رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل العاشر
دخل المعلم خميس شقته ليهتف بنعمة وكذا ناصر وشيماء الذين تحلقوا حول المائدة في انتظار وضع صحون العشاء: إيه الدماغ دي!؟ حجر صوان. والله ما فرق حاجة عن جده زكريا. وعمه حمزة. حتة دماغ صعيدي إيه! ملهاش حل. قهقت نعمة مؤكدة: أه والله. ما حد شاف زكريا ولا عاشره أدي. من قبل جوازه ببدور الله يرحمها. مكنش يقبل على نفسه لا لقمة ولا هدمة مدفعش تمنها لو هيموت من الجوع. كانت نفسه عزيزة قووي.
أكد خميس: أهو ده شرحه. أقوله وأنا معدي ع الورشة. تعالى يا راضي اتعشى معانا. وده أبدا. اجيبه يمين احلف شمال. مفيش فايدة. ابتسم ناصر مؤكدا: الشهادة لله واد أخلاق وعينه مبتترفعش عن الأرض. بيجلنا زباين حريم أشكال وألوان. مرفعش عينه فواحدة فيهم. دول حتى بيخافوا منه. قهقت شوشو هاتفة: ليه هياكلهم! أكد ناصر ضاحكا: لا. بس طريقة كلامه معاهم شديدة. والنسوان عايزة ال. هتفت شوشو تقاطعه في حنق: عايزة إيه!
انفجر كل من نعمة وخميس في الضحك. ليهتف خميس ساخرا: جالك الموت يا تارك الصلاة. هتف ناصر يحاول الخروج من المأذق الذي وضع نفسه فيه متصنعا الحنق: يا بت يا نعمة. فين العشا! هو إحنا هنتسحر ولا إيه!؟ هتفت نعمة من داخل المطبخ وقد تركت ما كانت تصنع تسترق السمع لحديثهم عن راضي في اهتمام: حالا أهو يا بابا. الأكل جاي.
وبدأت بالفعل في تحضير المائدة. أكدت عليها أمها هاتفة: روحي نادي على أخوكِ يطلع يتعشى. وأنا هجيب باقي الأطباق. اندفعت نعمة تضع غطاء رأسها بشكل عشوائي لتطل من الشرفة هاتفة تستدعي نادر. لكن من ظهر من داخل الورشة كان راضي الذي رفع ناظره لثانية واحدة حتى يعلم من أين يأتيه النداء. قبل أن يخفض ناظريه تأدبا هاتفا يبلغها: نادر راح مشوار سريع وراچع. خمس دجايج وأول ما يوصل هجوله يطلعلكم. هتفت نعمة: شكرا.
هز رأسه واندفع لداخل الورشة من جديد. لتتطلع لموضع غيابه لبرهة قبل أن تعود للداخل. انشغل راضي بتلك القطعة التي كان يعمل عليها لكنه تنبه لصوت امرأة يصله مرتفعا عن طبيعته. ترك ما كان يعمل عليه وخرج من الورشة متطلعا حوله يحاول استطلاع مصدر الصوت فإذا بها حُسن تهتف في حنق لشخص ما. اندفع نحو ورشتها هاتفا في حزم: إيه في يا ست حُسن!؟ هتفت حُسن في ضيق: ببيع اللي بنتعب فيه بخسارة يا باشمهندس راضي.
تطلع راضي لمحروس متحدثا في هدوء: أنت اللي بتسوج لها البضاعة. مش كده!؟ هز محروس رأسه في إيجاب يتوجس من ظهور راضي الذي لم يكن فالحسبان. فبعد ما أشيع عما فعله بقدورة والكل يخشاه. هتف راضي مؤكدا: يبجى أنت المسؤول عن. هتف محروس مقاطعا في اعتراض: مسؤول عن إيه يا باشمهندس! ده سوق وعرض وطلب. والبضاعة متجبش أكتر من كده. ده أنا كارمها عشان ظروفها و.
اندفع راضي ممسكا بتلابيه هاتفا: ابلع لسانك ومتنطجش بولا كلمة تاني وإلا هطفحهولك. أنت هتچبي عليها بمالها يا عفش. هتف محروس بأحرف مهزوزة يحاول التملص من قبضة راضي: خلاص يا باشمهندس. هطلب سعر أعلى ولو مرضيوش هرجع لها البضاعة. هتفت حُسن مؤكدة: أيوه كده تمام. يا تعلي السعر يا ترجع البضاعة.
هز محروس رأسه موافقا واندفع ينفذ ما طُلب منه. مخلصا نفسه من راضي الذي تركه يرحل في سلام هاتفا لحُسن: نصيحة لوچه الله يا ست حُسن. الواد ده متشغليهوش معاكِ. اسمعي مني. ده ضلالي. ويكون فمعلومك. البضاعة تساوي أكتر من اللي كان عايز يديهولك. بس هو مخنصر من الفلوس وحطهم فچيبه.
تنهدت حُسن وهتفت متحسرة: طب وهعمل إيه بس يا باشمهندس! محوجاله. والله ما عنديش مانع ياخد سمسرة أو عمولة ع التسويق للبضاعة بس كده هو ناهبني. وأنا لسه عندي هم ما يتلم لازم يتسدد. كان فيه اقساط وفواتير على أبويا الله يرحمه. كل ده هيجي منين!؟ همس راضي مؤكدا: سبيها على الله. كله هيتعدل. همست حُسن: ونعم بالله.
وصل صبي القهوة الذي أرسله راضي لشراء بعض الشطائر من أجل العشاء. تناولهم منه هاتفا بها: ياللاه بسم الله. وفتح كيس الطعام مادا كفه يقدم إليها بعض الشطائر لتهتف في حرج: بالهنا والشفا يا باشمهندس. ده واجب عليا. ده أنت من ساعة ما وصلت الحارة ومجملتكش فحاجة. اعذرني بقى. ما أنت شايف بنفسك. طول النهار فالورشة بخلص أموري. أكد عليها راضي: مدي يدك متكسفنيش. أهو يبجى عيش وملح.
مدت حُسن كفها في حرج تتناول من راضي ما جاد به من شطائر عشائه. ليصل نادر في تلك اللحظة ليرى راضي مندفعا من داخل ورشتها في اتجاه ورشتهم وبكفه كيس الشطائر التي تحمل هي بعضها تقف على باب ورشة أبيها وقد بدأت في تناولها بالفعل.
لا يعرف ما الذي جعل ذاك الشعور السام يسري في شرايينه ويتوغل ليستقر بقلبه دافعا دمائه لتغلي غضبا. مستشعرا قهرا عجيبا جعله يندفع صوب الورشة متطلعا لراضي الذي استقبله في بشاشة مبلغا إياه برغبتهم في تواجده بالأعلى. حاول السيطرة على غضبه وكبح جماح غيرته التي كانت تعمي عينيه عن رؤية حقيقة الأمور. تلك الغيرة التي لا يعلم حتى اللحظة أنها ها هنا كامنة بين طيات نفسه. تنخر في ثباته.
هتف براضي متسائلا: هو في حاجة عند حُسن!؟ أصل شايفك جاي من عندها. أكد راضي في أريحية وهو يقضم بعض من شطائره: لاه خير. بس شكل الواد محروس ده مش هيچبها البر. واضح إنه بياخد عمولة لنفسه من الباطن. ويبيع لها البضاعة بملاليم. هتف نادر في حنق: والله هي اللي غاوية تعب. قلنا لها اقعدي معززة مكرمة ونجيب لك عمال تفهم فالشغلانة وحد واعي يدير الشغل. رفضت. وقالت فلوس أبويا وماله. وديونه في رقبتي.
أكد راضي مدافعا: حجها. هي حرة فمالها. والشهادة لله. الست حُسن دي ست ب مية راچل. دي صنف من الحريم مبجاش موچود منه دلوجت يا نادر. حُسن دي صنف نااادر.
تطلع إليه نادر في حنق ولم يدرك ما كانت ترمي إليه كلمات راضي. كانت الغيرة ما تزل تغشى بصيرته عن إدراك حقائق الأمور رغم ظهورها جلية أمام ناظريه. ترك راضي بالورشة واندفع في اتجاه بيت جده لتقع عيناه على حسن التي جلست أمام ورشة أبيها تتناول شطائر راضي ما أورثه حنقا مضاعفا ليتطلع إليها في غضب مكبوت مهرولا نحو درج بيت جده.
تطلعت من فوق سطح السراي لعلها تلمحه قادما. كان يسربلها شوقا هائل لمرآه قادما لطلب يدها. لقد علمت بقدومه اليوم في البارحة بعد أن هربت من أمامه حياء. عندما وجدت رقم غريب غير مسجل لديها يرن على هاتفها. لتفاجأ به. أخبرها أنه اتصل بوالدها وحدد موعد بعد صلاة الظهر لمقابلته. وها هي تنتظره ترافقها فريدة. لقد كانت الوحيدة التي على علم بما ينتويه منتصر اليوم.
تجرأت ودقت على جواله ليرد في سرعة مازحا: والله ما هربت. أنا جاي أهو. ده إيه البنات دي!؟ أنت ما صدقت يا سيد! قهقهت مؤكدة: أيوه بقى. ويكون في علمك. أنا علقة وزنانة ورخمة. أكد منتصر مبتسما: على قلبي زي العسل. وغير نبرته متحسرا: وربنا يعني بقى. أكدت بدور ضاحكة: ياااارب. بص يا بني عشان نبقى على نور من أولها. أكيد أنت عملت حاجة منيلة فحياتك عشان ربنا يبتليك بيا.
قهقه مؤكدا: والنعمة ما عملت حاجة. ده انا غلبان. بس عادي. لو كان وجودك في حياتي تكفير عن ذنب حتى لو معملتوش أنا راضي يا بدور. ساد الصمت بينهما ولم تعقب. فقد دمعت عيناها. ولم تدرك بما يمكن أن تجيبه. وهل هناك كلمات يمكن أن تعبر عن احساسها في تلك اللحظة من الأساس! همس متعجبا: بدور. رحتي فين!؟ همست بصوت متحشرج تأثرا: انا معاك يا منتصر. همس مؤكدا بعشق: وها تفضلي معايا يا بدور.
تطلع لبوابة السراي فهتف مسرعا: طب اقولك سلام مؤقت. عشان أنا وصلت. أكدت بدور: ما أنا عارفة. شيفاك. تطلع منتصر حوله رافعا ناظره لأعلى ليبصرها تطل عليه من سطح السراي ليهتف على الهاتف أمرا: مجنونة والله العظيم. انزلي طيب بدل ما تخدي ضربة شمس. الشمس النهاردة حامية. أكدت بدور في محبة: طب لما تدخل الأول. قهقه مؤكدا: والنعمة هدخل. ده أنا لو معتقلني مش هيحصل فيا كده!
قهقهت بدور هاتفة: عريس يا بوي. طخه بس متعوروش يابوي. ارتفعت ضحكاته هاتفا: طب على ذكر السيد الوالد. اقفلي بقى عشان هرن عليه أبلغه إني وصلت. سلام. استوقفته بدور هاتفة: منتصر! همس في محبة: يا نعم. همست بدور في حروف مبعثرة: أنا. أنا. هتف منتصر يستوقفها حتى لا تكمل: أنت إيه بس!؟ أوعي تنطقيها دلوقتي. جاية تقوليلي الكلمة اللي مستني اسمعها بقالي زمن وأنا داخل اقابل أبوكِ.
أكدت هاتفة في مزاح: أيوه عشان تديك دفعة وتدخل بقلب جامد. أكد هو ساخرا: يا بنتي أنت متعرفيش إن العبد لله يروح فيها. ده أنا لو سمعتها دلوقتي هدخل اقعد قدامهم زي خيبيتها. أصل المواضيع دي بتقلب معايا بغباوة كده على شوية تخلف على كرشة نفس وزغللة في العين. واحتمال يطلبوا لي الإسعاف يا النجدة. قهقهت بدور وهمست في لهفة: يا عيني يا بني. طب ياللاه سلام. عشان تكلم بابا تبلغه بوصولك.
هتف فيها مدعيا الحنق: مصلحجية. قهقهت من جديد وهي تغلق الهاتف ليضغط أزرار هاتفه مؤكدا لحازم على وصوله خلال دقائق. بينما تنهدت بدور في راحة وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها شاركتها إياها فريدة في سعادة وهي تقترب منها تضمها في فرحة هاتفة: ألف مبروك يا بدور. ربنا يتمم لك على خير. باين عليه بيحبك بجد وشاريكِ. وأهو دخل البيت من بابه. يعني فعلا راجل. ربنا ييسر لكم الحال.
هتفت بدور في تضرع: يا رب يا فريدة. يا رب. ويرزقك أنت كمان بابن الحلال اللي يستاهلك. ابتسمت فريدة في شجن مؤكدة: لا انسيني أنا خاالص. أنا حياتي بقت فالشغل وبس. مواضيع الحب دي قفلت عليها بالترباس من زمان. تنهدت مستطردة وهي تجذب يد بدور: بقولك ايه! تعالي نتسحب زي زمان ونتصنت عليهم ونشوف هيقولوا إيه!؟
هتفت بدور في اضطراب: لا يا فريدة. أخاف حد يشوفنا من ولاد عمي مهران. وخصوصا عاصم. شوفتي عامل إزاي!؟ أنا خفت منه. قهقهت فريدة ساخرة: بقى بدور بتخاف! طب كويس والله. ثم استطردت في جدية: بس على فكرة. عاصم انسان محترم وكويس جدا. هو بس عشان ملتزم ومش بتاع ضحك وهزار أنت شيفاه شديد. بس هو انسان ممتاز. همهمت بدور هاتفة: إيه يا فرفر. عينك من الشيخ عاصم ولا إيه!؟
قهقت فريدة مؤكدة: شوف أنا اقولها إيه تقولي إيه! يا بنتي أنسي. أنا مفيش فحياتي إلا الشغل وبس. لكزتها بدور مازحة: طب ما تفكري بس. ده الشيخ تقيل كده وعليه هيبة تسرع. اللهم بارك.
انفجرت فريدة ضاحكة وتطلعت نحو بدور تهز رأسها مؤكدة أن لا فائدة ترجى من ابنة خالها تلك. فقررت النهوض وتركها وحيدة إلا أن بدور لم ترغب فالبقاء مفردها يتآكلها القلق من الاجتماع الدائر بالأسفل ما دفعها لتلحق بفريدة مجتمعة بالفتيات استعدادا لتلك المأدبة المقامة على شرف زوج زهرة الدكتور محمد عزام.
كانت المحاضرة قد بدأت لتوها لكن طرقات على باب قاعة المحاضرات جعلت دكتور المادة يتنبه نحو الباب الذي انفرج بشكل مبالغ فيه وظهر من خلفه ذاك الكرسي المدولب وصاحبه. تطلع المحاضر لذاك الذي اقتحم المحاضرة بهذا الشكل وهتف به متسائلا: خير! أي خدمة!؟ شهقة مكتوبة ندت عنها ما أن أدركت ماهية الطارق. لم يكن إلا مروان على كرسيه المدولب. ماذا يفعل هنا!؟
كادت أن تفقد وعيها ذعرا. هل جاء خصيصا من أجلها!؟ يبدو أنه فقد عقله كليا ليأتي إلى هنا لكي يراها بعد أن امتنعت عن الحضور أو حتى الاقتراب من حديقة داره. كانت قد اتخذت عهدا على نفسها أن تبتعد قدر استطاعتها عن هذه القصة. وذاك الشاب الذي تعلم تمام العلم أنها. إن لم تبتعد عنه. فسيكون مصيرها جرح قلبها لا محالة.
هتف مروان في ثبات وثقة: آسف يا دكتور على التأخير عن ميعاد المحاضرة. دي أول مرة حضور ليا. وأوعد حضرتك مش هتتكرر. تطلع له المحاضر متسائلا: هو أنت معانا هنا!؟ أكد مروان في هدوء مبتسما: أيوه يا دكتور أنا طالب فنون جميلة. لكن الحضور كان بعافيه شوية زي صاحبه. وأشار لوضعه على كرسيه وهو يلقى بكلماته الأخيرة ما دفع المحاضر ليبتسم لخفة ظل مروان وهز رأسه في قبول لعذره مشيرا سامحا له بالدخول.
تحرك مروان بكرسيه ولم يعر للنظرات المتطفلة أي اعتبار. كان كل ما يعنيه هو معرفة موضع جلوسها. ليكون الأقرب له. لحسن الحظ لم تكن القاعة بها مدرج لا يمكنه الصعود على درجاته بمقعده دون مساعدة أحدهم. كانت القاعة عبارة عن قاعة درس بسيطة جعلت من حركته أكثر حرية.
وقعت عيناه على موضعها أخيرا. ليجدها تحاول التخفي. تتدارى قدر استطاعتها كأنما تدرك أنه يبحث عنها وقررت جعل المهمة أكثر صعوبة عليه من تلك الأيام والليالي التي قضاها باحثا عن طريقة حتى يستطيع الوصول إليها من جديد. فما عادت رسائله بسرج عنتر توتي ثمارها. فقد كانت تعود له كما ذهبت. أوقف كرسيه محاذيا لموضع جلوسها حتى يستطيع أن يراها من مكان استقراره.
تابع المحاضر درسه لكنه ما كان اهتمامه منصبا على ما يقول. بل جل اهتمامه كان منصبا على تلك التي تجلس هناك أخذة بمجامع الفكر ولب الفؤاد بين كفيها الرقيقتين. وهي لاهية تماما عما تحدثه به من أوجاع. وما يعانيه قلبه في بعادها. دخل حازم القاعة على عاصم الجد جالسا جواره هاتفا: يا عمي. الظابط اللي جاي عشان يخطب بدور. اللي كلمتك عليه. لسه مكلمني دلوقتي وجاي فالطريق.
ابتسم عاصم مؤكدا: ألف مبروك يا حازم يا ولدي. اللهم بارك. الفرح لما يهل بيهل بالكوم. ربنا يجعل البيت كله مليان فرح. ابتسم حازم رابتا على كف عاصم هاتفا في مودة: في حياتك يا عمي. هتف عاصم متسائلا: تعرفه أنت العريس ده يا حازم!؟ ما أنت بتجول ظابط!؟
أكد حازم: ايوه يا عمي. ظابط كويس. كان خدم مع لوا زميلي واحنا في اسكندرية وكان دايما بيشكر فيه وفأخلاقه. أنا اتنقلت المنصورة. وهو كمان اتنقل برضو. بس معرفش إيه اللي لم الشامي ع المغربي. وجاي يخطب بدور دلوقتي!؟ هتف عاصم: في اسكندرية! يعني چاي من أخر الدنيا عشان يخطبها هنا!؟ والله فيه الخير برضك.
هم حازم أن يصلح له المعلومة إلا أن هاتفه ارتفع رنينه ليتطلع لشاشته ليسطع اسم الضيف جليا. هتف حازم: الضيف وصل يا عمي. أكد عاصم: يتفضل يا ولدي. خليه ياچي على هنا نجعدوا معاه جبل دوشة العزومة اللي چاي لها عريس زهرة. هز حازم رأسه موافقا وخرج لبعض الوقت ليعود ومعه منتصر لداخل قاعة عاصم.
جلس كلاهما أمام عاصم الذي ابتسم في استحسان لمنتصر هاتفا في ترحاب: شرفت السرايا والنچع كله يا حضرة الظابط. خير إن شاء الله. تنحنح منتصر في احراج هاتفا في ثبات على قدر استطاعته: طبعا خير يا حاچ. أنا چاي اتشرف وأطلب ايد الآنسة بدور بنت سيادة العميد. يمكن يكون جال لحضرتك إنه مش أول مرة يشوفني. شافني جبل كده ف.
هتف عاصم مقاطعا: ايوه يا حضرة الظابط جالي. فاسكندرية. يعني على كده تعرف عيلة الهواري كلها هناك. زكريا واد عمي و حمزة الهواري. دول رچال أعمال كبار هناك. تطلع منتصر لحازم لحظة وهتف مؤكدا لعاصم: ايوه طبعا يا حاچ. نار على علم هناك. دول من أكبر عائلات اسكندرية. بس أنا. هتف عاصم مقاطعا من جديد: أنت بتتكلم صعيدي تمام. شكلك خدمت هنا فترة. ولا أنا غلطان!؟
تطلع منتصر لحازم يطالبه بالتدخل ليهتف حازم مؤكدا: منتصر صعيدي يا عمي. منتصر من هنا من نجع الصالح. ضاقت عينى عاصم وتطلع نحو منتصر في محاولة لمعرفة أين يمكن أن يكون قد رآه لكنه لم يستطع الاستنتاج فهتف متسائلا في توجس: من هنا. من بيت مين يا ولدي!؟ أكد منتصر في أريحية: من بيت أبو منصور يا حاچ عاصم.
امتقع وجه عاصم. وساد الصمت للحظة قبل أن يتمالك عاصم أعصابه في قدرة وخبرة اكسبتها له السنين هاتفا في ثبات: أحسن ناس. بس أنت ليه چاي لحالك يا حضرة الظابط!؟ يعني كنت فاكرك غريب جلت ميعرفش عوايدنا وچاي لحاله يتعرف فالاول. لكنك من النچع وعارف إنك لازما تاچي مع ناسك.
تنحنح حازم محرجا بينما اضطرب منتصر مستجمعا شجاعته هاتفا: هايحصل طبعا يا حاچ. العيلة كلها هتكون عندكم. بس أنا جلت أچي امهد الطريج. وأعرفكم. هز عاصم رأسه يزعم موافقته هاتفا: طب تمام يا ولدي. وماله. أدينا عرفنا واتشرفنا بك. وإحنا مستنظرين ناسك يشرفونا.
تطلع منتصر نحو حازم الذي لم يعقب بحرف وقد أدرك أن هناك أمر ما دفع عمه ليتصرف بهذا الشكل. على الرغم أنه لم يخرق الأصول أو قواعد الذوق. لكنه كان شديدا بعض الشيء. نهض منتصر مستأذنا في هدوء ليهتف عاصم خلفه: متنساش يا حضرة الظابط. ناسك كلهم. وسلامنا لستك. الحاچة وچيدة. جولها عاصم الهواري بيجولك. الأيام بتدور.
تطلع منتصر نحوه في تعجب عندما جاء على ذكر جدته. بالتأكيد يعرفها كما يعرفها كل أهالي نجع الصالح. لكن ماذا كان يقصد بكلمته الأخيرة!؟ ماذا كان يقصد بأن الأيام تدور! أي أيام! هز منتصر رأسه في تيه. ورحل لخارج السراي لا يعلم ماذا هناك!؟ لكن كل ما عليه فعله هو إعلام جدته برغبته في خطبة بدور. وليكن ما يكون.
تطلع حازم لعاصم هاتفا في تعجب: هو فيه حاجة يا عمي!؟ أصل الحوار كان ماشي كويس مع الولد وفجأة حسيت إنك شديت عليه. هز عاصم رأسه موافقا وتنهد مؤكدا: عارف ده يبجى مين!؟ ده منتصر واد چعفر أبو منصور. اللي كان عايز يجتلني من سنين وضرب سيد واد عمك بالنار وصابه فيده اللي لسه لحد دلوجت تعبانة. واللي سيد اتنازل عن المحضر ضده. هتف حازم في صدمة: يااااه ده عمر. ده أنا كنت لسه فأول خدمتي هنا. فاكر يا عمي!
ابتسم عاصم مؤكدا: ايوه طبعا. واتكعبلت أيامها فالبت تسبيح. وخدتها معاك وأنت ماشي. قهقه حازم مؤكدا: ايوه يا عمي. ولسه متكعبل وحياتك. أكد عاصم مقهقها: مصدجك. عيال سهام أختي دول يكعبلوا بلد. عيلة مچانين. ارتفعت ضحكات حازم مؤكدا: طب حاسب يا عمي لتسبيح تسمعنا. أكد عاصم هاتفا: يا عيني على ظباط الداخلية الشداد. استمرت ضحكات حازم مؤكدا: من خاف سلم يا عمي.
أكد عاصم وقد اتسعت ابتسامته: ايوه صدجت. مع الحريم بالذات. ربنا يسلمنا كلنا يا واد أخوي. علت ضحكاتهم من جديد. لكن ما أن ساد الصمت حتى هتف حازم مستفسرا: يعني كده خلاص الجوازة باظت يا عمي!؟ تنهد عاصم مؤكدا: والله لو چاب ناسه وچه. يبجى كدها. والواد أنت بتجول عليه اخلاج وچدع. يبجى ليه لاااه. تساءل حازم: طب لو مقدرش يقنع عيلته يا عمي. وجه يطلبها تاني!؟ الواد فعلا كويس. أوافق!؟
هتف عاصم متعجبا: هتدي بتك لراچل چايلك بطوله يا حازم! ملوش كبير يرچع له ويترد عليه!؟ يا ولدي ده اللي ملوش كبير بيشتري له كبير. وبعدين إحنا ليه ندي بتنا لراچل أهله مش موافجين عليها. ناجصها إيه!؟ بناتنا ميتاجلوش بالدهب. واللي ياخدهم يتجلهم بالغالي. والفرحة بها تبجى كبيرة. سامعني يا حازم! هز حازم رأسه موافقا على كلام عاصم الذي كان كلام لا يقدر بثمن.
انتهت المحاضرة ليبدأ الطلاب في المغادرة تباعا. كانت تنازعها نفسها ما بين التلكوء حتى تعرف كيف سيغادر مفرده دون مساعدة. وما بين الاندفاع هربا حتى لا يتعقبها وهي التي ما خالطت شبابا منذ دخولها الجامعة. ظلت تتابع صراعها الداخلي في اضطراب حتى وجودته يرحل دون حتى إلقاء نظرة نحوها. لم تكن تدرك أنه نال ما اشتهى ولم يحد بناظريه عنها طوال زمن المحاضرة.
تحرك نحو باب القاعة في هدوء. وما أن خرج حتى انتفض خفيره يساعده حتى الوصول لسيارته التي كان الخفير قد صفها جانبا بمكان قريب. تطلعت نحوه دون أن يدرك لتتأكد أن كل شىء على ما يرام. ومن ثم اندفعت بدورها نحو عربتها التي كانت منتظرة بالخارج يأخذ خفيرها قيلولة بسيطة حتى انتهاء محاضراتها. اندفعت السيارتان ليتلاقا بشكل منطقي على الطريق صوب النجع. لتصبح كلتاهما بمحاذاة الأخرى.
تنبه مروان متطلعا من نافذة مقعده الخلفي لعربتها وهي تحتل مقعدها الخلفي كذلك. ابتسم عندما تلاقت نظراتهما بلا اتفاق. كانت ابتسامة شفتيه جذابة لكن ابتسامة عينيه كانت حكاية أخرى. مزيج من شقاوة مخلوطة بإصرار دفعها لتبعد ناظريها عنه متشاغلة بإحدى الروايات تدفن وجهها بين ضلفتيها. تدعي تجاهل ما يحدث. عندما حاول سائق عربتها تجاوز سيارته. ما دفع مروان ليحرض سائقه هاتفا: إيه. أنت هتسيبه يسبقك ولا ايه!؟
كان سجال ما بين أسرع ومسرع. تعالت فيه ضحكاته وهو يخرج رأسه من نافذة مقعده صارخا في حماسة. لتنتفض هي بمقعدها لصرخاته الحماسية الأشبه بصيحات أحد فرسان الروديو. أو الكاوبوي. وهو يعتلي فرسه الجامحة محاولا السيطرة عليها وترويضها. ما دفع الضحكات لشفتيها وهي تحاول أن تخفيها. تدفن وجهها بين صفحات روايتها حتى لا يفطن خفيرها لما يحدث.
وأخيرا. عندما اقتربا من مدخل النجع وجدته يعطي إشارته لسائقه أن يبطىء من سرعة سيارته بالقدر الكافي الذي يجعل سيارتها تمر أمامها. حتى تسبقه. لتتوقف سيارته بعد دقائق معدودة خارج باب داره. استقبلته ثريا في سعادة. فهي تدرك أن هناك شىء ما يدفع ولدها لينفض تلك العزلة عن كاهله ويبدأ في استعادة حيويته من جديد. هتفت به ثريا في فضول: ايه أخبار الكلية!؟ تمام!؟
اشار لها رافعا إبهامه وعلى شفتيه ابتسامة واسعة لم ترها مرتسمة على وجهه منذ زمن بعيد. حتى أنه هتف مطالبا بالطعام. دمعت عيناها فرحا. ذكرها ذلك بالأيام التي كان يدخل فيها للمنزل من تدريبه يتضور جوعا. صارخا مطالبا بالطعام. هتفت في فرحة: من عنايا يا فنان. الغداء چاهز بس أنت تأمر. أحضر لك تصبيره لحد ما بابا يرچع ولا هتاكل أنت!؟
همهم لبرهة قبل أن يقرر الاكتفاء بالتصبيرة لتزداد فرحتها أضعافا. فقد مر وقت طويل جدا منذ أن جمعتهما طاولة طعام واحدة. فدوما ما كان زاهدا في الطعام غير راغب فيه. وإذا ما تناوله. كان يكتفي بالنذر اليسير. وضعت له بعض من مقبلات ولحقته بها إلى غرفته لتجده يجلس إلى لوحاته وألوانه. وضعت الطبق في هدوء وتركته مغلقة الباب خلفها ولأول مرة تغادر حجرته وعلى شفتيها ابتسامة مشرقة لا دمعات منسابة على خديها.
شهقت في ذعر عندما اصطدم جسدها بجسد شخص ما كان يتعمد اخافتها لتنتفض متطلعة إليه. قهقه في مشاكسة عندما نظرت إليه تعاتبه على افزاعها بهذا الشكل هامسة: كده برضك!؟ حرام عليك يا سيد مبقتش حمل الخضة دي. همس متطلعا نحوها: بقى الباسمهندس ثريا على سن ورمح. يركب الهوا كده. والله وراحت عليك يا باشمهندس. قهقهت متجهة نحو الردهة ليتعقبها مستفسرا: أنتِ متغيرة النهاردة. فيه إيه!؟ حاسس أن وراكِ حكاية.
هتفت نافية: الحكاية مع إبنك. ويا ريتني أعرف فيه إيه. بس اللي متأكدة منه أن الموضوع فيه إن. تطلع لها سيد متعجبا: يعني إيه!؟ مش فاهم. اقتربت هامسة في رقة: مروان قلبه دق. واضح إنه بيحب يا سيد. همس بدوره متعجبا: مين!؟ تعرفيها! هزت رأسها نفيا هامسة: لا. يا ريت. بس جلب الأم ميخيبش أبدا. ابنك عاشج. وهي اللي جاعد يرسم صورها على لوحاته. وأول حرف من اسمها. وكمان نزل الكلية بتاعته النهاردة.
تطلع لها سيد مبهورا لتتابع في حماسة: تخيل بقاله سنتين مش عايز يعتبها وكل سنة بنقدم اعتذار وميدخلش الامتحان. ألاجيه فچأة بين يوم وليلة عاوز يروح. وهيدخل الامتحان السنة دي. هتف سيد مستفسرا: طب محاولتيش تعرفي منه بشطارتك تكون مين! أنا خايف عليه تكون بنت بتلعب به. أو حتى متعرفش ظروفه وتتصدم وتبعد لو عرفت. وأنت عارفة ده هايبقى إيه. صدمة ممكن يتعرض لها. إحنا في غنى عنها يا ثريا.
تنهدت هاتفة في عتب: ربنا يعديها على خير وبلاها تخوفني. أنا ما صدجت إني فرحت شوية وأنا شيفاه بيرچع مروان الجديم من تاني. ربت سيد على كتفها معتذرا وقد أبصر بريق دمع يترقرق بمآقيها اقترب يطبع قبلة على جبينها مطيبا خاطرها. ليصدح صوت موسيقى كلاسيكية دوما ما كانت سلوى مروان وهو يرسم. ما دفع سيد ليقترب من ثريا مازحا: تسمحيلي بالرقصة دي يا هانم!؟
هتفت به ثريا مازحة تقلد فردوس محمد في أحد افلامها مجيبة على استيفان روستي: ما ترقص ياخويا. هو حد منعك. ما أن هم سيد بالتعليق ضاحكا حتى على شدو لإحدى أغاني الغرام من داخل حجرة ولدهما. تطلع سيد إليها لبرهة قبل أن ينفجر ضاحكا هاتفا في تأكيد: ده عاشق وغرقان لشوشته كمان. أغاني حب! اممم. وقفل مقطوعات باخ وبحيرة البجع اللي هوس بها راسنا طول النهار!؟ الحالة مؤكدة يا ثريا يا أختى.
قهقهت ثريا مؤكدة: شكل البچعة خطفت قلبه. ابتسم لها سيد وهو يرى سعادتها وانشراح قلبها والذي غاب عنها منذ حادثة مروان فلم يشأ أن يلق ببذور القلق بجوف صدرها وهو يستمع لكلمات الأغنية التي كانت تأتيه اللحظة من داخل حجرة وحيده. إذا أنتِ تركتيني. وبطلتي تحبيني. والله لأخلي عيني ما تعود تشوف. وإذا أنتِ فليتي. يعني انخرب بيتي. شو بعمل بحالي. مش معروف.
ابتسم سيد لثريا من جديد دافعا بها لتحضير الغذاء وكل ما كان يشغل باله هو قلقه على مروان من تلك التجربة التي لا يعلم إلى أي مدى قد تدفع بحياتهم. بعد كل معاناتهم مع تجربته الأخيرة التي ما زال أثرها حي لم يندمل جرحه.
جهز سماحة ركوة الشاي لينضم إليه يونس جالسا قبالة النار يحاول الحصول على بعض الدفء. قرب الشتاء على الرحيل لكن ما زالت هناك لفحة من برودة تخالط هواء المساء خاصة في مكان مكشوف لحد كبير مثل مجلسهما بسطح دار الحناوي. مد سماحة كفه بكوب الشاي ليونس والذي تناوله مرتشفا إياه في استمتاع مؤكدا: عليك كباية شاي يا واد يا سماحة تعدل برج بيزا المائل.
اتسعت ابتسامة سماحة على ظلال نار الركوة في عتمة الليلة الشتوية هاتفا في سعادة: بالهنا يا بيه. الف هنا. على عواء بعض الذئاب من عدة أماكن متفرقة بالنجع. ليهتف يونس مؤكدا: ديابة الچبل نازلة النچع چعانة. تنهد سماحة هامسا: الچوع كافر يا بيه. لا ليه دين ولا ملة. بيخلي الصاحب يخون صاحبه والأخ ينهش فأخوه. تطلع يونس إليه هامسا: أنت منين يا سماحة!؟ هتف سماحة متعجبا: منين كيف يا بيه!؟ بلاد الله لخلج الله.
أصر يونس على سؤاله هاتفا: جصدي. انولدت فين!؟ فين ناسك!؟ وبلدك اللي چيت منيها!؟ أكد حماسة: والله ماوعالها يا بيه. أنا من سن الحداشر وانا مطلوج أدور على أكل العيش لأمي وأخواتي بعد ما أبويا مات وسابهم فرجبتي. معرفتليش دار ولا مطرح إلا داركم. ولا بلد إلا نچع الحناوي. تطلع إليه يونس في إكبار متسائلا: طب وكنت بتشتغل فإيه على كده!؟
أكد سماحة: فكله يا بيه. معمار شوية. وفأرض الناس شوية. فجهوة ع الطريج شوية. وأهي كانت بترزج. سأل يونس: أنت عندك كام سنة يا سماحة؟ هتف سماحة: والله يا بيه م الهم ما فاكر. بس يعني تجريبا كده ياچي ٢٢ سنة. هتف يونس في شجن: أنت صغير جوي ع الهم ده. ومد كفه رابتا على كتفه في قوة هاتفا: بس أنت چدع يا واد وكدها.
تصلب كتف سماحة تحت كف يونس ما استرعى انتباهه معتقدا أنه زاد من شدة ضرباته المشجعة والتي يبدو أنه لم يحتملها ما جعل جسده يتصلب بهذا الشكل. رفع كفه عن كتف سماحة متعاطفا هاتفا في أريحية: تعرف يا سماحة. أنا عمري ما فتحت جلبي لحد إلا لأخويا راضي ربنا يمسيه بالخير ويسهلهاله مطرح ما راح. أنت الوحيد يا فجري اللي بحكيلك وبشكيلك معرفش ليه!؟ مع أن كان ممكن أرفع التليفون وأجعد ارغي مع راضي بالساعات بدل الخلجة العفشة اللي بطلع لها كل ليلة دي.
همس سماحة في قلة حيلة منكس الرأس: الله يسامحك يا بيه. قهقه يونس هاتفا: شوف عامل فيها مؤدب كيف!؟ اللي يشوفك دلوجت ميشوفك وأنت هتاكل واد نچم وإحنا فالأرض. والله لولا ملحجتك لكنت فلجت الراچل نصين. ساد الصمت لبرهة ولم يعقب سماحة ما جعل يونس يتعجب هاتفا: رحت فين يا واد!؟ عجلك خدك على فين!؟ واستطرد مازحا: إيه عجلك بيوزك وجلبك مش مطاوعك وناوي تجوم تطخه عيارين ولا إيه!؟
لم يعقب سماحة على مزاح يونس بل هتف بنبرة هادئة: بجولك يا بيه! هو أني ينفع أوصيك على حاچة!؟ تطلع له يونس في دهشة متسائلا: حاچة إيه!؟ همس سماحة مؤكدا: أمي واخواتي البنات. أمانة في رجبتك يا يونس بيه. انتفض يونس موضعه هاتفا بصوت متحشرج تأثرا: واد يا سماحة. إيه في!؟ أنت وراك إيه يا حزين! انطج.
أكد سماحة في نبرة هادئة ثابتة: مفيش يا بيه. هيكون إيه يعني. أني لا وراي ولا جدامي. على فيض الكريم كيف ما چنابك واعي. بس العمر مش مضمون. جلت أوصيك عليهم. مش هأمن عليهم حد غيرك. تنهد يونس زافرا في راحة هاتفا: منك لله يا بعيد. سيبت مفاصلي. اعملي دور شاي تاني اعدل دماغي اللي جلبتها. جال أوصيك ولا موصيكش. هتف سماحة وهو يزيد من نيران الركوة: سماح يا بيه. ده أنت جلبك رهيف جوي.
أكد يونس متحسرا: ايوه. مچبناش ورا إلا الجلب الرهيف. وحكاويه. أكد سماحة مادحا: والله دي احلى حاچة فيك يا بيه. جلبك الرهيف ده. ربنا يزيدك طيابة. همس يونس في شجن: جول خيابة. خدنا إيه من طيابة الجلب إلا وچعه. تطلع له سماحة هامسا: ما تغني يا بيه! خلي الليلة الطويلة دي تعدي. والجلب يدفا بالغناوي. أهي سلوة اللي مش طايل. يمكن فالحلم ينول.
تطلع إليه يونس لبرهة متعجبا من حديثه ثم بدأ في الشدو الشجي: أنا بعت الدموع. الدموع والعمر. طرحت چنايني. فالربيع. الصبر. وجلت أنا عاشج. سجوني. كتير المر. كان يقف بشرفته متطلعا للأفق المظلم الأشبه لصدره بتلك اللحظة. سيخلف هذه الأرض وتلك السراي ورائه هربا من حلم ضائع بغية السلوى في بعاد ينسيه بعض من أوجاعه كما يأمل.
تنهد زافرا في قوة قابضا على سُوَر الشرفة يهم بالدخول ليتناول حقائبه ويرحل مودعا أهله. فقد حانت اللحظة التي كان يتحاشاها رغم إدراكه باقترابها.
ما أن هم بالدخول حتى تناهى لمسامعه أصوات بالأسفل قرب مدخل السراي الداخلي. على ما يبدو. عريس زهرة مغادر. يقف بالخارج ليودعه الجميع تاركينها معه وحدهما. كان مقتربا منها يتطلع إليها في سعادة بينما تنكس هي رأسها في حياء. كان من الواضح أنه يسمعها بعض من كلمات الغزل قبل أن ترتبك هي مبتعدة لداخل السراي فيندفع هو لركوب سيارته راحلا.
كان المشهد قاتل. كأنما سكين طعنت بخاصرته واستمر نصلها زاحفا كحية سامة ليمزقه قهرا من الشريان إلى الشريان. ما عاد للتحمل موضع بصدره. وما عاد للصبر محلا بقلبه. وعليه الرحيل قبل أن يموت كمدا. اندفع للداخل جاذبا حقيبتيه في عنف هابطا الدرج حيث وجد الكل مجتمعا يحكي عن السهرة الرائعة.
تطلع الجميع إلى ذاك الذي ظهر بأعلى الدرج حاملا أمتعته وما أن أصبح تقريبا بينهم حتى هتف عمه ماجد في ضيق: برضو مأجلتش سفرك يا عاصم.. هتف عاصم في هدوء مصطنع: أوامر الشركة يا عمي. مليش يد ف الموضوع. هز ماجد رأسه متفهما بينما هتف مهران: استنى هاچى أوصلك. هتف سمير كذلك: وانا كمان هروح معاك يا عاصم. رفض عاصم مؤكدا: لاااه محدش يتعب نفسه. واحد صاحبي چاي ف الطريج مسافر معاي أخوه. هيوصلنا. ملوش عازة تعبكم.
واتجه نحو أمه تسنيم التي بدأت في النحيب وكذا أختيه نوارة وسجود منحنيا يقبل هامتها هامسا: مش عايز اشوفك بتبكي. هو أنا يعني رايح فين!؟ كلها كام شهر وهتلاجيني عندك. ادعيلي بجى وبلاش بكى. وبعدين هي فين ستي!؟ هتفت زهرة بدورها متأثرة: ف أوضتها. تطلع عاصم اليها يتشبع من ملامح وجهها التي سيفتقد لكنه أدرك أنها أصبحت ملكا لغيره فأبعد ناظريه هامسا: بالمناسبة. ألف مبروك. ربنا يسعدكم.
هتفت زهرة بدورها: الله يبارك فيك. وعقبالك يا عاصم. هز رأسه شاكرا واندفع تجاه حجرة جده مودعا جدته. لكنه لم يقدر على وداع جده. الذي طلب منه ألا يأتيه لحظة رحيله مودعا. فقد كان يكره لحظات الوداع دوما. لحظات وخرج متطلعا للقاعة التي بها جده. لكنه لم يتجرأ على الدخول إليها. كان يخشى أن يضعف ويلغي الأمر برمته. وهو بحاجة ملحة للرحيل بعيدا.
وجد الجمع لم ينفض بعد. فبدأ بالسلام عليهم فردا فردا. حتى إذا ما جاء دور سمير إلا وتشبث به مدركا أنه ما قرر الرحيل إلا فرارا من قلبه الذي أودعه تلك الزهرة هناك. لكنها ما كانت تدرك أن بين كفيها فؤاد غال اثقله هواها.
أرتفع النحيب من هنا وهناك ليندفع هو لخارج السراي جاذبا نفسه من بين ذراعي سمير مهرولا لا قبل له على البقاء لدقيقة أخرى وحمد الله أن صاحبه قد وصل بعربة أخيه أخيرا فألقى بنفسه داخلها. محاولا أن لا يستدير ملقيا نظرة أخيرة على مستقر أحلامه وأرض أمانيه الضائعة.
حاول أن يشارك في الحديث الدائر بين صاحبه وأخيه الأكبر على قدر استطاعته. لكنه لم يستطع أن يتفوه بحرف. واحترم أصحابه صمته. مدركين حجم الاحساس بالوحشة الذي يكتنفه اللحظة وهو في سبيله لمغادرة أهله لمجهول لا يعلم عنه شيئا. لم يعِ عاصم ألا وهو يخرج جواله ليخط على صفحته بعض كلمات كانت محاولة منه لبث مشاعره المحترقة على الصفحات ربما يكون في البوح بها بعض التعزية عن ما يكابده.
لما كلما هم القلب أن يخط على صفحة الحياة كلمة. أحبك. أجدني أغمس القلم بمداد الوجع وماء الروح الشحيح. ليكتب تأبينا لأمل أزهقت روحه غفلتك المرة. عما يقاسيه الفؤاد المفطور. شيخ العاشقين نشر الخاطرة. ورفع رأسه عن شاشة جواله لتقع عيناه على جمع من البشر متجمهر على ضفة الرياح الكبير خارج حدود النجع الشرقية. انتفض متسائلا: إيه في!؟ هتف صديقه: الظاهر حادثة.
مرت عربتهم بين الجمع المحتشد في صعوبة لتسقط عيني عاصم على العربة التي كان منتصفها تقريبا غارق مغمور بالمياه ليهتف في صاحبه: وجف. اركن بسرعة. هتف صديقه: إيه في!؟ إحنا كده هنتأخر على ميعاد الطيارة يا عاصم. هتف عاصم أمرا: بقولك وجف حلا. توقف صديقه بالعربة ليترجل عاصم منها مسرعا أمرا إياهم: روحوا انتوا. وأني هحصلكم. متأخروش روحكم.
غاب وسط الجمع الذي كان يتطلع للعربة الغارقة متحسرا على من كان فيها والذي لا يعلم أي منهم أن كان ميتا أو ما زال حيا.
ما أن أبصر عاصم السيارة عن قرب حتى تأكد له أنها سيارة محمد زوج زهرة. لم يتوان لحظة عن الاندفاع نحو المياه ملقيا نفسه سابحا في اتجاه باب السيارة. رغبة في إنقاذه. حاول البعض منعه من الإقدام على هذه الفعلة المجنونة. لكنه غافل الجميع واستطاع القفز والوصول للسيارة والتي ما أن حاول فتح بابها للدخول إليها. ونجح في ذلك بالفعل. إلا وبدأت المياه في ابتلاع السيارة بكاملها. كأنما هي هوة من الجحيم قد فُتحت.
صرخ الناس في رعب وتعالت الصيحات والحوقلة من هنا وهناك. فقد كان الجميع على يقين أن لا أمل هناك في نجاة أحد من ركابها.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي عشر
انفض الجمع وكل ذهب لحال سبيله بعد رحيل محمد. ووداع عاصم. لكن صرخات الخفير المذعورة التي شقت قلب الليل وأرقت سكونه قد نبهت الجميع ليندفع كل من موضع رقاده والخفير يصرخ هاتفا: يا ماچد بيه. يا مهران بيه. اندفع ماجد من حجرته بالطابق السفلي و الأقرب للباب حتى إذا ما طالعه الخفير هتف وهو يلتقط أنفاسه في تتابع: إلحج يا بيه. الداكتور محمد عريس الست زهرة عمل حادثة جرب النچع. عربيته وجعت فالرياح.
شهق ماجد مندفعا للخارج ليستطرد الخفير يستوقفه وقد ظهرت زهرة وفريدة وبدور ونوارة وسجود مندفعات من غرفهن مؤكدا: وعاصم بيه. نزل يلحجه والعربية غرجت بيهم هو ومحمد بيه. ارتفعت الصرخات من هنا وهناك. ومهران وماجد يندفعا للخارج بينما اندفعت الفتيات في اتجاه زهرة التي صرخت صرخة تحمل وجع العالم لتسقط مغشيا عليها و قد همست شفتيها بأحرف قليلة تحمل قهر من عمق الروح التي صرخت مرددة بصدرها حروف اسمه. ع. ا. ص. م..
دخلت سميحة إلى غرفة رائف الخاصة الملحقة بمكتبها تتبع صوت عزفه الشجي وما أن أصبحت بالقرب منه حتى بدأت في التصفيق بقوة هاتفة: إيه الجمال ده يا رائف! عزفك اتحسن خاالص. أنت كده هتخليني أتغر بقى. ابتسم رائف متطلعا إليها ومد كفه يلتقط كفيها هاتفا وهو يقبلهما: البركة فيكِ. أنتِ مدرسة شاطرة.
ابتسمت سميحة رابتة على كتفه في محبة. لكن انقلبت سحنتها فجأة متنهدة ما جعله يسألها في قلق: إيه في!؟ في حاچة مضيجاكي. صح! أكدت بايماءة من رأسها هاتفة: قلقانة على الدكتورة نوارة. بقالها يومين مجتش. مش من عادتها تغيب من غير ما تقول. ولا حتى اعتذرت عن الغياب. أكيد في حاجة يا رائف. ده مش طبعها. دي بنت ممتازة وملتزمة. بجد أنا قلقانة عليها.
اضطرب رائف قليلا. وتساءل داخليا. هل فعلتها وابتعدت بسبب غضبه وثورته التي لم تكن بالحسبان!؟ هتف بنبرة ثابتة: طب ما تحاولي تكلميها وتشوفي إيه اللي حصل!؟ كان عليه أن يقترح ذاك الاقتراح ليبدو الأمر طبيعيا رغم عدم رغبته في معرفة أمه أنه المتسبب في هذه الفوضى برعونة لم تكن يوما من صفاته.
ردت سميحة مؤكدة: رنيت على تليفونها كتير جدا. التليفون يا إما خارج التغطية. يا إما يرن لحد ما يفصل ومحدش يرد. من أربع أيام تقريبا كان كتب كتاب بنت عمها. هي قالت لي هتاخد اليوم ده اجازة. ورغم كده جت. ومشيت حتى من غير ما تقولي. تنحنح رائف مؤكدا: هي جالت لي أبلغك إنها ماشية بس أنا اللي نسيت الصراحة. أكدت سميحة: طب تمام. وبعد كده. هي فين!؟
هتف رائف متعجبا من اهتمام أمه بهذه الفتاة: أول مرة اشوفك مهتمة بحد كده! ما تيچي ولا تروح. ليه شاغلة نفسك عليها كده!؟
تنهدت سميحة: مش عارفة يا رائف. بس البنت دي كل أما أبص لها افتكر نفسي وأنا فسنها. كأني باصة لنفسي في مراية. هي متحفظة قوي فكلامها. تقريبا أول مرة تقولي حاجة شخصية عنها لما قالت لي موضوع كتب كتاب قريبتها ده. لكن كل كلامنا على الشغل. شاطرة وعندها حماس مش طبيعي وعايزة تتعلم. جد قوي ومش بتحب الحال المايل. هتف رائف بتهور: لكن دماغها ناشفة و.
هم بقول. ولسانها مبرد. لكنه توقف عندما طالع نظرة التعجب المطلة من عيني أمه فهتف مصححا: أجصد باين عليها. ابتسمت أمه هاتفة: صح فعلا. دماغها ناشفة وعنيدة. بس فالحق. تطلعت لهاتفها تضغط على أزراره محاولة الاتصال من جديد لعل وعسى تجيب نوارة لكن كانت الإجابة نفسها. لا إجابة.
ربتت على كتف رائف وغادرت الغرفة تاركة له القلق صاحبا. ما دفعه ليغلق عينيه واضعا أصابعه لتعانق أصابع البيانو وبدأ العزف لتقفز صورتها إلى مخيلته فجأة وهي تتشبث به كقطة مذعورة من العتمة باحثة عن الأمان بأحضانه. اندفع الجميع لداخل استقبال المشفى هرولة، حتى إذا ما رأوا أحدهم يجلس خلف ذاك الحاجز الرخامي إلا وهتف به ماجد: لو سمحت. اللي جم فالحادثة اللي جت من نص ساعة. أخبارهم إيه!؟
تطلع الرجل لسجلاته هاتفا: اي واحد فيهم!؟ أصأصچه فالحادثة دي اتنين. واحد حالته صعبة وفالعمليات والتاني تحت الملاحظة وعنده كسر بالدراع وشوية چروح. ومعندناش أي بيانات عنهم لسه. هتف سمير الذي كان موجودا لحظة تلقي الخبر بسراي الهواري ولم يكن غادر بعد ولحق بخاليه مهران وماجد بالممرض في عجالة: طب إحنا عايزين نشوفوا اللي تحت الملاحظة ده يكون مين!؟
أشار الممرض لردهة ما ورقم غرفة اندفعوا جميعهم نحوها في لهفة حتى إذا ما وصلوها وانفرج بابها هتفوا في ذعر. مندفعين نحو ذاك الذي كان ممددا على الفراش غائبا عن الوعي والذي لم يكن سوى عاصم. صرخ مهران في صدمة مذعورا على ولده: عاصم. رد على أبوك يا عاصم.
بدأ عاصم فالهذيان والهمهمة. ما دفع سمير الذي استنبط ما كان يهذي به عاصم جاذبا خاله مهران مبعده عن جسد عاصم مؤكدا عليه الثبات: إهدى يا خالي. الحمد لله إنه بخير. مرت إحدى الممرضات بالحجرة التي نسوا إغلاق بابها في غمرة اضطرابهم لتهتف بهم: مينفعش كده يا چماعة. راحة المريض واچبة. هو نايم ومش حاسس بيكم. ده واخد أدوية ومسكنات تنيم چمل. سيبوه يرتاح لو سمحتوا.
هز مهران رأسه موافقا. وسألها في اضطراب أب يرتجف قلبه خوفا على بكريه: طب جوليلي. هيبجى كويس!؟ أكدت الممرضة: بإذن الله. متجلجش. كلها كام ساعة ويفوج ويبجى تمام. هز رأسه من جديد ليهتف سمير بخاليه أن يخرجا وسيبقى هو بصحبته. فقد بدأت أحرفه التي كانت مهزوزة في الوضوح.
تنفس سمير الصعداء عندما خرج مهران وماجد من الغرفة للاطمئنان على محمد. اقترب سمير من محيا عاصم الشاحب على فراشه متطلعا إليه في اشفاق هامسا له وهو ما يزل على هذيانه باسمها الذي خاف سمير أن يدركه خاليه: رميت نفسك عشان تنچي چوزها يا عاصم!؟ وااه على جلبك يا واد خالي. تنهد بأعين دامعة وعاصم ما يزل يردد اسمها بأحرف متقطعة.
بينما عاد مهران وماجد للاستقبال من جديد في انتظار وصول أهل محمد وقد ايقنوا أن من بالعمليات اللحظة هو زوج زهرة. الذي أخبره الممرض أن حالته صعبة. و لا أحد قادر على إنقاذه إلا معجزة من الله. ظل يتقلب على فراشه لا يعرف ما دهاه. كلمات سماحة ووصيته له جعلته يدرك أن وراء ذاك الشاب مصيبة أو أنه على وشك ارتكاب جريمة لا محالة.
لذا لم يستطع أن يغمض له جفن ونهض متسللا للأسفل. سائرا في اتجاه الحديقة الخلفية حيث حجرة سماحة وإخوته. لم يكن من اللائق الاقتراب بشكل كبير محافظة على خصوصيتهن. لكنه ظل على أطراف الحديقة يتطلع نحو الحجرة. يمني نفسه أن حدسه قد يكون كاذب وأن سماحة أعقل من أن يورط نفسه في أمر ما. تاركا أمه وإخوته البنات خلفه دون عائل.
لكن صوت ما هتف داخل يونس أنه لهذا اوصاه بهن. حتى يضمن لهن عائل بعد القيام بفعلته. ما جعله يتطلع من جديد نحو الحجرة. انتفض عندما استشعر حركة هناك. وانتظر. فلربما تكون الخالة سعيدة أو إحدى الفتيات نهضت لأمر ما. لكن ذاك هو ظل سماحة والذي خرج من الحجرة ملثما وحاملا بندقيته ما جعله يوقن أن حدسه كان صادقا بشكل كبير. وأن سماحة ينوي القيام بمصيبة ما.
تسلل خلفه في هوادة حتى إذا ما صار سماحة على أعتاب باب الدار حتى ظهر يونس كأنما نبت من تحت أقدامه هاتفا به وهو يضع كفيه على السلاح: أنت رايح فين يا واد!؟ تشبث سماحة بالسلاح هاتفا: سيب السلاح يا يونس بيه. وخلي بالك من إخواتي وأمي. هتف به يونس بصوت منخفض حتى لا يدرك أحد صراعهما الدائر على جانب البوابة: إخواتك وأمك محتاچينك أنت مش أني. محدش هايجدر يعوضهم عن وچودك. إعجل وسيب السلاح.
تشبث سماحة بقوة أكبر بسلاحه مؤكدا: اللي بتجوله ده يا بيه هو اللي اخرني لسنين. لكن دلوجت أنت موچود بعد ربنا. اامنك عليهم وأني عارف إنك هتراعي ربنا فيهم.
أرتفع حنق يونس للذروة وما عاد قادرا على التحدث بصوت العقل ومحاولات الإقناع. ما دفعه ليجذب السلاح بقوة من كفي سماحة نحوه. لكن تشبث سماحة بالبندقية كان مستميتا ما جعل سماحة وسلاحه يندفع مرتطما بصدر يونس ملتصقا به. كان كلاهما متشبث بالسلاح في قوة. وبهذا القرب الصارخ. يتطلع أحدهما لعيني خصمه في تحدي. نظرات يونس تقاتل في صراع مع نظرات سماحة التي تطل من خلف قناع لثامه الذي يخفي كل معالم وجهه ما عدا عينيه عميقتي النظرة. والتي لانت نظراتهما رويدا رويدا. لتنقلب بلا أي مقدمات لنظرات كاشفة عن خبايا النفوس.
ظل يونس محدقا بعمق عيني سماحة لتضطرب دواخله في فوضى عجيبة لم تحدث له من قبل. كانت عيون أمرة وقاسية النظرة تحولت في لحظة لعيون تغمرها موجات من حنين وحنان لا قبل لمخلوق عن الخوض بخضمهما.
جذب يونس نفسه من ذاك الاضطراب العجيب لكنه لم يترك البندقية كذلك. والعجيب أن من ابتعد متقهقرا للخلف خطوة تاركا بينهما مسافة وتخلى كفيه عن السلاح كان سماحة. الذي تطلع حوله في اضطراب مماثل لاضطراب يونس مندفعا في اتجاه حجرة الجنينة. غائبا فيها. تاركا يونس يحمل البندقية متطلعا حوله في ارتباك لا يعلم ما الذي يحدث.
تسللت كعادتها لإسطبل عنتر باحثة عن رسالة من مروان. والتي لم ينقطع عن إرسالها منذ آخر لقاء بينهما. عندما أعطاها سلسالها الغالي. كانت رسائله تلك هي سلواها في ذاك المعتقل الذي فرضته عليها جدتها. لا تعلم ما الذي دفعها لاتخاذ قرار مجيئها وذهابها للجامعة بديلا عن السكن الخاص الذي كانت تظل به في كل عام دراسي. كان هذا الأمر مصدر ضيق بالنسبة لها لكن. رب ضارة نافعة. فلولا هذا الأمر ما أصبحت قادرة على مصاحبة مروان جيئة وذهابا على طول الطريق من الجامعة إلى هنا والعكس.
على الرغم من أن كل منهما بسيارته الخاصة ولا يتفاعلا كزميلي دراسة إلا إن ذلك كان يكفيها وزيادة ليضفي بعض من سعادة على قتامة الأيام التي كانت تمضيها هنا وحيدة مع جدتها. مدت كفها لسرج عنتر عندما وصلت لعنده وتناولت الرسالة ودستها بين طيات ثيابها في سرعة. عائدة إلى غرفتها قبل أن يفرغ منتصر من حديثه الخاص مع جدته. والذي طلب فيه الانفراد بها داخل حجرة المكتب.
عادت أية أدراجها وما أن دخلت الدار حتى تناهى لمسامعها صوت منتصر وجدته وقد أصبح أكثر علوا من المعتاد.
ماذا يجري!؟ لم يكن من عاداتها الفضول تجاه أمر ما لا يخصها. لكن ما استوقفها وجعلها ترهف السمع للحديث الدائر هو اسم الهوارية الذي جاء جليا في الحديث الدائر. اسم مروان هو. مروان سيد الهواري. علمت بالاسم كاملا من المحاضرة التي كان دكتور المادة يحصى عدد الطلاب الحاضرين. إذا فهو واحد من هذه العائلة التي يدور حولها الحوار المشتعل بالداخل. لقد حاولت كثيرا استدراج خفيرهم لتعلم أي معلومات عن أصحاب تلك الدار التي يتسلل إليها عنتر لكنها لم تفلح في ذلك. فقد كان جواب الخفير دائما معرفهمش. اسألي الحاچة وهي تجولك.
اقتربت أكثر لتستوضح الحديث الدائر فقد زاد فضولها بشكل كبير لتعرف عن أي شئ يتمحور هذا الصراع الدائر بين جدتهما ومنتصر الذي هتف اللحظة: يعني أنتِ هاتصغريني جدام الرچالة يا ستي!؟ أنا روحت لحد عندهم وطلبت بتهم. وكل اللي طلبوه هو الأصول. يعني رچالة العيلة ياچوا معايا. إيه فيها دي!؟
هتفت وجيدة في صرامة: فيها إنك رحت لحالك من غير ما تشورني من الأساس. فيها إنك لو كنت جلتلي من جبل سابج كان هايبجى فيها كلام تاني. أكد منتصر مستعطفا: اعتبريني مرحتش من أساسه. وهم أصلا معملوش لمجيتي لزوم. وأديني بعرفك أهو. أنا عايز اتجدم لبتهم. تعالوا معايا. هااا. تنهدت وجيدة هاتفة: مبجاش ينفع يا غالي. وبعدين أنت ناسي إنك خاطب. ولا إيه!؟
هتف منتصر في ضيق: خاطب مين يا ستي. حضرتك اللي أمرتي وجلتي. يا منتصر أنت مليكش إلا بت عمتك أية. وهي ملهاش غيرك. لا سألتيني ولا حتى خدتي رأيها. والكلام ده كان من سنين وكنا صغيرين. لكن دلوجت الوضع اختلف. أنا عايز أخطب اللي اختارها جلبي وهي أكيد هيجيلها بن الحلال اللي. هتفت وجيدة صارخة في صرامة: منتصر. أنت واعي لحديتك! أية ملهاش غيرك ولا حد هيبجالها غيرك. اشحال إنك واعي لحالها وعارف اللي فيها.
صرخ منتصر في قهر: ليه يا ستي! ليه بتعملي فيا كده!؟ ليه بتحمليني حمل أنا مش كده. وبتدفعيني تمن غلطة أنا مرتكبتهاش. ليه!؟
وتحشرج صوته مستطردا: منتصر طول عمره طوعك. تعالى يا منتصر يچي. روح يا منتصر يروح. انچح يا منتصر ينچح. أدخل كلية الشرطة وسيبك من الهندسة اللي كانت حلمك. عشان يبجالنا ضهر وسند في الحكومة. حاضر. ويبجى منتصر ظابط تتباهى بيه الحاچة وچيدة. لكن منتصر عايز إيه! يولع منتصر واللي عايزه منتصر. حتى جلب منتصر وحياته. لازم تمشي على كيف ومزاچ سته وچيدة.
ساد الصمت لبرهة لعل وعسى يلين قلب تلك التي تقف تبصره يتمزق أمامها ولا تحرك ساكنا. لكنه قطعه عندما لم يجد منها رد فعل يريحه. هاتفا بصوت ثابت النبرة قاطع: لحد هنا وكفاية يا ستي. منتصر استكفى. وحتى لو متچوزتش اللي رايدها جلبي. منتصر عمره ما هينفذ لك اللي أنتِ عوزاه تاني. عن إذنك.
وضع كفه على مقبض الباب يهم بالخروج لكنه توقف لحظة هاتفا بسخرية: بالمناسبة صحيح. لِك عندي سلامات مبعوتة من عاصم الهواري. بيجولك. الأيام بتدور. إيه اللي كان بينكم بالظبط! أنا مش عايز أعرف! بس بجولهالك تاني يا ستي. حرام عليكِ. مدفعيناش تمن ذنوب إحنا معملنهاش. واندفع منتصر لخارج الحجرة بل الدار بأكملها ومنه لعنتر الذي اعتلى صهوته تاركا إياه يسابق الريح لعل ذاك يخفف من تلك النيران المضرمة بين جوانحه.
أما أية فقد تدارت حول أحد الأعمدة عندما غادر منتصر الغرفة وما أن تأكدت أنه اتجه نحو الإسطبلات حتى اندفعت تعتلي الدرج حتى غرفتها. والتي اغلقت عليها بابها لا تصدق كل ما سمعت بالأسفل. لقد تحررت من ذاك القيد الذي كانت جدتها تربط به قلبها. حررها منتصر باعترافه أنه يحب فتاة أخرى ويرغب في الزواج بها.
تنهدت في راحة وقد استشعرت أنها تلتقط أنفاسها في حرية للمرة الأولى منذ وطأت قدماها هذه الدار بعد الحادثة التي أودت بحياة والديها معا. سارت حتى وقفت أمام المرآة الطولية بخزينة الملابس تتطلع لوجهها الرقيق وقسماته الدقيقة الطفولية. كانت جميلة هي تعلم. لكن. تنهدت عند لكن تلك. ولم تشأ أن تفتح ذاك الصندوق الأسود الذي يدخلها في دوامة من الأوجاع لا نهاية لها.
مدت كفها لرسالة مروان التي لم تفضها بعد. وفتحتها لتقرأ كلماته. عايز مساعدة ضروري. يا زميلة. نمرة تليفوني، خط لها نمرة هاتفه مستطردا ابعتيلي بقى كل حاجة خدتوها ع الواتس. لو عايزاني ألحق ألم حاجة فالترم ده. وحسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة. مروان.
ابتسمت وهي تتطلع لكلماته وترددت كعادتها في تنفيذ مطلبه. والآن أصبح التردد مضاعفا بعد كل ما سمعته من منتصر. لذا طوت الرسالة وقذفت بها في أعماق أحد الأدراج. محاولة تناسيها. دقات على هاتفها جعلها تتنبه لحقيبتها التي كانت تهملها بأحد الأركان داخل مكتبها الذي يضج بالكثير من أوراق العمل. فتحت الحقيبة وتناولت جوالها الذي أضاءت شاشته باسم بدور. ردت في عجالة: إزيك يا بدور. ف.
أجابها على الجانب الأخر صوت بكاء مكتوم ما دفعها لتهتف في ذعر: حد حصل له حاجة يا بدور!؟ محمد عريس زهرة وعاصم كويسين!؟ أكدت بدور من بين شهقات بكائها: لحد دلوقت مفيش أخبار عن محمد تطمن. عاصم كويس لحد ما. لكن محمد اللي حالته صعبة. ربنا ينجيه. تلاقي زهرة هتموت من خوفها عليه. وزادت وتيرة نحيبها الموجع ما دفع فريدة لتتنهد هامسة في تساؤل: والعياط ده كله عشان محمد وعاصم!
هتفت بدور في وجع: مش بيرد عليا يا فريدة. مش عارفة فيه إيه!؟ لم يكن من الصعب على فريدة توقع من كانت تقصده بكلامها. بالتأكيد منتصر الذي اختفي تماما بعد زيارته للسراي ومقابلته لخالها حازم وجدها عاصم. تنهدت فريدة مفسرة: بعد اللي خالي حازم قاله يا بدور. كله ده كان متوقع. العيلتين في بينهم مشاكل من زمان. وطلبات جدي وخالي هي عين الأصول. ومكنش عندهم مانع في الموافقة لأن منتصر فعلا حد كويس. بس.
صمتت فريدة لتتساءل بدور في شجن: بس إيه يا فريدة! إحنا مالنا باللي كان زمان. واللي حصل زمان. أكدت فريدة: مفيش حاجة اسمها إحنا مالنا يا بدور. منتصر مش هيتجوزك وعيلته مش راضية عن الجوازة. وواضح أن ده اللي واضح. بصراحة أنا عذراه. هتفت بدور في حنق: عذراه!؟ ليه! المفروض هو راجل وأمره بأيده.
أكدت فريدة في هدوء: المواضيع دي لها قواعد وأصول يا فريدة. بالذات عندنا فالصعيد. مفيش حاجة اسمها راجل يجي يتقدم لواحدة بطوله وهيتقبل. زي ما قال جدي عاصم. فين كبيره اللي ممكن يترجع له بعد كده! وإزاي أصلا أنتِ نفسك يبقى عادي عندك تتجوزي واحد عيلته مش شيفاكِ تستاهليه. ولا تستاهلي تبقي منهم من أساسه!؟ تنهدت بدور وكأن هذا الأمر كان غائبا عنها ما جعلها تهتف في حسرة: عندك حق. بس كده يعني خلاص!
وشهقت من جديد باكية ما جعل فريدة تهتف مطمئنة: مفيش حاجة خلصت يا بدور. أنا متأكدة إن منتصر هيحاول على أد ما يقدر يقنع عيلته. وربنا هيجمعكم على خير. هتفت بدور في وجع: وإذا مقدرش يقنعهم!
همت فريدة بالإجابة إلا أن صوت رنين مصاحب على هاتفها جعلها تتأكد أن والدها يؤكد عليها الإسراع فقد حان وقت لقاء العمل الذي دعيت له من قبل أحد شركاء والدها. وعليها الرحيل حالا اذا ما أرادت أن تصل بموعدها. ما دفعها لتهتف لبدور معتذرة: بصي يا بدور. عمك حمزة قاعد يرن عليا بيستعجلني لأن فيه ميتنج مهم لازم أحضره. هكلمك تاني بالليل. ماشي. أكدت بدور هاتفة: ماشي يا فريدة. هستناكِ ترني عليا. سلام.
أغلقت فريدة الهاتف وأسرعت في اتجاه المصعد ومنه لسيارتها ولم تكن تدرك أن هناك إحدى السيارات تراقبها متتبعة لها كظلها. كانت تتدارى متعللة بإصابتها بالصداع مغلقة عليها غرفتها حتى تبكي في حرقة. ذلك الذي جاءها الخبر المشؤوم عن إصابته في محاولته لإنقاذ زوج زهرة. كان بكاء مرير. تتمنى لو كان بمقدورها زيارته والاطمئنان عليه بنفسها لا كلمات قد تهدئ من روعها وصدمتها منذ سمعت الخبر إلا رؤيته رؤى العين.
لكن كيف لها ذلك!؟ طرقات على باب غرفتها جعلتها تنتفض تمسح دموعها في سرعة محاولة التظاهر بأنها على ما يرام. دخلت سهام عليها وما أن أبصرت وجهها الذي ما كان من الممكن أن لا يدرك من يراه أنها كانت تبكي. تنهدت سهام وقد جاءت لتجلس جوارها هامسة: شكلك عرفتي باللي چرى! هزت سمية رأسها مؤكدة محاولة تمالك نفسها حتى لا تنفجر باكية من جديد. همست سهام متسائلة: وهتعملي إيه!؟
هزت سمية كتفيها بعجز هاتفة بصوت متحشرج: هعمل إيه يعني!؟ اديني بستنى اسمع خبر من هنا ولا من هنا. عشان اطمن عليه. هتفت سهام: سمير معاه على طول. بيبلغني أخباره. على فكرة هايبجى كويس متجلجيش. الدكاترة جالوا كده. هو بس دراعه انكسر وفيه شوية چروح. لكن اللي ربنا يسلمه بچد هو چوز زهرة. بيجولوا حالته صعبة. ربنا ينچيه. همست سمية: يا رب. حرام والله. ده لسه عريس چديد ومتهنوش هو وزهرة.
تنهدت سهام هاتفة: هنجول إيه!؟ ربنا يستر. ربتت سهام على كتف سمية مواسية وهمست بها: عارفة إنه مش وجته يا سمية. بس بجولهالك نصيحة لوچه الله. خرچي عاصم من بالك. واضح إنك مش فباله. ده كان مسافر ومفكرش حتى يجولك أو حتى يلمح لك إنه عايزك. وعرف من جبلها إن كان متجدم لك عريس ومفكرش لما رفضتيه إنه يتجدم هو. عاصم مش فباله الچواز. ولا أنتِ في دماغه من أساسه. فكري فحالك يا سمية. حرام عليكِ نفسك.
شهقت سمية باكية لتضمها سهام بين ذراعيها مواسية مستطردة: متزعليش مني. بس أنتِ مش شايفة حالك عامل كيف!؟ هتفت سمية من بين دموعها: على طول بدعي ربنا يا سهام. لو مش نصيبي يبعده عن جلبي. ويديني إشارة. بس الظاهر لسه ربنا مأردش. ربتت سهام على كتفها من جديد هاتفة: ربنا يحضر لك الخير. همست سمية: يا رب.
هتفت سهام مبتعدة: أنا لازما أمشي بجى عشان سايبة الأكل على النار وستي سهام زمانها خاربة الدنيا عليا. أروح بدل ما تعلجني. ابتسمت سمية تاركة إياها ترحل في عجالة مغادرة. اندفعت تهبط الدرج مهرولة وهي تعبث بعقد اللؤلؤ الذي كان يزين جيدها.
لكن قدمها خانتها على إحدى الدرجات لتترنح قليلا قبل تعلقها بسياج الدرج غير مدركة أنها تجذب العقد بقوة أثناء محاولتها التشبث متفادية سقوطها والذي جاء في نفس اللحظة التي دخل منها لباب الدار الرئيسي بعد انتهائه من أداء صلاة الظهر. لا يعلم ما الذي أتى به مبكرا اليوم على غير عادته. ليرى ذاك السقوط الجزئي. اندفع بلا وعي تجاهها في محاولة لإنقاذها من انحدار جسدها على كامل الدرجات الخمس المتبقية.
لكنها لحسن الحظ استطاعت التشبث جيدا بسياج الدرج لكن عقدها انفرط محدثا طقطقات متناغمة على الدرج لانفلات حباته. والتي انتثرت هنا وهناك. سألها في هوادة: أنتِ كويسة!؟ رفعت ناظريها نحوه تحاول الاعتدال قدر استطاعتها وذاك الألم يعصف بكاحلها هامسة بأعين دامعة: الحمد لله. همس الشيخ مؤمن وقد ارتبك مبتعدا يستدير معطيا لها ظهره حتى يتسنى لها النهوض في راحة: الحمد لله. ربنا سلم.
حاولت النهوض لكن ألم قدمها عاندها فأطلقت آهة متألمة جعلته ينتفض موضعه متسائلا وهو ما يزال موليا ظهره غير قادر على الالتفات إليها: إيه في!؟ أكدت بنبرة باكية: رچلي.
اندفع معتليا الدرج هاتفا بسمية وأمه. هرولتا في قلق وما أن ابصرتا سهام حتى أندفعتا تساعداها على النهوض حتى الداخل. والاتصال بأمها لترسل سمير لاصطحابها. وبينما ظل هو بالخارج في انتظار سمير. وقع ناظره على بعض اللؤلؤات المتناثرة. فانحنى يلتقطهن واحدة تلو الأخرى حتى وصلت عربة معتقدا أن سمير من يقودها وكان بكفه حفنة من اللؤلؤ. فوجد نفسه يدفع بهم لجيب جلبابه.
جاء باسل أبيها لاصطحابها بديلا عن سمير الذي كان يرافق عاصم بالمشفى. وما أن رحلا حتى عاود مؤمن اخراج اللآلئ من جيبه متطلعا إليهن في سعادة. وعاد للدرج باحثا عن المزيد حتى استطاع جمع كمية أخرى. تطلع إليهن في أحضان كفه مبتسما. متذكرا قول رب العزة في محكم آياته واصفا الحور العين وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ اتسعت ابتسامته هامسا: سبحان من هذا كلامه.
كانت قد غادرت بيت أبيها اللحظة ولمح هو طيفها يمر به وهو منكب على مقدمة إحدى العربات غارقا فيها. مد كفه باحثا عن إحدى الأدوات لكنه لم يجدها. اندفع باحثا خارج الورشة لتقع عيناه عليها وهي في طريقها ربما للسوق. فهو لا يرى بيدها حقيبة يدها أو كشكول محاضراتها. لكن ما استرعى انتباهه هو تلك الضفيرة الكستنائية التي تتدلى على ظهرها تطل من تحت غطاء رأسها مترنحة في هيام على خصرها.
ازدرد ريقه لا يعلم ما دهاه واندفع خلفها يستوقفها: آنسة نعمة. يا آنسة. لم يمهلها لتتوقف مستديرة لترد عليه بل إنه اندفع ليقف بطريقها ما جعلها تتقهقر للخلف خطوة متعجبة من أفعاله التي لم تكن من طبعه في الأسابيع الماضية التي خبرته فيها. هتف بها وهو يخفض الطرف عنها هاتفا: إرچعي البيت دلوجت. هتفت به في اندهاش: ليه!؟ واستطردت: هو حد ناداني وأنا مسمعتش ولا إيه!؟ طب كانوا كلمو.
قاطعها مؤكدا: محدش نادمك ولا حاچة. بس أصلك شعرك باين كله من الحچاب. إرچعي و. شهقت مقاطعة إياه وهي تضع كفها على مؤخرة رأسها ليتأكد لها أن ضفيرتها التي ضمتها جيدا تحت غطاء رأسها قد فكت عقالها وهربت من أسره. اضطربت وهي تحاول التصرف هاتفة: طب هدخل عند ورشة حُسن. اظبط الطرحة. أكد في حزم: ورشة حُسن كلها رچالة. إرچعي على البيت أحسن. وأنا وراكِ. متجلجيش.
سارت تضم جديلتها المنفلتة تحت حجابها وهو سائر خلفها على بعد خطوات قليلة حتى إذا ما وصلت لمدخل بيتها أندفعت للداخل وتوجه هو للورشة محاولا استئناف عمله في القطعة التي كان يعمل عليها سابقا. لكن تلك الجديلة الكستنائية المترنحة كالسكير على ذاك الخصر الدقيق تمثلت أمام ناظريه اللحظة ما جعله يزفر في ضيق متسائلا. ما لك وضفيرتها!؟ ما لك والنساء من الأساس!
فقد خبر أن لا خير يأتي من قبلهن. وعليه أن يكون حريصا بما يكفي وزيادة. فلا قبل له على مجابهتهن. رفرفت أهدابه في بطء لا يدرك أين يكون. كل ما يحيطه يتشح بالبياض. بدأ في استعادة وعيه ببطء حتى تنبه كليا أنه بالمشفى. إذن فقد نجا. وماذا عن زوجها!؟ حرك وجهه في تثاقل يمنة ويسارا ليطالعه سمير الذي كان يجلس على أحد المقاعد وقد مال رأسه مؤكدا أنه غارق في سبات عميق.
حاول النهوض فشعر بالدوار يكتنف رأسه وثقل ما استشعره بذراعه. وبعض الآلام المتفرقة هنا وهناك بجسده. تحامل قليلا على نفسه حتى استطاع أن يعتدل في هوادة جالسا على طرف الفراش. عليه النهوض ليرى ما الذي جرى خلال فترة رقاده. أين محمد!؟ وأين هي بعد ما سمعت الخبر!؟ هو يشعر بدنوها. يكاد يجزم أنها ها هنا راقدة. بحجرة قريبة.
نهض سائرا حتى فتح الباب وسمير ما يزل غارقا في سباته الثقيل غير مدرك لذلك الذي اتخذ الجدران سندا حتى استطاع الوصول لحجرتها. سأل على رقم الغرفة إحدى الممرضات والتي تعجبت من تواجده خارج غرفته وهو بهذه الحالة. لكنه هتف بها في إصرار أنها دقائق وسيعود للحجرة من جديد. حاولت مساعدته للوصول لغرفة زهرة وأمرها بتركه على أعتابها.
كان يعلم أنها لن تتحمل ذاك الخبر الصاعق الذي هز ثبات الجميع. وقد كان. فلم يكن باستطاعة احدهم تهدئتها أو السيطرة عليها بالسراي لذا كان لابد من نقلها للمشفى. كانت مغيبة تماما عن عالمنا وزوجها بعد خروجه من غرفة العمليات بالعناية المركزة. راقد يرزح تحت نير الأجهزة الطبية والأنابيب المختلفة التي تمده بأسباب الحياة. سمع صرخاتها من داخل الغرفة التي ما زال متسمرا على عتباتها يتمنى لو سمح له بالولوج إليها.
سمع أمه وأمها يعترضن على طلب ما لم يكن يعلم كنهه فأرهف السمع وهي تلح فيه وهن ما زلن على رفضهن. طرق باب الغرفة. سمحت إحداهن بدخول الطارق. دفع الباب في هوادة ليجدهن ممسكات بها وهي في سبيلها لفتح الباب هاربة من سيطرتهما في اتجاه حجرة زوجها كما كان يظن للاطمئنان عليه. لكن ما أن وقع ناظرها عليه حتى همست باسمه في صدمة وأعين دامعة وقد استكانت مقاومتها لهن بعد رؤيته.
انتفضت أمه ما أن طالعها محياه تاركة زهرة متوجهة نحوه: عاصم!؟ حمد الله بالسلامة يا حبيبي. إيه اللي جومك من سريرك!؟ وفين سمير!؟ ده أنا سيباه مكاني عندك وچيت أطمن على زهرة. لم يكن يستمع لكل ما تقصه أمه على مسامعه. كل ما كان يعنيه اللحظة هي. فقط هي. وتلبية مطالب عيونها التي كانت تحمل نفس نظرات العشق واللهفة التي رآها يوم علم أن محمد يطلبها للزواج.
هتف عاصم في صرامة: سيبوها. اللي هي عايزاه كله ننفذوه. يمكن ترتاح بعدها. هتفت إيمان أمها باكية: هتتعب أكتر يا عاصم. هتف مؤكدا في نبرة شجية: لااه. خليها تطمن هترتاح أحسن. ده حجها. مدت أمه كفها له تحاول إسناده عندما استشعرت عدم اتزانه لكنه هتف بها مطمئنا: متجلجيش. أنا بخير. روحي ساعديها وتعالوا ورايا.
تطلعت له أمه مشفقة لكنها اطاعت وعادت تمد كفها لها وكذا أمها لترتكن عليهما مترنحة. سقط ناظره عليها من جديد فرأى شحوبها. فترنح قلبه متوجعا وهو يسبقهن مترنحا بدوره والدوار يزداد ضراوة برأسه. إلى حيث يرقد زوجها بالعناية الفائقة.
تطلع عاصم إلى جسد محمد المسجي للحظة وابتعد بأحد الأركان تاركا المجال لها لتقف متطلعة من ذاك الجدار الزجاجي لجسد زوجها الممدد بهذا الوجه الشاحب ليسيل الدمع سخينا على خديها في صمت.
رغم كل شىء إلا أنه يتعاطف فعلا مع حالهما. يشفق عليها وهي ما تزل عروسا لم تهنأ مع من أختاره قلبها وكذا عريسها الذي لم يسعد إلا ساعات قليلة بصحبتها. ليته ينهض من سباته حتى تطمئن هي أنه بخير وليكن ما يكون بعدها. فوجود محمد أو غيره ليس هو المشكلة على الإطلاق. إنما المشكلة الحقيقية تكمن في قلبها هي. قلبها الذي لا يستشعر ولع قلبه بها وغرامها الذي ينخر به منذ زمن بعيد حتى جعله مهترئا من كثرة الأوجاع.
انتفض من خواطره على صوت رنين عالِ تنبه له الجميع وكذا أفراد عائلته التي كانت تجلس قبالة الحجرة وقد غشى بعضهم النوم إرهاقا. اندفع الكثير من الأطباء والممرضات لداخل الحجرة وابتعد الجميع عن مجال ذهابهم وإيابهم وذاك الصوت الصادر عن أجهزته يشبه صوت صافرة الإنذار ينبئ بأمر ما لا يبشر بخير أبدا. لحظات وخرج الأطباء من الحجرة تباعا منكسي الرؤوس في حزن. ليهتف أحدهم في أسى: البقاء لله.
تعالت الصرخات من هنا وهناك لتسقط هي من جديد بين ذراعي أمها صارخة بكلمات مبهمة: سامحني يا محمد. سامحني. ليترنح عاصم بدوره وقد نال منه الدوار. يزلزل دواخله ويقوض دعائم روحه وجعها. ما دفع سمير الذي جاء على إثره ليلحق به مسندا إياه وصرخاتها تمزق نياط قلبه حتى صمتت غائبة عن الوعي. وقد نُحر الأمل في نجاة زوجها من بين براثن الموت.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر
كان ممددا على فراشه في صبيحة يوم الجمعة. لا يشغله إلا حُسن وما طرأ بينهما مم أحداث مؤخرا. منذ وفاة أبيها وهو لا يعلم ما الذي اعتراه. أصبح أكثر ثورة وانفعالا على كل ما يخصها أو يمت لها بصلة. ما له وحُسن! منذ متى تعلقت أفكاره وخواطره بها!
تنهد مؤكدا لنفسه. أن ما يستشعره تجاهها ما هو إلا شعور مضاعف بالواجب وإحساس بالمسؤلية لكونها أصبحت وحيدة بلا عائل أو سند. هذا هو السبب الحقيقي الذي يدفعه لمثل هذه المشاعر التي تؤرقه نحوها. اطمأن لهذا الخاطر. وما أن هم بالخروج من الغرفة حتى أتاه صوت أمه هاتفة: يا نادر. هات أي هدوم عندك عايزة غسيل. خلينا نخلص قبل صلاة الجمعة. هتف مؤكدا: حاضر.
توجه نحو مشجب ملابسه ومد كفه نحو بنطاله الجينز الذي كان قد قرر أن يضبط به بعض المقاسات فتركه عند الأسطى وحيد الترزي ونسيه لفترة ولم يذكره إلا البارحة. فمر عليه ليأخذه. مد كفه بشكل اعتيادي لجيب السروال ربما هناك شىء ما منسي يُفقد أثناء غسيله. اصطدمت أصابعه بشىء معدني. أخرجه في هوادة ليترنح أمام ناظريه مثيرا ذاك الخافق بيسراه عندما تذكر أنه عقدها الصدىء الذي وجده بين طيات غطاء فراشه. ذكراها التي تركتها لاهية عن فقدانها لتؤرقه وتعبث باستقرار باله وهناء خاطره.
انتفض ما أن جاءه نداء أمه تتعجله لجلب الملابس المتسخة. ما اضطره ليدفع بالعقد لأعماق أحد الأدراج. مغادرا الحجرة وملابسه المتسخة بين ذراعيه. تركها جانبا وبدأ في الاستعداد للصلاة. وصورة ذاك العقد المترنح تؤرق مخيلته.
ثلاث ليالِ وهي في عالم أخر. ثلاث ليالِ وهي لا تدرك من أمرها وأمر من حولها شيئا. تنام بالحبوب المنومة وما أن تغفو حتى تبدأ في الهمهمات التي تؤكد معاناتها. وإذا ما استيقظت ظلت تحدق بالفراغ لا تعبء لوجودهم حولها. أو محاولاتهم الحثيثة لتجاذب أطراف الحديث معها وإعادتها لطبيعتها وتفاعلها معهم. كان عاصم يتابع ذلك لا قبل له على تحمل ما تعانِ. يعلم مقدار ألمها وقدر خسارتها.
فما من أمر يعوض تلك الخسارة الفادحة في زوجها الذي رحل بعد أيام من عقد قرانهما. كان يمر على حجرتها لا قبل له على الدخول. فقد كان الجميع حولها في الأيام الماضية. لكن اليوم خف ضغط الزوار الذين كانوا يتناوبون على البقاء معها. طرق الباب في وجل وما أن جاءه الرد بالإيجاب من الداخل. حتى دفع الباب في هوادة هاتفا بصوته العميق: السلام عليكم. ووقع ناظره عليها مستطردا: كيفها دلوجت!؟
استشعر اضطرابا داخليا ما دفعه ليحيد بناظريه عنها موجها إياه للطبيب الذي كان موجودا يتابع الحالة على سجل تسجيلها المعلق على مقدمة الفراش. هتف الطبيب في ألية: تمام الحمد لله. تساءل عاصم: يعني هتتحسن! تطلع الطبيب نحوها مؤكدا: بإذن الله.
تنبه الطبيب أن نظرات زهرة معلقة بموضع عاصم أينما حل. بينما استشعر عاصم أن عليه المغادرة فتطلع لإيمان أمها التي كانت تجلس في استكانة وعلى وجهها علامات الوجع والحسرة على ما آل إليه حال ابنتها الوحيدة وبكريتها. هتف عاصم بزوجة خاله: مش محتاچة حاچة يا مرت خالي!؟ ابتسمت ايمان في شجن مؤكدة: عايزة سلامتك يا حبيبي. كفاية عليك تعبك ومچيتك للسؤال وأنت كمان تعبان. خلي بالك على حالك.
هز عاصم رأسه مطمئنا وهتف في هدوء: لو احتچتوا أي حاچة أنا موچود چاركم فأي وجت يا مرت خالي نادميني. سلام عليكم. وخرج عاصم من الحجرة وعيونه تحارب حتى لا تتوجه إليها في غفلة منه. لكنه أخيرا ألقى بنظرة متعجلة واندفع مغادرا. إلا أن الطبيب سأل إيمان في فضول: هو يقرب لكم إيه!؟ أكدت ايمان: ده واد عمها.
ابتسم الطبيب والذي كان الوحيد الذي لاحظ أن زهرة لم تبد أي رد فعل منذ أيام إلا عندما هل عاصم من هذا الباب. ما دفعه ليؤكد على إيمان هاتفا: طب أنا شايف إن بن عمها ده هيكون له دور في علاجها. يا ريت تعملي باللي هو قاله وتخليه يجي كتير يقعد معاها.
زمت إيمان ما بين حاجبيها متعجبة لكنها لم تبد أي اعتراض على نصيحة الطبيب فهي على استعداد لفعل أي شيء في سبيل مصلحة ابنتها واستعادتها لصحتها. ما جعلها تهز رأسها موافقة.
انتهت صلاة الجمعة. كان ذاك يوم الإجازة الأسبوعية بالورشة. ما دفع نادر وناصر للتشبث برأيهما هذه المرة. والإصرار على دعوة راضي لتناول الغذاء معهم. بدلا من تناوله وحيدا كعادته. أو اختلاق الأعذار للتهرب. ما دفع راضي للإذعان أخيرا والموافقة على تناول الغذاء برفقة العائلة.
دفع ناصر باب الشقة ومن بعده دخل نادر وتنحنح راضي مطرقا رأسه أرضا في تأدب. لتستتر النساء- شيماء ونعمة- بالداخل يضعن أغطية رؤوسهن قبل أن تنضما للجمع الذي رحب براضي في حفاوة. هتفت به نعمة الجدة: أخيرا رضيت عنا يا سي راضي. ابتسم راضي محرجا وهتف في نبرة رزينة: العفو يا حاچة. ده أهم حاچة رضاكِ علينا. ابتسم خميس يشاكسه: واحنا بلاش بقى ولا إيه!؟
اتسعت ابتسامة راضي الخجلى مؤكدا: برضك يا معلم! ده أنت الخير والبركة. بدأ إعداد المائدة ما دفع راضي ليشير لنادر بطرف خفي هامسا له ما أن دنا: بجولك. ما تاچي ناكلوا چوه. عشان الحريم ياكلوا براحتهم. قهقه نادر هاتفا بصوت عالِ: بقولكم إيه! الصعيدي ده عايز ياكل جوه وبيقول عشان الحريم يخدوا راحتهم. شكله بيهطل على نفسه أو بياكل بأيده ورجله سوى. ودي تلكيكة.
قهقه الجميع إلا راضي الذي ظل مطرق الرأس تظلل شفتيه ابتسامة خفيفة محرجة على مزاح نادر ليؤكد له خميس: مش أي حد بيقعد على سفرتنا مع الحريم يا راضي. اللي دخلوا البيت ده قليلين قوي. كونك بينا ده معناه إنك فعلا واحد مننا وعايزين ناكل معاك عيش وملح عشان تحس إنك بجد واحد من العيلة مش مجرد ضيف هياخد واجبه ويمشي. بص يا راضي يا بني. العيش والملح ده أمانة. وإحنا بنعرف نختار اللي يصونه ويحفظ الأمانة.
هتف راضي في امتنان: كلامك على راسي من فوج يا معلم. هتفت نعمة في تنهيدة: سبحان الله. كأني شايفة زكريا قصاد عيني. ابتسم راضي في سعادة: چدي زكريا ربنا يديه الصحة وطولة العمر. مين يطول يبجى زيه!؟ چدي يونس بيحكي عليه حكاوي كأنها أساطير. هتفت نعمة مؤكدة: صدق يا راضي. كل كلمة قالها جدك على زكريا صدق. ويمكن أكتر كمان. وأنا شاهدة. هتف خميس مازحا: وأنا هموت من الجوع.
هتفت نعمة الصغرى مازحة وهي تحمل الأطباق للمائدة: خلاص أهو يا جدي. عرفاك مستني البامية باللحمة الضاني على نار. قهقه خميس مؤكدا لراضي: حرمني منها يا راضي. يرضيك كده!؟ اتسعت ابتسامة راضي ما دفع ناصر ليهتف مؤكدا: مش خايفين على صحتك يا معلم!؟ الدكتور مانعها عنك. هتف خميس ممتعضا: بلا دكاترة بلا يحزنون. تدخل ع الواحد منهم كل اللي حيلته متكلش متشربش. بلا هم.
وتوجه بحديثه لراضي من جديد مؤكدا في مزاح: بالك انت يا راضي. أنا عازمك النهاردة ومتلكك بيك عشان يعملوا البامية بالضاني. قهقه ناصر بينما شهقت نعمة الجدة لتهتف نعمة الصغرى هاتفة في مرح: يا خبر أبيض. لحسن الباشمهندس راضي يصدق يا جدي!
اضطرب راضي عندما نطقت اسمه رغم أنه لم يكن مجردا بل كان يتبعه لقبه. لكنه استشعر ارباكا عجيبا بدواخله. ولم يعلم ما الذي دفعه ليهتف مازحا موجها كلامه لها بشكل غير مباشر: أنا هعمل نفسي مصدج. وإن كان كده. عشان خاطر المعلم خميس أجي كل چمعة وتاكل اللي يعچبك. عنينا ليك. قهقه خميس لتؤكد نعمة الجدة ضاحكة: اهو لقيت لك حجة تاكل بها اللي يعجبك اهو. أبسط يا عم.
ارتفعت الضحكات لتهتف نعمة الصغرى: السفرة جاهزة. اتفضلوا. نهض الجميع وجذب ناصر راضي الذي كان متحرجا لينضم للسفرة يجلسه بجوار نادر هاتفا به: حطيتك بيني وبين نادر. يعني وقعت بين أيدين اتنين معندهمش ياما أرحميني فالأكل واللي بيعزموا بيه مبيتردش. هتاكل يعني هتاكل. ابتسم راضي هاتفا: ربنا يستر. هتف خميس مازحا ما أن وضعت نعمة برام البامية بالقرب منه: بسسسس. خلونا نركز فالبامية بقى الله يخليكم.
ارتفعت الضحكات والمعلم خميس يتناول البامية ليضعها أمامه مستأثرا بها. كان يتمدد على فراشه يتطلع للسقف في تيه فما أن فتح عيونه بعد نوم قلق مضطرب إلا وطالعته نظرات عيني سماحة التي صدمته بالأمس. ما الذي يحدث. هل أصابه الجنون ليظل الليل بطوله يتقلب على جمر من جراء نظرات رجل!؟ إن حالته مستعصية وعليه البحث عن علاج. فيبدو أن حالة الفراغ العاطفي الذي خلفها حب سهام بقلبه جعلته يتصرف بلا عقلانية.
انتفض ناهضا مغادرا فراشه يشعر بإرهاق شديد لنعاسه المضطرب الذي لم يتعد الساعات الأربع. خرج من الغرفة يجر قدمه وما أن أصبح خارجها حتى ألقى بجسده على أقرب مقعد هاتفا ينادي سماحة: يا واد يا سماحة! أنت فين يا واد! اسرع سماحة ملبيا ندائه هاتفا: نعم يا بيه. تحت أمر چنابك.
حاول يونس تجاهل النظر نحوه لكنه لم يستطع إلا التحديق فيه هاتفا به في صرامة غير معتادة: بجولك. اللي حصل عشية ده ميتكررش. أنا سايبك هنا عشان خاطر أمك وأخواتك البنات. دول غلابة ملهمش غيرك. طلع اللي فدماغك ده وركز في كيف تساعدهم وتوصلهم لبر الأمان. مش رايح ترمي نفسك فالنار.
هم سماحة بالحديث إلا أن يونس قاطعه مانعه من التبرير مؤكدا وهو يحاول أن لا يطيل النظر نحوه: مش عايز كتر حديت ملوش عازة. هتسمع اللي بجولك عليه. هتجعد هنا معزز مكرم. مش هتسمع وركبت راسك يبجى تفارج يا بن الحلال. وروح شوف حالك بعيد عني. سامع! هز سماحة رأسه موافق في امتعاض ولم يبد أي اعتراض على كلام يونس الذي هتف أمرا: روح ياللاه چهز لي الفطار. وحط اللي جولتهولك حلجة فودانك. هتف سماحة مؤكدا: حاضر يا بيه.
واندفع مبتعدا يحضر ليونس الإفطار. رن هاتفه. فعاد من جديد للغرفة ليلتقطه مجيبا في انشراح: صباح الخير على ست الكل. هتفت عائشة متذمرة: بلا ست الكل. بلا ست أبوها. أنت روحت وجلت عدولي. وأخوك راضي كمان راح مصر ومن ساعتها مشفتوش. أرازي فمين أنا دلوجت!؟ قهقه يونس مؤكدا: عندك البت دعاء. رازي فيها زي ما انتِ عايزة.
أكدت عائشة مقهقهة: لاه. دعاء دي تخصص مرازية لأخواتها. وبتذلهم بسندوتشاتها اللي بيحبوها. وجال إيه. خلي دعاء تعمل لنا الأكل وارتاحي أنتِ. شايف العيال! أكد يونس باسما: خلاص يبجى ملكيش إلا الحاچ حامد. فيه الخير والبركة. قهقهت عائشة: لاه. إلا مرازية أبوك. مجدرش على زعله أبدا. قهقه يونس هاتفا في مجون: ايوه بقى يا حاچ حامد يا مسيطر. واستطرد مؤكدا: ولا تزعلي يا ستي. أنا چايلك ورازي فيا زي ما تحبي.
هتفت عائشة في فرحة: بچد! والله اتوحشتك يا يونس. ربنا ما يغيبك أبدا أنت وأخوك. ابتسم يونس مؤكدا: والله لو ما كنتي اتصلتي كنتي هتلاجيني عندكم. أنا كمان اتوحشتكم. سلميلي على كل اللي عندك لحد ما أچيكم. هتفت عائشة: تچيلنا بالسلامة يا غالي. مع السلامة. ألقى يونس التحية مغلقا الهاتف وقد قرر السفر لنجع الصالح. فيبدو أن ابتعاده عن أهله كل هذه الفترة. جعل رؤيته للأمور بها الكثير من الاضطراب واللاعقلانية.
انهت اجتماعها الذي كان مزمع انعقاده في هذا المقهى الراقي بإحدى ضواحي الإسكندرية العريقة. استأذنت مرافقيها للرحيل على وعد بلقاء أخر قريبا. إذا ما اتخذوا قرارهم بالموافقة على اقتراحاتها التي قدمتها طوال فترة الاجتماع.
نهضت متجهة لخارج المقهى في هذا الجو الشتوي بامتياز. كانت تعشق اسكندرية في مثل هذا الجو وكان لها الرغبة في السير تحت رزاز المطر. لكن الوقت صار متأخرا وعليها الاندفاع نحو سيارتها للوصول للمنزل قبل أن يشتد المطر انهمارا.
توقفت على درجات الدرج المفضية للخارج ترفع ياقة معطفها اتقاء لنوبة البرد التي هاجمتها ما أن خرجت من دفء المقهى المكيف. تضغط على مفتاح العربة الإلكتروني لتصدح سيارتها معلنة عن مكان تواجدها وما أن همت بهبوط الدرج إلا وقد ظهر فجأة. لا تعلم هل كان بالداخل أم أنه حضر لتوه. كل ما لاح لها في فوضى الحواس التي اعترتها لقربه هي تلك الابتسامة التي أضاءت عتمة الليلة الماطرة. رفع مظلته لأعلى وفتحها فوقها متجاهلا نفسه. مشيرا لها لتسير جواره يقيها المطر المنهمر حتى وصولها لباب سيارتها. الذي وقفت جواره تتطلع نحوه شاكرة في نبرة هادئة. ليرد نزار بابتسامة أخرى من سلسلة ابتسامته التي تربكها كالعادة حتى ولو أدعت عكس ذلك.
فتحت باب العربة وادارت محركها وانطلقت محاولة ألا تلق بنظرة تجاهه بينما توقف هو متطلعا نحو موضع رحيل عربتها حتى غابت ليعاود الاحتماء تحت المظلة عائد لداخل الفندق من حيث أتى. ولم يلحظ تلك السيارة التي تحركت في حرص خلف فريدة وقائدها يجيب على جواله مؤكدا أن الأمر قد تم على أفضل ما يكون.
انتهت المحاضرة وبدأ الجميع في الانصراف. كان ما بينهما لا يزيد عن كونهما زميلين لا يحدث بينهما أي حوار داخل الجامعة. لكن ما أن يركبا سيارتهما حتى يبدأ السباق اليومي. الذي لا يفتر حماسه أبدا. كان من أول المغادرين وظل على انتظارها خارج القاعة لكنها لم تخرج. تعجب فالقاعة ليس لها باب أخر قد تكون قد خرجت منه دون أن يدري.
عاد من جديد لداخل القاعة مستطلعا الأمر ليجد أحد الطلاب الذي لم يرتح له من الوهلة الأولى عندما تعرف عليه. يحاول اعتراض طريقها عدة مرات. وهي تحاول التملص منه.
تقدم نحوهما وبلا أي مقدمات جذب ذاك الشاب من ظهر قميصه ليؤخذ الأخير على حين غرة وقد سقط بين أحضانه ليتلقفه مروان ويبدأ في تسديد اللكمات له والشاب يتأوه محاولا التملص من بين كفي مروان اللذان تشبثا به في قوة. كان دوما ما يخبر أية أن الله أخذ من قوة قدميه ووضعهما في ذراعيه. لكنها لم تكن تدرك أنه بهذه القوة إلا والشاب الأحمق ملق أرضا يتأوه مترنحا يمنة ويسارا وهو يضع كفيه على موضع فمه وأنفه الذي أصبح مدرج بالدماء. وهنا تدخل الأمن. الذي أبلغه بعض الطلاب بما يحدث دون رغبة من التدخل من قبلهم لأن ذاك الشاب كان من الدناءة بحيث كان الجميع يتجنب أي خلاف معه. ولم تكن أية هي الفتاة الوحيدة التي تعرضت منه لمثل هذا السلوك.
هتف مروان بأية: أمشي بسرعة وروحي. مش عايزك تدخلي فالموضوع ده. روحي. هتف بكلمته الأخيرة في لهجة أمرة ما دفعها للتنفيذ فورا. مندفعة نحو عربتها كما أمرها. اصطحبهما الأمن لمكتب مسؤول الأمن. تطلع نحوهما بعد أن استطاع مروان إقناع أية بالابتعاد عن الظهور في الصورة. هتف بهما مؤنبا: دي مش اخلاقيات شباب جامعي. وفي كلية كل اللي بينتمي لها المفروض إنهم من أصحاب الذوق الراقي.
هم الشاب بالحديث إلا أن المسؤول هتف به: أنت متتكلمش. لأن واضح إن دي مش أول مرة تتعرض لطالبة زميلة. والموقف ده خلى اللي كان ساكت أو حتى خايف من مضايقتك يتكلم. وأنا ليا تصرف تاني معاك. وتوجه بحديثه لمروان: أما أنت بقى. فطبعا غيرتك على زميلة دي حاجة محمودة. بس إحنا مش هنقلب الكلية لحلبة مصارعة. كان ممكن تبلغ الأمن وهم يتصرفوا. لكن شغل أفلام الأكشن ده مش فالكلية. ماشي.
هتف مروان في ثبات لا يحاول الاعتراض على وجهة نظر المسؤول: عند حضرتك حق يا فندم. وأنا عارف إن مكنش ينفع وخاصة في حالتي إني أدخل في خناقة. لكن برضو مكنش ينفع اسيبه يتطاول على بنت خالي واسكت حتى ولو كنت في حالة متسمحليش بالخناق. نظر له مسؤول الأمن بإكبار مؤكدا: عندك حق. ودي حاجة تتحسب لك. بس برضو الأمن موجود للحالات اللي زي دي.
هتف الشاب المضروب في حنق: ده كذاب يا فندم. دي لا بنت خاله ولا قريبته من أساسه. هتف مروان مؤكدا: لا. قريبتي وبلدياتي. وحتى لو مكنتش. وحصل الموقف مع بنت تانية هعمل كده برضو. هتف مسؤول الأمن في حزم: انتهينا. اتفضل يا مروان. ونظر للشاب الماجن هاتفا: أما أنت فأتركن هنا شوية عشان ليا معاك كلام تاني.
استأذن مروان ليساعده خفيره وسائقه الذي كان يلازمه ليصل حيث العربة التي ما أن انطلقت على الطريق حتى وجد سيارة أية تلحق به. أصبحت السيارتان متجاورتين لتتطلع من نافذة مقعدها مبتسمة في امتنان شاكرة له صنيعه. ووضعت عيونها بهاتفها معتقدا أنها تتجاهله من جديد إلا أن جاءه إشعار على واتس أب هاتفه تطلع إليه ليكتشف أنها هي. ترسل له كلمة واحدة. شكرا.
تطلع مبتسما بدوره من النافذة. ليأمر السائق ببدء السباق هاتفا بصياحه الحماسي الذي إعتادته في سعادة دفعت البسمات لشفتيها. رغم سوء الأحوال الجوية في مثل هذا الوقت من العام. إلا أنه لمح عربتها قادمة من أول الطريق. حجبها عنه لبرهة بعض من ضباب ما لبث أن انقشع لتظهر السيارة جلية تتقدم لتقف أمام بوابة الدار.
هبطت نوارة من فورها في اتجاه الداخل لعلها تجد الدكتورة سميحة بمكتبها. لكن ما أن همت بفتح باب المكتب بعد أن طرقته عدة مرات ولم يجب أحدهم. تراجعت عن الدخول. فقد تجد رائف بحجرته الخاصة. وهي لا تريد مقابلته أو الاحتكاك به من الأساس. يكفيها ما بها. بعد كل ما مر عليهم خلال الأيام القليلة الماضية.
تراجعت خطوات للخلف وقد قررت الانطلاق للوحدة مباشرة. إلا أن ذاك الرجل العجيب الذي ظهر لها مرة من قبل متجاهلا وجودها ظهر من جديد. تسمرت موضعها متوقعة أنه سيتجاهلها كما فعل في السابق. ستدعه يغادر قبل أن تخرج من الدار نحو الوحدة. إلا أن الرجل الهرم توقف قبالتها مباشرة متطلعا لها بأعين صقرية حادة النظرة تشبه لحد كبير نظرات رائف في لحظات غضبه.
جزت على أسنانها حنقا من نفسها. ما لها ونظرات رائف الغاضبة أو الفرحة! هتف العجوز في حنق مخرجا إياها من خواطرها: چاية لحد عندنا برچلك. چاية ليه! أرحلي جبل الطوبة ما تاچي فالمعطوبة. والمستخبي يبان يا بت الهوارية.
تطلعت نوارة نحوه في ذعر لم يكن يوما من طبعها. لكن نظراته وكلماته التي تقطر حقدا وغلا كانت كفيلة بجعلها تتراجع خطوة للخلف لتصطدم بباب حجرة المكتب الذي انفرج فجأة ما جعلها تنتفض متطلعة نحو رائف الذي نظر نحو ملابسها الغامقة هاتفا بنبرة تظهر تأثره: حمدا لله بالسلامة يا دكتورة. والبقاء لله.
ألقت نظرة سريعة على موضع العجوز الخرف لتجده فارغا. يبدو أنه اندفع مختفيا كعادته. لدرجة أنها استشعرت كونه شبحا لا حقيقة. يظهر لها وحدها. ليخيفها من البقاء هنا لغرض ما. همس بها رائف متعجبا: أنتِ بخير! هزت رأسها مؤكدة وهمست ترد على تعزيته في نبرة مهتزة: سبحان من له الدوام. هتف بها متعاطفا: بنت عمك عاملة إيه!
تطلعت نحوه وقد أيقنت أن الدكتورة سميحة قد أخبرته بما أدلت به على الهاتف معتذرة عن تغيبها مختصرة بعض الأحداث كعادتها. لكنها أخبرتها بالأخبار الرئيسية والتي كان يدور الحديث عنها في خلال الأيام المنصرمة في سراي الهواري. أكدت في هدوء وقد بدأت تسترد بعض من ثباتها: عندها انهيار عصبي. الصراحة صدمة رهيبة. ربنا يعينها.
أكد رائف متعاطفا بدوره هاتفا بنبرة تنضح وجعا جعلتها تتنبه موجهة ناظريها نحوه: فراج الحبايب بيكسر الجلب ويهد الروح. وتنهد مؤكدا: ربنا يكون في عونها. وعونكم. همست وقد تنبهت لكلماته لكنها لم تعقب إلا متضرعة: يا رب. وهمت بالاستدارة راحلة هاتفة: عن إذنك. هتف يستوقفها: على فين!؟ تطلعت نحوه متعجبة ما جعله يستطرد مؤكدا: جصدي. الچو بره كله عفرة وريح شديدة. هرن ع الدكتورة سميحة عشان تعرف إنك هنا.
أكدت نوارة بطبيعتها الرسمية وبنبرة عملية كعادتها: المفترض أنا اللي أروح لها. وبعدين أنا چاية عشان اشتغل مش اجعد ضيفة. ومكاني هناك مع الدكتورة سميحة. مش هنا. همت بالخروج من الدار لتجده يستوقفها هاتفا: طب استني. أنا چاي معاكِ. كان تعرف أنه يسب ويلعن ذاك اليوم الذي رأها فيه. لكن رغم ذلك. استشعرت سعادة داخلية بلهاء ما أن أصر على رفقتها.
اندفعا سويا نحو الجسر الخشبي. والذي مراه بسلام هي أولا وهو بأعقابها. وما أن سارا خطوتين صوب الطريق المفضي للوحدة مرورا بالاستراحة التي تجاهلتها مؤقتا حتى تعود لها وحيدة في منتصف النهار عندما يحل عليها التعب أو الإجهاد.
حتى مال ذاك الفرع الطولي من الخشب والذي كان يقف متصلبا بلا داع. يستند على إحدى جوانب الاستراحة. اهتز بشدة مترنحا جراء تلك الريح القوية. لتدفع به ليسقط نحوها وهي لاهية عنه. غير مدركة بالخطر المحدق بها لولا تدخله.
فقد جذبها بعيدا ليسقط العمود الخشبي بمحازاته. لكنه تأوه. فتنبهت أن ذاك العمود قد مس ذراعه ممزقا قميصه ومصيبا عضده بجرح بدأ في النزف ما دفعها لتنتفض تجاهه هاتفة: چرحك بينزف. لازما نسيطر على النزيف ده لأنه بيزيد. أكد هو محاولا تجاهل الأمر: حاچة بسيطة. أنا راچع ع البيت. ونصيحة أرچعي ع الاستراحة لحد ما ربنا يسهلها والدكتورة سميحة تچيلك.
تحركت نحوه تسير جواره حتى إذا ما وصلا باب الاستراحة والذي كان مشرعا. فقد جهزتها الدكتورة سميحة واوصت بنظافتها ما أن علمت بقدومها. حتى دفعت به ودخلت هاتفة: تعالى لازم اشوف الچرح. دراعك كله دم. يمكن يكون محتاج خياطة.
لا يعلم ما الذي دفعه ليطيعها في هوادة بهذا الشكل. جلس على أقرب مقعد لتهرول هي في اتجاه صندوق الاسعافات الأولية. لتعود به مخرجة المطهر وبعض القطن الطبي. وبدأت في التعامل مع الجرح في احترافية. كانت هي في واد وهو بواد أخر. كان مأخوذا بها متعلق الطرف بمحياها. عيناه مركزة على تفاصيل وجهها لا تحيد النظر عنه.
لا يعرف ما اعتراه ليسقط أسيرا لشرك سحرها الفطري الذي ما كانت تتصنعه بل إنها ويا لمصيبته. لا تدرك من الأساس أنها تمتلك القدر الوافر منه. حتى أنها سيطرت على حواسه التي شملتها الفوضى كليا.
تنبهت أخيرا لذاك الذي اربكها جرحه وكأنما كان جرحا أصاب ذراعها هي. ربما لو كان جرحها ما كانت اهتمت كل هذا الاهتمام. لكنها استشعرت بعض الذنب لأنها أصبحت أيقونة لكل المصائب التي تحط على رأسه جراء عنادها ورغبته في حمايتها.
هل هذا طبيعي!؟ بدأت في التساؤل وعيونها قد تعلقت بنظراته الصقرية التي ذكرتها بعيني جده التي ارعبتها منذ دقائق. لكن عيناه. كانت تحمل مزيج أخر من مشاعر لا تمت بصلة لمشاعر الحنق والغضب التي كانت تملأ حدقتي جده.
تلك المشاعر التي ظهرت جلية لا يخيب عاقل عن تفسيرها. والتي تعجبت لأنها وهي التي تنفي الحب وتحرمه على قلبها كتحريم الخمر على مسلم. قد أصبحت خبيرة فجأة في قراءة لغة العيون لتنفذ منها إلى روحه موصولة بروحها. انتفض كلاهما خارجا من أتون المشاعر المبعثرة بدواخلهما ما أن اندفع باب الاستراحة لينغلق في قوة جراء شدة الريح الهائجة بالخارج.
انتفض هو في سرعة. مندفعا صوب الباب جاذبا إياه في قوة لينفرج كما كان. كانت تتوقع أن يعود لتكمل ما بدأته بجرحه. لكنه هرول رغم قوة الريح المتربة في اتجاه البيت الكبير تاركا إياها تقف متطلعة إليه يغيب عنها خلف غبار الأرض الثائرة. هاربا من شىء ما. لا تدرك كنهه. أو ربما تدرك جيدا. لأنها تعان من مثله. لكنها تفتقد الجرأة الكافية لتعترف حتى لنفسها بذلك.
كانت قد قررت أن تحفظ كرامتها وتنأى بنفسها عن طريقه. فقد حاولت كثيرا التواصل معه لكنه لم يجبها ولا مرة. كان كلام فريدة معها له أثر كبير في اتخاذها هذا القرار. عليها أن تصون كبريائها. فلا حاجة لها في الركض خلفه. إن أرادها فعليه أن يذلل كل العقبات التي تحيل دون اجتماعهما. مرت من البوابة الأقرب لكليتها والتي كان هو من حراسها ولم تعره اهتماما ما جعله يتحين الفرص حتى يحاول التواصل معها.
تجاهلته عدة مرات من قبل واليوم لم يكن استثناءا. ما دفعه تعمد التواجد حيث تترك عربتها. هتف بها ما أن وجدها تتعمد تجاهله من جديد: بدور. تطلعت نحوه ولم تحرك ساكنا ما دفعه للاقتراب هاتفا والشوق يطل من عينيه فاضحا: إزيك!؟ كان قلبها يبكي قهرا على حاله وحالها لكنها ادعت الصلابة هاتفة: الحمد لله. خير!
اضطرب لجفائها هاتفا في نبرة تقطر وجعا: عارف إنك مش طايقة تكلميني وحاسة إني خذلتك. بس ربنا يعلم أنا عملت إيه وحاولت إزاي. هتفت ساخرة: هااا وبعدين! نكس ناظريه هامسا: مفيش فايدة. دماغ ستي مش هتلين أنا عارفها. هتفت في هدوء يناقض الثورة المستعرة بداخلها: برضو هاااا وبعدين!؟ هتف في حسرة محاولا السيطرة على انفعاله حتى لا يلفت الأنظار: يا بدور حرام عليكِ. متبقيش أنتِ والدنيا عليا.
دمعت عيناها تأثرا وهتفت بصوت متحشرج: وأنا بأيدي إيه! وايه المطلوب مني يا حضرة الظابط!؟ نتجوز ونحط أهلي وأهلك قدام الأمر الواقع!؟ ولا استنى بقى لما ربنا يفرجها وتعرف تقنع جدتك بجوازك مني!؟ ولا ايه المطلوب من بدور بالظبط يا منتصر!
شهقت محاولة كتمان قهرها ما دفعه ليهرول مبتعدا غير قادر على الإجابة أو النظر لعينيها في قلة حيلة. لتتبعه بنظراتها ومن ثم تركب عربتها مندفعة بدورها تغادر الجامعة التي باتت أجوائها تخنقها.
انطلق بعربته على الطريق في اتجاه نجع الصالح إلا أنه توقف فجأة عندما تذكر أنه لم يحضر ما أمنته عليه عمته هداية. لعن في غيظ وقفل راجعا بعد أن مر ما يقارب من ثلث الساعة على انطلاقه. كان يعلم انه لن يستطيع ان يدخل النجع دون ان يمر عليها ملقيا التحية واعطائها تلك الصور الفوتوغرافية التي طلبتها بإصرار وجعلتها أمانة في عنقه حتى يحضرها معه في المرة القادمة التي يعود فيها لنجع الصالح.
كان عليه العودة لأخذ الصور. لأنه يعلم أن مرات نزوله للنجع باتت قليلة ومتباعدة المدة عن السابق. لذا فلا مجال لتعويضها وإحضارها في وقت لاحق قد يطول لأشهر.
تنهد في حنق لائما النسيان واضطراب فكره في الأيام القليلة الماضية والذي جعله يترك الصور التي صرها جانبا منطلقا دونها. وصل بالعربة وتركها متسللا من الباب الخلفي للدار بغية الحصول على حمله والرحيل سريعا بهدوء. فقد تكون أم سماحة أو إحدى أخواته قد دخلت الدار لأي غرض.
خطى لغرفة المكتب حيث تركهم وعاد بهم في حرص مسرعا. لكنه تسمر موضعه أمام باب حجرته المشرع قليلا ومد بصره متطلعا إلى تلك التي تتغنج أمام المرأة في دلال هز ثبات قلبه الذي ظن يوما أنه فقده بنجع الصالح تاركا صدره فارغا أجوفا.
تنبه فجأة متسائلا. من هذه!؟ غلى الدم بعروقه قاذفا سماحة بأبشع التهم. هل تجرأ وقلب الدار إلى ماخور ما أن ولى ظهره راحلا!؟ وكيف له أن يفعل ذلك من الأساس في وجود أمه وأختيه!؟ هل أفقدته تلك المغوية عقله لهذه الدرجة!؟ بلا وعي ثبت ناظريه إلى تلك السمراء التي تسكر طلتها دون رشفة خمر وهي تتمايل أمام المرأة راقصة على أنغام تلك الموسيقى الصادحة من هذا الراديو القديم الموضوع جانب فراشه على إحدى الطاولات.
لم يستطع أن يقف مكتوف الأيدي أمام ذاك الفُجور وقد تخيل سماحة ممددا على فراشه اللحظة يتطلع إلى تلك المغوية في انتظار.
هز رأسه نافضا الصورة المخجلة من مخيلته وهم بالاندفاع لداخل الغرفة ليلقنهما درسا قاسيا في حفظ الأمانة التي سلمها له. وكذا صون سمعة تلك الدار العريقة التي ما شاب سمعة أصحابها العيب يوما. لكن كفه تصلب قبل ان يمس مقبض الباب وتسمر جسده موضعه وهو يسمع الخالة سعيدة تهتف في أريحية عليه: يا سماحة!؟ يا سماحة!؟
هرولت تلك الفتاة في صفاقة دافعة ضلفتي النافذة لتنفرج مطلة منها هاتفة: إيه في! يجطع سماحة وسنينه!؟ همس يونس بداخله متعجبا: كيف لها الظهور بهذا الشكل السافر أمام أمه!؟ وكيف لها سبه بهذه الأريحية دون أي احترام يذكر أمامها!؟ ماذا الذي يحدث هنا!؟ هتفت سعيدة مقهقهة: البيه لساته مروح وأنتِ ما صدجتي. إن غاب الجط إلعب يا فار. هتفت الفتاة مؤكدة: من نفسي بجى.
اشتعل يونس غضبا على هذه الجرأة بل الصفاقة الصريحة وهم بالتدخل لوضع حد لهذا العبث إلا أنه سمع الفتاة تهتف في حسرة: خليني أشوف حالي ياما. سماحة تعب. ارچع لأصلي يومين لحسن دِه اني جربت أنسى إني بت. شهق يونس شهقة كتمها في براعة مع هذا الاعتراف المدوي وتوقف مذهولا لا قبل له على التحرك من موضعه خلف باب حجرته الموارب قليلا.
لتهتف سماحة مؤكدة: أهو كنا بندارو جدام الناس وأچي ففرشتي أخد راحتي. لكن من يوم البيه ما چه وأني ليل نهار مدارية ياما. والله تعبت. هتف سعيدة بها أمرة: طب ادخلي لحسن حد يوعالك. اجفلي الشباك وهمي تعالي. ورانا غسيل وهم ما يتلم. هتفت الفتاة التي لم تكن إلا صديقه ومؤنس أيامه سماحة في قلة حيلة: حاضر ياما. چاية.
دخلت وأغلقت النافذة وعادت تتطلع لنفسها بالمرأة من جديد واستدارت متطلعة لفراشه جاذبة من على أطرافه ذاك الجلباب الذي خلعه قبل ان يغادر لينتفض في هلع ما ان رأها تحتضنه في وله إلى صدرها للحظة وأخيرا تقبله في شوق تدفن وجهها بين طياته تتشرب عطره المختبئ بين الحنايا في وله. قبل أن تأخذه لغسله. ليعود ليجده نظيفا معلقا لمشجبه بالحجرة.
ارتفعت نبضات خافقه متعثرة في مشاعرها البكر التي ما خبرها يوما حتى وهو يظن أنه ما يزل عاشقا لسهام وهي تترنم في نبرة شجية لا يعلم كيف كانت تحولها لذاك الصوت الأجش لرجل: أسمر وخاطفني. ويا ريته ما شافني. ولا كان من توبي. ولا كان مكتوبلي.
قرر الاندفاع مبتعدا في حرص بعد أن ابصرها تجمع ذاك الشعر الأشبه بشباك صياد ماهر اقتنصت قلبه بلا فكاك. تخفي جدائله تحت تلك العمة الضخمة. وكذا تخفي مظاهر أنوثتها التي تئدها أسفل ذاك الجلباب الواسع والكوفية الصوفية التي كانت تضعها مدلاه على جانبي صدرها. معتقدا أنها لا تفارقها اتقاء للبرد. أندفع متسللا من حيث أتى حيث سيارته من جديد. ليعود للطريق وهو لا يرى أمام ناظريه إلا حقيقة سماحة. ويا لها من حقيقة!؟