رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس عشر
وقف سمير بشرفة حجرته، لا يعرف ما عليه فعله، فوصالها الذي كان حلم عمره والذي ما أن أضحى قلب قوسين أو أدنى إلا وتبخر أمام ناظريه كسراب، قلبها الذي رغب في أن يكون الطارق الأول على بابه والمتربع الأوحد على عرشه سبقه إليه أحدهم، كاد أن يصرخ بكل ما أوتي من قوة يحاول أن يخرج ذاك الوجع الذي يقهر روحه، إنه أشبه بشخص تكالبت عليه الأوجاع لتحصره بأحد الأركان وتنهال عليه ضربا وركلا وصفعا دون أن يكون له القدرة على التوجع أو التأوه أو حتى الشكوى معترضا، فلمن يمكنه أن يشكو ما يعانِ!؟ وإن وجد من يستمع، ماذا عليه أن يقول!؟، هل يفشي سرها لمخلوق وهو الذي ما تمنى يوما إلا سترها بين أضلعه خوفا عليها من النسيم!؟ وكيف السبيل إلى إخماد تلك النيران المستعرة بين جنبات روحه كلما هاجت ذكراها بداخله!؟ هل يذكر بذكراها هناء قلبه بحبها أم وجيعته بصدمة اعترافها!؟.
يموت قهرا وعليه أن يظهر فرحة طاغية، كيف لإنسان أن يموت ويحيا في نفس اللحظة!؟، يظهر الابتسامات على شفتيه وبين حنايا الصدر قلب يتمزق قهرا..
سالت دموعه رغما عنه، فالوجيعة أكثر وجعا من احتماله، انتفض ذعرا عندما استشعر الدموع المنسابة على صفحة وجهه، رفع كفه مغتالا إياها في شدة محاولا إنكار هطولها من الأساس، فما خُلقت من تجعل هذه العين الأبية تزرف الدمع العزيز! ولولا بعض من تعقل لهم بقلب الأمر برمته، لكن كم القلوب البريئة التي لم تجرم ستتحطم!؟، سهام أخته ومؤمن أخيها، لا ذنب لهما ولقلوبهما المعلقة فيما يحدث!؟، لو لم يدرك أن سهام لها رغبة قوية وميل قلبي نحو مؤمن ما كان أتم أمر الخطبة وليكن ما يكون، هي ستقبل الخطبة من أجل أخيها وسعادة قلبه وهو لن يكون أقل كرما منها وسيقبل بالخطبة كذلك من أجل سعادة أخته وهناء قلبها..
صدحت الزغاريد التي كان بانتظارها عمرا، زغاريد تؤكد أن الرد جاء من قبلها، وأنها وافقت على الارتباط به، وبالتأكيد وصل مؤمن موافقة سهام، لقد انتهى الأمر وصار رسميا، وعليه تقبله إن عاجلا أم آجلا.. اندفعت سهام لداخل غرفته، ليدخل من الشرفة فتبادره مهللة: يا سمير، سمية وافجت، سمية وافجت..
ابتسم سمير محاولا مشاكستها ومداراة أحزانه وهو يتقدم نحوها متسائلا: هو الهيصة دي كلها عشان سمية وافجت! ولا عشان الشيخ مؤمن نال الجبول!؟ ابتسمت سهام ونكست رأسها في حياء ما دفعه ليمازحها: شوفوا البت جال بتتكسف! الله يكون فعونك يا مؤمن يا خويا، هتاخد شروة چنان عچب.. اعترضت سهام مهمهة ليقهقه سمير وهو يقربها منه مقبلا جبينها هامسا في محبة: مبروك يا سهام، ربنا يتمم لك على خير يا رب..
تطلعت إليه سهام متعجبة وهتفت مؤكدة: يتمملنا، أنت مش حاطط نفسك فالحسبة ولا إيه!؟ ده فرحنا هيبجى فليلة واحدة، ومش هجبل إلا بكده، أنا أخرچ من هنا وسمية تدخل من هنا.. ذكرها حرك وجعا ممزوجا بلهفة ومحبة لم تنطفئ رغم ما كان، ما جعله يبتسم ابتسامة معجونة باضطراب وهو يهز رأسه موافقا دون أن ينبس بحرف، وكل ما جال بخاطره، أن الأمر قد يكون أصعب عليه مما كان يتخيل، لكن هل من مهرب!؟.
كانت قد بدأت في نقل ما لها ولأهلها بالطابق السفلي تاركة إياه يضرب اخماسا بأسداسا، وحيدا كعادته بالسطح، تطلع نحو ذهابهن وايابهن تاركا لهن المجال ليعملن على راحتهن دون اشعارهن بوجوده حتى لا يحجمهن الخجل، عيونه لا تبرح موضع ذهابها وإيابها، تحمل ما يزيد عن طاقتها فلابد لها أن تبدو بمظهر الرجل القادر..
انتفض غير قادر على تركها على هذا الوضع وهو يقوم فقط بدور المتفرج، تنحنح هاتفا وقد هبط الدرج من مخرجه المنفرد حتى أصبح قبالتهن، وصل فالوقت الذي كانت تحمل هذه الحقيبة الثقيلة، همت بدفعها لفوق رأسها لكنه استوقفها أمرا: عنك يا سماحة.. تطلعت إليه مبهورة: واه، كيف يا بيه!؟ ميصحش!؟ تجاهلها حاملا الحقيبة في يسر باتجاه الدار وتركها على بابها خوفا من الدخول وأخواتها على راحتهن..
عاد لموضعها ليجدها ما زالت متسمرة موضعها فهتف يونس بها: إيه!؟ هنيتوا الليلة هنا! ما تهم وتنچز، أني چوعت.. تنبهت مؤكدة: حاضر يا بيه، حلاً هنحضروا الغدا.. واندفعت في اتجاه الدار لتجهيز الغذاء تاركة الحجرة حيث كن يعيشن جميعا، بابها منفرج على مصراعيه..
تطلع يونس بالداخل، وجال بناظريه في أركانها متأسفا، ما الذي دفعها لمثل هذه الحياة!؟، ما الأمر الذي على أثره أصبح بينها وبين أولاد نجم ثأر بائت، والذي من الواضح أنهم على جهل به، لكنها مصرة على الأخذ بثأرها!؟، التساؤلات كثيرة ولا إجابة، كل الإجابات لديها هي، تلك التي تختبئ خلف مظهر رجولي خوفا من أن يجور الخلق على أخواتها وأمها وهي بالتبعية، لأنهم إناث وحيدات بلا ذكر يكون حاضرا لحمايتهن فقررت أن تكون هي ذكر الحماية لأهلها، لا يعلم ما إن كان ما أقدم عليه من تجاهل لحقيقتها في انتظارها هي لتعلن عنها بكامل حريتها أمر صائب! أم أنه عين الغباء!؟، لكنه يريدها أن تفصح بنفسها عن حقيقة وضعها بكامل إرادتها، يريدها أن تأتي لتحكي له عن كل ما يؤرقها، يريد أن يكون رجلها الذي اختارته ليحمل عنها أوجاع العالم التي أثقلت كاهلها، يريدها مختارة لا مكرهة، فهل ستأتي!؟.
تنهد وهم بالخروج من الغرفة التي وطأتها قدماه للمرة الأولى، لكن عيناه سقطت على بطاقة هوية ملقاة جانبا، يبدو أنها سقطت سهوا من إحدى الحقائب، انحنى يلتقطها متطلعا فيها فإذا بها بطاقة هويتها الشخصية، تطلع للاسم، سماحة جابر محروس القناوي، خانة النوع، ذكر.. حاول أن يتفرس في الملامح داخل الحجرة المعتمة لكنه ما تبينها، كانت لرجل يشبها بالفعل كأنه هو، لكن..
انتفض مخفيا البطاقة بجيب جلبابه عندما سمع بندائها من الخارج: يونس بيه، الغدا چهز يا يونس بيه.. اندفع خارج الغرفة ملبيا النداء وهو يحمل بطاقة هويتها، المزيفة..
طرقت حُسن على باب الشقة لتفتح نعمة مرحبة، دخلت حُسن مرتبكة تهتف في اضطراب وعيونها تجول هنا وهناك لعلها تلمح طيفه قبل أن تغادر: أنا جاية أسلم عليكم، عشان يعني خلاص.. هتف خميس متأثرا: يعز علينا بعادك يا حُسن، بس كده أحسن، ربنا يسعدك.. ربت على كتفها مودعا: تروحي وترجعي بالسلامة يا بنتي..
ابتسمت حُسن تغالب دموعها التي سبقتها نعمة إلى ذرفها حزنا على فراق رفيقة عمرها، اندفعت حُسن تحتضن شيماء التي لم تعقب فقد غصت بالدموع وهي تربت على كتفها في محبة، بينما اعتصرتها نعمة الجدة بين ذراعيها لا تريد أن تفلتها وهمست بها بلهجة عالمة ببواطن النفوس: بقولك إيه يا بت يا حُسن! لو مرتحتيش هناك تخدي بعضك وتنك راجعة على هنا، أوعي تنسي أن ليكي أهل هنا يعرفوا يحموكي ويحافظوا عليكي، ولولا إني عارفة إن بعادك ده مصلحة ربك جابها فوقتها مكنتش سبتك تبعدي أبدا..
ابعدتها نعمة الجدة عن صدرها مؤكدة: روحي يا حُسن، روحي وأكيد الروحة مش هطول، وربك ليه حكمته فكل أموره. ابتسمت لها حُسن من بين دموعها لتنهض تحتضن نعمة صديقتها وقد فاضت عيناها بالدموع مؤكدة لها: مش هسيبك يا نعمة، هتلاقيني نطالك واتس وفيس، وهنتكلم على طول، خلاص.. هزت نعمة رأسها في إيجاب لتندفع حُسن راحلة وهي تلقي التحية على عجالة..
ساد الصمت الشجي بين أفراد العائلة لم يقطعه إلا تثاؤب نادر الذي دخل من باب شقة جده الذي كان يجتمع فيها الكل، قادما من شقة أبيه بالأعلى لا يدري من أمر حُسن شيئا.. تطلع نحو وجوههم متعجبا: فيه إيه يا جدعان!؟ متوحدوا الله، فيه إيه! تنهدت نعمة وخميس: لا إله إلا الله.. نهضت نعمة باكية مندفعة لحجرتها بالأعلى ليتطلع نحوها نادر متسائلا: مالها دي! حد مزعلها ولا إيه!؟
هتفت شيماء التي قدمت من الداخل تمسح دموعها مفسرة: زعلانة على صاحبتها، حُسن مسافرة دلوقت مع عمتها..
انتفض موضعه يحاول السيطرة على ارتجافة قلبه بين أضلعه، نهض مندفعا للأعلى بدوره دون أن يعقب بحرف مثيرا تعجب أمه، متوجها نحو غرفته، فتح درج مكتبه وانتزع عقدها الصدئ من مخبئه مندفعا نحو الدرج يهبطه على عجالة حتى إذا ما وصل للأعتاب يهم بالاندفاع نحو بيتها إلا ووجد سيارة بن عمتها شعيل قد غادرت، هم بالركض خلفها لكن ملابس النوم التي ما وعى إلا اللحظة أنه غادر بها جعلته يتوقف موضعه لا يبرحه وهو يتابع ابتعاد العربة بناظريه وكفه يضم عقدها الذي ضم عليه بمجمل كفه في شدة، كان راغبا في التخلص منه حتى لا يبقى لديه ذكرى تخصها، فلتنل كل ما لديها وترحل إن كان هذا هو اختيارها، لكنها أبت إلا ترك ذاك العقد ليؤرق مضجع القلب الغافل.
اسبوع بالتمام والكمال مر ولم تطأ قدماها أرض حجرة القراءة، يكاد يجن، كيف لها أن تنقطع عن القراءة كل هذه المدة! إن القراءة بالنسبة لها كالماء والهواء، وهي مؤشره الوحيد أنها بدأت تعود لحالتها الطبيعية، وهذا أكثر ما يؤرقه ويثير ضيقه، لا يعلم هل هذا الضيق الذي يسيطر عليه جراء ارتكانها لحالة الركود هذه، بسبب رغبته في نسيانها محمد!؟ أم رغبة في عودتها لطبيعتها بلا أية أسباب أو دوافع!
تنهد وهو يحيد بناظريه عن حجرة القراءة التي أظلمت منذ أن غادرتها ولم تعد إليها.. واندفع مغادرا حجرته للمسجد، لم تحن صلاة العصر بعد لكنه رغب في التفريج عن نفسه ببعض ركعات في رحاب بيت الله. ما أن وطأت قدماه باب حجرته حتى أبصر ياسين أخوها مغادرا حجرة أخواته البنات التي تشاركهن إياها، وهو يحمل كتاب ما بين كفيه، كان يغادر الغرفة متأففا لا يعلم لما، وجد عاصم نفسه يشير لسمير ذو الثلاثة عشر ربيعا ليقترب..
سأله عاصم في لهفة حاول مداراتها: مين كان بيجرا الكتاب ده يا سمير! أكد ياسين حانقا: هيكون فيه غيرها!؟ زهرة أختي اللي مغلباني، هات الرواية دي، خد دي، رجع دي، زهقت، بس هقول إيه! بابا وماما منبهين عليا مزعلهاش، صبرني يا رب.. أمسك عاصم ضحكاته، متناولا الرواية من بين كفي ياسين هاتفا: خلاص يا سيدي ولا تزعل روحك، أنا هرچع الرواية بنفسي، إيه رأيك!؟ هتف ياسين مهللا: ينصر دينك يا واد عمي، تصدق إنك جدع!
قهقه عاصم لمزاح ياسين متسائلا: طب يا غلباوي، جالت لك عايزة رواية إيه مطرح دي!؟. هرش ياسين برأسه لبرهة هاتفا في اضطراب: يا دي النيلة، والنعمة ما فاكر، أنا كنت قاعد اسمع فاسمها المكعبل لحد ما أنت وقفتتي، اهو طار من بالي، ياللاه عشان تكمل، هرجع أسألها بقى.. هم ياسين بالعودة لحجرة زهرة لسؤالها إلا أن عاصم استوقفه هاتفا: لاه مفيش داعي، أنا عارف هي عايزة تجرا إيه، روح أنت وأنا هچيب لها الرواية..
هز ياسين رأسه موافقا بكل ترحاب مندفعا نحو شأنه، تطلع عاصم للرواية في سعادة متناهية، ها قد بدأت تقرأ من جديد، فهو يعلم تمام العلم أن ما من شىء قادر على إخراجها من عزلة روحها تلك إلا القراءة.
عاد لحجرته وبدأ في تفتيش الرواية باحثا كالعادة عن خطوطها الوردية، ليجد أخيرا بعد أن فتش الرواية للمرة الثانية سطر بأخر إحدى الصفحات، سطر واحد لا أكثر، لكنه حمل الكثير من المعاني قلب المرء بين إصبعين من يد الله، فهل مكتوب لقلبي أن تتحول قِبلته حتى أرتاح!
فتح عاصم حاسوبه الشخصي ودخل لصفحته وبدأ في كتابة السطر المميز الذي اختارته، وكذا اسم الرواية المأخوذ منها الاقتباس، وزيل المنشور بلقبه، شيخ العاشقين..
هم بنشر المنشور وغلق الحاسوب لكنه وجد نفسه يضيف هاشتاج جديد، خطوط وردية، ابتسم في رضا، وضغط زر النشر ونهض ليعيد الرواية موضعها، دخل غرفة القراءة وبدء في البحث عن رواية تحمل الطابع الذي تفضله، وقعت يده عليها، كان قد قرأها سابقا وأعجب بها، فقرر إرسالها إليها، حملها وصعد الدرج مترددا في الطرق على باب حجرة الفتيات، طرقه منتظرا، كان يتوقع أن تكون نوارة بالداخل، فهي الأقرب إليه والأعلم بسر قلبه، لكن الباب انفرج عن محيا سجود التي أعطاها الرواية مؤكدا في سرعة: الرواية دي لزهرة، باعتها لها ياسين..
تناولت سجود الرواية منه دون أن تعقب بحرف، بل هزت رأسها في تفهم ليندفع هو مبتعدا عن أعتاب الغرفة التي تضم محياها الذي يشتاقه اللحظة أكثر من شوق الغريق لنفس يهبه الحياة، لكن على الرغم من ذلك استشعر السعادة لمجرد اختياره رواية لها على ذوقه.. ناولت سجود الرواية لزهرة مؤكدة: الرواية أهي يا زهرة! ياسين بعتهالك.. تطلعت زهرة لعنوان الرواية هاتفة: بس مش هي دي الرواية اللي طلبتها منه، ياسين ده..
هتفت سجود تقاطعها مؤكدة: عاصم جال.. تنبهت زهرة عند ذكر عاصم وسجود تستطرد: أن ياسين هو اللي بعته بالرواية اللي طلبتها زهرة.. هزت زهرة رأسها في تفهم، ولم تعقب بحرف، بل لاح على شفتيها ابتسامة وهي تتطلع للرواية، وهمست باسمها وهي على يقين أنها من اختيار عاصم، وأنه جاء بها حتى باب غرفتها: وتربكها وجوه العشق.
ما عاد يعلم ما الذي يعتري ذاك الأحمق!؟، ألم يكن ذاك ما كان يرغب فيه! ابتعادها، إذن لم منذ لحظة رحيلها وهو على حال غير الحال، حتى أن الورشة التي كانت تنل جل وقته قد أهملها كليا، تاركا له الجمل بما حمل، وخاصة بعد سفر الأسطى ناصر لجلب بعض قطع الغيار، مقيما تقريبا على البنك بالشمندورة، مقهى جده، متعللا أنه يساعده، لا يعلم أن حاله أصبح مفضوحا لكل صاحب عقل، وهو جالسا يستمع لأغاني مذياع المقهى عيونه شاخصة على دار حُسن المعتمة، التي هجرها أهلها ورحلت هي مخلفة ورائها ذاك المغفل الذي لم يكن يدرك أنه غارق بهواها حتى النخاع..
تنهد راضي وهو يندفع نحو درج بيت المعلم خميس، صاعدا نحو شقته لطلب مفاتيح الورشة لفتحها، بعد أن تجاهل نادر ذلك، مؤكدا لنفسه: عشان كده، يغور العشج ومراره، أدي اللي بناخدوه من وچع الجلب، جلة الجيمة..
كان يحدث نفسه كالمجاذيب، ولم يتنبه في اندفاعه بتلك التي تندفع في هبوطها من السطح حاملة طبق الغسيل البلاستيكي، بعد أن قامت بنشر الغسيل بالأعلى، سقط الطبق جراء الارتطام، دار الطبق للحظة على الدرج محدثا دويا مكتوما ليسود الصمت بعدها ووضعهما أشبه بتماثيل محنطة، تقف بالدرج الأعلى درجتين، كفاها الرقيقتان تنام على كتفيه، وكفاه القويتين تحكمان الأطباق على الخصر الناحل الذي حيره لليال، عيونهما مذعورتي النظرة، وقد اندفع غطاء شعرها الذي كانت تضعه بشكل عشوائي على رأسها ساقطا أسفل قدميهما، تقف بينهما جديلتها شاهدة على ما يحدث بلا اتفاق بينهما..
تنبها سويا لوضعهما لينتفضا معا بنفس اللحظة، حتى أن لحظة تراجعها المتسرعة كادت أن تدفعها لتسقط مستندة عليه من جديد، لكنها تمالكت نفسها وكذلك هو الذي أدار لها ظهره يشمله الاضطراب من رأسه حتى أخمص قدميه، وهو يرى كفها يمتد ليجذب غطاء شعرها الساقط بقرب قدمه..
وقف موضعه لبرهة لا يعلم هل كان صاعدا أم هابطا، وماذا كان يريد من الأساس! لذا لم يجد نفسه إلا وهو يندفع من جديد هابطا الدرج في اتجاه الخارج، لا يعلم إلى أين، لكن كل ما كان يجول بخاطره هو الهروب، الهرب وبأقصى سرعة من هذه المشاعر التي تحييها ذات الجديلة بأعماقه، تلك المشاعر التي أقسم أنه لن يسمح لها بالولوج لقلبه مهما كانت المغريات..
خطوات ووجد نفسه أمام الورشة والتي كانت مفاتيحها على ما يبدو مع نادر الذي تأخر في فتحها، جاعلا إياه يعتقد أنه أهمل ذلك كما فعل عدة مرات من قبل، وكأن كل ما حدث كان من أجل ذاك اللقاء الخاطف بينهما والذي على ما يبدو كان مقدرا.. ألقى التحية في عجالة على نادر وصبيه، وبدأ في العمل بشكل آلي لكن عقله ومجمل خاطره مع تلك اللحظات الخاطفة التي أسرت قلبه وخطفت روحه بلا رجعة..
دفع باب شقته التي يسكنها وحيدا عندما ينزل للقاهرة بعيدا عن نجع الصالح والتي أصبحت مستقره منذ آخر خلاف حدث بينه وبين جدته، دخل واغلق الباب في رفق متنهدا وهو يلقي بحقيبة ملابسه يستشعر ارهاقا شديدا فدفع بجسده للجلوس على اقرب مقعد متطلعا حوله فقد اطال الغيبة هذه المرة ولم ينزل أي إجازة فعلية منذ فترة..
هم بالنهوض ليأخذ حماما دافئا ويخلد لنوم عميق، إلا أن هاتفه بدأ في ارسال بعض الإشعارات، ما دفعه ليخرجه من جيب سترته متطلعا نحو شاشته محاولا أن لا يدفعه الشوق إلى مراجعة حسابها الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي..
لكن كفه لم تستطع أن تكبح جماح تلك الرغبة، ليتطلع لصورتها التي كانت تضعها لحسابها بتلك الابتسامة الشقية التي تخلب لبه، وابتسم متذكرا أنها نفس الصورة التي طلب منها عدم وضعها لغيرته التي فسرتها الحمقاء وقتها أنها نوع من التحكم، ورغبة في فرض السيطرة..
ابتسم من جديد للصورة، ومرر أصابعه على الوجه البشوش قبالته في حنين جارف إليها، لكن ما استرع انتباهه هنا أنها لم تغير تلك الصورة منذ فترة ليست بالقليلة، وهي أبدا لم تكن تلك المتشبثة، بل دوما ما كانت ملولة وتغير صورتها كل عدة أيام، فلا تستقر على صورة مفضلة، بل تتنقل بينهن دوما، ظل على حيرته والتي زادت وتيرتها عندما انحدر ناظره لمحتويات الصفحة، لقد كان آخر ما نشرته منذ أسابيع أيضا، كان كلمات مقتضبة مقتبسة من رواية ما عن الحنين وروحك الغائبة التي فارقتك وأنت ما تزال حيا..
تسارعت ضربات خافقه قلقا، ماذا يعني كل هذا!؟.
اندفع إلى تطبيق الواتساب باحثا في عجالة عن رقمها، فتنهد في راحة عندما وجدها تضع حالة منذ ساعات، تردد في صراع محموم بين رغبته في سماع أي شيء مهما كان تافها يمت لصلة بها، وما بين رغبته في عدم معرفتها أنه مهتم وقد سمع الحالة التي تضعها، والتي قد تكون رسالة ما مبطنة له، هزه الخاطر الأخير ليضرب بتعقله عرض الحائط وضغطت أصابعه على حالة الواتساب الخاصة بها ليتناهى لمسامعه أغنية تصف حالتها:.
أغيب وأقول دا زمانه نسيني.. ما هو لو ينسى هينسيني.. طول ما هو فاكر، هفضل فاكر.. أيوه امال أنا بسأل ليه.. دمعت عيناه وقد مزقت أوصال ثباته تلك الرسالة، التي جاءت لتخبره أن قلبها ما زال معلقا به، وأنها لم تنسه كما كان يعتقد، أعاد تكرار الأغنية وكأنما هي طقس مازوخي لتعذيب ذاته، وأخيرا وضع مقطع أخر من نفس الأغنية كحالة له، فقد كان عليه أن يرد الهدية بمثلها: أداري إيه أنا ولا إيه!؟
دا أنا يا شوق فيا اللي فيه.. دا حالي أصعب من حاله.. جرالي أكتر ما جراله.. نشر المقطع، وترك هاتفه مندفعا نحو الحمام، يبرد نار الوجد المشتعل بين حنايا صدره، ولم يدرك بعد أن هناك على الطرف الأخر قلب اضناه الشوق إليه، يقفز فرحا ما أن أبصر اسمه من بين من شاهدوا الحالة..
وكاد القلب وصاحبته أن يرقصا طربا ما أن شاهدت حالته التي وضعها، والتي تخبرها أنه ما يزال على عهد الهوى ولم يتحول قلبه، ورغم ذلك، لم تستطع إلا أن تنفجر باكية، فقد هز الشوق دواخلها كزلزال مدمر، ولم تكن تدري أن تسبيح أنها تراقب ما يحدث دون أن تعقب، لكنها دخلت الغرفة على حازم متنهدة في وجيعة: البت لسه قلبها متعلج يا حازم! وجلبي موچع عليها وعليه! تنهد حازم مؤكدا: بأيدينا إيه ومعملنهوش! ربنا يقرب البعيد..
هزت تسبيح رأسها في قلة حيلة ولم تعقب..
كان يجلس بالأعلى حيث سطح دار الحناوي في انتظار جلبها لأكواب الشاي، شرد قليلا في أمرهما وما قد يؤول إليه.. تنبه عندما تناهى لمسامعه خطوات متمهلة تصعد الدرج الداخلي، لابد وأنها هي وقد أحضرت بالفعل الشاي.. وصلت لأعتاب السطح وما أن ظهرت حتى انتفض هو في هلع صارخا في تحذير: حاسبي..
لم تفطن لندائه المحذر، فقد تعرقلت متعثرة في جلبابها الرجولي الواسع وهي تحمل ركوة النار بمجملها، لا صينية الشاي كما كان يعتقد، ارتطمت الركوة بأرض السطح الأسمنتية محدثة دويا.. فاندفع يونس نحوها يلحق بها وكل ما يجول بخاطره هو ذاك الفحم الذي كان يعلم أنه كان موقدا منذ فترة بسيطة، ولا علم له إن كانت قد اشعلته بالفعل قبل صعودها! أم أنه مجرد فحم خام لم تضرم النار فيه بعد!؟
مد كفيه لموضع سقوطها مساعدا إياها على النهوض، جاذبا إياها نحو صنبور مياه جانبي، فتحه في عجالة ممسكا بكفيها يضعهما أسفل الماء الجاري مهدئا اثر الحريق الذي لم يكن بكفيها بقدر ما كان هناك بموضع خافقها الذي ذاب للمسه كفه وهلعه البادي على محياه ذعرا عليها..
لا شيء يقتلها فيه عشقا قدر ذاك الحنان الطاغي الذي يتلبس كل أفعاله وخاصة بعد عودته من زياره أهله، لا تعرف السبب لذلك، لكن ذاك الحنو القاهر لكل دفاعاتها ما عاد لديها القدرة على صده.. تطلعت نحوه هامسة بصوت متحشرج وهي تجذب كفيها من بين احضان كفه مبعدة إياهما عن مجرى الماء: أني كويس يا يونس بيه!؟.
تنبه يونس لفعلته، فاضطرب لكشفه بعض من مشاعره التي كان يحجمها هاتفا في حنق عاتبا: مش تاخد لبالك يا مخبل، مين جالك تطلع بالركوة كلها على هنا!؟ ما كنت سبتها متلجحة تحت.. أكدت سماحة مفسرة: جلت إن جعدتك كلها بتبجي فوج، فأچيب الركوة لچنابك على هنا.. تنهد يونس محاولا تفادي النظر نحوها هاتفا في لهجة مصطنعة الحنق: خلصنا، ابجى خد لبالك بعد كده، مش ناجصين مصايب.
صمتت ولم تعقب، وتوجهت نحو الفحم المبعثر هنا وهناك من أجل جمعه بالركوة من جديد وتنظيف المكان، لكن يونس وعى لفعلتها فهتف متسائلا: أنت بتعمل إيه!؟ هتفت مفسرة بنبرة حاولت أن تخرجها ثابتة بلا أي اهتزاز: هنضف المكان واشيلك الفحم يا بيه.. جز يونس على أسنانه في ضيق هاتفا: يتحرج، سيبه وروح.. وقفت موضعها ساكنة ولم تنبس بحرف ما كاد يدفعه لحافة الجنون حرفيا، فكان يقسو وقت ما كان عليه أن يشفق ويحنو..
وصمتها وسكونها الخانع ذاك يحرك قلبه اللين في الأساس للمزيد من العطف نحوها. هتف يونس من جديد محاولا خفض نبرته الحانقة تلك: روح يا سماحة، روح ارتاح، أنت تعبت النهاردة.. هزت رأسها في طاعة واندفعت نحو باب السطح راحلة تاركة إياه يتبعها بناظريه وقلبه، الذي أضحى معلقا بها ما بين ليلة وضحاها..
غابت فتنهد يونس في قلة حيلة وبدأ في تنظيف المكان مترنما في شجن بموال عن العشق ونيرانه المستعرة في قلب ما خبر العشق يوما، وهو الذي كان يعتقد أنه عاشق من الدرجة الأولى، فإذا به يوم رآها ، أيقن أنه كان يمثل دور العشق..
كانت تحتاج لهذه الرحلة الطويلة، كانت ترغب في تجربة أمور لم تجربها من قبل، ركوب القطار كان أمرا لم تعتده ولم تقدم على التفكير في تجربته نظرا لوجود العربة وسائقها لنقلها لأي مكان ترغب، وكذا الطائرة إذا ما كان الأمر طارئ أو لا يحتمل التأجيل، لكن القطار كان أخر خياراتها والذي أصبح اليوم أولها، فما كان الأمر يحمل أي قدر من التعجل، كان الوقت كله ملكها منذ أن قررت السفر للنجع بناء على توصية من جدها زكريا حتى تخرج من هذه الحالة التي تتلبسها منذ ما حدث مع نزار، ومحاولة اختطافها وتلك الصور الملفقة لهما التي انتشرت بطول اسكندرية وعرضها، وكذا رد فعله الغير متوقع، لقد تجاهل الأمر كليا، حتى أنه لم يفكر في زيادة أبيها وتبرير أمر اصطحابها لطبيبه المعالج والصور التي تم ألتقاطها لهما على درج بنايته، لا إعادتها لبيت والدها ما زاد الطين بلة..
كان رد فعله مخيبا لأملها وظنها، كانت متوقعة منه أن يهرع فور سماعه بما حدث ورؤيته للصور المزيفة إلى بيتها ل.. توقفت عن الاسترسال في خواطرها ناهرة نفسها في شدة: كفاية بقى، أرحمي نفسك، بطلي تفكير في المفروض واللي كان لازم، نزار مكنش ينفع يعمل حاجة عشان هو راجل متجوز، وأكيد عنده مشكلة مع مراته بسبب الصور دي زيك بالظبط، أكتر من إنه انقذك، ده هايبقى افترى منك، ملكيش عنده حاجة يا فريدة، فوقي بقى..
هزت رأسها عدة مرات بشكل لا واعي ما دفع ذاك الذي كان يجلس جوارها يتنبه لما تفعل، فسأل في أدب: أنتِ كويسة يا آنسة! تنبهت لصوت مجاور يسألها، ما دفعها لتوجه ناظرها إليه في تعجب، متى جاء ليجلس جوارها!؟، فطوال الثلاث ساعات المنصرمة من رحلتها منذ ركوبها القطار لم يتقدم أحد ليجلس جوارها.. ردت في نبرة رسمية: أه تمام، شكرا..
لم يشأ أن يتطفل عليها ما دفعه ليعيد مقعده للخلف قليلا مشبكا كفيه على صدره في محاولة للنوم، أغمض عينيه لكنه لم يفلح في النعاس، وظل على يقظته وصوت سماعات الأذن التي وضعتها اللحظة عال بما فيه الكفاية ليصله تردد أغانيها التي كانت تستمع إليها وهي تتطلع من نافذة القطار على المناظر المتتابعة قبالة ناظريها.
كانت على يقين أنه لن يترك الأمر يمر هكذا دون أن يتصرف ما أن يصله علم بما فعلته معها جدتها، يقينها ذاك أقلقها كثيرا، فقد خافت أن يكون بغير محله، وأنه سيركن لما آلت إليه الأوضاع دون محاولة تغييرها..
تسللت ليلا، وهبطت على مهل تلك الشجرة الملاصقة لشرفة حجرة نومها، مندفعة نحو اسطبل عنتر وبدأت في تفتيش سرجه، لتشهق في صدمة وهي تُخرج جوالا وخطاب ما ملصقا به، ألقت بهما في جيب سترتها وعادت أدراجها تتسلق الشجرة القصيرة التي كانت أشبه بدرج منها لشجرة، وكأنما الطبيعة كانت أحن عليها لتهبها هذا المخرج الذي استعملته منذ كانت طفلة صغيرة لتهرب من سطوة وجبروت جدتها هي وبن خالها منتصر، تذكر كم كان الحبس من نصيبها عقابا على أبسط الأخطاء أو الهفوات، ليساعدها منتصر على تعلم كيفية الهرب باستخدام هذه الشجرة المنقذة، لتخرج بضع ساعات من عزلتها الإجبارية لتشاركه لهوه ومرحه قبل أن يتم الفصل بينهما من جديد عندما كان يُرسل كلاهما لمدرسته الداخلية وحيدا من جديد..
استطاعت الوصول للشرفة صعودا، وتنفست الصعداء عندما أصبحت داخل حجرتها، فجل ما كانت تخشاه هو زيارة جدتها المباغتة لحجرتها لتكتشف عندها عدم وجودها، أخرجت الرسالة والهاتف مطمئنة أنها أغلقت باب الغرفة بالمفتاح قبل قيامها بمغامرتها، دق قلبها في سرعة غير عادية وهي تفض رسالته في شوق قاهر لمحياه، كلمات مقتضبة كانت مخطوطة:.
افتحي الموبيل أول ما يوصلك، أنا مسجل عليه نمرتي بس، رني عليا أول ما يوصلك وطمنيني، ضروري تركت الرسالة جانبا، وضغطت ذر فتح الهاتف وكتمت صوته، وجدت النمرة الوحيدة بالجهاز فدقت عليها في وجل... انتفض مروان موضعه ما أن أتاه اسمها منيرا شاشة هاتفه ليندفع مجيبا في لهفة: ألو، ألوو، أية! همست بصوت متحشرج تأثرا: أيوه يا مروان، أنا.. دمعت عيناها ولم تستطع أن تكمل ليستطرد هو في لهفة: أنتِ، وحشتيني..
شهقت، وانسابت دموعها في لوعة ليهمس هو تأثرا لدموعها: أنا آسف، أنا عارف إني السبب في كل اللي بيحصل لك ده، أنا.. قاطعته أية مؤكدة: مش أنت السبب يا مروان، على الأقل مش السبب الأساسي، في حكايات قديمة بين عيلتنا وعيلتكم، إيه هي!، أنا معرفش، ده غير إن ستي وجيدة مصممة على جوازي من ابن خالي، منتصر، و قاطعها مروان في حنق: منتصر مين! محدش أحق بيكي مني، أنا، أنا بحبك يا أية، أنا عايزك جنبي..
شهقت في صدمة، ثم انفجرت باكية، هل اعترف بحبها اللحظة! كان عليها أن تكون أسعد البنات الآن، لكن اعترافه ذاك رغم روعته، ورغبتها في سماعه ملايين المرات بلا توقف، إلا أنه يحملها حملا لا تظن أنها قادرة على حمله.. همس مروان من جديد يحاول طمأنتها: مش هتكوني لحد غيري يا أية، مش لو ستك بس اللي وقفت قصادنا، لا، لو العالم كله، برضو مش هتكوني لغيري..
طرقات على بابها وهتاف جدتها بالخارج معترضة على غلقها باب الحجرة بالمفتاح صارخة: بتعملي إيه چوه! افتحي الباب حلاً.. اضطربت حتى أنها ألقت بالهاتف تحت أحد الأغطية، لتندفع جدتها داخل الحجرة هاتفة في سخط: جافلة عليكِ ليه!؟ وكنت بتحدتي مين!؟. هتفت أية تحاول السيطرة على اضطرابها: هكلم مين يعني يا ستي! كنت بكلم روحي من زهجي..
تطلعت وجيدة حولها في عدم اقتناع وما أن وقع ناظرها على محيا أية حتى تساءلت في حنق: وكنتي بتبكي ليه!؟، على عمرك!؟ بدل ما تفرحي إنك هاتبجي عروسة منتصر باشا على سن ورمح، بتبكيلي!، بنات إيه دوول! بس هجول إيه!، الطينة من العچينة.. هتفت الخادمة التي وقفت على أعتاب الحجرة لوجيدة: في ضيفة منتظراكِ تحت يا ست وچيدة.. تساءلت وجيدة في لا مبالاة: ضيفة مين يا بت! مجلتش اسمها!؟ أكدت الخادمة: اسمها ثريا يا ستي..
لم تهتم وجيدة بالاسم الذي لم يخلق رنينه على مسامعها أي رد فعل غريب يذكر، لكنها أمرت الخادمة: جدميلها واچبها وأني نازلة لها.. انصرفت الخادمة لتتطلع وجيدة لأية من جديد أمرة: چهزي حالك، واد خالك المفروض ينزل اجازة عن جريب، أول ما ياچي من غير شر هنكتبوا الكتاب..
انهت أمرها في هدوء، وأغلقت الباب خلفها ورحلت لا مبالية، ما دفع أية لتتأكد من ابتعادها، لتغلق باب الحجرة بالمفتاح من جديد، باحثة عن الهاتف، الذي اكتشفت أنها في خضم اصطرابها، نسيت إغلاقه، وأن مروان كان على الخط المفتوح وسمع كل الحديث الذي دار.. هتفت به: مروان، مروان.. هتف بها في صدمة: هي قالت الست اللي جات لها تحت ونزلت تقابلها اسمها إيه! أكدت أية: اسمها ثريا، ليه! أكد مروان في اضطراب: دي أمي يا أية..
شهقت أية في صدمة، لا تعلم ما عليها فعله، وأمه ها هنا، تقف مدافعة عن ولدها أمام جبروت جدتها الذي تعرف مقداره، والذي عايشته سنين عمرها وما زالت، فما العمل!
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر
هبطت وجيدة الدرج في هوادة وعيناها على تلك التي تجلس في بهو الدار تتطلع حولها في فضول، وما أن وصلت لموضعها حتى هتفت في ثبات: يا مرحب، شرفتي.. هتفت ثريا في نبرة ثابتة: مش عارفة هتجولي كده بعد ما تعرفي أنا مين ولا لاه.. هتفت وجيدة متسائلة: الضيف على راسنا أي كان مين، بس برضك أحب أعرف، أنتِ مين!؟، وشك مش غريب عليٌ..
هتفت ثريا مؤكدة: أنا الباشمهندسة ثريا سعيد الشيمي، مرات الباشمهندس سيد سليم الهواري، أكيد الاسم ده هتفتكريه كويس.. اضطربت وجيدة وتلبدت سحنتها وهتفت بنبرة عدائية: خير!؟ ابتسمت ثريا ابتسامة الواثق هاتفة: ما دام غيرتي طريقة كلامك معايا، يبقى أكيد افتكرتي ومش ناسية.. هتفت وجيدة مؤكدة بدورها: والله أني نسيت الهوارية وكل اللي بياچي من عنديهم، بس الظاهر هم اللي مش ناويين ينسونا، ويسيبونا فحالنا..
هتفت ثريا بنبرة هادئة: ننسى إيه!؟ وننساكم ليه! ما خلاص يا حاچة وچيدة اللي كان ده من زمن وولى، وسيد رغم اللي حصل فدراعه مجدمش بلاغ على ولدك چعفر، والموضوع اتجفل، يعني جدمنا الطيب من زمن، إيه في تاني!؟ هتفت وجيدة منتفضة في حنق: فيه كتير، وخلصنا، الموال ده انتهينا منيه، فارجونا بجى وسيبونا فحالنا..
هتفت ثريا بنبرة هادئة في محاولة لضبط النفس: بصي يا حاچة وچيدة، رغم إن چوزي هو اللي اتأذي من ولدك، لكن عمره ما فكر يضره، ولو كان سيد فكر ساعتها إنه يحبس ولدك چعفر مكنش حد هيلومه، واد ولدك حضرة الظابط اللي بتتباهي بيه فالرايحة والچاية، واللي استخسرتيه في بتنا، عمره ما كان هيعتب كلية الشرطة ولا يفكر فيها من أساسه لو مكنش سيد اختار الطيب ومبلغش عن ولدك..
رمقتها وجيدة بنظرة حانقة تقطر غضبا مكبوتا ولم تعقب لتستطرد ثريا هاتفة في ثبات واثق: أني مش بمن لا سمح الله، ولا چاية أجول رد چميل للي عمله چوزي واللي يده لساتها على حالها عاچزة، لكن كل اللي بجوله نفتحوا صفحة چديدة، مهما كان اللي فجلبك ونيتك من ناحية الهوارية نصفوه..
ومدت ثريا كفها هاتفة: وأدي يدي أهي، بمدها بالطيب من تاني، لجل ما نريح جلوب عيالنا، وحضرة الظابط يفرح باللي رايدها جلبه ونطلب يد بت بتك لولدي ال.. هتفت وجيدة مقاطعة إياها في سخرية ولم تعر كفها الممدودة بالا: ولدك إيه! العاچز!
دمعت عينا ثريا بعد هذه اللفظة التي أطلقتها على ولدها، لكنها حاولت الصمود بقوة ووجيدة تستطرد في عنجهية وكبر: يعني عايزاني اچوز حضرة الظابط لبتكم، اديكم راچل ملو هدومه جيمة ومركز، وتدوا بت بتي راچل عاچز، فين جسمة العدل يا باشمهندسة! ده حتى أنتِ كلك نظر..
همت ثريا بالحديث إلا أن هتاف مروان على كرسيه المدولب، من خلفه خفيره يدفعه، هو الذي قطع الحديث أمرا: ماما، مفيش أي كلمة تتقال تاني بعد اللي الحاجة وجيدة قالته..
اندفعت ثريا تقف خلف ولدها ممسكة بذراعي كرسيه المدولب بعد أن تنحى خفيره للخلف مفسحا لها المجال، وما أن همت ثريا بالاستدارة بالمقعد مستعدة للرحيل إلا واستوقفها مروان بإشارة من كفه، متطلعا نحو وجيدة هاتفا في حزم: أنتِ صح، مش هلومك على اللي قولتيه، واللي كان ممكن يكون رد أي حد فمكانك، بس هقولك كلمة واحدة، أنا راجع تاني، راجع لما أنا أشوف إني استحق أية، وساعتها برضاكِ أو لا، هاخدها من السجن ده، عن إذنك..
تحركت ثريا دافعة كرسيه أمامها راحلة، تاركين وجيدة تغلي غضبا، بينما أية تقف بالأعلى متوارية خلف أحد الأعمدة تتابع المشهد ودموعها تنساب على خديها في سخاء، وما أن أدركت رحيل مروان وأمه إلا واندفعت في اتجاه حجرتها ومنها للشرفة متطلعة نحو ثريا وهي تدفع كرسي ولدها حتى وصلا لباب السيارة ليساعده الخفير على ركوبها وأمه جواره..
كانت تعتقد أن هذه هي نهاية علاقتها بمروان، وان ما قالته جدتها بالأسفل كفيل بتدمير علاقتهما للأبد، وأن كلماته الأخيرة لها ما كانت إلا لحفظ ماء الوجه واسترداد لكبرياء أمه ليس إلا، لكن كفه التي أخرجها الآن من نافذة السيارة مشيرا لها مودعا، جعلتها تبتسم من بين دموعها لتختلط الضحكات بشهقات الدمع وقد أيقنت أنه ما زال على العهد، ولن يحيد قلبه عن قِبلة عشقها مهما حدث..
خرج منتصر بعد أن أتم مع قائده ومجموعته هذا الاجتماع الذي يحدد خطة الهجوم على مجموعة في سبيلها تسليم شحنة ضخمة من المخدرات، كانت المجموعة تجمع عن هذه العصابة الكثير من المعلومات في خلال الشهور الماضية وحان الوقت للقيام بمأمورية للإيقاع بهم.. اندفع وحيد صديق منتصر يجاوره هاتفا: أنت إيه رأيك يا باشا! هنقدر نمسكهم المرة دي! هتف منتصر بلا مبالاة: هيحصل بإذن الله، هم هيروحوا منكم فين!
هتف وحيد متعجبا: منكم! أنت مش معانا ولا إيه!؟ هتف منتصر مغيرا الموضوع مازحا: مقلتش بقى يا عريس! الجواز حلو ولا نصرف نظر! ابتسم وحيدا في هيام: حلو قوي يا جدع، ياللاه عقبال ما أشوفك مدهول زيي.. ابتسم منتصر في شجن: خلينا فاللي إحنا فيه، كفاية علينا مدهول واحد.. هم وحيد بالاعتراض إلا أن هاتفه رن ليبتسم في عشق مؤكدا وهو ينظر لشاشة الهاتف: دي المدام يا وحش، أكيد بتطمن عليا..
ربت منتصر على كتفه وهو يستأذنه مبتعدا للرد عليها، خطوات بسيطة وانتفض منتصر عندما سمع صرخات وحيد المهللة، والذي اندفع نحو منتصر يضمه في فرحة غامرة هاتفا في سعادة طاغية: هبقى أب يا منتصر، هبقى أب.. قهقه منتصر يشاركه سعادته، مؤكدا وهو يضمه في قوة رابتا على ظهره في محبة: الف مبروك يا وحيد، هتبقى أحسن أب فالدنيا، مبروك يا بطل..
هتف وحيد متعجلا: اه لو مكناش طالعين المأمورية دلوقتي، لكنت طرت على هناك، عايز اطمن عليها.. هتف منتصر باسما: نطلع ونرجع بالسلامة وطلبات البيبي كلها هدية مني يا باشا، بس يوصل على خير وهعلمه ضرب النار أول ما يوصل ست شهور.. قهقه وحيد: ولو بنت!؟ أكد منتصر مهمهما: لا لو بنت بقى، دي عايزة لها تحضيرات، هتجوز لها مخصوص عشان أجيب لها عريس، إحنا صعايدة ومعندناش بنات تتجوز بره، واد عمها أولى بيها..
قهقه وحيد في سعادة رابتا على كتف منتصر وهما في سبيلهما لتجهيز العدة للخروج لمأموريتهما المرتقبة..
دخل يونس إلى الحمام، كان القصد هو أخذه لحمام دافئ، لكن نيته الحقيقة كانت مشاكستها، لا يعلم لم يفعل ذلك!؟، ولم لم يظهر لها معرفته بالحقيقة وكشفه لهويتها!؟، كان يستمتع بشكل كبير بمصاحبتها والجلوس إليها يكتم ضحكاته على غفلته وحمقه، فكيف لم يكتشف كونها امرأة وهي بهذا القرب، كيف لم يفضح سرها وهي تعيش معه يظلهما سقف بيت واحد!؟ يبدو أن غرقه في حزنه على هواه الضائع بعد رفض سهام الاقتران به أعمى عينيه وغشي بصيرته عن إدراك حقائق الأمور وخاصة حقيقتها..
ملأ المغطس بالماء الدافئ والكثير من صابون الاستحمام الذي وضعه بوفرة مخلفا رغوة كثيفة، وأخيرا مد كفه للسخان الكهربائي وعبث ببعض أسلاكه حتى يخربه وأخيرا خلع ملابسه ودفع بجسده ليتمدد داخل المغطس، لحظات وهتف باسمها في حنق: يا واد يا سماحة.. كرر نداءه عدة مرات ليظهر سماحة يقف على أعتاب باب الحمام الذي اشرع بابه قليلا وهتف من الخارج: أمرك يا بيه..
هتف يونس متعللا: تعالى خش شوف المدعوج السخان ده فيه إيه!؟. تنحنح سماحة مؤكدا بصوت متحشرج حرجا كاد أن يدفع الضحكات لحنجرة يونس والتي وأدها وهو يستمع إلى اعذاره: مبفهمش أني يا بيه فالكهربا والحاچات دي، هرمح اچيب لك الكهربائي وأرچع طوالي.. هتف يونس يوقفه متأففا: تچيب مين يا مخبل أنت وأنا على حالي ده!؟، روح سخن لي شوية ماية وهاتهم إچري.. هتف سماحة مطاوعا: حلاً يا بيه..
غاب سماحة لبعض الوقت تاركا يونس يتمدد بالماء الدافئ مستمتعا بمشاغبتها وخاصة عندما طرق سماحة الباب الذي كان ما يزل مشرعا حاملا الماء الساخن هاتفا في اضطراب: المية يا بيه.. هتف يونس ساخرا: أچي أخدها يعني ولا إيه!؟، متجيبها خلونا نخلصوا فيومنا ده..
تردد سماحة قليلا وأخيرا دخل حاملا الماء الساخن يصبه في طبق بلاستيكي عميق كان بالقرب، كانت عيناه معلقة بموضع قدمه لا يرفعها نحو ذاك المنفرج الأسارير الممدد في المغطس، قرب الطبق مع أبريق من الصاج لموضع المغطس هاتفا ليونس بصوت متحشرج: أها يا بيه، تأمر بخدمة تانية! كان سماحة يهتف بتساؤله وهو مندفعا للخارج أساسا لكن يونس استوقفه أمرا: أه تعالى ياللاه إدعك لي ضهري..
انتفضت سماحة لا تقو على النظر نحو تلك اللوفة التي مد بها يونس كفه وهتفت متحججة وهي تندفع للخارج مهرولة متعللة بمصيبة ما سوف تقع لنسيانها أمرا ما، لم يدرك يونس كنهه وقد انفجر ضاحكا من ردة فعلها..
خرجت من محطة القطار تتلفت حولها بحثا عن عبدالباسط السائق الخاص بجدها عاصم وأهل بيته، وأخيرا هتف بها عبدالباسط وهو قادم مندفعا إليها: السلام عليكم، بجالك كتير واصلة يا أستاذة، معلش حجك عليٌ، أنا كنت بصلي العصر جلت الجطر هيتأخر شوية.. هتفت فريدة بابتسامة لكل هذه التبريرات: ولا يهمك يا عم عبدالباسط، أنا لسه خارجة حالا من المحطة، موقفتش كتير ولا حاجة..
هتف عبدالباسط وهو يتناول حقيبتها الوحيدة مندفعا نحو السيارة: طب الحمد لله، اتفضلي يا أستاذة، اتفضلي.. صعدت فريدة العربة التي ما أن سارت بضع خطوات ألا وتوقفت فجأة، هاتفا عبدالباسط في ترحاب لأحدهم، شخص ما لم تتبينه فريدة من موضعها: كيفك يا باشمهندس، ما تتفضل نوصلولك فطريجنا.. هتف الرجل الغريب منحنيا نحو عبدالباسط متطلعا نحو فريدة هاتفا: لحسن نضايق الأستاذة يا عبدالباسط!؟
لم تفه فريدة بحرف لكنها أدركت أنه رفيق رحلة القطار الذي كان يجلس جوارها، هتف عبدالباسط مؤكدا: لاه اتفضل، حتى نردوا چميلك مع الدكتورة نوارة جبل سابج.. واستدار نحو فريدة متسائلا: ولا يضايجك يا أستاذة!؟ ابتسمت فريدة مؤكدة: لا مفيش أي مضايقة خالص، ده ليه جميل عندنا، يبقى لازم نرده، وحتى لو ملوش، واضح إنه جار، والجيران لبعضها، ولا إيه! أكد عبدالباسط في حماسة: معلوم يا أستاذة.
ودفع باب السيارة المجاور لمقعده هاتفا في ترحاب: اتفضل يا باشمهندس، اتفضل.. حصلنا البركة.. صعد الرجل جوار عبدالباسط وساد الصمت لبرهة قبل أن يستدير الرجل قليلا مادا كفه نحو فريدة معرفا نفسه: باشمهندس سامر شحاتة.. مدت فريدة كفها في رسمية اكتسبتها من لقاءات العمل التي كانت تقوم بها هاتفة بلهجة ثابتة: فريدة الهواري، اتشرفت بحضرتك..
كانت متعمدة ألا تخبره عن وظيفتها ولا من تكون بالتفصيل، فقد جاءت إلى هنا بغية أن تنسى ولو قليلا إسكندرية وكل ما كان فيها من أحداث في الفترة السابقة.. ابتسم ابتسامة مغتصبة، وعاد مستقيما بموضعه من جديد وهو يهمس في تيه: الشرف ليا.. ساد الصمت لفترة، وعلى مشارف نجع السليمانية هتف سامر: خلاص هنا يا عم عبدالباسط، كتر خيرك.. أكد عبد الباسط في أريحية: وليه يا باشمهندس، ما نوصلوك لحد البيت الكببر..
أكد سامر في إصرار وهو يندفع خارج العربة: ملوش لازمة يا راجل يا طيب، دول هم خطوتين وأبقى هناك.. وانحنى قليلا متطلعا نحو فريدة هاتفا: حمد الله بسلامة حضرتك، ومتشكر جدا ع التوصيلة.. وهتف بالتحية موليا ظهره، في اتجاه ذاك الطريق الترابي الطويل نسبيا والذي يلوح بنهايته، بيت كبير يبدو أن هذا ما كان يقصده..
اندفع عبدالباسط مستكملا طريقه نحو نجع الصالح، حتى يعاود الطريق من جديد بعد حوالي الساعتين لأخذ الدكتورة نوارة من مقر عملها هنا، حيث نجع السليمانية..
هبطت الطائرة وانهوا الإجراءات اللازمة، كان قلبها وجلا لا يتوقف عن الوجيب لحظة، ها قد تركت موضع عاشت فيه عمرا بأكمله وانتقلت لموضع أخر بلد أخر لا تعرف هل تتكيف على العيش فيه أم لا..
وهل البعاد سيكون هو الدواء الشافي والمخلص لذاك الالم الذي كان يعتصر قلبها اعتصارا عندما كانت السيارة تبتعد عن الحارة مترا استشعرت روحها تزهق بكفين من شوق قادم لا محالة، بل إنه حاضر قبل أن تبتعد خطوات حتى، يقولون إن الشوق للبعيد والغائب، لا يدركون أن الشوق يمكن أن يكون لشخص أقرب إليك من انفاسك وحاضر بين حنايا ذاكرتك كأنه ما غاب عن ناظريك لحظة، موشوم على جدار القلب الموجوع بعشقه، وذاك لو تدرون أقسى أنواع العذاب..
جالت بناظريها في كل موضع وشعيل منصرف في إنهاء إجراءاتهم وبجوارها عمتها تشعر بالإرهاق الشديد حتى أنها لم تنبس بحرف واحد منذ وطأت أقدامهم أرض المطار.. ما أن خرجوا من عتبات المطار حتى باغتتها فتاة فالعشرين من عمرها على أقصى تقدير تهتف باسم شعيل في لهفة: شعيل، شعيل.. واندفعت نحوهم مرحبة في فرحة: حمد الله بالسلامة، يا رب موفقين..
هتف شعيل باسما: الحمد لله، أهي حُسن جت معانا، وبإذن الله إقامتها معنا تريحها.. ابتسمت الفتاة في دبلوماسية ومدت كفها لحُسن تلقي التحية: شرفتي ونورتي، نتمنى تعجبك بلادنا، ما في طبعا اچمل من مصر أم الدنيا، بس بإذن الله ترتاحي هنا.. بادلتها حُسن التحية مؤكدة: اكيد بإذن الله، متشكرة قوي يا، معلش الاسم، شعيل معرفناش على بعض مظبوط..
ابتسم شعيل مؤكدا: فعلا، معرفش ليه افترضت إنك تعرفي ربى بنت عمتي، بس اللي يشفع لي إني حاسك واحدة من العيلة عارفة كل أفرادها فعلا وبتعامل على هذا الأساس.. شعرت ربى بالاضطراب لهذه الأريحية التي يتعامل بها شعيل مع حُسن وانتبهت على ابتسامة حُسن لها مؤكدة: أكيد هانبقى صحاب يا ربى.. ابتسمت ربى بالتبعية مؤكدة: أكيد.. هتفت فوزية عمة حُسن في ضيق: ياللاه بقى يا شعيل، تعبت والله وعايزة استريح..
هتف شعيل وهم يتوجهون صوب العربة التي كانت بانتظاركم بالفعل: ياللاه يا فوز، دقايق ونكون فالبيت.. همس شعيل لحُسن مشيرا لأمه: بصي، راقبي كيف هديت ولانت، هاد كان اسم الدلال المفضل لأمي، أبى رحمه الله هو اللي كان يدللها فوز، ومهما كانت حزينة أو مهمومة، بكفي تقولي يا فوز، تبقى زي ما أنتِ شايفة، ولا كأن حاجة حصلت..
اتسعت ابتسامة حُسن ما أن وعت لصدق حديث شعيل، فقد تبدلت سحنة عمتها وطلت الابتسامة على وجهها من جديد، لكن هذه الهمسات البريئة ما بينهما لم تفت على ربى التي امتعضت وهي تشعر أنها منبوذة بهذه الجماعة.. وصلوا السيارة ليفسح شعيل المجال لأمه لتصعد جواره إلا أنها رفضت مؤكدة أنها سترتاح بالأريكة الخلفية بشكل أفضل.. هم بالإشارة لحُسن لتصعد جانبه لكن ربى استغلت الموقف وصعدت فلم يفه بحرف وحُسن تصعد جوار عمتها..
ساد الصمت للحظات حتى قطعته ربى وهي تضغط على زر تشغيل الأغاني ليصدح صوت أحد مطربي الخليج المميزين: روحي تحبك غصب عني، تحبك.. والمشكلة حبك بروحي چرحني.. وإذا شكيت تجول، وإيه ذنبك! ذنبي هويتك، يوم حبك، ذبحني..
دمعت عينى حُسن وقد تصورت لها صورة ذاك الذي ذبحها عشقه من الشريان إلى الشريان ولا علم له بحالها، هربت من محياه لعلها تنسى فإذا كلمات بسيطة لأغنية تجعلها تذكره بكل هذا الوجع الكامن بين ضلوعها، سالت دمعة غافلتها تجري على الخد فأغتالها في سرعة حتى لا يتنبه أحد، لكن شعيل كان هناك يراقب سكناتها وشرودها من خلال مرآة السيارة، ولم يغفل عن إدراك هذه الدمعة العاصية..
أنهت عملها ومرت أمام باب البيت الكبير في طريقها لملاقاة عبدالباسط للعودة لنجع الصالح، خرج رائف من الداخل ليهتف مستوقفا إياها: يا دكتورة.. توقفت واستدارت تواجهه وقد علت الابتسامة شفتيها هاتفة: السلام عليكم، خير يا دكتور، أجصد يا رائف بيه.. ابتسم بدوره متسائلا: إيه أخبار الرواية!؟ خلصت! ولا! أكدت نوارة بابتسامة: لا خلصت، مسبتهاش من أيدي إلا لما خلصتها، وخدت تريجة ما يعلم بها إلا ربنا..
اتسعت ابتسامته متسائلا: ليه كده! قهقهت مجيبة: من أختي، أصلها مسمياني الچزارة، عمرها ما شافتني بقرأ إلا كتب الطب والتشريح، فجأة كده نوارة بتجرا، وإيه حكاية حب! اتصدمت يا عيني.. قهقه بدوره وهتف متسائلا في نبرة وترتها: كنتِ جافلة على جلبك جوي كده!
لم ترد بل إنها وضعت كفها في جوف حقيبتها وأخرجت الرواية تسلمها إليه وما أن مد كفه لأخذها حتى زن هاتفها مؤكدا وصول عبدالباسط، تركت الرواية بين كفيه وهتفت مستأذنة في عجالة: عبدالباسط وصل، عن إذن حضرتك أنا لازم أمشي..
واندفعت مبتعدة يتابعها بناظريه حتى اختفت، انتفض موضعه عندما تسللت مهرة إلى جواره ملتقطة الرواية من بين كفيه ويبدو أنها كانت تتابع المشهد قبل ظهورها المباغت ذاك، هاتفة في نبرة ساخرة: إيه ده! وكمان رواية قصة حب! لا ده الموضوع كبر قوي يا رائف بيه.. انتزع رائف الرواية من بين كفيها هاتفا في حنق: شيء ميخصكيش على فكرة.. هتفت به في غنج: ليه هو أنا مش خطيبتك وليا حق أغير عليك!
تطلع رائف نحوها لبرهة قبل أن ينفجر ضاحكا في سخرية: أنتِ صدجتي نفسك يا مهرة ولا إيه! اللي بينا كاااان، كان وخلص من زمن، وعلى ما افتكر يعني، أنتِ اللي نهتيه، وأنا معنديش استعداد أعيده.. هتفت مهرة في حنق: طبعا وتعيده ليه ما كفاية عليك الست الدكتورة، والإشارات والهمسات والروايات اللي رايحة جاية..
هتف رائف في غضب: مهرة! إلزمي حدك، وخدي بالك من كلامك، الدكتورة نوارة بنت ناس ومحترمة، ومش بتاعت الكلام الفارغ اللي بتجوليه ده، وأنا هجيبهالك من الأخر، أنا لا يمكن هرچع لواحدة يوم ما احتچت وچودها غابت، وچاية دلوجت تفرض نفسها على حياتي بعد ما الدنيا بجت تمام، اللي متكونش فضهري ساعة كسرتي، متستاهلش تبجى مرتي وتعيش معايا فرحتي، عن إذنك..
تركها رائف وحيدة واندفع لداخل المكتب مغلقا الباب خلفه في عنف، تطلع للرواية التي كانت ما تزال بين كفيه ليتنهد في راحة وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة غيرت من مزاجه قليلا ليتجه صوب المكتبة واضعا الرواية موضعها ويجلس بحجرته الخاصة أمام البيانو ليبدأ العزف تلك المعزوفة التي أخبرته أنها تعشقها، قصة عشق..
جلست داخل غرفة القراءة، اعجبها الوضع والنظام داخلها، مدت كفها وتناولت إحدى الروايات لتقرأها ورغم أنها ليست من هواة القراءة لكن الجو العام ساعدها لتبدأ في الرواية التي على ما يبدو من بدايتها أنها ليست مملة، لكن بعد حوالي الصفحتين قفز محياه إلى مخيلتها، لما تتذكره الآن! جاءت إلى هنا لتنسى نزار وكل ما يمت له بصلة، استشعرت وجعا يحاصر ثباتها الداخلي الهش ولم تدرك أنها تبكي إلا عندما هتف بها عاصم في تساؤل: بتبكي ليه يا آنسة فريدة!؟ هي الرواية مؤثرة جوي كده! ده أنتِ حتى مجرتيش فيها إلا صفحتين بس..
مسحت فريدة دموعها في عجالة هاتفة تحاول الظهور بمظهر المسيطرة على مشاعرها: لا أبدا يا باشمهندس، يعني، شوية حاجات كده، وإحنا البنات دمعتنا قريبة زي ما أنت عارف.. ابتسم عاصم ساخرا: زي ما أنا عارف كيف يعني! جصدك عشان عندي أخوات بنات وكده!؟ لاه شكلك واخدة فكرة غلط خالص..
اتسعت ابتسامة فريدة ليستطرد مؤكدا: أخواتي البنات بالذات نوارة، عمري ما شفتها بتبكي، هي كانت بتبكي الكل، لكن هي دمعتها عزيزة، حتى سچود رغم إنها غلبانة فنفسها كده، لكن عمرها ما تبكي جصاد حتى أبدا ولو هتموت.. هتفت فريدة مازحة: أنا هفتن عليك واقولهم على فكرة.. أكد عاصم مبتسما: هم عارفين نفسهم، متتعبيش نفسك.. اتسعت ابتسامتها ليستطرد: ومتتعبيش دماغك بالتفكير فاللي چرى، كل حاچة هتاخد وجتها وتروح لحالها..
غابت ابتسامتها ونكست رأسها قليلا هاتفة في تساؤل: هو جدي عاصم حكالك!؟ أكد بهزة من رأسه هاتفا: چدي زكريا حكاله الموال كله وأنا كنت جاعد وياه وعرفت، والله لو كان الموضوع ما بين رچالة ما كنت سبت حجك وكنت نزلت لنزار ده ووريته مجامه، لكن الكلام كله حريم فحريم.. هتفت فريدة متوجسة: حريم إزاي يعني!؟
اكد عاصم: عمي حمزة اتأكد أن اللي ورا الموضوع ده مرت نزار، نوع من أنواع الضغط عليه عشان ترفع عليه جضية طلاج للضرر، والظاهر الاتفاجات اللي كانت ما بينهم معچبتهاش عشان كده جالت تاخد حجها بنفسها وتنتجم منك لأن واضح إن نزار جاب سيرتك جصادها كذا مرة وأفتكرت إن فيه بينكم يعني، وعد بالچواز بعد ما يتم الطلاج..
هتفت فريدة تنفي في حنق: لكن كل الكلام ده كذب، والله ما حصل أبدا، واللي بيتي وبين نزار كان علاقة رسمية جدا عشان الشغل وشراكته مع بابا.. أكد عاصم: كلنا عارفين ده، بس تجولي إيه فالنفوس المريضة، ع العموم أنا مش شايف إن أنتِ لازما تبعدي كتير، خدي وجتك معانا هنا، وارچعي وحطي صابعك في عين التخين، أنتِ على حج، وصاحب الحج لا يخاف ولا يدارى..
هزت فريدة رأسها تؤكد على صحة قوله بينما كانت سجود ونوارة بالأعلى حيث نافذة حجرتهن اللي تطل على حجرة القراءة يتابعن اللقاء الدائر في الأسفل لتهتف نوارة مرحبة: شايفة حلوين إزاي مع بعض يا بت يا سچود! يا ريته يطلبها، بت زي البدر ومتعلمة وأدب واخلاج، والله تليج بعاصم.. أكدت سجود متنهدة: أه والله، صدجتي يا نوارة، شكلهم حلو مع بعض، لايجين على بعض فعلا..
كانت زهرة تضع رأسها بين طيات روايتها، وخاصة عند ذكر عاصم، تسمع ما يدور ولا تجرؤ على رفع رأسها نحو بنات عمها وهن يتغزلن في الضيفة، متمنيات إياها كزوجة له، استطردت سجود هاتفة بنوارة: لا وبصي كمان يا نوارة لغة الچسد بتجول إيه! أخوكِ عاصم مال لجدام، يعني بيحاول يجرب لها.. تطلعت نوارة مؤكدة: ايوه صح، وايه كمان! هتفت سجود مؤكدة: وهي كمان أهي مالت لجدام بجسمها يعني..
هتفت نوارة في فرحة: يعني ميالة هي كمان.. أكدت سجود في حماسة: صح.. هتفت نوارة مازحة: حلوة لغة الچسد دي يا بت يا سچود، اتعلمتيها فين دي!، ابجي جوليلي اتعلمها أنا كمان، ولا أنتِ إيه رأيك يا زهرة!؟ هتفت زهرة ترفع رأسها نحو نوارة متسائلة: رأيي فإيه يا نوارة! في لغة الجسد اللي عايزة تتعلميها! ولا فريدة اللي شايفة أنها لايقة على عاصم ونفسك يطلب أيدها للجواز!
هتفت نوارة في خبث: إيه ده!؟ ده أنتِ الظاهر كنتِ مركزة معانا مش مع الرواية!؟ اضطربت زهرة التي لم تستطع أن تداري حنقها من مجرد فكرة ارتباطه بأخرى ما دفعها لتخرج عن برودها جراء استفزاز نوارة لها.. نهضت تاركة الرواية من كفها منسحبة من الغرفة، لتنفجر نوارة ضاحكة ما أن غابت لتهتف بها سجود في نبرة لائمة: ليه كده يا نوارة! شكلها اضايجت.. أكدت نوارة لأختها: اسكتي يا سچود، أنتِ مش فاهمة حاچة، خليها تدوج..
تطلعت سجود إليها في تعجب ولم تعقب..
كان يتطلع إلى البعيد مستندا لظهر إحدى السيارات في انتظار خروج أحد الأصدقاء من هذا المبنى الأكاديمي الذي يقبع أمامه منذ بعض الوقت يطالع الغادي والأيب لقتل ملل الانتظار لا فضولا، يترنم بأغنية فرنسية قديمة عن النساء وقلوب الرجال التي تتحطم بأيديهن وهن يدعين الجهل بذلك..
وقعت عيناه عليها وهي تسير على استحياء كعادة فتيات العرب المتمسكات بذيهن المحتشم وغطاء رؤوسهن، رأي الكثير مثلها فالسابق، ففرنسا تعج بالوافدين إليها من أصول عربية كجدته لأمه وأبيه، فلم يكن هذا بجديد عليه، ظهر مجموعة من الشباب بطريق القناة وبدأوا في إزعاجها، لم يكن يستوضح من موضعه ماذا يقولون، لكن يكفيه أن يدرك أن هذا الفعل يثير ضيقها وعلى العكس يثير استمتاعهم والذي يدل عليه ضحكاتهم الرنانة الصاخبة..
لا ينكر أنه استشعر الضيق لأفعال هؤلاء الشباب، لكنه غض الطرف عنهم مدركا أن هذا يحدث دوما، وما من جديد، سترحل الفتاة ويكف الفتية، اعتادت الفتيات على تحمل مثل هذه الأفعال المشينة كأنهن السبب في حدوثها من الأساس، واعتاد مثل هؤلاء الفتية التعدي بلا رادع..
لكن ما حدث آثار تعجبه وجعله يعتدل في مجلسه متطلعا لما يحدث في إعجاب وهو يرى الفتاة تجذب حقيبتها من على كتفها مطوحة بها فالهواء لتصطدم برأس ذاك الفتى الأحمق الذي تجرأ وفكر في مد كفه نحو جسدها، سقط الشاب أرضا وعلى عكس المتوقع ضحك عليه أقرانه..
ما دفع الشاب لينهض سريعا راغبا في نيل ثأر بلا حق من تلك التي جعلته مثارا للسخرية، هم بالتجرأ عليها من جديد وكان سلاح الحقيبة حاضرا هذه المرة أيضا، لكنه ببعض الخبرة أدرك أن الفتى قد احطاط ولن يجدها نفعا هذه المرة استخدام حقيبتها..
وهذا ما حدث بالفعل، فقد قبض الفتي على حقيبتها ما أن طوحت بها متفاديا أن تصل لرأسه، وما أن هم بجذب الحقيبة ليلق بها أرضا حتى تلحق بها صاحبتها، إلا وقد قرر هو التدخل، ممسكا بالحقيقة بين الخصمين هاتفا بالشاب: سيب الشنطة بأدب وأمشي من سكات، كفاية لحد كده..
هتف الشاب باستخفاف: وإن مسبتهاش هتعمل لي إيه يا توتو!؟. ضحك الشباب لاستهزاء صديقهم على محياه المنمق ومظهره الذي لا يوح مطلقا بأنه قادر على العراك مع بعوضة.. كان يبدو أجنبيا لحد كبير بهذا الشعر الكستنائي المقصوص بحرفية وعيونه الزيتونية، ولكنته التي على الرغم من اجادته للعامية المصرية بعد أربع سنوات قضاها بمصر ما زالت تحمل بعض من غرابة عندما يثور غضبه.
لم ينبس الشاب المنقذ بكلمة بل مد كفه بحرفية وسرعة مطبقا على ذراع الشاب هاتفا به في لهجة أمرة: سيب الشنطة.. تركها الشاب مستسلما عندما استشعر وجعا قاسيا يستشري بكامل ذراعه.. هتف بها في عجالة أمرا من جديد: خدي شنطتك وأمشي..
تطلعت إليه في اضطراب ليهتف صارخا رغبة في ترك الفتي الذي أصبح يئن وجعا تحت قسوة ضغطه على ذراعه بهذه الطريقة الاحترافية التي تعلمها من دروس الدفاع عن النفس التي تلقاها يوما: ياللاه، اسرعي..
نطق الكلمة الأخيرة بفرنسية متقنة جعلت سجود تتطلع إليه في تعجب معتقدة أنها ربما أخطأت في إدراك الكلمة، لكنها تنبهت أنها لم تخطئ فقد نطقها من جديد ما جعلها تحمل الحقيبة التي كانت قد سقطت من يد الفتى بالفعل مندفعة لتبتعد عن موضع العراك.. ولم يصل لمسامعها وهي تقفز لداخل سيارة الأجرة التي مرت اللحظة لحسن الحظ إلا صوت شخص خرج من مبنى قريب يهتف باسمه في ذعر: چوزيف، چوزيف..
كرر المنادي الاسم مرتين في هلع، دون أن تدرك ما حدث وهي ترحل بالسيارة على عجالة وناظرها مثبت على ذاك الشخص الذي ظهر لها من العدم، كما فرسان العصور الوسطى في رواياتها التي تطالعها وتعايش أبطالها ليل نهار بأحلام يقظتها التي لا تنتهي..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن عشر
دخل سيد إلى حجرته لتنفض ثريا محاولة مداراة دموعها المنسابة قهرا على ولدها وحاله، تنبه سيد متوجها نحوها متسائلا في قلق: في إيه يا ثريا! مروان كويس! هم بالاندفاع نحو غرفة مروان، إلا أنها استوقفته هاتفة في استجداء: سيبه في حاله، اللي فيه مكفيه يا سيد. هتف بعد أن عاود الجلوس جوارها: هو فيه إيه بجد!؟ حصل حاجة وأنا معرفش!؟
هتفت ثريا تومئ برأسها إيجابا: عملت حاچة من نفسي، محسبتهاش صح ولا غلط يا سيد، أنا جلت أجرب، يمكن.. قاطعها سيد متسائلا: عملتي إيه يا ثريا! بلاش ألغاز، أنا بدأت أقلق بجد.. هتفت بلا مداراة: رحت للحاچة وچيدة من بيت أبو منصور، عشان.. قاطعها سيد متسائلا: وايه اللي بينا وبينهم الناس دي تاني، عشان تروحيلهم أو تتعاملي معاهم!
نكست ثريا رأسها أرضا، هامسة وهي تشعر بأنها ارتكبت خطأ بعدم اخبارها سيد ما كانت تنوي القيام به: ما هو أصل البنت اللي مروان بيحبها، تبجى حفيدتها.. تنهد سيد مسندا جبينه على باطن كفه لبرهة، قبل أن يتطلع نحوها متعاطفا على عكس ما كانت تتوقع، فقد كانت بانتظار لومه وتقريعه، وهتف بنبرة مرهقة: كده أنا فهمت، وروحتي عشان تدوبي التلج اللي ما بينا، لعل وعسى..
أومأت ثريا ايجابا، وشهقت باكية من جديد، ضمها لصدره، رابتا على كتفها في حنو، هامسا بنبرة حانية: هي ضايقتك قوي كده! همست ثريا من بين شهقات بكائها: مش المشكلة فيا يا سيد، المشكلة أنا معرفش مروان عرف منين إني هناك، ولقيته طابب عليا وسمع كلامها الماسخ عن عچزه، وإنه مش الشخص اللي يليج ببت بتها، أنا واچعني وچعه وكسرة نفسه.
ربت سيد على كتفها من جديد، هاتفا في حزم: محصلش حاجة يا ثريا، لعله خير، بس هو ليه قافل على نفسه! أكدت ثريا: ما ده اللي مخوفني، شكله حاطط فراسه حاچة وهينفذها، وربنا يسترها. أكد سيد: متقلقيش، مروان عاقل، وهيقدر ياخد القرار اللي يناسبه، ولعله خير، محدش عارف، يمكن تكون أخرتها خير. همست ثريا مبتهلة: يا رب يا سيد، يا رب تكون أخرتها خير فعلا..
ساد صمت لبرهة، قبل أن يتسلل صوت موسيقى هادئة قادمة من حجرة مروان، تطلع سيد نحو ثريا هامسا: رجع للموسيقى الكلاسيكية تاني، تلاقيه بيرسم.. هزت ثريا رأسها إيجابا، ووجيب قلبها يرتفع إشفاقا على حال ولدها الوحيد.
تنحنحت سماحة وهي تحمل صينية الفطور للدور العلوي، حيث نقل يونس سكناه وترك لها ولأهلها الدور السفلي، لتهنأ بعيشة مريحة بعيدا عن غرفة الحديقة الضيقة والمعتمة.. هتف يونس بالداخل، وهو يتمدد بإحدى الأرائك بالردهة، أمرا إياها بالدخول: تعالى يا سماحة أدخل، أني فوجت.
دفعت سماحة الباب الموارب لينفرج على مصراعيه، لتدخل حاملة الصينية واضعة إياها على الطاولة بالقرب من موضع رقاده هاتفة في اضطراب: الفطور يا بيه، بألف هنا.. همت بالرحيل، إلا أن يونس استوقفها أمرا: على فين! كنك نسيت، أني مبعرفش أكل لحالي، أجعد شج ريجك معاي.
همت بالاعتراض، كانت تحاول على قدر طاقتها، أن تقلل من فرص تواجدهما سويا، فما عادت تستطيع احتمال تلك المشاعر المتضاربة التي يثيرها داخلها، لكنه هتف أمرا من جديد: ما تجعد، هو أني هتحايل عليك! جلست دون أن تنبس بحرف، ونهض هو ليجلس قبالتها، وبدأ في تناول الطعام بشهية كبيرة، وهتف متعجبا: مش خالة سعيدة اللي عاملة الأكل ده، صح!
توقفت يدها عن رفع لقيمة لفمها، فقد شعرت بغصة ما بحلقها، بالفعل لم تكن أمها من صنع طعام الإفطار له، بل كانت هي، لا تعرف ما الذي دفعها لصنعه بيدها، ربما رغبتها في أن يتذوق طعام من صنع يدها، فكل امرأة تتمنى أن تطعم حبيبها طعام مطهو بنكهة الحب، عند هذا الخاطر وبدأت معدتها تتلبك حرفيا، ما دفعها لترك اللقيمة التي كانت بيدها بالفعل، هاتفة في ثبات، تحاول ادعائه: معلش يا بيه، أني اللي عملت الفطور النهاردة، أمي صحيت تعبانة شوية وجلت أعمله بيدي.
كان يونس قد قضي على الطعام الموضوع أمامه عن بكرة أبيه، هاتفا في تلذذ: تسلم يدك يا سماحة، محدش يعمل لي الفطور إلا أنت كل يوم. ونهض في اتجاه الحمام، لتتسع ابتسامتها في سعادة ما كانت تتخيل أنها ستشتعرها يوما من مجرد كلمات، هتفت به سماحة، تحاول مداراة فرحتها: طب أني نازل يا بيه أچيب الشاي، جبل ما نتوكلوا على الله. خرج يونس من الحمام حاملا منشفته، متطلعا نحو سماحة في تعجب: نتوكلوا على الله على فين!
هتفت سماحة بدهشة: ع الأرض يا بيه! هو أنت مش رايح تطل ع الأرض برضك! هتف يونس وهو يضع المنشفة جانبا: لاه، أنت مليكش نزول الأرض تاني. هتفت سماحة في اضطراب: ليه يا بيه! چرى حاچة لا سمح الله!؟ أكد يونس في هدوء: لاه، مچراش، بس بكفاياك حراسة البيت، الأرض چبت لها عمال يساعدوا فيها. همت سماحة بالاعتراض، إلا أن يونس هتف متعجبا: الشاي فين يا سماحة!؟ خلونا نشوفوا مصالحنا، هات لي الشاي تحت فالچنينة..
أومأت سماحة برأسها إيجابا مندفعة للأسفل لجلب الشاي، لتجد أمها قد نهضت تحضر احتياجات الغذاء، فهتفت بها سماحة وهي تحمل أكواب الشاي ليونس بالحديقة الأمامية حيث أمرها: متتعبيش نفسك ياما، أني اللي هطبخ النهاردة، البيه مش هينزلني الأرض تاني، روحي أرتاحي.. همست سعيدة داعية: ربنا يريح جلبه وباله.. لتبتسم سماحة، فطعامه منذ اليوم، سيكون من صنع يدها، وبنكهة حبها.
دخل الورشة على قسمات وجهه علامات الحنق، كأنما أخرجه أحدهم من فراشه قسرا، ألقى التحية في اعتيادية باردة، وهتف بالصبي الذي يعمل معهم في عصبية لا مبررة: روح هاتلي كباية شاي من القهوة، ولا أقولك، خليها فنجان قهوة دبل، بس بسرعة متتلكعش.
هتف راضي به في تعجب، بعد أن اندفع الصبي مهرولا لتنفيذ طلبه، وتجنب بركان عصبيته، الذي بدأ في نفث حممه بالفعل: إيه في يا نادر! نازل من فوج متخلج على الناس، وبتشاكل دبان وشك! حصل حاچة لا سمح الله!؟ هتف نادر في ضيق: لا مفيش يا راضي، أنا بس اللي مش عارف مالي، مخنوق ومش على بعضي، وحاسس..
وتنهد مستطردا: أنا مش عارف أنا حاسس بإيه, جوايا حاجات لا عارف أفسرها ولا عارف أحكيها، ولا عارف إيه اللي فيا من أساسه، كأني..
قطع حديثه متنهدا من جديد، فما عاد لديه من الكلمات ما يمكنه من توضيح أو شرح حالته تلك، لذا لزم الصمت، وابتلع اوجاعه اللا مبررة، واتكأ على باب الورشة وشرد فاللاشيء، تطلع إليه راضي يهز رأسه في تعاطف، كان يعلم علة صديقه، كان يمكنه أن يشخص مرضه بسهولة، تقريبا هي بعض الأعراض التي رأها تتجسد أمام ناظريه في حالة يونس أخيه، تعددت الأعراض والداء واحد، إنه العشق، منذ رحلت حُسن مع عمتها، وهو على هذه الحالة العجيبة، محموم بلا حمى، موجوع بلا وجع ظاهري، مريض بلا داء أو علة، لكن كيف السبيل إلى تطييبه، ولا شفاء إلا بوصل محبوبه!
عاود راضي العمل، متحسرا على حال صديقه الجاهل بحاله، أو ربما منكر له، لم يكن هروبه من العشق بلا سبب، هذه الحالة العصيبة التي يرى عليها نادر ومن قبله يونس، تجعله يحمل ذيل جلباب القلب ويولي هاربا بلا نظرة واحدة للخلف، رأى نعمة تخرج من باب دارهم، تحمل الحقيبة الشبكية التي تحضر بها احتياجات السوق، لعن في صمت وجيب قلبه الذي ارتفع لمرأها فقط، ما دفعه ليلقي بما كان يعمل به، وتنبه أن حاله لا يختلف كثيرا عن حال نادر، عاد الصبي على مهل، حاملا فنجان القهوة، ما دفع نادر ليهتف به حانقا: أتأخرت ليه! كل ده عشان فنجان قهوة!
هتف الصبي مبرر بنبرة متلجلجة: معلش يا باشمهندس، كنت ماشي بالراحة عشان مضيعش وش القهوة. تناول نادر منه قهوته، وأشار إليه ليعود ليكمل عمله، بينما ظل هو على حاله، متطلعا نحو المجهول، وعيونه على شباك دار حُسن المعتمة بغيابها، ارتشف بعض من قهوته، وبقلبه غصة عندما تهادى إلى مسامعه صوت عبدالحليم من مذياع المقهى صادحا: فرحان عايز أضحك، مهموم عايز أبكي.. لا دموعي طايلها، ولا قادر حتى أشكي..
دخل إلى الدار ليتناهى لمسامعه أصوات قادمة من حجرة الضيوف، طل بناظره لتقع عيناه على بن عمه أو بالأحرى بن عم أبيه يوسف حسام، أو بالأدق، الدكتور يوسف حسام نبيل التهامي.. هتف سمير مازحا ما دلف للحجرة: بنجور مسيو، بنجور، بنجور.. قهقه يوسف وهو ينهض ليضمه مرحبا: أهلا يا أستاذ سمير، اتحسنا خالص فالفرنش أهو..
هتفت سهام ضاحكة: وهو عشان جالك بنجور يبجى اتحسن!؟ قهقه الجميع وسمير يرمقها شذرا هاتفا في حنق مصطنع: ايش فهمك أنتِ!؟، دي سچود بت خالي مهران بتديني دروس عشان منتفضحوش جدام الخوچات.. تعالت ضحكات الجميع ليهتف باسل هاتفا في لوم: خوچات مين يا واد!؟، ده واد عمك، يعني مننا وعلينا.. هتف يوسف في تأدب: ربنا يعزك يا عمي، هو سمير كده، دايما قالبها هزار، بس مين سجود!؟
همت سهام بالإجابة، لكن سندس قاطعتهم هاتفة، وهي تدلف للحجرة: انتوا الكلام هياخدكم ولا إيه! الغدا هيبرد ع السفرة، قوموا نتغدا ونتكلم واحنا قاعدين ع الأكل. هتف يوسف محتجا: بس أنا لازم أمشي الصراحة، المشوار قدامي طويل..
تطلع إليه باسل متعجبا، وهتف مازحا: يعني أنا كنت لسه بجول مننا وعلينا واتريجت ع الواد أبو طويلة ده، وأشار لسمير مستطردا، عشان تاچي أنت تجولي هتأخر وإحنا حاطين الغدا!، طب ياللاه جوم يا خواچه اتغدا، ومنتش خارچ من هنا إلا بعد الغدا والشاي والحلو كمان..
اتسعت ابتسامة يوسف ونهض دون أن يعقب بكلمة فقد أدرك من المرات النادرة، التي زار فيها بيت عمه، خلال السنوات التي قضاها في مصر، أن تلك التقاليد لديهم تُحترم حد القداسة، ولا يجب مخالفتها مهما حدث، لذا نهض يجلس على طاولة الطعام العامرة، يستشعر دفء الأسرة المفتقدة التي تركها خلفه بفرنسا..
جلس الجميع على المائدة، لتطل سهام وهي تسند جدتها لتنضم إليهم، والتي ما أن جلست ووقعت عيناها على يوسف، حتى هتفت في تعجب: مين الواد الحليوة ده، اللي شبه الواد التركي اللي كان فالمسلسل امبارح يا بت يا سهام!؟ انفجر الجميع ضاحكين، حتى أن يوسف نفسه، غص ببعض الطعام، واختلط سعاله بضحكاته.. ليهتف سمير مازحا كعادته: ما هو الواد التركي يا ستي، چبناهولك مخصوص، هو إحنا عنِدنا أغلى منِك برضك..
قهقه الجميع من جديد، ليهتف باسل مؤكدا: ده يوسف يا حاچة سهام، يوسف واد بن عمي حسام.. ظهر الحزن على محيا سهام هاتفة: حسام أبوك، الله يرحمه.. هتف باسل مؤكدا: لاه، مش أبويا، حسام واد عمي نبيل الله يرحمه.. هتفت سهام في حزن من جديد: إيوه نبيل، الله يرحمه..
لكز سمير ذراع يوسف الذي كان يجاوره، وهو يمسك ضحكاته، هامسا: دلوجت تچيب لك سيرة مراحيم العيلة كلهم، نفر نفر، ونجلب الجاعدة صوان، وتختم بجراية الفاتحة عليهم واحد واحد.. أمسك يوسف ضحكاته بدوره، محاولا وأدها، بينما أخذ يحاوره عمه باسل في تصريف عمله وإدارة شؤونه، متسائلا متي سيتم نقله للعمل بالصعيد، ليكون معهم دوما، أو حتى على مقربة، وخاصة مع اقتراب موعد زواج سمير وسهام.
كانت فريدة تجلس بغرفة القراءة، في انتظار نوارة التي وعدتها باصطحابها معها إلى نجع السليمانية، حيث مقر عملها، كنوع من أنواع تغيير الجو والخروج من نجع الصالح ولو قليلا.
تنبهت فريدة لخطوات قادمة معتقدة أنها نوارة، فاعتدلت فإذا بالقادم زهرة وليست نوارة، التي دخلت في هدوء ملقية التحية، وتناولت إحدى الروايات، وبدأت في قراءتها أو ادعاء القراءة، ولم يمر إلا بضع دقائق، حتى رفعت رأسها متطلعة لفريدة التي اندمجت في الرواية التي كانت تطالعها، فهتفت بها: عجباكي الرواية اللي بتقريها!
أكدت فريدة وهي ترفع رأسها من بين الصفحات مؤكدة: جدا، الصراحة مكنش ليا فالقراية، كان أخري قراءة المراجع الخاصة بشغلي وبس، بس شكلي هغير رأيي وهعمل لي مكتبة زي دي أول ما ارجع إسكندرية، والفضل لعاصم.. تنبهت زهرة أنها رفعت التكليف وذكرته باسمه مجردا دون ألقاب، مستطردة: عاصم هو اللي اختار لي الرواية دي، وبجد اختياراته مميزة جدا، واضح إنه قارئ ممتاز ومثقف على درجة كبيرة. هتفت زهرة مؤكدة بكلمات مقتضبة: صح.
خطوات اقتربت، فنهضت فريدة معتقدة من جديد أنها نوارة، لكن كان عاصم القادم الذي هتف بالتحية، وأشار لفريدة هاتفا: يا فريدة، عايزك ثانية. تنبهت زهرة، فيبدو أن فريدة ليست الوحيدة التي رفعت التكليف بينهما، فها هو يناديها باسمها مجردا دون ألقاب..
تركت فريدة روايتها جانبا، واتجهت نحو موضع وقوف عاصم، على بعد بسيط من حجرة القراءة، ووقفت تتحدث معه، يبدو أن موضوعا ما يجمعهما، تابعت زهرة كل ذلك وعيناها لم تحد عن موضع وقفهما، كانت تشتعل غضبا وحنقا، كانت تعلم لما، وكانت أدرى الناس بمشاعر الغيرة التي تذيب أعصابها كحمض حارق، لكن عليها الثبات، لم تكن تعلم أن الأمر سيكون بهذه الصعوبة التي تختبرها اللحظة، كيف ستحتمل كل ما هو قادم لا محالة! لا تعلم، وليس لديها أدنى فكرة بأية طريقة تتغلب بها على هذا الوجع القاهر الذي يسربل روحها وهي تراه يقف وحيدا مع غيرها، يتبادل حديثا أي كان نوعه دونها، ويبدو مهتما جدا لامرأة سواها..
لم تدرك فداحة ما قامت به، إلا عندما ألقت بروايتها على الطاولة في عنف، ما دفع كل من عاصم وفريدة إلى التطلع نحوها، شعرت بالحرج فاندفعت مبتعدة، وعاصم على شفتيه ابتسامة رضا، تعجبت منها فريدة التي هتفت في حرج: هي زعلانة ولا إيه!
هتف عاصم في حبور: متخديش فبالك، أنا بس حبيت أجولك أخر الأخبار، طبعا چدك أو عمي حمزة، عمرهم ما هيبلغوكِ بالأخبار دي، وأنا بعرفها عن طريج چدي عاصم، فياريت تبيني إنك مش عارفة حاچة، بس أنا حبيت اطمنك أن الرجالة اللي حاولوا يخطفوكي اتجبض عليهم، طبعا محدش فيهم اعترف بكلمة، واضح انهم جابضين تمام من مرت نزار، بس عمي حمزة عرف يوصل لهم، واتأكد من تحرياته اللي عملها جبل كده، وواضح إن هيكون له كلام مع الأستاذ نزار ده، لأن مينفعش تكوني أداة لتصفية حسابات بينه وبين مرته، ده حتى مچاش يعتذر أو يجول أي حاچة.
هزت فريدة رأسها تأكيدا على كلام عاصم، هاتفة في حسرة: للأسف فعلا، مفكرش لا فسمعتي ولا سمعة أهلي بعد عمايل مراته دي. هم عاصم بالحديث من جديد، إلا أن وصول نوارة وعلى شفتيها ابتسامة واسعة، مستدعية فريدة: ياللاه بينا يا فريدة، عبدالباسط ظبط العربية..
استأذنت فريدة من عاصم في تأدب، بينما غمزت نوارة لعاصم بعيونها، فعلى ما يبدو أن نزول عاصم للحديث مع فريدة في هذا التوقيت بالذات، مع وجود زهرة بحجرة القراءة، كان تكتيك أخر من نوارة، التي كانت تتأخر متعمدة حتى تعطي لهم الفرصة لحبك المشهد كليا، والذي تأكدت أنه نجح بامتياز عندما وجدت زهرة تزفر في ضيق وهي تدخل عليهن هي وسجود الغرفة، مغلقة الباب خلفها في عنف، لتتأكد نوارة أن الأمر تم بنجاح، لتنزل لاصطحاب فريدة، فقد قامت بدورها والذي لا تعلم عنه شىء بكل تلقائية، وعلى أكمل وجه.
اتسعت ابتسامة عاصم في سعادة طاغية، فهي المرة الأولى تماما، التي يستشعر فيها غيرة زهرة، وهذا يعني أنها تحمل بعض من مشاعر داخلها لأجله، وهذا يكفيه وزيادة.
هدوء مريب في هذا المكان المقفر بإحدى المناطق الصحراوية، صمت مطبق لم يقطعه إلا صوت محركات بعض السيارات التي ظهرت من اتجاهين متعاكسين، توقفت السيارتان قبالة بعضهما، وظل راكبيها داخلها لبرهة قبل أن يترجل منهما بعض الرجال، وقف أحدهما ولم ينبس بحرف، وكذا الرجل الذي كان يقف قبالته، فقد كانت كل مهمتهما تبادل بعض الحقائب في آلية، وخلفهم العديد من رجال الحماية المسلحين من كلا الطرفين..
ما أن تسلم كل منهما حقيبته، حتى أضيئت أنوار ما فجأة وسطعت أصوات تؤكد على المجموعتين تسليم أنفسهم للشرطة التي كانت تحاوط المكان.. لكن ضرب النار المتبادل بدأ بين الطرفين. اندفع منتصر من خلف ستاره الرملي وتبعه وحيد وكلاهما في تشابك مع أفراد العصابة وتبادل النيران على أوجه..
تصاعد الأمر، ولم يكتف رجال العصابة بتبادل النيران العادي، لكن بدأ أحدهم في إلقاء قنبلة حارقة في اتجاه القوة الشرطية المنوطة بالقبض عليهم.. صرخ أحد القادة بجهاز اللاسلكي أمرا بالتراجع، لكن المعركة حامية، والدخان يغلف الأجواء ويشوش الرؤية، وطلقات النيران المتبادلة كالمطر، تصم الأذان عما عاداها.
مرت إحدى الرصاصات بالقرب من أذن منتصر، كادت أن تستقر بجمجمته، ما دفعه لإطلاق المزيد من الطلقات المتتابعة في حنق، لكن للأسف، استقرت هذه الرصاصة في جسد وحيد، الذي سقط مترنحا للحظة، قبل أن يتمدد أرضا مدرجا في دمائه، رافعا رأسه في توسل، هاتفا: ألحقني يا منتصر.
ما جعل منتصر، يقف مترددا ما بين إطلاق النيران، أو إنقاذ وحيد، استقر قراره أخيرا، مندفعا نحو وحيد وهو يمطر الطرف الأخر بالرصاص بشكل عشوائي، حاملا وحيد حتى وضعه في أمان خلف تبة مرتفعة نسبيا، وما أن هم بتركه، حتى تشبث به وحيد هاتفا وهو يلتقط أنفاسه في تتابع: متسبنيش يا منتصر. هتف به منتصر في عجالة، رابتا على كتفه: متقلقش هاتبقى بخير.
واندفع تاركا إياه، يصرخ مقهورا في ثورة على ما وقع لصديقه، مقتحما بلا أي احتياطات لقلب النيران، موتورا..
ترجلتا من السيارة، زاد وجيب قلب نوارة تتمنى أن لا يظهر رائف اليوم، لكن دعوتها لم تستجب، فها قد ظهر قادما على صهوة الأدهم متبخترا، وترجل ما أن وصل لموضعهما هاتفا في ترحيب: السلام عليكم، واضح أن معاكي ضيفة يا دكتورة نوارة! هتفت نوارة، وهي تبتلع اضطرابها: وعليكم السلام يا دكتور، أقصد يا رائف بيه، أه دي فريدة بنت عمي، وعندنا في إجازة فقلت تيجي معايا و..
قاطعهما صوت صهيل، ومحاولة فارس ما السيطرة على فرسه الجامحة، الذي وبفضل الله استطاع ذلك، ما أن وصل لموضع وقوفهم، ليهتف به رائف ساخرا: إيه يا سامر! مفيش مرة تركب الفرس إلا وتعمل مصيبة! هتف سامر في حنق، مسيطرا على فرسه في صعوبة: ايوه طبعا لك حق تقول كده، واخد الأدهم، وسايب لي الفرسة اللي مش ولابد دي..
وكأن الفرس أيقن أنه يتحدث عنه بالسوء، فغضب، وبدأ في الثورة من جديد، ما دفعهم جميعا لينفجروا ضاحكين، وسامر يحاول التأسف من الفرس، مستأذنا في الترجل عنها متنفسا الصعداء. هتف رائف مازحا: شوفت يا سامر، حتى الخيل مش طيجاك، والله أنا ليا الچنة.. تطلع سامر، نحوه حانقا: ده أنا نسمة، بس خيلك هو اللي مجنون زي صحابه.
قهقه رائف في أريحية تعجبت لها نوارة، وهتف والابتسامة ما تزال على شفتيه: طب تعالى أعرفك، طبعا الدكتورة نوارة عارفها، والآنسة.. قاطعه سامر هاتفا: الآنسة فريدة.. ابتسمت فريدة هاتفة: إزيك يا باشمهندس سامر! تطلع كل من نوارة ورائف نحوهما في تعجب، لتهتف نوارة متعجبة: انتِ تعرفي الباشمهندي إزاي يا فريدة!
هتفت فريدة شارحة: الباسمهندس كان قاعد جنبي في القطر وأنا جاية على هنا، وكان نايم طول الطرق ومعرفتهوش إلا.. هتف سامر مقاطعا إياها مازحا: إيه نايم طول الطريق دي! أوعي أكون شخرت والفضايح بقت بجلاجل..
قهقه الجميع، وهزت فريدة رأسها نافية، ليستطرد سامر: الآنسة فريدة وصلتني بعربيتكم لحد هنا، الصدفة جمعتنا مع بعض في القطر اللي جاي ع الصعيد، وعم عبدالباسط الله يستره عزم عليا بتوصيلة لهنا، قال إيه بيرد الجميل، يوم ما وصلتك على هنا أول يوم شغل، فاكرة يا دكتورة!
ابتسمت نوارة مؤكدة بإيماءة من رأسها، وسقط ناظرها لا إراديا على رائف الذي وجدته يتطلع إليها بدوره، ما جعلها تحيد بنظراتها سريعا عن محياه، والذي هتف مبتسما: شرفتينا يا آنسة فريدة، ويا رب السليمانية تعچبك.. أكد سامر في مزاح: أكيد هتعجبها، وخاصة إني طول ما الدكتورة نوارة في شغلها، هكون التور جايد، أقصد المرشد السياحي يعني، وعرفها على النجع حتة حتة..
هتف رائف مازحا: ربنا يستر، بصي يا آنسة فريدة، معاكِ الموبيل بتاعك، وأي مصيبة، اتصلي بالدكتورة نوارة، هتلاجينا عندك.. زم سامر ما بين حاجبيه حانقا، ما دفع الجميع ليقهقه على ملامح وجهه التي انقلبت سحنتها.. أشار رائف لنوارة هاتفا: راچعة معايا ع الاستراحة يا دكتورة!
أومأت برأسها إيجابا، لتسير جواره في هدوء ظاهري كعادتها، تاركة فريدة بصحبة سامر الذي يبدو أنه من كانت فريدة بحاجة لصحبته فعلا، ليخرجها ولو قليلا من حالة الحزن والشرود التي كانت تسيطر عليها منذ قدمت لنجع الصالح، ولا علم لأحد بأسبابها..
كان ذاك المتجر العاشر على أقل تقدير، الذي ارتاداه بذاك المول الضخم، تنهدت حُسن في إرهاق: مش كفاية كده يا ربى! أنا تعبت من اللف، أنتِ متعبتيش! هتفت ربى في دهشة: حد يتعب من الشوبنج، هاد علاااج. ابتسمت حُسن هاتفة: بس أنا مش عيانة، كفايانا كده النهاردة. هتفت ربى بطفولية تستجديها: متجر واحد وبنكفي، متجري المفضل هناك بالزاوية، تعالي..
لم تسمع حُسن باقي نداء روبى، فلقد تسمرت موضعها ما أن سمعت امرأة ما تنادي باسمه: يا نادر.. لا تعلم هل كانت تنادي على أبنها أو ربما زوجها، لكن نداء أحدهم باسمه جعل قلبها ينتفض بموضعه، كأنما كان غارقا في سبات عميق، وصب عليه أحدهم دلو من ماء مثلج موقظه من سباته. تنبهت ربى لحالتها العجيبة تلك، وتيهها الغريب، لتهمس بها في قلق: أنتِ بخير يا حُسن!
استفاقت حُسن من شرودها، تحاول أن تبدو أكثر ثباتا، هاتفة وعلى وجهها ابتسامة شاحبة: اه، أنا تمام، بس ممكن نقعد! أكدت ربى في تعاطف: طبعا، والله أنا السبب، أرهقتك كتير، بعتذر منك. هتفت حُسن تطمئنها: لا أبدا، أنا اللي حابة استريح شوية قبل ما نرجع نلف تاني. هتفت ربى في لهفة: لا، خلاص، كفينا اليوم، نبقى نرجع فيوم تاني. اكدت حُسن: لا، تعالي بس نقعد شوية، وأنا بعدها هبقى تمام.
أشارت لها ربى لمقهى بالدور السفلي، ذهبت لتجلس على إحدى طاولاته، بينما ربى اندفعت لتحضر بعض العصائر الطازجة.
جالت حُسن بناظريها في المكان الفخم، وكل تلك الأكياس القيمة التي تركتها ربى بحوزتها حتى تحضر المشروبات، حياة مرفهة مختلفة تماما عن حياة الشقاء والضيق التي كانت تعيشها في الحارة، ورغم ذلك تشعر بالشوق إلى الحارة وإلى وجود أبيها جانبها، تفتقد كل ما كان بمصر من ذكريات حتى ولو مؤلمة، فهي نفسها التي لن تستطيع يوما تجاهلها، أو التبرؤ منها، شعرت بغصة ما، زادت من ضيقها، وتكاثرت عليها الذكريات، ليشاركها ذاك المطرب الذي قرروا التآمر عليها، وفتح أغنيته بصوت مجسم، شاديا وصوته يتردد بين جنبات المول:.
أنا كل ما نويت أنسى، لك الذكرى ترجّعني وترى للحين أنا أحبك.. وأشوفك بين حين وحين.. فراقك آه يا فراقك، كسر قلبي وعذّبني.. وأنا نذرٍ علي أبقى أحبك لين يوم الدين.. انسابت دموعها، لكنها اغتالتها بسرعة، عندما تنبهت لاقتراب ربى، حاملة أكواب العصير، مؤكدة في فرحة لم تخف على حُسن، أن شعيل سينضم إليهما بعد قليل، قادم من عمله ليقللهما للبيت.
تجمع الرجال في ذاك الكهف الحجري البعيد، في قلب الصحراء بأعلى الجبل، حاملين ذاك الشوال البني المصنوع من الخيش، ووضعوه أمام سيدهم، الذي كان يجلس في لامبالاة، يضع مبسم النرجيلة بفمه، معبقا الأجواء حوله بدخان ازرق يغيب العقول الواعية، أمرا إياهم في سرعة: افتحوا الشوال، بسرعة يا بهايم..
انتفض الرجال منفذين في عجالة، لينكشف المستور داخل الشوال، كان منتصر الذي ما أن انفرج عنه ذاك القماش الرديء، إلا وانتفض يلقن حامليه درسا، مسددا إليهم بعض اللكمات التي أسقطتهم أرضا، رغم جروحه الطفيفة، التي لم تؤثر على لياقته..
اندفع سمعان النادي من موضعه، تاركا يد النرجيلة لهذه الفتاة الفائقة الجمال، التي كانت تجاوره، مقهقها في سعادة: يسلم زندك يا سيد الرجالة، والله يستاهلوا، معلش عندي أنا دي يا سيد البشوات.. هتف منتصر في حنق: هو مكنش في حاجة أوسخ من دي تجيبوني فيها.. هتف المعلم سمعان وهو يحتضن منتصر مرحبا من جديد: حمد الله بالسلامة يا باشا، نورت الخُن، ومتأسفين على العيال الغشيمة دي، اللي ما يعرفك يجهلك..
حياه منتصر في حفاوة متبادلة، ليجذبه سمعان نحو مجلسه، هاتفا بالفتاة التي ما برحت مجلسها قيد أنملة، تراقب ما يحدث بعين خبيرة، ونظراتها تحمل اعجاب فاضح منذ سقطت على محيا منتصر: خديلك جنب يا نغم، سيبي مكانك للباشا.. تباطأت في غنج، وهي تنهض هامسة: ماشي يا معلم، ما هو من لقي أصحابه، نسي أحبابه.. نظر إليها منتصر في مجون، هاتفا بنبرة مازحة: على فكرة المثل كده غلط..
أطلقت نغم ضحكة ماجنة مجلجلة، وهي تهتف في دلال: أموت أنا فالغلط.. قهقه سمعان وشاركه منتصر ضحكاته، بينما اندفعت هي تضع بعض الموسيقى الراقصة، لتحتفل على شرف استقبال منتصر، الذي أصبح عضو في عصابتهم، التي أعيت قسم مكافحة المخدرات، ولم يفلح أي من قادتها، في إسقاط سمعان عن عرش تجارة المخدرات، منذ سنوات بعيدة.