رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع
طرقات على باب مكتبها جعلتها تضج بسبب انشغالها في فحص أوراق ملف لصفقة هامة قبالتها. فهتفت في نفاذ صبر: أدخل. دفع صاحب الطرقات الباب ودخل ما اضطرها لترفع ناظريها مستطلعة القادم وهي تعدل من وضع منظارها الطبي الذي انزلق قليلا.
اضطربت داخليا وارتفعت ضربات قلبها منتفضة، لكنها لم تظهر كل هذه التأثيرات على محياها الجامد وهي تهتف في نبرة ساخرة تحاول أن تداري توترها خلفها: أي خدمة يا نزار بيه!؟ أعتقد مغلطتش في مكان مكتب بابا. أقصد الباشمهدس حمزة وجيت خبطت على باب مكتبي بالغلط، ده حضرتك حتى كنت لسه معاه!؟ هتف نزار متجاهلا سخريتها: ممكن أقعد؟
أشارت للمقعد المقابل لمكتبها هاتفة في لامبالاة: اتفضل. مع أني مش عارفة أية مناسبة الزيارة الكريمة دي!؟ جلس في أريحية فاتحا أزرار سترته القيمة ما أورثها حنقا متزايدا حاولت كتمانه والظهور بمظهر القادرة. هتف في هدوء: زيارتي لها سبب أكيد. كان الباشمهندس حمزة هيستدعيكِ لمكتبه عشان يبلغك إنه أسند لك العمل على ملف الشراكة اللي ما بين شركتي وشركتكم. وطبعا ده بناء على طلبي.
ابتسمت في سماجة هاتفة بنبرة رسمية: تمام. شراكة موفقة إن شاء الله. وأنا هبذل كل جهدي لإنجاحها. زم ما بين حاجبيه متطلعا إليها لبرهة هاتفا في تعجب: أنتِ مش هاترفضي الإشراف على ملف الشراكة!؟ ده أنا كنت جاي مخصوص عشان أقنعك.
تطلعت إليه لبرهة ثم ارتفعت ضحكاتها التي تحمل صدى ساخر نوعا ما مؤكدة: لا مكنش فيه داعي لتعب حضرتك أبدا. وهرفض ليه من الأساس!؟ ده شغلي يا نزار بيه. وطالما رئيس مجلس إدارة الشركة دي أسنده ليا. يبقى هقوم به على أكمل وجه. ساد الصمت بينهما لتستطرد هي في نبرة عملية وهي تنهض من موضع جلوسها في اتجاه طاولة صنع القهوة متسائلة: أعمل لك قهوة معايا!؟
هز رأسه نفيا لتستطرد حديثها وهي تعد لها كوبا من قهوتها التي لا تستغيثها إلا مرة: وبعدين. أرفض ليه الاشراف ع الشراكة!؟ ليه هعمل كده من أساسه!؟ تردد نزار محاولا تجميع كلماته في حرص مؤكدا: أصل يعني. زمان. يعني من كام سنة. حصل إن. هتفت به تحاول إخراجه من تعثره اللفظي مؤكدة في نبرة صارمة: زمان. قلت بنفسك زمان. ومن سنين كمان. يعني حكاية عدت وخلصت. أنا شخصيا نسيتها. ومين هيفتكر لعب العيال ده أصلا!؟
هتف متعجبا: أنتِ لسه صغيرة. والكلام ده كان من حوالي ٥ سنين. يعني مش فترة كبيرة عش.. قاطعته في حزم: كانت فترة كبيرة بالنسبة لي عشان أنسى. وفعلا نسيت. وعادت خلف مكتبها من جديد تنهي لقاءها معه بشكل حازم ورسمي وهي تمد له كفا تحييه في برودة: شرفت مكتبي المتواضع يا نزار بيه.
نهض نزار مادا كفه مجيبا تحية هذا الكف الرقيق الممدود قبالته. كفها البارد الواثق الذي لم يرتجف للحظة بأحضان كفه. ظل محتفظا به لبرهة متطلعا إليها في محاولة لثبر أغوار روحها والتي هو على يقين أنها تحاول حصارها خلف ألف سور من جمود وصلابة لا يعرف من أين واتتها وهي تلك الرقيقة التي كانت تذوب من مجرد نظرة.
ترك كفها أخيرا عندما خسر المعركة أمام ثباتها المصطنع بحرفية شديدة والذي انهار في لحظة ما أن غادر مغلقا الباب خلفه، لتسقط على كرسيها، كانهيار مبنى آيل للسقوط. تنهدت في وجع فقد استدعت قوة على قوتها حتى تستطيع أن تبدو بكل هذا الصمود أمامه. كان أمرا لابد منه حتى تضع حدا لتقاربه، والذي لا تعلم إن كان بإمكانها التعامل معه مستقبلا، أم إنها ستسقط صريعة الماضي، الذي لم يخلف لها سوى الأوجاع.
جهزت بعض الطعام على قدر ما كان متاحا لها داخل البيت. فحالتهما المادية لم تكن على ما يرام الفترة الأخيرة. مرض أبيها أثر كثيرا على سير العمل داخل ورشته. وبدأ العمال في التسلل مبتعدين باحثين عن فرص عمل أفضل في ورش أكبر يوميتها أكثر سخاء. هي لا تلوم أحدا. فكل منهم له بيت وعائلة مسؤول عن توفير احتياجاتها. رصت الطعام المتواضع ببعض الأطباق على صينية كبيرة وغطتها بغطاء نظيف. فتحت باب الشقة حاملة إياها في حذر. تسير الهوينى حتى تحافظ على ما تحمل دون فقد. فلا رفاهية لتعويض ما قد يفقد.
سارت بضع خطوات في اتجاه ورشة أبيها لتجده يخرج من باب بيت جده تبدو على ملامح وجهه الجدية المفرطة. لابد وأن أمرا جلل حدث أو ربما هو مقدم على أمر بالغ الأهمية. قرأت قسمات وجهه بكل يسر ما جعلها تتنهد في حسرة على حالها حينما تسقط عيناها عليه. لو كان بمقدور الإنسان أن يخير في أمر ما. لاختارت أن تتحكم في أمر قلبها الذي يشقيها. فمنذ كانت صبية وهي تركض خلف باقي الفتيات لتوسعهن ضربا حتى لقبنها ب أمنا الغولة. لم تكن تستأسد عليهن رغبة في فرض سيطرتها، لكن كل ما هنالك أنها كانت تغار من مجرد شعورها باهتمامه بإحداهن.
كم كانت حمقاء!؟ كانت تعتقد أنها لو أبعدت عنه كل فتيات الحارة سيكون ذلك كفيلا ليتنبه لما تكنه له من مشاعر كم عذبتها وهي بعد طفلة لا تدرك شيئا عن أمر الهوى وعذاباته. صديقتها المقربة هي أخته وما كان لها البوح بمكنونات قلبها لنعمة مهما حدث. ولا أم لها قد تخبرها فتجود عليها بخبرتها مرشدة لها بكيفية التعامل مع مثل هذه الاوجاع التي يعاني منها قلبها بقربه المهلك ذاك. أنها وحيدة تماما أمام جحافل عشقه التي تقاتلها مسلوبة الإرادة. خائرة القوي. كفارس أعزل تماما، لا يملك سلاحا أمام وحش كاسر.
كادت أن تصل لورشة أبيها ليدرك وجودها أخيرا رغم أنها كانت تسير بمحاذاته. لكنه كان منشغلا يقلب في جواله غير مدرك لمن حوله. هتف في أريحية وبصوت عادي النبرات ما: صباح الخير يا حُسن. صباح الخير يا عم سالم.
لم ترد صباحه البارد النبرة الأكثر اعتيادية من انفاس صدرها وهي تضع صينية الطعام جانبا. بينما هتف أبوها من بين نوبات سعاله التي تقلقها مجيبا تحيته. كان سلاما أشبه بسلام يلقيه على شخص قد يجمعه به اللقاء صدفة. سلام رسمي يخلو حتى من ابتسامة رضا تنسج حولها الحكايا.
تنهدت من جديد في حسرة وهي تدعو أباها والعامل الوحيد الذي استمر في العمل معه ولم يرحل. وعلى الرغم من عدم ارتياحها لهذا الشاب المدعو محروس. إلا أنها شكرت له صنيعه وتمسكه بالعمل. فوالدها غير قادر على إدارة الورشة منفردا. وخاصة في ظل حالته الصحية الغير مستقرة مؤخرا. استأذنتهما ورحلت عائدة للبيت ونظرات محروس تتبعها في غفلة من أبيها الذي كان غارقا في تناول الطعام.
ثلاث ليال لم يذق طعما لنوم هانئ. كان كمن ينتظر حكما بالبراءة بعد إدانة محققة. انتفض من موضعه ما أثار فزع أخيه راضي الذي صرخ به: إيه في!؟ الجيامة جامت!؟ هتف يونس وهو يقفز داخل جلبابه: النهاردة سمير هيجول لي رأيها زي ما اتفجنا. ادعيلي يا واد يا راضي. حاكم أني مفاصلي سايبة. قهقه راضي هاتفا: ليه ياخوي. نتيچة دخول الچنة. وافجت خير وبركة. موافجتش. م.
هتف يونس في حنق مقاطعا إياه: متبشرش ببوزك الناشف ده. بإذن الله هتوافج. واندفع يونس في اتجاه المسجد الذي دخله في وجل باحثا عن سمير. وما أن وقعت عيناه عليه حتى اندفع نحوه يجاوره بالصف شارعا في الصلاة. والتي بعد عدة دقائق انهاها وما عرف كيف انتهت من شدة توتره. تنبه سمير لوجوده وتطلع إليه.
مشفقا. اتجها سويا دونما اتفاق بنفس ذاك الركن المتطرف بالمسجد وما أن استقرا حتى عاجله يونس في لهفة: هااا. إيه الأخبار!؟ هتف سمير دون مواربة: الصراحة يا يونس. مفيش نصيب. تطلع يونس إليه في صدمة، حتى أنه لم ينطق حرفا، ليستطرد سمير محاولا تخفيف وقع الرفض على نفس يونس: والله أنت ما تتعيب. وأنا جلت لك أبلغ أبويا وكان يبجى كلام رچالة من أولها، وأنت اللي جلت لاه. أعرف رأيها الأول.
هز يونس رأسه موافقا في محاولة لاستجماع شتات نفسه، ليستطرد سمير: هي مش رفضاك. هي بس عا. أشار له يونس بكفه ليصمت، راغبا أن لا يكمل سمير حرفا واحد قد يزيد الطين بلة. فالرفض رفض أي كان سببه. والشاهد الأخير أنها لا تريده. لا رغبة لديها فيه كزوج وشريك حياة. نهض يونس في تثاقل ملقيا التحية، ليرد سمير في اشفاق على حاله، ولكن ما كان بيده حيلة. فقد قُضي الأمر. وسيتقبله يونس عاجلا أم آجلا.
عاد يونس يجر أذيال الخيبة، دافعا قدمه دفعا ليصل لدار أبيه في صعوبة. دفع باب حجرته في قوة لينتفض راضي نحوه متلقفا إياه هاتفا: إيه!؟ مالك!؟ لم يكن راضي في حاجة للسؤال فقد كان قسمات وجه يونس تنبئ بكل أوجاعه التي يعاني اللحظة. هتف يونس متطلعا لأخيه في وجيعة: رفضتني. مش ريداني يا راضي. وأنا اللي كنت بعد الليالي وأجول ميتا تبجى حلالي.
ربت راضي على كتف أخيه في حزن هاتفا بقوة في محاولة للتخفيف عنه: بلاها. راحت واحدة تاچي ألف غيرها. دفعه يونس مترنحا: لااااه. مفيشي غيرها يا راضي. مفيش إلا سهام واحدة بس. وهي جالت لاه. جالت لاااه. ربت راضي على كتفه مهدئا من جديد ولم يستطع أن ينبس بحرف واحد وهو يرى أخيه على هذه الحالة المزرية. لم يكن يتوقع أن رفضها سيؤثر فيه بهذا الشكل. لكنه حدث. ماذا عليه أن يفعل ليخفف عن يونس ما يلاق!؟
لم يجد جوابا ولا حيلة له غير لعنه العشق وعذاباته، والذي يصيب أصحابه بكل هذه الأوجاع التي يراها متمثلة على قسمات وجه أخيه الذي يعاني أمامه اللحظة ولا قدرة لديه ليخفف عنه. أعلى الجمال تغار منّا!؟ ماذا عليك إذا نظرنا!؟ هي نظرة تنسي الوقار، وتسعد الروح المعنّى. دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد. إذا تمنّى. أنت السماء بدت لنا. واستعصمت بالبعد عنّا. هلا رحمت متيماً عصفت به الأشواق وهنّا.
هتف الدكتور محمد عزام بتلك الأبيات في صوت رخيم جعل كل من بالقاعة مسلوب الإرادة منصتا لجمال الكلمات وبراعة الملقي. الذي صمت للحظات ووقع ناظره عليها. كانت تجلس في موضعها الذي أبصرها فيه للمرة الأولى فلم يكن من الصعب عليه إيجادها وهو يجول بناظريه باحثا عنها بين الحضور من طلابه. كانت زهرة تجلس مأخوذة به كليا حتى أنها ظلت تتطلع إليه كالبلهاء ولم تحد بناظريها حين ظلت نظراته معلقة بها.
هتف أحد الطلاب مخرجا محمد عن تيهه مستفسرا: لمين الأبيات الرائعة دي يا دكتور!؟ تنبه محمد وهو يستعيد رباط جأشه محولا ناظريه عنها، لتستفيق هي من غفلتها بدورها، تشعر بالاضطراب وناظرها يجول بكل ركن بالقاعة إلا محياه. ليهتف محمد مؤكدا: الأبيات للشاعر السوداني. إدريس محمد جَماع. الشاعر الذي افقده الجمال عقله. واستطرد محمد تاليا وعيونه تحيد رغما عنه إلى ذات الحياء الذي يخلبه لبه: وهو صاحب الأبيات دي كمان.
إن حظّي كدقيقٍ فوق شوك نثروه. ثُمّ قالوا لحفاةٍ يوم ريح أجمعوه. عَظِم الأمرُ عليهم ثُمّ قالوا: اتركوه. إن من أشقاه ربي، كيف أنتم تسعدوه. هتف أحد الطلبة معلقا في مرح: يا ساتر. إيه الكآبة دي. هنقطع شرايينا. ما كان حلو فالأببات اللي فاتت!؟
قهقه باقي الطلبة وشاركهم محمد ضحكاتهم، وكذا هي التي لاحظت كيف ألقى بنظرات خاطفة نحوها. لتسلبه ضحكاتها ثباته كليا، ليهتف بصوته الرخيم الذي جعلها تبتلع ضحكاتها متنبهة وهو يلقي المزيد من الأشعار: و ﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ الغمد ﻻ ﺗُﺨشَى مضاربُه ﻭﺳﻴﻒ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎﺭُ. واستكمل مؤكدا وهو يحاول استجماع شتات نفسه صارفا ناظريه عنها: والبيت ده لنفس الشاعر وصُنف من أبلغ أبيات الشعر الحديث.
وتنهد هاتفا: حد عنده أي سؤال. لم يجب أحدهم لذا هتف: تمام. يبقى كده أنهينا المحاضرة. اشوفكم المحاضرة الجاية بإذن الله. السلام عليكم. حمل حقيبته محاولا تجاهل تلك التي لا يعلم لما يحيد قلبه نحو وجهتها قبل عينيه، واندفع مبتعدا لخارج القاعة، وكأنه يفر من شيء ما يلاحقه. شعور عجيب ظل يلازمه، وما فارقه رغم هرولته هاربا.
انتصف النهار وخف ضغط العمل بالوحدة الصحية ما دفعها لتخبر نفسها أنها تستحق بعض الراحة. تسللت في هدوء إلى الاستراحة معطية تعليماتها وأخبرت إحدى الممرضات بمكانها إذا ما اقتضت الحاجة لاستدعائها. سارت ذاك الطريق الطولي الذي حفظته عن ظهر قلب.
أسبوعان كاملان وهي تعمل هنا مع الدكتورة سميحة. وكان مسيرها عليه قد أصبح اعتياديا حتى أن بعض أهل النجع قد تعرفوا عليها وأنسوا وجودها بينهم وبدأوا في إلقاء التحية عليها في ذهابها وإيابها. وكم أسعدها ذلك. وصلت للاستراحة ودست مفتاحها في القفل دافعة الباب لتدلف مغلقة إياه خلفها.
تنهدت وهي تخلع عنها معطفها ملقية إياه على أحد المقاعد المنتشرة بالغرفة. وأخيرا ألقت بجسدها المتعب على أحد الأسرة الموجودة بالحجرة. لم تكن تدرك أنها متعبة لهذا الحد، لدرجة أنها غفت موضعها دون أن تشعر. لم تنل قسطا وافرا من النوم البارحة وربما كان ذلك هو السبب الأقوى الذي جعلها تسقط ناعسة في وسط النهار من فرط الإجهاد على غير عادتها.
انتفضت عندما تناهى لمسامعها صوت رخيم تسلل إلى أحلامها. صوت كان أمرا بشكل مستفز في المرة الأولى التي قابلته فيها عرضا لبضع دقائق كانت كفيلة لجعلها تتجنبه منذ لحظة استلامها العمل. حتى أنها لم يصادف أنها قابلته طوال الفترة المنصرمة وجها لوجه. كانت تراه مصادفة وهو يسابق الريح بفرسه. وكم شكرت ذلك للظروف.
لكن ماذا يفعل صوته داخل أحلامها!؟ وكيف أقتحم رأسها من الأساس!؟ انتفضت مستيقظة دافعة النعاس المعلق بأهدابها وهي تنهض في حذر تتبع مصدر صوته الذي يوترها لا تعرف لم. توقفت خلف أحد النوافذ المشرعة تتطلع منها حيث كان يقف ذاك الكشر والعجيب أنه كان يتحدث لرجل ما في لطف غير معتاد منه على الأقل نحوها. هتف رائف بالرجل المستكين النبرة: خلاص يا حمدان. جلت لك الموضوع عندي. أهدى بجى.
هتف المدعو حمدان: بس يا داكتور. چنابك واعي اللي فيها برضك. يعني. هتف رائف في حزم: ميعنيش. خلصنا. ومد كفه واضعا إياها داخل جيب سترته مخرجا مبلغ من المال واضعه بكف حمدان الذي أطبق عليه كفه بدوره منكسا رأسه في حرج هامسا بنبرة ممتنة رغم كل شيء: تسلم يا رائف بيه. ربنا ما يوجعك في ضيجة أبدا.
ربت رائف على كتف حمدان ملقيا التحية في نفس اللحظة التي سمعت بها طرقات متتابعة على باب الاستراحة فاندفعت لتفتح ليبادرها أحد الخفراء هاتفا: عايزينك فالوحدة يا داكتورة. اندفعت في سرعة خلفه لكنها تنبهت أنها نسيت معطفها الطبي فعادت للداخل تلتقطه ترتديه في عجالة وهي تندفع خارج الغرفة لتصطدم ذراعها وهي تضعها بكم المعطف بشيء ما تنبهت بعد أن أنهت ارتداءه أنه وجهه. هل لكمته في وجهه لتوها!؟
وقفت مشدوهة تتطلع نحو ذاك الذي وقف كتمثال صخري لا يرتسم على وجهه أي رد فعل. لم تنتظر أن ينطق وخاصة وهناك حالة تستدعي تواجدها بالوحدة عليها أن تسرع لنجدتها. لذا اندفعت مبتعدة دون أن تعتذر حتى وما كان لديها الرغبة لتستدير لرؤية معالم وجهه الجامدة.
وأخيرا. وجدت نفسها تنفجر ضاحكة تشعر بسعادة بالغة وشعور تام بالراحة فقد لكمت ذاك الوجه المتغطرس. حصلت على ثأرها. ربما ثأر متأخر لم يكن مخطط له. لكنه أسعدها على أي حال وهذا يكفيها.. مرت ثلاث ليال على حادثة الفرس الذي ما أن حاولت الترجل عنه حتى وجدت نفسها بأحضانه. بلا حول ولا قوة منه. سقت بين ذراعيه وهو جالسا على مقعده المدولب يحاول المساعدة. التي جاءت على غير ما كان متوقع منها.
ابتسم للذكرى وهو يتطلع لهذه اللوحة التي كان يخط بها أخر خطوطها. قضى الأيام الماضية عاكفا عليها حتى أن ثريا لاحظت انشغاله بهذه اللوحة بشكل خاص.
كانت المرة الأولى التي ترى فيها كائن حي يزاحم الأحصنة بلوحاته. وهذه سابقة من نوعها. جعلتها تتوقف أمام اللوحة تتطلع إليها في إعجاب هامسة بصوت هادئ. والذي على الرغم من هدوئه أجفله لبرهة، فقد كان مستغرقا بالرسم لدرجة أنه لم يستشعر دخول أمه الغرفة ووضعها طبق الفاكهة والخضار المعتاد: حلوة اللوحة دي يا مروان. بچد من أچمل اللوحات اللي رسمتها الفترة اللي فاتت.
واستطردت في خبث محبب: يمكن عشان فيها شيء مختلف! احتفظ مروان بثبات نبرة صوته هاتفا: أه جايز. يمكن عشان مختلفة عجبتك. ردت ثريا في ابتسامة مستشعرة بحدسها كأم أن هناك شيء ما يحدث. ربتت على كتفه وتركته يكمل. لكن ما أن غادرت أمه الغرفة حتى حمل طبق الخضراوات المعتاد وتوجه مسرعا نحو الشرفة. فهذا هو ميعاد قدوم عنتر. وربما استطاع إقناع صاحبته لترافقه.
جلس في الانتظار على أحر من الجمر زيارتهما. ثلاث ليال كافية وزيادة على الابتعاد. بدأت خيوط النهار تنسحب من ثوب النهار ناشرة العتمة بالأجواء. يبدو أن لا عنتر ولا صحابته لهما الرغبة في زيارته اليوم. شعر بحنق ورغبة في النهوض باحثا عن بيت تلك التي رحلت وما تركت حتى فرسها يأتي ليؤنس وحدته. وحدته التي كانت ملاذه وأضحت بين ليلة وضحاها سجنه.
تقدم سمير ببطء فاتحا باب الحجرة، متسللا للداخل حتى وصل لموضع وقوف عاصم خلف ستارة نافذته الشفافة وهو يتطلع لزهرة بالأسفل حيث موضعها المعتاد بحجرة القراءة صارخا: يا بني حرام عليك.. انتفض عاصم موضعه مبتعدا عن النافذة دافعا سمير ليسقطا سويا وضحكات سمير لم تنقطع وعاصم قد شرع في ضربه في غيظ.
توقف عاصم ليسقط متمددا جوار سمير هاتفا وهو يلتقط أنفاسه في تتابع: منك لله يا بَعيد. اشوف فيك يوم. كان يوم منيل لما چينا الدنيا سوا. عملي الأسود يا ربي. قهقه سمير مؤكدا: ايوه صح. كان يوم مطلعتلوش ملامح. تطلع إليه عاصم في حنق ليرد سمير مستفسرا وهو ينهض من موضع سقوطه جالسا على أقرب مقعد متطلعا لعاصم الذي كان ما يزال ممدا أرضا: أنت مش هتبطل اللي بتعمله ده!؟ يا بني كفاية كده أنا تعبت لك والله.
اضطرب عاصم ونهض بدوره يحاول مداراة ما يعتريه، هاتفا في نبرة حاول أن يجعلها لامبالاية: كفاية إيه!؟ إيه الألغاز دي يا أستاذ سمير!؟ تنهد سمير هاتفا في نبرة عاقلة لم تكن يوما من طباعه: يا بني فاكر نفسك حويط وأنت حالك مكشوف. ع الأجل ليا أني. مش هتجدر تخبي عليا من أساسه. أصلك الوچع واحد يا واد عمي. انتفض عاصم هاتفا في صدمة: جصدك إيه!؟ هتف سمير في تخابث: يعني أني بحب زي ما انت بتحبها وأكتر.
اندفع عاصم نحوه هاتفا وهو يمسك بتلابيه: إياك تفكر حتى. إلا زهرة يا سمير. قهقه سمير مؤكدا وهو يدفع كفيه بعيدا عن نحره: زهرة مين بس. أني مجصدش زهرة من أساسه. بس أديك وجعت ولا حدش سمى عليك.
جز عاصم على أسنانه عندما تنبه للفخ الذي نصبه له سمير. والذي استطرد هاتفا بعاصم في نبرة ناصحة: عاصم يا واد خالي. اللي انت بتعمله ده غلط. خليها تحس إنك بتحبها. خليها تشوفك جدامها. جرب لها. ده أنت فرصتك كبيرة إنك تحسسها بوچودك وانتوا فبيت واحد. الدور والباجي عليا اللي بشوفها كل حين ومين. بلاش جعدتك ورا الشبابيك دي. مش هتچيب همها. أنت رايدها فالحلال يبجى تحط النجط ع الحروف. لو لجيت منها استعداد. اتجدم لها. أنت أولى بها. وأهي السنة دي أخر سنة لِها فالچامعة. يعني الدنيا متظبطة من كله.
ربت سمير على كتف عاصم الذي لم ينبس بحرف معلقا على كلماته. ما دفع سمير ليبتسم في مودة تاركا عاصم يفكر في نصيحته الغالية. اغلق سمير الباب خلفه في هدوء ليندفع عاصم نحو النافذة متطلعا نحو حجرة الكتب. رأها ما تزال بالأسفل فقرر أن يضع نصيحة سمير حيز التنفيذ.
اندفع يهبط الدرج في سرعة لم تكن من طبعه. كان يخشى تراجعه في قراره. وصل لحجرة القراءة مهرولا. وما أن دنا من موضع جلوسها حتى توقف يلتقط أنفاسه المتلاحقة.
تقدم في وجل حتى جلس قبالتها متنحنحا لتنتبه لوجوده ليضطرب بدورها. فلم يكن من طبعه الوجود بحجرة القراءة. وهي كانت تخشاه. فقد كان طبعه شديدا. حتى أنها لم تره يبتسم لمرة واحدة. هي لا تنكر عليه دينه وخلقه. لكنه كان فظا بعض الشيء. حتى أنها كانت تتعجب من حكايات سجود ونوارة على طبعه المتسامح نوعا ما حينما كان يجمعهن الحكي ليلا في غرفة نومهن المشتركة.
هتف عاصم بنبرة حاول أن يجعلها لينة بعض الشيء لكنها خرجت رغما عنه أمرة وهو يسألها مشيرا للكتاب بين كفيها: بتجري إيه!؟ اضطربت حياءً هامسة: رواية. سأل مستفسرا من جديد وقد ضبط نبرة صوته لتصبح أكثر لينا: اسمها إيه!؟ تعجبت من اهتمامه المستحدث وأجابت في هدوء: الحب في زمن الكوليرا. هتف محاولا أن يكون مرحا وابتسامة مرسومة على شفتيه: كوليرا! يا ساتر. ليه كده!؟ ابتسمت بدورها هامسة: هي اسمها كده.
همس بصوت متحشرج وقد هزته مجرد ابتسامة بسيطة على ثغرها: حلوة يعني! أكدت بإيماءة من رأسها: عجبتني. أصل إصرار البطل على الوصول للبطلة اسطوري. تحمس عاصم وقد استشعر أن الأمر يشبه حكايته ما شجعه ليهتف: باينها حلوة فعلا. أكدت زهرة بابتسامة: ايوه. ده وصل للبطلة واتجوزوا أخيرا وهو عمره ٨١ سنة تقريبا. تطلع عاصم لها في صدمة وهمس في نفسه: ايه الفال المهبب ده!؟ ٨١ سنة ده إيه!
هتف وهو يمسك امتعاضه: ٨١ سنة!؟ لاااه صغير برضك. ربنا يوفجهم. انفجرت رغما عنها ضاحكة ليتسمر موضعه غير قادر على الإتيان برد فعل قبالة هذه الترانيم الملائكية التي ذكرته بضحكاتها وهي طفلة صغيرة يدفع بها الأرجوحة الشاهدة عليهما اللحظة.
نهض مستأذنا وما أن هم بالتحرك مبتعدا حتى وجدها تضع بعض الخطوط الوردية تحت بعض السطور كعادتها. فعاد أدراجه يمسك بالرواية التي تركتها على هذه الصفحة بعد أن لبت نداء أخيها ياسين الذي أخبرها أن أمها تطلبها في التو لأمر عاجل. تطلع للأسطر في وجل وقرأ في هوادة: أساليبه الغامضة أثارت فيها فضولا من الصعب مقاومته، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون الفضول أحد مصائب الحب الكبرى.
رفع رأسه من فوق الأسطر وتطلع حيث غابت منذ لحظات، هل تقصده بهذه الأسطر! وهي التي لمح بعيونها تعجبا وفضولا نحو جراءته الغير معتادة!؟
هل يمكن! لم يكن لينتظر اكتشاف ذلك. عليه الذهاب إلى جده عاصم واطلاعه على أمر رغبته في التقدم لخطبتها. فقد كانت نصيحة سمير في محلها. وقد أضاع الكثير من الوقت بالفعل. لكن ما كان يدفعه دوما للانتظار هو ما سمعه من نوارة وسجود. أن زهرة لا رغبة لها في الارتباط حاليا. وإنها تؤهل نفسها لنيل الماجستير أولا. لكنه لم يعد بوسعه الانتظار وعليه أن يفصح عن رغبته التي كتمها طويلا وحان زمان البوح بها.
وصل راضي لعتبات السطح يجول بناظريه باحثا عن أخيه الذي افتقد وجوده بالغرفة فقرر النهوض من نومه باحثا عنه. كان يتابع تلك الحالة التي يمر بها يونس منذ أن رفضت سهام التهامي عرضه للزواج. لم يعد يونس الذي يعرفه. غابت عنه ضحكاته وحس فكاهته الذي لم يكن يفارقه أبدا. سربله الحزن وغشيه هدوء قاتل أحد من سيف، وهذا ما لاحظه الجميع بالدار على غير العادة. حتى أنهم سألوه كثيرا عن سبب صمته وشروده لكنه لم يجب.
تطلع راضي نحو يونس الذي كان يتمدد على تلك الأريكة الخشبية ذات المرتبة الغير وثيرة والتي كانت مخصصة لسامرهم في ليال الصيف الطويلة. لكن في مثل هذا الجو البارد. الأمر أشبه بانتحار. تقدم خطوات ودون أن ينبس بحرف فرد راضي تلك البطانية الصوفية على جسد أخيه والذي كان مستيقظا. عيناه معلقة هناك بالسماء لا يحيد النظر عنها.
دفع راضي بنفسه جوار أخيه تحت الغطاء متطلعا للسماء مثله، هاتفا يحاول مجاراته: بتبص على إيه فوج!؟ الليلة عتمة من غير ضي نچمة حتى. همس يونس بصوت متحشرج: عتمة كيف صدري. عارف يا راضي. وأشار يونس لنجمة برقت في أحد جوانب السماء للحظة، ثم خبت مستطردا: أهي سهام كانت كيف النچمة دي فحياتي. ولما غابت. غاب الضي ورچعت العتمة.
تنهد راضي غير راضِ عن حال أخيه، وغير قادر في الوقت ذاته على تقريعه واتهامه بالضعف والخنوع. فهو يعلم تمام المعرفة أن يونس لم يكن يوما هكذا. كان أبعد ما يكون عن ذاك الاستسلام المخزي. لكن يبدو أنه ذاك المدعو العشق والذي يضع صاحبه في مواقف هي أغرب ما يكون عن حقيقته. تبا له.
هتف راضي داخله في حنق بينما حاول جاهدا أن يكون لين الجانب وهو يهمس لأخيه: مش كده يا يونس. خلاص. اللي يهواك أهواه. واللي ينساك أنساه. بص لنفسك وكيف بجيت. كل اللي فالدار مستعچبين من حالك. مبجتش يونس اللي نعرفه. همس يونس مترنما في حسرة: يونس. ونسيت مين يونس. والدنيا مالت عليا.
ساد الصمت بينهما ولم يعقب راضي بحرف، بل التزم الصمت مبتلعا اعتراضاته، ليهمس يونس من جديد مؤكدا: أني همشي من هنا. أني هروح بيت چدك الحناوي. انتفض راضي لهذا التصريح، متكئا على ساعده متطلعا إلى أخيه هاتفا في حنق يحاول مداراته وتخيف حدته: وهو يعني لما تسبنا وتروح. كده بجى هتنساها!؟
هتف يونس في نبرة منهزمة: يمكن. بس اللي أنا متأكد منه يا راضي، إني طول ما أنا هنا. عمري ما هجدر أنساها. لازما أبعد. وأهو بيت چدك مش بعيد. نچع الحناوي على بعد خطوتين. بس هيفرجوا معايا كتير. تنهد راضي مؤكدا: اني مش عايزك تبعد. بس إذا كان ده اللي هيريحك. خلاص. بس يوافج أبوك وأمك من أساسه.
هتف يونس: همتك معايا. وأنا عارف إن چدك هيفرح بالخبر ده. طول عمره ندمان إنه مرحش بيت أبوه وعمره بالخير على حد جوله. العيشة هنا في نچع الصالح خدته. أكد راضي: يبجى كده تمام. طالما چدك هيوافج يبجى ضمنا إن الكل هيجول أمين. همس يونس: صح كلامك. وأهو بعدها أنت تجدر تفاتحهم فموضعك اللي كلمتني عنِه.
هز راضي رأسه في إيجاب، وعاد يتدثر تحت الغطاء الصوفي مجاورا لأخيه. وهمس به في محبة: بجولك إيه يا واد يا يونس! ما تغني شوية. همس يونس باسما: مستعچل على طردي من الدار يا فجري! لو أبوك سمع حسي دلوجت. هيجوم من نومه يضربنا بالنار. قهقه راضي مؤكدا: لاه. غني بصوت واطي. وانت لازما يعني تچعر. هو فرح بت العمدة ياك.
قهقه يونس بدوره مؤكدا: ماشي يا خويا. بلاها فرح بت العمدة. نخليه فرح العمدة ذات نفسه. عامله فالسكيت لحسن مرته تدرى وتطربجها على دماغه. انفجر كلاهما ضاحكين. وأخيرا ساد الصمت ليهمس يونس شاديا متطلعا للسماء من جديد متتبعا تلك النجمة البعيدة بناظريه: مين اللي يجدر يعشجك كدي أنا. مين اللي يجدر بوصفك زيي انا. يا حلم نفسي تحلمه كل الجلوب يا أعلى إحساس شدني خلاني أدوب خلاني أحس إني بشر.
كان الجامعة على قدم وساق. لا تعرف ما يحدث إلا عندما هتف به أحد أصدقائه في عجالة: ياللاه يا نادر. المظاهرة طلعت وأحنا مش فيها. كان يقف مع بدور. وقد توطدت علاقتهما الفترة الماضية. بعد أن عقدا هدنة بلا اتفاق بينهما. تنبه للوقت ما أن سمع صوت هتاف صاحبه، وتطلع لها مستئذنا في عجالة: عن إذنك بقى. لازم أروح. هتفت به في حنق تستوقفه: تروح فين!؟ رجلي على رجلك.
هتف معترضا بشدة: لا طبعا. اللي هو إزاي!؟ مينفعش. أنتِ أكيد بتهزري. صح! أكدت بدور في صرامة: وإيه اللي يستدعي الهزار في حاجة جد زي دي!؟ انا رايحة معاك. ولا هو أنا أقل منكم وطنية!؟ هتف نادر محتدا: يا بنتي مينفعش. إحنا هنتبهدل من الأمن. مينفعش البنات. م.
قاطعه صراخ صديقه عن إكمال محاولة إقناعها، فاندفع مبتعدا عندما على صراخ صديقه المحتد على تأخره مؤكدا لها تحذيره صارخا بدوره: أوعي تفكري إنك تدخلي المظاهرة. أركبي عربيتك وروحي أحسن. سلام. هرول نادر في اتجاه موضع انتظار صديقه الذي كان يغلي غضبا، والذي شاهدته يلومه من موضعها. لكن منذ متى تترك أحد يملي عليها أفعالها!؟
تبعتهما دون أن تجعل نادر يعلم أنها في أثره، وخاصة أنها كانت تراه يتلفت كل دقيقة خلفه ليتأكد أنها لم تخالف نصيحته وغادرت الجامعة بالفعل. اندمج نادر وصديقه في خضم الأحداث ولم تعد تره اللحظة. اقتربت لتكون في قلب الصخب والهتافات التي كانت تزلزل الأرض وترجف الأفئدة. تحمست في تهور وبدأت في الهتاف بدورها.
لحظات وساد الهرج والمرج وبدأ حرس الجامعة في التدخل، وخاصة مع ازدياد الأعداد المشاركة من الطلبة، ورغبتهم في الخروج بالمظاهرة من حيز الحرم الجامعي إلى الشارع. تدافع هنا وهناك. وتعالت الصرخات لبعض الطالبات في ذعر لما يحدث، وخاصة مع إلقاء الحرس لقنابل الغاز المسيل للدموع. بدأت بدور في السعال لكنها لم تستسلم. وانخرطت من جديد بقلب المظاهرة التي بدأ قاداتها في تجميع فلولها من جديد.
إلا أنها وفي لحظة فارقة وإحدى هراوات عسكري من عساكر الآمن تسقط على ذراعها. وجدت نفسها محمولة ومجذوبة من بين كل هذا الزخم. أحدهم يطوق خصرها بذراعه القوية ويضع شيء ما على أنفاسها، والتي رغم اختناقها استشعرت أنها تلتقطها بسهولة أكبر. حاولت أن تنجو بنفسها وتفلت من بين براثن ذاك الذي يكبلها بذراع من حديد. لكن يبدو أن لا مفر. وخاصة حينما استشعرت ضبابية الرؤية، وبدأت تفقد وعيها بالتدريج. أظلمت الدنيا أمام ناظريها بالفعل. وكل ما كان يجول بخاطرها في تلك اللحظة هو معرفة، من ذاك الذي لا تتبين ملامحه والذي يحملها عنوة الآن مبتعدا!؟
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس
ألقى بها على المقعد المجاور في سيارته واندفع مبتعدا مغادرا الجامعة من أحد مخارجها البعيدة عن الشغب الدائر أثناء المظاهرة. لا يعلم كيف استطاع الوصول إليها وسط كل هذا الهرج والمرج. لكنه استطاع انتشالها أخيرا من مصيبة كبيرة كانت على وشك الوقوع فيها إذا ما استطاع أحد العساكر الإمساك بها وإبلاغ والدها.
تطلع نحوها ولا علم له بما دهاه ليبتسم في ظل هذا الظرف الاستثنائي. لكن تلك الابتسامة اتسعت مكللة شفتيه وهو يؤكد لنفسه أنها ما زالت تلك المشاغبة نفسها التي أمسك بها يوما ما تتلصص على فيلا عمتها بالإسكندرية.
ما يزيد عن أربع سنوات كانت الفترة التي مرت على أخر لقاء بينهما. بعدها هو نُقل إلى القاهرة ووالدها العميد حازم الهواري إلى المنصورة. ترى ما الذي أتى بها إلى القاهرة وجعل القدر يجمعهما من جديد تحت قبة الجامعة. وفي حدث شديد الاضطراب. كمظاهرة طلابية!؟ ركز ناظره على الطريق لكن همهماتها جعلته يتنبه ملقيا بنظرة سريعة عليها قبل أن يصف السيارة في منطقة هادئة نسبيا.
مال عليها هامسا وهو يضرب بخفة على خدها محاولا افاقتها: آنسة بدور. يا آنسة. همهمت من جديد، ما خلق داخله اضطرابا أحمق جعله يسب نفسه في حنق. رفع كفه من جديد محاولا افاقتها بالضرب على خدها كالسابق إلا أنها استفاقت فجأة. وانتفضت وهي تدفع بكفه بعيدا.
بدأت في الصراخ الذي عالجه هو في سرعة وهو يضع كفا بقوة على فمها والكف الأخر بمؤخرة رأسها ليصبح قادرا على إخراسها. لكنه لم يكن مدرك كفاية أنها استعادة قوتها كاملة لتبدأ في تسديد اللكمات لصدره وخدش وجهه الذي كان ذاك القناع الأسود الذي نسي في غمرة اندفاعه للرحيل بها بعيدا عن حرم الجامعة أن يزيحه عن وجهه. ظل يقاومها صارخا بها: أهدي. أهدي يا آنسة بدور. والله ما عايز أضرك. اسمعي بس.
لم يكن لديها النية لتستمع لحرف واحد مما يقول، وظلت على صراعها معه حتى أبعدت عن وجهه القناع مخلفة خدشا طوليا بأحد أظافرها على جانب وجهه الأيسر. لحظة وساد الصمت بينهما. أدرك خلالها أنها بدأت تتعرف عليه ليخفف ضغط كفه عن فمها تدريجيا حتى رفعها تماما وهي ما تزال على صمتها المصدوم. وأخيرا هتفت في أحرف متقطعة: منتصر منصور أبو النصر!؟ تطلع نحوها متنهدا: منتصر منصور بس. أبو النصر ده اختراعك أنتِ.
ابتسمت للذكرى للحظة. ثم انفجرت ضاحكة ما دفعه ليتطلع إليها هاتفا في حنق مصطنع: أنتِ لسه متسرعة ومجنونة زي ما أنتِ! مبطلتيش التهور اللي هيوديكِ فداهية ده!؟ هزت رأسها نفيا كما الأطفال، ليتطلع إليها مأخوذا، لكنه استدرك مشغلا العربة هاتفا بها: لو اللي حصل ده وصل لسيادة العميد. عارفة إيه اللي ممكن يحصل!؟ هتفت مشاكسة: إيه! هو أنا عشان بنت سيادة العميد مقدرش أعبر عن رأيي!؟
هتف محتجا: محدش قال كده. عبري بس مش بالمظاهرات. لم ترغب في مجادلته فلم ترد. فاستطرد هو مستفسرا عن عنوان بيتها. أبلغته إياه وهي تتطلع من النافذة مولية وجهها للخارج معلنة رغبتها في إنهاء الحديث. ساد الصمت بينهما لبرهة. سعلت من أثر الدخان الذي كان بعض أثره ما يزل موجودا برئتيها ما دفعه ليسألها: أنتِ كويسة!؟
هزت رأسها مؤكدة: الحمد لله. الفارس الهمام جه وأنقذني قبل ما أموت من قنابل الغاز اللي كان بيلعب بها هو وزمايله.
هتف متعجبا: بنلعب بها!؟ المظاهرة كانت خارج السيطرة. وواخدة في وشها طلاب ملهمش ذنب وعربيات ناس ملهاش أي علاقة بالموضوع اتكسرت. المظاهرة خرجت عن إطار السلمية وبدأ التخريب. كنا إيه. نقعد نتفرج!؟ ولا كنا نسبهم يخرجوا ع الشارع كمان وتبقى القدرة على السيطرة أصعب!؟ الغاز كان وسيلة لتقليل أضرار كتير مكنش لعبة يا آنسة. هتفت في نزق: وايه يعني لما الناس تعبر عن رأيها بحرية!؟
هتف محتجا: محدش منع الحرية. بس الحرية لو كانت من غير ضوابط هتتحول لفوضى. كل حاجة فالدنيا لها حد فاصل لو تخطيناه هتنقلب لعكسها. ساد الصمت من جديد ليهتف مشيرا لبناية ما: أعتقد إنك وصلتي. دفعت باب السيارة مغادرة دون أن تلق السلام حتى. ليهتف هو خلفها: مفيش حتى شكرا!؟
لم تعره اهتماما بينما تطلع هو فالمرأة الداخلية للسيارة عندما استشعر وجعا بجانب وجهه. أدرك أنه الخدش الذي سببته له والذي تجلطت دمائه بالفعل لكن أثره ظل باق. هتف في حنق: دي مش ضوافر بني أدمين دي! دي حوافر. انتفض عندما هتفت خلفه عبر نافذة السيارة المشرعة: سمعتك على فكرة.
تطلع نحوها في غيظ. لتهتف هي في لهجة مستكينة جعلته يضيق عينيه في شك لأنها لم تكن من طبعها: على فكرة. متشكرة إنك كنت موجود هناك. ويا ريت الموضوع ده ميوصلش لبابا. قرر مشاكستها فأشار لجرح وجهه مطالبا باعتذار. لتتطلع إليه في نزق هاتفة في تعال: لا ده تذكار بسيط مني. عشان متدخلش في أموري تاني. هتف مهددا وهو يعبث بهاتفه: طب نمرة سيادة العميد. ولا أقولك انا هعرف أوصله بنفسي عشان..
قاطعته وهي تجز على أسنانها: أسفة. ويااارب. ياارب. جرحك ما يخف أبدا. قهقه وهي تهتف بكلماتها الأخيرة في نبرة مدعية القهر. واندفع راحلا بالعربة مبتعدا عنها. ضغط على زر تشغيل مذياع السيارة لتصدح أغنية شاركها الغناء في صوت مرتفع وبحماس: دي بالنسبة لي. جنة اتفتح بابها. نعمة القدر جابها ورزقني أسبابها. ظل يصدح بكلمات الأغنية وهو لا يعلم أن هذه الدعوة الأخيرة التي تضرعت بها ربما قد أصابت استجابة.
كان يسير إلى داخل الحارة وهو ممسك بجواله يحاول الاتصال بها مرارا وتكرارا بلا طائل. هاتفها يرن بالفعل لكن لا إجابة من قبلها ما أورثه حنقا جعله يهم بحدف الهاتف بطول ذراعه. لكنه زفر في ضيق وهو يضعه بجيب سترته مندفعا نحو البيت. وقع ناظره على حُسن وهي تسند والدها الخارج من ورشته باديا عليه الإرهاق الشديد.
لم يكن بحال جيد. ولا بال رائق كفاية. وهو قلق بهذا الشكل على بدور التي أخبره أحد أصدقائه أنه رأها بين الفتيات المتظاهرات ولم ترحل كما نصحها. المجنونة. أين تراها ذهبت!؟ وماذا جرى لها حتى يفقد اتصاله بها كليا!؟ يكاد التوتر يتأكله وهو لا يعلم لها مستقرا أو موضعا. لو ترد فقط على هاتفها الذي يعطيه رنين متصل ولا مجيب!؟ سيهدأ وقتها باله قليلا.
أخرج الهاتف من جديد يحاول مجددا تحقيق اتصال معها. وقد ترك حُسن وأبيها خلفه مقتربا من باب بيت جده. إلا أنه اغلق الهاتف قبل أن يعاود الرنين مع انطلاقة صرخة قوية لم يدرك أنها لحُسن حتى استدار مستفسرا. ليجدها تنكفئ على جسد أبيها الذي افترش الأرض فاقدا وعيه وهي تناديه بلهفة لعله يستفق ويرد عليها مطمئنا. لكنه لم يفعل. حتى وصل نادر إلى حيث موضعها دافعا بها مبعدا إياها برفق عن جسد سالم. مادا كفيه جاذبا إياه بقوة ملقيا جسده على كتفه. حامله نحو باب شقتهما وهي بأعقابه.
كان عائدا في موعده الطبيعي للدار ليتناول غذائه واذ فجأة وجدها تطل عليه مغادرة دارهم. لعن نفسه ألف مرة أنه لم يأت ابكر قليلا. اندفع متظاهرا أنه وصل لتوه يقف يسد عليها طريق الخروج. تطلعت نحوه لبرهة ثم أرخت اهدابها لتفعل به الأفاعيل. ظل على صمته لم ينطق حرفا وهو الذي لا يكف عن الكلام لحظة. أخيرا نطق لسانه هاتفا: ازيك يا سمية. أخبارك!؟ همست سمية في حياء: الحمد لله. بخير.
هتف من جديد: وإزي الشيخ مؤمن وعبدالله!؟ همست وابتسامة على شفتيها تحاول وأدها: ما هم بيجلولي إنك معاهم على طول فالچامع. يبجى أكيد تعرف أخبارهم! رفع كفه مدلكا مؤخرة رأسه في حرج مؤكدا في تلعثم: إيوه صح. مظبوط. واستطرد محاولا استوقافها عندما همت بالرحيل: طب وعمي ماهر وعمتي هداية!؟ نكست سمية رأسها لا حياء بقدر ما هي رغبة في مداراة ضحكاتها التي ما عادت قادرة على وأدها بسبب أسئلته الغريبة واللامنطقية.
استشعر غبائه فأفسح لها الطريق لتمر راحلة من أمامه يتمنى لو تبقى العمر. ظل يتابعها بناظريه متحسرا وما أن غابت حتى بدأ في ضرب فمه بكفه معاتبا: يعني عامل زي وابور الحرت مع الناس كلها وچيت تخرس جدامها! يا شيخ روح منك لله. وجاعد تسألها عن أبوها وأمها وأخواتها وأنت ليل نهار معاهم. عاملي راچع من الخليچ بجالك خمسين سنة مشفتهمش. أما بهيم صحيح. هتفت به سهام أخته في تعجب: أنت بتكلم نفسك يا سمير!؟
هتف في حنق: ايوه يا ختي بكلم روحي. اتچننت. ليكي شوج فحاچة!؟ هتفت سهام في حنق متطلعة لجدتها التي كانت غافية على أريكة قريبة: ألحجيني يا ستي. سمير اتچنن وشكلها راحت منه خالص. هتفت سهام الجدة في لامبالاة: وإيه الچديد يعني!؟ طول عمره مچنون. واستدارت إليه سهام الجدة متطلعة نحوه في تعجب هاتفة: تعال هنا يا واد. أنت مش جلتلي هتچيب لي البتاعة دي اللي طلبتها منِك من تلت أيام وأنا نسيت إيه هي!؟ فينها بجى!؟
هتف سمير في نفاذ صبر: إيه هي يا ستي دي!؟ وهمس في ضيق: يا ربي وانا كنت ناجص حرجة دم. مش كفاية معرفتش أجول لها كلمتين على بعض وأنا ما صدجت شفتها. هتفت سهام الجدة في حنق: بتبرطم تجول إيه يا جليل الحيا. والله لأجول لأبوك. يا باااسل. تعال شوف ولدك واللي بيعمله فيا وفأخته الصغيرة. يا باااسل.
نفض سمير جلبابه وابتعد عن الحجرة بل عن الدار بكاملها منزويا بأطراف الحديقة لا رغبة له في التحدث مع أحدهم. فقد كانت رغبته في الحديث معها هي الغالبة عما عاداها. كانت رؤيته لها منذ قليل حدث نادر. فهي ليس من عاداتها الخروج من بيت أبيها. أو التسكع هنا وهناك. لكنه حاول بطبيعته المتفائلة أن ينظر لنصف الكوب الممتلئ. على الأقل رأها. ملأ عينيه بمحياها الصبوح. وطالع ابتسامتها الندية التي اشرقت اللحظة أمام ناظريه فحولت كربه لفرحة غامرة حتى أنه ابتسم كأبله بلا سبب. ونهض مندفعا ليكمل مشاكساته لجدته قبل أن تشكوه لأبيه.
كانت تمر مصادفة بجوار تلك القاعة التي اجتمع فيها جدها مع أبيها. وتناهى لمسامعها حوار يخصها فأرهفت السمع بلا وعي لتتأكد ان أروع أحلامها في سبيله ليتحقق فما استطاعت ان تقف موضعها فحملتها أجنحة سعادتها مندفعة باتجاه الدرج تصعده في لهفة تسابق الريح لتصطدم بعاصم ابن عمها الذي كان في سبيله للهبوط بدوره.
توقفت موضعها متلبكة ولم ترفع ناظريها إليه حتى معتذرة وخاصة عندما تنحنح هو هاتفا في اضطراب لقربها بهذا الشكل: إيه في!؟ لم تكن زهرة في مزاج يسمح لها بالرد. فقد كانت بعالم أخر. وهي في الأساس لم تكن لترد كما يحدث عادة. فلا قبل لها على مجابهته أو مناطحته القول. فهي دوما تساءل نفسها لم تتحاشاه كلما جمعهما موضع ما!؟ رفعت نظراتها أخيرا نحوه وهزت رأسها معتذرة: مفيش حاجة. معلش.
تنحت جانبا وهي تصعد. لتتركه يتبعها بناظريه وداخله يهتز بقوة كأرض ضربها زلزال عنيف هز ثباته. أخذ يستعيد نظرتها تلك بمخيلته عدة مرات وأخيرا وجد القدرة ليتحرك من موضعه هابطا الدرج في اتجاه الخارج. مارا بتلك القاعة التي يجلس بها جده دوما ليلق عليه التحية قبل ذهابه كعادته ليتوقف متسمرا موضعه قبل أن تمس كفه مقبض الباب مدركا لجده يهتف متسائلا: وعاصم واد أخوك يا ماچد!؟
هتف ماجد متنهدا: يا بابا عاصم بن مهران ده ابني وأنا عمري ما كنت هرفضه لو أتقدم لزهرة وكانت عايزاه. بس العريس اللى جالها ده زي ما قلت لك. شاب ميتخيرش عن عاصم فأخلاقه ومن عيلة ومستقبله ما شاء الله. هايبقى دكتور فالجامعة. وبصراحة يا بابا فوق كل ده. وهو الأهم بالنسبة لي. إني حاسس إن زهرة بنتي ميالة له. وأنا كل اللي يهمني بنتي تتجوز اللي يسعدها وتسعده.
تنهد الجد بالداخل وعاصم الحفيد بالخارج يكاد لا يعرف لقدمه موطئا. إذن هذا هو تفسير تلك النظرة التي رأها تطل من عينيها منذ لحظات تكاد تقسم أنها عاشقة. تلك النظرة التي تمنى لو لمح طيف منها لأجله. أخيرا استعاد السيطرة على روحه المبعثرة ولملمة فوضى شظاياها المتناثرة واندفع مبتعدا لخارج السراي لا يعلم إلى أين وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت.
دفعت باب الشقة على عجل ليدخل وهو يحمل أبيها على كتفه في ثبات. ليندفع هو بدوره نحو حجرة النوم ممددا إياه على فراشه لتلحق به حُسن في محاولة بائسة لإفاقة والدها لكن دون جدوى ما دفعه ليهتف في عجالة: أنا رايح أجيب له دكتور من المستشفى اللي على أول الشارع.
لم تعقب بل لمعت بعيونها الدموع وهي تراه يهرول للخارج. كاد أن يصطدم بجده المعلم خميس وناصر وبعض الجيران الذين تجمهروا أمام باب شقة سالم لمتابعة ما يحدث إلا أن ناصر فض الجمع بينما كان خميس يواسي حُسن رابتا على كتفها مؤكدا في حنو: هايبقى تمام يا بنتي. متقلقيش. شوية تعب وهيروحوا لحالهم وأبوك جبل. وهيقوم منها. هتفت حسن في تضرع دفع الدموع لتنساب من مقلتيها: يا رب يا معلم. يا رب. ده أنا ماليش غيره.
هتف ناصر: ربنا يخليهولك يا بنتي. بس هو إحنا رحنا فين!؟ طرقات على باب الشقة قطعت أي إجابة منها ونادر يدخل وخلفه الطبيب الذي اندفع للحجرة المتواضعة والرجال بصحبته بينما ظلت هي على أعتاب الحجرة تتطلع لجسد أبيها المسجي على فراشه في ضعف والطبيب يتفحصه بلا حول منه ولا قوة.
كان نادر يرافقها بالخارج متطلعا إليها في تعجب. إنها المرة الأولى التي يراها بهذا الضعف الأنثوي. لم تكن القوية القادرة كما هي العادة. حتى تلك الدموع التي تتألق على خديها اللحظة أعطت لها مظهرا عجيبا لم يكن ليتخيل أن تكون عليه. وأن تظهر بهذا الحسن الذي يربكه. وهذا الضعف الذي يحيره. حتى أنه يكاد يقسم أن التي أمامه الآن ليست حُسن. بل صورة مناقضة لحقيقتها تماما.
تنبه من شروده عندما ظهر الطبيب خارج الغرفة موصيا بالراحة للمريض والمواظبة على الغذاء الجيد والدواء الذي وصفه. حاولت أن تحصل على تذكرة الدواء لكن نادر كان الأسرع بالتقاطها من يد الطبيب مصطحبا إياه للخارج. لحظات وتبعه جده وأبيه لمحل عمليهما بعد أن اطمأنا أن الأمور على ما يرام.
دقات على الباب من جديد جعلتها تنهض من موضعها على أطراف فراش والدها لتفتح. ليطالعها نادر من جديد هاتفا وهو يمد لها كفا بالدواء: أزيه دلوقت!؟ همست وبريق الدمع يترقرق بمقلتيها من جديد. وغصة بحلقها جعلت الرد مستصعبا للحظة. حتى ابتلعتها هامسة في نبرة مهزوزة: الحمد لله. نايم.
هتف وهو مأخوذا بقسمات وجهها البالغة الرقة والتي كان يتطلع لها وكأنما يراها للمرة الأولى: هايبقى كويس بإذن الله. كل علبة من الدوا عليها ميعادها عشان متتلخبطيش. ومد كفه الأخر الذي كان يداريه عنها خارج الباب بكيس كبير به الكثير من المشتريات وضعه أرضا أمامها مستطردا: ودي حاجة بسيطة عشان يتغذى كويس زي ما قال الدكتور.
همت بالاعتراض فقاطعها هاتفا: عارف إن البيت كله خير. بس دي حاجة بسيطة. وجمايل عم سالم سابقة. ربنا يقومه بالسلامة.
لم يكن بمقدورها أن تحتمل كل هذا الحنو من قبله. لم تكن تدرك من الأساس أنه يملك كل هذا الكم من الرفق المخبأ بحرص داخله. والغائب خلف لسانه اللاذع ونقده لتصرفاتها الخشنة على الدوم. لذا لم تع إلا وهي تنفجر باكية في قهر. هي التي لم تبك يوميا. ولم يهتك ستر دموعها أمام أحد. إلاه اللحظة. تلك اللحظة الفارقة التي وجد نفسه فيها ممزقا ما بين الوقوف عاجزا أمام شلال الدمع العصي الذي أعلن استسلامه أمام ضعفها الأنثوي أخيرا. أم عليه أن يهرب من فوره لأن البقاء أصبح خطرا بشكل ما عاد يدرك مداه!؟
ما كان الاختيار مستعصيا. لذا فقد أسلم ساقيه للريح. مندفعا لخارج البيت. لا يعلم ماذا دهاه. تنهد في راحة فها قد وصل اخيرا لدار جده الحناوي. وقف على أعتاب البوابة الخشبية القصيرة وتطلع الى الدار بنظرة شاملة وتمنى بقرارة نفسه أن يكون ذاك الدار مستقر له اخيرا بعيدا عن تيهه ووجعه الذي خلفه ورائه بنجع الصالح.
دفع البوابة بعد أن تعامل مع قفلها الحديدي الصدئ لبعض الوقت حتى انصاع لمفتاحه مستجيبا. سار تلك الخطوات التي تفصله عن الدرج الذي اعتلاه ليبحث عن مفتاح باب الدار الرئيسي كما أخبرته عمته هداية وهي تعطيه سلسلة المفاتيح الغالية كما كانت تلقبها. استجاب الباب سريعا ليدفعه متطلعا حوله باحثا عن لوحة المفاتيح الكهربائية. وجدها على أحد الجدران القريبة. حاول التعامل معها لكنه لم يفلح.
تنهد في حسرة فعليه إذن قضاء الليلة بلا كهرباء حتى يتسنى له احضار متخصص لإصلاحها. فيبدو ان طول الفترة التي أغلق فيها البيت أثرت بالتأكيد على أسلاك الكهرباء ومدى صلاحيتها للاستخدام.
ندم أنه لم يستمع لنصيحة أمه بتأجيل رحيله للصباح. وأن يبعث بعض الأشخاص لتنضيف البيت وإصلاح ما أفسده الدهر به ويؤجل انتقاله إليه بضعة أيّام حتى يصبح صالحا للعيش فيه. إلا أنه لم يستمع لنصيحة أمه أو أي من كان. فقد كان على وشك الجنون لو أنه بقي بالنجع يراها تروح وتغدو ويقاسي الأمرين وهو يعلم علم اليقين أنه ما عاد له أي أمل معها بعد رفضها الزواج به.
تطلع حوله يكاد لا يرى كف يده. فأخرج قداحة من جيبه أنارت شعلتها المكان إلى حد ما. هم أن يستدير ليستطلع الردهة إلا أنه انتفض فزعا فقد وقعت الشعلة على بعض الوجوه التي جعلت الدم يتوقف عن التدفق بشرايينه لبضع ثوان. لكنه زفر متنهدا في راحة ما أن أدرك أن هذه الأوجه لم تكن إلا بعض الصور الفوتوغرافية المعلقة على طول جدران الردهة. ابتسم لبلاهته بل إنه قهقه على أفعاله هاتفا مشجعا نفسه: لاااه راچل يا يونس. خليك سبع. چمد جلبك.
قرر النوم بالردهة الواسعة قرب الباب بعد هذه الوصلة القوية من تشجيع الذات والتي باءت بالفشل تماما. مقررا تأجيل استطلاع الغرف للغد صباحا. ترك باب الدار مشرعا قليلا. ولحسن حظه وجد إحدى اللمبات مركونة على أحد الأرفف قام بإشعالها وتركها جانبا يحاول جعل تلك الأريكة المهترئة مكانا يصلح للنوم حتى يطلع الفجر ويتصرف بالبيت وأحواله.
كان يتضور جوعا فقرر أكل شيء فترك كل ما كان يقوم به جانبا وتذكر أنه ترك كل حقائبه بالسيارة خارجا. أحضرها وعاد حاملا إياها وصندوق كرتوني به بعض الخيرات التي أصرت جدته كسبانة على أخذها معه. وضع الحقيبة جانبا وفتح الصندوق يخرج ما يمكنه تناوله بسهولة دون الحاجة لموقد. أخرجت كفه فطيرة طازجة فأخذ في قضمها بشهية حتى أتى عليها وتمدد جسده على الأرض التي ألقى عليها بعض الأغطية وأتخذ من حقيبته مسنداً لرأسه.
بدأ النعاس يداعب أجفانه حتى جذبه النوم ليغرق في سبات عميق. لا يعلم كم مر عليه وهو على حاله إلا أن تيبس ظهره على تلك الأغطية التي لا تصلح مطلقا لتكون فراشا جعله ينهض محاولا تعديل وضعية نومه.
ما أن هم بالخلود للنوم من جديد حتى استشعر حركة ما بالخارج جعلته يتنبه بكل حواسه محاولا استنتاج مصدرها. نهض في حذّر يتطلع من خلف باب الدار المواربة ليرى شبحا أسود يمر سريعا ليصبح اللحظة بالباحة الخلفية للدار. تحسس يونس صدره متفقدا ذاك السلاح الذي أصر أبيه عليه لأخذه رافضا أي اعتراض ما دفع يونس للإذعان واضعا إياه قرب قلبه. لكنه لم يجده الآن. انتفض مذعورا للحظة يعتقد أنه نسيه أو حتى فقده إلا أنه تذكر أنه وضعه جانبا حتى يتسنى له النوم بأريحية.
انحنى ملتقطا السلاح وبدأ يتسلل في خفة ليجد رجلا يفتح إحدى الغرف المبنية بالحديقة الخلفية. باغته يونس ملصقا السلاح بظهره هامسا في لهجة حاول أن يجعلها حازمة: أنت مين!؟ وإيه اللي چايبك هنا!؟
لم ينطق الرجل لبرهة. لكن على حين غرة انعكس الوضع وتناول الرجل المتشح بالسواد سلاحه الذي كان يسنده بالقرب من قدمه. ودفع بسلاح يونس بعيدا. حتى أن يونس تمدد أرضا جراء تعرقله ببعض الحجارة وهو يتقهقر محاولا الزود عن نفسه بعد فقد سلاحه. أصبح سلاح الرجل الملثم الذي استدار كليا موجها لقلب يونس. هاتفا من خلف لثامه في خشونة: اني اللي المفروض أسالك. أنت اللي مين!؟ وبتعمل إيه ف دار الحناوي!؟
لم ينطق يونس وهم الرجل بإطلاق النار. كان هذا الشعور المتنامي داخله يقتله إرباكا. لا يعرف ما دهاه وهو ينتظر كل يوم بطبق الفاكهة والخضروات مجيء فرسها. أي انتظار هذا!؟ يشعر أنه فقد عقله بالكلية وهو ينتظر من أجل فرس يأتي ليطعمه ويؤنس وحدته.
لكنه تنبه أن الأمر تخطى شغفه بالأحصنة وشوقه إلى اعتلاء صهوتها فارس لا يشق له غبار كما كان دوما. إن الأمر أصبح يخص صاحبة الفرس التي ظهرت له فجأة من خلف حجب الوجع لتسقط بأحضانه وتنتفض مذعورة كأرنبة برية مبتعدة دونما إتفاق على ميعاد لقاء جديد. أو ربما. سقوط أخر. يشعره أنه عاد من سبات عميق غابت فيه روحه عن الدنيا لسنوات طوال. وعزلة أعتاد عليها وإعتادته. كسرتها هي في عفوية وبراءة أسرته.
دفع الباب وصحن الخضار بحجره ووقف يتطلع لذاك الموضوع الذي يأتيه منه عنتر لليوم الخامس على التوالي. كاد أن يفقد الأمل ويعود أدراجه للداخل لكنه توقف وأرهف السمع لتلك الخطوات المقتربة التي أطربت مسامع قلبه قبل أذنيه.
شخص بصره نحو موضع قدوم الفرس. وأخيرا هلّ عنتر متبخترا يسير الهوينى نحوه. توقف منكسا رأسه نحو موضع سكون مقعده المدولب مستشعرا أن مروان يعاتبه دونما كلمة. ما دفع الفرس ليهز رأسه فتهتز غرته الصهباء التي حركت قلب مروان ما جعله يبتسم شاعرا أن الفرس يسترضيه معتذرا عن غيابه. حتى أنه لم يمد فكه بأريحيته المعتادة لطبق الخضروات حتى يأذن له مروان الذي أمسك بجزرة طازجة ومد كفه بها. تناولها عنتر في استمتاع وهمهم في سعادة جذبت الضحكات لحنجرة مروان الذي ما أن رفع ناظريه بعيدا عن محيا عنتر إلا وسقطت عليها حيث كانت هناك. تختبئ خلف إحدى الأشجار الضخمة التي كانت تنتصب بالقرب من السياج المنخفض منذ زمن بعيد.
تظاهر أنه لم يرها لكن فرحته التي باتت مرسومة على وجهه لا يمكن أن تخفى عن ضرير. كانت جلية ظاهرة على كل خلجة من خلجاته لدرجة أربكته وما عاد مدركا ما عليه فعله. هل يناديها لتنضم إليهما. متعللا أن فرسها غافلهم كعادته وجاءه!؟ أم يتظاهر أنه لا يدرك بوجودها. و. وماذا!؟ أنارت بعقله فكرة دفعته لترك طبق الفاكهة أرضا والاندفاع بكرسيه المدولب للداخل.
بحث عن ورقة وقلم. وبدأ في الكتابة في عجالة مخافة أن يغافله عنتر ويرحل.
خرج مسرعا. وحمد الله أن الفرس ألتهى بالطبق وظل موضعه. هبط المهبط الخشبي المصنوع بلا درجات من أجل حرية مقعده المدولب وأصبح بجوار الفرس بنفس الموضع حيث كان منذ خمس ليال. لكن الفرق الوحيد أنها كانت بالأعلى هناك تعتلى الفرس كأميرة مذعورة. وهو هنا منتظرا العطايا. لتجود عليه السماء بعطية ولا أروع. سقوط النجمة بأحضان البئر. ويا له من سقوط!؟
مد كفه واضعا خطابه معلقا بطريقة ما بسرج الفرس الذي لم يرفع رأسه عن الطبق ولا حتى فضولا عندما عبث مروان بسرجه. كان يدرك أنها ما تزال هناك. ورأت ما صنعه. وأين وضع الخطاب.
ليندفع في هذه اللحظة من الجانب الآخر لحسن الحظ. ومن موضع لا يراها منه. خفيرها الذي هتف في ضيق وهو يجذب رسن الحصان مبعدا فكه عن الطبق الشبه فارغ قبالته: متأسفين يا بيه. والله ما نعرف الفجري ده بيطلع منين وياچيك!؟ السماح وأني هسلسله عشان ميضايجش سعادتك بمچيته. هتف به مروان في تحذير: أوعى تعمل كده. ده ممكن يضر الفرس. سيبه يجي عادي أنا مش مضايق منه.
هز الخفير رأسه في لامبالاة هاتفا: خلاص يا بيه. بشوجك. هو أني خسران إيه! وجذب الخفير الفرس مختفيا خلف السياج القريب. رفع مروان ناظريه نحو موضعها المستتر لكنها كانت قد اختفت أيضا. لتتركه يخمن. هل يا ترى ستقرأ خطابه!؟ وإن فعلت. فهل هناك من جواب بالرد سيكون عليه انتظاره مع زيارة عنتر القادمة!؟ لم يكن يعلم أن الانتظار مرا كالعلقم إلا اللحظة. لكنه لا يملك إلاه.
هتف يونس صارخا يوقف الرجل الثائر الذي كان على وشك إطلاق النار: أنا يونس الحناوي. هتف الرجل في شدة: لاااه. أنت عتكدب. يونس الحناوي ده راچل كبير ف السن. أكد يونس هاتفا: يا سيدي أنا واد ولده. يونس الحناوي يبجى چدي. هتف الرجل ساخرا: وهو أني أي واحد مخبل ياچيني يجولي إن يونس الحناوي يبجى چدي. اصدجه على طول!؟ إيه الحلاوة دي!؟
هم يونس بدفع كفه بجيبه مخرجا بطاقته الشخصية دافعا بها للرجل إلا أن الأخير استوقفه محذرا: عتعمل إيه!؟ هتف يونس مؤكدا: هطلع لك البطاجة. اسمي فيها رباعي. تركه الرجل ليخرج البطاقة الشخصية مسلمها إياه: يا رب تكون استريحت ولا مبتعرفش تجرا وتبجى حوسة!؟ هتف الرجل مؤكدا: لاااه. بعرف. دِه أني سايب المدرسة من تانية إعدادي. هتف يونس ساخرا: الحمد لله. مثقف يعني. أنعم وأكرم. إجرا بجى وخلصني.
هتف الرجل: المشكلة مش ف الجراية يا بيه المشكلة إني مشيفش عشان أجرا. هتف يونس: يا دي الليلة الكوبية. هتف الرجل مؤكدا: أهااا. جلتها بذات نفسك. ليلة كوبية. عتمة. هجرا كيف أني.!؟ تذكر يونس القداحة بجيبه فهم بإخراجها ليهتف الرجل وهو يلصق فوهة بندقيته بصدر يونس أكثر: أنت بتعمل إيه تاني!؟ هتف يونس مؤكدا: بچيب لك الولاعة عشان تعتجني من الرجدة السودا اللي أنا فيها دي.
أخرج يونس القداحة بسرعة وما أن تحقق الرجل من شخصية يونس حتى أبعد فوهة البندقية عن صدره هاتفا في اعتذار: متأخذناش يا واد الغاليين. الحرص واچب برضك. انتفض يونس واقفا وجذب بطاقته الشخصية من كف الرجل في غيظ وهتف به في حنق: طب أنا و حضرتك عرفت أبجى مين. أنت بجى مين!؟ وإيه چايبك لبيت چدي! وداخل كِده بعشم كنه بيت أبوك!؟ رفع الرجل اللثام عن وجهه هاتفا بلهجة صلبة: أنا سماحة الجناوي. خدامك يا بيه.
هتف يونس متعجبا: خدامي كيف يعني!؟ هتف سماحة: بص يا بيه. حكايتي طويلة وكلها وچع راس. بس خلاصة الجول إني لجيت روحي مع أمي وأخواتي البنات ملناش متوى إلا هنا ف الأوضة دي. ويعلم ربنا إن محدش هوب ناحية الدار ولا مسها. وإني خليت عيني عليها أمانة ف رجبتي أهو برد حج جعدتي هنا وسترة أمي وأخواتي.
تطلع إليه يونس للحظة ورغم عتامة الأجواء إلا إنه استشعر الصدق بكل حرف نطق به فهتف مستفسرًا: أنت بجالك كد إيه هنا يا سماحة!؟ هتف سماحة في عجالة: ياجي سنتين كِده. ونچع الحناوي كله يعرفني على أساس إني غفير دار الحناوي ومفكرين إنكم اللي چايبيني. هز يونس راْسه في تفهم متسائلا: - اومال فين أمك وأخواتك! مش بتجول معاك هنا!؟
كانت المرة الأولى التي رق فيها صوت ذاك الرجل هامسا: سبتهم بره لما وعيت لنور چاي من جوه الدار. واجفين ع البوابة. هم وعولك وأنت داخل الدار وخافوا واتكنوا بره لحد ما چيت. سبتهم بره ودخلت أشوف إيه في!؟ هتف يونس أمرا: طب أطلع هاتهم. زمان الرعب جاتلهم. خليهم يناموا والصباح رباح. هتف سماحة في فرحة: يعني هتسينا نعيشوا ف الأوضة دي يا بيه ومش هتطردنا.!؟
هتف يونس متعجبا: أنت مش لساتك جايل إن إحنا اللي معينينك غفير ع الدار. يبجى تفضل غفيرها. ياللاه روح هات أمك وأخواتك. ومن النچمة تدور لي على كهربائي يصلح النور وتنضفوا الدار. هتف سماحة في سعادة غامرة: أوامرك يا يونس بيه. اندفع سماحة يشير لأمه من خارج بوابة الدار لتندفع للداخل وبصحبتها فتاتين إحداهما في الثالثة عشرة تقريبا والأخرى في العاشرة.
ما أن اقتربن من موضع وقوف يونس على الدرج حتى هتفت الأم في سعادة وبدعاء خالص من القلب: تسلم يا بيه. ربنا ما يوجعك ف ضيجة ويخلف على جلبك بالرضا والفرح. وقر الدعاء بقلب يونس وتذكر جدته كسبانة التي كانت ما تفتأ تدعو لكل ذاهب وايب من أبناء حامد ولدها والذين كانت تخطئ في حصرهم والتعرف عليهم دوما ما كان مادة للسخرية والمزاح من قبله وراضي. هتف يونس ممتنا: أمين يا خالة.
دخلت أم سماحة وبناتها ليهتف يونس خلف سماحة الذي كان يسير بعقبهن: متنساش يا سماحة. الكهربائي. وتنضيف الدار. أكد سماحة في حماس: أعتبرهم خلصوا يا بيه. هز يونس رأسه واندفع يدخل الدار ليكمل ساعات نومه القلق. ممنيا نفسه بفراش وثير غدا.
تطلعت إلى تلك الورقة المطلوبة التي كانت بين كفيها. كانت تنظر إليها في وجل. نبضات قلبها تتسارع في لهفة على فضها. وشيء غريزي بدافع الحماية يمنعها ويصدها. كأنما تدرك لا شعوريا أن حالها بعد قراءة كلماته سيتغير كليا. ويا له من إدراك! ظلت حائرة لبعض الوقت قبل أن يغلبها فضولها لتفتح الورقة في بطء تتطلع للأحرف المرسومة أمام ناظريها في رهبة.
لم تكن إلا أسطر قليلة. لكن عقلها توقف عن استيعاب معناها لبرهة قبل أن تبدأ في استعادة ثباتها قليلا متمهلة في القراءة. همست بالكلمات بصوت خفيض عندي أمانة تخصك. لو ينفع كنت بعتهالك مع عنتر. لكن للأسف. لازم توصل لصاحبتها يد بيد.
تعجبت. عن أية أمانة يتحدث!؟ هي لم تره إلا دقائق معدودة انتهت ب. احمرت وجنتاها خجلا وهي تتذكر كيف استقرت بين ذراعيه عندما سقطت مباشرة إلى أحضانه. كانت لحظات خاطفة توقف فيها الزمن وهي تنظر إليه مصعوقة وكل ما كان يحمل على وجهه هو تلك الابتسامة المشرقة كأنما هبطت عليه غنيمة من السماء. اتسعت ابتسامتها. ثم انفجرت ضاحكة فجأة وهي تضع كفها على صدرها موضع قلبها الذي كان يرفرف في سعادة. سعادة افتقدت الشعور بها أو حتى تذكر متى كانت المرة الأخيرة التي ضحكت بها ملء فيها أو استشعرت سرور قلبها بهذا الشكل. كان هذا منذ زمن بعيد. بعيد جدا.
تنهدت وهي تتطلع مرة أخرى لكلمات الرسالة. وتساءلت. هل عليها الرد!؟ ثم تنبهت فجأة. كيف لها أن ترد ومن المفترض أنها لم تر الرسالة أو حتى تعرف أنه أرسلها لها من الأساس!؟ هنا كانت المعضلة. ستضع الرسالة مرة أخرى بسرج عنتر ليجدها موضعها فيعتقد أنها لم تقرأها فيكف عن هذه اللعبة التي قد تدفع بهما لطريق لا رجعة منه.
هزت رأسها في حزم وقد استقر رأيها على إعادة الرسالة موضعها حتى تنهي هذا السخف الدائر والذي لم يكن من عاداتها أبدا. طوت الرسالة وتسللت حتى الإسطبلات وأشارت لعنتر الذي صهل في سعادة لمرأها ليصمت وهي تضع له الرسالة من جديد بسرجه. لعل وعسى ينتهي صاحبها من إرسال المزيد.
تأكدت أن الرسالة موضعها في أمان ثم تسللت من جديد لتعود أدراجها لغرفتها. لكن سؤال ظل يشغل فكرها طوال الليل. ترى ما هي الأمانة التي يحملها معه. ويصونها لأجلها!؟
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس
دخل عاصم للقاعة التي يقبع بها جده. منحنيا نحو هامته مقبلا في إجلال. وما أن هم جده ليخبره بما كان من أمر رغبة الدكتور محمد عزام في الزواج من زهرة حتى استبقه عاصم ليزيح عنه الحرج: عرفت يا چدي. عرفت. ربنا يهنيها. هتف عاصم الجد: بس أنت رايدها يا ولدي! ابتسم عاصم مؤكدا في نبرة حاول أن لا تظهر بها تلك الوجيعة التي ترتع بصدره رأفة بجده: بس هي جلبها رايد غيري يا چدي. إيه هخدها غصب!؟
واتسعت ابتسامته يحاول أن يظهر عدم اكتراثه بالأمر حتى لا يحمل جده هم قلبه الموجوع: مش كل الغصب ينفع يا چدي! انت وستي زهرة حكاية مش هتتكرر. ربت عاصم الجد على كتف حفيده وساد الصمت ليهتف عاصم مؤكدا: چدي. مش عايز حد يعرف إني كنت طالب يد زهرة. وخصوصي أبويا وأمي. تطلع إليه جده متعجبا: ليه يا ولدي هي عيبة! ما اللي يعرف يعرف.
أكد عاصم متضرعا: عشان خاطري يا چدي بلاش. أصلك أنا عارف أبويا وأمي ممكن يضايجوا على رفضها. وده ممكن يعمل حساسيات بين أبويا وعمي. أو بين أمي وعمتي إيمان. طب ليه من أساسه! مش عايز اللي ما بينهم يتعكرعلى موضوع ملوش عازة. هتف به جده في إكبار: ربنا يكملك بعجلك يا عاصم. ويريح جلبك يا ولدي.
نهض عاصم مقبلا هامة جده من جديد مغادرا القاعة لحجرته، التي ما أن دلفها حتى توجه حيث يقبع حاسوبه اللوحي فتحه وبدأ يخط عليه خواطر قلبه المعذب في إحدى منشوراته خاطا في وجع: أجهدتني أحلامي الحبلى بحبك فقد استهلكني غثيانها الصباحي واشتهائها لنظرة عشق من عينيكِ أبصرتها يوما وما كانت لقلبي. فعلمت ان أحلامي حملت سفاحا فقررت وأدها والتخلص من عاري.
وزيلها في ثقة. شيخ العاشقين. ثم اغلق حاسوبه وتمدد على فراشه يتطلع لسقف غرفته التي ضاقت حتى أطبقت على أنفاسه. لكنه استعاذ ونهض ليتوضأ هامسا وهو يتوجه للقبلة على مصلاه: فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. مذكرا نفسه أن العبد يكون أقرب ما يكون لربه وهو ساجد. راغبا في الوصول بقلبه لحالة الطمأنينة التي بحث عنها طويلا. فهل يجدها وفؤاده مثقل بهكذا عشق!
طرقات على باب شقة المعلم خميس والكل مجتمع في مثل هذه الساعة قرب المغرب. جعلت نعمة تنهض في عجالة لتفتح. طالعتها صورة حُسن التي كانت قسمات وجهها تنم عن حزن عميق جراء مرض والدها. جذبتها نعمة لتدخل على استحياء بعد أن تمنعت قليلا. ألقت التحية في حياء: السلام عليكم. هتف الجميع مجيبا تحيتها مستطردا خميس في اهتمام: عامل ايه أبوكِ دلوقتي يا ببنتي!؟
أدارت رأسها نحو موضعه مجيبة: بقى أحسن الحمد لله يا معلم. مطلعتش إلا بعد ما اطمنت إنه نام بعد ما صدره هدّي شوية من الكحة اللي مكنتش بتنيمه. هتف ناصر: طب الحمد لله. ربنا يطمنا عليه ويخليهولك يا بنتي.
جلست حُسن وهي تحاول أن تقنع نفسها أنها جاءت من أجل المحاضرات لا من أجله. وخاصة وعيونها تحاول البحث عن محياه بين الجالسين. هتفت وهي تتلعثم موجهة حديثها لخميس من جديد: أنا عارفة يا معلم إنك بتعتبر أبويا أخوك. بس أنا عايزة أعرف الباشمهندس نادر دفع كام للدكتور اللي جابه!؟ والدوا اللي اشتراه كمان بكام!؟ دول دين عليا وبإذن الله ها.
هتف خميس في تعجب: فلوس إيه ودين إيه اللي بتقولي عليهم!؟ أنتِ هتخليتي أزعل منك ولا إيه!؟ هتفت نعمة في تعجب: هو فيه بين الأهل ديون ولا حساب!؟ أخس عليكِ يا بت يا حُسن. طلعتي خايبة وأنا اللي كنت فكراكِ جدعة! همست حُسن على استحياء: بس أصله ميحصحش يعني.
هتفت شوشو وهي قادمة من داخل المطبخ حيث كانت تحضر العشاء: اللي ميصحش هو اللي بتقوليه ده يا خايبة. على رأى أمي. تعالي بقى أنتِ والخايبة التانية. وأشارت لنعمة ابنتها مستطردة. وساعدوني في عمايل العشا. هموا ياللاه. عشان تلحقي تتعشي معانا. امتعضت نعمة بينما هتفت حسن في اعتراض: لا مش هينفع يا خالتي والله. أصل لازم أنزل بسرعة لحسن بابا يصحى ويحتاج حاجة وميلاقنيش.
هتف خميس: انتِ مش بتقولي لسه مدياله الدوا. يبقى قدامه شوية على بال ما يقوم تكوني اتعشيتي وشربتي الشاي كمان. هتفت نعمة الجدة: قومي ياللاه يا نعمة وخدي حُسن فأيدك. اعملوا لكم همة لحسن جوعنا.
لم تستطع الاعتراض أكثر. فتحركت خلف نعمة إلى المطبخ وكل همها رؤيته. وأن تعطيه أمانته التي فقدها لديها. والتي من المؤكد أنه يبحث عنها. لكن يبدو أنه ليس هنا. وهي لن تفرط في فرصة تجمعها به. بإعطائها أمانته مخلوق دونه.
رنين متواصل ملح على هاتفها جعلها تتأفف وهي تعدل من هندامها أمام المرآة فقد كانت على موعد عمل هام ولا تريد أن تتأخر بل عليها الوصول أبكر من الجميع حتى تتأكد أن كل الإعدادات المطلوبة على ما يرام. إلحاح الرنين الذي انقطع ثم عاود مرة أخرى جعلها تتطلع لشاشة الهاتف قبل أن تتناوله وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة وهي ترد في مرح غاب عنها لسنوات كان مخبأ فقط ولا يظهر للعلن إلا معها هاتفة: ايوه يا غلباوية يا زنانة!
هتفت بدور: أحسن منك يا براوية ياللي مبتسأليش. قهقهت فريدة هاتفة: وأنا من أمتى هقدر عليك وعلى لسانك!؟ ياااساتر. هتفت بدور: طب لما أنت خايفة قوي كده من لساني اللي بينقط عسل ده مش بتسألي ليه بقى!؟ هتفت فريدة متنهدة: والله يا بدور من ساعة ما نزلت الشركة مع بابا وأنا مش لاقية وقت لأي حاجة خااالص. الشغل واخد كل وقتي. هتفت بدور مازحة: يعني بقيتي بسبس وومن ومش هنعرف نكلمك بقى!
ضحكت فريدة مؤكدة: أه بقيت بسبسوومن يا ستي. وعمك حمزة مطلع عيني. ومشيلني مسؤلية مشاريع بالملايين. تنهدت فريدة من جديد هاتفة: سيبك بقى مني وقوليلي. أنتِ اللي أخبارك إيه في قاهرة المعز!؟ الكلية بتاعتك اخبارها تمام ولا.؟ هتفت بدور في حماسة: كنت مش متحمسة فالأول الصراحة. لكن بعد كده الدنيا بقت لذيذة. عارفة المعلم خميس اللي يعرفه جدي زكريا!؟
أكدت فريدة: أه اسمع عنه. ده جدو زكريا يغيب وينسى كل الناس ويرجع يفتكره ويقول نفسي أشوفه. هتفت بدور بنفس النبرة المتحمسة: أهو حفيده بقى. معايا فالكلية وأتعرفنا على بعض. والصراحة شاطر جدا وبيطلع من الأوائل ع الدفعة وسهل لي حاجات كتير. هتفت فريدة: طب كويس والله. أنا اسمع إنهم ناس طيبين. وياما جدو زكريا شكر فيهم. أكدت بدور: فعلا ناس طيبين. ونادر شاب كويس ومحترم. وثورجي كمان.
انتفضت فريدة هاتفة في اضطراب: ثورجي يعني إيه!؟ أوعي يا بدور تتجري وراه في أي حاجة!؟ أنت. هتفت بدور تقاطعها: هو أصلا مش موافق أكون معاه. بس أنا نزلت المظاهرة غصب عنه. و صرخت فريدة مقاطعة في صدمة: مظاهرة يا بدور!؟ أنتِ أتجننتي! هتفت بدور في حماس لم ينقطع: ايوه مظاهرة. بس كانت أجمل مظاهرة والنعمة.
ثم أطلقت بدور تنهيدة طويلة خارجة من أعماقها، جعلت فريدة تهتف في سخرية: مظاهرة إيه بقى دي!؟ كان بيحدفوا فيها ورد وبرفان!؟ أكدت بدور ضاحكة: لا. دي كانت مليانة عساكر وخبط ورزع. وقنابل مسيلة للدموع. وهو. هتفت فريدة في شك: هو مين! نادر؟ هتفت بدور في حنق: نادر مين بس!؟ ما أنا قلت لك مكنش راضي أشارك معاه. أنا قصدي. منتصر منصور أبو النصر. وأبو النصر دي من اختراعي. هو قالي كده.
وقهقهت لتهتف بها فريدة: منتصر مين يا مجنونة أنتِ!؟ هتفت بدور تذكرها في لهفة: فاكرة الظابط اللي مسكنا من قفانا يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في. توقفت بدور ولم تكمل اسم نزار الغمري. استشعرت صمت فريدة وشعرت بغبائها لكن فريدة أكملت في هدوء: ايوه يا بدور. يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في نزار الغمري. هو بقى الظابط اللي مسكنا!؟
اكملت بدور محاولة تخطي أمر نزار الغمري وقصته: ايوه. لقيته في حرس الجامعة. هو اللي سحبني من وسط دخان قنابل الغاز وأنا خلاص بقى هقع من طولي. ثم غيرت نبرة صوتها لتصبح أشبه براوي في أحد الأفلام التاريخية هاتفة: ثم ظهر الفارس على صهوة حصانه لينقذ الأميرة من الأشرار. قهقهت فريدة هاتفة: فارس إيه بس وأشرار مين!؟ ده أنقذهم هم منك.
ثم تنبهت فعدلت صوتها في نبرة قلقة: بدور. لو خالو حازم عرف. أنت عارفة ايه اللي ممكن يحصل بسبب جنانك ده!؟ أكدت بدور في نبرة مضطربة: متفكرنيش يا فرفر. ده أنا بقول ربنا ستر والله. ومنتصر نفسه قالي كده. هتفت فريدة: أنا ابتديت احترم حضرة الظابط. شكله إنسان ملتزم وعاقل. هتفت بدور مازحة: هو مش عرفني. وحياتك لهيتجنن على أيدي. والله الموفق والمستعان.
قهقهت فريدة هاتفة: طب ياللاه اقولك مع السلامة يا مجنونة هانم. أنا عندي ميتنج. وهتأخر عليه بسببك. وصمتت للحظة. وعلى الرغم من رعونة بدور إلا أنها أدركت أن ابنة عمها لديها ما تفصح عنه فالتزمت الصمت حتى هتفت فريدة في صوت متردد: أنا قابلت نزار يا بدور. شركته عامله بزنس جامد مع شركتنا. وأنا مشرفة على التعاون بين الشركتين. هتفت بدور في صدمة: يعني قابليته بعد السنين دي كلها!؟
هتفت فريدة تحاول اطفاء بعض المرح على الحديث الجاد: زي ما أنتِ قابلتي حضرة الضابط بعد السنين دي كلها. هتفت بدور في حماس: طب إيه!؟ هتفت فريدة تتهرب من الإجابة التي لا تعرفها هي من الأساس: لا بقول لك إيه. أنتِ شكلك مصرة إني أتأخر. مع السلامة. هتفت بها بدور: مع السلامة يا ستي. بس برضو مش هسيبك إلا لما تحكيلي كل حاجة بالتفصيل.
ابتسمت فريدة في شجن لم يكن بمقدور ابنة عمها إدراكه مرسوم بهذا العمق على قسماتها وهمست: بإذن الله. سلام. همست بدور بدورها في عجالة: فريدة. خلي بالك على نفسك. سلام. أقفلت فريدة الهاتف متنهدة. ورغم أن الحديث نكأ جرح بعض الذكريات التي تحاول جاهدة التخلص منها وحذفها من الذاكرة، إلا أنه أعطاها الطاقة التي كانت في حاجة إليها وهي في طريقها لهذا الاجتماع الهام.
حملت حقيبة يدها ومفتاح عربتها وغادرت غرفتها في هدوء تحمل قناع تلك الفتاة الجادة التي أصبحت عليها. صرخت تسنيم في حنق وهي تضع الهاتف على أذنها مؤكدة: أنا كنت عارفة إن ده اللي هيحصل. عشان كده مكنتش موافجة عليها المرواحة دي. هتفت نوارة تحاول تهدئة روع أمها: فيه إيه بس يا دكتورة!؟ أهدي محصلش حاچة لكل ده!؟ هو أنا بايتة فالشارع! أنا في استراحة مخصوص مجفولة عليا. أعتبريني فنبطشية يا ستي.
هتفت تسنيم بحدة من جديد: بلا نبطشية بلا بتاع. أنا معنديش بنات تبيت بره بيت أبوها. نعملوا إيه دلوجت وإحنا مش عارفين ناچي ناخدك من مطرح ما أنتِ مرزوعة!؟ تنهدت نوارة مبعدة الهاتف قليلا في محاولة للتحلي بضبط النفس وأخيرا وضعته على أذنها من جديد هاتفة: معلش يا ست الكل. ادعيلي بس وكله هايبجى تمام. يعني بس هو مين اللي كان عارف إن حادثة هتحصل ع الطريج هتخلي عبدالباسط مش عارف ياچي ياخدني!؟
تنهدت تسنيم في قلة حيلة على الطرف الأخر متسائلة: يعني أنتِ في استراحة لوحدك!؟ أكدت نوارة تحاول طمأنتها: اه والله يا ماما. وقافلة على نفسي بمفتاحها كمان. الدكتورة سميحة إدتني مفتاح خاص بيا من أول يوم. ما أنا حكيت لك يا أمي الكلام ده كله. تنهدت تسنيم من جديد وقد استسلمت للأمر الواقع: طيب يا نوارة. خلي بالك على روحك. وانا هبجى معاكِ على التليفون. لحد ما ربنا يسهلها وعبدالباسط يعرف يوصل لك.
هتفت نوارة مؤكدة: متخافيش يا ماما والله الدنيا تمام. وأول ما يوصل عبدالباسط بإذن الله هكون عندك. تمام كده!؟ هتفت تسنيم متنهدة: على خير بإذن الله. سلام عليكم.. ردت نوارة مجيبة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أغلقت الهاتف وتنهدت في راحة. كان الصدام بينها وبين أمها دوما متعلق بالعمل ومتطلباته. على الرغم من أن أمها طبيبة مثلها وكان الأحرى بها أن تدرك طبيعة مهنتهما. لكن على العكس من ذلك. ترغب في تقييدها بموضعها هي داخل النجع. غير راغبة في جعلها تحلق بعيدا عن مجالها خوفا عليها وحرصا على سلامتها. لكنها لن تدع مخاوف أمها تقص أجنحة أحلامها التي ستفردها في أفق التمني حتى تصل لمبتغاها.
انتفضت موضعها تشهق في صدمة. تتطلع للظلام الذي حل فجأة لانقطاع التيار الكهربائي. هدأت من روعها تكاد تبكي قهرا هامسة في ضيق: عچبك كده يا دكتورة تسنيم! أهي بركات رفضك شرفت. أنا عارفة يوم ما تجولي لأ على موضوع. هي ال لأ. هعمل إيه أنا فالحوسة دي!
تطلعت حولها تحاول رؤية أية معالم في ظل ذاك الظلام الدامس الذي يحيط بها كليا لكن لا جدوى من ذلك. ما جعلها تفتح كشاف الجوال الشخصي. تتلمس الطريق على نوره حتى وصلت لباب الاستراحة غير مدركة لما تهم بفتح الباب من الأساس. فبالتأكيد العتمة خارجه لا تختلف عن الداخل. بل ربما أكثر رهبة.
جذبت الباب في بطء ليصدر صريرا مرعبا كما يحدث بأفلام الرعب التي تبغض. ما أورثها رغبة في غلق الباب الذي انفرج قليلا والعودة لتظل موضعها الأول حتى عودة التيار الكهربائي من جديد. همت بالتنفيذ لكن ذاك الظل الذي ظهر أمامها وكان يقترب منها جعلها تسقط هاتفها من يدها صارخة.
كانت تعتقد أن صرختها قد شقت عنان السماء إلا أنها فالواقع لم تغادر حلقها. وقع ضوء كشاف هاتفها على محياه في نفس اللحظة التي وقف بها أمام الباب هاتفا بها في نبرة ضجرة كأنما يقوم بفعل ما مرغما: لو سمحتي لازم أدخل أتأكد من المولد الكهربي عندك. أشوف مشتغلش ليه لما انقطع النور!؟
تسمرت موضعها لبرهة قبل أن تنحني ملتقطة هاتفها من الأرض متنحية جانبا تاركة له المجال ليدخل إلى ذاك الركن القصي هناك حيث يقبع المحول منحنيا يتفحصه مسلطا شعاع كشاف هاتفه على اجزائه. محاولا استكشاف موضع العطل. حاول لبعض الوقت لكنه لم يفلح. فنهض مستديرا يهم بالمغادرة مقتربا من موضعها إلا أنها هذه المرة تقسم أنها ترى عيني شبح تلمع مسلطة عليها في ذاك الظلام. لا بل إنها تقترب نحوها. كانت صرختها هذه المرة مدوية بالفعل وهي تندفع لتصطدم بصدره تتشبث به هلعا وهو غير قادر على ردعها. يقف متصلب الجسد كعمود فولاذي لا يتزحزح.
أفرغت شحنة خوفها في هذه الصرخة المذعورة. لكنها لم تترك موضعها بأحضانه وهي تلتقط أنفاسها في تتابع يوحي بمقدار رعبها من عيني سنقر كلبه الوفي الذي لا يفارقه أبدا. والذي تبعه إلى هنا دونما إدراكه. همس بها رائف وبصوت متحشرج رغم خشونته: يا دكتورة. ده سنقر. ما فيش داعي أبدا لخوفك ده.
تنبهت أنها تلتصق به في محاولة لا واعية لاستدرار الأمان. فانتفضت مبتعدة. ولم تنبس بحرف ليستطرد هو في نزق معتاد: واضح إن في مشكلة فالمحول. وبعد خوفك اللي أنا شايفة ده. مش هينفع تفضلي هنا لوحدك. اتفضلي معايا ع البيت. هزت رأسها رفضا. لكنه لم يدرك رفضها في عتمة المكان، معتقدا أن صمتها علامة رضا. تحرك مغادرا الاستراحة سائرا أمامها في اتجاه البيت معتقدا أنها ستطيع ما أن يأمر.
قررت الاعتراض وعدم إتباع خطواته لا لشيء إلا لمعارضته فقط. هي لا تدرك لما يحفز التعامل معه ذاك الجزء العنيد والمتصلب من شخصيتها، والذي لا تظهره بشكل كبير إلا في أحايين نادرة. هذه إحداها.
استشعرت أنها وحيدة اللحظة ما أن غادر الاستراحة. لتدرك حقيقة أنها لن تقدر على البقاء مفردها مهما حدث. الظلام عقدتها منذ كانت طفلة. هي الأشبه بجدتها زهرة في هذا الخوف من المكوث فالظلام. ربما لحادثة انغلاق خزانة الملابس عليها وهي صغيرة وعدم إدراك أحد لغيابها لفترة ما جعلها تنام داخل الخزانة خوفا من ظهور الأشباح والجنيات التي كانت تسمع أنهم يرقصون ليلا جوار الساقية المسكونة بأخر النجع قد أثرا عليها.
قررت وأد عنادها والاندفاع خلفه قبل أن يسبقها بمسافة كبيرة تسيرها وحدها بالعتمة. أغلقت باب الاستراحة في عجالة مارة بذاك الجسر الخشبي. الذي لسوء الحظ كان زلقا نوعا ما. تعثرت قدمها وهي تعبره في هرولة. لتسقط في الترعة الضحلة أسفله. وكان لسقوطها المدوي وصرختها الثانية في هذه الليلة أثرا على ذاك الذي انتفض موضعه زافرا في ضيق. عائدا أدراجه إليها مستطلعا ما الذي قد يكون أصاب هذه المذعورة على الدوام.
عادت بعد أن تناولت العشاء معهم واستطلعت أحوال أبيها لتجده ما يزل نائما بفعل الدواء. دفعت يدها بجيب عباءتها وأخرجت هاتفه المحمول. والذي سقط في غفلة منه على سرير والدها وهو يضعه عليه. قبل أن يندفع ليحضر له الطبيب. يبدو أنه لم يدرك حتى اللحظة أنه فقده.
أو ربما أدرك لكنه لا يستطيع الوصول إليه لأنه فارغ الشحن تقريبا. كان به بعض من قدرة عندما همت بالصعود لعنده حتى تعطيه إياه بنفسها. لكنه اللحظة. توقف تماما عن العمل وبحاجة إلى إعادة شحنه من جديد. جربت شاحن هاتفها وهللت عندما بدأ في الشحن. لحظات وضغطت زر فتحه. لعله يبحث عنه محاولا الرنين عليه. وبالفعل. رن الهاتف لتندفع إليه في عجالة لترد غير مدركة لاسم المتصل. والذي لم يظهر على الشاشة لسبب أو لأخر. لكن لصدمتها. تناهى لمسامعها صوت انثوي هتف في تساؤل: نادر. نادر معايا!
استجمعت صوتها هاتفة في محاولة ثبات فاشلة: لا. الباشمهندس نادر مش موجود حضرتك. هو نسي الموبيل. هتفت بدور على الجانب الأخر: مين معايا؟ نعمة!؟ لم تجب حُسن. وتعجبت أن الفتاة تعلم اسم أخته وتحاول التحدث معها بكل أريحية. ماذا يعني هذا!؟ هل يُعرف نعمة على الفتيات اللاتي يعرف!؟ هتفت حُسن نافية: لا حضرتك. أنا مش نعمة. الباشمهندس نسي موبايله عندنا فالورشة. وأول ما يوصل هبلغه إنك اتصلتي.
هتفت بدور: اه. طب تمام. يا ريت تبلغيه ضروري لو سمحتي. أكدت حُسن بنبرة رسمية: حاضر. عن إذنك. أغلقت بدور الخط في هدوء بينما قفز بعقل حُسن ألف سؤال وسؤال. ولم تجد إجابة واحدة تشفي غليلها وتطفئ بعض من تلك النيران المستعرة بين جنباتها. انتفضت عندما سمعت أحدهم يحييه بالخارج وهو في طريقه لبيت جده. فاندفعت مسرعة تدفع إحدى ضلف نافذتها المطلعة على الحارة هاتفة في لهفة: يا باشمهندس.
تنبه لموضع النداء. توجه نحوها مستفسرا في قلق: خير يا حُسن!؟ عمي سالم كويس!؟ أكدت في هدوء: أه الحمد لله. بس أنت لك أمانة عندي. وتركته قليلا لتخرج هاتفه من الشاحن لتعود به مادة كفها. تطلع للهاتف في تساؤل للحظة وأخيرا تنبه أنه فقد هاتفه وهو يتحسس موضع وجوده بنطاله. مد كفه وأخذه في امتنان: متشكر يا حُسن. كويس إنه وقع عندكم وأنتِ لقيتيه. أكدت في هدوء: المال الحلال ميضغش أبدا يا باشمهندس.
ابتسم في تأكيد لتضطرب ضربات قلبها التي أصبحت أشبه بطبول رعناء. وما أن هم بالرحيل حتى هتفت تستوقفه من جديد: يا باشمهندس. استدار نحوها مجددا لتهتف به في اضطراب: الآنسة بدور اتصلت بك. اضطرب بدوره هاتفا: بدور!؟ مالها!؟ صمتت وهي تتمزق وجعا على تلك اللهفة التي أبداها نحو امرأة غيرها. تمنت للحظة لو كانت تلك اللهفة المشوبة باهتمام حقيقي موجهة لها هي. هي من تستحق منه كل الاهتمام. كل اللهفة. كل الحب.
لم ترد على سؤاله المستفز. ولم ينتظر هو لنيل جوابا من الأساس. بل إنه تطلع لشاشة الهاتف في عجالة وبدأ في ضغط بعض الأزرار وهو يستدير مغادرا يدخل بيت جده. كانت موقنة أنه يحادث ندى اللحظة. موليا لها ظهر اهتمامه ومحبته. تاركا إياها تتحسر على حب يضمره قلبها وتعيش معذبة جراءه.
كان البرد قد بدأ في التسلل لعظامه رغم أن الليلة خريفية بامتياز. لا يعرف ما الذي كان يجول بخاطره إلا ذاك الشوق الذي يكابده والذي دفعه ليهتف لسماحة الذي كان يقلب الفحم المتقد بقلب الركوة لصنع المزيد من أكواب الشاي التي انتهيا لتوهما من شربها هامسا في تساؤل: أنت عمرك ما حبيت يا واد يا سماحة!؟ انتفض سماحة متطلعا إلى يونس بنظرة مستشعرا حمق السؤال مؤكدا في نبرة ساخرة: أحب كيف يعني!؟
تطلع إليه يونس في تعجب متسائلا من جديد: تحب يا سماحة! الحب يا بني آدم!؟ هز سماحة رأسه في لامبالاة مؤكدا: إيوه فاهمك يا بيه. العشج والمسخرة اللي بنشوفهم فالتلفزيون دول. تطلع إليه يونس حانقا: تصدج إنك جفلتني بكلمتينك دول. بس أمري لله مليش حد تاني أتكلم معاه.
تطلع إليه سماحة مزمجرا: كده برضك يا بيه!؟ مبجيش سماحة عاچب دلوجت!؟ تطلع إليه يونس مهادنا: لاه. أنت تعچب الباشا يا باشمهندس سماحة. جول بجى إيه رأيك فالعشج والمسخرة!؟ هتف سماحة بنبرة حادة مؤكدا: وده يتجال فيه إيه يا بيه!؟ أهو عالم فاضية. جال عشج جال. نشوف أكل عيشنا الأول وبعدين نبجوا نحب ونتمعشج. هتف يونس مازحا: يعني عايز تجول لي أن جلبك عمره ما دج لواحدة كده ولا كده!؟
هتف سماحة في صرامة مؤكدا: واحدة كيف يعني!؟ يا بيه العشج ده للي باله خالي. لكن اللي زي حالاتي ساحب وراه كوم لحم. ولايا ملزمين منيه. هيفكر يچيب لنفسه بلوى برضك!؟ تنهد يونس وقد أدرك حجة سماحة فهز رأسه متفهما هامسا في شجن: تصدج. أنت ربنا بيحبك. العشج واعر. دوامة ملهاش أول ولا أخر. لا تعرف بديتها كيف ولا ميتا هتخلص منِها. حتى لو خرچت. بتحسن إنه ناجصك حاچة كبيرة. مبتتعوضش أبدا.
ساد الصمت بعد كلمات يونس الذي لم يقطعه إلا طقطقة الجمر بركوة النار التي كان يونس يتطلع إليها اللحظة وكأنما هي انعكاس لساحة صدره التي تغلي في حيرة كمرجل. مد يونس كفه بداخل جيب جلبابه وأخرجها. أخرج تلك الطاقية الصوفية التي كانت تذكارها الوحيد. وقذف به في أتون الجمر الذي ألتهمها في تلذذ. ليهتف سماحة في تعجب متحسرا: ليه كده يا بيه!؟ كانت تنفعك فالبرد اللي داخل بتجله ده.
هتف يونس وعيونه لم تبرح موضع احتراق الطاقية: لاااه. عمرها ما كانت هتدفيني يا سماحة. معدتش بدفي. حكايتها خلصت وما بجيش من وراها إلا برد ووچع. أدرك سماحة أن تلك الطاقية لها شأن خاص عنده فهمس بصوت متحشرج متسائلا في تردد: دي كانت تخص حد غالي على جلبك يا بيه!؟ صح!؟
أكد يونس هامسا في وجيعة: دي كانت الجلب ذاته يا سماحة. بس خلاص حكايتنا خلصت من جبل ما تبدأ من أساسه. كنت العبيط اللي اتعلج في حبال الهوى وهي ولا دريانة. أتاري الحبال دايبة وأنا طلعت المغفل والموهوم بعشج من طرف واحد. وابتسم ساخرا مستطردا في حسرة: عارف اللي حب ولاطالشي. أهو أني الأخ ده. أوعاك تحب يا سماحة. جلبك يبجى ملك يدك. تعيش ملك زمانك. بلا عشج بلا يحزنون.
تطلع سماحة لسيده في تعاطف مشفقا على حاله ما دفع يونس لترك كوب الشاي الذي لم يرتشف إلا ربعه مندفعا لداخل الدار ليعلو صوته مترنما في شجن: غريب الحب مين فاهمه!؟ ما بين بيتفارقوا. وبين اتنين بيتفاهموا في حد الحب ده سارقه. وحد الحب كان وهمه. تطلع سماحة لبرهة باتجاه موضع غياب يونس وأخيرا ألقى بعض من ماء فوق الجمر لتنطفئ جذوته قبل أن ينهض مغادرا في اتجاه عشته.
انتظره بفارغ الصبر. لكن عنتر كان رحيما به فهل عليه بموعده ولم يتأخر. جذبه إليه مغريا بطبق الفاكهة ليتقدم إليه متبخترا كعادته. ليندفع مروان في سرعة كادت تدفع به من فوق كرسيه وهو يهبط ذاك المدرج الخشبي الهابط ليصل لسرج عنتر باحثا في لهفة عن أثر خطاب. اتسعت ابتسامته عندما وجده لكنها ما لبثت أن خبت سريعا ما أن اكتشف أن الخطاب له. وليس ردا منها على خطابه.
تنهد في ضيق. معتقدا أنها لم تفطن لحيلته أو ربما لم تره وهو يضع الخطاب. لكنه كان موقنا أنها رأته. نعم رأته وقرأت الخطاب لكنها اعادته موضعه حتى لا يكتشف ذلك.
عادت الابتسامة لتشرق من جديد على محياه وصعد المهبط في اتجاه حجرته باحثا عن ورقة وقلم في عجالة. خط بعض الكلمات على ورقة جديدة واحتفظ بخطابه القديم. لكنه عمد لحيلة ما ستجعله يكتشف اذا ما كانت تقرأ بالفعل خطاباته أم لا. وربما تجعلها هذه الحيلة تأتيه باحثة عن تفسير لما أرسل.
انتشى في سعادة للفكرة. وشرع في تنفيذها. وأخيرا عاد لعنتر الذي قضى على نصف ما بالطبق دفعة واحدة. وضع الخطاب بنفس المكان. في سرج عنتر. وعاد يداعب جبينه رابتا على عنقه المرمري وهو يحاول التلصص على موضعها خلف جزع هذه الشجرة الضخمة عند السياج المنخفض. ليجدها تقف في ترقب في انتظار رحيل عنتر أو مجيء الخفير المعتاد لأخذه. لتختفي بدورها. وهذا ما حدث بالفعل.
تنهد في راحة وعاد أدراجه لداخل حجرته منتظرا بفارغ الصبر زيارة عنتر بالغد. ليرى إلى أي مدى نجحت خطته. أمسك بفرشاته وبدأ في نثر الألوان على وجه اللوحة في احترافية. لم يكن يع ما يرسم إلا أن أصابعه رسمت براق فضي يحمل رسالة وردية. إلى من يهمه أمرها. ومدلى من عنقه سلسال يتلألأ وعليه حرف باللغة الإنجليزية يحمل أول حروف اسمها. الذي ظل يستنتج كنهه. لكن بلا طائل. فما وجد اسما قد يكون مناسبا لها. فتطلع لحرف ال A في خيبة. والذي يتأرجح هناك من ذاك السلسال الفضي الأنيق والمعلق على حافة فراشه.
وهمس في وجل. يا ترى اسمك إيه!؟ كان ذاك الظلام الدامس معرقلا له ليصل إليها بسرعة بعد أن سمع صرختها والتي أعقبها سقوط مدوي وصوت مياه تتناثر هنا وهناك. أخيرا وصل لموضع الجسر الخشبي ليجدها تقاوم للخروج من الماء لكن ملابسها الثقيلة تشربت بالماء ما اعاق محاولتها. ويبدو أن قدمها قد أصابها بعض الضرر لتعجز في النهوض من موضعها.
لم يتردد للحظة لاحقا بها في عمق الترعة حتى وصل إليها هاتفا بها وهو يمد كفه لها: هاتي إيدك. ياللاه. مدت كفها وجذبها بكل قوة لتنهض. لكن يبدو أن قدمها قد أصيبت بالفعل ما جعلها تترك كفه لتسقط من جديد بالماء. لم يكن بإمكانه إلا فعل واحد. اقترب منها وانحنى جاذبا جسدها نحوه دافعا بها محمولة بين ذراعيه. هتفت نوارة في صدمة وبصوت متحشرج باكِ: انت بتعمل إيه!؟
لم يجبها بحرف وهو يخطو بحذر داخل الماء حتى خرج منها بحرص شديد. توقف لحظة مثبتا أقدامه على الأرض الطينية التي تكون لزجة إلى حد ما على أطراف الترع. وما أن اطمئن أن الأمور تسير على ما يرام حتى بدأ في المسير بها من جديد حتى وصل لباب الاستراحة الذي دفعه بقدمه ومنه للداخل.
انزلها في رفق على أقرب الأرائك. لتنكمش هي على نفسها وشعور الخزي والخجل يسيطرا عليها. تركها مندفعا للداخل لا تعلم ماذا يفعل. غاب لدقيقة وعاد حاملا ركوة من الفحم يحاول إشعالها لتضفي على المكان بعض من الدفيء وخاصة عندما وجدها قد بدأت ترتجف جراء بلل ملابسها بشكل كامل في هذا الجو البارد. أخيرا اشتعلت النيران في الركوة بعد عدة محاولات.
كان رأسها منكس وتحتضن جسدها بكفيها رغبة في الأمان والدفء. تبصر موضع حذائه الذي انطبع على الأرض والبسط الخفيفة التي تغطيها. لم تتنبه في مرات ذهابه وإيابه أنه دخل إلى غرفة النوم وجذب الغطاء الصوفي الموجود بها ليأتي به منحنيا نحوها مدثرا إياها هامسا في نبرة هادئة: لازم تتدفي وإلا. لم يكمل فقد تذكر أنها طبيبة وبالتأكيد تعلم ماذا سيكون مصيرها إن هي بقيت بكل هذا البلل على جسدها.
هم بالنهوض مغادرا إلا أنها استوقفته في ذعر هاتفة واسنانها تصطك بردا وارتجافا: متسبنيش لوحدي. أنا. قاطعها بنفس الهدوء والقدرة على ضبط النفس التي قد تصل للبرود: هسيب معاكِ البرنس. أشار لكلبه الذي كان يلهث اللحظة وهو يدور حول كوة النار في استحسان للدفء المنبعث منها. واستطرد قائلا: دجايج وراچع.
اندفع للخارج في اتجاه داره يشعر بثقل خطواته لبلل بنطاله من الركبة إلى ما دون ذلك. وكذا بلل صدره عندما حملها بين ذراعيه. ما أن دلف إليها حتى طالعه وجه جده الذي كان قد ظهر أمامه بكرسيه المدولب كعادته يتسلل في المساء مغفلا كل من بالبيت ليحصل على ما يريد من المطبخ والذي تمنعه عنه أمه لخوفها عليه ورغبة في عدم تعرضه لوعكة صحية جديدة بعد التي مر بها منذ فترة ليست بالبعيدة.
هم رائف بالاندفاع صاعدا الدرج إلا أن همهمات جده استوقفته ليتطلع إليه غير مدرك عمن يتحدث: الحكاية بتعيد نفسها. وكله بجي شبه بعضيه. هتف به رائف: جصدك مين يا چد!؟ قهقه جده قهقهات متعاقبة أشبه بضحكات من فقد عقله هاتفا من بينها: مش هجولك. خلينا لما نتفرجوا ع اللي هيحصل لما يعرفوا. هتف رائف متوجسا من جديد: هم مين دول اللي يعرفوا!؟ ويعرفوا ايه!؟
قهقه الجد من جديد دافعا بكرسيه المدولب مبتعدا تاركا رائف بحيرته التي لم تطل وقد تذكر تلك المسكينة التي تركها غارقة في بللها ترتجف بردا.
اندفع معتليا الدرج في اتجاه غرفة أمه والتي كان على يقين أنه لن يجدها مستيقظة في مثل هذا الوقت. وخاصة وقد تناولت حبة المنوم منذ ما يزيد عن الساعة. وما من مجال ليتسلل لحجرتها حتى يرى ما يمكن أن يستعيره من ملابس من أجل المبللة هناك بانتظاره. فأمه لا تنم إلا وقد أغلقت عليها باب غرفتها بالمفتاح من الداخل. كانت هذه عادتها منذ قديم الأزل وحتى في حياة أبيه.
أيقن أنه ما من مفر لما كان يحاول أن يقنع نفسه بالابتعاد عنه. تحرك بأرجل متخشبة الى تلك الحجرة البعيدة بأخر الرواق الطويل. والتي لم يعد أحد من البيت يدخلها. ولا يملك أحد غيره مفتاحها. أخرج المفاتيح من جيب سرواله وتطلع إلى ذاك المفتاح المميز لبرهة قبل أن يدسه في موضعه ليدور عدة مرات قبل أن يدفع المقبض وتهب عليه رائحة الماضي بكل ما تحمل. ويا له من ماض!؟