logo




أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في Forum Mixixn، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .




اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 12 من 36 < 1 29 30 31 32 33 34 35 36 > الأخيرة



look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 05:59 صباحاً   [94]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث عشر

طرقات على باب الشقة جعلتها تندفع هاتفة: طيب جاية. حااااضر.
كانت تعتقد أنه أحد إخوتها لكن ما انفرج الباب حتى تطلعت نحو الطارق لتشهق في صدمة مغلقة الباب من جديد. لا تصدق ما رأته عيناها.
عاد الطرق من جديد لتفتح الباب في هوادة متطلعة نحوه هاتفة في تعجب: أنت ايه اللي جابك هنا!؟
هتف منتصر مؤكدا في هدوء: جاي ازور سيادة العميد. عندك مانع. روحي بلغيه. ولا انتوا بتقابلوا ضيوفكم ع السلم!

هتفت بدور: انت بتهزر! ابلغ مين!؟ لا مليش دعوة. أنا هدخل. وانت رن تاني وأي حد يفتح لك ويبلغه غيري. قال بلغيه. مليش فيه.
أمسك ضحكاته هاتفا: يا جبانة.
وما أن هم باستطراد الحديث حتى هتفت تسبيح من الداخل: مين يا بدور!؟
اضطربت واندفعت للداخل وما هي إلا برهة وكانت تسبيح تستقبله في حفاوة توصله حتى غرفة الصالون. واستأذنت لتخبر حازم. الذي تطلع نحوها متعجبا: معقول! يمكن جاي وعنده جديد.

هم بالخروج من الغرفة لتستوقفه تسبيح هاتفة بنبرة أم أدركت ما بقلب ابنتها تجاه منتصر: حازم! مينفعش تتساهل شوية.
تنهد حازم مؤكدا: في حاجات مينفعش يبقى فيها تنازلات يا تسبيح. ربنا يسهل وبكون جاي بالخير.
اندفع حازم نحو الصالون وما أن ابصره منتصر حتى انتفض محييا في احترام. جلسا قبالة بعضهما.

ليهتف به حازم مشيرا لعلب الحلوى المتعددة التي كان قد وضعها جانبا ما أن دخل الغرفة: مكنش في داعي تكلف نفسك يا منتصر. أنت داخل بيتك.
ابتسم منتصر وهتف متفائلا: وده العشم برضو يا فندم. أنا جاي اجدد طلبي بخصوص الآنسة بدور.
ابتسم حازم هاتفا: اكيد وصلك من المرة الأولى إن دي حاجة تسعدنا. أنت ظابط محترم وأخلاقك عالية. وأنا معنديش أي اعتراض عليك. بس يا ترى. الشرط اللي قاله عمي عاصم فالبلد هيتحقق!؟

تنحنح منتصر هاتفا: أنا جاي عشان اثبت رغبتي الحقيقة. حاولت اقنع أهلي كتير بس للأسف مفيش أمل. وكنت متعشم إن حضرتك تتغاضى عن الشرط ده.
هتف به حازم مستنكرا: عايزني اجوزك بنتي وانت جايلي بطولك يا حضرة الظابط!؟
نكس منتصر رأسه مستشعرا الهزيمة ليستطرد حازم بنبرة حانية: مجيتك دي كبيرة قوي عندي. لكن حط نفسك مكاني كأب. هل هاترضى تجوز بنتك لواحد جايلك بطوله! إجابتك هاتبقى كفاية عشان ننهي النقاش.

تنهد منتصر ونهض في انهزام مستأذنا. وما أن رحل حتى طلت بدور من حجرتها وقد سمعت الحوار كله عن طريق الشرفة المشتركة بين حجرتها وحجرة الصالون.
تطلعت نحو حازم وتسبيح وانفجرت باكية في وجع وأخيرا عادت لحجرتها تغلق عليها بابها من جديد.
دخل حازم حجرته تتبعه تسبيح باكية وهتفت متحسرة: بدور بتحبه يا حازم.
أكد حازم وهو يضع رأسه بين كفيه: عارف. وهو كمان بيحبها وعايزها بجد. بس أنا فأيدي إيه أعمله!

تنهد وهتف مستطردا في حنق: أنا لو عليا أجوزههم. بس فيه حاجات كتير تمنع. أولهم خوفي عليها.
جلست تسبيح تربت على كتفه تحاول تهدئته: طب اهدى يا حازم. اهدى عشان خاطري. للسكر عندك يعلى. وهم لو ليهم نصيب في بعض ربنا هايقسم بالنصيب.
وملست على رأسه تشاكسه: ولا أنت شكلك نسيت حكايتنا!؟
ابتسم في شجن مؤكدا: حرام عليكِ. هي دي حاجة تتنسي برضو!

ابتسمت بدورها ليتنهد أمرا: قومي شوفي بدور. طيبي بخاطرها. وأنا هقوم ألبس ونازل المديرية. كانوا طالبني من ساعة وأنا أتأخرت عليهم.
ربتت على كتفه من جديد واندفعت نحو غرفة بدور تحاول أن تشاركها وجيعتها التي تدرك تماما أن ما من شىء يمكن أن يداويها.
وصل لنجع الصالح أخيرا في سلام. وعرج على بيت عمته هداية وما أن خطت قدماه عتبات الدار حتى ارتفعت الزغاريد من هنا وهناك.

تعجب هاتفا في مزاح: إيه في! كل الفرحة دي عشان شوفتي!؟
قهقه عبدالله الذي اندفع محتضنا يونس في سعادة لمرآه بينما هتفت به عمته هداية: حمد الله بالسلامة يا يونس. والله اتوحشناك يا غالي.
قبل يونس هامتها تقديرا وهتف مقدما الصور الفوتوغرافية: أها الأمانة يا عمتي. عشان أنا عارف كنتِ هتزعلي لو مچبتهمش المرة دي.

تطلعت هداية لصور الأحباب الراحلين وقد دمعت عيناها في حنين وشوق. وهتفت بعبدالله أمرة: تعالى يا واد يا عبدالله علجهم فالصالون.
هتف عبدالله مبتزا إياها: ساندوتشين چبنة وكباية شاي. عشان أعرف اعلجعم بمزاچ.
قهقه يونس وهتفت هداية في حنق: يا واد هو أنا بجلك عدي البحر بيهم. دول مسامرين فالحيطة. جوم لأمسمر دماغك.
قهقه يونس من جديد وعبدالله يشاكسها: من غير السندوتشات والله ما أنا جايم. اعتبريها أچرة التعليج.

هتفت هداية حانقة: والله ما حد عايز يتعلج من ودانه إلا أنت يا بعيد.
هتف يونس لعمته: هاتي يا عمتي الشاكوش والمسامير وأنا اعلجعملك.
هتف عبدالله مازحا: بجي كده يا يونس. جطاع أرزاج بصحيح.
تطلعت هداية نحو ولدها في ضيق وعادت بعد برهة تحمل بعض المسامير ومطرقة.
ناولتهم ليونس الذي تبعها للصالون لتشير له على المواضع المناسبة لتعليقهم.

بدأ يونس في دق أول مسمار إلا أنه تذكر الزغاريد التي سمعها ما أن دخل الدار فهتف متسائلا: مجلتيش يا عمتي. كانت ليه الزغاريد!؟ سمية چالها عريس!؟
أكدت هداية في فرحة: لاه يا حبيبي. احنا رايحين نخطبوا لمؤمن النهاردة ع المغرب باذن الله.
هتف يونس وقد أوشك على تثبيت المسار الأول: الف مليون مبروك. نويتوا على بت مين!؟
هتف هداية في فرحة: سهام بت باسل التهامي.

سمع يونس الاسم ودون أن يدرك سقطت الطرقة الأخيرة على أحد أصابعه ما جعله ينتقض مسقطا المطرقة من كفه.
هتفت هداية في لوعة: اسم الله عليك يا ولدي. أنت بخير!؟
أكد يونس ما أن تدارك الأمر: اه بخير يا عمتي. معلش مكنتش مركز.
انحنى ملتقطا المطرقة من جديد ليعاود عمله لتهتف به عمته: بكفياك يا ولدي. أنا ابجى اخلي مؤمن يعلجهم. أنت برضك چاي تعبان من السفر.

هتف يونس وهو يعلق الصورة الأولى على مسمارها في حرص: والله أبدا. ما حد معلجهم غيري. يجى العريس عايزاه فاضيلك يعلج تصاوير.
قهقهت هداية هاتفة: عجبالك يا يونس. ربنا يرزجك ببت الحلال اللي تريح جلبك.
هتف يونس مؤمنا. والعجيب أن ما من صورة زاحمت مخيلته اللحظة إلا صورة سماحة التي كان يهرب من مطاردتها له طوال طريق العودة لنجع الصالح.

طرقات على باب حجرته جعلته يتنبه. وما أن طلت زوجة عمه ايمان من خلف الباب حتى انتفض مذعورا: إيه في يا مرت عمي!؟ زهرة بخير!
هتفت إيمان تطمئنه: ايوه يا عاصم. كله تمام.
تنهد في راحة لكنه تنبه لفضح مشاعره بهذا الشكل لكن فتشاغل عنها إلا أن إيمان استطردت كأن شيئا لم يكن هاتفة: بجولك يا عاصم. تعالى اجعد مع زهرة عجبال ما اخطف رچلي للسرايا اچيب شوية حاچات وأرچع.

هتف يحاول التملص من هذه المهمة العويصة رغم رغبته الملحة في رؤيتها: طب جوليلي عايزة إيه وأنا أروح أچيبهولك. أو حتى نكلموا حد يچيبه. أنا معرفش ليه الدكاترة مصممين على رجدتي دي وأنا بخير وكويس أها!
هتفت إيمان مفسرة: يمكن عشان عارفين إنك أول ما هتخرچ من هنا. هتمارس حياتك عادي ومش هتنتبه لدراعك وده هيبجى فيه خطر. وبعدين أهي فرصة تبجى چنبنا.

هز رأسه موافقا على تفسيرها ما جعلها تؤكد في عجالة: أنا نازلة بجى عشان عمك ماچد مستنيني تحت. هروح وهرچع طوالي مش هتأخر. خليك چنبها يا عاصم.
اندفعت إيمان مغادرة دون أن تعطيه الفرصة للرفض أو القبول. ما جعله ينهض في هوادة ما أن غابت زوجة عمه. متجها صوب غرفتها القابعة بنفس الرواق الذي يضم غرفته.

وقف أمام بابها مضطربا ومد كفه يطرق الباب في وجل. كان يعلم أنها لن تجيب. فهي ما تزل بعالم أخر. منعزلة عن عالمنا كليا.
فتح باب الغرفة متسمرا على أعتابها متطلعا نحوها وقلبه يترنح في وجيعة على حالها المحزن وشحوبها الشديد. دبلت زهرته وهي ما تزل يانعة على غصنها تنهد هاتفا: السلام عليكم. كيفك دلوجت!

كان سؤال أحمق أجوف لا يحمل أي ذكاء ولا يستحق الإجابة من الأساس. لكنه سؤال بحكم العادة لمحاولة فتح الحديث. فقد كان حالها الظاهري يكفي كإجابة شافية وافية.
جلس على المقعد الملاصق لفراشها والذي كان موضع جلوس أمها الدائم. استعاره اللحظة في محاولة ليكون أنيسها حتى عودة أمها من مهمتها.

تنحنح هاتفا وهي ما تزال على جمودها الظاهري مشيرا لتلك الرواية التي حملها معه من حجرته: تحبي أجرالك حاچة! عارفك بتحبي الجراية وجبت لك الرواية اللي كانت عچباكِ. الحب في زمن الكوليرا.

كان قد أخبر سمير منذ عدة أيام ليحضرها حتى يقضي معها وقته الذي يمضيه هنا بالمشفى في ملل ورتابة. وها قد جاء وقتها. لقد أوشك على إنهائها بالفعل. لم تكن الرواية هي ما أثار إعجابه. كان إصرار البطل هو المثير لإعجابه بحق. كانت محقة في ملاحظاتها فعلا.
تنبهت للمرة الأولى ما جعله يهتف في حماسة: أنا جريتها كلها. حلوة بچد. بصي. دي أكتر حتة عچبتني.

أدارت رأسها متطلعة نحوه وهو منهمك. منكس الرأس يقلب في صفحات الرواية. وما أن رفع رأسه متطلعا نحوها. يهم بالقراءة حتى توقف مصدوما ونظراتهما تتشابك.
نظراتها تحمل مزيج عجيب من مشاعر مختلطة وقد كان هو من الاضطراب ما جعله عاجز تماما عن تفسيرها.

قطع النظرات معاودا النظر لصفحات الرواية هامسا بأحرف مهزوزة أدركها من فوره ما جعله يتنحنح مجليا صوته هاتفا في نبرة أودعها كل ما يحمل من ثبات يقرأ الأسطر التي حازت على إعجابه: نحن نثرثر كثيرا. ومع ذلك. نعجز عن وصف مشاعرنا كما يجب.
رفع ناظره نحوها. لتقابله نظراتها المثبتة نحوه بشكل آثار تعجبه.

أعاد النظر نحو صفحات الكتاب مقلبا ليقرأ من جديد: ما أعظم أن يستطيع الإنسان أن يخفي مشاعره حتى لو تنازعته نفسه لتفجيرها بعيون دامعة، انكسارا لأجل صمت أنيق وحزن أحمق وأنانية فارغة.
رفع ناظره مرة أخرى متطلعا نحوها ليسود الصمت لتهمس بصوت متحشرج لأول مرة منذ أيام بأحد تلك الأقتباسات: الشيء الوحيد الذي يؤلمني بالموت. هو ألا أموت حبا.

انتفض لا يصدق أنها أخيرا تفاعلت معه ونطقت بعدة أحرف. كان اقتباس عجيب ومحزن. يضم الموت والحب بجملة واحدة.
هل كانت ترغب لو أنها رحلت مع زوجها لعدم قدرتها على تحمل عبء حب أصبح طرفه بعالم أخر!؟

كان هذا هو تفسيره لما نطقت به. حاول تجاهل تلك الغصة بحلقه وهم بالحديث إلا أن باب الحجرة أنفرج. كان يعتقد أنها أمها قد عادت. رغم أنه لم تمر الساعة بعد على رحيلها. كانت الممرضة تحمل صينية الغذاء. تطلعت نحوه هاتفة: حضرتك هنا! طب خد بقى صينية غداك بالمرة بدل ما اسبها فأوضتك وتبرد.
هز رأسه موافقا. لتضع الممرضة صنيتي الغذاء جانبا. راحلة في هدوء.

نهض حاملا صينية طعامها واضعا إياها على طرف الفراش. هاتفا: ياللاه عشان تاكلي حاچة.
لم تمد يدا نحو الصينية كأنها عادت سيرتها الأولى وتلك الكلمات التي همست بها كانت دربا من تخيل ليس أكثر. ما دفعه ليعاود الجلوس مجددا. كان وضع ذراعه المحمولة لرقبته بحامل طبي معيقا له عن التصرف حتى أثناء تقليب صفحات الرواية لكن الآن يمكنه أن يناولها الطعام على الأقل.

هزت رأسها رفضا عندما قدم لها طبق الحساء. أعاد الطبق للصينية من جديد. وساد الصمت بينهما. إلا أنه تجرأ وأمسك بالملعقة يحمل بها بعض الحساء من طبقها نحو فمها. حاول أن يجعل كفه ثابتة لا ترتجف جراء تلك النظرات التي شملته بها. وللعجب مدت فمها تتناول ما بالملعقة من حساء. ما جعله رغم اضطرابه يبتسم في انتصار أنه استطاع إقناعها بتناول الطعام الذي كانت تعافه منذ ما حدث. حتى أنهت الطبق.

صرخات متقطعة وهمهمة وجع متكررة وهتاف ما بين الصرخات مصاحبا لأنفاسها اللاهثة المتتابعة: سامحني يا رائف. سامحوني كلكم.
ارتفعت الصرخات من جديد ما جعله ينتقض في ذعر على فراشه متلفتا حوله في تيه.
نفس الحلم بنفس التتابع الذي يعاوده ما بين فترة وأخرى ولم يفارقه ابدا.

تنهد في ضيق وهو يمسح وجهه بكلتا كفيه محاولا دفع النعاس عنه. فما عاد لديه الرغبة فيه من الأساس. نهض متوجها للحمام متوضئا لصلاة الفجر التي كان آذانها يصدح بالخارج في هذه اللحظة.
اندفع من حجرته بعد بعض الوقت وما أن هبط الدرج حتى طالعه محيا جده المتسلل ليلا كعادته. ابتسم محاولا أن يبدو لا يدرك. وانحنى مقبلا هامته. ليهتف جده عبدالسلام السليماني: إيه اللي مجومك دلوجت! ده الفچر يا دوبك لسه مأدن مفيش.

أكد رائف متنهدا: أبدا يا چدي. جلجت جمت لحالي. ومجدرتش أكمل نوم. فرحت جومت أعملي حاچة مفيدة. بدل المطوحة ع السىرير من چنب لچنب.
تنهد الجد متسائلا: لساك شايل چواك كتير يا رائف. وتوهت عن نفسك كتير. ميتا ترچع لنفسك يا ولدي!؟
هتف رائف متطلعا لكفيه في حسرة: مبينهاش رچوع يا چدي. اللي راح مبيرچعش.

واستأذن مندفعا للخارج حيث فرسه الأدهم الذي يمتطيه مسابقا الريح معتليا تلك الربوة البعيدة منعزلا عن العالم. لعل تلك الفترة البسيطة من العزلة التي يفرضها على نفسه كلما زارته بأحلامه تجعله قادرا على مجابهة أوجاع ذاك الجرح الذي لم يندمل داخله أبدا.
ظل على حاله حتى بدأت شمس الضحى في شق الغيم قبالة ناظريه والتي استطاع التطلع إلى عينها القوية بسهولة من خلف منظاره الشمسي الأنيق.

من هناك على أول الطريق نحو السليمانية لاحت عربتها قادمة. لا تخلف موعدها يوما. ابتسم رغم شجونه التي تعربد بدواخله. وكأن بقعة النوار التي تشبه اسمها تضئ تلك العتمة التي تشمل روحه الحيرى.
جذب لجام فرسه موجها إياه ليهبط التلة في اتجاه الطريق. ليظهر قبالتها ما أن ترجلت مغادرة سيارتها. والتي غادر خفيرها للتو.

رفعت ناظريها نحوه. وخفق قلبها في قوة. كانت تلك المرة الأولى التي تره فيها بعد ما كان بينهما من نظرات داخل الاستراحة وهي تطيب له جرحه. والذي على ما يبدو قد شفي بالفعل. فهو يقبض على لجام فرسه بقوة جعلت شىء ما يضطرب داخلها.
هتفت بحكم العادة والأدب: صباح الخير يا رائف بيه.
ترجل سائرا جوارها وهو ما يزل قابضا على لجام فرسه ليسير خلفه: صباح الخير يا دكتورة.

ساد الصمت بينهما. لم يكن كلاهما بارعا في الحديث. لكن صمتهما كان ابلغ من أي كلمات يمكن أن تقال. صمت ظاهري يحمل داخله صخب ألعاب نارية في يوم مهرجان.
همت بالحديث ليهم بالحديث في نفس اللحظة. تطلع كلاهما للأخر. واتسعت ابتسامته بشكل غير اعتيادي اورثها اضطرابا في جزء ما مجهول داخلها.
هتف مشيرا لها: اتفضلي. كنتِ عايزة تجولي إيه!؟

همست متسائلة: أبدا. كنت هسألك. وشعرت بحمق سؤالها والذي قد يجلب عليها ذكرى تزيدها اضطرابا. فصمتت. ما دفعه لتعجلها: هااا. عن إيه!
استطردت وما عاد لها من مهرب: چرح دراعك. بجي كويس!
ابتسم مؤكدا: الحمد لله. بخير. دكتورة سميحة قامت بالواجب.
همست في نبرة معتذرة: أنا آسفة إن ده حصل بسببي.
وصلا للاستراحة ما دفعه ليهتف مبتسما على غير عادته: محصلش حاچة يا دكتورة. محصلش إلا كل خير.

هم بالرحيل لتستوقفه متسائلة في فضول لم يكن من عاداتها كذلك: يا رائف بيه.
استدار نصف استدارة نحوها مستفسرا ما دفعها لتستطرد: كنت عايز تسألني عن إيه صحيح!
صمت للحظة ظنت أنه سيعقبها بسؤال ما إلا أنه هتف بتعبيرات وجه جامدة عادت لطبيعتها: مفيش. حاچة مهياش مهمة. مش عايز أعطلك عن شغلك. سلام عليكم.

لم يكن الفضول قاتلها يوما. لكنه اللحظة تكاد تقسم أن لها رغبة حثيثة في الركض خلفه حتى يخبرها عن سؤاله الغير هام ذاك. والذي رغم اعترافه بسذاجة فحواه إلا أنها ستموت فضولا لمعرفته. لكنها عزت نفسها مؤكدة. أن الفضول خلق سىء. فكم قتل الفضول من قطط! ما دفعها لتتجاهل تلك الرغبة في المعرفة متجهة صوب الوحدة الصحية.

كان عليه الصعود لحجرة القائد الذي استدعاه لأمر هام. كان في اتجاه حجرة المكتب بأخر ذاك الرواق الطويل نوعا ما عندما توقف فجأة عندما ابصرها. كانت تقف مع ذاك الشاب اللزج الذي حذرها مرارا من الوقف أو التعامل معه من الأساس. لم يكن يدرك أنها ما فعلت إلا عندما لمحته قادما فاندفعت تقف لتحدث ذاك الشاب الذي كانت لا تستلطفه ابدا. لكنها لرغبتها في إثارة غيرته فعلت. ربما يتحرك ذاك التمثال الصخري ويعود لسابق عهده قبل أن يقر لها برغبته الحمقاء في جعل ما بينهما صداقة بريئة لا أكثر بعد أن رفض والدها مطلبه في التقدم لخطبتها.

توقف هو بالفعل لبرهة. يتآكله الغضب وتنهش قلبه الغيرة العمياء. لكنه تمالك أعصابه وتمسك بأخر درجات ضبط النفس وهو يمر امامهما في لامبالاة ظاهرية جعلتها تكاد تموت قهرا ما دفعها رغما عنها لتناديه بتهور: سيادة النقيب. ممكن لحظة!؟
توقف ولم يستدر لها لتندفع تقف قبالته متطلعة نحوه في حنق هامسة: إيه. عديت ومسلمتش حتى. هي دي أصول الصداقة يا كابتن!؟

ضغطت على كلمة الصداقة عن عمد لكنه تجاهل ذلك هاتفا في برود ظاهري: لقيتك مشغولة محبتش ازعجك وكمان أنا مستعجل الصراحة.
كادت أن تصرخ غيظا إلا أنها هتفت في تفهم: تمام. يبقى مش هعطلك.

وتركته مندفعة لتقف من جديد مع ذاك الشاب الذي ظل بانتظارها ولم يتزحزح عن موضعه ما أورث منتصر رغبة في العودة إليه ليوسعه ضربا محذرا إياه من الاقتراب منها إلا أنه زفر في قوة واندفع لمكتب القائد الذي دخله بعد عدة طرقات متسارعة أذن له بعدها ليهتف به القائد في سعادة: اتفضل يا منتصر. عندي لك خبرية حلوة وأنت كنت مستنيها.
هتف منتصر في لهفة: اللي فبالي حصل يا فندم!؟

أكد القائد في هزة من رأسه: ايوه بالظبط. طلب النقل اللي طلبته اتوافق عليه. إزاي!؟، معرفش. ده أنت شكلك مسنود جامد بقى.
ابتسم منتصر في تأكيد: مسنود على كرم ربنا والله يا فندم. بس أنا فعلا كلمت سيادة اللواء مرتضى السعدي اللي كنت بخدم معاه في اسكندرية من كام سنة. والحمد لله ربنا سهل.
هتف قائده في تعجب: بس أنا مستعجب الصراحة. حد يسيب الراحة ويروح للشقا برجليه يا بني!؟

ابتسم منتصر مؤكدا: انا هبقى مرتاح فالشقا ده يا فندم اكتر من الراحة اللي هنا والله.
تنهد القائد متطلعا إليه في استغراب وأخيرا هتف في محبة: على بركة الله يا وحش. أنت ظابط ممتاز وهتسند في أي مكان تروح له. بالتوفيق.

ألقى منتصر التحية العسكرية مستأذنا في راحة وقد اطمأن أنه سيرحل عن هنا فما عاد قادرا على رؤيتها في كل لحظة دون أن يكون لها دوما. حبيبا لا مسمى أخر. لكنه لن يستطع تنفيذ ذاك الوعد الذي قطعه على نفسه وهي أمام ناظريه بهذا الشكل الذي يورثه الجنون ويسلب منه راحة البال ويخلف له الحسرة. فكان عليه أن يبتعد من أجلها أولا قبل أن يكون لأجله.

طالعها من جديد ما تزل تقف في نفس موضعها السابق لكن هذه المرة مع مجموعة من الشباب ليس واحدا فقط. ورغم أنه كان هناك العديد من الفتيات في صحبتها لم تكن تقف بينهم وحيدة إلا أنه شعر بنفس المشاعر القاتلة التي تفتك بحشاه فهو يعلم تماما أن الإختلاط بهذا الشكل لم يكن من شيمها وأنها لا تفعل هذا إلا لتسترع انتباهه وتثير حفيظته.

مر بجوار الجمع متجاهلا نظراتها التي كانت تتبعه والذي استشعرها ملتصقة بظهره حتى غاب. تنهد في ضيق وهو يدفع بنفسه لداخل سيارته مؤكدا على نفسه أنه اتخذ الإجراء السليم وان قرار ابتعاده عن الجامعه برمتها كان الأصوب برغم الوجع الذي يستشعره اللحظة وهو يدير سيارته راحلا عنها بلا رجعة.

شغل مذياع السيارة لعله يصرف ذهنه عن تلك التي تركها خلفه ترجوه بنظراتها أن لا يذهب رغم كبريائها الذي كان يدعي الصمود أمام بروده المصطنع والذي كان يخفي خلفه نارا مستعرة بروحه لا يعتقد أنها ستخبو يوما. أرتفع شدو المطرب يذكره بحاله الميئوس منها: وإن شفته ويّا غيري مطول في السلام
وشافني شايفه يعند ويطول في الكلام
ويا عيني ع اللي كان بيحب الثاني أكثر
بيهرب من المكان وبيبقى عذابه أكبر.

ويا عيني ع اللقا من غير غيرة وعتاب
ده مفيش بين الصحاب غيرة وعتاب.

دمعت عيناه حتى أنه بدأ يفقد علامات الطريق أمام ناظريه وهنا انفجر غضبه كله دفعة واحدة وقد أخذ في الضرب على مقود السيارة بكفه في ثورة لعدة مرات متتالية قبل أن يتمالك نفسه مغلقا المذياع في عنف مخرسا تلك الكلمات التي كانت كالبنزين الذي يلق على نار وجعه المستعرة بصدره من الأساس فتزيدها اشتعالا. جذب شهيقا قويا كتمه بصدره للحظة قبل أن يطلقه زفيرا محملا بلهيب غضبه وهو يضغط على دواسة البنزين اكثر رغبة في الهرب بشكل أسرع من ذكرياته التي تلاحقه وهو يدرك تماما أن لا مفر منها أبدا.

خرجت من مقر اجتماعها الذي انتهى لتوه متوجهة صوب عربتها التي ما أن استقلتها حتى لمحته خلفها. يركب عربته بدوره. هل كان ذاك صدفة! أم أن الأمر بات متكررا في الآونة الأخيرة ما جعلها تعتقد أنه يتبعها حيث تكون. انتشت لهذا الخاطر الذي أطرب قلبها فرحا. لكنها لوهلة تذكرت أن هذه المشاعر التي ما زالت تكنها له باتت محرمة عليها. فهي ليست من حقها فالأساس. فهو رجل متزوج. ينعم بحياة زوجية مستقرة وزوجة محبة كانت من البداية حب عمره.

أحبطها الخاطر الأخير لتهبط من علياء أحلامها لحضيض الحقيقة والواقع.

اندفعت بسيارتها في سرعة تفتح مذياع السيارة الذي رفعت مستوى الصوت فيه لأعلى درجة لعل ذلك يصرف خاطرها عن التفكير في حبها المستحيل ومشاعرها المحرمة. لذا لم تتنبه لتلك السيارة التي ظهرت فجأة ما أن دخلت بأحد الشوارع الهادئة نسبيا بعيدا عن ضحيج الشوارع الرئيسية. إلا واسرعت هذه السيارة بشكل جعلها تنتبه قسرا عندما اعترضت طريقها ما اضطرها لتضغط على مكابح سيارتها لتتوقف متطلعة لما يحدث في صدمة.

اندفع عدد من الرجال نحو سيارتها التي اتخذت دفاعاتها وأغلقت أبوابها إلكترونيا وظلت حبيسة الداخل لا تدري ما الذي يجري بالضبط! وماذا يريد هؤلاء الرجال منها!؟
جذبت حقيبتها باحثة عن جوالها لطلب النجدة. لكن من شدة اضطرابها والرجال يحاولون فتح أي من أبواب السيارة الأربع سقط الهاتف اسفل قدمها في عتمة الدواسة لتهتف متذمرة في غضب.

صرخت ما أن تجرأ أحدهم وكسر إحدى النوافذ واستطاع مد كفه لفتح الباب ليصل إليها أخيرا. بدأت في الصراخ وهم يجرون بها لخارج السيارة. إلا أن تلك الطلقات التي ارتفع صداها بالقرب جعلتهم يتركوها مترنحة وأحدهم قد وضع منديلا على أنفها بغية تخديرها لتلوذ بالصمت ولا تلفت صرخاتها أي من كان.

بدأ الدوار يزحف لعقلها بظلمته. ولم تدرك من أمرها شيئا. إلا تلك الطلقات التي دوت من جديد وهي تسقط بين ذراعي نزار الذي هتف باسمها عدة مرات. لكنها لم تستطع الإجابة. وهو يحملها نحو سيارته. مندفعا نحو بناية ما على الأرجح كانت البناية التي يقطن بها.
لتتوقف العربة التي كانت تتبع نزار شاهدة على كل ما حدث. يبتسم صاحبها في تشفي ضاغطا على ازرار جواله. لحظة وهتف في فخر: الموضوع خلص. والفار دخل المصيدة.

قهقه شخص ما على الطرف الأخر منتشيا فأخيرا تحقق ما كان يصبو إليه.

كان تشعر بالاختناق. وحيدة بهذا البيت العريض بعد وفاة أبيها التي مر عليها أكثر من شهرين كاملين. لم يكن هناك إلا شيء واحد فقط هو الذي يخرجها من حالة الاختناق والضيق هذه. الرقص. ربنا لا يدرك مخلوق أن تلك الفتاة المسترجلة والتي تتشبه بالرجال في تعاملاتهم وملابسهم هي راقصة بارعة. عندما ترقص تتلبسها روح عجيبة. روح انثى ثائرة قررت أن تؤكد للجميع أنها اكثر أنوثة من كثيرات.

دخلت حجرتها وعبثت قليلا بخزانة ملابسها حتى اخرجته. أخرجت ذاك الفستان الحريري الذي كان يوما لأمها الراحلة. والذي يعد كذلك الذكرى الوحيدة لها بهذا المنزل. كان أبوها قد أخرج كل ما كان لها لوجه الله صدقة على روحها. ولم يبق إلا هذا الثوب الحريري الذي طالما أخبرها أنه كان يعشق رؤيته عليها.

لقد أمسكت به متلبسا ربما مرة عندما كانت فالرابعة عشرة من عمرها. كان يبكي بحرقة وهو يحتضن ذاك الثوب العزيز. علمت منه أنها كان يعشقها. ورحيلها الغير متوقع قهر روحه.
يومها قررت أن تحتفظ بالثوب لنفسها دونه حتى لا تثير رؤيته شجون أبيها ومواجع قلبه.
وضعت الثوب على جسدها تتطلع للمرأة اللحظة. كان الثوب ملائما لها بشكل يفوق الخيال وكأنما قد صُنع خصيصا لأجلها.

دارت به دورة خفيفة لترتفع حوافه كبتلات زهرة تحتضن ساقها المياس.
همت أن تمد كفا للمذياع لتشغيل الموسيقى لكنها أدركت أن الصوت قد يتسلل للخارج في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل. ما دفعها لتضع سماعات الأذن على جوالها وتخرج للردهة الواسعة وتبدأ السحر.
كانت ترقص كغجرية ولدت ما بين نغمتين حائرتين من جيتار ثائر. أو جنية ترقص على دخان مبخرة مغوية ومغرية. كل خلية في جسدها تستجيب لاستفزاز الوتر.

لا تعرف كم استغرقت من وقت وهي على حالة النشوى تلك. إلا عندما بدأت تتصبب عرقا ملصقا ثوبها الحريري بجسدها الأنثوي الأكثر إغراء من جسد عارضة أزياء.
فتنهدت أخيرا وقد شعرت بالإرهاق فخلعت عنها سماعات الأذن. لتفاجأ بطرق متعاقب على الباب في قوة.
انتفضت موضعها في اضطراب. ثم اقتربت في وجل من الباب متسائلة: مين!؟
هتف محروس من خلف الباب: افتحي يا ست الكل خدي إيراد إمبارح.

هتفت حُسن في حنق: وهو الإيراد ده مينفعش يستنى لبكرة!؟
هتف صوت أجش مصاحب: لا مينفعش يستنى يا ست الكل. ده قاعد على نار الشوق بقاله مدة.

لم ترد بل تسللت ببطء نحو جوالها لتطلب النجدة. من. وجدت نفسها تبحث عن رقمه لا إراديا. لكن من على الباب لم يمهلها بل دفع الباب دفعة قوية. فأصبح بوسط الردهة التي انتفضت هي صارخة تركض منها نحو حجرة نوم والدها تتحامي خلف بابها الذي كان قفله معطلا ما جعلها تضع جسدها على بابه تزود عن نفسها.
لا تعرف أين ذهب صوتها الجهوري المعتاد. كأن الصدمة قد أخرستها فما عادت تمتلك صوتا تصدح به طلبا للنجدة.

بدأ الضغط على بابها يزداد رغم مقاومتها لكن إلى متى يمكنها الصمود!
تمدد يونس على فراشه عيونه معلقة بسقف الغرفة في تيه. تتمثل أمام ناظريه اللحظة صورته. يقصد صورتها. فهو لم يستوعب بعد تلك المفاجأة التي كادت أن ترديه قتيلا عندما شرد أثناء قيادته في الطريق لبيت أبيه بعد اكتشافه سرها. سر سماحة.

تنهد في ضيق وهو يتطلع إلى الفراش المجاور لفراشه في الغرفة والذي كان لراضي. كان يشتاقه اللحظة ويحتاج وجوده. فلو كان هنا لكان قص عليه كل الحكاية وسأله النصيحة. أمسك هاتفه وضغط على رقمه. انتهى الرنين على الطرف الأخر دون رد فأعتقد أن راضي قد خلد للنوم.

زفر يونس في ضيق واستدار موليا ظهره للفراش الذي احتله بالفعل اثنين من اخوته الأصغر سنا. لتعاود صورتها الظهور أمام ناظريه من جديد وهي تتمايل بكل ذاك الإغواء غير مدركة أنها أطاحت بثباته وتعقله. فكيف لامرأة بكل تلك الأنوثة الصاخبة تخدعه بزي ذكوري حتى أنه ما شك في حقيقتها للحظة!؟ وطل ذاك السؤال الأهم بمخيلته. لما فعلت ذلك!؟ لما كتبت على نفسها العيش عكس طبيعتها مختبئة خلف كونها أحد الرجال!؟ ما السر وراءها يا ترى!؟

ظلت دماغه على غليان أفكارها حتى جذبه النوم لعتباته لكنه لم يستطع انتزاعها من مخيلته فرافقته بأحلامه غير قادر على الفكاك منها.

تأفف شاعرا بالضيق. لا يعلم سببا محددا لذلك. لكن كل ما كان يعيه اللحظة هو رغبته في الرحيل عن الحارة والعودة للنجع بأسرع وقت ممكن. فقد اقتربت غايته من نهايتها وأصبح خبيرا في صيانة بعض أنواع السيارات التي تستخدم بشكل كبير في الصعيد. وعلى طرقه الوعرة. وقد حان الوقت ليفتح مشروع العمر الذي كان يحلم به. مركز لصيانة هذه النوعية. يديره بنفسه.

زفر ناهضا من فراشه للخارج. يتطلع من سور السطح لقلب الحارة في مثل هذه الساعة وهو يدرك بقرارة نفسه أن سبب رغبته في تعجيل الرحيل هو. نعمة. ذات الجدائل التي تسلبه وقار قلبه. لم يخلق هو للحب وعذاباته. ولا نية له لخوض هذه التجربة الفاشلة في اعتقاده. عليه المغادرة وهو ما يزل قادر على ذلك.

تطلع للنافذة أسفل موضع وقوفه. كان يعلم موضع حجرة نادر. وها هي نافذة غرفتها المشرعة. والتي يتسلل إليه من خلالها بعض الموسيقى. التي انتشى لسماعها وعدلت من مزاجه قليلا. لكنه تنبه اللحظة لدخول محروس وشخص ضخم الجثة معه إلى بيت حُسن.
لم يكن الأمر في حاجة للكثير من الذكاء ليدرك راضي أن هناك مصيبة ستقع إن لم يسرع بالتصرف.

اندفع يقفز درجات السلم نحو بيت ناصر طارقا الباب في عجالة ليست من عاداته ليفتح نادر. الذي صرخ في وجهه مؤكدا: حُسن في رچالة داخلة عليها بيتها مع محروس.

اندفع كلاهما يقفز الدرج للخارج ومنه لبيت حُسن. وصلتهما الصرخات المكتومة من الداخل ما جعل الدم يثور بعروقهما عندما وجدا باب البيت من الخارج مغلقا بسلسلة حديدية قوية. حاولا دفع الباب عدة مرات لكن بلا طائل ما دفع نادر ليندفع لداخل البيت المجاور ليتبعه راضي وكلاهما كان في غمرة اضطرابه حافيا. استفاقت الحارة على ذاك الهرج والمرج الحادث.

عندما وصل كلاهما لسطح البيت ومنه قفزا نحو سطح بيت حُسن مندفعين يهبطا الدرج في هرولة نحو باب شقتها الذي كان يسده محروس بجسده. تاركا شخصا ما بالداخل لغرض ما.
انقض راضي على محروس وبدأ في تسديد الركلات والقبضات له حتى خارت قواه ليندفع للداخل ليجد الرجل الضخم الجثة ذاك قد دفع باب غرفة حُسن بالفعل وهم بالانقضاض عليها. لكن نادر كان الأسبق ليقفز نحوه. دافعا به ليسقطا أرضا.
هتف نادر بها: اطلعي بره بسرعة.

كانت تقف متخشبة لا تعلم ماذا دهاها. عيونها باكية وجسدها متصلب. ما دفعه ليأمرها من جديد وهو يعتلي ذاك الضخم مكيلا له اللكمات: بقولك بره. اخرجي بره.
كان أهل الحارة قد استدعوا الشرطة بالفعل. وحاول ناصر وبعض الرجال كسر قيد باب بيت حُسن. لكن لم يفلح أحد.

ما دفع راضي ليدخل الغرفة بعد قضائه على محروس المكوم كخرقة بالية بالخارج دافعا بها لخارج الحجرة مغلقا بابها ليتكفل هو ونادر بالرجل الذي دفع بالأخير في سهولة كأن كل ما إصابه من لكمات نادر مجرد خدر بسيط استفاق منه سريعا ليبدأ القتال الحقيقي.

لم يكن يعلم أي منهما. من يكون هذا الوحش الآدمي!؟ فلم يكن من الحارة أو حتى من المنطقة بأسرها. الوحيد الذي يعرف هو محروس. كل ما كان يهمهما الآن هو كيفية التغلب على ذاك الضخم بأي طريقة. تناوبا تسديد الركلات واللكمات له. من هنا وهناك. لكنه استطاع الوصول لنادر معتصرا إياه بين ذراعيه ما جعله يصرخ في ألم. اندفع راضي ملقيا مرتبة الفراش أرضا وتناول أحد الألواح الخشبية وضربه به على رأسه. ليترنح أخيرا مفلتا نادر من بين يديه. أخذ يتطوح لبرهة وهما على تحفز لأي حركة قد تصدر منه. إلا أنه سقط كالبرج المنهار على ألواح الفراش المتبقية.

ساد الصمت للحظات قبل أن يتنهد كلاهما. في طريقهما لخارج الغرفة. وقد استطاع أهل الحارة فتح الباب ليصبح خميس وناصر وبعض الرجال بالداخل أخيرا.
كان محروس مكوم أرضا فاقدا الوعي. بينما راضي ونادر. قد نالهما من الكدمات والضربات ما جعل كل منهما يلقي بجسده على أقرب المقاعد لموضعه.

أما حُسن. فقد كانت تجلس على أحد مقاعد السفرة المهترئة. استطاعت أن تستر جسدها وشعرها بشال كانت تضعه دوما على مقربة من الباب. عيونها منكسرة النظرة يملأ وجهها الدموع.
هتف خميس متسائلا: إيه اللي حصل!؟ ومين دول يا حُسن يا بنتي!
هتف ناصر مشيرا على محروس: المتكوم ده محروس اللي كان شغال عند ابوها الله يرحمه فالورشة. وبعدين اشتغل معاها. ده إحنا عارفينه. لكن التاني ده إيه!؟

لم ترد حُسن. فلم تكن تملك إجابة من الأساس.
بدأ الجمع ينفض. في انتظار الشرطة.
إلا أن من وصل اللحظة. امرأة دخلت للبيت في ترقب لا تدري ما يحدث. وما أن أبصرت حالة حُسن حتى اندفعت نحوها في لهفة بينما تبعها رجل. ما أن وضع قدمه داخل الشقة متطلعا للفوضى الناتجة عن الشجار والكر والفر إلا وهتف بصوت يحمل نبرة غير مصرية رغم أنه يتحدث العامية المصرية بشكل جيد: إيه اللي حصل هنا!؟ الحرب قامت!

كان مجرد تساؤل بسيط. لكنه لم يكن يعلم أن الحرب فعلا على وشك الاندلاع.


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 06:00 صباحاً   [95]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

تطلع نادر وراضي لذاك الرجل الغريب الذي وقف يتطلع نحو الفوضى في آسف ولا يعرف أي من الموجودين من يكون!؟ وكذلك من تكون هذه المرأة التي تحتضن حُسن اللحظة في محبة وخوف حقيقي!؟
هتف نادر مستفسرا في سخرية: الباشا مين بس عشان نبقى عارفين حضرتك سايح وتهت فالسكة ولا أيه!؟.
هتف راضي مستفسرا: إيوه أنت مين!؟ والمدام اللي معاك دي تبجى مين سعادتك!؟

هتفت المرأة دون أن تبعد حُسن عن أحضانها والتي لم يكن يعنيها من تكون بقدر ما استشعرت حاجتها لصدر تختبىء فيه من نظرات الجميع: أنا فايزة الدمياطي أخت سالم الله يرحمه..
تطلع خميس وناصر نحو بعضهما في شك إلا أن خميس هتف في تعجب: بس إزاي!؟ ده سالم كان قايل لنا إنك اتوفيتي فالبلد، وكان زعلان عليكِ قوي..

هتفت فايزة مؤكدة: صح، أنا كنت فنظر أخويا ميتة، بعد ما عصيته واتجوزت اللي أخترته، كان راجل عربي كبير فالسن عليا، لكن راجل محترم، حبني بجد وكان شاريني، وافقت، لكن سالم ربط موافقتي بعلاقتنا ببعض، لو وافقت يبقى هيعتبرني ميتة، وانسى إن كان ليا أخ اسمه سالم..

دمعت عينى فايزة وهي تضم حُسن لصدرها أكثر هاتفة: حاولت اتواصل معاه كتير بس كان بيصدني، حاولت اساعده لما عرفت بحالته المادية ومرضه، مكنش بيقبل ولا مليم، كان عنيد ودماغه ناشفة، ولما عرفت بوفاته من يومين، جيت جري عشان عارفة إن حسن مبقلهاش حد غيرنا..
هتف خميس متحسرا: لا حول ولا قوة إلا بالله، ليه بس كده يا سالم!؟، ع العموم حمد لله على سلامتك، ووالله حُسن كانت فعنينا، واللي حصل ده..

هتف نادر مقاطعا في حنق: اللي حصل ده عشان مكنتش بتسمع كلام حد، وكانت واقفة وسط الرجالة راس براس فالورشة فطمعتهم فيها..
هتف الرجل الغريب: يا سيدي مبقتش خلاص محتاجة لا لوقفة وسط رجالة ولا للورشة من أساسها والحمد لله..
هتف نادر حانقا مشيرا للرجل الغريب الذي كان مرافقا لفايزة: برضو معرفناش، الباشا يبقى مين!؟.
هتفت فايزة مجيبة نادر الذي كان يتطلع نحو الرجل بعدائية عجيبة: ده ابني، شعيل الساعدي..

هتف ناصر مرحبا: شرفتونا..
هموا بالرحيل تاركين حُسن مع عمتها وابنها العجيب ذاك إلا أن الشرطة وصلت، وتم التحفظ على كل من محروس وذاك الضخم الذي كان برفقته..
واُستدعي الجميع للقسم للإدلاء بأقواله..

اُغلق باب بيت حُسن مرة أخرى ولكنها اللحظة لم تكن وحيدة، بل كان معها عمتها فايزة التي ما سمعت بها من قبل إلا عند حديث المعلم خميس مؤكدا حقيقتها، فلم يأت أبوها على ذكرها إلا مرة واحدة، عندما سألته هل له إخوة أو أخوات!، فأجاب باقتصاب أن نعم، كانت له أخت تصغره وماتت، حتى أنه لم يذكر اسمها..

تطلعت نحو ابن عمتها شعيل الذي جلس على أقرب أريكة متطلعا حوله يتفرس المكان، فقد كان دخيلا بالفعل على موضع بكل هذه الفوضى وهو الحسن الطلة، المهندم الثياب، تفوح منه رائحة عطر غالي الثمن، ويبدو من هيئة ملابسه الحديثة الثمينة أنه من طبقة الأثرياء، تنبه لنظراتها فابتسم لها في أريحية ابتسامة محببة، واستشعرت للمرة الأولى روعة أن يكون للإنسان عائلة..

اصبحت مقابلته لها كل صباح طقس بالغ الروعة، فما أن تقترب العربة من مشارف نجع السليمانية حتى تجده يهبط التلة بأدهمه الذي يبرق جسده الأبنوسي تحت أشعة الشمس الوليدة صباحا، وما أن تترجل من سيارتها إلا ويترجل عن فرسه بدوره ملقيا التحية كما الآن جاعلا قلبها يخفق في اضطراب يزيدها حنقا، فلم تعتد بعد حقيقة أن قلبها قد أعلن تمرده على قراراتها الصارمة وضرب بكل قوانينها عرض الحائط، وبدأ ينبض بعشق ذاك الرجل العبوس الغامض الذي للعجب لا تعلم عنه شيئا، كانت دوما ما تعتقد أنها ستعرف كل كبيرة وصغيرة عن حياة من تفكر في الاقتران به، وأن المعرفة هي التي ستدفعها للاقتراب أو البعد، لكنها كانت واهمة تماما عندما قاست أمور القلب بقوانين المنطق والعقل، وخابت كل توقعاتها وخسرت كل رهاناتها، وأثبتت فشلها كل حساباتها..

تطلعت نحوه ترد تحيته الصباحية: صباح الخير يا رائف بيه..
هتف يعلمها: الدكتورة سميحة عايزاكِ ضروري..
ابتسمت نوارة متعجبة، فمن الطبيعي أنها ستتجه للوحدة حتى تلقاها ككل يوم فهتفت مؤكدة: ما أنا رايحة للوحدة أهو، وهشوف..
قاطعها رائف مؤكدا: لا، هي عايزاكِ فالبيت، الدكتورة مرحتش الوحدة النهاردة، ومش هتروح..
هتفت نوارة بنبرة قلقة متسائلة: هي الدكتورة سميحة بخير!؟، كويسة يعني!

أكد رائف مطمئنا: أه هي بخير متقلقيش، بس بلغتني أول ما أشوفك ابلغك إنها عايزاكِ..
اومأت نوارة بالموافقة وسارت جواره فقد أصبح طريقهما واحد، فكلاهما في سبيله للبيت..
ساد الصمت بينهما كالمعتاد لكن فجأة وبلا مقدمات صهل فرس لم يكن الأدهم فرسه بل فرس أخر قادم من طريق جانبي ترابي وضيق آثار الغبار وجعل رائف بلا وعي يجذب نوارة إليه رغبة في حمايتها من رعونة الفرس القادم نحوها..

صرخ رائف وهو ما يزل يحمي نوارة بكامل جسده: مفيش فايدة في چنانك يا مهرة..
قهقهت الفارسة التي كانت تعتلي صهوة تلك الفرسة الشهباء مؤكدة في نبرة مغناجة: ولا عمره هيكون فيه فايدة يا رائف..
ابتعد رائف مضطربا عن نوارة التي لم تكن أقل منه اضطرابا، واعتذر هامسا لكنها لم يكن لديها ما يكفي من القدرة لتستجمع أحرف ابجديتها لتنطق كلمة واحدة..

تطلعت نوارة نحو مهرة هذه، كانت فتاة من الواضح أنها تربت خارج نجع السليمانية، لهجتها وطريقة ملابسها توحي أنها ضيفة لا صاحبة مكان..
هتفت مهرة وهي تترجل من على فرستها مشيرة نحو نوارة: مش هتعرفني ولا أية يا رائف!؟

تعجبت نوارة استشعارها رغبة جامحة في جذب هذه الفتاة من شعرها الأشعث ذاك والمصفف على أخر صيحة لتلقمها بعض أوحال الترعة أو ربما بعض التبن حتى لا تنطق اسم رائف مجردا بلا ألقاب وبهذا الشكل المغوي!؟.
هتف رائف بلهجة رسمية: الدكتورة نوارة مهران، دكتورة الوحدة الصحية الچديدة..
همهمت مهرة في استحسان مصطنع هاتفة بخبث: دكتورة!؟، اممم، طب كويس إنك لقيت لك يا رائف حد..

اخرستها تلك النظرة النارية المطلة من عيني رائف الصقرية والتي تحولت اللحظة لصورة طبق الأصل من نظرات جده العجيب ذاك..
ساد الصمت للحظة قبل تهتف مهرة بسماجة وكأن شيئا لم يكن: تمام، أنا وعرفت الدكتورة تبقى مين!؟، مش هتعرفها عليا!.
تجاهل رائف طلبها ما دفعها لتتطلع نحو نوارة مادة كفها لتحية تعارف هاتفة: أنا بقى يا ستي، أبقى مهرة السمدوني، خطيبة رائف..

كانت كف نوارة في اتجاه كفها، توقفت لبرهة ثم دفعت به نحو كف مهرة من جديد في مهارة واحترافية متخذة الوضع الجليدي الذي كانت تتقنه، رغم أنين قلبها المترنح كالمذبوح بين ضلوعها، لذاك الخبر الذي لم يكن فالحسبان..
هتفت نوارة في لهجة رسمية: تشرفنا يا آنسة مهرة، وفرصة سعيدة..

واندفعت تاركة إياهما دون أن تلقي بنظرة نحوه، تهرول في سبيلها نحو البيت لموافاة الدكتورة سميحة لتعلم لما استدعتها على وجه السرعة، وما أدركت تلك النظرة التي تبعها بها رائف حتى اختفت، ولا تلك الابتسامة الغامضة التي ارتسمت على شفتيه..

كان يسير على الطريق المؤدي لنجع الحناوي متلهفا، لا يعلم ما الذي يدفعه بهذه القوة ليلحق بداره تاركا دار أبيه التي لم يستطع أن يمكث بها إلا ليلتين كان السهد رفيقه بهما، لقد احتلت صورتها مخيلته وما استطاع أحد مهما كان أن ينتزعها حتى خبر خطبة سهام على ابن عمته الشيخ مؤمن والذي للعجب عندما علم به لم يثير فيه أية مشاعر..

تنهد يونس في راحة لا يعرف من أين واتته، ومد كفه لمذياع العربة لتنبعث إحدى الأغنيات والتي كانت ويا لها من صدفة، هي نفسها التي كانت تتمايل عليها يوم أن اكتشف حقيقتها، وتبدت له صورتها من جديد على زجاج السيارة قبالته وغاب عن الدنيا، لكنه انتفض على صوت سباب ما يأتيه من الخارج فتنبه أنه كاد أن يصطدم بإحدى العربات المحملة بأحد المحاصيل، أشار بيده معتذرا وهتف موبخا نفسه: إيه!؟، مالك اتشندلت كده يا واد يا يونس!؟، اثبت اوماااال، وبعدين اوصل سليم وشوف هتعمل إيه، صح!؟

أكد لنفسه بصوت عال: صح الصح..
ابتسم في أريحية وقد استقر على التركيز فالقيادة محاولا إبعاد صورتها المغوية تلك عن مخيلته حتى وصل أخيرا..

ركن عربته بعيدا حتى لا يعلم من بالدار بوصوله وتسلل في هدوء محاولا الوصول لداخل الدر فهو يعلم أن سماحة ينتظر حضوره غدا وليس اليوم، كان يريد أن يراها من جديد بحقيقتها، وكأن مرة واحدة من العذاب لم تكفه وها هو يعيد الكرة!؟، لكن ما أن وصل لأعتاب الدار متحسسا موضع قدمه ملثما وجهه حتى وجد شيء ما صلب ملتصق بظهره صرخ صاحبه بصوت قوي متسائلا: مين أنت!؟.

انتفض يونس معلنا عن نفسه مؤكدا: أنا يونس يا فجري، والله فيوم لهجطع الخلف يا هتچيب أچلي..
انزلت سماحة سلاحها هاتفة بنبرة معتذرة: معلش يا بيه، مكنتش أعرف إنك راچع النهاردة، أنت جولت چاي بكرة..
هتف يونس متطلعا إلى سماحة بنظرات متفحصة: أچي وجت ما أچي، هستأذن وأنا داخل بيتي!؟.

واستمر يونس محدقا في سماحة التي تعجبت من نظراته، مدركة أنه ليس على طبيعته مطلقا والذي استطرد بنبرة خبيثة: ولا عاوزني استأذن يا سماحة!؟
هتفت سماحة مؤكدة: لاه العفو يا بيه، حضرتك جلتها، حد يستأذن وهو داخل بيته، وإحنا فالأول والأخر خدامين سعادتك.
شعر يونس بالضيق بعد كلماتها الأخيرة فهتف منهيا الحوار: خلاص محصلش حاچة، روح، ي، اجصد روح ياللاه حضرلي العشا لحسن أني چعان كني بجالي سنين مكلتش..

وما أن همت سماحة بالاستدارة مغادرة إلا وهتف بها يونس: ومتنساش، أعمل حسابك معايا، مش هاكل لحالي..
هزت سماحة رأسها موافقة: أمرك يا بيه..
رحلت سماحة تاركة إياه يتطلع نحو موضع غيابها وما أن تأكد من مغادرتها حتى قلد صوتها الخشن الذي تتصنعه وانفجر ضاحكا، متوعدا..

هتفت به وجيدة: طب روح أنت..
انتفض خفيرها مبتعدا تاركا إياها تغلي غضبا بعد كل ما أفضى به إليها..
دخلت أية إلى صحن الدار لتهتف بها وجيدة تستوقفها، ما دفع أية لتلتفت إليها تتجه نحو موضع جلوسها هاتفة: خير يا ستي! فيه حاچة!؟.
هتفت وجيدة وهي تمد لها كفها مطالبة: هاتي المحروج اللي فيدك ده..
اضطربت أية هاتفة: ليه يا ستي!؟، إيه في!؟.

انتفضت وجيدة من موضعها تنتزع الهاتف من كفها، حاولت أية الاعتراض لكن وجيدة استوقفتها بنظرة صقرية من عيونها نافذة النظرة والتي كانت ترعبها منذ صغرها، هذه النظرة التي ما كانت تستطيع معارضة صاحبتها أبدا، وظل الحال حتى اللحظة، ما جعلها تتوقف عن الاعتراض ووجيدة تعبث بمحتويات جوالها في عجالة حتى توقفت على أحد التطبيقات وبدأت في التفرس بتمعن واهتمام ما جعل أية تدرك أنها عثرت على رسائلها مع مروان، لم يكن بها شىء تخجل من اطلاع أي من كان عليها، لكن مع جدتها وجيدة الفكرة في حد ذاتها تستحق الحرق حية، وخاصة لو أدركت أن مروان هذا من الهوارية الذين تبغضهم بلا سبب واضح لها أو لمنتصر، الذي يصبو للاقتران بواحدة من بناتهم، لكن بالطبع قُبل طلبه بالرفض لتعنت جدتها..

انتهت وجيدة من تصفح رسائل الهاتف، رفعت ناظريها في اتجاه حفيدتها هاتفة في حنق تهز الهاتف بكفها أمام ناظري أية: إيه ده يا بت الأصول! مع مين الرسايل دي يا مرباية!.
تلعثمت الأحرف على لسان أية تحاول أن تفهمها أن الأمر مجرد زمالة لكن صوت وجيدة أرتفع مؤكدة: من هنا ورايح لا في مرواح ولا مچي للچامعة، هتترزي هنا چاري لحد ما واد خالك يرچع في اچازته الچاية ونكتبوا كتابكم، ونخلصوا منيه الموال الماسخ ده..

انتفضت أية معترضة: كتب كتاب مين!؟ أنا لا يمكن اتجوز منتصر..
هتفت بها وجيدة في حنق: أنتِ بتجولي إيه!؟، من ميتا بتكسريلي كلمة!
هتفت أية وقد بدأت مخزون الصبر لديها ينفد: العفو يا ستي، بس أنا مش هتجوز منتصر، أنا عارفة إنه عاوز يتجوز واحدة تانية، و
صرخت بها وجيدة مؤكدة: ولا تانية ولا تالتة، مفيش چواز من الهوارية ولو فيها موتي، ومفيش عروسة هتكون لمنتصر غيرك أنتِ، مين اللي هايرضى ياخدك بعد اللي..

صرخت فيها أية في ثورة: كفاية بجى، كفاية حرام عليكِ، هو أنا إيه، مش بت بتك!، بتعملي فيا كده ليه!؟، مش كفاية إن اللي حصلي وحصل لأبويا وأمي كان من تحت راسك..
رفعت وجيدة كفها لتسقط على جانب وجه أية محدثة دويا قويا هاتفة في ثورة عارمة: اخرسي، ما هو لازما تجولي كده، يا خلفة الشوم والندامة..

كانت أية تضع كفها موضع الصفعة على وجهها مصدومة مما تفعله بها جدتها، والتي استطردت مؤكدة في حزم: مفيش خروچ تاني لحد ما يرچع منتصر، والواد المشلول اللي تعرفيه ده تنسيه..
شهقت أية، لابد أن جدتها تضع ذاك الخفير جاسوسا عليها، فلا علم لأحد بهذا الأمر إلاه..
ابتسمت وجيدة في سخرية مؤكدة: إيه! كنتِ مفكراني نايمة على وداني ومش عارفة إيه اللي بيچرا!؟، والله ما يطولكم عيال الهوارية أبدا..

هتفت أية متوسلة تحاول تقبيل ظاهر كفها: لا يا ستي الله يخليكي إلا الچامعة، دي أخر سنة ليا، وأنا أوعدك، مش هكلمه تاني، ولا هكلم أي حد، بس سبيني أروح الچامعة..
هتفت بها وجيدة: بلا أخر سنة بلا يحزنون، غوري على فوج وملمحش طرف توبك تحت، غوري..
انفجرت أية باكية وهي تندفع للأعلى حيث غرفتها الشاهدة جدرانها وأركانها على معاناتها في هذه الدار..

رحل الجمع من أهل من بيت ماهر الهواري والذين قدموا في الأساس لخطبة سهام، أعطى لهم باسل ميعاد للرد بالقبول أو الرفض خلال ٣ أيام، لكن ما حدث بالجلسة هو ما جعل باسل يصرخ مؤنبا ولده سمير: أنت اتچننت رسمي، يعني إيه الناس چايين يخطبوا أختك تجوم فوسط الجاعدة تجولهم وأنا كمان طالب يد سمية بتكم!، هو ده ينفع يا واد الأصول!؟.

شهقت سندس، بينما كانت سهام تتسمع من خلف باب حجرتها لا قبل لها على مواجهة أبيها خجلا، لكنها طارت فرحا ما أن علمت برغبة مؤمن في التقدم لخطبتها، لكن اللحظة كان نصيبها من الصدمة مضاعفا، لا بسبب ما فعله سمير، لكن بسبب رغبة سمير من الأساس، هل يرغب بحق في الزواج من سمية!؟، ولما سمية بالتحديد!، هل يحبها! ستكون كارثة لو كان الأمر كذلك، فهي على علم أن قلب سمية معلق بعاصم، الذي لا يلق لوجودها بالا، تنبهت من خواطرها المتشابكة تلك على هتاف سمير مدافعا عن فعلته: إيه فيها يعني!؟، ما أنا جلت لهم إن هيكون لنا زيارة عنديهم نطلبوها بحج ربنا!؟.

صرخ باسل من جديد رغم محاولة سندس تهدئته بلا طائل: هو أختك لسه وافجت على ابنهم! أنت كده بتربط دي ب دي..
هتوافجوا عليا لبتكم، هنوافج على ولدكم لبتنا، طب كنت استنى نشوفوا موضوع أختك هيمشي كيف الأول، طب أفرض أختك رفضت، هيبجى إيه الحال بعد كلمتك عن بتهم!؟.
هتفت سندس مؤكدة: كلام أبوك مظبوط يا سمير، وبعدين كان لازم تشورنا الأول قبل ما تعمل كده..

هتف باسل حانقا: وده سبب تاني، لما تجوم جايل اللي جلته وأنا جاعد، كده بينت لهم إني عارف إنك هتعمل كده وإني موافجك..
هتفت سهام الجدة في حنق: طول عمره مچنون، والله جلت كده من بدري محدش صدجني..
لكنها تطلعت لسمير هاتفة بنبرة حانية وكأنها استشفت ما يكنه صدره: أنت بتحبها يا واد يا سمير!؟، أصل ميبجاش حد ملهوف اللهفة دي إلا لو كان عاشج وما صدج لجي طريج..

هتف سمير وقد شعر أن جدته قد مهدت له طريق اعترافه الذي ما كان قادرا على البوح به: ايوه يا ستي، عايزها من زمان، وحتى لو مؤمن مكنش اتجدم لسهام كنت هطلب يدها، بس اللي كان مأخرني إني عرفت من سهام إنها رفضت عرسان ياما عشان عايزة ع الأجل يبجالها سنة فالچامعة وتخلص، وأنا كنت مستني تخلص بس السنة دي واتجدم لها..

هنا ما عادت سهام قادرة على الاستماع أكثر، لقد أخبرته بهذا حقيقة، لكن لم يكن هذا هو السبب الحقيقي لرفض سمية للعرسان، بل الأمل الذي كان يحدوها في استيقاظ قلب عاصم من ثباته وإدراكه لمحبتها..
ماذا عليها أن تفعل!؟، هل تترك الأمور تجري كم قُدر لها!؟ أم عليها التدخل لإنقاذ قلب أخيها قبل أن يتورط مع فتاة قلبها مع غيره!؟.

تنهدت في اضطراب لا تعرف ما عليها فعله في هذه المعضلة!؟ والتي تضع رغبة قلبها في الاقتران بمؤمن في مقابل رغبة أخيها في الاقتران بسمية وقلبها الذي هو ملكا لرجل سواه..

اندفعت داخل حجرتها وأغلقت بابها بأحكام، حمدت ربها أن نوارة بعملها وزهرة ما تزل بالمشفى لتظل وحيدة تلعق جراح قلبها بعد أن سمعت خبر رغبته في خطبة سمية..
سمير الذي ظلت تحلم بمحبته لسنوات، الآن أصبح لغيرها، إنه لم يشعر بقلبها يوما، ولا استشعر محبتها له..
شهقت في وجع وهي تلقي بجسدها على فراشها، تحس بخنجر القهر يصل لسويداء القلب دون أن يكون لها القدرة على التأوه ألما..

نهضت من موضعها على الفراش والذي اشبعته بدموعها بللا لتدفع بضلفتي نافذتها تتطلع للخارج في محاولة لاستعادة السيطرة على انفعالها حتى لا يستشعر أحدهم وجيعتها، رغم أنها لم تكن استوعبت الأمر بعد، ولا تعلم متى ستستطيع تخطي هذا الأمر..
مدت كفها تضغط على زر تشغيل الموسيقى على هاتفها لتعاود البكاء من جديد ما أن وافقت الموسيقى أحزانها..

لكن لسوء الحظ وصلت نوارة ما دفعها لتمد كفها من جديد لتغلق الموسيقى حتى لا تسمع منها ذاك التقريع المعتاد، لكن على العكس هتفت بها نوارة في حسرة: ليه جفلتيها! دي حلوة يا سچود..
هتفت سجود تحاول أن تخفي دموعها: باين إنه كان عندك حج يا نوارة، كل الكلام ده فاضي ولا ليه لازمة، كله كلام فالهوا ممنوش فايدة..

تطلعت نوارة نحو أختها الصغري التي كانت تتنفس العشق وتعيش على أحداث قصصه وحكاويه، لكن اللحظة لم تكن سجود كما عهدتها، الأمر انقلب، باتت هي من تطلب موسيقى الهوى واغاني العشق وأختها الحالمة أصبحت تعافها..
تطلعت نحو سجود واستشعرت أن هناك سر خفي، لكنها لم تشأ أن تتطفل على مشاعرها فقط أحبت مشاركتها حزنها ذاك الذي يطل جليا من عيونها..

نهضت تتجه صوبها تتطلع إليها في نظرة قلقة لتتهرب سجود من عيونها المتفحصة لكن نوارة اقتربت ملتصقة بأختها تضمها لصدرها وتطوقها بذراعيها رغبة في حمايتها كما كانت تفعل دوما عندما كانتا صغيرتان..

خبأت سجود رأسها بأحضان نوارة وشهقت باكية لتزيد نوارة من اعتصارها بين ذراعيها، لم تشأ أن تسأل سجود عما تعانيه، فقد استنتجت أن هذا الوجع الذي يزلزلها قهرا، هو ذاك الوجع الذي هربت منه طويلا، تعجبت أنها استطاعت استنتاج الأمر بهذه السهولة، لكنها اعترفت لنفسها ساخرة، أوليست تلك الآلام التي تعانيها سجود هي ما تقر بوجعه بين ضلوعها، والذي ثار متمردا من قمقمه عندما أبصرت رائف مع خطيبته الحمقاء تلك!؟.

بلا هو، ذاك الوجع الذي من الواضح أن لا مفر لقلب من ملاحقته مهما حاول الهرب..

تساءل حمزة وهو يرتشف فنجال قهوته الصباحية على مائدة الإفطار التي جلست إليها وهي في حالة من الضعف والتخبط بعد ما حدث معها بالأمس: عملتي إيه في اچتماع امبارح!؟ سبع ولا ضبع!
أكدت متصنعة ابتسامة خرجت باهتة رغم عنها: سبع يا بابا متقلقش..
تساءل حمزة من جديد: امال إيه اللي كسر جزاز عربيتك كده!
شعرت باضطراب وأخبرته كاذبة: مش عارفة، هو مكسور!؟ طب كويس إن حضرتك شوفته..

أكد حمزة وهو يتناول بعض اللقيمات: ايوه شوفته من شوية وأنا بتمشى فالچنينة، رحت ناحية الجراچ، لجيتها على حالها..
لم تعقب فريدة، فهي على قدر ما تتذكر من أحداث البارحة أن نزار حملها عندما بدأت تفقد الوعي لسيارته تاركا سيارتها جانبا، من أعادها إلى هنا!؟.
لم يظهر إلا اسم واحد على لوحة العقل والمنطق، نزار..

همت بالنهوض لتتصل به لترى ما الذي حدث!؟ ومن هؤلاء الذين كانوا في اعقابها ورغبوا في خطفها!؟، إلا أن حمزة سعل في شدة غاصا برشفة من القهوة عندما وقعت نظراته على شيء ما معروض بالهاتف..
وهتف متطلعا لها في غضب: أنتِ جولتيلي جزاز العربية إنكسر إزاي!؟.

أيقنت من لهجة أبيها أنه أتاه خبر ما حدث بالأمس، ما جعلها تهتف في اضطراب: الصراحة يا بابا مكنتش عايزة اقولك واقلقك عليا، بس إمبارح فيه ناس هاجموني، كانوا عايزين يخطفوني، لكن نزار هو اللي لحقني ، كسروا إزاز العربية عشان يوصلوا لي لولا وصول نزار فالوقت المناسب..
هتف حمزة في ثورة: مين دول!؟ وإزاي يتچرأوا من الأساس!؟ هم ميعرفوش أنتِ بت مين!؟.

انتفضت هدير تحاول تهدئته رابتة على كتفه في اضطراب: إهدى يا حمزة، المهم إنها بخير، والحمد لله إن نزار كان موجود، محدش عارف إيه اللي كان ممكن يحصل لو مكنش موجود!
صرخ حمزة ثائرا: أه وسي نزار ده لما يكون عايز يلحجها بدل ما يچبها على بيت أبوها ياخدها على بيته!؟
شهقت هدير بينما اندفعت فريدة تؤكد رغم الصدمة التي اعترتها: بيت مين يا بابا!؟، محصلش..

دفع حمزة بهاتفه ملقيا إياه على المائدة قبالة فريدة لتندفع هدير بدورها تتطلع لشاشة الهاتف مع ابنتها التي أمسكت به بكف مرتعش، لتشهق مع هدير وهي تتطلع للصور التي تتابع أمام ناظريها توثق لحظات حمل نزار لها حتى عربته، ولحظات صعوده بها لبناية لم تكن البناية التي يقطن بها، كانت بناية بها طبيب على صلة وثيقة بنزار والذي استيقظت لتجد نفسها ممددة على سرير الكشف بعيادته، وكلاهما بالخارج في انتظار استفاقتها..

همت بذكر كل تلك التفاصيل لحمزة الذي عاود صراخه وهو يجوب الغرفة جيئة وذهابا ضاربا كفا بكف يشعر بأن خنجر من جمر القهر مغروز بخاصرته: أعمل إيه دلوجت!؟، الصور دي زمانها مع كل من هب ودب فاسكندرية، والناس مبيحللهاش إلا سيرة الفضايح، بس لو أعرف مين دول!؟.
وتطلع نحو فريدة التي قد بدأت في الانهيار وسالت دموعها على خديها في صمت متسائلا: أنتِ متعرفيش تدليني على أي حاچة تدلني عليهم!؟.

هزت رأسها نفيا: كانوا أربع رجالة، شبه البوديجاردز، مشفتش حد منهم قبل كده..
هتف حمزة مؤكدا: دول متسلطين، بس من مين!؟، إحنا عمرنا ما كان لينا عدوات مع حد، وماشيين بما يرضى الله..

شهقت فريدة وكذا هدير باكيتين ما دفع حمزة رغما عن ضغطه وثورته ليقترب منهما محتضنا، رابتا على كتف فريدة مؤكدا: أبوكِ فضهرك، وأنا عارف ربايتي، واللي هيجول فحجك كلمة هعرفه مجامه، بس دلوجت، مفيش نزول من البيت تاني لحد لما نعرفوا مين دول اللي جاصدينك..
هزت فريدة رأسها موافقة فلم يكن لها أن تعارض قرار أبيها، وعليها الانتظار حتى ترى ما قد يحدث فالأيام القادمة..

لم يكن باختيارها البقاء للمبيت الليلة في السليمانية، لذا نالت وصلة التقريع المعتادة من تسنيم أمها والتي للحق لم تكن بنفس الشدة كما سابقتها، فيبدو أنها بدأت تستسلم لرغبتها، واعتياد متطلبات المهنة..
كان مبيتها بطلب من الدكتورة سميحة لتكون بديلا عنها، فكما فهمت منها، كان عليها السفر للقاهرة لاستقبال إحدى قريباتها والتي لم ترها منذ سنوات طويلة..

كان حدثا طارئا ولم يكن من المعقول ترك الوحدة دون طبيب للطوارئ في أية لحظة..
كما أن الليلة هي ليلة زفاف ابنة عم مصلحي، ذاك الممرض العجوز الطيب الذي يعمل مع الدكتورة سميحة منذ سنوات طويلة، وهي من المدعوات..
غيرت ملابسها بقلب الاستراحة وتمددت قليلا على فراشها من أجل بعض الراحة قبل التوجه لحفل الزفاف..

لا تعلم كم غفت ولا كم الساعة الآن!؟ لكن تلك الطرقات على باب الاستراحة هي ما أيقظها لتنتفض نافضة النعاس عن جفونها، فتحت الباب لتجده عم مساعد ذاك الخفير الذي لم يكن يفارق الدكتورة سميحة أينما حلت هاتفا بها في لهجته المشددة: أنتِ مش رايحة الفرح ولا إيه يا داكتورة!؟، أني جاعد مستنظرك من عشية..

تنبهت أن العشاء قد أذن لصلاته منذ فترة بسيطة، فهتفت به مؤكدة: رايحة يا عم مساعد، خمس دجايق وهنكون ع الطريج، هو بيت عم مصلحي بعيد!؟
أكد مساعد: لاااه يا داكتورة، خطوتين من هنا..
هزت رأسها هاتفة: طب تمام، ثواني وراچعة لك..
غيرت ملابسها في سرعة، فقد وعت الدرس جيدا وبدأت تحضر معها ملابس للنوم وأخرى بديلة، وتتركهم هنا بخزينة الملابس بالاستراحة لأي طارئ، فيكفيها ما حدث المرة السابقة..

خرجت لعم مساعد هاتفة: ياللاه بينا..
تحركا معا، وسارا وسط مجموعة من الحقول والطرق الترابية، لم يكن دار مصلحي بالقرببة أبدا، كانت بالجانب الأخر من نجع السليمانية..
تنفست الصعداء ما أن بدأ صوت الطبول والمزمار يعلو، مؤكدا أنها على مقربة من الحدث السعيد..

هللت النساء واستقبلنها بالزغاريد، فقد استطاعت إقامة علاقات طيبة معهن، اجلسنها في صدر المجلس بالقرب من العروس التي هتفت أمها بعد وصلة ممتدة من الزغاريد: شرفتينا يا داكتورة، عجبالك، وعجبال ما ياچي عوضها على يدك يا رب..

أمنت النساء في سعادة وبدأت وصلة الرقص، اندمجت نوارة تشاركهن سعادتهن، لم تكن المرة الأولى التي تحضر فيها فرحا بسيطا كهذا، حضرت البعض بنجع الصالح، فما عاد أحد بالصعيد يقيم ليلة عرسه داخل قريته، أصبح الجميع يرغب في حجز القاعات الفاخرة بالمحافظة أو حتى بأقرب مركز من أجل التفاخر والتباهي..
هدأت النساء وبدأن في توزيع صواني الطعام هنا فيما بينهمن، وبالخارج للرجال..

تناولت النذر اليسير مما قدم لها جبرا لخاطر عم مصلحي، الذي جاء من مجلسه بين الرجال ليتأكد أنها تنعم بالراحة والخدمة الجيدة..
انتهت فترة تقديم الطعام ليعاود النساء طرق الطبول، سمعت نوارة بعض الصياح والتهليل بين الرجال، يبدو أن وصلة التحطيب قد بدأت، تسللت نوارة في هدوء للخارج فدوما ما كان التحطيب يجذبها، لا تعلم لما، لكنه يظهر لها عنفوانا وقوة تأسرها كليا..

توقفت عند ركن منزو تستطيع منه المشاهدة دون أن يحجبها الرجال، كان المتباريان ماهران بحق، لكن أحدهما على الرغم من احترافيته الظاهرة وتفوقه على خصمه اخفض عصاه وشرع في احتضان منافسه في محبة، أيقنت أن الخصم الأضعف هو العريس والذي تنازل له الرجل الأخر محبة، تنبهت أخيرا أن ذاك الرجل لم يكن إلا رائف السليماني، لم تكن تستطيع تمييزه وهو يرتدي الجلباب والعمامة..

كانت المرة الأولى التي تراه بهما، اختفى رائف قليلا، كانت تعتقد أنه عاود الجلوس بين الرجال، أو حتى رحل بعد أن أتم مجاملته للعريس وعم مصلحي..
لكن يبدو أن الأمر لم ينتهي عند ذاك الحد، فقد بدأ عزف المزمار ليظهر رائف على فرسه الأدهم متمايلا في ثقة والفرس تتمايل بدورها في خيلاء مبهرة..

هلل الرجال في سعادة، فقد كان ظهور رائف بهذا الشكل داخل العرس تقديرا كبيرا تدركه هي تماما، فعندما يحضر كبير النجع زفاف أحد رجاله تكون هذه مفخرة كبيرة يتحاكى بها حبا وعرفانا..

لا تعلم لما بدأ قلبها يدق بهذا الشكل المتسارع وهي تراه بهذا الشكل الغريب عنها!؟، كأنه أضحى رجل أخر تماما بين هؤلاء البسطاء، أين ذهبت عجرفته!؟، وماذا حل بعبوس وجهه الذي لم يكن يفارق قسماته إلا نادرا!؟، ومن هذا البشوش الوجه واسع البسمة الذي تبصره على فرسه متبخترا في عزة أشبه بالملوك!؟.
تساءلت متعجبة في نفسها، أنت مين فيهم بالضبط يا رائف يا سليماني!؟.

تنبهت من فضولها نحوه، فأرتجف قلبها بين حنايا صدرها، لا، أخذت تعترض مؤكدة لنفسها، ده فضول عادي، شخصية غريبة مقابلتش زيها، مفيش أكتر من كده أكيد..
انتفضت عندما رأت مساعد الخفير يهتف باسمها ربما للمرة الرابعة لتتطلع نحوه في ذعر متسائلة: في إيه يا عم مساعد!؟
أكد لاهثا يلتقط أنفاسه في سرعة وأحرف متقطعة: طالبينك فالوحدة يا داكتورة، بيجولوا حالة مستعچلة..

اضطربت مندفعة في اتجاه الطريق، لكنها استدارت نحو مساعد مستفسرة: مفيش حاچة نخدوها أسرع لحد الوحدة يا عم مساعد!؟.
هز مساعد رأسه نافيا، إذا عليها الهرولة بين الحقول والغيطان حتى تصل سريعا، فهي لا تعلم ما مدى سوء حالة المريضة التي تنتظرها..
همت بالاندفاع مبتعدة من جديد، إلا أن صوتا أجشا تعرف صاحبه دون أن تستدير هتف أمرا: استني يا دكتورة..

استدارت تتطلع نحوه ليهتف مؤكدا: الطريج من هنا للوحدة بعيد عليكِ، ومينفعش تخوضي فالغيطان الساعة دي لوحدك، استني هنا ثواني..
غاب وعاد سريعا جاذبا رسن فرسه التي ربطها لعربة بعجلات، هاتفا وهو يراها تتعجب من رؤيتها لها، فقدت كانت المرة الأولى التي تراها منذ وطأت قدماها السليمانية ليؤكد رائف هاتفا: چبتها معايا وانا چاي الفرح عشان ترچعي فيها بعد الفرح ما يخلص، اتفضلي..

تطلعت نحوه متعجبة، هل كان يعلم أنها ستحضر الفرح!؟، وهل وضع كل تلك الترتيبات من أجل عودتها!؟.
لم لم تكن العربة حاضرة إذن في رحلة المجيء إلى هنا!؟
صعدت الكارتة في عجالة ولم تدرك إلا وهو يزاحمها موضع الجلوس ممسكا بلجام الفرس، كتمت شهقاتها وهي تستشعر قربه بهذه الطريقة التي أثارت حفيظتها..

لكن يبدو أنه لا يبال، تحركت العربة على الطريق الترابي الضيق ليهتف مؤكدا بذاك الصوت الأجش الذي يثير كوامن الاضطراب داخلها: معلش كنت بتأكد من عچل الكارتة وإنها تمام عشان كده مخلتش عم مساعد يچيبك بها..
هذا كان جواب سؤالها الذي طرحه عقلها منذ لحظات..
استطرد مفسرا: وكمان العربية مكنتش هتنفع تمشي ع الطرج الضيجة دي، مكنش هاينفع غير الكارتة فالمشوار ده، بس إحنا كان بجالنا سنين مركبنهاش..

لم تنبس بحرف طوال الطريق، وهو قال كلماته تلك ولاذ بالصمت كذلك، كان لسانها قد تعطل جراء قربه المهلك ذاك، فما عادت قادرة على النطق بكلمة واحدة ردا على تفسيراته أو حتى شكرا على تدبيراته التي انقذت الموقف الآن، وتمنت من صميم قلبها أن تكون الحالة التي تنتظرها بسيطة، فهي بمفردها ودكتورة سميحة ليست هنا لنجدتها..

توقفت الكارتة أخيرا أمام باب الوحدة الصحية الخارجي، كانت صرخات المريضة المتألمة تصلها حيث كانت، قفزت من الكارتة في رعونة ليست من عاداتها، ما استرعى انتباهه ليتبعها بناظريه وهي تهرول لداخل الوحدة..

اعدت نفسها سريعا ودخلت على المريضة لفحصها، كانت حالة ولادة مبكرة، والجنين ليس بوضعه الطبيعي، حاولت أن تبدو هادئة على قدر استطاعتها، فالحالة قد تستدعي التدخل الجراحي إذا ما فشلت محاولاتها في حل الوضع بالطرق الطبيعية..
نقلت المريضة لغرفة الولادة، وبدأت في التحضيرات، وصرخات المريضة خفتت لتصبح همهمات وجع لم يعد يحتمل..

حاولت قدر استطاعتها، لكن الوضع متأزم بالفعل، خرجت للحظة من باب الغرفة الجانبي في محاولة لاستعادة هدوئها، ولتتخذ قرارها، ماذا عليها أن تفعل!؟
دمعت عيناها وهي تقف في اضطراب وهمست متضرعة وهي تجذب قناع الوجه الطبي عن أنفها تلتقط أنفاسها: يا رب..

كررتها عدة مرات في وجل ونظراتها معلقة بسقف الغرفة قبل أن تعيد قناع الوجه مرة أخرى على وجهها مندفعة من جديد لداخل الغرفة، أعادت فحص المريضة من جديد واستشعرت أملا في إنقاذ الحالة، لم تشعر وهي على حالة الانشغال تلك، ذاك الذي اقترب منها مرتديا معطفه الأبيض وقناع وجهه الطبي، مادا كفه الغائب تحت قفازه الشفاف أمرا في هدوء وبنبرة صوت حازمة: عنك يا دكتورة..

تطلعت نحوه في صدمة ولم تبصر إلا بريق عينيه اللامع خلف قناع يخفي وجه تحفظ قسماته العابسة، لتسقط الأداة الطبية من يدها محدثة دويا في سكون الغرفة المعقمة..


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 06:00 صباحاً   [96]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس عشر

كانت الساعة شارفت على الثانية فجرا عندما انتهت مهمتهما التي انجزاها بنجاح معا، تنهد وهو يخلع عنه معطفه الطبي وقناع وجهه..
خرجت من الغرفة خلفه وحذته حذوه دون أن تنبس بحرف واحد، لكنه همس دون أن يلتفت لها: استعدي يا دكتورة عشان اوصلك للاستراحة..

همت بالحديث إلا أنه اندفع ينتظرها بالخارج، ماذا حدث!؟، لما عاد صورته المتعجرفة الأولى!؟، تطلعت إليه من نافذة قريبة لتجده يقف على الأعتاب موليا ظهره لباب الوحدة الداخلي متطلعا نحو الفراغ المعتم وريح باردة قادمة من قلب الغيطان يقف أمامها كأنه يناطحها أو ربما يستقبلها محتضنا ربما يحتاج لبرودتها التي تضرب وجهه بعنف لعله يستفيق من غفلة ما أو تبرد نيران مستعرة بجنبات روح معذبة..

كل تلك الاستنتاجات قفزت بذهنها فجأة وهي تتطلع نحوه، تعجبت كيف يمكن أن تهتم بإنسان لدرجة أن تضع كل الاحتمالات الممكنة لحزنه الدفين ذاك رغبة في معرفة سببه ومداواته بأي ثمن!؟، أي شعور ذاك الذي يجعل الإنسان متوحدا قلبا وروحا مع انسان آخر بينهما الكثير من الاختلافات و التناقضات أحيانا!؟.

تنبهت أنها تركته ينتظر كثيرا فاندفعت للخارج نحوه وهمست تؤكد على تواجدها الذي لا تدرك كم يستشعره اللحظة بكل خلجة بخلجاته وذاك الذي يثير حفيظته أكثر من أي أمر أخر: رائ، دكتور رائف..
همست تناديه بلقبه الجديد على مسامعها لكنه همس بصوت عميق خالي من أية مشاعر يمكن استنتاجها، صوت جاء من عمق سحيق جعلها ترتجف حرفيا: رائف بيه، هيكون أحسن..

تطلعت نحوه في تعجب، لم ينف لقبه الجدير بالاحترام ذاك!؟، لقب يتمناه الكثيرين، ويسعى لأجله الآلاف..
اندفع يسير نحو الاستراحة لتلحق به دون أن تجرؤ على النطق بحرف أمام هيبته التي شملتها كليا، هيبة عجيبة محاطة بأسوار من الرهبة ويغلفها الحزن، خليط عجيب جعلها عاجزة تماما عن التفكير إلا في محياه الأثر السائر جوارها وال..

كانت خطواته واسعة ولم تكن تستطع مجاراته ما جعل قدمها ينثني عندما داست بشكل غير واعِ على أحد الأحجار، تأوهت وكادت أن تسقط أرضا ليكون هو بالقرب كما كان دوما، جاذبا إياها قبل سقوطها على الأرض الموحلة قليلا..

كانت العتمة تحيهما كليا وما من سبيل لتتطلع لوجهه وتثبر أعماق عينيه العميقة النظرة، لكن شيئا يحدث جعلها تدرك أكثر من هذا، كفها التي وضعتها بشكل غير محسوب على موضع فؤاده كانت كفيلة لتلمس نبضات قلبه الصاروخية، هل هذا طبيعي!؟، كطبيبة تعلم علم اليقين أن نبضات قلب بهذه السرعة لا تحدث إلا في أحوال معينة، وقربها هو حالة منهم على ما يبدو!.

اعتدلت مندفعة متحاملة على ألم كاحلها البسيط فما عاد لها القدرة على البقاء جوار ذاك الرجل الذي يخلق داخلها فوضى مربكة من عواطف عجيبة لم تخبرها يوما، وما كانت تدرك أنها موجودة من الأساس..
لحق بها ليسير جوارها لخطوات كانت هي ما يفصلهما عن باب الاستراحة..

فتحتها وألقت التحية التي ردها بايماءة بسيطة من رأسه لتغلق الباب خلفها، ظل لبرهة يتطلع نحو الباب المغلق وأخيرا اندفع بدوره مارا الجسر الخشبي نحو باب البيت الكبير وجده في ركن قصي، يتابعه في قلق على ما قد تؤول إليه الأمور..

شعرت بالاختناق، لم تكن معتادة على المكوث لفترات طويلة داخل البيت ولا تخرج لأداء بعض الأعمال والمقابلات، أصر عليها والدها كثيرا لتعود معه للشركة والعمل وكأن شيئا لم يكن، لكنها رفضت بشكل قاطع، لا خوفا أو حرجا، لكن رغبة في عدم تعريض والدها للكثير من القيل والقال..
طرقت باب حجرة جدها ودخلت لتجده غارقا في أغان الست مترنما بكلماتها التي وصلتها بعض من همهماتها وهو يرددها في ولع:.

وعايزنا نرجع زي زمان..
قول الزمان ارجع يا زمان..
وهات لي قلب، لا داب، ولا حب..
ولا انجرح، ولا شاف حرمان..
جلست قبالته ليتنبه لوجودها مبتسما رابتا على كفها التي كانت مسندة على عضده القريب من موضع جلوسها..
همس زكريا متسائلا: كيفك يا بتي!؟
هزت رأسها هامسة: الحمد لله يا جدو..
ابتسم هامسا: إيه!؟ زهجتي من الجاعدة، منتش متعودة..

أكدت بايماءة من رأسها هاتفة: زهقت قوي يا جدو، الصراحة، بابا كان عايزني انزل معاه، بس أنا نفسي قافلة من كل حاجة..
لا عايزة أشوف حد ولا حد يشوفني، حتى اسكندرية بكل جمالها وخاصة فالوقت ده اللي انا بستناه من السنة للسنة، مبقتش طيقاها..
ربت زكريا على كفها من جديد هاتفا: أنت لازما تبعدي، لازما تفصلي عن الچو ده شوية..
هتفت فريدة: هروح فين يا جدو! ولوحدي كمان..

أكد زكريا: لاه يا حبيبة چدك، مش هتكوني لوحدك أبدا، هتلاجي حواليكي ناس كتير بتحبك، عند چدك عاصم..
همست: قصدك انزل نجع الصالح يا جدو!
هز رأسه موافقا ومؤكدا على استنتاجها، بينما هتفت فريدة معترضة: بس يا جدو هعمل إيه هناك!؟، كل واحد عنده شغله وحياته، وانا مش عايزة ابقى تقيلة على حد..

هتف زكريا معارضا لوجهة نظرها: تجيلة على مين يا خايبة! دول أهلك وهيشيلوكي على كفوف الراحة، ده أنتِ مش هاترضي ترچعي من هناك، يا ريتني بصحتي وأجدر أچي معاكي، اتوحشت النچع وناسه كلهم..

ساد الصمت للحظة قبل أن يستطرد زكريا مؤكدا: روحي يا بتي، محدش عارف الدنيا مخبية للواحد إيه!؟، چدك لما ضاجت بيه الدنيا فالنچع جلت أبعد، وبجيت زكريا اللي أنتِ وعياله ده، سافري وغيري مكانك، يمكن يتغير حظك، وتلاجي اللي جلبك بيدور عليه..
اضطربت فريدة هاتفة: قلبي مش بيدور على حاجة يا جدو..
ابتسم زكريا هامسا: مبيدورش على راحته مثلا!؟
نكست رأسها خجلا وهمست مؤكدة: أه صح، ربنا يريح قلوبنا جميعا يا رب..

ابتسم زكريا مؤكدا: أني جلبي أرتاح من زمن، الدور والباجي على اللي جلبه لسه محيره..
ابتسمت فريدة ونهضت مغادرة ليستوقفها زكريا مبتسما: على فين!؟ خلصت المصلحة وهتسبيني لحالي!؟
انحنت تلثم هامة جدها هامسة: مقدرش يا جدو اسيبك أبدا، أنا هروح اجهز اموري عشان السفر، يمكن..

ابتسم زكريا وقبل أن يهم بالحديث وهي تغادره هتفت تمازحه مقاطعة: وعارفة، هفتح الست اللي عطلتك عنها وأعمل لك فنجان قهوة سكر زيادة من ورا ماما..
قهقه زكريا مؤكدا: چدعة..
ضغطت فريدة على ذر تشغيل الأغاني قبل أن تدير مقبض الباب مغادرة، ليتنهد زكريا وأم كلثوم تصدح مترنمة:
بيني وبينك وهجر وغدر وجرح بقلبي داريته..
بيني وبينك ليل وفراق وطريق أنت اللي بديته..

ساعة تتقلب على فراشها لا يزورها النوم بعد كل هذه الأحداث المتلاحقة بهذه الليلة العجيبة، فقررت البحث عن كتاب لقراءته ربما تجلب لها القراءة النعاس..
لقد نسيت إحضار شاحن الخاص بهاتفها والذي توقف عن العمل منذ نصف ساعة، ولا تملك أية وسيلة للترفية ها هنا إلا كتاب يمكنها جلبه من المكتبة لتقضي بقراءته الساعات القليلة المتبقية على طلوع النهار..

ارتدت ملابسها ومرت على الجسر الخشبي في حرص ومنه إلى الممر الطويل المترب المؤدي لمدخل البيت الكبير..
صعدت الدرجات الأولى للدرج في هوادة
وما أن همت بالدخول حتى انتفضت موضعها، افزعها صوت الموسيقى الذي بدأ أحدهم في عزفه..
ابتسم لنفسها في بلاهة، أحدهم!؟، من هنا في السليمانية كلها يعرف العزف على البيانو غيره!؟، ربما خطيبته المدللة تلك!؟ لكن الآن، هذا هو عزفه، يبدو أن الأرق لم يكن رفيقها وحدها هذه الليلة!؟

وقفت أمام باب المكتب وقررت الدخول بكل هدوء أو بالأصح التسلل والحصول على كتاب أو رواية ما، أي شىء يسليها والخروج بسرعة قبل أن يدرك وجودها..
دفعت الباب في حرص شديد، وتسللت بالفعل حتى وصلت لرفوف الكتب، جالت بناظريها على العناوين لا تعرف من أين تبدأ؟، ولا ماذا عليها أن تختار!

واعترفت أن الاختيار لم يكن صعبا لكن ذهنها المشوش وبالها المسروق وحواسها المأخوذة كليا بعزفه الشجي لتلك المقطوعة التي تعشق هو السبب في عدم قدرتها على الإختيار السريع ثم الهرب، وكأنها وقعت في شرك لا فرار منه..
مدت كفها مختارة بشكل عشوائي ما وقع يدها عليه، وتوجهت حتى وقفت على أعتاب حجرة العزف وتاهت كليا في معزوفة قصة حب التي كان يدق نغماتها باحترافية كبيرة تدفعك للانصات مرغما..

لا تعرف كم استمر العزف، ولا كم ظلت على حالها متسمرة موضعها إلا عندما توقف دقه على أصابع البيانو فجأة، ما ايقظها من سباتها الا إرادي، شهقت في اضطراب شهقة أشبه بسندريلا عندما دقت الساعة الثانية عشرة وهي في غمرة حلمها الوردي مع أميرها الوسيم، واندفعت مثلها تحاول الفرار، لكن سندريلا كانت أكثر حظا منها، فها قد أدرك رائف وجودها قبل أن تدير مقبض الباب وتولي هاربة..
هتف في تعجب: دكتورة نوارة!؟ خير!

استدرات تواجهه تحاول ايجاد مبرر مقبول لوجودها هنا في مثل هذه الساعة: أصل أنا مجاليش نوم الصراحة، فجيت أخد كتاب أو رواية اتسلى بيه لحد الصبح، و على فكرة أنا واخدة إذن الدكتورة سميحة..
ابتسم واحدة من ابتساماته النادرة، يبدو أن الموسيقى قد عدلت من مزاجه العاصف الذي كان، وهتف مؤكدا: المكتبة كلها تحت امرك يا دكتورة، حتى من غير استئذان..
هزت رأسها وابتسامة مضطربة على شفتيها: متشكرة، عن إذنك..

همت بالرحيل في عجالة لكن رائف استوقفها هاتفا: يا دكتورة!
توقفت تواجهه من جديد، ترغب فالهرب من حضرته بأقصى سرعة، تقدم نحوها ليزداد اضطراب خافقها، توقف على بعد خطوة واحدة ومد كفه في جرأة متناولا الكتاب الذي كانت تضمه لصدرها في بلاهة هاتفا: مظنش إن الكتاب ده هيسليكي بالمرة..
هتفت محتجة: ليه!؟، ده حتى..
قاطعها قارئا عنوان الكتاب بصوت عال:
اصول البستنة وزراعة نباتات الزينة ..

تنحنحت ولم تعقب ما جعل ابتسامته تتسع مورثا إياها المزيد من الاضطراب، وضع الكتاب جانبا، ومد كفه نحو رواية ما جذبها من الرف وعاد بها إليها مؤكدا: أظن الرواية دي هتجوم باللازم..
تطلعت نحو الاسم ولم تجرؤ على نطقه، بل تناولتها منه بسرعة شاكرة بهزة خاطفة من رأسها واندفعت أخيرا هاربة وهي تتطلع لاسم الرواية من جديد قصة حب.

غالبت نفسها كثيرا حتى لا تدق على هاتفه لتسأله عن سبب غيابه الفترة الماضية، لكن كرامتها وكبريائها قد منعاها، كان ما بينهما اللحظة أشبه بلعبة سخيفة كل طرف منهما يعلم أنها مجرد لعبة لا تدل أبدا على حقيقة الوضع بينهما..

فلم يكن من المنطقي أن يتحول ذاك الحب الذي جمعهما إلى علاقة صداقة عقيمة لا محل لها من الإعراب، كانت تضحك على حالها وهي تراه أمامها وما عاد لها أن تكون على طبيعتها التي عهدتها، كان عليها أن تتصنع وضعا جديدا ممسوخا..

وكذلك هو، كان يحاول قدر استطاعته تجنب الوجود في حضرتها، كان يتهرب من نظراتها نحوه كأنما يتهرب من فعل فاضح أو وصمة عار، كانت تعلم أنه يستشعر العجز لأنه لم يستطع أن يكون رجلا بما يكفي ليحصل على حبيته..

مرت لداخل الجامعة وعيونها على حرس البوابة ربما كان في إجازة للنجع في محاولة أخيرة لإقناع جدته بالزواج، لكنها لم تجده بين الحراس، بل إنها لاحظت أن هناك وجوه جديدة بينهم، ربما نُقلوا حديثا، هالها الخاطر وما عاد لديها القدرة على التمسك بأي مسمى إلا الاطمئنان عليه فهتفت تسأل صديقتها: هو الحرس اتغيروا ولا أنا اللي مش واخدة بالي!؟

اكدت صديقتها: أه فعلا اتغيروا، أنت ازاي مخدتيش بالك! دول بقالهم أسبوع تقريبا..
هتفت بدور تستفسر من جديد وقلبها تدوي نبضاته بين جنبات صدرها في قهر: والنقيب منتصر، تعرفي راح فين!؟.
اكدت صديقتها: تقريبا اتنقل مكافحة المخدرات، عمرو خطيبي قالي كده، لما سألته على زمايله، الحمد لله إنه لسه موجود معايا..

ابتسمت صديقتها كالبلهاء، ولم تدرك ما كان يعتري بدور اللحظة، فقد استشعرت دوارا كاد أن يسقطها أرضا، فاستأذنت بسرعة متعللة بالذهاب للحمام لكنها عادت أدراجها مندفعة نحو سيارتها، التي قادتها لا تعلم إلى أين، وقد انتهى بهما المطاف أخيرا إلى مفترق الطرق الذي كانت تخشاه، وأصبح الفراق هو البديل الأمثل لذاك الوضع العجيب الذي وضعا فيه رغما عن إرادتهما..

لم يعد الوضع محتملا دونها!؟ أسبوع كامل لا رأها أو استطاع التواصل معها على الهاتف، هناك شىء ما يحدث لا يعرف كنهه، أصبح الوضع بالجامعة وعلى الطريق مملا ثقيل على روحه..
وصل من الجامعة ولاذ بحجرته وحيدا، تنبهت أمه لتغير حاله من ذاك الانطلاق الذي انشرحت لعودته إليه، إلى السكون والانعزالية من جديد..

انتظر على الشرفة بطبق الفاكهة والخضروات لعل عنتر يزوره ويعلم ما الذي يحدث، يكاد يجن لعدم استطاعته التواصل معها كل هذه المدة، والقلق يتآكله حرفيا رغبة في الاطمئنان عليها..
هم بالدخول لحجرته فاقدا الأمور في ظهور عنتر إلا أن خفيرها مر بمحازاة سور داره لبعض أمره ما دفعه ليهتف به مناديا..
تطلع نحوه الخفير وتقدم صوب موضع جلوسه مستفسرا: خير يا بيه!؟

اضطرب مروان، هل عليه السؤال عنها بشكل مباشر هكذا!؟، سيفعل وليكن ما يكون، فماذا يمكن أن يحدث أكثر مما هو واقع بالفعل!.
تساءل مروان: بقولك! هي الآنسة أية مبقتش تروح الجامعة ليه! تعبانة أو حاجة!؟، أصل فالجامعة زمايلها عارفين اننا بلديات فبيسألوني عنها عشان مش بترد على مكالماتهم..
اضطر مروان لاختلاق هذه الكذبة، حتى يعلم تفاصيل ما يجرى لها وهو لا علم له به..

همس الخفير مؤكدا: إيوه يا بيه، هي مش هتروح الچامعة تاني خلاص كده..
انتفض مروان مستفسرا: ليه!؟ إيه اللي حصل!
أكد الخفير في نبرة مضطربة: أنت أدرى يا بيه!؟، ما كنت معاها، ورايح چاي ع السكة چارها، والناس وكلامهم، و..
هتف مروان في حنق: قصدك إني السبب!؟

هز الخفير رأسه مؤكدا دون أن ينبس بحرف، لكن مروان وعى كل شىء، تركه الخفير ورحل وحيدا، ولم يجرؤ أن يطلب منه أن يوصلها أية رسالة، فلم يعد لديه الثقة في وقوعها فيدها هي لا جدتها..
طرقت أمه باب حجرته ودخلت ما أن اذن لها، تقدمت نحوه رابتة على كتفه متسائلة: إيه اللى حصل يا مروان!؟، حالك مقلوب بقاله أكتر من أسبوع..
فيه حاچة حصلت فالچامعة!؟
هز مروان رأسه نافيا، وهتف مطمئنا: أنا تمام يا ماما متقلقيش..

همست ثريا بفضول للمرة الأولى: هي مبقتش تيجي الچامعة ولا إيه!؟
اضطرب مروان متسائلا: هي مين!
ابتسمت ثريا مؤكدة: اللي رسمت عشانها اللوحات دي كلها، واللي نزلت الچامعة مخصوص علشانها، واللي أنت زعلان دلوجت بسبب عدم وچودها..
لم يعقب مروان، ما كان أشبه لأعتراف ضمني بصحة استنتاجها، ما دعاها لتستطرد مؤكدة: هي مين يا مروان! حد نعرفه، ولا..

قاطعها مروان هاتفا بنبرة تحمل وجعا مستترا بين الأحرف استطاعت استشعاره بحرفية كبيرة: مكنتش أعرف هي مين، ولا اهتميت أعرف إلا لما بعدت وقررت أنا أقرب، كانت أول حد يقتحم عزلتي ويملأ الفراغ اللي كان حابسني جواه رغم الريشة والألوان، خلتني رغم عجزي أحس إن ليا قيمة وإني بالنسبة لها رغم ظروفي قادر يحميها ويكون سند، أنا مكنتش أعرف أي حاجة إلا لما غابت، ودلوقتي مش عارف أوصل لها، مش عارف فيه إيه!؟، على الرغم إن بينا وبينها خطوتين..

تنبهت ثريا هامسة: خطوتين إزاي يعني!
أكد مروان مشيرا للخارج: عارفة البيت اللي من دورين اللي ورانا بخطوتين ده، ال
قاطعته ثريا هاتفة في صدمة: بيت ولاد منصور!
تطلع لها مروان في تعجب ما دفعها لتتمالك أعصابها، هتف متسائلا: ايوه يا ماما، بيت ولاد منصور، البنت اللي بقولك عليها اسمها أية، وعايشة مع جدتها في البيت ده..

استطاعت ثريا بحسبة عقلية بسيطة إدراك سبب عدم ظهور البنت من جديد في حياة ولدها، لابد وأن جدتها والتي تعلم ثريا جيدا مدى سطوتها وجبروتها، قد علمت بما يربط ابنها بحفيدتها فقررت قطع العلاقة كليا، ربما لعزلة مروان عن ما يحدث حوله لا يعلم أن جدة هذه القتاة كانت السبب في رفض زواج حفيدها الأخر ببدور ابنة حازم الهواري وتسبيح التهامي، لقد وصلتها هذه الأخبار من إيمان زوجة ماجد التي تربطها بها صداقة متينة..

ماذا عليها أن تفعل!؟، الماضي يعود بكل زخمه مسيطرا على مقدرات الأمور، وما لأحد من تصريف، لكن ولدها يستحق أن يُفعل المستحيل من أجله!؟، وهذه الفتاة التي استطاعت تحريك مياه حياته الراكدة تستحق أن يُحارب من أجلها..

اندفع يونس من الداخل مناديا بصوت جهوري: يا واد يا سماحة! أنت فين يا واد!
اندفعت سماحة ملبية في سرعة قادمة من الخارج نحو موضع جلوسه هاتفة في عجالة: ايوه يا بيه، حاضر أنا أهااا، خير يا بيه!؟
هتف بها يونس: روح چهز حالك أنت وأخواتك والخالة سعيدة، عشان هتنجولوا.
تضاعفت دقات قلبها ذعرا، ورغم ذلك هتفت في ثبات آثار إعجابه: ليه يا بيه! چرى حاچة لا سمح الله!؟، جولي وأني..

قاطعها يونس مستطردا: هتنجولوا فالدور الأول..
تطلعت نحوه متعجبة وتساءلت: دور إيه!؟
أكد ساخرا: هيكون دور إيه يعني!؟ دور طاولة! الدور الأول فالدار..
هتفت سماحة متسائلة من جديد في بلاهة: أنهي دار!؟ الدار دي!؟
هتف يونس ضاربا كفا بكف: أنت اتخبلت يا واد ولا إيه!؟ هو إحنا عندينا دار غيرها وأنا معرفش! ايوه الدار دي..
هتفت سماحة متسائلة: وحضرتك يا بيه!

أكد يونس باسما: أني هاخد الدور اللي فوج، عشان ليه مخرچ لوحده من غير ما أبجى مچبور أعدي على تحت، وكمان عشان أبجى مني للسطح فأي وجت عايز أجعد فيه، عشان تاخدي، تاخدوا راحتكم..
كان يقول جملته الأخيرة وقد عدل من خطئه في مخاطبتها بصيغة المؤنث سريعا حتى لا تنتبه، لكن تلك النظرات التي كان يرمقها بها لو استطاعت إدراكها لوعت للكثير، لكنها كانت بعالم أخر تماما..

فقد اشاحت بناظريها بعيدا هاتفة داخلها توبخ نفسها في حنق: مش وجته يا حزينة، بكاكِ ودموعك دي مش وجتها دلوجت، هتتفضحي يا ملكومة، اثبتي لحد ما تبجي لوحدك وابجي ابكي على حالك احفان دموع، لكن مش جدامه، اصلبي حالك واطلعيله كيف الرچالة، وانسي جلبك هبابة وعيونك بعيونه..
نفذت على الفور، ورفعت نظراتها إليه في عزم هاتفة: والله ما عارف اجول لك إيه يا يونس بيه! ربنا يكرمك يا رب.

تطلع يونس لعينيها وهاله ما رأى، غيوم تلك الدموع الشماء التي كانت توئدها بمآقيها مقهورة لا يمكنها سفحها أمامه، وعى لها تتراقص على جثمان فرحة مغتالة لا يمكنها الإفصاح عنها كما يجب..

تحشرج صوته محيدا بناظريه عنها، فما اعتراه اللحظة من مشاعر بكر لم يخبرها سابقا جعله يشعر باضطراب عجيب، كأنه ما خبر العشق سابقا، ، العشق!، وذاك اعتراف أخر زلزله داخليا ما جعله ينتقض مندفعا هاربا من محياها هاتفا: روح ياللاه چهزوا حالكم، وأني طالع فوج..
صعد الدرج هرولة، لا يعرف ممن كان يولى هاربا!؟، منها! أم من نفسه وحقيقة مشاعره المستحدثة نحوها!؟..

همت صباح بإطلاق زغرودة قوية عندما لمحت زهرة تدخل السراي مستندة على ذراع أمها وخلفها أبيها يحمل حقيبتها وبرفقتهم عاصم الذي خلع عنه جبيرة ذراعه لكنه ما زال يحمل ذراعه المصاب بذراعه الأخر فهو في طور علاجها الطبيعي ببعض التمارين ليستعيد مرونتها..
نهرها عاصم الجد هاتفا: يا بت، مش وجته ده، روحي شوفي عبدالرحيم چوزك دبح الدبايح ولا لاه!؟
هتفت صباح: حلا يا حاچ..

استوقفها عاصم الجد هاتفا: بجولك! جوليله الحچ بيجولك، إدي الناس بالزيادة وخلي يده فرطة، حاكم اني عارفه، وميردش حد أبدا، اللي يطلب يعطيه، فهماني..
أسرعت صباح مؤكدة وهو تندفع نحو موضع زوجها والدبائح التي تنحر فرحة وكرامة لنجاح عاصم وزهرة : معلوم يا حاچ، حلا أهااا..
اندفع عاصم نحو جده يلثم جبينه في محبة طاغية، ليهتف عاصم الجد بصوت متحشرج تأثرا: اتوحشتك يا غالي، ربنا ما يغيبك أبدا..

ربت عاصم على كتف جده هاتفا: ولا يغيبك يا چدي ويطول لنا فعمرك..
ابتسم عاصم الجد أمرا: ياللاه اطلع استريح، وهنعملوا لك غدا من الدبيحة، يرم العضم اللي اتكسر ده..
قهقه عاصم هاتفا: هي أمي عتجامي يا چدي، دي هتعلفني تجول هتدبحني ع العيد..
قهقه عاصم الجد بدوره مؤكدا: وااه مش أمك وخايفة عليك..
وتنهد مستطردا في حنو: والله كلنا روحنا راحت وانخلعنا عليك يا ولدي، ربنا ما يورينا شر فيكم أبدا..

وتطلع لعمق عيني حفيده متسائلا: بس ليه يا عاصم!؟ ليه عملت كده ورميت روحك ورا..!؟
لم يكمل عاصم الجد فالسؤال كان واضحا ولا يحتاج لتفسير، اضطرب عاصم الحفيد لسؤال جده المباغت، وتطلع نحو جده هامسا: تصدج يا چدي، أنا مش عارف، والله ما عارف أنا عملت ليه كده!؟، بس اللي چه فبالي وأنا برمي روحي فالمية أني يمكن ربنا يجدرني وألحجه عشان خاطرها..

دمعت عينى عاصم الجد وربت على كتف حفيده أمرا إياه: جوم أرتاح، وحمد الله على سلامتك يا حبيبي..
نهض عاصم ملثما ظاهر كف جده، وقد أبصرها اللحظة وهي تدخل السراي مع أبويها ومنه لحجرتهما، كان يعتقد أن أول مكان ستتوجه إليه هو حجرة القراءة والتي بالتأكيد اشتاقتها، لكن خاب ظنه وشعر أن ذاك مؤشر لا ينبئ بالخير، لكنه سينتظر حتى يرى، ربما حكمه جاء مبكرا..

صعد لحجرته بعد استقبال العائلة الحافل ليقع ناظريه على إحدى الروايات التي كانت أخر ما قراءته قبل أن يعقد قرانها على زوجها الراحل، جلس في هوادة قرب فراشه ومد كفه نحو الرواية يقلب صفحاتها، هم بإلقائها بعيدا عن ناظريه لكنه فر صفحاتها ليجذبه خطوطها الورية من جديد، فتح الصفحات ليقرأ الأسطر المميزة، لا يشقى المرء إلا بتلك الأسرار التي يخبئها بين طيات روحه، مستقرة بأعماق فؤاده، لا يقدر أن يشاركها إلا نبضات خافقه، ويا له من شقاء.

تنهد عاصم متسائلا: أسرار إيه يا زهرة اللي أنتِ مخبياها!، يا ريتني أجدر أعرف إيه اللي واچعك جوي كده، والله لأنزعه من چدوره، بس أعرف..
دفع بالرواية جانبا ونهض يتطلع من نافذته لعل الشوق يدفعها للحجرة الأثيرة، لكن الحجرة ظلت فارغة من محياها، وظل عقله يدور محاولا تفسير كلماتها المخطوطة، لكن لا فائدة..

خرجت من باب بيتها نحو مدخل بيتهم، ترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أولى الدرجات، لكنها تشجعت وصعدت الدرج في عجالة مخافة أن تعيد التفكير وتعود أدراجها، طرقت باب الشقة لتفتح نعمة التي استقبلتها في ترحاب..
جلست ليهل الجميع من الداخل مرحبا عاداه، ذاك الذي تنتظر طلته عليها ليعيد لفؤادها النبض الحي..

هتف بها خميس مشجعا، فقد شعر أنها ما جاءت إلا لتخبرهم بأمر ما: خير يا حُسن؟!، حاسس إن مجيتك دي وراها إن!؟.
أكدت نعمة الجدة وهي تتطلع إليها بنظرة متفحصة: صدقت يا معلم، باين عليها جاية وجايبة خبر مهم، خير إن شاء الله..
خرجت شيماء من المطبخ حاملة صينية عليها بضع أكواب من الشاي هاتفة بدورها: أخبار عمتك إيه يا حُسن!؟ تلاقيكم منمتوش من إمبارح وهاتك يا رغي!

ابتسمت نعمة الصغيرة مؤكدة: ايوه يا عم، ما هو من لقي أحبابه، نسي أصحابه..
ابتسمت حُسن مؤكدة: انتوا متتنسوش يا نعمة، ولا يمكن انساكم مهما حصل..
هتفت نعمة الجدة في نبرة قلقة: خبر إيه يا حُسن!؟ ما تنطقي يا بنتي، قولي اللي عندك..
أكدت حُسن وهي تفرك كفيها ببعضهما اضطرابا: الصراحة، عمتي عايزة تاخدني وتسافر، عايزاني اعيش معاها هناك على طول، وأنا مش عارفة اقول لها إيه!؟، وخصوصي بعد اللي حصل، وشافته بعينها..

هم خميس بالتكلم، لكن ظهور نادر أوقفه وخاصة عندما اندفع من الداخل ووقف على مدخل الردهة التي تجمعهم منشغلا بتعديل ياقة قميصه وثني أكمامه وهتف ساخرا: يعني مستنية مننا نقولك إيه!؟، روحي طبعا، أنتِ لسه قايلاها، بعد اللي شافته امبارح هي مش شايفة إنك فأمان، ومحدش عارف يحميكي، هي صح، وابنها المحلفط ده، اللي قال لا هتحتاجي للورشة ولا لوقفة بين الرجالة، ولا هتحتاجي أصلا تعرفينا من أساسه..

واندفع تاركا إياها مشدوهة من هجومه الغير مبرر نحوها، حتى أنه لم يترك لها فرصة شكره على ما فعله لأجلها هو وراضي، كانت الجروح ما تزال تحتل جزء من جبهته وجانب وجهه، جعلته أشبه بأحد المجرمين العتاة الإجرام، لكنه كان بنظرها اشجع الفرسان، وخاصة عندما كانت تتذكر كيف أنقذها من براثن ذاك الضخم وهتافه لها بالخروج بعيدا عن الغرفة انقاذا لها..

اخرجها خميس من خواطرها نحو ذاك الذي غادر اللحظة مغلقا الباب خلفه في عنف كاد أن يسقط زجاجه مهشما هاتفا: عمتك عندها حق يا حُسن، أنتِ فعنينا وعلى راسنا يا بنتي، بس مفيش بعد الأهل، وجودك مع عمتك أحسن لك، راحة لكِ من البهدلة وقلة القيمة، أهي هتصونك لحد ما ربنا يكتب لك الخير ويبعت ابن الحلال..
هتفت حُسن وغصة ما تستقر بحلقها: يعني انت فكرك أوافق يا معلم!؟.

هتفت نعمة الجدة مؤكدة: طبعا يا بنتي، إحنا يعز علينا فراقك، بس عشان مصلحتك يهون أي حاجة..
هتفت نعمة متحشرجة الصوت في تأثر: يعني هتمشي بجد يا حُسن!؟.
هزت حُسن رأسها دامعة العينين، لتتنهد شيماء متحسرة: ربنا يكتب لك الخير يا بنتي، إحنا مش عايزين لك إلا إنك تكوني في أمان، ربنا يحميكي..

ضمت نعمة حُسن باكية في لوعة فراق صديقتها التي طوقتها للحظة ثم اندفعت مستئذنة لتعود لعمتها مبلغة إياها قرارها النهائي، فما عاد لها ما تبكيه هنا، عليها الرحيل بعيدا، والبدء من جديد، لعل وعسى يكون البعد هو المفتاح لحل معضلة فؤادها العليل بهواه المعتق..

رنات على هاتفها تعلن أن رسالة ما قد جاءتها على أحد التطبيقات، امسكت بهاتفها تستطلع الأمر لتجدها رسالة من سهام تؤكد عليها الحضور لمصلى السيدات لأنها تريدها في أمر هام..
تنهدت سمية ما أن قرأت الرسالة، انتظرت لبرهة قبل أن ترد باقتصاب بكلمة واحدة: حاضر..
تركت الهاتف وبدأت في الاستعداد للخروج تحاول تأهيل نفسها لما ستقوله لسهام، فالأمر بالفعل صعب، وما عاد التأجيل جائز في مثل هذه المواضيع..

منذ عملت برغبة سمير في الاقتران بها وهي لا تعلم لليوم نهار من ليل، أصبحت توصل الليل بالنهار تفكيرا، لا تعلم ما عليها فعله، إن سمير انسان رائع ولا يستحق قلب لا يحمل إلا هوى كسيح لرجل أخر غير مدرك لها ولقلبها من الأساس..
وصلت المصلى وجلست في انتظار سهام التي ما أن وعت لها حتى اقتربت تلقي التحية في فتور لم يكن يوما من عاداتها..

وهي لا تلومها، فقد وضعت نفسها موضعها، وما لم تقبله على أحد من إخوانها، كان بالتأكيد هو عينه ما لن تقبله سهام على أخيها الوحيد..
تنهدت سهام هامسة: دلوجت ومن غير لف ودوران فالكلام، أنتِ هتعملي إيه فحكاية طلب سمير أخويا ليدك!؟.
همست سمية في ثبات: هعمل اللي المفروض ينعمل يا سهام! هرفض أكيد..
شهقت سهام فما كان رد سمية متوقعا: طب ومفكرتيش بعد رفضك إيه اللي ممكن يحصل!؟.

همست سمية: مفكرتش!، هو أنا بعمل حاچة غير التفكير، بس هعمل إيه!؟ ما باليد حيلة يا سهام، سمير يستاهل واحدة أحسن مني مية مرة، واحدة تحبه بچد ويكون هو الأول فجلبها وملوش شريك..
دمعت عينى سهام هامسة: طب، والشيخ مؤمن!؟، لو أنتِ رفضتي سمير، يمكن أنا كمان أرفض مؤمن، ما أهو أصلك مينفعش إني..
همست سمية متعجبة: هو أنتِ فارج معاكِ مؤمن للدرچة دي يا سهام!؟.

هزت سهام رأسها في إيجاب وبدأت في النحيب، شاركتها سمية البكاء في صمت ولا علم لإحداهما بالقرار الصائب الذي عليهما اتخاذه للخروج من هذا المأذق وحل هذه المعضلة..
ظلا على حالهما لفترة قبل أن تهمس سمية في تردد: فاكرة يا سهام لما جلت لك إني بدعي ربنا يبعد عن جلبي اللي ميكنش نصيبي، ويبعت لي الإشارة..

هزت سهام رأسها تؤكد على تذكرها لتستطرد سمية هاتفة: الظاهر إن دي الإشارة يا سهام، دي إشارات مش إشارة واحدة، طلب مؤمن ليدك، وفنفس الجاعدة طلب سمير ليدي..
همست سهام مستفسرة: أنتِ جصدك إيه!؟ أنا مش فاهمة..
أكدت سمية: أنا هجبل بسمير، سمير بن حلال وطيب، وشاريني، و..
هتفت سهام ودموعها منسابة في قهر: وبيحبك..
تطلعت لها سمية في صدمة، وساد الصمت بينهما لبرهة قبل أن تنطق متسائلة في تعجب: سمير بيحبني أنا!.

هزت سهام رأسها إيجابا وهتفت قائلة: أيوه بيحبك، وجال لبابا لو مكنش مؤمن اتجدم لي هو كان هيتجدم لك، بس بعد ما تخلصي السنة دي..
همست سمية من جديد في عدم تصديق: سمير بيحبني أنا!
همست سهام: الجلب وما يريد..
همست سمية بدورها: صدجتي، الجلب وما يريد..
واستطردت مؤكدة: أنا هجبل يا سهام..

عشان خاطرك أنتِ مؤمن، لأن مؤمن بيحبك بچد، أول مرة أشوفه فرحان جوي كده، كانت دايما رزانته سبجاه، ربنا يهنيكم يا رب، وهجبل عشان ع الأجل لو مخدتش اللي بحبه، يبجى أخد اللي بيحبني، وربنا يجدرني وأسعده..
ضمتها سهام مؤمنة خلفها في تضرع: يا رب..

ولم تكن تدرك كلتاهما، أن من يتضرعا من أجل الرغبة في إسعاده جالسا بالقرب من أحد جوانب المصلى، وقد وعى لهما وهما في سبيلهما للداخل فتتبعهما مشتاقا لرؤية سمية ولديه الرغبة في التعرف على ردها على طلبه، ليجلس ها هنا ويستمع لكل تلك الأسرار التي ما كان عليه أن يعرفها، فماذا هو بفاعل!؟.

اندفع ينهض مبتعدا، لا يرى موضعا لقدمه من أثر الدمع المتحجر بمقلتيه، يستشعر أنه بين شقي رحا، غير قادر على التقهقر وعاجز كل العجز عن التقدم نحو الهدف الذي تمناه طويلا، نيل قلبها، الذي اكتشف أن رجل سواه قد سبقه إليه..

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 12 من 36 < 1 29 30 31 32 33 34 35 36 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
رواية ، ميراث ، العشق ، والدموع ، موال ، التوهة ، والوجع ، رباب ، النوح ، والبوح ، العمر ، وزواده ،











الساعة الآن 11:20 PM