج، لكن ذاك على المدى البعيد، بعد علاج مكثف ومصنِ. سال دمعها اشفاقا، وهي ترى تلك المرأة ذات الجبروت، المطاعة مسموعة الكلمة، في هذه الحالة المتردية.
فتحت وجيدة عيونها في بطء واهن، تتطلع نحو أية في نظرة يكسوها العجز، جعلت أية تشهق باكية في عجز مماثل عن مساعدتها، وهي تراها ممددة هكذا، بجسد نصف ميت، ولسان ثقيل عن نطق الأحرف، تهمهم مثل الأطفال، لطلب حاجتها. انهارت أية على الأرض، تستند على طرف الفراش باكية جدتها في قهر، التي شاركتها البكاء على حالها بالمثل.
لا تعرف كم مر عليها وهي على هذه الحالة، حتى تنبهت، لتجد وجيدة وقد غلبها النعاس، من أثر الأدوية المهدئة التي تتناولها، ما جعلها تنهض في خفة، متسللة في هدوء باتجاه حجرتها، وهي تحمل هاتف جدتها معها، وما أن دلفت للحجرة، حتى اخجرت نمرة منتصر، وأخذت بالدق على هاتفه، فعليه أن يعلم ما جنته يداه، وأن يأتي في أقرب وقت، ليرى ما حل بجدته، جراء أفعاله، التي لا تصدق حتى اللحظة، أن منتصر بن خالها، ورفيق الطفولة والصبا، قد قام بها من الأساس.
كان هاتفه مغلقا، لا يستقبل أية مكالمات، ما الذي يعنيه ذلك! هل ما قالته جدتها واكدت على صحته، من بعض اصدقاء منتصر، صحيح بالفعل!؟ لم يعد لها ملجأ إلا الله، وهو، مروان.. اندفعت باحثة عن هاتفها السري، الذي ما عاد من داعِ لتخبئته، لتفتحه، جاءها اشعارات بعض الرسائل الموجهة منه، أخرها يؤكد عليها رحيله للقاهرة اليوم، للضرورة.
ماذا هناك يا ترى!؟، طلبت من الله العون، فلم يعد لديها القدرة على تحمل مزيد من الصدمات، رنت على هاتفه، لعلها تعلم ما الذي يحدث، لكنه لم يرد، ما دفعها لترسل لها رسالة سريعة: رن عليا ضروري، أنا هفضل فاتحة الموبيل على طول، متقلقش.
كان عليها أن تقص عليه كل ما حدث، والذي لم يدر به إلا بعض المقربين جدا في العائلة، لعل ذلك يجعله يحيد عن رأيه، وينسى هذه العملية التي قد، ولم ترغب في التفكير في العواقب، تاركة الأمر لله.
طرقات على باب شقتهما، جعلتها تندفع لتفتح، فقد كان هو بالتأكيد، فما من مرة خرج فيها، وعاد ليفتح الباب بمفتاح الشقة الذي لا يفارقه، لكنه كان يراعي وجودها، فما كان منه إلا الطرق على الباب، حتى يعطي لها الفرصة حتى تكون بكامل هيئتها، دون حرج له أو لها.
لا تعلم أنه ما كان يتعمد ذلك إلا خوفا، نعم كان خائفا أن يتورط أكثر في محياها الذي يعشق، والذي بدأ يعتاده صباحا ومساء، حتى وهي بكامل حشمتها، فدفاعاته الواهنة في الأساس، لن تصمد أمام طوفان هواها الذي يدك حصون ثباته في قوة، مهددا بانهيارها.
واليوم لم يكن لستثناءا، فقد فتحت هي اللحظة، ليسقط قلبه صريعا بين قدميه، ما أن طالع هذا الوجه الصبوح الذي تكلله تلك الابتسامة البريئة، والتي خلبت لبه في التو، تحرك مسرعا للداخل، عندما افسحت له الطريق، هاربا من ضعفه قبالتها، هم بالاندفاع صوب حجرته، التي اتخذها مستقرا بعيدا عن حجرتها، لتهتف به تستوقفه: سمير.
انتفض قلبه، من مجرد نطقها لاسمه، في نداء عادي جدا لا يحمل أي دلالات، تسمر موضعه، لتستطرد هاتفة: بجولك! استدار يواجهها هاتفا: خير! اقترحت في هدوء: إيه رأيك ننزل ناكل معاهم تحت!؟ بدل ما بياكلوا لحالهم! لو ده يريحك يعني! ابتسم مؤكدا: أني كنت خايف أجولك كده، يكون أنتِ اللي مش حابة، ولسه هايبة، ومخدتيش عليهم.
أكدت في مودة، وهي تتجه نحو الباب: طب تمام، ياللاه ننزلوا دلوجت، زمانهم هيحطوا الغدا، أهو أساعد عمتي سندس. استوقفها سمير متسائلا في حنق: تعالي بس هنا! انت رائحة فين بالعباية دي!؟ توقفت تتطلع لنفسها في حيرة، فقد كانت تضع غطاء رأسها بالفعل، على عباءة حريرية وردية اللون، محتشة تماما، متسائلة: إيه فيها العباية! ما هي باكمام، ولابسة تحچيبتي، مع أن محدش غريب تحت!
أكد سمير في نبرة تحمل قدر لا يستهان به من الغيرة: ولو، افرض حد طب على فچأة، غيري العباية دي للون غامج، ويا ريت يكون أسود. هتفت متعجبة: أسود!؟ وأني عروسة مكملتش أسبوع يا سمير!؟ أكد سمير هاتفا في ضيق: هتفرج يعني!؟ شايلة الأسود للأربعبن يعني ولا إيه!؟ قهقهت رغما عنها، ليصمت كل ما به، مرهفا السمع والفؤاد والروح، لهذا الشدو الرباني، الذي اندفع في خفة من هذه الحنجرة الرقراقة.
توقفت ضحكاتها أخيرا، ليخرج من تيهه على كلماتها المهادنة: حاضر، هدخل أغير، وأنزل وراك. أكد في هدوء: لاه، هننزلوا سوا. هزت رأسها في إيجاب، ودخلت لتغيب بضع دقائق، ترتدي عباءتها السوداء التي ما زادتها إلا حلاوة، تطلع نحوها من جديد، ليس لديه ما يقوله، مشيرا إليها، لتسبقه، قبل أن يغلق الباب، ليهبطا الدرج متجاورين. هللت سهام جدته، ما أن طالعتهما، لكنها تنبهت لسمية، لتهتف به متعجبة: مين دي يا واد يا سمير!؟
أكد سمير: دي سمية مراتي يا ستي. كان وقع الكلمة على مسامعه، له شدو خاص أطربه، وكان وقعه على مسامع سمية مختلفا، جعل قلبها يتضطرب، مدركة تماما أن ذاك الزوج له حقوقا، والتي أعفاها منها طواعية، لأن قلبها كما أدرك ملكا لغيره. هتفت سهام في حنق: اتچوزت ومجلتش يا واد!؟ هتف سمير باسما: مجلتش إيه يا ستي! ده البلد كلها حضرت الفرح والطبل والزمر فضل للصبح.
هتفت سهام محتجة: كمان فرح وأني محضرش، ماشي يا جليل الترباية، والله لأجول لأبوك عشان تتچوز وإحنا مندراش. وتطلعت لسمية معاتبة: وأنتِ يا معدولة، مش تجوليله فين ستك، مجتش فرحنا ليه!؟ ولا ما صدجتي تتچوزي وتخطفي الواد! معلوم، طول بعرض، ودمه سكر طالع لسته.
ابتسم سمير، وقد قلبت الدفة على سمية متطلعا نحوها، يحثها على مجاراتها، لكن تلك الابتسامة على شفتيه، وهو يتطلع لصدمتها، كأنه يمسك ضحكاته، جعلتها تقرر الانتقام هاتفة به: ايوه صح، كيف يا سمير تعمل كده!؟ بجي برضك ستي متحضرش فرحنا!؟ هتفت سهام في امتنان، وكأنها وجدت لها نصيرا: ايوه يا بتي، ربنا يبارك لي فيكِ، جوليله الچاحد ده!؟
وأشارت لسمية هاتفة: تعالي يا بتي اجعدي چاري، باينك بت حلال، أني حبيتك، بت مين أنتِ!؟ أكدت سمية وهي تتطلع لسمير، تشعر بالانتصار: أنا بت ماهر الهواري يا ستي! أخت الشيخ مؤمن اللي خد سهام بتكم. هتفت سهام متعجبة: هي سهام اتچوزت كمان! وأني اجول البت راحت فين، ومش بترد عليا لما بنادم عليها!؟
ظهرت سندس من الداخل، لتتطلع للعروسين في تعجب، هاتفة: واه، إيه اللي نزلكم من فوج، ده أنا كنت لسه بحضر لكم صينية الأكل بتاعتكم. هتف سمير مؤكدا: الظاهر سمية زهقت مني، جالت لي تعالى ناكل معاهم تحت، جلت لها ماشي. ابتسمت سندس في مودة: وماله يا حبيبتي، كلوا فالحتة اللي تريحكم، ووجت ما تحبوا تنزلوا تعالوا، ووجت ما تحبوا تجعدوا فوج اجعدوا، المهم راحتكم.
نهض سمير ملثما جبين أمه في محبة، لتربت على صدره في مودة، ليهتف سمير وهو يشم موضع كفها على صدره: الچلبية بجت بالتجلية يا سندس، ينفع كده! قهقت سندس في سعادة، مؤكدة: ايوه ينفع، إن كان عاجبك! هتف سمير مازحا: عاچبني طبعا، هو أني أجدر اتكلم، بس شكلك عامل شوية ملوخية عچب، فيها توم من اللي بيخدر الواحد اسبوع لجدام. جاءته قهقهات سندس من الداخل، لتشاركها سمية، وسهام..
جلس الجميع على المائدة، ما أن حضر باسل من الخارج، والذي أسعده تواجد سمير وسمية على طاولة الطعام للمرة الأولى.
بدأوا في تناول غذائهم جميعا، لتتنبه سندس لما يفعله العروسان، ضاربة باسل بخفة من تحت الطاولة، ليلحظ ما يجري بدوره، وسمية تقرب طبق المخللات، من سمير، مدركة ما يحب، ما أسعد سندس التي تطلعت لباسل في فرحة، ارتسمت على ملامحه، وهو يرى سمير ينهض لبرهة، قبل أن يعود حاملا زجاجة من عصير ما، صب كوب منها، وضعه أمامها، لتبتسم في وداعة للفتتة الكريمة، مشيرا للزجاجة متسائلا: حد عايز عصير!
أكد باسل في هدوء: لا يا حبيبي، بالهنا والشفا على اللي هيشرب. بدأ سمير في تناول الطعام في شهية، وقد تنبه أن سمية تشعر بالحرج نوعا ما، ما دفعه ليمد كفه منتزعا نسيلة منها، موجها بها كفه نحو فم سمية، التي ارتيكت، وكفه ممدود أمام الجميع بهذا الشكل. حمدت لهم محاولتهم اشعارها أن الأمر طبيعيا، ما دفعها لتفتح فمها تتناول ما يقدمه لها، هاتفة به في خجل: كل أنت، أنا باكل والله.
لم يعر كلامها انتباها، وهو يمد كل دقيقة كفه مملوء بنوعية طعام مختلفة عن الأخرى، حتى جعلها تتذوق كل ما كان على المائدة. هم الجميع بالنهوض، وكذا سمية تحمل الأطباق، لتمنعها سندس معترضة: والله ما يحصل، ده أنت لسه عروسة جدبدة، ياللاه خدي جوزك واطلعوا ارتاحوا لكم شوية.
هتف سمير من كرسي جانبي، وهو يمد قدميه أمامه، مهدلا ذراعيه عن يدي المقعد، متحدثا في وهن: چوزها اتخدر خلاص، ما جعلنا بلاش الطبيخ الغامج فشهر العسل يا سندي، صحوني ع ال الخمستاشر بجى. قهقه الجميع، وخاصة سمية، التي جعلته قهقهاتها يفتح عيونه المغلقة في تباطء، كناعس يخشى ضوء النهار. نهض في تثاقل، متجها للأعلى، لتشير سندس لسمية بالصعود خلف زوجها، وترك ما عاداه.
دخلا شقتهما، لتهتف به سمية: أنا هعمل شاي، الواحد يهضم الأكل اللي كله ده كله، أعملك معايا!؟ هز رأسه موافقا، لتغيب دقائق، قبل أن تعود لتسلمه كوبا من الشاي، ارتشف منه رشفة ليجده كما يفضله تماما، سألها: ده مظبوط ع الشعرة، كيف ما بحب اشربه بالتمام! همست مبتسمة في تأكيد: شاي تجيل، سكر كتير، رغم انك مليكش فالحلو، بس بتحب الشاي بالذات زايد سكر.
تطلع نحوها، كانت تتحدث وكأنها تعرفه منذ سنوات، شعر برهبة هذه الحميمية تتسلل لقلبه، ما دفعه ليترك الكوب من كفه وهو ما يزل على حاله، متجها صوب حجرته، هامسا: أني هنام. نهضت بدورها حاملة كوبه صوب المطبخ، تاركة كوبها جانبا، والذي حملته ودخلت حجرتها، لا تدرك أنها يراقب سكناتها من خلف باب حجرته الموارب قليلا، حتى غاب محياها خلف بابها المغلق اللحظة، ليغلق بابه بدوره.
كان عليها أن تتحرك، وتحاول التحامل على نفسها، والنزول لمواجهة الناس، يكفيها اختباء وانزواء، سيكلفها مستقبلها الذي بدأ يتسرب من بين أصابعها بعد كم الأحداث الذي مر بها الفترة الماضية.
دخلت الجامعة تسير على استحياء، تحاول أن تبدو لا مرئية، وعلى الرغم من إنها قدمت إلى هنا في صحبة أبيها، الذي كان لديه محاضرات مبكرة اليوم، والذي رفضت صحبته لها حتى مدرجها، كأنها فتاة صغيرة في يومها الأول بالمدرسة، مصممة على السير بمفردها، إلا إنها رغما عن ذلك، شعرت بالوحدة، وبغربة كبيرة عن كل ما كان مألوفا لها،.
اقتربت من الوصول للمدرج، وما أن وصلت لعتبات مدخله، حتى سمعت خلفها شابين من زملائها، كانا يتهامسان عليها، لا يدركان أنها تسمع همسهما المتخابث: مش دي زهرة بت الدكتور ماجد الهواري. أكد الآخر: ايوه هي يا سبدي، عاش من شافها، بعد ما راح دكتور محمد الله يرحمه بعد كتب كتابه عليها بمفيش، شوف جاية ازاي ولا هاممها!؟ هتف الأول من جديد: ايوه والله صدجت، چاية بلبس ملون، وكن اللي راح ده ملوش عازة، نجول إيه بجى..
كانت قد وصلت لداخل المدرج وهم خلفها، كانت كلماتهم تقتلها في الصميم، وخاصة ملاحظاتهم الأخيرة التي وصلت مسامعها اللحظة قبل أن تجلس على أقرب مقعد قابلها، شاعرة بالترنح، كانت تنوي العودة من جديد حيث أتت، والرجوع لمكتب أبيها لتنتظر انتهاء محاضراته حتى يقلها للعودة.
وصل إشعار ما على هاتفها، ما جعلها تتطلع نحوه، تحاول أن تلهي نفسها عن كل تلك الخواطر التي تداهمها، ليطالعها على شاشة الهاتف، اشعار من صفحته، مدت كف مرتعش، وفتحته، لتجد اقتباس الأمس الذي تعمدت اختياره، ينير صغحته: يوم ما، ستدرك أيها الحبيب، أنك أنفاس الصدر، وضي العين، والوجع الحلو الذي أدمنته، وأنك ذاك الدرب وحيد الاتجاه، الذي ما عاد يصلح منه رجوع.
لا تعلم لما دمعت عيناها، وهي تقرأ منشوره، الذي لم يكن إلا اختيارها في الأساس. مدت كفها، كتبت تعليقا، كانت المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، لكنها وجدت نفسها بلا إرادة تكتب في التعليق: يوم ما، ربما لا يأتي ذاك اليوم أبدا، وربما يكون القدر رحيم بنا، ليغير أقدارنا لما فيه هناء قلوبنا الملتاعة، ربما..
انتفض عاصم ما أن رأى تعليقها، كان يعرف صفحتها، التي تديرها باسم مستعار، لكنها لا تدرك أنه يعرف ذلك، لذا كتبت تعليقها ذاك بأريحية كبيرة، قرأ الكلمات من جديد، واستشعر أنها تعاني صراعا ما، لذا لم يعِ إلا وهو يضغط ذر الاتصال بها، الذي ظل يرن حتى الرنين الثالث، لترد في نبرة تحاول أن تجاهد لتبدو طبيعية: السلام عليكم. هتف عاصم: وعليكم السلام، زهرة أنت كويسة!
لم ترد، لذا ما كان منه إلا هتف في عجالة: بجولك، خليكِ مطرحك وأني چاي أخدك. همست بصوت متحشرج: المحاضرة هتبدأ يا عاصم، وأنا... هتف بها، وقد اندفع في اتجاه السيارة بالفعل: اخرچي حلاً من المدرچ، سمعاني. هزت رأسها موافقة، وتنبهت أنه لا يراها، فهمست من جديد: حاضر. هم بإغلاق الخط، لتهمس مستطردة: عاصم. هزت جنبات روحه بندائها، ولم يرد منتظرا حين استطردت هامسة: متتأخرش عليا.
أكد في ثبات، وقد انطلق بالسيارة بالفعل: مسافة السكة. وكان على قدر كلمته، فأصبح أمام الجامعة في غضون دقائق، ليرن على رقمها، وما أن أجابت، حتى هتف بها: زهرة، أني بره الچامعة، أدخل لك!؟ أكدت في هدوء: لا أنا خارجة يا عاصم. ظلت عيونه معلقة بباب الخروج، حتى رأها قادمة، فاندفع نحوها، يسير جوارها متسائلا: أنتِ كويسة! أكدت وهي تفتح باب العربة، لتستقلها وهي تهز رأسها غير قادرة على الحديث.
كان يحفظها عن ظهر قلب، ما أن يخيم الحزن على أجواء قلبها، حتى يسكنها الصمت، ويغشى السكون دنياها، وتركن إلى كهف ما داخلها، لا تخرج منه بسهولة أبدا.
سارت العربة مسافة بسيطة، حتى توقف فجأة، فخرجت من شرودها، وتطلعت نحو مكان الوقوف، ليترجل من السيارة في اتجاه محل ما، غاب لحظة، وعاد سريعا حتى لا يتركها وحيدة، استقل العربة، ومد كفه لها، بذاك القمع المغلق، من الحلوى المثلجة، مدت كف مرتعش في اتجاه كفه، وأخذت القمع، متطلعة نحوه وغامت عيناها بفعل الدمع المترقرق بها، ما زال يذكر أنها الحلوى المفضلة لها، وأنها الوحيدة القادرة على تطييب خاطرها، ابتسمت هامسة: متشكرة يا عاصم، بس أنت لسه فاكر! إني بحب الآيس كريم، حتى فالشتا!؟
هز رأسه مؤكدا، وهمس في نبرة حانية: ولا عمري نسيت، شفتك مضايجة جلت مفيش غيره هيخرجك من ضيجك. هزت رأسها، وهو يدير العربة في اتجاه النجع، عيونه تتبادل النظر ما بين محياها الحزين والطريق، بينما هي تتطلع نحو المثلجات، تبتسم في شجن، هامسة لنفسها، ما عاد كل ما يسعدنا قديما، يسعدنا الآن يا عاصم.
فتحت الحلوى، وبدأت تناولها على الرغم من عدم رغبتها في ذلك، لكنها فعلت جبرا لخاطره، ما جعله يبتسم في مودة، وهو يتطلع لها، لا يعلم أن أمر قلبها اعظم وجعا من أن يداويه قمع من حلوى. دفعت بها عمتها لتفعل ذلك، ولولا معزتها ما جاءت حتى أعتاب حجرته، تطرق عليه بكف مرتجف، لعله يخرج من عزلته، التي فرضها على نفسه، منذ أيام.
رده من الداخل، جعلها تنتفض خجلا، تتطلع لعمتها المستترة بأحد الأركان، والتي ربتت على صدرها تستعطفها لتستمر في الطرق، حتى ينهض فاتحا بابه، خارجا من عزلته. طرقت حُسن من جديد، لينتفض شعيل فاتحا الباب في عنف اجفلها، ابتسم محرجا، ما أن طالعه محياها هاتفا: هو أنت يا حُسن!؟ كنت مفكره الخادم، خير!
ارتبكت حُسن قليلا، وأخيرا استجمعت شجاعتها، هاتفة به: هو مفيش اي تقدير ولا تشجيع خالص للغلبانة اللي قاعدة تذاكر دي لحد ما دماغها ورمت!؟ اتسعت ابتسامة شعيل على تعبيراتها، مؤكدا: والله نشچع ونچيب مشچعين المنتخب الوطني يشچعون كمان، إحنا تحت أمرك. ابتسمت مؤكدة: لا مش للدرجة دي، أنا بس اتخنقت من المذاكرة وعايزة أخرج شوية، ينفع تخرجنا! همهم باسما: تخرجنا!؟ نون الچماعة مين المجصود بها!
اتسعت ابتسامتها هاتفة: أنا والغلبانة ربى، دي خلاص يا عيني، شوية هتنزل تشحت حد يخرجها. قهقه هاتفا: لا، مش لهالدرجة، أنا موچود، اچهزوا، وأنا تحت أمركم. رفعت حُسن هاتفها، تتصل بربى، لتجهز نفسها، حتى يمروا بها ليأخذوها في طريقهم للمول التجاري، والتي صرخت فرحا، وأعدت نفسها في ثلاث دقائق.
عافت الطعام، فمنذ قدمت إلى هنا، لم تضع بجوفها إلا قليل من الماء، وكأنها ترفض بقاءها على قيد الحياة بعد ما حدث. دموع عينيها لا تجف، ووجع قلبها يزداد ضراوة، وهي ترى من أحبت، ووهبته القلب والروح، قد تحول بهذه الطريقة الفجة، وفعل بها ما لا يغتفر.
إنها ممزعة ما بين مشاعر كانت له خالصة من دون البشر، وما بين مشاعر أصبحت ناقمة عليه، ملأ الأرض والسماء، وهي ما بينهما تموت قهرا وعجزا، ولا حيلة لها إلا البكاء والاضراب عن الطعام، لعلها ترحل بعارها، وحبها الآثم الذي ما زال يرتع بين جنباتها. انتفضت، عندما سمعت صوت إدارة المفتاح بباب الحجرة، بالأدق حجرته التي يشاركها فيها، مغلقا عليها بابها ما أن يغادرها.
دفع منتصر الباب، ليدخل وخلفه هذه الفتاة الجريئة الطلة، التي تحمل صينية من طعام مغطى، لكن رائحته الشهية، أثارت شهيتها، واسالت لعابها، لكنها لن تضعف أبدا، هكذا قررت، وهي تحيد بناظربها عن زوارها، تمسح عن وجهها دموع الحسرة في كبرياء أثار إعجاب منتصر، الذي ظل يتطلع إليها في عشق، اشعل غيرة نغم، التي مصمصت شفتيها في حنق، هاتفة بلهجة حادة: هو أنا هفضل شايلة الصينية دي لحد أمتى يا باشا!؟ ولا أغور بيها أحسن، عشان مبقاش عازول!
أشار منتصر لطاولة ما بالقرب من الفراش، لتضع نغم عليها الصينية، هاتفة في نفاذ صبر: أي خدمة تاني يا باشا!؟ ولا أتكل! أشار لها منتصر ملوحا كفه في لا مبالاة، لتتحرك نغم في حنق، تقف على باب الحجرة، على الرغم من أغلقه بابها. ليقترب من بدور، جالسا قبالتها متنهدا، هامسا في هدوء: هتفضلي كده لحد أمتى! لازم تاكلي. هتفت بدور في حنق: أبعد عني، مش عايزة منك حاجة، كل اللي عايزاه دلوقتي، إني أموت وارتاح منك ومن..
هتف مقاطعا إياها، هاتفا في نبرة محبة: بعد الشر عنكِ، تموتي إيه! ده أنا ما صدقت ربنا جمعني بكِ، تقولي أموت والكلام الفاضي ده. تطلعت نحوه، هو منتصر الذي تعرفه، وليس هو في نفس ذات اللحظة، أيهما تطالع، من منهما الحقيقي، ومن منهما المزيف، أم كلاهما شخص واحد وعليها أن تتعايش مع هذا، وتتقبل ذاك الوضع، حتى يتضح لها حقيقة الأمر، الذي يكاد يذهب بعقلها.
مد كفه يقرب الصينية، رافعا الغطاء عنها، كاشفا عن محتويانها، مشيرا لعدة صحون، مؤكدا في محبة: بصي، الأكلات اللي بتحبيها كلها. تطلعت نحو الأطباق، كان محقا، ما ترك صنفا تحبه إلا وكان حاضرا ها هنا. تطلعت نحوه في اضطراب، إنها حتى ما كانت تعلم أنه يعرف كل ما تحب بالفعل، هل كان يحبها لهذه الدرجة!؟ وهل ما زال يحبها بنفس الدرجة، أم أن تحول حاله، حول قلبه كذلك!
تنهدت بصوت مسموع، أثار لواعج قلبه بالمثل، وهمست لنفسها، ما الفارق! كان يحبها! أو يذكر ما تحب! هي التي يجب عليها أن تكف عن عشقه، وتخرس دقات هذا القلب الذي لم ولن ينبض لعشق أخر. مدت كفها نحو الصينية، ليبتسم منتصر معتقدا أنها لانت لكلماته، وستتناول طعامها بالفعل، لكنها ادعت ذلك، وعيونها على أمر أخر، شىء لامع على أطراف الصينية، جذب انتباهها، وقد يكون فيه الخلاص.
ابتلعت اللقيمة الأولى في صعوبة، وتظاهرت بالتقاط الثانية من على أطراف الصينية، في ظل سعادة منتصر، بكسرها لاضطرابها عن الطعام، لتنتفض بغتة، مختطفة السكين من موضعها، مندفعة نحو منتصر، تود قتله.
كانت قد اعتلته، حاملة سكينتها، تضم على مقبضها، موجهة نصلها صوب قلبه الذي عذبها كثيرا، أمسك منتصر ساعدها محاولا أن يبعد النصل عن صدره، وهي تضغط عليه بقوة، هامسا وهو يتطلع بعمق عينيها، بنبرة أذابت كل دفاعاتها: لو ده اللي يريحك يا بدور، هسيب إيدك، عشان ترتاحي.
بدأت كفها ترتجف، وقد أدركت تماما، أنها غير قادرة على فعل ذلك، حتى لو أتاح لها الفرصة، كانت لحظة شجاعة زائفة من قبلها، تدفع ثمنها اللحظة من كبريائها المهدر على أعتاب عينيه التي تطالعها اللحظة، بتلك النظرة التي اعادتها لذكرياتها الرائعة معه، ما دفعها في لحظة تهور، أن تبتعد، لتوجه النصل نحو قلبها هي، ذاك الخائن الذي يسلم نفسه طواعية لخائن أخر، دون رغبة منها، عليها الخلاص من كلاهما، قلبها ومالكه.
لكن منتصر، كان من الحنكة، ليدرك خطتها، وهي في مثل هذه الحالة من الاضطراب، والتيه، لينتفض باعدا كفها المتشبث بمقبض السكين في استماتة، عن موضع صدرها، وقد انقلب الوضع عكسيا، ليصبح الآن هو المسيطر من عليائه، مشرفا عليها، ظل يضغط على مجمل ساعدها، حتى شعرت بالألم، ليفقد كفها القدرة على التشبث بمقبض السكين، ليسقط محدثا دويا، قطع ذاك الصمت المغلف لوضعهما، وكلاهما غائب تماما، يسربله التيه، سارحا في عمق عيني الأخر، حتى اقترب منتصر في بطء ليطبع قبلة حانية على جبينها، جعلت جسدها يرتجف وهي يبتعد ليعاود وصل عينيها من جديد، والذي قطعه منتفضا، فما عاد له القدرة على تحمل كل هذا الشوق القاهر في حضرتها، متوجها نحو الباب، بعد أن تناول السكين من أرض الحجرة، ليجذب الباب لينفتح في شدة، ليطالع نغم، التي ما زالت مرابطة على أعتابه، هاتفا في ثورة، لا تعادل ذرة مما يعتمل بداخله، صارخا وهو يقذف السكين أرضا، موجها حديثه لنغم: لما تبقى تجيبي لها أكل تاني، متحطيش سكاكين لفاكهة وزفت، ركزي شوية!
لم تنبس نغم بحرف، بينما اندفع هو لخارج الغرفة، هاتفا في ثورة لم تهدأ: ادخلى حاولي تأكليها، ولو مكلتش، مش هحاسب حد غيرك، فاهمة!؟
هزت نغم رأسها متفهمة، لا تعلم ما الذي حدث ليتحول الباشا، لهذه الثورة العارمة، تطلعت بطرف عينيها نحو الداخل، لتجد بدور، ممددة على الفراش، شاردة تماما، تتطلع لسقف الغرفة في صدمة، وهي تتحسس موضع قبلته على جبينها، والتي استشعرت أنها ما كانت إلا على شغاف قلبها المضطرب، الذي يحاول أن يبعث له برسالة ما، لم يستطع أن يفك شفراتها بعد.