رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع
تنحنح بصوت أجش قبل أن يدخل عندما سمحت له مرحبة. فرغم رفقة كلبه الهادئة إلا أنها كانت تخافه. دخل مباشرة إلى الحمام وغاب لحظة. ثم عاد متجها نحوها لتدرك أنه حتى لم يغير بنطاله الذي كان ما يزل أثر البلل ظاهرا عليه. مد كفه أمرا: يااللاه ع الحمام. الحمد لله أن السخان رغم أن مفيش كهربا بس لسه محتفظ بشوية ماية سخنة. غيري هدومك. أنا چبت لك هدوم نضيفة.
حاولت النهوض متحاملة على قدمها المصابة. خطوة والثانية. ولم تستطع أن تعقبها بالثالثة. ما دفعه ليقدم ذراعه لتستند عليها وهمست متسائلة: أنت ليه بتعمل معايا كل ده!؟ هتف في لهجة باردة ووجه يحمل قسمات صلبة: عشان أنتِ ضيفة عندنا. وإحنا بنكرموا ضيوفنا يا دكتورة. وصلت لباب الحمام وتحاملت على نفسها حتى دخلت وأغلقت الباب وذاك الكشاف الذي وضعه بداخله قد أضاء جوانبه ما جعل أمر بقاءها به محتمل.
دقائق وخرجت وقد أصبحت أفضل حالا. وخاصة بعدما استشعرت الدفء يسري بأوصالها بعد حمام الماء الساخن والملابس الجافة النظيفة التي تحمل عبقا عجيبا. تحاملت قليلا متخذة الجدران سندا حتى استطاعت الوصول لموضع جلوسه أمام الركوة بصحبة كلبه.
جلست وعلى الرغم من إدراكه لحضورها إلا أنه لم يرفع ناظريه إلى موضعها وكأنما يتحاشى النظر إليها. كان هناك أمر ما غريب تدور رائحته بالمحيط حولهما. لقد رحل عنها بوجه. وعاد من البيت بالملابس والكشاف بوجه أخر مغايرا تماما. هتفت تسأله: هي الدكتورة سميحة فين!؟ أكد في هدوء محاولا جذب ناظريه بعيدا عن محياها: نايمة. واخدة حباية منومة ونايمة من حوالي ساعتين. هتفت متعجبة: الهدوم دي بتاعتها. مش كده!؟
لم يرد على سؤالها بل دفع لها بكوب من شراب دافئ كان يحضره على الركوة أثناء تواجدها بالحمام لأن الموقد الكهربائي بالمطبخ لم يكن صالحا للاستخدام. هتف في هدوء مصطنع ورغم اضطرابه الذي كان يحاول جاهدا إخفائه بمهارة شديدة والذي استشعرته بحدس أدهشها: أعتبريها بتاعتها. هم بالنهوض ليزيد من فحم الركوة. فسقطت عيونه عليها وهي ترتدي هذه الملابس. ليدرك أنه ما عاد يحتمل البقاء هاهنا. وأنه يشعر باختناق عجيب.
فاندفع في اتجاه الباب مغادرا وهتف وهو على أعتاب الإستراحة: أنا بره يا دكتورة لو عوزتي حاچة. خرج صافقا الباب خلفه في عنف. كأنها تتعقبه وهو يحاول الهرب منها. أغضبها الخاطر المزعج وآثار حنقها. لكنها تحاملت قدر استطاعتها وهي تدخل لحجرة النوم وتغلق عليها بابها حاملة ذاك المرهم والرباط الضاغط اللذان احضرهما معه لتعالج بهما قدمها الملتوية.
جلست على الفراش تدهن المرهم وتلف الرباط الضاغط على موضع الإصابة وأخيرا تناولت حبة المسكن التي تملك بحقيبتها وتمددت تفكر في هذا الرجل العجيب الذي تستشعر بحدسها أنه يخفي سرا عظيما. رفع الغطاء الصوفي عن قدمه لتصل إشاعة الشمس الشتوية الدافئة إلى عظامه الواهنة. شاركته زهرة المجلس وهي تضع أمامه صينية الشاي وبعض قطع من كيك الرواني. ربت على كفها المحازية لكفه وساد صمت ناعم بينهما.
تطلع إليها عندما وجدها تضع كفها على موضع قلبها فهتف متسائلا: إيه في!؟ تعبانة ولا إيه!؟ هتفت تطمئنه: لا متقلقش. دي نغزة خفيفة كده. وراحت لحالها. تلاقيني منمتش كويس إمبارح. هتف متطلعا نحوها: تلاجيكي شايلة الهم زي عادتك.
ابتسمت له ليستطرد متطلعا إليها في محبة: فاكرة لما دخلت عليك فمرة لجيتك بتبكي. عشان حال مهران. وأها. بفضل الله مهران حاله زي الفل. وبعدها على حال ماچد واللي چراله. وأهاا كمان ماچد تمام وهو مرته كيف الجط والفار. ابتسمت لتشبيهه ليستطرد مكملا: وسندس يا عاصم. والبت يا عاصم. وأهاا. چالها واد عمتها المچنون. وخدها وخلفوا شوية مچانين. وراثة من سهام اختي ربنا يديها الصحة وتچنهم كمان وكمان.
قهقهت زهرة على أقواله. ليستطرد معاتبا: دلوجت شايلة هم مين واچع جلبك غيري يا چميل!؟ ابتسمت متنهدة: طب بزمتك. حال عاصم عاجبك!؟ تنهد بدوره وهو يتطلع لحفيدتهما زهرة التي ظهرت بمجال رؤيتهما ملوحة لهما من بعيد وهي في طريقها لغرفة القراءة وهتف متحسرا: يا عيني عليك يا ولدي. جلبه مكسور يا زهرة. أني واعيله. بيموت من چواه ولا يبين. بس إيه اللي بيدنا. الجلوب وما تريد. وكله نصيب ومتجسم.
هتفت زهرة متحسرة: صدقت يا عاصم. ربنا يريح باله. ويجبر بخاطره ببنت الحلال. همس عاصم: يسمع منك ربنا. مدت زهرة طبق الحلوى لعاصم ليتناول قطعة هاتفا: هاتي. اهو نحلو مرار العلجم اللي فحلجنا على الجلوب اللي كاويها العشج. وكله فاكر نفسه حويط ومداري. هتفت به زهرة: اديك انت اللي شايل الهم أهو!؟
أكد عاصم وهو يلوك قطعة من الحلوى: طب نعملوا إيه بس!؟ والله لو كان بيدي لأجوزهم واللي يحصل يحصل. بس لا هي هتهون عليا ولا هو هيرضاها على نفسه. هتفت زهرة: كله بالرضا يا عاصم. مبقاش الغصب ينفع اليومين دول. أيامهم غير أيامنا. تطلع عاصم نحوها هامسا في مشاكسة: بس كان أحلى غصب فالدنيا. تنكري!؟ قهقهت مؤكدة: هنكر بعد إيه بس!؟ بعد ٣ عيال و٨ أحفاد. ده أنا أبقى ضلالية.
تعالت ضحكات عاصم وشاركته إياها في محبة. غير مدركين أن صاحب حديثهما يقف في لوعة متطلعا من نافذة حجرته المشرعة إلى حيث مجلسها المعتاد وكأنه طقس لتعذيب الذات. طالت وقفته لكنه ترك موضعه خلف النافذة وجلس على حاسوبه وبدأ ينقر على أزراره في قوة: قلبي. ذاك الجرح النابض الحي بين حنايا صدري والذي اذا طاب وسكن. مات. شيخ العاشقين.
اغلق الحاسوب متنهدا، ربما تهدئ تلك الكلمات التي يطرحها من جوفه بعض من تلك النيران المستعرة بين جنبات روحه. خرجت سجود من الحمام الخاص بالغرفة هاتفة بنوارة التي كانت تعدل من فراشها قبل أن تدخله: إيه الهدوم الغريبة اللي أنتِ غسلاها فالحمام دي يا نوارة!؟ دي مش هدومك!؟ جبتيها منين وليه بتغسليها أصلا!؟ تنهدت نوارة وهي تدخل تحت الغطاء الوثير هاتفة: دي مش هدومي فعلا. ولازم أرجعها مغسولة بعد ما لبستها.
هتفت سجود في فضول: طب مقلتيش هدوم مين!؟ وإيه اللي خلاكي تلبسيها!؟ تذكرت نوارة ما حدث معها البارحة واستشعرت دفئا عجيبا يسري بأوصالها ما أن تذكرت كيف كانت محمولة بين ذراعيه رغم بللها والصقيع الذي كان ينخر عظامها. وكيف دثرها واهتم بكل كبيرة وصغيرة حتى التواء كاحلها. رغم غرابة هذا الرجل. إلا أن بعض من إنسانية تختبئ خلف هذا المظهر المتعجرف والصوت الأمر والوجه العبوس.
هتفت بها سجود ربما للمرة الثالثة لتوقظها من خواطرها. تنبهت نوارة أخيرا لتهتف بها سجود في تخابث طفولي: لا الموضوع فيه إن ولازم أعرفها. هتفت نوارة وهي تجذب الغطاء عليها جيدا مستمدة الدفء: لا إن ولا أخواتها. مفيش موضوع من أساسه. كل الحكاية إني وقعت فالطين. ودي هدوم من الدكتورة سميحة بدل هدومي اللي اتبهدلت مش أكتر. أي سؤال تاني يا غلباوية!؟
تعجبت سجود هاتفة: بس دي هدوم شبابي شوية على دكتورة سميحة دي! أنتِ مش قلتيلي فمرة أنها تقريبا فالخمسينات. تنبهت نوارة لهذه النقطة. كيف لم تفطن لذلك!؟ حتى رائحة العطر التي كانت تفوح من الملابس. مختلفة عن ذلك الذي تستخدمه الدكتورة سميحة فعلا.
لم ترد نوارة على تساؤلاتها بينما شعرت سجود بالإحباط. فقد اعتقدت أن فالأمر حكاية عاطفية تشبع نهمها لحكايات القلوب العاشقة. لكن كيف لهذا أن يأتي من جانب هذه الجزارة عديمة المشاعر!
هكذا نعتتها سجود كالعادة وهي ترحل مبتعدة عنها عائدة لفراشها. وفتحت إحدى أغانيها العاطفية تردد معها في انسجام تام. تاركة نوارة تدعي الخلود للنوم لكن عقلها ما يزال واعيا تماما. يعيد كل لحظاتهما معا. منذ أن هل عليها بعد انقطاع التيار الكهربائي بلحظات. حتى رحلت صباحا مبتعدة بعد أن وصلها عبدالباسط بالسيارة أخيرا عند فتح الطريق بعد ذاك الحادث المؤسف ليلا. كان جالسا على صخرة ضخمة جوار باب الاستراحة وقد راح في سبات عميق مسندا رأسه على حائط وقد بات ليلته هنا بالقرب منها حتى لا تشعر بالذعر. لكنه نهض راحلا عند بزوغ الفجر. رأته من شباك حجرة نومها عندما قلقت فجرا. لتجده على هذه الحال. بعدها بدقائق شاهدته ينهض راحلا قبل أن يعِ أحدهم اين بات ليلته. أغمضت عينيها. وراحت مع كلمات الأغنية الحالمة. ليسبقها محياه لأحلامها. عنوة.
همست سعيدة التي كانت تتمدد على مرتبتها الموضوعة أرضا بأحد أركان تلك الحجرة الوحيدة التي تجمعها وبناتها مستفسرة: البيه حسه حلو جوي يا سماحة. كان يونس يشدو في أريحية وهو يتطلع لتمام القمر بدرا بسطح البيت مترنما: - عنيكي تحت الجمر. كيف الكلام والخوف فيهم كلام للجدر. مداري مش مكشوف. بودى أزرع شجرة. شجرة حنان وضل ترخى عليكي يا سمرة. وتلم شمل الكل.
تنهد سماحة مؤكدا: جلبي!؟ جلبي مدفون ياما تحت هم كيف الچبل ما بيتزحزح. عرفتي جلبي ماله ياما!؟ تنهدت سعيدة في حسرة: ربنا يعين ويساعد. نام يا سماحة. نام. أدارت سعيدة ظهرها لسماحة الذي ظل متمددا على ظهره يتطلع لسقف حجرتهم المعرش بأعواد الخشب الصلبة يتناهى لمسامعه شدو يونس الذي ما زال يترنم وحيدا على سطح الدار.
الرفاق حائرون. يفكرون. يتساءلون في جنون. حبيبتي أنا!؟ من تكون حبيبيتي! من تكون حبيبتي!؟ حبيبتي أنا!؟ هتف بالأغنية الشهيرة أحد الضباط من أصدقاء منتصر متهكما عليه محاولا مناكفته. وبدور تمر بالبوابة مصادفة مع إحدى صديقاتها. التي ابتسمت لذاك الضابط في خجل ابتسامة على استحياء. تنبهت بدور لتلك الابتسامات المتبادلة فهمست لصاحبتها: هو فيه إيه!؟ أنتِ تعرفي الظابط ده!؟
هزت الفتاة رأسها إيجابا هامسة في وله: أه. بنحب بعض وهايجي يخطبني أول ما أخلص الترم ده. هتفت بدور مشاكسة: والأغنية اللي اطربنا بها دي ليكي!؟ متخليهوش يغني تاني وحياتك. قهقهت كلتاهما لتنفى الفتاة مؤكدة: لا مش ليا. ده بيغيظ صاحبه اللي جنبه. تنبهت بدور. فقد كان منتصر هو صديقه الذي يرافقه والذي تعمدت تجاهل وقوفه بالبوابة من أساسه كأنها لا تعرفه.
وهتفت في فضول قاتل: ليه!؟ هو صاحبه بيحب واحدة ومداري عليهم ولا إيه!؟ أكدت الفتاة: محدش عارف. بس اللي حصل يوم المظاهرة بيقول كده. هتفت بدور في صدمة: ايه اللي حصل يوم المظاهرة!؟
هتفت الفتاة في حماسة: بيقولوا أن الظابط ده اختفى في عز المظاهرة من بين القوات. ولما سألوا عرفوا إنه خرج بعرببته وساب المظاهرة عشان يلحق بنت كانت معاه فالعربية. البنت دي محدش عرف هي مين. بس الكل من ساعتها بيقول إنها حبيبته اللي محدش يعرف عنها حاجة ولا هو لمح حتى إنه بيحبها. صمتت بدور ولم تعقب لتستطرد الفتاة في حسرة: اتصوري كان رئيس الحرس هيديله جزا على عملته دي.
شهقت بدور لكنها تداركت الأمر هاتفة في تعاطف: ليه بس حرام. أكدت الفتاة: يا بنتي بقولك ساب مكانة بين قوات الأمن في عز المعمعة. بس ربنا ستر. لولا إنه ظابط شاطر ومنضبط مكنش رئيس الحرس عفى عنه واكتفى بلفت نظر خفيف. تنهدت بدور في راحة حاولت ألا تظهرها ما أن علمت أنه لم يُضر من جراء أفعالها.
استأذنت من صديقتها لبرهة. وعادت أدراجها في اتجاه البوابة. وعلى مقربة تطلعت نحوه في امتنان. كان يضع على جانب وجهه الأيسر غطاء طبي رفيع على موضع الجرح الطولي الذي سببته أضافرها التي حفرت صفحة وجهه في قسوة.
تنهدت لا تعرف ما عليها فعله. رن هاتفها من موضع تسترها. تطلعت لشاشته. لقد كان نادر. يبدو أن دكتور المادة قد دخل المحاضرة وهو يستدعيها على وجه السرعة. ضغطت على زر إلغاء الرد ليدرك أنها في طريقها للمدرج. تحركت في هوادة لا رغبة لديها للمغادرة. لكنها أولت ظهرها للبوابة وحارسها الجسور واندفعت تلحق بالمحاضرة. محاولة ألا تدير ناظريها لموضعه.
انتظرت على أحر من الجمر هدوء الدار من ذهاب وإياب. وتسللت نحو اسطبل عنتر الذي رفع رأسه عن طعامه مستطلعا من القادم عندما أرهف السمع لخطواتها المقتربة في وجل. ربتت على عنقه ما أن اصبحت بجواره ليهدأ ويعود من جديد ملتهيا بالطعام وهي تمد كفا مرتعشة في اضطراب لتجد الخطاب موضعه المعتاد. أخذته مسرعة نحو الدار. لكن ما أن خطت قدمها عتبات الدار حتى سمعت هتاف جدتها وجيدة متسائلة في ريبة: كنتِ فين الساعة دي!؟
اضطربت لكنها استطاعت إخفاء الخطاب في عجالة بين طيات ثيابها وهتفت في نبرة حاولت أن تبدو طبيعية رغم ارتعاش حروفها: أصل سمعت عنتر يا ستي. جلت يكون فيه حاچة. نزلت أشوفه. ابتسمت وجيدة في سعادة رابتة على كتفها في محبة: بتطمني على فرس الغالي! ربنا يرده بالسلامة. ويجرب البعيد.
غام وجهها في ضيق مكتوم واستأذنت مهرولة تصعد الدرج في عجالة لتصل لحجرتها التي ما أن أغلقت بابها بإحكام خلفها حتى أخرجت خطاب مروان. لتشهق في صدمة وقد تمزق أحد أطرافه عندما حاولت أن تفتحه. كانت تعتقد أن تعجلها السبب فراحت تسب نفسها وتلومها في حنق ولم تكن تعي أنه هو من وضع بعض من مادة لاصقة على طرف الخطاب ليتأكد أنها قد قرأته بالفعل. جلست في تيه لا تعلم ما عليها فعله. فلم يعد من الممكن أن تعيد الخطاب موضعه كأن شيئا لم يكن. سيعلم أنها قراته بعد اكتشافه هذا الجزء الممزق. وإن لم تضعه سيعلم أنها أخذته.
تنهدت في قلة حيلة. فما ترك لها خيارا سوى الذهاب لتعلم ما هي تلك الأمانة التي يحتفظ بها. ولتعيد له خطابه الممزق الطرف والذي بالمناسبة لم يكن يحمل بين طياته إلا كلمتين: هستناكِ مع عنتر. وكأنه كان على يقين أنها قادمة. تطلعت للخطاب من جديد. ورغم كل شيء ابتسمت. وتنهدت في راحة لم تعلم من أين يكون مصدرها.
طرقت الباب ودخلت إليه تشاركه مجلسه الذي لا يمله على تلك الشرفة التي تطل على البحر. جلست جواره في هدوء تشعر برغبة في السكينة لا تستشعرها إلا بصحبة جدها زكريا الذي همس متطلعا للجو المحيط: الجو غيم. والبحر شكله هيجلب.
اومأت فريدة برأسها إيجابا ولم تنبس بحرف. لا رغبة لها في الحديث من أساسه. هي تدرك أن أمورها لن تكون كسابق عهدها بعد لقائها بنزار. هناك شىء ما لا تدرك كنهه. لكنها تستشعر قرب حدوثه بحدسها. ما يثير قلقها وتوترها بلا سبب مفهوم. استطرد جدها مؤكدا: البحر كيف الجلب. مهما اتجلب. محدش يعرف اللي فچوفه إلا صحابه اللي رموا نفسهم في حضنه. الحبيب هو اللي يعرف ايه اللي فجلب حبيبه من غير ما ينطج.
همست فريدة في نبرة مضطربة: هو صحيح يا جدو اللي بنسمعه عن الحب ده!؟ ولا ده كلام روايات! تنهد زكريا متبسما وهمس مؤكدا: لاه. صح يا حبيبة چدك. المحبة دي سر من أسرار ربك. لا تجولي ليه. ولا كيف. ولا ميتا!؟ لو سألتي حد بيحب بچد. حبيته ليه. هيجولك معرفش. أهو لجيت ربنا زارع حبه في جلبي. كيف! ولا حد يدرى. همست فريدة في وجل: للدرجة دي!
هز زكريا رأسه مؤكدا وهمس متطلعا للبحر الذي بدأت تقلبات أمواجه في الظهور معلنة عن بعض غضبه: يوم ما وعيت لستك بدور. أم خالك حازم الله يرحمها. حاچة مني اتخطفت ومرچعتش لحد دلوجت. ولما راحت. عرفت إنها خدت روحي معاها. من يومها وزكريا معدش زكريا. همست فريدة في خبث محبب: طب وستي زينة الله يرحمها. فين من كل ده!
همس مؤكدا: زينة كانت الجلب. وشريكة عمري كله. لكن العشج اللي كان لبدور كان حاچة تانية. حاچة رباني لا لك يد فيها ولا تعرف لها سبب. عاشجها على كل حال وبكل طريجة. روحك معلجة لا عارف تفر منها ولا عارف تفارجها. ولا ناوية هي تفارجك. كان موتها وچع ربنا ما يدوجه لحد. هانت عليا الدنيا كلها من بعدها. ولولا خالك اللي كان لحمة حمرا. لا كنت عشت ولا صلبت طولي. ولا بجيت زكريا اللي أنتِ وعياله دلوجت.
تساءلت فريدة متعجبة: هو فيه راجل بيعرف يحب قوي كده يا جدي!؟ قهقه زكريا مؤكدا: الرچالة ملهمش فالمعشجة والمواويل دي. بس لما الراچل بيجع محدش بيسمي عليه. وتنهد هامسا: عشج الرچالة كيف دموعهم عزيز. لكن لما الدموع تظهر مبتظهرش إلا لغالي والعشج لما يبان. عمره ما يكون إلا برضك لغالي. وساعتها الطريج يا بتي بيبجى روحة بلا راچعة.
هزت فريدة رأسها مبهورة بكلام جدها ذاك الصعيدي الصلب الذي لا يمكن لأحد أن يتوقع أن له قلب عاشق بهذه الروعة. ساد الصمت لبرهة وكلاهما يتطلع لتقلبات البحر الرمادي أمامهما حتى هتف زكريا متنهدا: ياللاه جومي اعمليلي فنچان جهوة من يدك الحلوة دي. نهضت ملبية طلبه في هدوء وما أن همت بالخروج من الغرفة إلا وهتف بها يستوقفها: فريدة!
استدارت مستفسرة ليؤكد لها في لهجة العالم ببواطن الأمور: مش الرچالة بس اللي عشجهم واعر. الست لما تعشج ممكن تدي الراچل اللي معاها حياتها. بس المهم. الراچل ده يكون راچل على حج ربنا. وإلا. الخسارة بتبجى كٓبيرة جوي يا بتي. والوچع مابيطيبش. حاولت فريدة ألا تظهر اضطرابها جراء حديث جدها الذي كان على ما يبدو يثبر أغوار نفسها ويجيب على تساؤلات شتى كان تؤرقها منذ زمن بعيد.
هزت رأسها مؤمنة على حديثه وقبل أن تمس كفها مقبض الباب راحلة هتف جدها أمرا: شغلي الست جبل ما تروحي. مدت كفها تضغط زر جهاز تشغيل الأغاني الذي كان على مقربة. ليصدح صوت ام كلثوم شادية: هو صحيح. صحيح. الهوى غلاب.! معرفش أنا. تطلعت لزكريا الذي بدأ يتمايل برأسه في سلطنة مترنما مع صوت الست. تاركا إياها تردد سؤال الأغنية الأكثر حيرة. هل حقا. الهوى غلاب!
أدارت مقبض الباب تفر من حجرة جدها إلى غرفتها يطاردها ذاك السؤال. وكلام جدها الأخير. حتى أنها نسيت أمر إعداد قهوته. كان الجميع مجتمع على طاولة الغداء، ليهتف عاصم مقررا وهو يتطلع لطبقه يعبث بمحتوياته: أنا مسافر بإذن الله مع واحد صاحبي. واحد جريبه عنده شركة هندسية هناك ومحتاچين مهندسين حاسبات.
لم يرفع أبوه وأمه عيونهما باتجاه عاصم الجد، كانا على علم بالأمر فقد استطاع إقناعها بضرورة سفره ورغبته الملحة في التجربة وثقل الخبرة. لم يقتنعا بالحجج لكنهما ازعنا بأخر الأمر. لكن الاضطراب كان من نصيب كل من ماجد وإيمان. واللذان تطلعا لبعضهما. لا يخفى عليهما سبب رغبته في الابتعاد.
أما عاصم الجد فتطلع للجميع ولم ينبس بحرف، سقطت عيناه على حفيدته زهرة ولم يعقب بحرف وهو يراها على نفس هدوئها وتيهها المعتاد. لم يكن يدرك أن تلك الهادئة كماء راكد. استشعرت اضطرابا غريبا لا تعرف كنهه ما أن نطق عاصم برغبته في الرحيل. مالها ورغباته! فليرحل كما يحلو له. إن الأمر لا يعنيها. عليها الاعتناء بتحضير حفل عقد قرانها والمزعم عقده خلال اسبوع من الآن. هذا ما عليها الاهتمام به ولا شىء أخر.
حاول عاصم الجد النهوض مغادرا، لكنه لم يقدر فدفع بكرسيه نحو قاعته المفضلة مغادرا سفرة الطعام. همت زهرة باللحاق به، لكن عاصم حفيدها أشار عليها بالبقاء مندفعا في عقب جده لداخل القاعة مغلقا بابها خلفه. هتف عاصم الجد معاتبا: بجي كِده يا عاصم!؟ هان عليك تجول أسافر وتفوت چدك؟ اندفع عاصم منحنيا يقبل جبين جده في محاولة لتطييب خاطره: معلش يا چدي. أنت عارف إن يعز على فراجك. ده لازما يحصل. أمر الله.
هتف الجد: أمر الله برضك!؟ و لاه أمر دماغك الناشفة. أنت بتهرب. وأني متعودتش عليك چبان. هتف عاصم في اضطراب: ههرب من إيه بس يا چدي!؟ موضوع السفر ده ف دماغي من زمن وچه أوانه. ابتسم الجد في تفهم هاتفا في لهجة العالم ببواطن الامور: والله لو رحت أخر الدنيا. هتهرب من شوفتها لكنها هتكون جصادك مهما عِملت.
اضطرب عاصم يحاول تحاشي النظر إلى عيني جده التي تشبه عينيه لحد كبير وكانه ينظر لملامح روحه بمرآة القدر. وهتف ما أن استجمع شتات نفسه: أنت بتبالغ جوي يا چدي. أه أنا كنت عايزها لكن خلاص هي اختارت الأصلح ليها. وفي الأول والأخر هي بت عمي وربنا يسعدها ويهنيها. همس الجد امرا: جرب يا عاصم.
أمتثل الحفيد في طاعة وانحنى ليكون على نفس مستوى جده الذي يجلس على كرسيه المدولب والذي أخذ يمسح على رأس حفيده في حنو وأخيرا انحدرت كفه ليضعها مفرودة موضع قلب حفيده هامسا في تضرع: يا رب. يا تحجج لجلبه مناه. يا تريح الجلب العليل من عشجه.
وضع عاصم كفه فوق كف جده وعيناه يلتمع بها دمع شامخ هامسا بصوت متحشرج وهو يبتسم ابتسامة تقطر وجعا: لاااه يا چدي. بلاها الراحة. لو جلبي أرتاح. هيموت. أنا راضي بجلب عليل بعشجها. تطلع الجد لحفيده وهتف في وجع: واااه يا ولدي. وجذب حفيده مغيبا إياه بين ذراعيه يحاول أن يحمل عنه بعض من تلك المواجع التي أرهقت كاهلي روحه. صرخات متعاقبة هزت جنبات الحارة. صرخات صادرة من قلب مكلوم وروح تصدعت ذعرا للفراق.
صرخات فزع الجميع لها واندفعوا في اتجاه مصدرها لإدراك الحدث الجلل الكائن في بيت سالم الأستورجي. كان بيت المعلم خميس الأقرب. وكان نادر هو الأسرع نحو البيت. فقد كان قادما من الخارج يخطو اول خطوات نحو درج بيت جده في سبيله لشقة أبيه عندما تعالت صرخاتها.
فكان الأسبق عندما أدرك مصدرها. ووقف يدفع الباب بكتفه لينفرج في الدفعة الثانية وصوت نشيجها القوي يصله من الداخل مثيرا بداخله مكامن الرغبة في الاندفاع نحوها. لا لسبب إلا لنجدتها من ذاك الحزن الذي يغلف الصرخات الموجوعة. اندفع لداخل البيت ومنه إلى الحجرة ليجدها منكبة على صدر أبيها الراحل تبكيه في صدمة.
توجه نحوها وبلا وعي منه جذبها لتبتعد. لكنها تشبث بصدر أبيها هاتفة في نبرة تفطر القلب: معدليش غيره. بقيلي مين!؟ سبني معاه. لم يستمع نادر لتوسلاتها بل جذبها من جديد بعيدا عنه وقد بدأ البيت والحجرة في الامتلاء بالجيران الذين لم يتوانوا عن الاندفاع لنجدتها بدورهم.
هتفت بنادر الذي كان ما يزل ممسكا برسغها جاذبا إياها للخارج حتى يتسنى للجمع المحتشد التصرف. لا يعرف لمَ لم يكن يعنيه إلا إبعادها عن الغرفة التي تحمل مصدر الوجيعة!؟
وصلت نعمة أخته وشيماء أمه ليدفعها لأحضانهما. تلقفوها ودموعهم تشاطرها حزنها وألمها. بكت بين أحضانهما وهو متسمرا موضعه يتطلع إليها وهو أشد غرابة من نفسه لا منها. هي تبكي أبيها. هذا طبيعي. لكن هو لم يبكيها ويشاطرها وجعها داخليا. يتمزق وهو يراها على هذه الحالة ولا يعلم ما عليه فعله لإخراجها من حالتها تلك. يعلم أن ما من شيء بالكون قادر على تعويض وجود أبيها بحياتها. لكن رغم ذلك. هو يريد لها تعويضا يليق بهذا الحزن المروع الذي يهز جنبات روحه ويستشعره يزلزلها. ويعلم أنها تعاني أضعافه.
صرخات من أمه وأخته جعلته يتنبه من تيهه وهي تسقط بين أذرعهم. غير قادرات على اللحاق بها. لكنه كان الأسرع والأقدر على اللحاق بها وحملها بين ذراعيه. هاتفا بنعمة وأمه أمرا: أسبقوني وافتحوا باب البيت على وسعه. دي مش لازم تقعد هنا وسط المعزا والغُسل. اطاعت أمه واندفعت تسبقها نعمة في اتجاه بيت جدهما. فتحن الأبواب على مصرعيها. ليصعد حاملا إياها يضمها بشكل عجيب وبقوة أعجب إلى صدره.
كان جبينها ملتصقا تماما بموضع قلبه الذي كان يخفق بسرعة جنوبية لا علم له بسببها. لكن جبينها ذاك كأنما اتصل بشكل لا شعوري بذاك القلب الغافل ليوقظه من غفلته، نافضا التناسي عن ذكرياتهما التي طمسها عنوة بذاكرة الفؤاد. انفرج باب شقة جده فهي الأقرب والأنسب ليضعها بصحبة جده وجدته. لكنه كان شاردا غير واع لما يفعل وهو يصعد إلى شقة أبيه التي نسوا بابها مشرعا وهم في عجلة من أمرهم لاستطلاع مصدر تلك الصرخات.
دفع الباب بقدمه وكل من أمه وجدته ونعمة يتطلعن إليه مشدوهات وهو يصعد الدرج. حتى أنه لم يتنبه لنداءاتهن وهن في أثره. حتى وضعها أخيرا على فراشه وداخل حجرته. وقفن جميعا على أعتاب الغرفة حتى تنبه لما فعل. نظر حوله وكأنه كان منوما مغناطيسيا. نظر للخلف فرأى نساء الدار يتطلعن إليه في تعجب. فهتف بهن في ضيق: انتوا واقفين كده ليه!؟ ما تدخلوا تحاولوا تفوقوها.
اندفعت نعمة ومن خلفها أمها نحو زجاجة العطر الموضوعة على طاولة الزينة يحاولن إفاقة حُسن وهو يقف بالخارج مصاحبا لجدته التي رمقته بنظرات متعمقة وهو يجي ويروح أمام باب الغرفة بالردهة الطويلة في قلق. وأخيرا طل برأسه لداخل الغرفة مستفسرا في ضيق يوحي بالقلق: كل ده ولسه مفاقتش!؟ أنا نازل أجيب لها دكتور.
هم بالفعل مندفعا ليحضر لها طبيبا إلا أن شهقتها المنتفضة جعلته يتوقف موضعه عائدا لباب الغرفة وهو يراها تحتمي بأحضان أمه باكية في قهر. ليشاركها الجميع حزنها بالنحيب إلا هو. لم يستطع أن يبقى موضعه فاندفع في اتجاه الباب ومنه لأعلى الدرج. وما أن وصل للسطح حتى توقف مستندا على سوره. كان يقف فوق شباك حجرته التي يصله منها نحيبها. ليشهق باكيا في وجع مماثلا لوجعها. لا يعلم. هل يبكي عم سالم صديق والده والذي كان يعتبره كأبيه!؟ أم يبكي حزنا على وجعها الذي ما كان يظن يوما أنه قادر على مشاطرتها إياه بهذا العمق!؟ إن للموت رهبة. وللفقد وجع. لكن هل من المنطقي أن يحزن لأجلها بهذا الشكل الذي يعصف بثباته كرجل في موقف كهذا!؟
لم يكن يملك الإجابة على سؤال معضل كهذا.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن
لم تعد تستطيع أن تتحاشاه أكثر من هذا. هي نفسها تتعجب من حالها. كيف لهذا الشعور المتنامي داخلها أن يدفع بها بهذا الشكل الجبري لتعترض طريقه بعد كل هذا البعاد!؟ إنها لا تعلم إلا أن عقلها وقلبها أمراها فأطاعت دون جدال. توقفت أمام موضعه فتطلع منتصر نحوها هاتفا بنبرة رسمية: أي خدمة يا آنسة!؟ اومأت مؤكدة: أيوه. هو فيه إيه!؟
تطلع نحوها وقسمات وجهه لم يفارقها الجدية. كانت تحمل طابع الصلابة على عكس ما وجدت منه داخل السيارة يوم أن أنقذها من قلب المظاهرة. هتف بنفس النبرة الثلجية: في أي مشكلة عند حضرتك!؟ همست متعجبة: حضرتك! منتصر أنا. قاطعها مشيرا لشيء مجهول لا تعرف لما أشار إليه هاتفا: أعتقد اللي انتِ بتسألي عليه هناك. يا آنسة. تطلعت موضوع إشارته. كان مبنى لكلية لا تمت لتخصصها بصلة من الأساس.
توقفت تتطلع نحوه من جديد وما أن همت بسؤاله حتى استأذنها راحلا. تعقبته حتى إذا ما وصلا لمكان منعزل نسبيا اعترضت طريقه من جديد هاتفة في حنق: بجد. كده كتير. طب حتى سبني اعتذر لك بشكل كويس عن اللي حصل لك بسببي. بدل ما أنت بتتجاهل وجودي بالشكل ده. وبدل ما أنا بجري وراك كده! توقف منتصر فجأة متطلعا إليها هاتفا في حنق مكبوت حتى لا يجذب الأنظار: انتِ فاكرة أن انا ببعدك عني عشان خايف على نفسي بعد اللي حصل!
زفر في حنق عندما لاحظ بريق دمع بعينيها الشقية والتي كانت نظراتها اللحظة على غير ما أعتاد هاتفا في هدوء مفسرا لما ينأى عنها مبتعدا: أنا بعمل كده عشان مكنش ينفع حد يعرف إن أنتِ البنت اللي أنقذتها فالمظاهرة. أولا عشان سمعتك. ثانيا عشان سيادة العميد لو اتعرف حاجة زي دي هايبقى احراج كبير له ولمنصبه. ابعدي عني يا آنسة بدور. وأنا لا عايز اعتذار. ولا بفكر فيه من أساسه. أنا كل اللي عايزه إنك تبعدي عني مش عشان أي حاجة إلا مصلحتك أنتِ.
دمعت عيناها هاتفة في ضعف لم يكن يوما من طبعها ونبرة متحشرجة مهزوزة: يعني أنت مش زعلان من اللي سببتهولك. عشان كده بتتهرب مني!؟ هز رأسه نافيا وقد أُخذ كليا بضعفها اللامعتاد والذي أثار مكامن الحنان داخله هامسا يحاول مشاكستها: لا مش زعلان. وحتى لو كنت زعلان يا ستي. ما تسبيني اتفلق. يعني أنتِ من أمتى بيهمك حد من أصله!
هتفت بابتسامة تحاول أن تئد دمعها قبل أن ينساب على خديها مشاكسة بدورها: مش للدرجة دي مبيهمنيش حد. يعني في شوية اهتمام كده مدكناهم للحبايب. قهقه هاتفا: طب الحمد لله إني مش فمعسكر الأعداء. وبابا مش هيوديني ورا الشمس. فاكرة!؟ قهقهت عندما تذكرت يوم أن أمسك بها هي وفريدة منذ أربع سنوات وهددته هي أنها ستجعل أبيها يرسل به وراء الشمس إن لم يتركهما.
وتطلع نحوها هامسا بلا وعي وضحكاتها قد اذهبت برزانته: وبقينا من الحبايب كمان أهو.
توقفت ضحكاتها وتطلعت إليه بدورها مصدومة من رده. همت بتوضيح ما تعنيه بالحبايب لكنه تركها مهرولا مختلطا بالطلبة من جديد مندفعا بخطوة سريعة في اتجاه بوابة الجامعة. لتتنبه من صدمتها محاولة اللحاق به لكن بلا جدوي. تريد أن تصحح له مفهوم الحبايب الذي تقصده. لكنها توقفت عندما تذكرت تأكيده لها على الابتعاد. وظلت موضعها تتطلع نحوه وهو يغيب لترتسم على شفتيها ابتسامة واسعة.
مر على بقائها هنا ثلاث ليال وها قد انتهى العزاء. عليها الرحيل فما عادت قادرة على البقاء بين جدران هذه الحجرة أكثر من هذا. حجرته هذه تذكرها بكل تفاصيله البعيدة المنال منها. لم يعد قلبها بقادر على تحمل وجع فوق أوجاع فراق أبيها الراحل.
نهضت من فوق فراشه الذي انتفضت لحظة أن وعت أنها تتمدد عليه. كان دخول حجرته والتطلع إلى كل ما يخصه حلم من أحلامها. وها هو الحلم وقد أضحى حقيقة في أحلك لحظات حياتها. يبدو أن المكتوب عليها دوما أن يخالط فرحها الحزن كتوأمه. تطلعت لأركان الفراش من جديد. ثم لأركان الغرفة في هوادة. لتسقط عيناها على المشجب الذي يحمل ملابسه. إحدى مناماته وبنطال من الچينز. وقميص سماوي. لطالما أحب ذاك اللون.
نهضت في خطوات متمهلة. ومدت كفها نحو قميصه تحتضنه في وجل. تدثر روحها بعبق عطره. ليعينها على اوقات البعاد التي تستشعرها قريبة جدا. لا تعلم لم! مدت كفها المرتعش تضع القميص موضعه واتجهت إلى النافذة تتطلع لموضع نافذة حجرتها بالنسبة لغرفته.
ابتسمت في حسرة. لقد كانت نافذتها في مقابل نافذته تماما عندما كان والدها به بعض من صحة ليختارا السكنى بالطابق العلوي لدارهما. لكن في السنوات الأخيرة عندما بدأت صحته تعتل فضلت الانتقال للطابق السفلي حتى لا يرهقه صعود الدرج. فكرت في تأجير الشقة العلوية لتعينهما على المعيشة. لكنه رفض حتى لا يدخل غريب على دارهما. خوفا عليها.
تنهدت من جديد وهي تتطلع للحجرة وقد اتخذت قرارها. سيكون اليوم بل الساعة هي أخر عهدها بحجرته. يكفيه ثلاث ليال بعيدا عن حاجياته. عليها العودة لبيت أبيها. طرقات على الباب جعلتها تنتبه لتدخل نعمة حاملة صينية من طعام ابتسمت ما أن شعرت بتحسن حال حُسن هاتفة: الحمد لله بقيتي أحسن أهو. ياللاه تعالي كلي. هتفت حُسن في نبرة يغلبها الشجن: مليش نفس يا نعمة. أنا الحمد لله كويسة. عايزة استأذن بس وأرجع لبيت أبويا.
ودمعت عيناها فلم تعارضها نعمة بل نهضت لتعود بشيماء التي هتفت في حزن: ليه يا كده يا حُسن! هو حد زعلك فحاجة يا حبيبتي!؟ خليكِ وسطينا. إيه اللي يرجعك البيت دلوقتي!؟
هتفت حُسن وغصة عالقة بحلقها: تسلمي يا خالتي. بس كتر خيركم لحد كده. وبعدين أكيد الباشمهندس محتاج أوضته. وحاجاته. كتر خيره. أنا هرتاح لما أفتح بيت أبويا. طاوعيني يا خالتي وحياة الغاليين عندك. ومتخليش المعلم خميس ولا الأسطى ناصر يزعلوا. أنا هرتاح كده. تنهدت شيماء مؤكدة: طيب يا حبيبتي. وماله. والله احنا اللي يهمنا راحتك. نعمة هتنزل معاكي عشان البيت لو محتاج تنضيف. أو ناقصه حاجة.
لم ترغب حُسن في المعارضة. فكل ما كان يعنيها اللحظة هو الرجوع لبيتها. خرجت تستند على ذراع نعمة وفتحت البيت ودخلت ونعمة في أثرها. ما أن وصل عبق الدار التي تحمل أنفاس أبيها الراحل لداخل رئتيها حتى انفجرت باكية. تتطلع لجوانب البيت وهي لا تدري كيف سيكون عليها التأقلم والعيش هنا وحيدة دونه. جلست على الأريكة التي كانت تحتل الردهة الكبيرة ونعمة تتطلع إليها في تعاطف تشاركها حزنها دمعا.
هتفت حُسن بصوت متحشرج: عارفة يا نعمة. يمكن ناس كتير تقولك. هو كان عامل لها إيه يعني. دي هي اللي كانت شيلاه. مش هو اللي كان شايلها. يمكن يكون كلامهم صح. ويمكن عمري ما حسيت أن أبويا فضهري وساندني. وده اللي خلاني أبقى حماية نفسي. وأخد حقي بأيدي. بس اللي ميعرفهوش. أن النفس اللي كان بيتنفسه جوه البيت ده. كان بيديني الأمان إني مش لوحدي. حتى ولو كنت متحامية بحد مش هيحميني. بس كفاية إني كنت واهمة نفسي ب ده. دلوقتي خلاص. حتى الأمان اللي كنت بوهم نفسي بيه راح. بقى مني للطل. ضهري مكشوف للدنيا. عريانة حتى لو كاسيني ميت توب. ربنا يرحمك يا عم سالم.
ارتفع نحيبها مصاحبا لنحيب نعمة التي تقدمت تحتضن رأس حُسن لصدرها تشارطرها حزنها. حمل سماحة ذاك الوعاء الفخاري المغطى باحكام في اتجاه يونس الذي كان جالسا في هدوء يتأمل الشمس الغاربة شاعرا بوحشة عجيبة تكتنف صدره.
ها قد جاء لنجع الحناوي بهدف نسيانها لكنه لا يفعل شيء إلا المزيد من التفكير في أسباب رفض سهام له. أسئلة كثيرة راودت عقله واجابات بلا حصر زاحمتها. وذاك الخاطر الذي تمنى أن يهدأ قليلا لم يفعل. بل زادت الفوضى داخل جنبات روحه. كأنه في خضم حرب ضروس لا يعلم لمن الغلبة فيها. لكن الأخطر أن الخصمين المتناحرين هما شطري نفسه. فأيهما المهزوم! وأيهما المنتصر! لم يكن هذا ليحدث فارقا. فبكل الأحوال. هو يرى نفسه خاسر.
تنهد بضيق لكنه تنبه لوجود سماحة هاتفا: خير يا سماحة!؟ فيه حاچة!؟ وضع سماحة حمله أمام موضع جلوس يونس مؤكدا: ده هدية من أم سماحة لچنابك. والنبي جبل الهدية. ابتسم يونس في شجن: عليه الصلاة والسلام. هدية مجبولة من يد ما نعدمها. بس يا ترى إيه ده!؟
لم يرد سماحة لكن يونس مد كفه رافعا الغطاء عن الوعاء الفخاري. متطلعا إلى محتوياته في تعجب وقد بدأ لعابه يسيل من الرائحة الشهية التي ملأت المكان: وااه. إيه ده يا سماحة!؟ ده رحته حلوة جوي. ابتسم سماحة دون أن يعقب بينما مد يونس كفه للملعقة وبدأ يتذوق الفريك المغطى بصلصة الطماطم والمدفون بداخله قطع من السمك. همهم في استمتاع هاتفا أخيرا: إيه العظمة دي!؟ تسلم يدك يا خالة سعيدة.
اتسعت ابتسامة سماحة منتشيا بينما أخذ يونس يتناول الطعام في مزاج عال. وهتف أمرا سماحة مشيرا لموضع قبالته: تعال مد يدك. هتخسر نص عمرك لو مدجتوش. أكد سماحة في أدب: بالهنا والشفا يا بيه. بس أمي حرچت علي وجالت لي البيه ياكله لحاله. محدش يشاركه فيه. هتف يونس معترضا: هاكل الطاچن كله لحالي! أكد سماحة هازا رأسه: ايوه يا بيه. ده علاچ چنابك. تطلع إليه يونس متعجبا: علاچ!؟ ومين جال إني عيان لا سمح الله!؟
أكد سماحة في ثقة: أمي هي اللي جالت. هتف يونس ساخرا: وچناب الداكتورة خالتي سعيدة. جالت لك عندي إيه إن شاء الله!؟ هتف سماحة في ثبات: جالت إن جلبك عليل. عشج ولا طلشي. واللي جدامك ده أچدع علاچ للجلب العليل بالعشج يا بيه. وضع يونس الملعقة من يده متطلعا إلى سماحة بحنق والذي وقف في ثقة ويونس يهتف به مهددا: أنت بتروح تحكي لأمك على اللي بفضفض لك بيه يا سماحة!؟
هتف سماحة في عجالة: لاه يا بيه. وحياتك ما حصل. هي اللي وعيت لحالك لحالها. لما سمعتك عشية بتغني ع السطح جالت لي البيه عاشج ودواه عندي. واهاااا الدوا. أني ذنبي إيه بجى!؟ تطلع يونس في سماحة لبرهة. استشعر صدق حديثه فمد كفه وبدأ في التهام الطعام بشهية كبيرة. هاتفا بفم ممتلىء لسماحة: عارف! حتى لو كنت جلت لها. أني مسامحك. واعي ليه!؟
هز سماحة رأسه نافيا ليستطرد يونس وهو يتلذذ بالطعام: عشان ندوج العظمة دي أولا. أما ثانيا بجى. عشان أنا كنت محتاچ الدوا ده جوي يا سماحة. محتاچة لدرچة إني ممكن أكل الطاچن نفسيه بس جلبي يطيب وبالي يرتاح. تطلع إليه سماحة مشفقا ما دفع يونس هاتفا به: روح ياللاه حضر لنا ركوة الشاي عشان بعد الأكلة التمام دي لازم لنا ياچي فنطاسين شاي تجيل نهضموا بيهم.
أكد سماحة في عجالة: حلا يا بيه. مسافة ما تخلص أكل هتكون أول كبابة شاي بجت فيدك. بالهنا والشفا. ابتسم يونس يستوقفه مؤكدا: عارف يا واد يا سماحة لو الوصفة دي نفعت. هعمل إيه!؟ هز سماحة رأسه نافيا ليستطرد يونس مازحا: هعمل براءة اختراع باسم الخالة سعيدة. واسمي الطاچن ده انساك يا سلام. انساك هو ده الكلام.
امسك سماحة ضحكاته منكسا رأسه أرضا. بيننا قهقه يونس في أريحية كعادته وعاود تناوله للطعام ليغادر سماحة من أجل تجهيز الركوة لصنع الشاي لهضم وصفة النسيان. فربما يكون فيها الشفاء للقلب العليل بحق.
تقدمت في وجل. تقدم قدم وتأخر الأخرى. لا تعرف ما عليها فعله. إنها المرة الأولى تماما التي تجد نفسها مدفوعة لفعل أمر ما دون أن يكون محسوبا بشكل دقيق من عقلها الواعي. لكن مجيئها إلى هنا كان قرار قلبها من الدرجة الأولى. هي تحاول أن تنكر ذلك. لكن كل الشواهد تكذبها. أصبحت على مشارف داره وقد سبقها عنتر بالفعل. وقفت أمام السياج المنخفض الذي كان يزين المكان أكثر من كونه حماية أو حاجز يمنع مرور أي من كان.
فكرت أن تقف حيث كانت تستتر في الأيام الماضية خلف هذه الشجرة العتيقة لكنها أيقنت أنه ما كان خافي عليه وجودها. وإلا كيف له أن يبعث لها بخطابه وهو علي يقين أنها ستجده وتفتحه. بالتأكيد كان يعلم بوجودها. لتصبح الآن في هذا المأذق الذي لا تحسد عليه.
مرت في اتجاه عنتر الذي كان يدور حول نفسه متعجلا هديته. طبق الخضروات والفاكهة الثمين. كان هذا التأخر في الظهور من قبل مروان مقصودا. كان يقف خلف الباب الخشبي يتطلع للفرس المتعجل وكذا لترددها في الدخول في استمتاع عجيب. ثم قرر الظهور فجأة بعد أن رأها تمر في اتجاه عنتر. انتفض قلبها بين أضلعها ما أن وعت دفعه الباب الخشبي معلنا عن خروجه.
لما تستشعر اللحظة أنها تريد الركض مبتعدة! لكنها على العكس من ذلك تسمرت موضعها عندما رأته يضع طبق الخضروات لعنتر الذي ألتهى فيه بسرعة. وكادت أن تفقد وعيها خجلا عندما نظر إليها مبتسما في أريحية هاتفا: أخيرا جيتي. قررت أن تكون حاسمة ولا مزيد من التلاعب من قبله. هذا يكفي. أكدت لنفسها في حسم ما دفعها لتهتف: فين الأمانة اللي ليا عندك!؟
اتسعت ابتسامته هاتفا في نبرة مشاكسة: بقى دي إزيك. عامل ايه! أنت كويس. مفيش حاجة فيك مكسورة كده ولا كده بعد الوقعة ال. لم يكمل كلماته وقد لاحظ اضطرابها وارتفاع الدماء لوجهها خجلا ليصبح بهذا اللون الوردي القاني ما جعله يصمت متطلعا لذاك الحسن الرباني سابحا في ملكوته. همت بالاندفاع مبتعدة إلا أنه هتف يستوقفها: آنسة A. مش دي بتاعتك برضو!؟
استدارت تطالعه ليقع ناظرها على سلسالها الفضي الذي يتأرجح منه اول حرف من اسمها أمام عيونه الشقية التي تبتسم اللحظة في عبث.
شهقت وهي تضع كفها تتحسس رقبتها. وتساءلت في تعجب. كيف لم تفطن لغياب سلسالها القريب لقلبها بعيدا عنها!؟ كان ذاك السلسال الفضي الذي يحمل تذكار لا يُنسى. هو الأعز على روحها فقد كان هدية والديها في عيد مولدها السابع. ألبسه لها أبوها بيده. وهي لم تكن تخلعه عن جيدها إلا فيما ندر. فقد كان يشعرها بالأمان والطمأنينة دوما. هل انشغلت إلى هذا الحد بحكايته ورسائله حتى أنها ما وعت لفقدانه!؟
اقتربت في وجل ومدت كفها قرب السلسال المتأرجح ليسقطه على كفها المفرودة في إشارة مبطنة لسقوطها هي لا سلسالها. بدأت في ارتدائه وهو يتطلع إليها في شغف لمتابعة كل حركاتها التي تصدر عنها في رقة متناهية. همت بالذهاب ليهتف بها في فضول: مقلتيش. حرف A ده دلالة على اسمك. اسمك إيه بقى!؟ تطلعت إليه في حياء هامسة باسمها: أية.
ابتسم فقد كان اسم على مسمى. كانت أية من السحر والرقة وهي تنطق اسمها بهذا الحياء الذي يربكه وهذه الرقة التي وقع أسيرها منذ اللحظة الأولى. مد كفه وقد اتسعت ابتسامته هاتفا: وأنا مروان. نتعرف بقى على حق ربنا. نظرت لكفه الممدود إليها رغبة في التعارف مترددة في مد كفها لمجرد سلام عابر. فهي تدرك أن كفها بين احضان كفه الرجولية تلك ستكون خطوة أخري نحو الخوض في قصة لا تعرف مداها.
لا تعرف هل هي تضخم الأمر! أم أنه كبير بالفعل وعليها القلق! لكن على الرغم من كل هذه الخواطر المتنازعة داخلها إلا أنها مدت كفها الرقيق الدقيق في اضطراب كان ظاهرا لأعينه الصقرية التي تتابع كل خلجات نفسها في فضول غير طبيعي.
كان نصف سلام. فقد مدت كفها للاقتران بكفه لكن قبل أن يتم التلاحم كانت قد جذبت كفها الدقيق في سرعة. لكن رغم ذلك. شعر بالتشبع. نصف سلام كان يكفيه وزيادة. كأنما كانت تعي تماما أنه لن يحتمل سلام كامل الالتحام بهذا الكف الذي يحمل رقة ونعومة صاحبته التي تتطلع اللحظة في اضطراب حولها. كأنما أدركت فجأة أن عليها الرحيل.
همست في عذوبة وهو ما يزال مأخوذا بها: عن إذنك. أنا لازم أمشي. وشكرا على السلسلة. دي غالية عليا قوي. مكنتش أعرف هعمل إيه لو ضاعت! هتف متعجبا: للدرجة دي!؟ واضح أنها من حد عزيز عليكِ قوي. لم ترد. واستشعر هو خليط عجيب من مشاعر حنق ممزوجة برغبة في فضول لمعرفة من العزيز المزعوم ذاك! لكنه حاول تجاهل هذه المشاعر هاتفا: أنتِ في كلية إيه يا آنسة أية!؟ واضح إنك لسه بتدرسي!؟
هزت رأسها وهتفت وهي على نصف استدارة تهم بالرحيل: أنا فنون جميلة. رايحة رابعة فنون جميلة. لمعت عيونه. كان عليه استنتاج ذلك. تلك الكف الرقيقة التي اسكره منها نصف سلام. لابد وأن تدرس الفنون الجميلة. والجميلة بشكل لا يقبل الوصف. ابتعدت خطوات هاتفة في عجالة أخرجته من شروده: عن إذنك. وشكرا مرة تانية. هتف في رعونة غير محسوبة: مش هشوفك تاني!؟
أدرات رأسها في دهشة نحوه. ولم تجب بحرف بل اندفعت راحلة في عجالة. ليظل ناظره معلقا بموضع رحيلها لبرهة حتى أنه ترك عنتر وحيدا يتناول ما بقى بالطبق حتى يحين موعد مجيء الخفير لأخذه كالعادة. فاقدا الشغف في البقاء بالخارج بعد مغادرتها. دلف للغرفة ليجد نفسه وقد أمسك بفرشاته يضرب بها وجه إحدى اللوحات. ليتركها فجأة جانبا. متطلعا لكفه التي تركت على باطنها أثر تحيتها. نصف سلام.
دخلت إلى بهو الفندق الفخم في تؤدة تتطلع نحو الموضع المتفق عليه للمقابلة الهامة. توجهت من فورها للموضع المعد مسبقا من قبل العلاقات العامة بالشركة. تأكدت أن كل شيء في موضعه بلا نقصان. كما أمرت بالضبط. جلست في انتظار ضيوفها والذين ظهروا لتوهم. لتنهض مرحبة في حفاوة.
جلس الجميع وما هي إلا لحظات حتى بدأ حديث العمل. وشرعت هي مع ضيوفها في تبادل الآراء التي تقاذفت في حماسة هنا وهناك. كانت الأمور على ما يرام. وحققت تقدم هائل صوب الهدف الذي تطمح له. كان رهانها مع أبيها أن تستطيع إقناع إدارة هذه الشركة بأمر ما خاص بالشراكة بينهما. ويبدو أنها في سبيلها لتحصل على رهانها.
إلا أن ذاك الخيال الذي مر على طاولتهم وذاك العطر الذي أيقظ الحنين من سباته الطويل داخل قمقم الذكريات المهملة جعلها ترفع ناظريها لمن مروا اللحظة جوار الطاولة. ليتبدل حالها تماما من النقيض للنقيض. غاب اللون من وجهها. وحل الشرود والتيه محل يقظتها وتركيزها الفائق. راحت فريدة المرأة الصلبة. لتحضر فريدة تلك المراهقة التي سمحت للعشق أن يحتل قلبها الغض ويفعل بروحها الأفاعيل.
نظراتها لنزار الغمري وتلك الحسناء تتأبط ذراعه أعاد لها ذكرى بعيدة تنكأ وجعا بحجم الكون داخل فؤادها الموصوم بعشقه المحرم. دنت الطرف من جديد على تلك الحسناء خارقة الجمال والتي لم تكن إلا زوجته. وابنة عمه. وحبيبته. شاهندة.
تنبهت لنداء أحد الحاضرين لها. والذي على ما يبدو لم يكن الأول. ابتسمت في دبلوماسية معتذرة. واستأذنت لبضع دقائق. اتجهت لحمام السيدات رغبة في استعادة رباطة جأشها والعودة لصورتها الصلبة من جديد. دفعت باب الحمام وتنهدت في قوة وهي تستند على حافة الحوض الرخامية.
تطلعت لوجهها بالمرآة وعقدت حاجبيها هاتفة لنفسها في عزم: إيه!؟ شوفتيهم مع بعض. إيه الجديد!؟ إيه اللي يخليكِ بالهشاشة والضعف ده!؟ لا. أنتِ مش كده. أنتِ تخطيتي المرحلة دي من زمان. مش هنعيده تاني يا فريدة. سامعة؟ هزت رأسها بالإيجاب لصوت عقلها وداعمها النفسي الوحيد في معركتها مع قلبها الواهن القوى أمام جحافل الحنين والشوق.
فتحت الصنبور الذهبي وغسلت كفيها في محاولة لتخفيف ارتعاشاتهما. وما أن انتهت وجذبت منديل لمسح يدها الرطبة حتى انفرج الباب عن محياها. تلك التي كان لها السبق للفوز بقلبه دونها. توقفت بدورها أمام أحد الأحواض وتطلعت لمحياها الساحر بالمرآة ودون أن تلتفت لفريدة همست بصوت ناعم أشبه بفحيح الحيات: أنتِ بقى فريدة الهواري!؟
استجمعت فريدة كل طاقة الصمود داخلها وردت بنبرة رسمية وعلى شفتيها ابتسامة باردة: ايوه. أنا فريدة الهواري. حضرتك تعرفيني. ودي حاجة جميلة. بس أنا متشرفتش!؟ استدارت لها شاهندة نصف استدارة وتطلعت نحوها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها هاتفة بنفس النبرة الرخامية: مش مهم تعرفي أنا مين!؟ برغم إني متأكدة إنك تعرفيني. ما هو مش معقول العشرة دي كلها مع نزار. ومتعرفيش مراته، وبنت عمه، وحبيبته!؟
وضغطت على أحرف كلمة حبيبته التي أخرجتها في بطء مريب من بين شفتيها وكأنما كانت تضغط على جرح سخين دب الورم والقيح بجذوره وأصبح المساس به دون مخدر أشبه باقتلاع جذور الروح من منبتها. لكنها رغم ذلك قاومت لتهتف بصوت ثابت النبرة شعرت بالراحة حينما استشعرته بهذه القوة: تشرفنا يا مدام. سلامي لنزار بيه. لولا ضيوفي. لكنت جيت سلمت عليه بنفسي. فرصة سعيدة.
وخرجت فريدة من الحمام في ثبات متجهة صوب طاولة ضيوفها. العجيب أنها رأت نزار يغادر طاولتها في اتجاه طاولته. ماذا كان يفعل بين ضيوفها يا ترى؟ لم تلق بالا للموضوع. فكان كل ما يؤرقها اللحظة هو استعادة تركيزها على إتمام ما جاءت من أجله. وليذهب نزار وزوجته الحقيرة تلك إلى الجحيم.
جلست على الطاولة مبتسمة لضيوفها وما أن همت بمعاودة النقاش الذي قُطع منذ دقائق حتى هتف أحدهم في بشاشة: إحنا اتفقنا خلاص. اتناقشنا لما غبتي شوية وخدنا فرصة نفكر في عرضك. وشوفنا إنه عرض جدير بالقبول فعلا. بلغي الباشمهندس حمزة موافقتنا. وتحديد موعد لإمضاء العقود. ابتسمت للمرة الأولى في سعادة من صميم قلبها. فقد حصلت على مبتغاها.
شكرتهم في حماسة لثقتهم الغالية التي ستكون في موضعها. وبدأوا في تناول الطعام والذي أخذت في تناوله بشهية تعجبت لها وتلك الابتسامة المنتصرة لم تفارق وجهها الصبوح. حتى أنها وبكل جرأة بادلت نزار التحية بإيماءة من رأسها عندما لوح لها مبتسما بكأس شرابه. ما اورث شاهندة حنقا لم يكن خافيا على محياها وهي تلقي بنظرة جانبية نارية لفريدة. تكاد تقتلها غيظا. لكن فريدة لم تكترث من الأساس وأولت جل اهتمامها لضيوفها حتى انتهت السهرة بنجاح.
أيام قلائل ويهل اليوم الموعود. سيُعقد قرانها على رجل غيره. ستكون زوجة لأخر. سيموت ذاك الأمل الذي يحييه للأبد. ستُزهق روحه مع كل حرف يكتب بدفتر المأذون مقربا إياها من رجل سواه ونافيا إياها قسرا من أيامه وأحلامه وأمانيه وحتى من ذاكرته التي لا يملك فيها خاطرا إلا وكانت هي سيدة الخاطر والوجدان. وأميرة كل الذكريات التي كان يجبر عقله على خلق ملف خاص بها وحدها. يخزن به كل ما يتعلق بهذه الزهرة التي أينعت أمام ناظريه مادة جذورها بأرض قلبه ومتشعبة إلى حيث روحه.
خرج من غرفته في آلية محاولا أن يهدئ من روعه مذكرا إياها بأن رحيله قد حان بدوره. بضع ساعات بعد عقد القران وسيكون خارج نجع الصالح يشق طريقا أخر بعيدا عن طريقها الذي أصبح معبدا لغيره بحكم شرع الله وسنة رسوله. مر سريعا بتلك الردهة الطويلة. لكن تسمرت قدماه غصبا عندما تناهى لمسامعه ضحكاتها المنتشية بالفرحة مصاحبة لضحكات أخواته من داخل حجرتهن.
كانت ضحكات صبوح تشي بسعادة فاضحة لا يمكن إغفالها. سعادة قلب عاشق أصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أمل حياته في وصل الحبيب.
تعالت الضحكات من جديد. ليندفع مهرولا يهبط الدرج في عجالة يتخبط في تيهه يرى عمال الفِراشة ومنظمي حفل عقد القران وكأنهم غربان بين ناعقة. وأحبال الإضاءة التي تمتد بطول السراي وعرضها. وكأنها مشانق مدلاه يرى عليها أحلامه وأمانيه تترنح في عذاب. لم يستطع المكوث للحظة أخرى. فخرج مسرعا يحاول إنقاذ البقية الباقية من ثباته.
دخلت نوارة إلى داخل بيت السليمانية متجهة لحجرة مكتب الدكتورة سميحة. طرقت على بابها في تأدب لكن ما من أحد بالداخل على ما يبدو. فلا إذن بالدخول جاءها. لكن رغم ذلك قررت الولوج للحجرة في انتظار الدكتورة سميحة. دفعت الباب وتوجهت لمقعد أمام المكتب وجلست في هدوء وهي تضع تلك اللفافة الأنيقة أمامها. تود لو عادت بها لتغسل ذاك الثوب من جديد مخلصة إياه من ذاك العطر الذي نثرته على طياته في لحظة طيش غير متعمدة. لا تعرف ما دهاها لتفعل ذلك!؟ تصرف احمق من شابة عقلانية تزن الأمور دوما بميزان التعقل والرزانة.
كانت تحمل اللفافة منذ وعت لخطأها الفادح كأنما تحمل كفنها على كفيها لتقدمه لأصحاب الثأر من أجل العفو والسماح. همت بالنهوض لتغادر ومعها اللفافة والتي ستضعها بالاستراحة حتى يحين موعد عودتها لتعاود غسيل الثوب من جديد. لكنها انتفضت ما أن تناهى لمسامعها نغمات قادمة من مكان قريب لم تعرف أين يكون. تطلعت حولها وقد بدأت تلك الأنغام تعلو في انسيابية ورقة. من أين يأتيها ذاك العزف الملائكي!؟
تجرأت ونهضت من موضعها تتلمس خطواتها تحاول أن تركز على مصدر الصوت حتى تصل لمصدر العزف. لم تكن يوما بهذا الفصول تجاه أمر ما. لكن اليوم هو الاستثناء الأول تماما. وقع ناظرها على ذاك الباب الجانبي الصغير والذي ما أن تخطته حتى سقطت عيناها عليه. لتنتفض كليا من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.
كان رائف يجلس أمام بيانو أسود ضخم في تلك الغرفة الصغيرة الملحقة بحجرة المكتب. البسيطة الطراز. والمخالفة تماما لهذه الغرفة الكلاسيكة الراقية التي يقبع البيانو في الركن المتطرف منها ويشغل باقي أركانها مكتبة متوسطة الضخامة وركن به أريكة ومقعدين وثيرين. كان الوضع لا يمكن تصوره وهي تراه اللحظة أشبه بأحد النبلاء وهو يعزف هذه المقطوعة الشجية والتي كانت تعشق.
كان لا يستهويها الأغاني كسجود. لكن هذه الموسيقى التي تهدئ من اعصابها كانت المفضلة على الإطلاق. ساعتها علمت لم يلجأ كثير من الجراحين العظماء لسماع الموسيقى وهم يجرون عملياتهم الجراحية الدقيقة.
همت بالعودة من حيث أتت. واستدارت بالفعل لتعود أدراجها قبل أن يكتشف وجودها. لكن ما أن همت بخطو أولى خطواتها متقهقرة حتى توقف العزف فجأة وهتف ذاك الصوت الرخيم والذي بات يوترها بشكل كبير: أظن محدش سمح لك بالدخول يا دكتورة. عشان تدخلي المكتب كده بدون إذن.
تسمرت موضعها لبرهة قبل أن تستدير لتصبح بمواجهة ظهره هاتفة بنبرة حاولت أن تودعها الكثير من الثبات: خبطت على الباب ومحدش رد. دخلت استنى الدكتورة سميحة. عشان أشكرها وأرجع لها الهدوم بتاعتها.
تنبه عند هذه النقطة واستدار لمواجهتها بدوره بعد أن كان يهمل الاستدارة نحوها أو ربما كان يتجنبها. فمنذ تلك الليلة التي سقطت فيها بالترعة. وهناك شعورا غامضا تجاه هذه المرأة يجعله ينأى بنفسه بعيدا عنها كليا. لا يدرك كنه ذاك الشعور. هو ليس نفورا أو حنقا. ربما بعض الفصول. والذي يتعجبه. فمنذ متى أثارت فضوله النساء اي من كن!؟
أشارت للفافة الموضوعة بغرفة المكتب على الطاولة المنخفضة ما استرعى انتباهه ليخرج من خواطره المربكة نحوها محاولا صب جل تركيزه على ما كانت تهتف به اللحظة هاتفا: معلش. أنتِ كنتِ بتشاوري على إيه!؟ أكدت من جديد وقد بدأت نبرة صوتها في الاهتزاز قليلا مع اقترابه ليستوضح ما تعنيه. كان قريبا منها من جديد. ليعاود عقلها بث تلك اللحظات التي كانت بينهما في الاستراحة ما دفع الدماء لوجنتيها في اضطراب.
هتف ببضع كلمات لم تدركهم. شعرت أن شىء ما قد صم اذانها لتهتف في ارتباك محاولة إنقاذ الموقف مظهرة أنها في قمة تركيزها هاتفة بكلمات عشوائية: أه. أنا مشفتهاش وقلت أسلم عليها.
تطلع نحوها ونظرات عينيه العميقة تلك تذهب بقدرتها الهائلة على التركيز أدراج الرياح هاتفا ونصف ابتسامة ارتسم على شفتيه أضاعت ما تبقى من عقلانيتها المعتادة: أنا كنت بقولك أنا هبلغها شكرك بالنيابة عنك. ردك ملوش أي صلة باللي جلته يا دكتورة. كان محق تماما. وكان عليها أن تحترم ذاتها وتلملم ما تبقى من ثباتها المبعثر وترحل في كرامة. بأنف شامخ كعادتها. هتفت في ارتباك: طب تمام. كويس. أرچع أنا الوحدة. عن إذنك.
ما أن همت بالاندفاع هاربة حتى تعلق كعب حذائها بأحد أطراف البساط الصوفي الممتد أرضا. ترنحت. لحق بها في سرعة. متشبثا بكفيها متنبها ألا يلمسها قدر المستطاع. يكفيه ذكريات تلك الليلة وهي ترتجف بين ذراعيه والتي ما زالت تؤرق مضجعه. لكن ما أن تمالكت نفسها أخيرا. حتى أصبح كلاهما وكأنه يتشبث بكفي صاحبه على ظهر سفينة تترنح في صخب بين الأمواج العاتية. اكفهما متلاحمة بقوة وكأنما أقسمت أن هذا هو ملاذها الأخير.
تطلع كل منهما للأخر في صدمة. كان رائف أول من قطع صمتها هاتفا في نبرة ساخرة: حوادثك كترت. أنتِ لازم لك غفير خصوصي يحرسك زي ضلك يا دكتورة.
انتزعت كفيها من أحضان كفيه واندفعت تغادر الغرفة في اضطراب تاركة إياه ينظر صوب الباب لبرهة قبل أن يحيد ناظريه صوب تلك اللفافة الرقيقة التي وضعتها على الطاولة هناك. تقدم منها وفتحها بيسر ليطالعه ذاك الثوب العزيز الذي اعارها إياه ليعود إليه محملا بالمزيد من الذكرى. ذكرى قديمة لم يندمل جرحها. وأخرى جديدة تحمل توقيع ذاك العطر الأثر الذي انتشر عبقه ما أن فتح اللفافة ليخترق جدار عزلته الذي فرضه القلب على حنايا الروح ويستقر هناك في رحابة ليجد الموضع والسكن.
لم تطأ قدماه شقة أبيه منذ دخولها إليها. كان يبيت ليلته ويقضي أيامه في شقة جده بالأسفل. لم يرها منذ أن حملها بين ذراعيه ليضعها على فراشه بدافع خفي لا يعلم منبعه من الأساس. منذ هذه اللحظة لم يدخل حجرته وقد علم الآن أنها أصرت على العودة لبيت أبيها بعد انتهاء أيام العزاء.
دخل غرفته وتطلع في كل أرجائها كأن أحد قد أبدلها بأخرى. تعجب من ذاك الشعور الذي اعتراه لمجرد بقائها في الغرفة لثلاث ليال شعر أن الغرفة تبدلت كليا. على الرغم من أنها حجرته بكل تفاصيلها وكما تركها يومها بالضبط. لم يتغير موضع حذاء أو تحرك كتاب على مكتبه. لكن. لكن ماذا. تقدم للفراش. فراشه الذي احتضن جسدها. مد كفه يتحسسه في وله عجيب. حتى أنه انتفض لمجرى أفكاره وخواطره.
هم بمعاودة لمس الفراش لتدخل أمه هاتفة به: يا نادر. أطلع أغير لك ملاية السرير وغطاه. وأنضف لك الأوضة قبل ما تنام فيها. هتف نادر وهو يولى أمه ظهره متشاغلا عنها. محاولا السيطرة على نبرة صوته. وكذا استيعاب تلك التغيرات المريبة التي يستشعر حدوثها مسببة فوضى غير مستساغة داخله: طب استني يا ماما. أنا أصلا هلبس ونازل. وخدي راحتك. هتفت شيماء مؤكدة: طب تمام. ناديني وأنت نازل بقى.
أومأ برأسه إيجابا وما أن رحلت أمه حتى أغلق الباب خلفها وتوجه نحو خزانة الملابس مبدلا ملابسه في عجالة. فقد كان على يقين أن أمر ما يحدث له بهذه الغرفة وعليه الرحيل منها وعدم العودة إلا بعد أن تزيح أمه كل أثر لها. وخاصة ذاك الأثر الذي تركته على فراشه. وقعت عيناه على الفراش من جديد ليكتشف شيء ما خافت اللمعان بين طيات الغطاء.
تقدم مادا كفه نحوه رافعا إياه أمام ناظريه وقد زم ما بين حاجبيه يتذكر. أين رأي هذا العقد الرخيص من قبل!؟ كان عقد ذهبي أو كان كذلك قبل أن يتحول لذاك اللون الرمادي بعد أن فقد بريقه. يتدلى منه مجسم على شكل مصحف. يبدو أنه يحمل شىء ما بين ضلفتيه المنغلقتين بشدة. تطلع للعقد في ريبة وهو على يقين أنه ملكها. فقرر أن يضعه بجيب سرواله حتى يعيده إليها إذا ما رأها في ذهابه أو إيابه.
اندفع من الحجرة كمن يطارده شبح ما. غير مدرك أنه يحمل التعويذة نفسها بجيبه. وما عاد هناك مفر من الهروب.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع
خرجت من الوحدة الصحية منهكة كليا في سبيلها للاستراحة. فقد أنهت لتوها بمساعدة الدكتورة سميحة ولادة كانت متعسرة منذ الصباح الباكر. وأخيرا مَنّ الله عليهن بالفرج. ووضعت المرأة طفلة جميلة. كانت ابتسامة الراحة ترتسم على محياها وقد استشعرت أنها ابلت بلاء حسنا في القيام بواجبها على أكمل وجه يدا بيد مع الدكتورة سميحة. التي اعترفت بنفسها أن لها الفضل الأول بعد الله في قيام هذه المرأة سالمة وطفلتها.
ما أن خطت خطوتين في اتجاه ذاك الطريق الترابي الطويل في اتجاه الاستراحة حتى ظهر سامر مبتسما في بشاشة: السلام عليكم. أزيك يا دكتورة!؟ النجع منور بوجودك. ابتسمت بدورها في دبلوماسية: الحمد لله يا باشمهندس. منور بأصحابه. هتف مازحا: يعني أطلع أنا منها!؟ لم تعي ما يقصد حتى هتف مؤكدا: طب أنا مش من أصحابه يا دكتورة. أنا من قرايب أصحابه ينفع.
تنبهت أنه يقصد أنه ليس من سكان النجع وإنما من زائريه مثلها. مجرد ضيف على أصحاب دار السليمانية. وتعجبت كيف يكون سامر بكل بشاشته تلك صديق ذاك العابس الذي تعتقد أنه لو ابتسم لتشقق وجهه من شدة عبوسه. كان سامر يسير جوارها يصحبها حتى الاستراحة. لم تكن تول الأمر اهتماما. بل كان عقلها مشغول بشخص أخر. والذي ظهر كأنما استدعاه خاطرها. ليظهر أمامهما متطلعا إليهما في حنق.
هتف رائف ممتعضا موجها حديثه لها: يا دكتورة إحنا هنا في نچع. مش ماشيين على كورنيش النيل!؟ المكان هنا ليه نظام لازم ناخد بالنا منه. أنتِ چاية فشغل مش عشان نتسامر. ولا إيه يا سامر!؟
هتف بسؤاله الأخير موجها حديثه نحو سامر الذي تصلب موضعه مبهوتا من هجوم رائف الغير مبرر عليهما بهذا الشكل. لكن نوارة ما كان لها أن تصمت وهي تراه يتجاوز معها في الحديث بهذا الشكل. لذا هتفت في حنق وبلهجة رسمية ونبرة حادة: حضرتك ملكش تقولي أعمل إيه ومعملش إيه!؟ ده لا يخصك. ولا ليك معايا كلام فيه من أساسه. الوحيدة اللي لها الحق ده هي الدكتورة سميحة. وكمان في حدود شغلي معاها وبس. أما فيما يخص الباشمهندس سامر. إذا كان عادي معاه طريقة التعامل دي ف ده يخصه. ويمكن تكون الجرابة اللي ما بينكم تخليه يسامح. لكن أنا مش ملزمة إني اتجبلها لأي سبب. عن إذنك.
اندفعت نوارة مبتعدة عن موضعهما وما أن وصلت للاستراحة التي كانت على بعد عدة خطوات مغلقة بابها خلفها بعنف حتى تطلع سامر نحو رائف ممسكا ضحكات متشفية كادت أن تنطلق من حلقه عندما حامت تلك النظرة القاتمة على محيا رائف والأشبه بنظرة سفاح قبل ارتكابه جريمته بلحظات معدودة. ما دفعه لينطلق مبتعدا. تاركا رائف يتطلع نحو الاستراحة التي يدرك تماما أن قاطنتها النارية الطبع لن تمرر الأمر مرور الكرام. بل ربما يصل إلى مسامع والدته. وهو يحاول أن يتجنب حدوث ذلك. لا يعرف لما. لكنه لا يحب أن يصل لوالدته ما يجري من معارك باردة بينهما.
تنهد في ضيق وهو لا يدرك لمَ يفعل ذلك!؟ لما هذه العدائية الشديدة في تعامله معها!؟
منذ تلك الليلة التي تشبثت فيها بأحضانه ذعرا. وفي عتمة الأجواء. أضاء داخله قبس من سراج لفرحة مشوبة بالقلق. لا يعلم لم الفرحة!؟ ولا يدرك على ماذا القلق!؟ لكنه يستشعرهما بقوة منذ هذه الليلة. وخاصة وهي بقربه. أو بالأخص كلما تعمد قربها. عليه أن يعترف أن هذه النوارة. أنارت بمحياها دروب البهجة بمدن روحه المقفرة منذ سنوات طوال. وعطرها الذي كان انيسه على الثوب المعار لها. ذاك قصة أخرى.
سار بقدم متثاقلة بعد اعترافه بهذه الحقائق دفعة واحدة حتى توقف أمام باب الاستراحة وما أن هم بطرقه حتى فتحت هي في عنف. تطلعت إليه لبرهة قبل أن تندفع للخارج وهي تحمل حقيبة يدها ومعطفها الأبيض. هتف بها متسائلا: على فين!؟ تجاهلته وهي تمر الجسر الخشبي في هوادة فتجربة واحدة للسقوط كفيلة بجعلها تنتبه قبل أن تخطو خطواتها عليه. تعقبها مستطردا: عربيتك لسه موصلتش!؟
أكدت وقد عبرت الجسر بسلام تمد الخطى متجاهلة الوقوف والنظر إليه لتحادثه بل إنه ظل كمن يعدو خلفها وهي تهتف في ثقة: هاخد أي عربية من ع الطريج. مهياش حكاية يعني. قطع عدة خطوات دفعة واحدة ليسبقها معترضا طريقها هاتفا: مش هيحصل. هتستني عربيتك يا إما هوصلك أنا. توقفت تتطلع إليه بنظرات نارية هاتفة في هدوء مريب: ده أمر. ولا إيه بالظبط!
تنهد مؤكدا: لاه يا دكتورة مش أمر. اعتبريه رجاء. مينفعش تخدي أي عربية من ع الطريج الساعة دي. أنتِ تعتبري أمانة. هتفت في حنق مندفعة في طريقها: محدش أمنك عليا يا رائف بيه. وأنا أجدر إحمي نفسي كويس. عن إذنك. اندفعت عنه مبتعدة. كان يعلم أن هذه الرأس المتحجرة لن تلين. لذا تركها مندفعا ليحضر سيارته لاحقا بها. وما أن خرج للطريق باحثا عنها حتى ابصرها تركب سيارتها التي وصل بها عبدالباسط منذ لحظات.
ضرب على المقود في غضب فهو يعلم تماما أنها قد لا تعود بعد فعلته المتهورة. ما الذي دفعه لهذه الحماقة!؟ هو لا يدري. كل ما كان يدركه لحظة أن رآها تسير في أريحية جوار سامر أن شىء ما أطبق على أنفاسه. ولم يهنأ إلا بعد أن أطلق سهام حنقه في وجهيهما ليورثه ذلك ندما. وقلقا على رد فعلها وموقفها حيال الأمر. هل تراها تعود!؟ عليه أن ينتظر. ليرى.
تطلعت للمبرد. كان على الرغم من امتلائه بعد أن استهلكت بعض ما كان به طوال الفترة الماضية لكنها ما زالت تستشعر عدم الأمان. لقد ملأ المعلم خميس وعمها ناصر المبرد والبيت بكل ما قد تحتاجه ووجدت كل ما هي بحاجة إليه متوفر دون أن تطلب.
كانا على علم أنها لن يكون بمقدورها النزول وفتح ورشة أبيها بعد وفاته بأيام. لكن يبدو أن حتى رفاهية الحزن ما عادت تملكها. وعليها الخروج من تلك الشرنقة التي اصطنعتها لنفسها الفترة المنصرمة. مدت كفها تتناول جوالها القديم ودقت على رقم ما هتفت به ما أن رد صاحبه: محروس. أنا نازلة أفتح الورشة دلوقتي. هتكون معايا ولا أدور على عمال تاني!؟
هتف محروس بحماسة: لا يا ست الكل معاكِ طبعا. خلينا نرد شوية من جمايل الأسطى سالم علينا. الله يرحمه. أكدت في نبرة حازمة: طيب. انا نازلة افتح الورشة وهستناك. ولو قدرت تجيب معاك عامل ولا اتنين يبقى كتر خيرك. عندنا شغل متأخر كويس إن أصحابه صبروا عليه لما عرفوا بالظروف ومش عايزين نقصر معاهم. هتف محروس: ربنا يسهل واقدر أجيب حد يساعد. ومتقلقيش بعون الله سداد.
هتفت في نبرة رسمية: تسلم يا محروس. ده العشم برضو. ياللاه متتأخرش. سلام. أنهت مكالمتها مع محروس ووضعت غطاء رأسها على عباءتها السوداء ومدت كفها تتناول مفتاح الورشة. تنبه ناصر لها وهي بطريقها لورشة أبيها فهتف بها متعجبا: على فين يا حُسن!؟ فتحت باب الورشة بالفعل وردت على ناصر: بفتح ورشة أبويا يا اسطى. فيه شغل متعطل ولازم يخلص.
تقدم منها ناصر هاتفا: اقعدي معززة مكرمة فبيتك ونجيب عمال يخلصوا الشغل بدل وقفتك وسطهم. وبعدين. هو إحنا قصرنا معاكِ فحاجة!؟ ابتسمت حُسن في شجن: لا والله ما قصرتوا أبدا. بس لحد أمتى!؟ كتر خيركم على كده. ومتقلقش يا أسطى. أنا بميت راجل. أخلص بس الطلبية اللي كان المفروض يسلمها المرحوم وبعدين أبقى أشوف الظروف.
تنهد ناصر ولم يعقب. لكن بداخله إعجاب لهذه الفتاة التي تقف بكل تلك العزة والكبرياء. رافضة أن يمد لها يد العون شفقة على حالها. عاد ناصر لورشته. لتعاود حُسن ترتيب بعض الأمور داخل ورشة أبيها لحين وصول محروس وبدء العمل الذي تشربت أسراره من كثرة مخالطتها لأبيها في أوقات عمله.
تنبهت أن القهوة ما زالت تبث آيات القرآن الكريم احتراماً لرحيلها الغالي. فاندفعت باتجاهها تطلب كوب من الشاي وتلقي التحية على المعلم خميس. الذي استقبلها في ترحاب متعجبا وهي تمد كفها تحول قناة المذياع هاتفة: ما تفتح لنا حاجة يا معلم. سلطن الزباين. تطلع لها هاتفا: ليه كده يا حُسن. برضو الأصول عشان أبوكِ.
هتفت حُسن مقاطعة: أديك قلت أبوكِ. وبعدين القرآن عايز اللي يسمع له يا معلم. والزباين جايين يفرفشوا بكلام ولعب طاولة. يعني الأغاني أحسن. تنهد خميس وقد اقتنع بوجهة نظرها وما أن همت بإلقاء التحية متجهة من جديد نحو ورشتها حتى اصطدمت بنادر وهو في طريقة لداخل القهوة مهرولا. تراجع خطوات متطلعا نحوها. كانت المرة الأولى التي يراها منذ فترة. تقريبا منذ تركت حجرته لدار أبيها.
ما الذي يعتريه اللحظة ليقف هكذا كالمصلوب لا ينطق بحرف في حضرتها! تحركت هي مندفعة في اتجاه الورشة التي وصلتها تحاول التشاغل عن مشاعرها المبعثرة كحبات العقد التي انفرط عقالها. وخاصة وهو يقف كالمشدوه هناك وتلك الأغنية لصباح تنساب كلماتها فيما بينهما. متواطئة لفضح مشاعرها وتعريتها أمام ناظري قلبه. لعله يدرك: عاشقة وغلبانة والنبي. عاشقة وتعبانة والنبي. مقدرش أفوته والنبي.
ده أنا كل حتة فتوبي. دايبة. دايبة. دايبة فهوى محبوبي. مدت كفها لبعض الأدوات وأدعت العمل على بعض القطع. ولم تشعر إلا والدموع تنساب رغما عنها. فقد نكأت كلمات الأغنية جرحا حيا لن يندمل ما حيت. محدثه يقف هناك يتطلع إلى حيث موضعها. ولا يحرك ساكنا.
وصل حازم وتسبيح وبدور لسراي الهوارية ليستقبلهم الجميع بالترحاب. كان لابد لهم من القدوم لحضور عقد قران زهرة. وكذا حمزة وفريدة مع اعتذار هدير لتظل مع أبوها زكريا. فلم يكن عليه من السهل الحضور كل هذه المسافة. مع وعد بالحضور عند تحديد موعد الزفاف. اجتمع الفتيات في حجرة سجود ونوارة والعروس زهرة التي كانت متزينة على أجمل ما يكون. تشع بهاء وسعادة.
اندفعت بدور توصل هاتفها بإحدى السماعات المكبرة للصوت وضغطت على إحدى الأغاني هاتفة في حماسة: ايه احنا هنقعد كده ولا إيه!؟ ياللاه انتِ وهيا. عايزين نخلي العروسة تحرم تجبنا في فرحها. انفجرت البنات ضاحكات. لتندفع بدور جاذبة شال تزمه حول خصرها لتبدأ في التمايل والفتيات يصفقن في جزل. هتفت فريدة مشجعة: لسه مفقدتيش مهاراتك يا بدور. والتطور واضح.
قهقهت الفتيات على تعليق فريدة العملي بشكل ساخر. تعليق يصلح لجو المكاتب. أكثر من كونه تعليقا على رقصة. جذبتها بدور لتشاركها لكنها تمنعت في خجل مكتفية بالتصفيق. بينما نهضت سهام لتبدأ الحجرة في الاشتعال حماسة لنزول منافس لبدور لا يقل مهارة عنها. حاولت سهام جذب سمية لتشاركهن لكنها هتفت لسهام: أنتِ بتهزري. أرجص إيه!؟ والله الشيخ مؤمن لو عرف ليجطع رجبتي.
أكدت سجود مطمئنة: ومين هيروح يجول له يعني!؟ احنا بنات في بعضنا. ياللاه جومي. اضطربت سمية تهز رأسها رفضا إلا أن بدور كانت الأسبق على جذبها بعد أن شعرت بالتعب وقررت استبدالها بأخرى حتى تظل حلبة الرقص عامرة.
شهقت سمية في خجل وهي تقف أمام الفتيات المشجعات بالتصفيق لها. وسجود اندفعت تضع شال حول خصرها لتبدأ في التمايل على استحياء. حتى زال الخجل رويدا. لتظهر مواهبها الدفينة التي أبهرت الجميع. ما جعل الفتيات يعلقن في تعجب: وتجولي مبتعرفيش!؟ أه منك. تطلعت نوارة نحو دعاء التي كانت تجلس في أحد المواضع في عزلة هاتفة بها: ايه يا دعاء!؟ مش ناوية تيجي ولا إيه!؟
ابتسمت دعاء في هدوء مؤكدة: أچي فين يا دكتورة!؟ خلي اليوم يعدي على خير. السرايا جديمة متستحملش الزلزال اللي انا هعمله لو فكرت أهز لي هزتين. قهقهت البنات على تعليق دعاء التي شاركتهن الضحك في تسامح مع النفس لتؤكد عليها زهرة في رجاء: ياللاه يا دعاء. ورينا المواهب بقى. مفيش واحدة هاتخرج من هنا من غير ما ترقص.
تنهدت دعاء وهي تنهض متجهة لوسط الدائرة التي صنعتها البنات لمجلسهن وهتفت ساخرة وسمية تمد لها يدها بالشال الذي كانت تضعه حول خصرها: شال إيه اللي انتوا چيبنهولي ده!؟ أنا عايزة ملاية اربطها على وسط البلد ده. قهقهت الفتيات على مزاحها وهي تربط أحد الشالات على خصرها الممتلئ وصدحت الموسيقى التي اختارتها. وبدأ السحر.
شهقت الفتيات ما أن بدأت دعاء رغم جسدها الممتلئ بالنسبة لبعضهن في التمايل برشاقة على انغام الموسيقى. ارتفعت حماستهن وعلا تصفيقهن. وهتفت بدور مبدية إعجابها مازحة: أيوه يا دوعة يا جامد يالقوي. علت ضحكات البنات. إلا أن نوارة مالت نحو سجود هاتفة: أنا رايحة أطل على عاصم اشوفه خلص تجهيز شنطته لسفره النهاردة. يمكن يكون عايز مساعدة. وأمك مشغولة فالتحضير للكتاب مع باقي الستات تحت.
هزت سجود رأسها متفهمة وهي مندمجة مع رقص الفتيات تصفق في استمتاع ولم تدرك إحداهن أن سمية كانت بالقرب حتى أنها سمعت كلامهن. لتنهض وقد استشعرت دوارا عجيب يكتنف قلبها. متى قرر السفر!؟ ولم لم تدرك إلا اللحظة مصادفة!؟ وهل كان سيسافر دون أن تودعه حتى!؟ لم يا عاصم!؟ نهضت تستأذن في هدوء لا يتفق مع ذاك الوجع الذي يمور داخلها كبركان.
ما أن خرجت من الغرفة حتى انسابت دموعها رغما عنها وهي في سبيلها للرحيل إلا أن القدر كان رحيما بها لتلتقيه وجها لوجها وهو في سبيله لحجرته لإعداد حقيبة سفره وإلقاء نظرة أخيرة على محتوياتها. هتف ما أن رآها: ازيك يا سمية!؟ مالك. إيه في!؟ في حد زعلك!؟
هزت رأسها نفيا. لكن ما أن رفعت ناظريها نحوه حتى زاد نحيبها واندفعت هاربة من أمامه. حتى أنه تعجب مما فعلت. لكنه لم يلق للأمر بالا. وتوجه نحو حجرته يحاول أن يتجاهل ذاك المرح القادم من داخل غرفتها.
جلس أمام حاسوبه وبدأ في الكتابة بقلبه قبل أصابعه تلك المشاعر التي يجيش به صدره اللحظة: في الصدر فؤاد يحترق قهرا. حبك ونبضه بعضا من هشيمه المتطاير. وزيله شيخ العاشقين. إلا أنه وقبل أن يضغط زر النشر انتفض فجأة ما أن اندفعت أخته نوارة لداخل حجرته ليزعق في سخط معاتبا: - حد يدخل كِده من غير استئذان يا دكتورة!
هتفت به نوارة في حنق: استئذان!؟ اومال الخبط اللي كان ع الباب ده ومردتش كان إيه!؟ ده أنا اتخضيت عليك والله. هتف وقد هدأت حدة نبرته: حصل خير. كنت سرحان شوية. هتفت نوارة تحاول أن تخفي تأثرها برحيله: ظبطت شنتطك ولا محتاچ مساعدة. هتف عاصم مؤكدا: كله تمام يا دكتورة. المهم. أنا عايز أوصيك على چدي. خدي بالك منيه يا نوارة. وأي حاچة جوليلي. أوعي تخبي عليا.
هتفت نوارة في هدوء: حاضر يا شيخ عاصم. بس أنت خلي بالك من نفسك. وحاول تنسى يا عاصم. خلاص مبجتش بتاعتك. ولا ليك. تنبه عاصم نحوها منتفضا هاتفا في اضطراب: أنتِ جصدك إيه!؟ تنهدت نوارة. تلك التي لم تكن تعطي بالا لمشاعر الهوى. مؤكدة في شجن: أنت عارف أنا اجصد مين يا عاصم.
ومدت كفها لحاسوبه الذي أمال شاشته قليلا عندما اندفعت للحجرة مشيرة نحو كلماته على شاشة الحاسوب والتي لم يكن قد نشرها بعد. هاتفة: ده اللي اجصده يا شيخ العاشجين. اضطرب عاصم. لتستطرد هي مقتربة من أخيها رابتة على صدره في حنو. هامسة: محدش يعرف غيري. يوم ما استلفت منك اللاب مكنتش غادرت الصفحة وشفتها. ربنا يعينك على جلبك. ابتسم عاصم هاتفا في شجن: ومن ميتى ليك في حكاوي الجلوب يا نوارة!؟
همست نوارة في شجن مماثل: نوارة لها جلب يا عاصم. بس عمري ما هخليه يتحكم فيا. عارفة إنه مش بيدنا. بس أنا هخليه في يدي. هتف عاصم متحسرا: يا ريت نجدر. مكنش حد غلب. وابتسم منهيا حوار الشجن هاتفا: ربنا يبعت لك واد الحلال اللي يستاهل جلبك. وربنا يعينه. قال كلمته الأخيرة مازحا لتتطلع إليه نوارة بنظرة حانقة قبل أن تنفجر ضاحكة.
غادرت الغرفة تاركة إياه ليعود أمام حاسوبه من جديد. ضاغطا زر النشر متطلعا لصفحة الحاسوب وقد انكشف سره. مر النهار وهم على ما هم عليه داخل أرض جده الزراعية التي قرر الاعتناء بها بعد كثير من الإهمال واستغلال المستأجرين بلا عائد مادي يذكر. اعتدل من انحنائه يمسح قطرات العرق المنسابة على جبينه. ليتنبه لسماحة الذي كان يتجادل مع رجل ما يبصره على البعد.
اندفع في اتجاه موضعهما مقتربا. وما أن أصبح على وشك الوصول هتف بسماحة في تعجب: ايه في!؟ توقف كلاهما مع وصول يونس ليهتف سماحة في حنق: البيه عايز ياخد المية لحاله كن مفيش حد غيره عيسجي زرعته غيره. هتف الرجل في محاولة للتبرير: ده دورنا فالرية. انت بتجول شكل للبيع ولا ايه!؟ هتف يونس في مهادنة: خلاص. فضيناها. و قاطعه سماحة حانقا: فضيناها كيف يا بيه!؟ م.
هتف يونس يقاطعه في حزم: خلصنا. فضيناها. ياخد دوره ونبجوا احنا نرووا وراه. وأشار يونس للرجل في هدوء: روح يا واد عمي شوف حالك. وخلينا نشوفوا حالنا. هتف الرجل ممتنا وهو ينظر في استعلاء لسماحة: تسلم يا يونس بيه. اندفع الرجل راحلا يراعي مصالحه تاركا سماحة يغلي غضبا وهو يضرب وجه الأرض بفأسه دون أن يول يونس اهتماما ما دفع يونس ليهتف مستفسرا: هو ايه في!؟ من ميتا لينا فالعراك ووچع الراس يا سماحة!؟
اعتدل سماحة حانقا: إلا مع ولاد المحروج دول. هتف يونس مستفسرا: ليه!؟ ده أنت بتتكلم كن بينك وبينهم تار. اضطرب سماحة مؤكدا: لاه. تار إيه يا بيه لا سمح الله! بس ولاد نچم دول. ضلالية وياكلوا مال النبي. ابتسم يونس هاتفا: وانت ايش عرفك!؟ أكد سماحة: يعني هعرف منين يا بيه!؟ أهي الناس بتجول. وكلمة من هنا على كلمة من هناك. أهو بنعرف اللي فيها. أكد يونس: متخدش في بالك من كلام الناس. الناس مبتبطلش كلام من أساسه.
ياللاه شد حيلك خلينا نرچعوا. أنا چعت وشكل الخالة سعيدة عملانا طبخة زينة ترم البدن. ابتسم سماحة مؤكدا: معلوم يا بيه. ده هي متوصية ع الأخر. بالهنا والشفا. تنبه سماحة أنه لم يطلب طاجن السمك بالفريك منذ أخر مرة تناوله. فهتف به مستفسرا: متوحشتش طاجن السمك يا بيه! قهقه يونس: إن چيت للحج يا سماحة. اتوحشته جوي. أكد سماحة بنبرة متحسرة: كن علاچ أمي ملوش عازة! أكد يونس مقهقها: تصدج نفع.
هتف سماحة في انشراح: وااه. بتجول الحج يا بيه!؟ أكد يونس في هدوء: بجالي فترة في حالة غريبة. لا عارف ده كويس ولا لاه. بس اللي بجي فارج معايا مش إنها رفضتني. اللي فارج بچد هي رفضتني ليه!؟ بس لما جعدت أفكر شوية جلت لنفسي مهما كان السبب. هو إن ربنا مش رايدها من نصيبي. جلبي وچعني اه منكرش. لكن اللي حاسة دلوجت إن خلاص أنا.
صمت ساد لبرهة قبل أن يستطرد مؤكدا: مش عارف أنا إيه!؟ بس أنا أحسن يا سماحة. أحسن بكتير. الظاهر طاچن الخالة سعيدة له العچب. انشرح سماحة ولم يعقب بحرف ليهتف به يونس: ياللاه بينا. العتمة داخلة. خلينا نرچع نشوفوا حالنا. وأكل الخالة سعيدة اللي ريحته واصلة لحد هنا. اتسعت ابتسامة سماحة منحنيا يلتقط فأسه سائرا خلف يونس الذي اندفع في اتجاه دار جده.
كان قدومها إلى النجع فكرة موفقة. على الأقل ابتعدت قليلا عن كل تلك الأماكن التي تراه بها ولا يمكنها أن تقربه. فما عادت كرامتها تحتمل مثل هذا التجاهل من قبله. فليكن. حتى ولو كان هذا من أجل صالحها لكن ليس بهذا الشكل القاسي والعديم اللياقة. اشعارها أنها هي التي تركض خلفه جعلها تشتعل حنقا. فلم يخلق بعد من هو قادر على كسر كبريائها أو جعلها تتذلل من أجل علاقة لا رغبة له فيها.
حتى عندما قررت هي إظهار عدم الاهتمام. اختفى هو في ظروف غامضة. لا تعلم اين تراه يكون. ما اضطرها لتسأل صديقتها لتستفسر من خطيبها عنه. لتدرك أخيرا أنه في إجازة. سارت بمحاذاة الترعة التي كانت تقطع النجع من أوله حتى أخره. ولامت نفسها أنها تفكر فيه من الأساس. فهي هنا لكي تنسى كل ما يتعلق به.
لكن عاودها التفكير فيه من جديد قسرا. لماذا ظهر بحياتي!؟ هكذا تساءلت. كانت بالمنصورة على وشك التخرج. لما انتقلت للقاهرة كي تقابله بعد كل هذه السنوات!؟ هاجس ما داخلها يخبرها أن قدر ما قد يجمعهما. لكن كيف لذلك أن يحدث وهو يدفع بها بعيدا عن طريقه!؟ أي قدر ذاك الذي يمكن أن يجمع شخصان لا يتقاطع طريقيهما!؟
تنبهت لحركة قريبة. اعتقدت أنها أحد الحيوانات المربوط بحكم العادة لإحدى الأشجار. لكن فجأة ظهر أمامها ذاك الفرس الذي توقف قبالتها نافرا في قوة محركا رأسه الضخم لتتراقص غرته لتفزع هي معتقدة أنه يستعد لمهاجمتها فانتفضت في ذعر تركض مبتعدة. لكنه لم يدعها بل استمر في الركض خلفها. لتزيد من سرعتها. ترغب في الصراخ أو النداء على أحدهم لإنقاذها لكن بلا جدوى. فصوتها محشور بحنجرتها ولا سبيل لديها إلا الركض كالمجذوبة التي يتعقبها أطفال القرية بالحجارة والضحكات الساخرة.
وصلت أخيرا لذاك السور المنخفض واندفعت من شق طولي به لداخل تلك الأرض التي تحيط بدار ما. وقفت تلتقط أنفاسها في تتابع محموم معتقدة أن ذاك الوحش قد تاه عن طريقها وما عاد يركض بأعقابها لكنها كانت مخطئة فها هو وقد علم مكانها وتسلل مثلها من ذاك الشق الطولي وكأن أحدهم يخبره بموضع اختبائها. ركضت من جديد بلا هدى.
لكنها فجأة اصطدمت بأحدهم لتشهق في ذعر. رفعت رأسها للحظة محاولة الاعتذار عن اقتحامها باحة المنزل بهذا الشكل وكذا تقديم العذر المناسب لذلك وهو تعقب ذاك الفرس الجامح لها. لكنها شهقت من جديد في صدمة أكبر ما أن وجدت ذاك الذي كان يحتل مخيلتها منذ دقائق كما أحتل أحلامها في منامها وتفكيرها في يقظتها. هتفت في نبرة متقطعة: منتصر! تطلع إليها في وجل ونظراته تحمل مشاعر مختلطة معجونة بشوق هائل لها.
انفجرت باكية فجأة لا تعلم ما دهاها لتبكي هكذا بهذا الشكل المقهور ما أن وقعت عيناها على محياه!؟ نحيبها علا وجبينها مستند على قائم صدره. كأنما لو ابتعدت لحظة لسقطت من فورها. كانت ذراعاه متصلبة جوار جسده لكنه في لحظة ضعف رفعها قليلا رغبة في ضمها إليه موقنا أنه ما عاد قادرا على تجاهل مشاعره التي تفتك به منذ قابلها من جديد. كان يحاول التباعد قسرا لكن قلبه وروحه التي تهفو إليها كان لهما رأيا أخر مغايرا تماما عن صوت تعقله الذي جعله يخفض كفيه لتسقر على جانبي جسده من جديد.
همس محاولا بكلماته إبعادها عن صدره الذي حفر جبينها فيه دروب من أزهار وحنة: يعني يا ربي سبتلها القاهرة بحالها عشان أهرب منها ألاقيها محصلاني على هنا!؟ طب اهرب منها أروح على فين بس!؟
أبعدت جبينها في هوادة ورفعت عيونها الدامعة نحوه فترنح قلبه كالسكير أمام سطوة الدمع ولم يشعر إلا وهو يمد كفه التي استطاع السيطرة عليها سابقا لكنها خذلته هذه المرة لتمح خط الدمع الذي شق دروب الخد الوردي. لتهمس هي بصوت متشنج مرتبك الأحرف: سبت القاهرة بسببي!؟ للدرجة دي مش ط. هتف في شوق مقاطعا: وحشتيني. شهقت ولم تعقب بحرف ليستطرد: جيت هنا عشان اصبر نفسي. بس خلاص مبقاش عندي طاقة أبعد. همست في صدمة: هااا.
أكد في نبرة أنبأتها بمكنونات قلبه: بحبك يا بدور. هتفت في صدمة أكبر: أنا!؟ بتحبني أنا!؟ أكد مبتسما وعيناه لا تفارق محياها المصدوم: أيوه أنتِ يا غلباوية. طلعتي عيني ووجعتي قلبي. هتفت من جديد غير مصدقة: أنا!؟ أنت بتهزر صح! قهقه متسائلا: هو سيادة العقيد معاكِ هنا مش كده!؟ هزت رأسها في تيه مؤكدة. ليستطرد مؤكدا: طب انا هعدي عليه بكرة بإذن الله. هتفت مستوضحة في بلاهة: ليه!؟
ابتسم هاتفا في سخرية: تفتكري ليه!؟ عنده واحدة مجنونة عايز أخلصه منها وأبتلي نفسي بها. شهقت في فرحة ليهتف متطلعا إليها في عشق: تفتكري توافق!؟
تطلعت إليه ولم تعد تدري يمناها من يسراها فما كان منها إلا الاندفاع هاربة تعود أدراجها بعد أن اختفى الفرس الاشهب الذي كان يتعقبها والذي تمنت اللحظة لو توسعه عناقا وقبلات لأنه كان السبب في هذا اللقاء الذي جعلها تطير اللحظة على السحاب سعادة. فغدا. سيأتي إليهم لخطبتها. غدا يوم تحقيق الأحلام. تنهدت في فرحة غامرة وهي تضع كفها على صدرها تربت في حنو على ذاك القلب الذي يكاد يقفز من بين الضلوع فرحا. ليهدأ ويستكين حتى تحين لحظات السعادة الحقة بقربه أخيرا.
تعالت الزغاريد تضج بها جدران سراي الهوارية فقد تم عقد القران لتصبح زهرة شرعا وقانونا حرم الدكتور محمد عزام. ارتفعت الأصوات بالتهنئة مصاحبة لمزيد من الزغاريد. وتاهت بين هذه وتلك آهاته وأوجاعه وهو يتطلع إليهما اللحظة. تجلس هي جوار زوجها في فرحة لا يمكن أن تصفها أحرف الكلم. حتى هو. محمد زوجها كان رغم وقاره لا يستطيع إخفاء فرحته بالمثل. إنه لا يلمه. وكيف ذلك وقد أضحى زوج تلك التي كانت ومازالت بمثابة حبة العين وشغاف القلب! لقد أمتلك الغالية والنفيسة وفاز بالزهرة الندية. هنيئا له. وتعسا لي.
تسلل في هدوء صاعدا لحجرته يتمم على أغراضه ويتأكد من جاهزية حقائبه. يفعل ذلك في آلية وتيه تام لا يدرك ماذا وضع داخلها أو ماذا خفف عنها. فما عاد يهمه من الأساس. تحدوه الرغبة في تلك اللحظة إلى ترك كل شيء خلفه حتى حقائب الهم تلك. والرحيل خال الوفاض حتى من ذاكرة وجيعته. لكنه يعلم أنه حتى لو ترك حقائب الأغراض فمن يزيح عن كتفيه حقائب الوجع التي تنقض ظهر عزمه!
لا يعلم كم غاب بحجرته لكن هذا الصخب بالأسفل قد قل زخمه فقرر استطلاع الأمر قبل أن يودع الجميع راحلا. هبط الدرج في هدوء متطلعا حوله ليجد امه تجلس بجوار عمته سندس. هتف متسائلا: هم الناس مشوا بسرعة كده!؟
غام وجه تسنيم وهي ترى ولدها مستشعرة قرب رحيله عنها دون أن تنطق بحرف لتهتف سندس في أريحية: اه يا سيدي. العريس صمم ياخد العروسة وأبوها وأمها وباجي البنات. جال إيه. عازمهم بره. خليه يغرم بجى. إحنا عملنا اللي علينا ودبحنا وجدمنا الأكل للناس بره. ياللاه. عريس بجى وعايز يفرح عروسته. عجبالك يا عاصم.
تطلعت تسنيم لملامح وجه ولدها الجامدة التي لا تشِ بذاك الصراع الذي يفتك به وهز رأسه في امتنان لعمته وسأل في هدوء قاتل: فين چدي!؟ همست تسنيم أخيرا مشيرة لباب القاعة المتطرفة بعيدا عن ضجيج الحفل: هناك ف الجاعة الجبلية يا عاصم. روحله يا حبيبي. هز عاصم رأسه في طاعة وتحرك في آلية باتجاه القاعة التي فتح بابها ودلف لداخلها ليجد جده يجلس متطلعا من نافذتها التي تكاد تصل حافتها السفلية للأرض.
وقف عاصم في صمت مهيب خلف مقعد جده المدولب يستمع لموسيقى ليل نجع الصالح الشجية التي تأتيه عبر أصوات جنادب الليل ونقيق الضفادع وتراقص سعف النخيل في إغراء وغواية لأنجم السماء القابعة بالأعلى والتي سيفتقدها بشدة. وضع عاصم كفيه على كتفي جده المهدلين ليرفع الجد كفه المغضن رابتا على أحدهما هامسا في وجع: خلاص نويت يا ععاصم! همس عاصم: خلاص يا چدي.
هتف الجد محاولا استبقائه للمرة الاخيرة: طب كان لازما النهاردة يعني!؟ ما تأچل سفرك كمان يومين. هتف عاصم مؤكدا: والله ما بخطري يا چدي. الشركة اللي هشتغل فيها هي اللى حددت ميعاد السفر وحچزت وبعتت ليا التذاكر. يا دوب أسلم عليكم واخد طريجي للمطار. وربنا يسهل لنا. ربت الجد على كف حفيده من جديد هامسا بشجن: تروح وترچع بالسلامة. ربنا يسلم لك طريجك يا ولدي.
حرك عاصم مقعد جده مبعدا إياه عن النافذة حتى لا يضر به هواء الليل الذي انتصف تقريبا وبدأت تشتد برودة نسائمه مسدلا ستائرها متوجها به إلى حجرته.
كانت تسير بتلك الخطوة العسكرية كما أمرها أخوها ما أن أشرفت على دخول الشارع الرئيسي تحاول الهرولة بمشيتها حتى لا يعترضها أحد هؤلاء العاطلين المجتمعين على ذاك المقهى الأكثر حداثة من مقهى جدها. تنبهت أنه يتعقبها فتنفست الصعداء في غيظ فما عادت قادرة على تحمل المزيد من الحماقات وتقمصتها روح حُسن الثائرة لتنتفض مستديرة نحوه هاتفة بلهجة حاولت أن تودعها كل ثقتها هاتفة في حنق: كفياك بقى لحد كده. أنت متعبتش!؟
تطلع إليها ذاك الغريب متعجبا لا يدرك ما دهاها وهتف في ذهن منشغل متجاهلا حنقها: تعرفي فين حارة الشمندورة!؟ هتفت بحنق زادت وتيرته: لا ده أنت قاصدها بقى. هتف بحدة مماثلة وقد تنبه لحديثها المحتد: إيه فيه!؟ هو السؤال حُرم.!؟ خلاص بلاها. واندفع باتجاه المقهى متسائلا بصوت عال بعض الشيء: السلام عليكم يا رچالة. فين حارة الشمندورة.!؟
هتف صبي المقهى ساخرا وقد أبصر نعمة تقترب في اتجاههم لدخول الحارة: شمندورة إيه بس يا باشا! ما القهوة دي أحسن من غيرها يا بلدينا. توقفت نعمة في غيظ تتطلع لذاك الأحمق وقد تذكرت تحذيرات نادر بألا تثير المشاكل على أساس أنها قادرة على ذلك من الأصل. همت بالاندفاع مبتعدة إلا أن صبي المقهى هتف مغازلا: الجميل زعل ولا إيه؟!
توقفت تبحث عن سباب لائق يدفعه ليخرس لسانه عنها. لكن كان ذاك الغريب الأسرع أمرا إياه: خليك معايا أنا وسيبك من الحريم. هتف صبي المقهى مستفسرا: إيه هي تخصك ولا إيه؟! هتف الغريب مؤكدا: ايوه تخصني. سيبها فحالها وخليك معايا. لكن يبدو أن ذاك الغبي لم يكتف من حماقته هاتفا في سخرية متطلعا نحو نعمة والتي كانت قد استدارت مغادرة بالفعل: وجيباه وراكِ كمان!
لم يعد بمقدورها الصمت على سخافات ذاك الحقير وهمت بالعودة والاندفاع نحوه تخرسه وليكن ما يكون. إلا أنها توقفت موضعها متطلعة الى ذلك الغريب الذي انتفض ممسكا بصبي المقهى في ثورة هادرة يهزه بقوة هاتفا: چايبة مين وراها يا عويل أنت؟! شكلك عايز تغير ديكور سحنتك البهية دي؟! انتفض صاحب المقهى يلوذ عن صبيه هاتفا مهادنا: معلش يا بيه. عيل عبيط ميقصدش. أهدى بس وروق. تعالى أشرب لك حاجة تطرى على قلبك.
دفع الغريب صبي المقهى باشمئزاز وهتف مؤكدا: معيزش أشرب حاچة. سألت سؤال. عندكم رده جولوا. فين حارة الشمندورة؟! أشار صاحب المقهى مؤكدا: على طول وخد أول يمين هي دي حارة الشمندورة. بس أنت رايح لمين هناك!؟
لم يجبه الغريب بل حمل حقيبته التي تركها جانبا عند إمساكه في تلابيب الصبي مندفعا يتخذ إشارات الطريقة حتى تنبه أنها كانت تسبقه بخطوات. لم يعرها التفاتا محاولا التركيز بطريقه عندما ظهر أحد الشباب منسلا من جماعته التي كان أفرادها يفترشون مدخل الحارة ناشرين الفوضى والفساد. اقترب منها ذاك الشاب في صفاقة هامسا: مش ناوي تحن بقى يا جميل!؟
هتفت به نعمة في اضطراب: أنت محرمتش يا قدورة!؟، شكلك نفسك فعلقة من أيدين نادر أخويا ترد لك عقلك زي كل مرة.. هتف قدورة وهو يمسك بذراعها في لهفة: بس استني بس. مال طبعك حامي كده!؟ جذبت ذراعها من كفه في غضب هادر وما أن همت برفع كفها لصفعه حتى توقف ذاك الغريب بينهما هاتفا في حمية: عنك يا ست البنات. معدمتيش الرچالة عشان متلاجيش اللي يربي النچس ده.
تراجعت نعمة خطوات للخلف في استغراب وهذا الغريب يلوذ عنها رافعا كفه ليسقط على جانب وجه قدورة صافعا إياه صفعة مدوية تردد صداها بالحارة كلها. ساد الصمت مما أثار انتباه المعلم خميس من داخل قهوته لينهض من موضعه خلف البنك بتثاقل ليقف على أن أعتاب المقهى متسائلا بصوت جهوري: فيه إيه!؟ إيه اللي بيحصل!؟
استفاق قدورة من صدمة الصفعة التي تلقاها على يد ذاك المجهول مندفعا يمسك بتلابيبه أخذا بثأره إلا أن ظهور المعلم خميس لجمه. اندفعت نعمة في اتجاه جدها تلوذ به بينما أنزل قدورة كفيه عن الغريب ناظرا إليه في غضب مكبوت يتوعده بنظراته المشتعلة. تجاهله الغريب في لامبالاة متجها حيث كان يقف المعلم خميس متطلعا للافتة المقهى متسائلا: السلام عليكم يا معلم. ألاجي فين ورشة الأسطى ناصر خميس!؟
هتف خميس مؤكدا: خير يا بني. أنا أبوه. هتف الغريب مادا كفه محييا في مودة: أهلا يا معلم. أنا راضي الحناوي. اللي كلمكم عني سيادة العقيد حازم الهواري. تطلع خميس إليه في تيه لحظة لكنه تذكر فجأة ما أخبره به ناصر. أن حازم اوصاه بأحد أقربائه سيأتي للتدرب على صيانة العربات بورشته. لابد وأنه هو. ما دفع خميس يهتف مرحبا: أهلا. أهلا يا بني. شرفت. تعالى اتفضل.
كانت نعمة التي كانت ما تزل تراقب المشهد عن كثب. عيناها تتفحص ذاك الغريب الذي ظنت أنه يتبعها إلى هنا مغازلا. ليصبح هو ملاكها الحارس حتى وصولها لمقهى جدها. هتف خميس ما أن استقر راضي قبالته على أحد المقاعد موجها حديثه لنعمة: يا نعمة. روحي اندهي لأبوك. شوفيه فالورشة ولا فوق. قوليه راضي الحناوي قريب عمك حازم وصل وقاعد مع جدي ع القهوة.
هزت رأسها في تأدب دون أن تنبس بحرف لكن عيونها ظلت معلقة بذاك الذي كان يجلس منكس الرأس في حياء وما رفع ناظره متطلعا إليها وجدها يحادثها حتى. من يره اللحظة وهو بكل هذا الحياء لا يمكن أن يتصور أنه من اثلج صدرها منذ دقائق بصوت لطمته المدوية على وجه قدورة. ويا لها من لطمة!