رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع عشر
رنات متتابعة على باب الشقة دفعت تسبيح للإسراع رغم حالة قدمها لتفتح ليواجها حازم الذي اندفع للداخل بشكل هيستيري حتى وصل لغرفة ابنته بدور وتسبيح في اعقابه تهتف في ذعر: فيه ايه يا حازم! إيه اللي بيحصل! دفع حازم الباب لتنتفض بدور من موضعها هاتفة في تعجب: خير يا باب فيه إيه!
جذب حازم هاتفه من جيب سترته هاتفا وهو يلتقط أنفاسه في تتابع صارخا في انفعال: فيه ده يا آنسة، الباشا اللي كان بيحفى عشان نوافق على جوازكم، اسمعي بنفسك بقى ايه وفين، الكلام ده مش المفروض إني اسجله اصلا بس كان لازم اعمل كده عشان تسمعيه بودانك وتبصي بقى لمستقبلك اللي هيضيع وانت طول الوقت بتبكي وبتقكري فالباشا ورامية البكارليوس اللي امتحاناته كمان كام اسبوع، وأنت ولا هنا..
دمعت عينى بدور، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث أبوها إليها بهذا الشكل الشديد اللهجة معنفا، ضغط حازم على زر التشغيل على جواله ليندفع صوت أحد القادة الزملاء مؤكدا له: أه والله يا حازم زي ما بقولك كده، ده الإدارة مقلوبة، الولد ده كان من أكفء الظباط وكان الكل حاطين له توقعات عالية، اللي حصل ده صدمة، ايه اللي خلاه يعمل كده، ده سرب كل خطط المجموعة بتاعته للزفت اللي اسمه سعفان ده، واللي بقالنا سنين وراه ومش طيلينه، أنت عارف إن صاحبه ودفعته كان معاه في المأمورية، الولد حالته صعبة بين الحيا والموت فالمستشفى، ده لسه عريس جديد وكان يومها لسه عارف إن مراته حامل، ربنا ينجيه، بجد الولد منتصر ده هيخلينا نعيد حساباتنا في حاجات كتير..
هتف به حازم في صدمة: أنت متأكد من اللي بتقوله ده يا وفائي، أصل أنا أعرف منتصر كويس، الولد ظابط شاطر ومش ممكن الخيانة دي تطلع منه، أكيد فيه سر فالموضوع.. هتف اللواء وفائي: السر الوحيد فالفلوس، ده اشتروه بالفلوس، وباع القضية.. اغلق حازم الكلام المسجل على هاتفه لتهتف تسبيح في صدمة: أنا مش مصدقة يا حازم، هو بيتكلم على منتصر اللي كان عايز يخطب بدور!
أكد حازم هاتفا في حنق: ايوه يا ستي، هو سي زفت، اللي بحمد ربنا ألف مرة إني سمعت كلام عمي عاصم وموافقتش أن اسمه يرتبط باسمنا، أدي أخرة أمثاله، حتى لما بيعلى بيختار الجانب الواطي ويروح له، كل واحد بيحن لأصله..
ربتت تسبيح على كتفه مهدئة ليندفع هو مبتعدا تاركا بدور التي كانت ما تزال تحاول استيعاب الموقف وتلك الصدمة التي استمعت لها منذ لحظات، لا يمكن أن يكون من يتحدث عنه أبيها بهذا الشكل هو منتصر الذي كان يعشق عمله بكل ذرة في كيانه، لا، هناك بالتأكيد أمر مريب، لكن هذه الحقائق التي أكدها صديق والدها مذكورا فيها بالاسم، كيف لها أن تكذبها!؟
شهقت في قهر محاولة إنكار تلك الحقيقة الجلية أمام ناظريها كشمس الظهيرة.. لقد انتهت حكايتها مع منتصر بأسوء نهاية يمكن أن يتخيلها بشر، حتى ذاك الأمل الذي كان يراودها والذي حلمت بتحقيقه يوما ما، واجتماعهما بعد اقناع جدته لم يعد متاحا من الأساس، حتى الأمل اغتيل بيديه، ما عاد لها أن تحلم، ما أضحى لها الحق في ذلك..
جلست منهارة موضعها، تتابع شهقاتها في وجيعة، على كل ما كان، ظلت على حالها، لا تعلم كم مر عليها وهي تبكي، لكنها أمسكت الهاتف وبلا وعي، وجدت نفسها تدق على رقمه، لعله يخبرها أن ما يدعيه أبوها عنه غير صحيح، ظل الهاتف يرن بلا إجابة، ما دفعها لتزيد من وتيرة بكائها، لم لا يرد عليها!؟، لم لا يريح بالها!؟
لم تشعر بنفسها إلا وهي تضع إحدى الأغنيات على حالتها على الواتس لعله يراها كما حدث سابقا، انتفضت عندما رأته يشاهدها بعدها بدقائق، رنت من جديد، فبالتأكيد سيرد الآن، لكن يا لخيبة أملها! فقد أغلق هاتفه تماما، تاركا إياها تموت من قهرها.
أصدرت العربة صوتا مزعجا ثم توقفت فجأة على ذلك الطريق الجانبي الذي يتاخم سراي الهواري، ماذا حدث!؟ لا يعلم ما عليه فعله وهو وحيدا هنا، قرر الاتصال بسمير ليأتيه، حتى يرى التصرف المناسب في مثل هذا الوضع، فقد أصبح عالقا ما بين هذه الدار والأرض المتاخمة في هذا الطريق الضيق الذي يبدو أنه سلكه عن طريق الخطأ..
تطلع لشاشة جواله وزفر في حنق، فلا إشارة تذكر ورغم ذلك داس زر الاتصال لعل وعسى، لكن فشل الاتصال، ما دفعه ليضع هاتفه بجيب سترته من جديد، ويتطلع حوله ربما يجد من يستطع مساعدته، لكن بلا جدوى، فما من بشري واحد بالجوار، وكأن العالم قد خلا من قاطنيه فجأة..
استند على مقدمة السيارة ينتظر الفرج، لكن تناهى لمسامعه صوت بكاء، أنين خافت جعله يشرئب بعنقه محاولا البحث عن صاحبه بين هذه الأشجار الممتدة حوله على طول ذاك السور الخلفي المنخفض لهذه الدار العريقة، كان ثمة فتحة طولية كشق بجدار السور أشبه بباب خلفي غير معلن، لا يعلم ما الذي دفعه لاختراق خصوصية المكان، على غير عادته، والولوج عبر هذا الشق باحثا عن موضع الهنات الموجوعة التي يسمع، والتي بدأت وتيرتها تعلو وتقترب، يبدو أنه أصبح قاب قوسين أو أدني من صاحبها، أو صاحبتها..
نعم صاحبتها التي طالعته صورتها الجانبية وهي تجلس تبكي تتطلع لشاشة ما، تعاتب عليها شخصا في لوعة هامسة من بين أنينها: ليه كده!؟ حرام عليك، كنت قلت، ليه تعمل فنفسك كده!؟. تطلع في تعجب لمدى تأثرها، هل تعاتب حبيبا قاسيا قرر الرحيل!؟، أم من تعاتب بهذه الحرقة وذاك الوجع!؟. أقترب في جرأة، لا يعرف من أين واتته، الفضول كان قاتله، إن لم يدرك لمن كل هذه اللوعة التي مست شغاف قلبه شخصيا!؟.
وقع ناظره على شاشة الحاسوب وكاد أن يشهق في صدمة، إنها تشاهد فيلمه المفضل، كانت تبكي بطل الفيلم الفرنسي، الذي كان يموت اللحظة، وهو يعترف بحبه لأبنة عمه التي يعشق، كان يرى نفسه دميما لا يصلح للحب، فأخذ يرسل لها الخطابات يبثها لواعج قلبه وأوجاع الهوى، عبر صديقه الوسيم الذي علم أنه يحبها كذلك، والذي ظنت بن عمه أنه هو الذي يرسلها، فأعجبت به، بل هامت به عشقا، ليقرر البطل الابتعاد والانخراط في المعارك، حتى يسلم الروح أخيرا، بأحضانها، وهو يعترف اعترافه الاخير بعشقه لها..
كان اعتراف البطل موجعا، حتى أنه كان يحفظه عن ظهر قلب، لذا هتف به دون وعي منه، بفرنسية خالصة، حتى أن سجود اختلط عليها الأمر، وهي تسمع اعترافين، أحدهما كان من فم ذاك الذي يقف خلفها، ما جعلها تنهض منتفضة من موضعها، فسقط الحاسوب من على حجرها وشهقت في صدمة وهي تتطلع له هاتفة: أنت!؟ هتف هو بنفس الصدمة: أنتِ!؟
ظل كلاهما على حالة الصدمة التي شملتهما حتى هتف هو أخيرا قاطعا ذاك الصمت المربك: أنا يوسف، يوسف حسام التهامي.. شهقت من جديد: حضرتك بن عمي حسام اللي ففرنسا!؟ هز رأسه بالإيجاب لتستطرد: أهلا وسهلا، اتفضل.. هتف يوسف: أنا آسف إني اقتحمت المكان كده، بس العربية عطلت بره ومعرفتش اوصل لسمير عشان مفيش شبكة..
هزت رأسها متفهمة: ولا يهمك، ما ده بيتك برضو، هروح أنادي لك على عاصم اخويا يعمل اللازم، وكمان ستي زهرة، أكيد هتبجى حابة تسلم عليك، دي تبجى أخت چدتك ندى الله يرحمها..
هز رأسه في إيجاب لكن ما أن همت بالابتعاد قليلا حتى هتف متسائلا: حضرتك معرفتنيش بنفسك!؟. استدارت متطلعة إليه هاتفة في حياء: سچود، اسمي سچود، وبالمناسبة، نسيت أشكرك على اللي عملته معايا من فترة.. هتف مبتسما في أريحية: لا شكر على واجب.. ابتسمت بدورها واندفعت لداخل السراي لتخبر الجميع بذاك الضيف الذي آتاهم من حيث لا يحتسبوا..
تطلع نحو شاشة الهاتف التي تضئ باسمها، كان قلبه يكاد يقفز من بين أضلعه ليرد عليها، صوتها الشقي النبرة الذي يثير بداخله مشاعر شتى، اشتاقه فوق الحد، ظل يتطلع نحو الشاشة، التي أضاءت وأغلقت عدة مرات، كأنما هو طقس لتعذيب ذاته، وجلد روحه، واختبار لقوة تحمله.
أمسك هاتفه، رغبة في غلقه، لكن يده بلا إرادة منه، ضغطت على أحد التطبيقات، دخل لمجرد رؤية صورتها، ليجدها انزلت أغنية على حالتها على الواتس، جاهد كثيرا حتى لا يدخل لمشاهدتها، لكنه انهزم شر هزيمة، وهو يضغط لمشاهدة الحالة، ليجدها اغنية تصدح معاتبة: أنا مش هقولك حاجة.. مش هلومك، مش هعاتبك.. خليك كده يا حبيبي.. عيش لوحدك داوي جرحك، بالعذاب.. عايز تسيب نفسك كده، سبها.. وتعالى على نفسك وعذابها..
بس أبقى قولي اللي أنت فيه ده نهايته إيه!؟، حرام عليك.. جز منتصر على أسنانه، شاعرا بالقهر من رسالتها، كان غارقا في كلمات الأغنية ولم ينتبه لتلك التي اقتربت منه في غنج، هامسة وهي تمرر أطراف أصابعها على ذراعه في اغواء: إيه يا باشا! نحن هنا! اللي واخد عقلك، يا رب ما يتهنى بيه إلا لو ساب لي حتة صغيرة أد كده.. وصنعت دائرة قطرها باتساع ذراعيها عن آخرها، ما دفعه للابتسام هاتفا: خير يا نغم! المعلم عايزني!
هتفت له بنبرة مغوية: المعلم موصيني عليك، وأنا بقى مش محتاجة وصاية، وأنا شيفاك متكدر حبتين، وده ميخلصنيش، فلازم نفرفش الباشا بتاعنا، وإلا ميبقلناش لازمة بقى.. تطلع إليها منتصر متخابثا، وهتف متسائلا في مجون: تفرفشيني إزاي! جذبته نغم من كفه، ودفعت به نحو حجرته القريبة من موضع وقوفهما، هاتفة في دلال: تعالى وأنا أقول لك..
ما دفعه ليقهقه، وهي تتوجه نحو هاتفه، تضغط زر إغلاقه، وتلقي به بعيدا، قبل أن تندفع لداخل الغرفة، دافعة الباب تغلقه دونهما.
كانت تجلس كعادتها في الفترة الماضية، بغرفة القراءة، تنهي الرواية التي اختارها لها عاصم، قبل أن تغادر، تجري أعينها على الأسطر في نهم واضح، حتى تصل للنهاية التي كانت بانتظارها في شوق ولهفة، وأخيرا تنهدت وهي تغلق ضلفتي الرواية، تشعر بالسعادة لنهايتها السعيدة التي اثلجت صدرها، نهضت تضع الرواية موضعها بالأرفف ولم تدرك أن زهرة وصلت، وقفت خلفها في هدوء، استدارت لتجدها، فابتسمت في وداعة، لتبادرها زهرة متسائلة: خلاص هتسافري!
أكدت فريدة في إيماءة من رأسها، وهتفت في هدوء: أه، خلاص طولت هنا، هرجع بقى، كل حاجة فاسكندرية وحشتني. هتفت زهرة، في اضطراب: يعني عمرك ما فكرتي تعيشي هنا!؟ ردت فريدة متعجبة: أعيش هنا!؟. ساد الصمت للحظة، واستطردت: هو الصراحة النجع هادي، والمكان جميل، بس اسكندرية ليها وضع مختلف عندي، مش متخيلة أعيش في أي مكان غيرها. ترددت زهرة للحظة تسألها: حتى لو حبيتي، وكان اللي بتحبيه، مش هيستقر في اسكندرية!؟
صمتت فريدة للحظة، وأخيرا هتفت متنهدة: معتقدش أني هحب واتحب يا زهرة، الموضوع ده بعيد عني قوي، أنا بتاعت شغل وبس، موضوع الحب والارتباط ده واضح إن ليه ناسه، وأنا بقى مش ناسه، بس ليه الأسئلة العجيبة دي! هتفت زهرة مبررة: لا أبدا، أنا قلت يعني، يمكن لو حد معجب بك من هنا، هاترضي تسيبي اسكندرية وتيجي النجع، وتعيشي معاه عادي!؟ ابتسمت فريدة مؤكدة: ومين ده المأسوف على شبابه! هتفت زهرة في عجالة: عاصم.
اضطربت فريدة متعجبة: عاصم مين!؟ عاصم بتاعنا! هتفت زهرة مؤكدة: اه، عاصم! هتفت فريدة في دهشة: عاصم أخر حد ممكن يفكر فيا! عاصم ده أخويا الكبير اللي ربنا مرزقنيش بيه، حد جدع قوي ومحترم جدا، وراجل بجد، بس مش ليا. هتفت زهرة والعجب من نصيبها هذه المرة: طب ليه!؟ ده أنا كنت فاكرة إنكم، يعني..
ابتسمت فريدة، وهتفت: لا مش اللي جه فبالك خالص، عاصم كان بيحل لي مشكلة مش أكتر، لكن موضوع الحب ده، أنا رميته ورا ضهري يا زهرة لأنه تضييع عمر ووقت من غير لازمة. هتفت فريدة بكلماتها الأخيرة في وجع لم يكن ليخفى على سامعها، لتستشعر زهرة معاناتها، وتدرك بشفافيتها، أن فريدة هزمها العشق، كما هزم قلوب الكثيرين قبلها، وأنها فقدت الإيمان به، وكفر قلبها باعتناق مذهب العشاق، كما كفر قلبها.
همت زهرة بالحديث، لكن ظهور عاصم أخرسها، وتطلعت إليه في اضطراب، ليهتف عاصم بعد نصيحة من نوارة، داعيا فريدة: ياللاه يا فريدة، العربية چاهزة، عشان أوصلك للمحطة. هتفت فريدة ممتنة: هتوصلني بنفسك! كتر خيرك يا عاصم، كلك ذوق. هتف عاصم مبتسما، ليترنح قلب زهرة بين أضلعها: على إيه يعني! دي حاچة بسيطة، هنوصل نوارة لشغلها، وبعدين نطلع على المحطة، ياللاه عشان منتأخرش.
همت فريدة بالتحرك، لتهتف زهرة في تهور لم يكن يوما من عاداتها: ممكن أجي معاكم!؟ تطلع عاصم نحوها، ولم ينبس بحرف لبرهة، قبل أن يهتف مرحبا: وماله، تعالي، أهو تغيري چو شوية، بجالك كتير مخرچتيش بره السرايا. ابتسمت زهرة هاتفة وهي تندفع لغرفتها: خمس دقايق بالظبط وهكون معاكم.
تابعتها نظرات عاصم حتى غابت، وعلى شفتيه ابتسامة سعادة، فهذه هي المرة الأولى التي يجد على محياها حماسة لأمر ما منذ زمن بعيد، أما فريدة فقد عادت لتجلس على كرسيها من جديد عيونها تتابع تلك البسمات التي ظهرت على محيا عاصم، وأدركت بقلب خبر العشق وأوجاعه، أن عاصم يعشق تلك المغفلة، التي غادرتهما لتوها، وعلمت لم كانت كل تلك الأسئلة العجيبة التي أمطرتها بها منذ دقائق..
تنهدت فريدة في شجن، فكم لعب العشق بقلوب! أسعد بعضها وأشقى أخرى، وما بين هؤلاء وهؤلاء، نجلس نحن متخذي دور المتفرج على مسرحية العشق والدموع التي تدور رحاها على منصة الحياة، ولا رد فعل لنا إلا التصفيق بحرارة، عندما يسدل الستار معلنا نهاية الحكاية، اما باجتماع العاشقين، أو الفراق.
اندفع عاصم يجهز العربة، ولحقت به نوارة وكذا فريدة بعد أن ودعت كل من بالسراي، محملة بالكثير من الدعوات والسلامات، وبعدها بدقيقة كانت زهرة، التي جلست بالخلف جوار فريدة، بعد أن أحتلت نوارة المقعد الأمامي جوار أخيها، الذي انطلق بهن، حتى أنزل نوارة على أول الطريق لدار السليمانية كما طلبت، رغبة في مقابلة رائف كما تعودت.
جلس يونس في أريحية مطالعات هاتفه الجوال بينما قدمت سماحة لتقدم له الشاي، تناول الكوب من كفها ووضعه جانبا متطلعا نحوها، ثم حاد بناظره نحو شاشة جواله ضاغطا على زر تشغيل أغنية كانت باسمه وكان يعشقها صغيرا حتى أنه كان يحفظها عن ظهر قلب، ولم يكن يعلم أن كلماتها ستكون هي الوصف الأدق لحاله وحال قلبه، أخذ المطرب يتغنى بالكلمات وهو يردد معه في شجن: يونس في بلاد الشوج، اه يا ولد الحناوي، بتونسني دموع العين، وأني سايب أهالي..
جلست سماحة أرضا كعادتها، وهتفت به بصوتها الخشن الذي تصطنعه، لتصبح نسخة من رجل صارم، وسألت على استحياء: هو لسات جلبك متعلج بحبال العشج يا بيه!؟ تطلع إليها يونس مستمتعا بمشاكستها: بتسأل ليه يا سماحة! جلبك دج وعايز استشارة ولا إيه! انتفضت سماحة مؤكدة: لاه، بعد الشر علىّ، أني بسأل بس بطمن عليك.. ابتسم يونس مشاكسا: يهمك جلبي جوي كده!؟ أكدت سماحة تحاول أن تظهر الثبات: معلوم يا بيه، أنت تهمنا برضك..
هتف يونس متغنيا يردد مع الأغنية التي كانت ما تزال تصدح: جلبي ضائع مين يلاجيهلي، بايني نسيته حدى أهلي.. ما أن أنهى غنائه حتى انتفض يونس أمرا سماحة: تعال نحطب! اضطربت سماحة، ووافقته، غابت لداخل الدار برهة، وعادت بالعصي من حجرة الحناوي الكبير، مسلمة إحداها ليونس وتشبثت بالأخرى.. وقف كلاهما وجها لوجه، وقد بدأت الأغنية تعيد نفسها من جديد..
بدأ النزال وتلاحمت العصي، وبدأ الطرق بينهما يرتفع، كأنما هي لعنات شديدة الوطأة بين طرفين متناحرين، ضغط يونس بعصاه مقتربا منها، حتى أصبح كلاهما وجها م وهمس مترنما وهو يتطلع لعمق عينيها: ينفع أحبك من غير جلبي! لا تعرف لما اضطربت، فهي تدرك تماما أنه يردد كلمات أغنيته المفضلة التي تتكرر اللحظة!؟.
كلفها اضطرابها هذا غاليا، فقد فقدت تركيزها تماما، ولان تمسك كفيها بالعصا، ليدفع بها يونس بعيدا على حين غرة، وهي تقف بلا حول ولا قوة، ليعلن فوزه مقتربا منها، هامسا بصوت رخيم ذوبها: كنت هجول أهو ده المحبوب، ويدوب جلبي جبل ما ادوب.. وجدها تتطلع نحوه متسمرة، ليهتف بها منبها: سماحة، يا وااد.. تنبهت سماحة هاتفة: نعم يا بيه!؟ ابتسم يونس متسائلا في خباثة: إيه اللي واخد عجلك يا حزين!
أكدت سماحة وهي تندفع مبتعدة: كن أمي بتنادم علىّ، هشوفها واعاود يا بيه.. هتف يونس يستوقفه: سماحة! استدارت سماحة متطلعة نحوه، ليهتف بها أمرا: جولي للخالة سعيدة، تحضر طاچن السمك بالفريك، لحسن اتوحشته.. اضطربت سماحة متسائلة: لساته جلبك على حاله مطابش يا بيه!؟، طب يبجى علاچ ممنوش فايدة.. اتسعت ابتسامة يونس مؤكدا: وأنت مالك يا حشري، كنت شريكي، خليها تعمله وخلاص..
هزت سماحة رأسها موافقة، وقد ظهر على ملامح وجهها الكدر للمرة الأولى، معتقدة أنه ما يزال عليلا، بعشق تلك التي تركها خلفه مخلفا قلبه معها، يريد الشفاء من داء عشقها، والذي يبدو أنه داء عضال لا شفاء منه أبدا..
صرخ بنعمة هاتفا: يا نعمة أعمليلي شاي.. لم ترد نعمة، فلم تسمع ندائه من الأساس، فأعاد النداء في حنق: يا نعمة، نعمة..
نهض من غرفته، باحثا عن تلك التي تضع على أذنيها صمغ، طرق باب غرفتها فلم ترد، دفع الباب في قلق هامسا باسمها، ربما تكون نائمة، لكنه وجدها تجلس وهي تضع السماعات، فأعتقد أنها تسمع الأغاني كعادتها، فجذب إحدى طرفي السماعة، مقررا مشاكستها، لتنتفض نعمة، متطلعة نحوه، لكنه هتف بها: سيباني أنادي عليكِ بقالي ساعة، وأنتِ قاعدة بتسمعيلي فأغاني هنا!
همست نعمة وهي تبعد الطرف الأخرعن اذنها، وبعد أن ضغطت ذر اغلق الصوت حتى لا يصل للطرف الآخر: أنا مش بسمع أغاني يا سيدي، أنا بكلم حُسن. اضطرب وما عاد قادرا على جمع شتات نفسه، لكنه أخيرا استجمع شجاعته متسائلا: أزيها!؟ هتفت به نعمة، مشيرة لشاشة الهاتف: زي الفل، لو شفتها مش هاتعرفها، يا بني دي كانت لسه بتفرجني على أوضتها حاجة كده قد نص شقتنا دي.
هتف نادر: هي لسه معاكِ على التليفون! أكدت نعمة: أه، هي راحت بس تشوف عمتها كانت بتناديها وراجعة. سمعت صوت يناديها من الطرف الأخر: يا نعمة، أنتِ روحتي فين! هي الشبكة عملتها ولا إيه!؟ هتفت نعمة وهي تجذب السماعات من الهاتف، لتفتح الميكرفون: لا يا حُسن، أنا معاكِ أهو.. هتفت حُسن: معلش، غبت عليكي، قوليلي بقى عاملة أيه، كلكم عاملين إيه! وحشتوني جداااا، ووحشتني الحارة.
هتفت نعمة ساخرة: وحشتي مين يا بنتي! ده بعد العز اللي أنتِ فيه ده، يخليكي تنسي نفسك مش الحارة! هتفت حُسن مؤكدة: لا والله يا نعمة، محدش ينسى أصله وأهله، كتير بحن لأيام الحارة برغم صعوبتها، وبرغم أن مفيش مقارنة بينها وبين العز اللي أنا فيه.. هتفت نعمة مازحة: عشان أنتِ فقرية. قهقهت حُسن في أنوثة، بشكل هز قلبه، وهتفت مؤكدة: الظاهر إني فقرية بجد، بس هقول إيه بقى، القلب وما يريد..
هتفت نعمة مازحة، وهي تستمع في الخلفية لصوت أغنية خليجية تصدح في قوة وبصوت عال: أيوه يا عم، وبقينا بنسمع أغاني خليجي كمان! هتفت حُسن ضاحكة: ده عبدالمجيد عبدالله، عمتي بتحبه قوي، هي اللي فتحاه على طول، وأنا كمان بحب الأغنية دي قوي.. هتفت نعمة: بتقول إيه بقى!؟ ترجميلي، احسن أنا عندي الخليجي بعافية شوية. هتفت حُسن ضاحكة: حاضر يا ستي، بيقول: نفسي تچيني وأچيك، اعاتبك واشتكيك..
عيني بتسألني عنك، وجلبي يسلم عليك.. هتفت نعمة: إيه ده! والله كلماتها حلوة.. لا يعلم ما الذي دفعه ليهتف: أزيك يا حُسن! صمت مطبق من كلا الطرفين، ولم يكن يقطعه إلا صوت المغني الذي يأتيهما من الخلفية، ما دفع نعمة لتهتف: حُسن أنتِ معايا! تمالكت حُسن نفسها، هتفت بصوت متحشرج: أه يا نعمة، الظاهر الشبكة وحشة.
كانت حجة مفضوحة، فلو كانت الشبكة سيئة ما وصلهما صوت المغني من جانبها، صافي وغير متقطع أو حتى كان اختفي.. هتفت نعمة من جديد: مردتيش على نادر، اهو جانبي وبيسلم عليكِ.. هتفت حُسن محاولة السيطرة على اضطرابها: ازيك يا باشمهندس، أخبارك إيه! هتف نادر، وهو يدير الشاشة نحوه، حتى يراها، عندما علم أن نعمة تدير الكاميرا من البداية، وتأكد أنها ترتدي حجابها: تمام يا حُسن، كويس، مرتاحة عندك!
هتفت حُسن وهي تحاول جمع حروف الكلمات المعلقة، والمبعثرة هنا وهناك بفكرها: الحمد لله، تمام، ماشي الحال. ابتسم نادر هاتفا: بقيتي بتتكلمي زيهم كمان أهو!، طب أهم حاجة إنك كويسة ومرتاحة. همت حُسن بالإجابة، لكن صوت رجولي هتف يناديها من خارج غرفتها، ما أشعل النيران بشرايينه حنقا، فدفع الهاتف لنعمة،.
ونيران الغيرة تلتهم حطب صبره، ليخرج مهرولا لا من الغرفة فقط، بل من الشقة كلها مندفعا للسطح، ولا يعلم ما الذي دفعه ليضغط على أداة البحث بهاتفه، باحثا عن هذه الأغنية الخليجية التي قالت إنها تحبها، والتي سمعها لتوه عندها، ليصدح صوت المغني شاديا: انت الأماني الجميلة يا غايتي والوسيلة خلاص ما بيدي حيلة إلا تجيني واجيك.. كان في عالم أخر، فقد سمع أخيرا صوتها ورأها، كان يشتاقها كثيرا، بشكل لم يكن يتوقعه.
انتفض عندما أتاه صوت بدور هاتفا: طبعا حضرتك هنا قاعد بتسمع أغاني، ومش دريان بالمصيبة اللي أنا فيها. تطلع نحو بدور التي تقف على أعتاب السطح تحمل كتبها، وتلتقط أنفاسها في تتابع مستطردة: أنا بضيع يا وديع. ابتسم نادر هاتفا: وإيه الجديد! زمت ما بين حاجبيها معترضة، لينفجر ضاحكا على أفعالها، أمرا إياها: تعالي يا خيبتها، فيه إيه!
تقدمت نحوه، دافعة بالكتب على الطاولة الموجودة قبالة الأريكة التي جلس عليها لتوه، وقد مد كفه ليغلق الهاتف، ليخرس صوت الذكريات التي تنكأ جرح قلبه في بعادها، لتهتف بدور معترضة: لا متقفلهاش، أنا بحب الأغنية دي قوي. همس نادر متعجبا: الظاهر كلكم بتحبوها، وأنا اللي مكنتش أعرفها.
لم ترد عليه بدور، فقد استندت على حافة السور، وقد غابت في ذكرياتها وذاك الخائن الذي طعن القلب بخنجر من غدر، وفر هاربا كالجبناء، حتى أنه رفض مواجهتها.. أعاد المغني كلمات المقطع الأخير، كأنما يزيد الجرح وجيعة: لو توقف الناس ضدي.. ما يختلف فيك ودي.. ما يعادلك حد عندي.. بالروح انا مشتريك..
تطلع نادر نحوها، وقد أدرك أنها مجروحة حتى النخاع، كان يعتقد في وقت ما أنه يحبها، لكنه أدرك أن ما بينه وبين بدور، لا يتعدى صداقة بحكم العلاقة العائلية التي تريطهما، والتي عضدتها دراستهما المشتركة بنفس الكلية والقسم، أما القلب، فهذا شأن أخر تماما، شأن متعلق بتلك التي غادرته في غفلة من تعقله، تاركا إياها تبتعد عنه، مورثة إياه لهيب في القلب ولوعة لن يداويها إلا قربها الذي أضحى بعيد المنال، بل يكاد يكون مستحيلاً، تنهد مغلقا الأغنية، ممسكا بالمذكرات، أمرا إياها بنبرة أخوية، مازحا: أنزلي هاتلنا كبايتين شاي من تحت، وتعالي أشوف إيه اللي أنتِ مش فهماه، يا فاشلة.
هتفت به بدور مهادنة: ماشي يا هندزة، هعدي التتنيكة دي بمزاجي، عشان بس المصلحة تحكم، يا رب متحوجناش، للي يسوى واللي ما يسواش. واندفعت للأسفل تحضر الشاي، يتبعها بضحكاته، وهو يتطلع لتلك الصفحات المطوية داخل مذكراتها، والتي ترغب في فهمها.
طرقت أمه الباب، فلم يعد بإمكانها البقاء بعيدا أكثر من هذا، عليها التدخل لتحاول معرفة ما يفكر به، وما يجول برأسه من أفكار، من أجل تحقيق وعده لأية، دخلت تحمل طبق الفاكهة المعتاد، وضعته جانبا وتقدمت نحو مروان، الذي كان منكبا على بعض الكتب والمذكرات على غير العادة، فقد توقعت أن تجده يمسك بفرشاته، ويرسم عالمه الذي يرتضيه، لكنه خالف توقعاتها، ما دفعها لتسأله في فضول: بتعمل إيه يا مروان!
رفع رأسه عن أوراقه، وتطلع نحو أمه مبتسما، هاتفا: هكون بعمل إيه يا ماما! هو أنتِ نسيتي إني في جامعة وفيه امتحانات ولا إيه! تساءلت متعجبة: هو أنت هتدخل الإمتحانات السنة دي!؟ أكد بإيماءة من رأسه: أيوه يا ماما، بإذن الله. ابتسمت رابتة على كتفه، وهتفت في سعادة: ربنا يوفقك يا حبيبي، بس هو.. قطعت حديثها، ليتطلع نحوها مؤكدا: هو إيه يا ماما!؟ قصدك على أية!
هزت رأسها إيجابا، ليستطرد هاتفا: كل اللي بعمله ده عشان خاطر أية، لازم أخلص الكلية، عشان لسه المشوار ورانا طويل. هتفت ثريا متعجبة: مشوار إيه اللي لسه طويل! أنت بتفكر فإيه بالظبط يا مروان! أكد مروان وهو يعود للتركيز بأوراقه، هاتفا في هدوء: متقلقيش يا ماما، خير إن شاء الله.
تطلعت نحوه لبرهة، قبل أن تتركه وتغادر الغرفة، لا تعلم ما عليها فعله، لكنها هدأت قليلا عندما أيقنت أن عليها تركه ينهي اختباراته قبل الحديث عن أي أمر أخر، فما بجول بخاطرها اللحظة، غير وارد على الإطلاق.
لم تخطو نوارة خطوتين، بعد أن تركها عاصم ليلحق بقطار فريدة، حتى ظهر رائف كعادته، مترجلا عن أدهمه، ليسيرا جنبا إلى جنب، اندفع نحوهما سامر متسائلا دون أن يلقي التحية حتى: هي فين الآنسة فريدة يا دكتورة!؟ هتف رائف متعجبا: مش الناس تجول صباح الخير الأول! اضطرب سامر، بينما هتفت نوارة مبتسمة، ترد على تساؤله: فريدة سافرت. هتف سامر في صدمة: سافرت! أمتى؟
أكدت نوارة: هي رسميا لسه مسفرتش، هو لسه عاصم أخويا منزلني، وراح بها على المحطة عشان.. لم يمهلها سامر لتكمل كلماتها، بل اندفع مهرولا، صارخا ينادي السائق لإحضار السيارة، رغبة في الانطلاق نحو محطة القطار في التو واللحظة، متأملا في الوصول بالميعاد قبل مغادرة القطار.
تطلع كلاهما نحوه، وانفجرا ضاحكين على أفعاله، تعلقت نظرات رائف بنوارة وضحكاتها التي أشرقت معها الشمس اللحظة، وتنبهت هي، فأخفضت نظراتها حياء، ليهتف رائف بها في وجل: نوارة! رفعت نظراتها نحوه في اضطراب، فهي المرة الأولى التي ينطق اسمها مجردا من أية ألقاب، ليستطرد في ثبات، رغم فوضى مشاعره: أنتِ مرتبطة! يعني في حد فحياتك أو في قلبك!
هزت رأسها نفيا، وهي لا تقو على التطلع نحوه، فلم تتوقع يوما أن تصبح في هذا الموقف، وأن تشعر بكل هذا الاضطراب الذي يشملها كليا، ويعقد لسانها عن النطق، وأخيرا، وجدت أحرف ابجديتها، وهمست بصوت متحشرج مدعية ثباتا وهميا، لم يقنعه البته، وهي تسأله: ليه الأسئلة الغريبة دي كلها! لم يجيبها مباشرة، بل دفع كفه في سرج الأدهم، وأخرج رواية ما، سلمها لها هاتفا: الإجابة هتلاقيها في الرواية دي.
مدت كفها تتناول منه الرواية، واندفعت مبتعدة عنه، تدخل استراحتها، فما عادت تملك الجرأة على الوقوف للحظة أخرى أمامه، وهي بكل هذا الارتباك، دفعت باب الاستراحة مغلقة إياه في سرعة، تستند عليه ودقات قلبها تخلق فوضى من حواس لم تخبرها يوما، طبول أفريقية وحشية، تعلن حربا ضروس، على إغفالها الاعتراف بعشقه، الذي كانت تجاهده حد الكراهة، وتنكره حد الذنب، همت بالاندفاع لتجلس وبيدها الرواية، لفتحها والبحث عن إجابة سؤالها المعلق، لكن تلك الضربات المتتابعة على باب الاستراحة جعلها تفتح في عجالة، تسأل الطارق المتعجل: خبر إيه!
أكد الطارق، الذي لم يكن إلا احد أهالي المريضات، مؤكدا في اضطراب: محتاچينك يا داكتورة، الداكتورة سميحة طلباكِ حلاً. اضطربت، فقد كان عليها ترك إجابة سؤالها معلقا حتى تلبي نداء الواجب، أغلقت باب الاستراحة، وهرولت في اتجاه الوحدة الصحية، وعقلها معلق بإجابة مطوية بين ضلفتي رواية.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون
اطمئن كل من عاصم وزهرة أن فريدة ركبت قطارها، وبدأ يتحرك في هوادة، ملوحة لهما من النافذة، حتى غادر القطار محطته، تحركا سويا دون أن ينبس أحدهما بحرف واحد، حتى وصلا العربة، كان عليها أن تجلس إلى جواره، فليس من اللائق أن تجلس بالخلف ليقود هو موضع سائقها، ترددت لحظة قبل أن تفتح الباب وتستقر على المقعد جواره، بعد أن جلس هو خلف المقود، لا تعلم لما استشعرت بشفافيتها أن ذبذبات التوتر بالعربة قد زادت، أدار السيارة وانطلقا، كان يراقبها بطرف لحظه، حتى أنها ما انتبهت وهو يبتسم في سعادة، لكونها تشعر بالراحة وهي تتطلع للشوارع في حبور، كان لها فترة طويلة ما بين سرير المشفى، وسرير غرفتها، منعزلة تماما عن العالم، ويوم أن فكرت تخرج، كانت غرفة القراءة هي ملجأها كالعادة، اللحظة يراقب انتشائها في فرحة داخلية غمرته، أعطته أمل يود لو كان صادق هذه المرة، بأنها بدأت تنسى كل ما مر بها، وأن ذكرى محمد قد بدأت تتلاشى بعض الشيء بداخلها، مد كفه يشغل راديو العربة، ليصدح أحد المغنيين متأسيا:.
هوصلك حتى لو عارف إني ممكن أموت، هوصلك ولازم تحسي باللي حبك موت.. ولو أيديكي ما لمستش أيديا، كفاية عليا أموت وأنا شايف، لهفتك علياااا.. هتف عاصم مازحا: أهو الأخ ده بيفكرني بالإخ التاني بطل الحب في زمن الكوليرا. هتفت زهرة متسائلة بتعجب: إيه وجه الشبه بينهم! هتف عاصم وابتسامة على شفتيه: الاتنين فجريين.
قهقهت زهرة، حتى دمعت عيناها، ما جعل سيطرته على العربة، بعد هذا الاضطراب الحادث في أوصاله، درب من تحمل مستحيل، اجتازه بنجاح، وهو يسيطر على مقود العربة في احترافية، هاتفا يكمل حديثه، بنبرة حاول السيطرة كذلك على ثباتها: والله صح، الاتنين فجريين، واحد عايز يوصل لما بجي بتاع تمانين سنة، والتاني يوصل وعايز جال يموت، مفيش حد عايز يوصل وهو بصحته، وفعز شبابه، وهو حي يرزج!
علت ضحكاتها من جديد، ليلعن ذاك الخلل في ثباته، الذي يثيره مجرد ضحكات بريئة، كزلزال ضرب الأرض بغتة دون مقدمات، هتفت فجأة تستوقفه: أوقف هنا بسرعة. ما دفعه لينتقض مطرودا خارج جحيم خواطره، هاتفا في ذعر: إيه في! ضغط على المكابح، لتتوقف السيارة جانبا، تطلعت نحوه في تعجب، وهمست متأسفة: أنا خضيتك! مكنش قصدي والله..
هتف وهو يعلم أن شروده وتيهه كان السبب فهتافها لم يكن بهذه القوة، لذا هتف مبتسما: محصلش حاچة، خلتينا نوجف ليه! أشارت لمحل على أحد جوانب الطريق، مؤكدة: هنزل أجيب حاجة من المحل ده وجاية على طول. هتف يهم بالنزول معها: متروحيش لحالك، أنا چاي معاكِ. هتفت به معاتبة: عاصم، أنا كويسة والله وهقدر أصرف أموري بنفسي، ولو احتجت حاجة هرجع لك.
هز رأسه موافقا، ولم يجرؤ على التفوه بحرف، منتظرا إياها خلف مقود العربة، عيناه تتبعها حتى دخلت إلى وجهتها، لا تعلم أنها نطقت اسمه بطريقة جعلته أشبه بأنشودة ترنح قلبه على أنغامها كما السكير، أمسك بهاتفه، وفتح صفحة ملاحظات يدون بها خواطره المبعثرة قبل نشرها، وبدأ يخط مشاعره اللحظة، كاتبا: قلبي، كغيمة هوى حبلى بعشقها، فمتى يا مطر العشق على أرض قلبها تهطل!؟
تنهد مغلقا الهاتف بعد أن كتب الخاطرة، لتعاود نظراته التطلع نحو موضع غيابها، لا يعلم أنها في انتظار تغليف مشترواتها، دفعت حسابها، وأسرعت للخارج حتى لا تتأخر عن عاصم أكثر من هذا، تنبه لخروجها فشعر بالراحة، وأدار العربة ليستأنفا رحلتهما من جديد، لكن بعد شارعين تقريبا، توقف مرة أخرى، تطلعت إليه مستفسرة، ليهتف مؤكدا: المرة دي دوري أنا، هدخل اچيب حاچة من محل هنا ع الناصية، وأجي بسرعة، تحبي تاچي معاي.
قدم عرضه الأخير بلا حماس، ما دفعها لتهتف نافية، رغبة في إعطائه بعض الخصوصية: لا، روح أنت شوف عايز تجيب إيه، وأنا هستناك هنا.
هز رأسه متنفسا الصعداء، فلم يكن يرغب في قدومها معه بالفعل، اندفع إلى حيث اراد، بينما ظلت هي تتابع الناس بالشارع العامر، توقف أمامها صبي صغير، يطلب الإحسان، لم تكن تملك بعض الجنيهات، فقد قضت على كل ما كان معها بالفعل، تنبهت لموضع هاتف عاصم الذي تركه هنا، فوجدت بعض الجنيهات أسفل موضعه، رفعت الهاتف وتناولت النقود دافعة بها للصبي، الذي اقتنصها واندفع مبتعدا، وما أن همت بوضع الهاتف، حتى شعرت بالفضول نحو محتواه، ارتجفت كفها وهي تخترق خصوصيته بهذا الشكل السافر، لا وعي لديها لما تفعل ذلك، إلا أنها تفعله، كان الهاتف بلا كلمة سر، أو أي حواجز، ما جعلها تدخله بسهولة، فُتح الهاتف على أخر صفحة أغلق عليها، تطلعت في دهشة نحو صفحة الملاحظات، وتساءلت، هل يكتب عاصم مثل هذه الخواطر التي تحتوي على كلمات العشق والهوى!
أعادت قراءة الخاطرة من جديد، واعجبتها كثيرا، يمكن أن يكون قد نقلها من أحد الصفحات، أعجبته كلماتها، فأحب الاحتفاظ بها، شعرت بمنطقية استنتاجها، فأغلقت الهاتف بسرعة، تضعه مكانه، عندما لمحت عاصم يخرج من ذاك الذقاق الجانبي، حاملا كيس مشترواته، التي وضعها بالخلف، وهو يلقي التحية، معاودا إدارة السيارة، منطلقا نحو النجع، وصلا في غضون الربع ساعة، والتي كللها الصمت التام، فقد كانت مأخوذة تماما بفكرة أن يكون عاصم محب للأشعار والخواطر مثلها، تبتسم في رضا داخلي، أن بينهما أمرا مشترك واحد على الأقل، استأذنت في هدوء، لتندفع لداخل السراي في خفة اسعدته، فقد بدأت تستعيد زهرة القديمة إلى حد كبير، أما هو فقد ترك العربة لعبدالباسط، ليصفها موضعها، قبل أن يعود بها بعد ساعتين للسليمانية، ليحضر نوارة من عملها، حاملا كيس مشترياته الثمينة، صاعدا بها لحجرته، ليضعها في قاع أحد الإدراج، مغلقا عليها بمفتاح احتفظ به معه، في سلسلة مفاتيحه، فما بداخل هذا الدرج لن يخرج إلا بأوانه، جلس متنهدا في راحة، وما أن فتح جواله، حتى طالعته خاطرته التي كتبها بالعربة، استعادت ذاكرة قلبه صوت ضحكاتها من جديد، ما جعله يبتسم في سعادة بالغة، ناقلا الخاطرة لصفحته التي أهملها منذ فترة، بعد كل تلك الأحداث المتلاحقة التي مرت بهم، وضغط زر النشر، مزيلا إياها بلقبه، شيخ العاشقين، وألقى الهاتف جانبا، ليتمدد قليلا.
بينما هي اندفعت من داخل الحمام نحو الهاتف، عندما جاءها إشعار ما، تطلعت نحو الهاتف في سعادة، فها هو شيخ العاشقين يعاود نشر خواطره على صفحته من جديد، بعد انقطاع دام لفترة، شعرت فيها بالخواء الشديد، فقد كانت خواطره دوما ما توافق اختياراتها إذا ما كانت مقتبسة من بعض الأعمال التي قرأتها، أو توافق هوى نفسها إذا ما كانت من وحي إبداعه الشخصي، فتحت الصفحة، وبدأت في قراءة الخاطرة، لتفغر فاها في صدمة، أليست هذه هي الخاطرة التي قرأتها منذ الساعة تقريبا في ملاحظات هاتف عاصم!، ماذا يعني هذا!؟، شهقت في ذهول، وهي تقرأ الخاطرة للمرة الثالثة هذا اليوم..
تنهد في تعب، وهو يتطلع لها، جالسة بمقعدها جوار نافذة القطار، وأحدهم يجاورها، ما دفعه ليهتف في نبرة عاتبة: كده يا بت خالتي! طب مش تقولي إنك مسافرة النهاردة! اعرف كده من رائف فجأة، كنتِ قولتي، كنا حجزنا سوى بدل ما كل واحد فعربية كده! تطلعت فريدة إلى سامر في صدمة، ما الذي أتى به إلى هنا! وها هو يمثل في براعة مدعيا قرابتهما..
هتف الرجل الذي كان يجاور فريدة، مقترحا: والله يا استاذ، معنديش مانع لو تحب نبدل كراسينا سوى! هتف به سامر في امتنان: ده يبقى ذوق كبير من حضرتك، اتفضل تذكرتي أهي، وكتر ألف خيرك. نهض الرجل في هدوء، تاركا مقعده لسامر، الذي زفر في راحة، متطلعا نحو فريدة في سعادة، يهتف مازحا: سلامات يا بنت خالتي! ابتسمت فريدة متطلعة نحوه، هاتفة في تعجب: كان ليه كل التمثيلية دي!
هتف سامر متعجبا بدوره: اسيب حد غريب يقعد جنبك وأنا موجود، طب ما أنا أولى.. أمسكت ضحكاتها ولم تعقب، لكنها تنبهت فجأة لأمر ما فهتفت متسائلة: قولي صحيح، هو أنت ليه اصلا هتسافر على إسكندرية، عندك حاجة مهمة هناك! تطلع نحوها مبتسما: أه، رايح أزور خالتي. هتفت ضاحكة: هي مش دكتورة سميحة دي تبقى خالتك برضه! أكد سامر: أه، خالتي الأولانية، أنا رايح بقى أزور خالتي التانية، أصل أنا فصلة الرحم معرفش ياما أرحميني.
ضحكت فريدة محاولة أن تضبط مستوى ارتفاع ضحكاتها داخل القطار، فخرجت الضحكة رقيقة ناعمة، اورثته اضطرابا، لتهتف هي متسائلة: بس فين شنطتك! أنت مجبتهاش معاك من الكرسي التاني على فكرة! أكد مقهقها بدوره هذه المرة: أنا مجبتهاش معايا من النجع على فكرة!
تطلعت نحوه متعجبة، ليستطرد هو مؤكدا في إيماءة إيجاب من رأسه: ايوه مجبتهاش، أصل أول ما عرفت إنك مسافرة، نطيت في عربية رائف، ورمتهاله عند المحطة، ودخلت أجري اتاكد أن القطر بتاعك ممشيش، حاولت احجز ملقتش للأسف حجز، طبعا ما أنا جاي على آخر لحظة. هتفت متعجبة: اومال التذكرة اللي بدلتها مع الراجل دي إيه!
أكد سامر: ما انا ربنا بيحبني بقى، ولقيت راجل بينده عليا وبيقولي يا أستاذ، أنت يلزمك تذكرة، أنا هبيع لك تذكرتي، عشان حصلت لي ظروف ومش هقدر أسافر النهاردة، قلت يا فرج الله، اشتريت منه التذكرة ونطيت فالقطر، وقعدت أدور عليكِ. هتفت مبتسمة: كويس إنك لقيت تذكرة. أكد مبتسما بدوره: حتى لو مكنتش لقيت تذكرة، كنت هركب برضو. أكدت وقد اتسعت ابتسامتها: بس مكنتش هاتقدر تعمل التمثيلية الهايلة اللي عملتها من شوية!
قهقه مؤكدا: وحياتك أنتِ متعرفنيش، ده أنا كنت قلبت لهم قرد هتا، لحد ما اخد الكرسي اللي جنبك، ويبقى اللي يقومني يفرجني. أمسكت ضحكاتها، التي كانت تكتمها هذه المرة، ليشعر بالاضطراب اللذيذ من جديد، متطلعا لوجهها الذي زاد تورده، ما جعله يهتف مقترحا: إيه رأيك نروح عربية البوفيه نشرب حاجة! هزت رأسها موافقة، لينهض تاركا إياها تسبقه، محاوطا إياها، وهي تسير في ذاك الممر الضيق بين صفي المقاعد المتوازية.
قاومت كثيرا أن تفتح الرواية داخل العربة وهي قادمة من نجع السليمانية، حتى أنها ألقت بها في جوف حقيبتها حتى لا تكون في متناول يدها، تكاد تقسم ما أن وصل عبدالباسط لعتبات السراي، أنها الفترة الأطول على الإطلاق، التي قضتها بالعربة، قاطعة المسافة بين نجعيهما، دفعت باب حجرتها في لهفة، وحمدت الله أن ما من أحد بالغرفة سواها، أخرجت الرواية من قلب حقيبة يدها، التي وضعها جانبا، والتقطت شهيقا قويا، عبأت به صدرها، محاولة أن تضبط انفعالها، ودقات قلبها المتزايدة في اضطراب، لكن بلا جدوى.
فتحت الرواية، لتجد خطابا بالداخل، مطوي في عناية، فضته على مهل، وبدأت تقرأ في تمهل، محاولة التركيز على كل كلمة، بعد أن كاد يطيش صوابها، مع قراءة أول كلمة، نوارة الروح.. نوارة الروح، مش عارف إزاي كتبت كده، ولا المفروض عليا إني اكتب ده من أساسه! بس كان لازم أقول لك، إن ده لقبك عندي من أول مرة شفتك فيها، أيوه، يمكن متصدقيش كلامي، لأن دايما كانت مقابلاتنا فيها شد وجذب، بس دي الحقيقة..
نوارة، مبقاش ينفع خلاص مقولكيش ع اللي فقلبي، أنا بحبك، أيوه، بحبك.. توقفت عند هذا الاعتراف، وما عادت قادرة على كبح جماح دموعها، لا تعلم لم تبك من الأساس! فهو يعترف لها بحبه، عليها أن تكون الإنسانة الاكثر فرحا وصخبا، لكن بعض الدموع هي التعبير الاصدق عن حالة القلب المدله عشقا، مسحت دموعها، التي كانت تشوش عليها رؤية الكلمات، لتستكمل اعترافه:.
أنا عايز اتقدم لك يا نوارة، لو موافقة، ابعتي لي على الرقم ده، إنك موافقة، وأنا هتصل أخد ميعاد من أهلك، واجيب الدكتورة دلال واجي، ولو مفيش نصيب، مش عارف أنا ممكن اعمل إيه عشان اخليكي توافقي، بس قلبي بيقولي إنه هيكون، يا ترى قلبي صادق ولا موهوم!، في انتظار ردك أكيد.. قطعت نوارة القراءة، هاتفة في غيظ وبنبرة تحمل غيرة واضحة: يا سلام، والست مهرة دي، إيه حكايتها، هي مش خطيبتك!
أكملت القراءة، لترى ماذا يقول: وملاحظة صغيرة عارف إنها هاتيجي على بالك أكيد، أنا مفيش بيني وبين مهرة أي ارتباط، دي كانت قراية فاتحة ومن سنين، ومتفقناش، وكل واحد راح لحاله. ابتسمت في سعادة كبلهاء، عندما أجابها على وضع مهرة بحياته، سعيدة أنه قرأ أفكارها كأنه أمامها، واستطردت من جديد:.
كده أنا جاوبتك على كل اللي جه فبالك، أنا عارف إنك مش جاية بكرة السليمانية عشان كده قلت أديكِ الجواب النهاردة، عشان تخدي وقت تفكري، حلو قوي عليك يوم بحاله تفكري وتقرري، كفاية إني هستنى فيه على نار لحد بكرة بالليل، في الانتظار، رائف أنهت نوارة قراءة الخطاب، متطلعة نحو أحرفه وكلماته بعدم تصديق، ولولا اسمه الذي يزيل نهاية الخطاب، ما صدقت أبدا أن رائف هو صاحبه.
ضمت الرسالة لصدرها، ثم لثمتها عدة مرات، تكاد تندفع لترسل له موافقتها، لكنها تريثت، حتى تبدو بمظهر الفتاة الحكيمة، هاتفة لنفسها بصوت مسموع: اهدي يا نوارة، متبجيش هبلة، اتجلي شوية، خليه يستنى مواجتك، ويعرف انها مش بالساهل، وكفاية عرفتي إنه بيحبك.. اتسعت ابتسامتها عند إدراك هذه الحقيقة.
دخل يونس إلى الدار من موضع دخوله، حيث ذاك الدرج الذي يوصله الطابق العلوي دون المرور على الطابق السفلي، حيث سماحة وأهلها، حاملا كيسا بلاستيكيا قيما. فتح الباب الذي يطل على السلم الداخلي الرابط بين الطابقين، هاتفا: يا سماحة، يا واد يا سماحة. ردت سماحة في عجالة: ايوه يا يونس بيه! أكد عليها يونس: أطلع عايزك..
اندفعت سماحة، صاعدة الدرج حيث يجلس يونس بالداخل، تقدمت نحو مجلسه، هاتفة: أوامرك يا بيه، نچهزوا الغدا. هتف بها يونس: سيبك من الغدا، وخد ده. تطلعت سماحة نحو كفه الممدودة بهذا الكيس الأنيق، متسائلة في ريبة: إيه ده! تطلع نحوها يونس، هاتفا في حنق: ما تاخده وتعرف، بدل يدي الممدودة دي!
تنهت ليده الممدودة إليها بالفعل، فاندفعت تتناول الكيس، وتطلعت داخله في حذر، ما دفع يونس ليهتف مازحا: متخافش يا حزين، هيكون إيه يعني، صاروخ! طلعه وشوف. مدت سماحة كفها داخل الكيس، لتخرج علبة قيمة، مرسوم على واجتها، صورة هاتف محمول قيم، ما دفعها لتهتف في سعادة: ده محمول يا بيه! قهقه يونس مؤكدا: والله وطلعت نبيه يا سماحة، ده إيه المفهومية دي كلها!
زمت سماحة ما بين حاجبيها، ليدرك يونس أنها غضبت لسخريته منها، لكنها هتفت في نبرة مهادنة: مبروك عليك يا بيه، تعيش وتچيب. وهمت بأن تمد كفها نحو يونس، تعيده إليه، إلا أنه هتف مؤكدا: ده مش ليا، ده ليك يا سماحة. تطلعت نحو يونس متعجبة، وهتفت: ليا أني! ليه يا بيه تكلف روحك! هعمل بيه إيه! هتف يونس في هدوء: مفيش تكلفة ولا حاچة، وبعدين ده لزوم الشغل برضك.
هتفت سماحة ساخرة في رعونة: شغل إيه يا بيه اللي هعوز فيه محمول، هراجب الأسهم فالبورصة، ولاه الحسابات اللي فسويسرا. تنبه يونس أن كلماتها الأخيرة لا تخرج من امرأة جاهلة كما اوهمته، وأدركت هي خطأها الفادح، فهتفت في اضطراب، مؤكدة: ملوش عازة يا بيه، أنت أولى بتمنه. هتف بها يونس، محاولا أن يبدو طبيعيا في رد فعله: بجولك إيه يا واد! أني مليش فالمناهدة، أجولك خده تاخده، سامعني!
توقفت بلا حراك، ولم تنبس بحرف، ما دفع يونس ليهتف متسائلا في حنق: خبر إيه يا واد الجناوي! إيه في! تطلعت سماحة نحوه، متسائلة: البتاع ده فيه خط ومشحون رصيد، ولاه هنغرموا يا بيه! تطلع يونس نحوها لبرهة، ثم انفجر مقهقها حتى دمعت عيناه، وهتف أخيرا ما أن هدأت وتيرة ضحكاته: لاه فيه خط يا حويط وعليه نمرتي، ومشحون كمان رصيد يكفيك تكلم سويسرا تتطمن على فلوسك يا فجري.
هزت سماحة رأسها في امتنان، هاتفة: تسلم يا بيه وتهادي، نردهالك يوم فرحك يا بيه.. تطلع يونس نحو سماحة، وهمس متخابثا: أنت هترد لي أكتر من كده يوم فرحي يا خفيف.. اضطربت سماحة، لا تعلم لما، واندفعت تستأذن متعللة بنداء أمها لأمر مجهول، كالعادة عندما ترغب في الهرب من أمامه، ليتبعها بقهقهاته التي لحقت بها حتى حجرتها، لتضم هديته لصدرها في سعادة لا يمكن وصفها.
خرجت من الجامعة بعربتها بعد أن أنهت محاضراتها في ألية، كل ما كانت تفعل في الفترة الماضية كان بألية رهيبة أشبه بجسد نزعت منه روحه، أثار ذلك تعجب كل من يعرفها، لكن ما من أحد يعرف سر ذاك التغير العجيب، وكأنما تم استبدالها بأخرى إلا بعض المقربين منها فقط، أ إن ذاك العشق الذي يمسك بتلابيب قلبها يكاد يزهق روحه وجعا، ما عادت بقادرة على التظاهر بعكس ما تشعر..
غامت الرؤية أمام ناظريها بفعل بعض الدمع الذي تجمع بمآقيها، سحبت شهيقا قويا لعله يهدىء بعض من ذاك الأتون المستعر بفؤادها، ومدت كفها لمشغل الأغاني ريما يلهيها قليلا عن ذاك الوجع.. صدحت الأنغام مترنمة: وسط الشوارع ناس كتيرة مروحين والناس ياقلبي هما هما وهو فين؟ وأنا ماشية بتلفت وبسأل كل يوم بيعمل إيه دلوقتي وبيحلم بمين؟
لم يعد بإمكانها الصمود أكثر فانساب سيل الدمع وشهقت في قهر ما دفعها لتصف عربتها جانبا لتنخرط في بكاء مرير تفرغ فيه كل أوجاع الهوى التي تثقل القلب..
أشار هو لإحدى سيارات الأجرة متلحفا بمعطفه الثقيل وتلك القبعة الصوفية، كان يخفي وجهه خلف إحدى الكوفيات زاعما تظاهره بالبرد الشديد في هذا الجو الماطر.
توقفت إحدى العربات ليندفع داخلها في المقعد الخلفي متنهدا، فما كان له القدرة على التحرك عارِ الوجه، أكد منتصر للسائق على وجهته، أومأ برأسه موافقا ومد كفه ليرفع من مستوى صوت المذياع والذي كان يترنم بأغنية أعادت له ذكراها، عندما كان يقف مبتعدا في ركن قصي يتظاهر بأنه لا يراها بينما كان يراقب كل تصرفاتها وجنون أفعالها مع صديقاتها..
ذكرته الأمطار بما فعلت يوم أن هطلت بشدة، اندفعت كل صديقاتها للاحتماء تحت بعض الأسطح والمظلات، إلاها، كانت تقف في تحدي أسفل زخات المطر ترفع وجهها في مواجهة السماء تستقبل قبلات المطر على وجنتيها الندية في شغف، كان يقف يبهره منظرها وتأسره شقاوتها.. دمعت عيناه بلا وعي منه وكلمات الاغنية تنساب إلى مسامعه وهو يتطلع نحو الشارع الموحل: كنا فأواخر الشتا قبل اللي فات.. زي اليومين دول، عشنا مع بعض حكايات.
تاه في ذكرياته معها حتى أنه لم يتنبه للسائق الذي هتف به، ربما للمرة الثالثة، أنه وصل لوجهته المطلوبة، أنقده الأجرة واندفع خارج السيارة يفر من ذكرياته التي تؤرق مضجع القلب..
لا يعلم لمَ لم يندفع كعادته موبخا نعمة على رفع صوت المذياع بهذا الشكل الذي يفقده تركيزه للمذاكرة!؟، تنهد مستندا بمرفقيه على سطح مكتبه لا يعلم ما دهاه، وبشكل لا إرادي مد كفه ليفتح أحد الأدراج ممسكا ذاك التذكار الوحيد الذي يحمله منها، تطلع لذاك العقد الرخيص الذي تذكر أنه كان هدية يوم مولدها، كان قد اشتراه لأجلها من مصروفه الأسبوعي..
نهض من موضعه في اتجاه النافذة يتطلع من خلف زجاجها لذاك الجو الماطر، وعقدها الغافي على كفه كأنه جمر يحرق باطنه.. فتح ضلفتي المصحف الصدىء المدلى من العقد ليجد صورة لهما كانا قد التقطاها يوما ما، لا يذكر متى كان ذلك، لكن يبدو أنه كان في أحد الأعياد، كانت تضع صورته بجانب وصورتها بالجانب الأخر..
ظل يتطلع لصورتهما لبرهة قبل أن يطبق على العقد كفه في حسرة ورفع ناظره ليقع على نافذتها المقابلة المغلقة منذ مدة وكأنها دهر، وبلا وعي انسابت عيناه على الطريق أمام عتبات منزلها ليذكرها تمرح في شقاوة وتجذب الفتيات لتضربهن، أدرك أنها ما كانت تفعل ذلك إلا غيرة لاهتمامه بهن دونها..
ابتسم في شجن رغما عنه وصورتها وهي بعد طفلة تتقافز بين الأمطار اللحظة وكذلك وهي تمسك بكفه تقفز معه جنبا لجنب، في تلك اللعبة، من أجل الوصول لنقطة النهاية وقد ربطا قدميهما سويا، واتسعت ابتسامته وهو يبصرها بعين خياله تهلل للنصر، لا تعرف أنها انتصرت منذ أمد بعيد، وفازت بقلبه دون أن يدري حتى، بينما هو كان الخاسر الوحيد، كان خاسر لحب بهذا العمق وقلب بهذه الروعة..
تنهد من جديد وهو يفتح كفه متطلعا لعقدها الذي يضم صورتهما، موقنا أنه كان مخطئا إن ظن أن هذا العقد هو التذكار الوحيد الذي يحمل منها، فقد تأكد له أنه يحمل أيام عمره كلها برفقتها، ذكرى منها تعذبه في بعادها بشكل ما كان يتوقعه أبدا.. تنهد من جديد وكلمات أغنية المذياع المنسابة الآن إليه من حجرة نعمة تقلب عليه مواجع ما هجعت من الأساس: على سهوة ليه الدنيا بعد ما عشمتنا.. وعيشتنا شوية رجعت موتتنا..
والدنيا من يوميها يا قلبي عودتنا.. لما بتدي حاجات قوام تاخد حاجات.. عاود الجلوس لمكتبه محتفظا بعقدها داخل ذاك المخبأ بداخل أحد الأدراج حتى لا تطاله يد، وقد بات على يقين، إن رغب في تذكر حُسن فما عليه إلا تذكر أيام عمره الماضية، ليجدها ماثلة هناك، تشاركه كل ذكرى في عمره الماضي، فهل ستشاركه كذلك بأيام عمره القادمة!؟.
كان يجلس موضعه في تلك الردهة الطويلة، حيث ينتظر توزيع اوراق امتحانهم الأول، ظل يتطلع نحو مكان دخول الطلبة، يأمل أن يرق قلب جدتها وتتركها تستكمل امتحاناتها لسنتها الأخيرة، لكن مر الوقت وجلس الجميع، وبدأ المراقبون في توزيع أوراق الإجابات، وها هم يوزعون عليهم ورق الأسئلة، تنهد شاعرا بإحباط كبير، كان يتمنى لو حضرت، وضع رأسه في الورقة أمامه، يشعر بالذنب تجاهها، فكره بدوره قد توقف، فما عاد لديه رغبة في إكمال الامتحان، لكنه تحامل على نفسه، مؤكدا أنه كان يتوقع رد فعل جدتها، رفع رأسه يحاول أن يهدئ من روعه قليلا، حتى يستطيع أن يكمل الإجابة على الأسئلة، ليقع ناظريه عليها، وهي تلهث مهرولة، تحاول أن تسوق الأعذار لتأخرها، حتى يسمح لها المراقب بدخول الامتحان، تنفس مروان الصعداء ما أن ادخلها المراقب، ووضع أمامها أوراقها، التي تناولتها وبدأت في الإجابة في سرعة، ولم تنس أن تلقي ببعض النظرات هنا وهناك ما بين دقيقة وأخرى، حتى ارتاحت وارتسمت ابتسامة على شفتيها ما أن أدركت موضعه، ورأته أخيرا.
على الرغم من أن ذاك الهاتف السري الذي أوصله لها عن طريق عنتر، يكفيهما شر الشوق، لكن رؤيتها له أمرا أخر، فقد شعرت أن الحياة قد دبت في أوصالها من جديد، وهو لم يكن بأقل منها شوقا لمحياها، لكن ما أن انتهى الامتحان، حتى حاولت الاقتراب منه، لكنه ألقى لها بنظرة محذرة، خوفا من أن تكون جدتها قد أرسلت خلفها الجواسيس لتدرك أنها بالفعل جاءت لإنهاء اختبارها فقط، ما دفعه ليمر بها، دافعا كرسيه الدولب، دون أن يهمس بحرف، حتى وصل لموضع بقاء خفيره، الذي ساعده في الوصول للعربة، وكذا هي سارت حتى سيارتها..
خرجت السيارتين للطريق، وكانت أية تحاول تجاهل وجود سيارته جوارها، لا تحيد بناظرها نحوه حتى لا يذهب خفيرها مبلغا جدتها عن كل شاردة وواردة قامت بها، ما قد يدفعها بالفعل هذه المرة لحرمانها نهائيا من استكمال اختباراتها..
كان خفير مروان، يدرك الأمر، فما أن يسبق خفير أية حتى يوازيه مسرعا، وما أن يبطئ حتى يبطىء بدوره، لكن مروان ربت على كتفه، أمرا إياه بترك سيارة أية تمر، دون اعتراضها، ليدخلا النجع للمرة الأولى، متعاقبين، لا متلازمين خوفا على أية من بطش جدتها، والتي حادت بناظرها تجاه عربة مروان، قبل أن تختفي في ذاك التقاطع مبتعدة، تعزي روحها، أنها ستراه خلال فترة اختباراتهما وهذا يكفيها، مؤقتا.
هتفت سهام في تعجب: هو إيه اللي بتجوليه ده! كيف يعني مش بيكلمك ولا بياچيكِ! طب خليكي معايا كده يا سمية، أمي بتنادم عليا، متجفليش.. اندفعت سهام نحو سمير، الذي ظهر قبالتها اللحظة، وكأن القدر قد أرسله لتهتف به لائمة في حنق: يعني كلنا عارفين إنك رايدها، كيف يعني لا بتكلم الغلابة ولا بتروح لها! تطلع لها سمير متعجبا: إيه في!
هتفت سهام: أنا اللي مفروض أسأل، إيه في! سمية بتجول إنك لا بتكلمها ولا بتروح تزورها، كنك نسيت إنك خاطبها، وخلاص كتب كتابكم بعد كام يوم! هتف سمير مضطربا: هي اشتكت لك! هتفت سهام مؤكدة: ايوه، واهي معايا ع التليفون، خد كلمها وطيب بخاطرها. ألقت سهام له الهاتف، بعد أن فتحت السكة، تاركة إياه غارقا في تيهه، قبل أن يهمس في نبرة كساها بالثبات على قدر استطاعته: السلام عليكم، كيفك يا سمية.
اضطربت بدورها، فقد كانت تلك المرة الأولى التي يحادثها فيها تليفونيا، وهمست في رقة اذابته: الحمد لله، كيفك أنت! رد في هدوء مصطنع: أني بخير، بجولك، أني چاي لكم النهاردة. هتفت مرحبة: تشرف فأي وجت، ده بيتك. أكد في هدوء: طب أنا هستأذن عمي ماهر، وهكون عندكم كمان ساعة. ردت في رقة: هنستناك، مع السلامة. رد بدوره: الله يسلمك. واغلق الهاتف، ملقيه جانبا، واندفع يعد نفسه لزيارتها، حاملا معه ما لذ وطاب،.
وما أن وصل لدارها، حتى استقبله عبدالله، هاتفا في حفاوة: أهلا يا سمير، عاش مين شافك يا عم، ده إحنا كنا بنشوفوك اكتر من كده جبل ما تخطب البت سمية، ولا شكلها مطفشاك من دلوجت! جلس سمير ولم يعقب، ترتسم على شفتيه ابتسامة لمزاح عبدالله، لكن تلك الابتسامة اختفت، ما أن هلت سمية، تقف على أعتاب الباب في وداعة، ليقفز قلبه من بين أضلعه، مهرولا إليها، يكاد يحتضنها شوقا.
غض الطرف عنها، رحمة بفؤاده، بينما دخلت هي ملقية السلام في رقة: السلام عليكم يا سمير. كاد أن يولي هاربا، بعد أن سمع اسمها ينطق من بين شفتيها بكل هذه العذوبة، علم الآن لم كان يتهرب من القدوم لزيارتها، أو حتى الحديث إليها هاتفيا! فهذه الوداعة والرقة تأثره كليا، فلا يعود قادرا على الفكاك، رقة فطرية لا تصطنعها، تذيب بدمه أطنان من حمض حارق تكاد ترديه قتيلا وهي لا تدري من أمره شيئا.
رد السلام بصوت متحشرج، ما استطاع تبديل نبرته المشبعة بالاضطراب، ليهتف عبدالله مازحا: طب أجوم أنا عشان مبجاش عزول، أعمل لي كام سندوتش كده لحد العشا، اعمل لك معاي يا سمير! ابتسم سمير، وهتف مازحا: لو سندوتشات لحمة معنديش مانع، غير كده خليهملك.
تحسر عبدالله هاتفا: لحمة! والله أنت طيب يا نسيبي، جال لحمة جال، مااشي، والله لما انچوز لأخلي البت مرتي تعمل لي لحمة فطار وغدا وعشا وسحور كمان، اومال إيه، مش لازما نتأوتوا. قهقه سمير على أقوال عبدالله مؤكدا في مزاح: ايوه صح، أصلك هي بتربي أسد مش بتأكل چوزها.
قهقه عبدالله، وكذا سمية، ليفقد قلبه بوصلته، وترتبك كل مفردات الكلم، وما عاد مدركا يسراه من يمناه، إلا أن عبدالله استأذن مغادرا، تاركا كلاهما معا. ساد الصمت بينهما لبرهة، وهم كل منهما بالحديث في نفس اللحظة، ليصمتا من جديد وعلى شفتي كلاهما ابتسامة خجلى، ليهتف سمير مشيرا نحوها: جولي كنتِ عايزة تجولي إيه!
هتفت في هدوء، وعلى شفتيها ابتسامة باشة لا تنمحي: مفيش، بس كنت هجول، أنت بتحب إيه فالأكل، يعني أعرف. أكد مبتسما بدوره، وقد راقه اهتمامها: كل خير ربنا حلو، معنديش حاچة أجول عليها لاه، المهم إنه من يدك.
اضطربت خجلا، ولم تعقب على كلماته الأخيرة، التي استشعر عليها الندم بدوره، ما كان هذا ما وطد النفس عليه، أكد لنفسه مرارا أنه سيعاملها بما يرضى الله، لكن لن يمد لها يد القلب قبل أن يتأكد أنها ستمسك بها ولن تفلتها، لن يفعل حتى يطمئن لرغبتها في ذلك، سيقمع ثورة مشاعره الصاخبة تلك، ويخمد نيرانها عنوة، حتى تشعل هي الفتيل، و تصبح بلا منازع، سيدة الثوار الأولى، بل هي الثورة ذاتها.
لا يعرف ما الذي دفعه للحاق بها وترك الورشة، شيء ما يدفعه ليفعل، رغم غياب نادر بالجامعة لتأدية امتحاناته، وكذا وجود المعلم ناصر بالأعلى مريضا، حتى المعلم خميس جدها، قد أغلق المقهى اليوم، لموعده مع الطبيب الذي ذهب لزيارته بصحبة أمها، لكن ها هو يسير خلفها، تاركا الورشة في عهدة الصبي.
خرجت من الحارة، ليخرج خلفها موقنا أن الأمر سيمر بسلام ما أن تصبح بالشارع الرئيسي، الذي تسلكه للوصول للسوق، عاد فقد كان كل شيء على ما يرام، وقف فالورشة يعمل، لكن خاطره كله ينصب على محياها، لا يعرف ما الذي يجعله بهذا الضعف الأحمق قبالتها هي بالذات!؟ انتفض مسقطا أحد المفكات، وكاد أن يسب في حنق، عندما اندفع أحد الصبية هاتفا في عجالة: إلحقوا نعمة بت الأسطى ناصر، قدورة وصبيانه، ب...
لم يكن الصبي في حاجة لإكمال كلماته، فقد كان يكفيه أن يعلم أنها تتعرض لخطر ما حتى يهب مندفعا لنجدتها، وخاصة في غياب أخيها الأكبر، ومرض أبيها. وصل حيث صمّت أذنيه صرختها المذعورة تلك وقدورة، ومعه بعض من صبيانه، يحاولون التجروء عليها، ما جعلته ينتفض مسرعا، يزود عنها، وقد غلى الدم بعروقه، يقف دافعا إياها خلفه، لتحتمي به، هاتفا بقدورة في ثورة: أنت محرمتش يا نچس! شكل العلجة اللي فاتت مكيفتكش.
جز قدورة على أسنانه في غضب، هاتفا: أنا كنت عارف إنك هاتيجي جري ورا السنيورة، وهتعملي فيها الواد المجدع، هي متخصنيش فحاجة، بس أنت بقى، ليك لازمة كبيرة عندي، أوعى تفتكر أن الصعايدة بس اللي مبيسبوش تارهم، وأنا كمان مبسبش تاري، وكنت مرقد للموضوع ده من بدري، وأهو جه أوانه، لا أخوها ولا أبوها هيقدر يجي يدافع عنك، ومحدش هيقدر يعارضني من اللي واقفين دول، يبقى أنت جيت لقضاك يا جميل.
كان راضي ما يزل يقف محاوطا نعمة بجسده، حيث كانت تقف متشبثة بظهره، ترتعد رعبا، استشعره، وهي قريبة منه بهذا الشكل، فهمس بها مطمئنا: متخافيش. هتف قدورة في غل، أمرا رجاله: عايزكم تأدبوه كويس، وبعدين ترحلوه، ياللاه.
اندفع رجال قدورة، كالثيران الهائجة، تنفيذا لأمر ولي نعمتهم، حاول راضي، دفع نعمة بعيدا عن أرض الصراع، حتى يتفرغ لهم، لكن قدورة كان لها بالمرصاد، لتعود بعد أن همت بالخروج مندفعة من الدائرة التي تحيط بهما من رجاله، لتلوذ مرة أخرى براضي، محتمية بظهره، وقد بدأت في النحيب في ذعر.
بدأ العراك، وسدد راضي اللكمات والضربات للرجال في بسالة، لكن الكثرة تغلب الشجاعة مهما كان قدرها، اوسعوه ضربا، بعد أن دفعوا نعمة بعيدا عنه، سقط في إعياء، لكنه هم بالنهوض متحاملا على أوجاعه، ليستأنف المعركة، إلا أن أحد رجال قدورة، حصل على الإشارة المطلوبة، ليندفع نحو راضي، طاعنا إياه بمدية حادة، نازعا إياها من موضعها بجسده في لامبالاة، راحلا مع قدورة وباقي رجاله، كأن شيئا لم يحدث، تاركين نعمة تندفع نحو راضي الذي سقط من جديد على ركبتيه، ممسكا موضع جرحه النازف متأوها، لتتلقفه بين ذراعيها، وهي تصرخ في قهر، تنادي باسمه، لكن لا مجيب، وقد غامت الدنيا أمام ناظريه، وارتاحت رأسه على صدرها.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون
كان قد انقطع عن كلامها منذ أن انقضت الامتحانات، حتى أنه لم يكن يرد لى مكالماتها التي كانت تقوم بها في الخفاء حتى لا تدرك جدتها بوجود هاتف معها، فهو الوسيلة الوحيدة بينهما للتواصل. كادت أن تيأس، ربما هذه هي المرة الخامسة اليوم، التي رنت عليه فيها بأوقات مختلفة ولم يرد، ما الذي يحدث! أين ذهب! وعلى ماذا ينوي بالضبط!
همت بمد كفها لإغلاق الهاتف، واخفائه بموضعه الذي اعتادت تخبئته فيه، لتجد رسالة منه على الواتس أب، أسرعت وفتحتها في لهفة، قارئة: اتصلي دلوقتي. لم تكن بحاجة لطلبه، بل إنها أسرعت وضغطت على اسمه الأوحد الموجود بالهاتف، ليرد في هدوء هامسا: إذيك يا أية!؟ دمعت عيناها، وهمست تجيب: الحمد لله، أنت كويس! أصل رنيت عليك كتير ومردتش! قلقت بجد.
تنهد مؤكدا: مفيش داعي للقلق، كل الحكاية إني مكنتش فاضي، ومش عايز اكلمك إلا لما يبقى عندي كل المعلومات، وأقولك اللي فيها. هتفت بقلق: فيه إيه يا مروان! أنت كده قلقتني بجد.
أكد لها: بصي يا أية، أنا يوم ما قلت لجدتك إني مش هدخل بيتكم تاني إلا وأنا جدير بكِ، وطبعا من وجهة نظر الحاجة وجيدة، أني واحد عاجز ملقش بكِ، وهي عندها حق، وأي حد هيبقى عايز احسن راجل لبنته، راجل كامل من كله، مش نص راجل مش قادر حتى يقف على رجله.
هتفت به أية: متقلش كده، أنت فعيني راجل، وسيد الرجالة كمان، وعمري ما حسيت إن موضوع رجلك ده فارق معايا، ولا حسسني إني ناقصني حاجة، أنت حاجة كبيرة قوي فنظري يا مروان. ساد الصمت بينهما، ليتنهد مروان من جديد، هامسا بصوت متحشرج تأثرا: وعشان اللي بتقوليه ده، أنا لازم اعمل اللي قررت اعمله. هتفت به في اضطراب: قررت إيه يا مروان!؟ عشان خاطري، أوعى تكون حاجة فيها..
قاطعها مروان هاتفا في نبرة حازمة: قررت أعمل عملية، عشان أرجع أمشي على رجلي تاني. ساد الصمت، الذي قطعته أية متسائلة في ريبة: هو فيه عملية تخليك تمشي تاني! طب لما كان فيه علاج من زمان! أكيد اللي خلاك متفكرش فيه، إنه.. هتف مروان بنبرة صارمة: مميت. شهقت أية، وساد الصمت من جديد، قطعه نحيبها هذه المرة، هاتفة في توسل: بلاش يا مروان، عشان خاطري بلاش.
هتف مروان كأنه لم يسمع حرف مما قالت، مؤكدا: الفترة اللي فاتت، كنت منقطع عنك عشان كنت فمصر بشوف إيه إمكانية العملية بعد كل الفترة اللي فاتت دي، وهل فيه أمل فيها ولا لأ! ومدى الخطورة، والدكتور أكد لي إن العملية لسه في إمكانية لاجراءها، بس نسبة النجاح صغيرة للأسف، ومش كده وبس، ده ممكن أثناء العملية يحصل مضاعفات، ممكن أنها، يعني جايز مخرجش منها، العملية مجازفة ومخاطرة كبيرة، بس أنا لازم أعملها.
هتفت به أية من جديد، وقد علت وتيرة نحيبها، تتضرع أن ينصت لها، هاتفة في نبرة متوسلة: عشان خاطري يا مروان، لو كنت بتحبني بجد، بلاش العملية دي، أنت سمعت أنت قلت إيه! ده أنت ممكن تدخل متخرجش! حد عاقل يقول كده! أنا عايزاك كده، أنا مش فارق معايا، وحياتي يا مروان بلاش.
هتف بها مروان صارخا: بلاش ليه! أنا تعبت، لا أنا عايش وعارف أعيش، ولا أنا ميت ومرتاح من نظرات الناس وكلامهم! قوليلي ايه بلاش! عشان افضل عاجز، وابقى فنظر الكل نص راجل، قوليلي، بلاش لييييه! صرخ بكلمته الأخيرة في قهر، جعلها تصمت ولا ترد بحرف.
ساد جو من التوتر بينهما، لم يقطعه إلا صوت نحيبها الذي تحاول كتمانه، وصوت تنفسه العالي بعد كل هذا الإنفعال، وأخيرا، هتف بنبرة هادئة، مؤكدا في عزم: خلاص يا أية، مفيش حاجة هتغير رأيي، يمكن أكون غلطان، بس في الأخر، مش هيكون اللي الصح، يا إما اعيش زي الناس، يا إما أموت وأنا بحاول، حياة النص نص اللي أنا عايشها دي مبقتش نافعة، يمكن مكنتش فارقة معايا قبل كده، لكن مع ظهوركِ فحياتي، لازم افكر فيكِ، أنا بعمل كل ده علشانك يا أية، عشان أنتِ تستحقي أحسن حاجة فالدنيا.
هتفت أية باكية في قهر: أنا، أنا خدت أحسن حاجة فعلا، متحرمنيش منها يا مروان. هتف مروان مؤكدا: يمكن مقدرش أكلمك الفترة الجاية، أنا بجهز أوراقي، عشان العملية هتكون في ألمانيا، فبحضر للسفر وتجهيزات المستشفى والاتفاقات مع الدكاترة، واجرءات كتير. لم تعقب بحرف، ما جعله يهمس في نبرة حانية: إيه! مفيش تروح وترجع بالسلامة يا مروان! وغير لهجته مازحا، بصوت امرأة من منطقة شعبية: يجعل لك فكل خطوة سلامة يا خويا.
استطاع انتزاع الابتسامة لترتسم على شفتيها، وهمست به في محبة: تروح وترجع لي بألف مليون سلامة. همس مشاغبا: ليه! صمتت باسمة، ولم تعقب، لكنه أصر على الإجابة، هامسا بنبرة جادة هذه المرة: ليه يا أية! ليه عايزاني أرجع! همست في اضطراب: يعني مش عارف! همس متسائلا في جدية: عايز أعرف، عرفيني! همست أية في أحرف متعثرة: عشان أية عمرها ما حست إنها عايشة ولها حق فالحياة، إلا لما..
همس في محبة: إلا لما وقعت في حجرك من فوق عنتر. قهقه في سعادة، بينما اصطبغ وجهها في حمرة هاتفة معترضة: مروان! هم بالحديث، لتهمس هي في توتر: سلام، حد جاي. أغلقت الهاتف، دافعة به في سرعة تحت مرتبة سريرها، لتندفع وجيدة للحجرة في ثورة، هاتفة بنبرة غاضبة: جاعدة هنا ولا على بالك، وأني دمي محروج وهطج. هتفت أية في اضطراب: ليه يا ستي! إيه في!؟
هتفت وهي تحدقها بنظرات غاضبة، كأنها تلومها لعدم معرفة سبب غضبتها: واد خالك مچاش، معاد أچازته عدي ليه كام يوم، وبرن عليه مبيردش، ومش عارفة إيه في! من يوم الفجرية بت الهوارية ما دخلت حياته، وهي خربطت راسه. هتفت في تساؤل: طب وأني بيدي إيه يا ستي! هتفت وجيدة في حنق: وأني إيه اللي هستناه منك من أساسه، خليكي ملكومة، وأنا رايحة أشوف إيه اللي أخر واد خالك عن مچيته.
تركتها وجيدة وحيدة، لتتنهد أية في راحة، واتسعت ابتسامتها فجأة عندما تذكرت مزاح مروان الذي قطعته جدتها، لكن عيونها برق بها الدمع، عندما تذكرت ما هو بصدده، فهمست في تضرع: يا رب.
سارت مرفوعة الهامة، مفرودة الكتفين، وهي تدخل إلى الشركة، ما هز ثباتها هذه النظرات التي كانت تتعقبها منذ أن دخلت إلى مقر مجمع الشركات، وحتى مكتبها، الذي ما أن دلفت إليه، حتى تطلعت بجنباته في شوق، لقد افتقدت أوقاتها بين أركان هذا المكتب الصغير، فقد اختارت كل قطعة به على ذوقها الخاص. تنهدت في راحة ما أن جلست خلف مكتبها تتطلع لكل موضع على سطحه المرتب، تتذكر حماس المرة الأولى، لتبتسم في ثقة،.
مدت كفها تتطلع لتلك الملفات المتراكمة على أحد جانبيه، تزيل بعض الأوراق الروتينية بتوقيعها المتأخر، نظرا لإجازتها التي طالت، شعرت بافتقادها لأجواء النجع وكل من فيه، مدت كفها نحو الهاتف، وهمن بالضغط على أحد الأسماء، ليرن الهاتف باسم بدور، ابتسمت وفتحت الاتصال، هاتفة في محبة: أهلا بالغلاباوية، أذيك يا..
صمتت فريدة عندما تناهى لمسامعها صوت نحيب بدور الموجع، لتهتف في قلق: فيه إيه يا بدور! حصل إيه يا بنتي! أخذت بدور، تسرد لفريدة كل ما كان من أمر منتصر، حتى هتفت فريدة في تأكيد: بس انا مش مصدقة الكلام ده على منتصر، معقول! هتفت بدور في وجع: ما هو ده اللي مجنني يا فريدة، قلبي مش مصدق، وعقلي بيأكد قلبي، لكن الحقيقة اللي قدامي بتقول غير كده، أنا هموت من التفكير يا فريدة.
هتفت فريدة بها: تعالي على إسكندرية على طول، أنت محتاجة تفصلي شوية يا بدور. أكدت بدور: عليا امتحانات يا فريدة، اخلص بس واجي، انا محتاجة ابعد فعلا. أكدت فريدة: اهدي بس عشان تعرفي تركزي، وبعدين تعالي. همست بدور: تمام يا فريدة، اسيبك لشغلك بقى. همست فريدة: سلام، هكلمك تاني، خلي بالك على نفسك.
انهت فريدة المكالمة، وما أن تهم بالخروج من المكتب، إلا ورن الهاتف، ردت فريدة في سعادة وهتفت في ترحاب: القلوب عند بعضها، كنت لسه هكلمك والله. هتفت نوارة في سعادة: أهلا بأهل إسكندرية العزاز، حمد الله بالسلامة، إسكندرية نورت والنچع ضلم أكيد. اتسعت ضحكات فريدة هاتفة: إيه الرضا ده كله يا دكتورة! لا ده إحنا نمسك الخشب بقى ونقول يا ترى إيه السر! هتفت نوارة متعجبة: هو أنا باين عليا جوي كده!؟
هتفت فريدة مازحة: شفتي، أنا مكشوف عني الحجاب، واضح إن فيه حكاية ولازم أعرفها. همست نوارة في سعادة: فيكِ مين يكتم السر! رائف عايز يجي يطلب أيدي ومنتظر ردي. هتفت فريدة في سعادة: بجد!؟ إيه الخبر الحلو ده! بجد رائف بيه انسان محترم وبن ناس فعلا، ربنا يهنيكم. هتفت نوارة في نزق: بس أنا لسه موافجتش على فكرة! قهقهت فريدة هاتفة: أيوه صحيح، ما هو واضح. هتفت نوارة مؤكدة: ايوه طبعا مش لازما يغلب، هي بالساهل كده!
أكدت فريدة في نبرة هادئة: عندك حق يا نوارة، اللي بيجي ساهل بيروح بالساهل. وتبدلت نبرتها مستطردة في فرحة: بس خبر بمليون جنيه، ألف مبروك مقدما يا دكتورة، بس مطوليش ع الراجل فالرد، لحسن يروح ميرجعش. قهقهت نوارة مؤكدة: يروح فين! ميقدرش، هو دخول الحمام زي خروجه. قهقهت فريدة هاتفة: يا عيني عليك يا رائف، والنعمة ما يستاهل اللي هيحصل له منك يا نوارة، ده..
همت بالحديث، ليقاطعها صوت ذو نبرة مازحة جانبها: إيه ده دي الدكتورة نوارة! سلميلي عليها.
كادت أن تسقط الهاتف من يدها، عندما استدارت نحو ذاك الذي كان يتعقب خطواتها منذ أن خرجت من مكتبها، متجهة صوب غرفة الاجتماعات، لحضور اجتماع هام، مع عملاء جدد تعاقد معها والدها، في فترة غيابها، واخبرها أن شراكتهما سيكون لها انعكاس إيجابي على الشركة في الفترة القادمة، ما اعتبرته بادرة خير، وخاصة بعد أن سحب نزار الغمري، اسهمه بالشركة، بعد ما حدث.
هتفت في نبرة مضطربة، مؤكدة لنوارة: طب يا دكتورة، مضطرة أقفل عشان الاجتماع هيبدأ، وعمك ما يعرفش ياما أرحميني فالشغل، سلام مؤقت، وهكلمك تاني. أنهت الاتصال، وتطلعت في صدمة نحو ذاك الذي ظهر لها من العدم، هاتفة في لهجة رسمية، وهي تستدير لمقابلته: أهلا يا باشمهندس، خير! تطلعت حولها باحثة عنه، هل كان هنا بالفعل! أم أنها تخيلت وجوده!
لم تعر الأمر اهتماما، فقد تأخرت عن اجتماعها بالفعل، دخلت غرفة الاجتماعات، وما أن همت بالجلوس موضعها المعتاد، حتى اعتدلت واقفة، وأبوها يدخل الغرفة وخلفه شركائهم الجدد، أو بالأدق، شريكهم الجديد، الذي كان، ما الذي يحدث! تطلع سامر لها كأنه لا يعرفها، ومد كفه يحييها في برود، وحمزة يعرفه عليها، ويبدأ في تعريفه كذلك، هاتفا في نبرة رسمية: الباشمندس سامر شحاته العشري، رئيس مجلس إدارة شركات العشري.
هزت رأسها في تقبل، ولم تنبس بحرف، بينما استطرد حمزة، مشيرا لها في فخر: ودي فريدة الهواري، بنتي والمساعدة بتاعتي، تقدر تقول مديرة أعمالي والمسؤولة عن تعاقدات المشاريع الجديدة. ابتسم سامر ابتسامة دبلوماسية، قبل أن يهتف في نبرة رسمية بامتياز: تشرفنا أستاذة فريدة، أرجو التعاون بينا يكون مثمر. استعادت فريدة ثباتها، هاتفة في لهجة امرأة عملية: أكيد يا باشمهندس. وبدأ الاجتماع..
قهقه سعفان النادي، هاتفا لنغم أمرا: كفاية بقى يا بت يا نغم، يخربيت خفة دمك. هتفت نفم، وهي تقطع تفاحة تعطيه بعضها مؤكدة: اضحك يا معلم، محدش واخد منها حاجة، علّي الضحكاية علّي. ظهر منتصر قادما، يبتسم بدوره، وقد رأي سعفان غارق في ضحكاته، ليهتف منشرحا: إيه الضحك ده كله! ما تضحكونا معاكم. أكد سعفان مشيرا لنغم: بت اللذينة دي، مشفتش فخفة دمها، والله يا نغم نسيتي الواحد قرفه ودنيته كلها.
ابتسمت نغم مؤكدة في دلال: خدامتك يا معلم، الله طبعا لازما انسيك أي تعب، ده أنا لو معملتش كده يبقى مليش لازمة بقى! هتف منتصر مؤكدا: تدوم الضحكة يا معلم. هتف سعفان متعجبا: وأنت مش هتدوم ولا إيه! ما تفك التكشيرة الصعبة اللي على وشك دي، والله السيما بوظت سمعتنا بين الخلق. قهقه منتصر مؤكدا: الظاهر كده يا معلم، فكرني ارفع عليهم قضية تعويض، اهو اللي يجي من الحكومة كله مصلحة.
أكد سعفان هاتفا: لا يا سيدي، لا عايزين الحكومة ولا اللي يجي منها، الله الغني، يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل، بقالي سنين، لا الحكومة عرفالي طريق، ولا قادرة توصل لي، ربنا يبعدهم عنا، ويجعل كلامنا خفيف عليهم. هتفت نغمة مؤكدة: يا رب يا معلم. سأل سعفان في اهتمام: اخبار العملية الجديدة إيه يا سيدنا! أنا قلت اسيبك بقى تتعامل بعد ما بينت كرامة فالعمليتين اللي فاتوا، وبيضت وشي.
هتف منتصر في جدية: ولا يكون عندك خبر يا معلم! سالكة بعون الله، بس انت شخشخ جيبك ع المظبوط، حاكم اللي ماسك منطقة التسليم ده أنا عارفة، منشار، طالع واكل، نازل واكل، مش بيعتق. أكد سعفان في لامبالاة: إن ع الفلوس، فمقضية ولا يهمنا، المهم العملية تجينا مقشرة من غير خساير، ويبقى حلال عليه. أكد منتصر: إن كان كده، حط فبطنك بطيخة صيفي، والعملية اعتبرها خلصت.
أكد سعفان في ثقة: طبعا خلصانة، ومعاها حصانة، ده إحنا الباشا كله معانا. واستطرد ممسكا بجهاز التحكم في سماعات البهو الموجودين به، هاتفا: ياللاه بقى شوفوا حالكم، وسبوني اتسلط مع الست واعيش اللحظة. استأذن منتصر، ليهتف سعفان في نغم أمرا: ياللاه يا نغم مع الباشا، والنبي تفكلنا التكشيرة اللي على وشه دي، أحسن أنا بتشائم.
ابتسم منتصر، ليهتف سعفان مبتسما بدوره: اهي ندعت أهي، ياللاه يا بت يا نغم، فرفشيلي الباشا ده، عايز صوت ضحكته يوصلي لحد هنا، ويكيفني فشر صوت الست. أطلقت نغم إحدى ضحكاتها الماجنة، هاتفة في دلال: من عنينا يا معلم، مسافة السكة.
قهقه سعفان، تاركا إياها تجذب منتصر من كفه، لينهض سائرا خلفها في استسلام تام، وابتسامة مرسومة على شفتيه، وما أن اقتربوا من الغرفة، حتى تنحى منتصر جانبا، وجلس متنهدا على أحد المقاعد، متطلعا نحو الأفق البعيد، غير عابيء بتلك التي تقف موضعها، تنظر إليه متعجبة من حاله، سارت لتجلس جواره، ولم تنبس بحرف واحد، وصوت أم كلثوم العاتب يأتيه من البهو، حيث يجلس سعفان: عيون كانت بتحسدنى على حبي..
ودلوقتى بتبكى عليّا من غٌلبى.. وفين إنت يا نور عيني يا روح قلبي.. فين! فين أشكى لك فين! عندي حاجات وكلام.. فين دمعك يا عين! بيريحنى بُكايا ساعات.. بخاف عليك وبخاف تنساني.. والشوق إليك على طول صحّانى..
أمسك منتصر هاتفه، يتطلع نحو شاشته، يغالب شوقا يدفعه ليرى صورتها فقط، أو حتى يدخل ليرى حالتها على الواتس أب، لكنه تنهد واضعا إياه جانبا، ودفع برأسه ما بين كفيه، ولازالت أم كلثوم تثير اوجاعه وتنكأ بكلماتها وصوتها الشجي العاتب جرحه النازف بروحه، ما دفع نغم لتضع كفها على كتفه مواسيه، هامسة بنبرة حانية: أنت بتحبها قوي كده!
انتفض منتصر، متطلعا نحوها، هاتفا في حنق: بحب مين! وكلام فارغ إيه اللي بتقوليه ده! همست نغم متنهدة: يا باشا فضفض، اهو تخرج الهم اللي على قلبك ده، ده باين إنك غرقان لشوشتك. اندفع منتصر ممسكا عضدها، يهزها في قوة، هاتفا في غضب مكبوت: إياكِ تجيبي سيرة الموضوع ده تاني، أنتِ نسيتي نفسك ولا إيه! أنتِ..
قاطعته في حسرة، هاتفة ودمع يترقرق بمقلتيها: عارفة أنا إيه يا باشا! كتر خيرك إنك فكرتني برضو، مع إن الواحد كان بيحاول ينسى. ترك منتصر ذراعها، وزفر في حنق، مخللا أصابع كفه ما بين خصلات شعره في ضيق، هاتفا في لهجة حاول أن تبدو على هيئة اعتذار: خلاص يا نغم، محصلش حاجة. همست به، وكأنها نسيت بالفعل، تسأله في لهفة: ألقولي يا باشا! هي اللي زيي كده ينفع تنحب! هتف منتصر مؤكدا: ومتتحبش ليه! مش بني أدمة!
هتفت تفسر: يعني، أديك شايف اللي أنا فيه! ممكن حد يحبني فوسط القرف ده! أكد منتصر مبتسما: لو عرف معدنك الطيب، وحبك بجد، مش هيهمك أي حاجة. ابتسمت في سعادة، هاتفة في فرحة غامرة: ربنا يجبر بخاطرك يا باشا، والنعمة أنا طيبة وبنت حلال، بس لولا الحوجة ما.. قاطعها منتصر: أنتِ إيه اللي جابك هنا يا نغم! يعني، شكلك صغيرة وبنت ناس طيبين.
انفجرت ضاحكة على كلماته الأخيرة، ضحكات هيستيرية مخلوطة ببكاء روح موجوعة بلا دموع، واكدت ساخرة: دول ناس طيبين وولاد حلال مصفي، فاموليا معتبرة يا باشا. لم يعقب منتصر، لتستطرد متنهدة تسرد قصتها: كنا تلت بنات، نصيب أبونا وأمنا من الخلفة، أبويا كان صنايعي وكسبب، بس ولاد الحرام جروه لسكة الكيف، وحبة حبة الدنيا باظت، وبقينا على الحديدة، والكيف ذل أبويا لدرجة إنه..
صمتت وقد غصت بوجيعتها، لكنها استطردت وهي تزدرد ريقها، مبتلعة ألمها كما تعودت، هاتفة: لدرجة إنه بادلنا بالكيف، بقى عنده استعداد يفرط فشرفه قصاد المزاج، أمي مقدرتش عليه وراحت طفشانة، وسابتنا منا له، كنا هنعمل ايه، وإحنا شايفين ابونا بيبيع فينا ويشتري، بقت كل واحدة فينا، تمن لقعدة كيف، ومن أيد لأيد، لقيت نفسي هنا من نصيب المعلم، وأهي ماشية يا باشا.
تنهد منتصر متأثرا بقصتها، وربت على كتفها في تعاطف، وقع ناظرها على كفه الرابتة في حنو، هامسة تسأله: ألا أنت ممكن تحبني يا باشا! ابتسم منتصر ونكس رأسه ولم يحر جوابا، لكنها علمت الإجابة هاتفة بها: ده إيه السؤال الغبي ده! برضو الواحد أحيانا، هو مش احيانا يعني، هو كتير، بينزل عليه شوية غبا، اكسترا بعيد عنك يا باشا.
نهضت مغادرة، وهي تتمايل مع كلمات أم كلثوم، من يراها يعتقد أنها خالية البال، لا يشغلها هما، ولا يؤرقها فكرا، لا يدرك أن ألمها أكبر من أن تعبر عنه، وقد خزلها من كانوا، من المفترض هم السند والظهر. تطلع منتصر نحوها مشفقا، وانتفض مغادرا نحو غرفته، هربا من أم كلثوم وكلماتها التي باتت تنغص مجلسه: غلبني الشوق، وغلبني.. وليل البعد دوبني..
ناسيا هاتفه، الذي تسلل أحد الرجال، وانتشله من موضعه، دافعا به لعمق جيبه، مغادرا في سرعة..
كان يجلس بأحد المقاعد الموجودة، يتطلع نحو جسد راضي المسجى عبر ذاك الحائط الزجاجي، عاري الصدر إلا من لفائف شاش وقطن طبي، تغطي جرح بصدره، وهو غائب تماما عن الوعي. ما أن وصله اتصال عمه حازم، وأخبره بما حدث لراضي، حتى أتى مهرولا، قاطعا الطريق في اقل عدد ساعات ممكن.
القلق يقتات على قلبه، وأخوه ممدد أمامه بهذا الشكل بلا حراك، خارج لتوه من غرفة العمليات، وقد أخبره الطبيب أن الجرح غائرا، والنزف كان شديد، وهو مشتت ما بين أمرين، أن يخبيء الأمر على أبوه وأمه وألا يخبرهما! وما بين أخبارها حتى لا يتحمل وحده عواقب التستر عن أمر كهذا! ربتت كف على كتفه في تعاطف، جعلته يتنبه لوجود عمه حازم، هاتفا في نبرة مطمئنة: هايبقى كويس باذن الله.
هز يونس رأسه هاتفا: باذن الله يا عمي، بس حضرتك اتصلت بيا وجلت لي متبلغهمش في نچع الصالح، طب ليه! أكد حازم: ملهاش لازمة تخضهم على أخوك، وأبوك وأمك مش حمل البهدلة ومسافة الطريق من هناك لهنا، أنا لسه جاي من عند الدكتور اللي بيباشر حالته، قالي حالته مستقره، وخلال ساعات هيفوق ويبقى زي الفل، بس الجرح هيحتاج له فترة عشان يخف، وده طبيعي. هز يونس رأسه موافقا: يجوم هو بالسلامة، وأني كفيل بيه، بس يطمنا عليه.
ربت حازم على كتفه من جديد: والله هايبقى تمام، والولاد اللي عملوا الكلام ده، جابوهم، أنا مسبتش الموضوع، فضلت متابعه لحد ما بلغوني إن البلطجية دول مرميين دلوقتي فالقسم، وهايتعرضوا ع النيابة، وحقه هايجي تالت ومتلت. هتف يونس مؤكدا: بس هو يجوم بالسلامة يا عمي، وبعد كده اللي يحصل يحصل. اندفع نادر، ومعه ناصر يتعكز عليه متعبا، والذي هتف والسعال يشارك كلماته: أخباره إيه دلوقتي!
هتف حازم رابتا على كتف ناصر: اقعد يا ناصر أنت تعبان، وهو أهو ربنا يسلمه، ده يونس أخوه. أشار حازم ليونس، ليهتف ناصر في نبرة متأسفة، شاعرا بالخزي: اهلا يا بني، كان نفسنا نشوفك فظرف أحسن من كده، وسامحنا على اللي جرى، كان المفروض إنه ضيفنا وبينا، وعمك حازم موصينا عليه، وربنا يعلم إننا مقصرناش، لكن النصيب بقى.
هتف يونس مؤكدا: ايوه هو فالاول والآخر نصيب، وأني متأكد إنه كان فعنيكم، وراضي ياما شكر فيكم، وجال انكم ناس طيبين ومتتخيروش عن أهله فالبلد، بس كيف ما جلت حضرتك، أهو النصيب، المهم يجوم لنا بالسلامة.
هتف نادر مؤكدا: هيقوم وهيبقى تمام والله، راضي ده أجدع راجل أنا قابلته فحياتي، بس البلطجية دول اتكاتروا عليه، واستغلوا اني مكنتش موجود وابويا تعبان مبينزلش الورشة بقاله شوية، وجدي مكنش موجود فالحارة، فاستفرودا بيه، لكن البوليس جه خدهم كلهم. تطلع يونس من جديد على جسد أخوه الساكن، ولم ينبس حرفا، يموت قهرا على حال راضي، ولا حيلة له. رن هاتفه، فاستأذن متخذا ركن قصي، وضغط زر فتح المكالمة، هاتفا: ألو..
همس ذاك الصوت المتحشرج على الجانب الاخر: كيفك يا يونس بيه! تنبه يونس أن ذاك صوتها، الذي تحاول أن تغير من طبيعته، لكنها ظهرت جلية عبر الهاتف، ما جعل قلبه يرفرف بين جنباته، مقررا مشاكستها: مين معاي! أكدت سماحة هاتفة: أنا سماحة يا يونس بيه، كيفه أخوك، يا رب يكون بخير دلوجت، والله أمي من ساعة ما مشيت وهي بتدعيله ربنا يجومه بالسلامة. هتف يونس متضرعا: يا رب، هو لسه مفاجش، ربنا يعديها على خير.
همست سماحة: هتعدي يا بيه، وهيجوم كيف الحصان، بس جولي، اتغديت يا بيه! ده أنت خرچت چري من غير ما تحط لجمة فبطنك. ابتسم يونس، فاتصالها هون عليه الكثير، وتعجب كيف يمكن لصوت إنسان أن يكون حاجز صد عن احزان العالم فلا تطال قلبه، وإن طالته، يكون ذاك الصوت هو البلسم الشافي لكل اثر خلفته تلك الأحزان! همس يونس مؤكدا: والله ما ليا نفس يا سماحة، منظر راضي وهو راجد كده، واچع جلبي، وسادد نفسي عن الدنيا.
حاولت أن تستجمع شتات نفسها الموجعة نيابة عنه، هامسة بنبرة حاولت أن تودعها ثبات تخلى عنها، وهي توصيه: لاه يا بيه، خلي بالك على حالك، عشان راضي بيه لما ربنا يكرمه، ويجوم بألف سلامة، يلاجيك شديد، مطاوعش روحك، وكل لك حاچة عشان خاطري. فلتت منها كلماتها الأخيرة، لتضع كفها على فمها، مبعدة الهاتف قليلا، تتمنى لو لم يصله توسلها الأخير بهذا الصوت الناعم، الذي يفضح هويتها.
كان هذا كل ما يشغلها، غير مدركة أن ذاك الصوت الحاني الذي كانت تحاول مداراته، هو طوق نجاته من براثن الوجع الذي تتخطفه أشباحه، دافعا إياه ليهمس بصوت متأثر: حاضر، بإذن الله. ردت مستعيدة صوتها الأجش، لكنها لم تفقد حسها الأنثوي الحاني، شاعرة بالاسى تجاهه: يحضر لك الخير، وترچعلنا بألف سلامة، البيت مضلم من غيرك يا بيه، ربنا ما يغيبك أبدا.
كانت كلماتها تلك، هي القشة التي قصمت ظهر بعير تحمله، ما جعله يهتف بها في صوت عصف الشوق بمجامعه: سماحة، لما أرچع، ليا كلام كتير معاك. لم تعقب لبرهة، حتى همست في نبرة مرتبكة: تاچي بالسلامة يا بيه، مع ألف سلامة.
أغلقت الهاتف، متطلعة نحوه، وكادت أن تقذف به في حنق، فقد كانت تعتقد كبلهاء أن حديثها معه على الهاتف، وصوته الرحيم ذاك يصل حتى أعمق نقطة بروحها التي اشتاقت ما أن رحل عنها مغادرا، موقظا مكامن الشوق التي كانت تحاول تجاهله دوما في حضرته، فانتقم منها بقسوة في غيابه الذي يعذب فؤادها الملناع ذاك.
قذفت بالهاتف بقعر جيبها، مقسمة أن لا تحادثه على الهاتف مرة أخرى، وليكن ما يكون، غير مدركة أن محادثتها تلك، جعلته يتخذ قرار، كان يدعه لها، معتقدا أن هذا هو القرار الصحيح، لكنه ما عاد قادرا على الاختباء أكثر من هذا، وعليه أن يظهر من خلف استار التغافل التي يستتر خلفها، احتراما لرغبتها، عليه أن يقوم بالكثير، فما عاد يملك من الصبر ما يمكنه على الاحتمال أكثر من هذا.
همست حُسن جوار عمتها تشاكسها، وهي في تيه تام، مترنمة بإحدى الأغنيات، التي كان يعشقها زوجها الراحل: كنت بتحبيه قوي كده يا عمتي! تنبهت عمتها متطلعة نحوها بأعين دامعة، هزها الشوق لذاك الغائب الحاضر دوما: محبتش حد قده فالدتيا، عرف يحببني فيه، لدرجة إن بقى عندي فايض من الحب اعيش عليه اللي باقي من عمري لحد ما أروح له.
دمعت عينا حُسن من عمق مشاعر عمتها، التي كانت جلية في كل حرف تنطقه، وسألتها: انتوا اتقابلتوا إزاي يا عمتي!
بدأ عمتها فالسرد هامسة: كان عمك سعد في إجازة بمصر، وأنا كنت بشتغل في مصنع كبير من بتوع الملابس، وأنا خارجة من المصنع كان هيخبطني بالعربية، قمت بقى ولسه هفتح فيه ماسورة التهزيق اللي قلبك يحبها، لقيته واقف يتأسف ويعتذر، لقيت الراجل محترم، رحت لميت نفسي وسكت، وقلت له حصل خير، سبته ومشيت، لقيته بعدها بساعتين جاي يخطبني من أبوكِ الله يرحمه، وده كان سبب الخلاف ما بنا. هتفت حُسن: واتجوزتوا برضو!
أكدت عمتها: قعد يحاول يقنع سالم كتير، مكنش بيقتنع، كان فاكره هياخدني ويبهدلني، ومش هيصوني، وأنا كنت مطلقة، وخارجة من موال صعب مع جوزي الاولاني، ومن غير عيال، عشان مكنش ليا فالخلفة. تطلعت لها حُسن متعجبة: أومال شعيل ده إيه!
قهقهت عمتها مؤكدة: ما هي دي المفاجأة، مش أنا طلعت بخلف، وطليقي هو اللي كان مش بيخلف، واهو ربنا نصفني، ورزقني بشعيل من عمك سعد، وربنا فتح عليه كمان وكمان، كان دائما يقولي، مش أني سعد، بس أنت وش السعد عليا، عشت معاه اللي عمري ما كنت أفكر إنه موجود من أساسه، يوم ما مات يا حُسن أنا موت وراه، اللي قدامك دي، فضلت فترة تتعالج بعد ما روح، لحد ما بقيت بصبر نفسي إنه مسافر وأنا هروح له.
سال دمع حُسن، ولم تعقب، لتستطرد عمتها في حنو: اوعي يا حُسن تدي قلبك إلا اللي يستاهله، واللي يقدره على حق ربنا، الراجل لو مقدرش الست اللي معاه، عمرها ما هتحس بالأمان جنبه، وهتفضل طول عمرها تدور ع الامان معاه ومش هتلاقيه للأسف، خدي الراجل اللي يحسسك إنك ست، وانك مالية عينه عن ستات الدنيا كلها، وانك ساكنة ومربعة فقلبه، ومفيش اي قوة فالدنيا تقدر تزعزعك من جواه، الراجل ده تعيشي معاه، وتبقى فعلا ست أنتِ نفسك هتستغربي نفسك، أنا دي! هو إزاي بيقدر بكلمة يخليني حلوة قوي كده! وست قوي كده! و بحبه قوي كده!
هتفت حُسن مؤكدة: ياااه يا عمتي، ده أكيد كان من نوع خاص من الرجالة، خلاص بقى مبقاش موجود. أكدت عمتها: لا موجود، بس بقوا فعلا قليلين قوي، عارفة ليه، عشان خالفوا فطرة ربنا اللي خلق عليها البشر من أيام آدم وحواء، الست بتناطح وبقت ند وعند فالراجل، والراجل بقى بيعمل دماغه بدماغ الست.
ضحكت حُسن، لتستطرد عمتها: والنعمة حصل وبيحصل، ما هو كل واحد لو عرف ربنا خلقه للتاني ليه هنرتاح كلنا، الست مودة ورحمة وسكن، والراحل سند وضهر وقوامة، ربنا خلقنا عشان نبقى مع بعض على الدنيا، مش يبقى كل واحد فينا مع الدنيا على شريكه، لما كل طرف نسي دوره اللي ربنا خلقه له، باظ اساس العلاقة و بقت زي ما أنتِ شايفة، بقينا بنقول ع الطبيعي حاجة مش معقولة ونقول ع المش طبيعي، عادي، الدنيا اتقل خيرها، والفطرة اتقلب ميزانها يا بنتي.
أكدت حُسن هامسة: صدقتي والله يا عمتي، يا بختك بعمي سعد، ربنا يرحمه رحمة واسعة. هتفت عمتها متأثرة: وحشني قوي يا حُسن، وأنا قاعدة كده، بيتهيء لي هلاقيه داخل عليا، وبيناديني فوز، زي ما كان بيحب دايما، عارفة! أكبر رزق ممكن واحدة تاخده فالدنيا، راجل زي عمك سعد، مفيش أجمل من الواحد يحب ويتحب بجد، ربنا يرزق قلبك الحب اللي بجد يا حُسن.
وصل شعيل في تلك اللحظة، متطلعا نحوهما في تعجب، وقد بدا أنهما باكيتان، فهتف متسائلا: وايش صاير! لم ترد أمه، لكنها مدت كفها، ورفعت صوت مغنيها المفضل، صادحا بكلمات أغنيته: يا طيب الجلب وينك، حرام تهجر ضنينك.. مشتاج لك يا حياتي، عسى يردك حنينك.. يا شوج عيني لعينك..
وأخذت تردد في انسجام، غير عابئة بوجودهما، ما جعل شعيل يتنبه لحاله الحنين التي تصيب أمه، فنهض في هدوء، وانحنى مقبلا هامتها، قبل أن يستأذن بدوره، وقد تنبهت أن ملامحه تغيرت للحزن بدوره، معتقدة أنه تذكر أبيه بالمثل، لا تعلم أن أمه نكأت جراحه التي يحاول تناسبها بدوره، لكن الجرح حي والأمل في شفائه ضعيف، يحتاج لمعجزة..
على الرغم من كل تلك الدلائل التي حصلت عليها، إلا أنها ما تزال غير قادرة على استيعاب حقيقة أن عاصم بكل هذا الوجوم والصمت الآسر الذي يحيطه، هو شيخ العاشقين الذي لطالما هامت بكلماته التي كانت تصف حال قلبها بشكل تعجز هي نفسها عن التعبير عنه، هو ذاك الشخص، من خلف شاشة هاتفها، الذي تجده يضع كل اقتباسات الكتب والروايات التي كانت تقرأها، معلقا روحها به لا شعوريا، فهذا التطابق في الاختيارات، وانسجام الذائقة، جعله المفضل لها، فتحت صفحة شيخ العاشقين، وإعادة النظر في تاريخ بعض المنشورات، لنتأكد من تاريخ النشر الذي كان مطابقا لقراءتها نفس الرواية موضع الاقتباس، والتي كانت تخط الأسطر المعنية بخط وردي، لأجمل اقتباس بالرواية، لتجده قد بدأ يضع هاشتاج يعكس ذاك اللون المفضل لها، الوردي،.
وضعت لتوها تلك الرواية التي كانت تطالعها بالأمس، واستترت خلف أحد الأشجار التي كانت بالقرب، فقد انتبهت أنه بالأعلى يتابعها من خلال نافذته كما هي عادته، لم يخب ظنها، فها هو قادم وما أن وصل غرفة القراءة حتى مد كفه متناولا الرواية التي كانت تطالعها بالأمس، وبدأ في فر صفحاتها في لهفة، تبحث عيناه عن الوردي الذي يتخطف نبضات قلبه، وأخيرا وقع ناظره على الاقتباس الوحيد الذي تعمدت اختياره بالرواية، ليخرج هاتفه ويصور ذاك السطر الوردي، تاركا الرواية بعدها جانبا، مندفعا نحو الأعلى من جديد، تنهدت وتطلعت لصفحة شيخ العاشقين، في انتظار الخبر اليقين، الذي تدرك تمام الإدراك، أنه قادم لا محالة، أضاءت الاشعارات بإشعار قادم من صفحته، لتفتحه بقلب وجل، ليسطع أمام ناظريها اقتباسها الوحيد.
انفجرت باكية، وأغلقت الهاتف لا تريد أن ترى تلك الحقيقة الساطعة كشمس، والتي كانت تحاول إنكارها، لتفرض نفسها جلية تخرج لها لسانها، ساخرة من غفلتها، لتهمس في وجيعة: ليه كده يا علصم، ليه تحملني أنت كمان ذنب قلبك!
واندفعت تصعد الدرج حتى غرفتها، تتحجج بصداع شديد، تختبئ من الحقيقة أسفل غطاء فراشها الذي تدثرت به، تبكي حال ابن عمها وحالها، تحاول الهرب من حقيقة مشاعر عاصم تجاهها، لكن أين المفر من قلبها ومشاعرها هي!
ساعات فقط، ساعات قليلة فاصلة عن حلم العمر، اجتماعه وسمية تحت سقف حجرة واحدة، وأن تصبح حلاله، تطلع سمير في أرجاء الحجرة بفرحة يخالطها رهبة البدايات. حاول أن يبعد ناظريه عن الفراش الذي من المفترض أن يجمعهما ليلة الغد كزوجين، وهو ما يزال مذبذب الرأي فيما عليه فعله بعد ما سمع ما كان بينها وبين أخته سهام.
إنه يهواها، هذا لا شك فيه، ونبضات قلبه التي تتقافز لمجرد ذكراها تلك، تبرهن على هذه الحقيقة الجلية، لكن كرامته تثير مكامن الوجع بداخله، متسائلة، ما فائدة هواك، وقلبها معلق بغيرك!؟
لعن في حنق، وأبعد ناظريه عن كل مظاهر الفرخة المنثورة بالغرفة، مؤكدة أنها غرفة عروسين مقبلين على بداية حياتهما الزوجية، لكنه لن يكون، فقد قرر أنه لن يقربها ما لم يتأكد أنه الوحيد بقلبها، ما يعنيه هو ذاك القلب الذي حلم بامتلاكه منذ وعى أن له خافق نابض بين ضلوعه.
اندفع مبتعدا عن الغرفة، وعن مظاهر الفرح المعبق بها أجواء الدار، فحنة سهام، وحنته كذلك الليلة، ليته ما دخل الغرفة! ليته ما أثار تلك الحقائق الشائكة بصدره. ابتعد عن الدار، تاركا إياها للحريم، من أجل مزيد من الحرية في إظهار الفرحة بعيدا عن وجود الرجال، مقسما على الصبر، فما بالغد قد يكون أفضل مما تمنى!
امسكت بهاتفها، وقلبها تتضاعف دقاته بوتيرة متصاعفة تكاد تصيبها باذمة قلبية، حاولت أو تخفف من وطأة الأمر عليها، وبدأت في الشهيق بعمق، حتى بدأت في تهدئة نفسها، قبل أن تفتح الواتس أب على ذاك الرقم الذي سجلته باسمه، وضغطت على الأحرف باصابع مرتجفة، جعلتها تخطىء موضعها عدة مرات، قبل أن تنهي كلمتها الوحيدة التي خطتها أنا موافقة.
كانت ترغب في قذف الكلمات والركض سريعا، لكنه كان هتاك، ينتظر على أحر من الجمر ردها، ولم يفلت الهاتف من كفه النهار بطوله، معذبته هي بالانتظار، حتى جادت بالرد في أخره، وبكلمات مقتضبة، جعلته يخط لها، وقلبه لا يقل عن قلبها اضطرابا: نمرة والدكِ، هتصل به اخد ميعاد، بعد ما افاتح أمي، اللي أنا متأكد انها هتكون موافقة جدا جدا، هتكون أكرم منكِ، كتبتي موافقة بس،.
انفجرت ضاحكة، وتألق الدمع بعينيها فرحا، ولم ترد بحرف، ليستطرد مرسلا: نوارة، أنا مش عارف اقول ايه، بس فيه كلام كتير لازم أقوله مينفعش إلا لما أشوفك، هتيجي الشغل بكرة؟ فكرت لبرهة قبل أن تكتب: معتقدش، أنت أول ما تكلم بابا، مش هقدر اجي الشغل تاني، أنت عارف العوايد تنهد قبل أن يكتب: عندك حق، خلاص، نتقابل فبيتكم على بركة الله كتبت في سعادة: على بركة الله.
أرسل لها ملصق يشير بكفه مودعا، لتظل نوارة محملقة في شاشة الهاتف، لا تصدق أن ما جرى، قد حدث بالفعل، تعيد قراءة الحوار بينهما، لتتنهد أخيرا، ضامة الهاتف لقلبها في سعادة مفرطة. بينما نهض رائف متوجها لأمه، التي وجدها كعادتها تقرأ في المكتبة، دخل مقتربا منها، منحنيا يقبل هامتها، هاتفا في تساؤل: هعطلك عن حاچة!
أغلقت سميحة الكتاب الذي كانت تطالع، هاتفة في محبة: ولا عطلة ولا حاجة، هو في أهم منك! وخصوصي لما يكون عندك كلام كتير تقوله.. ابتسم رائف هاتفا: الواحد مبيعرفش يخبي عنك حاچة، بس هو الموضوع أصلا، أنتِ تقريبا حساه، موضوع خاص بنوارة وبيا. اعتدلت سميحة متطلعة نحو رائف في لهفة، هاتفة في تعجل: قول أن اللي فبالي صح!
هز رأسه مؤكدا، لتنهض تضمه في سعادة، هاتفة في فرحة غامرة: يا زين ما أخترت، والله من أول ما شفتها وأنا اتمنيتها ليك يا حبيبي، ربنا يتمم لكم على خير، هتكلم بباها أمتى عشان نروح نطلبها! أكد رائف باسما: دلوقتي حالا، أنا كنت منتظر موافجتك. هتفت سميحة مؤكدة: أنا موافقة جدا، موافقة خالص، روح كلمه بقى. قهقه رائف هاتفا: والله أنا قلت هتطلعي اكرم منها، هتقولي موافقة وبالثلث، مش هي بعتاها كأنها بتشاور روحها.
قهقهت سميحة مؤكدة: أنا كده اطمنت عليها، اصل انتوا الرجالة عايزين واحدة تغلبكم معاها. ارتفعت ضحكاته وأخرج هاتفه، واستأذن ليحدث والد نوارة، تطلعت سميحة نحوه، تتمنى له دوام تلك الضحكات، والسعادة التي تستشعرها لأول مرة خارجة بصدق من قلب رائف، الذي تعذب كثيرا، ويستحق أن ينل الراحة والحب.
دخل رائف حجرة البيانو، وجلس قبالته، يشعر باضطراب عجيب ما استشعره سابقا، زفر يحاول الحصول على بعض من ثبات، قبل أن ينسخ رقم والد نوارة، وما أن وضعه على زر الاتصال، حتى أضاء اسمه على تطبيق التروكولر، لينتفض رائف مغلقا الهاتف، قبل أن يبدأ الإتصال، ترك الهاتف ونهض يجوب الحجرة، كليث جريح، وما أن تأكد أن أمه ليست بغرفة المكتب، حتى اندفع باحثا عن اوراق نوارة، التي وجدها اخيرا، فأخرجها باحثا عن خانة الاسم، ليسطع أمام ناظريه، نوارة مهران عاصم مهران، الاسم رباعي، ولا ذكر للقب العائلة، لو كان أدرك هذا من البداية، ما سمح لها بالبقاء لحظة واحدة تحت سقف السليمانية، إنها منهم، أي مصيبة حلت به وبقلبه!
وضع الأوراق موضعها، وجلس مصدوما، يضع رأسه ما بين كفيه، لا علم له كيفية التصرف في هذه الورطة.