logo




أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في Forum Mixixn، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .




اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 11 من 36 < 1 25 26 27 28 29 30 31 36 > الأخيرة



look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 05:54 صباحاً   [82]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش كاملة

وما زال العشق مستمرا.. وما زالت القلوب نابضة بين حنايا الصدور.. ولن يستطع أي من كان أن يوقف طوفان العشق مهما بنيت السدود.. فالعشق هو زاد العمر.. وزواد الرحلة.

للتوضيح: غلبا كلكم قرأتم الاقتباسات الطويلة من الجزء الرابع والتي تعتبر كمقدمة أو تمهيد له. لذا، للذين لم يقرؤوا تلك الاقتباسات (المقدمة) يرجى قراءتها أولا من هنا: مقدمة الجزء الرابع من ميراث العشق والدموع

وبعد أربع سنوات.
فصول رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

تنبه لحفيف الأقدام القادم من ناحية الدرج فألتفت نحوه مدركا من يكون صاحبه قبل أن تطالعه صورته. ومن يمكن أن يكون مستيقظا في مثل هذه الساعة قبيل الفجر بدقائق معدودة إلا هو. عاصم حفيده الذي تجهز ليندفع نحو المسجد ليؤذن لصلاة الفجر كعادته منذ أن كان طفلا يرافق اباه مهران الذي سلم له المهمة ما أن أشتد عوده.

تنبه عاصم الحفيد لموضع جده داخل حجرة المكتب فدلف إليها والابتسامة ترتسم على وجهه هاتفا: أنت صحيت يا چدي!
وانحنى طابعا قبلة حانية على جبين جده مستطردا: صباح الخير.
أكد عاصم في بشاشة: صباح السعادة يا باشمهندس. إيه. صلاة الفچر وچبت!
أكد عاصم الحفيد: أه يا جدي. يا دوب ألحج.
دفعه عاصم برفق مؤكدا: طب ياللاه روح شوف حالك. وهستناك نفطروا سوى.

اندفع عاصم الحفيد لخارج الغرفة متجها لخارج السراي لتدخل زهرة الحجرة فور خروجه منها متجهة نحو زوجها هاتفة: صباح الخير يا عاصم. خدت الدوا اللي بيتاخد ع الريق!؟
هتف عاصم ممتعضا: ما جلنا مش واخد أدوية أني!؟ بلا دوا بلا يحزنون. أني شديد ومش محتاچ علاچ.
هتفت زهرة مؤنبة: يا عاصم هاتتعب. لما بطلته من فترة تعبت وكانت حكاية. أنا رايحة اجيبهولك.

هتف عاصم مازحا: يا شيخة. لا تروحي ولا تاچي. تعالي بس جربي كده وأني أجولك فين الوچع وطيبيه أنتِ بمعرفتك.
قهقهت زهرة مؤكدة: برضو هتاخد الدوا.
دخل مهران متنحنحا وقد هل صوت عاصم الحفيد من خلف اسوار السراي مؤذنا لصلاة الفجر ليهتف مهران مبتسما: صباح الخير عليكم. إيه عاركة كل نهار بتاعت الدوا!
هزت زهرة رأسها إيجابا بينما قطب عاصم حاجبيه مؤكدا: موخدش أني أدوية ولا هم.

هتفت زهرة متعجبة: اللاه. مش كنت هتخده واتفقنا خلاص.
هتف عاصم: لااه متفجناش. عايز بيض بالسمن البلدي وجشطة بالعسل الأبيض ع الفطور.
قهقه مهران ولم يعقب على طلبات المساومة التي يفندها عاصم واندفع ليلحق بصلاة الفجر. بينما هتفت زهرة مدعية الضيق: إيه ده يا عاصم! ده فطور عريس ليلة صبحيته.
هتف عاصم مؤكدا في مجون: وأني كنت باكل كده وأني عريس!؟ كنك نسيتي.

قهقهت زهرة تاركة إياه تسير الهوينى مبتعدة نحو حجرتهما بالطابق الأرضي لتحضر له الدواء ولتعطي الأوامر للخدم لتجهيز الإفطار.
وضعت الأطباق على مائدة الإفطار في أخر جولة لها قادمة من المطبخ وتنهدت بعد أن ألقت نظرة استحسان على المائدة العامرة قبل أن تخطو لداخل الردهة تطرق الباب على خالها وزوجه هاتفة: الفطار جهز يا خالي. ياللاه يا أما نعمة. قوموا على بال ما أنادي على ناصر والعيال.

هتفت نعمة من الداخل: حاضر يا شوشو قايمين.
اندفعت شيماء باتجاه الدرج صاعدة لشقتها متجهة نحو حجرة ولدها نادر طارقة الباب في سرعة: ياللاه يا باشمهندس. كده هتتأخر على الجامعة.
لم يحر نادر جوابا إلا همهمة كسولة وصلتها من خلف الباب لتندفع لحجرة ابنتها دافعة الباب لتدخل هاتفة بها: ياللاه يا نعمة. قومي أعملي لك همة. عندك جامعة ولا إيه النهاردة!؟

هتفت نعمة مؤكدة في تكاسل: أه يا ماما. كمان ساعتين. بس كنتي سبتيني أنام شوية.
هتفت شوشو في حنق: تنامي! بدل ما تقومي تساعديني في حطة الفطار!؟ عوض عليا عوض الصابرين يا رب.
واستطردت وهي تندفع خارج الغرفة في اتجاه غرفتها: ياللاه بلاش دلع. انزلي حطي براد الشاي عند ستك تحت. عقبال ما أصحي أبوكِ.

ما أن همت شيماء بدخول حجرتها حتى طالعها محيا نادر ولدها خارج من حجرته في اتجاه الحمام يتثاءب ملقيا التحية: صباح الخير على أجدع شوشو.
هتفت شوشو في محبة: صباح الخير يا حبيبي. ياللاه أسرع ع الحمام عشان أبوك هيصحى وهتعملوا عليه خناقة كل يوم.
ابتسم نادر مؤكدا: حاضر فوريرة.
هتفت شوشو: أهو أنا مبقلقش إلا من فوريرة دي. فيها خمس أشهر في الحمام.

قهقه نادر: لا والله هنجز عشان عندي أول محاضرة النهاردة. متعطلنيش بقى يا شوشو. وروحي صحي أبو النصر.
وقال كلمته الأخيرة في نبرة رفيعة مقلدا إياها، ما دفعها لتجذب إحدى المناشف من المشجب المخصص لها على الحائط المقابل، ملقية إياها عليه ليتلقفها مقهقها قبل أن يندفع لداخل الحمام. لتبتسم بدورها قبل أن تفتح باب حجرتها برفق متسلسلة نحو فراشها تنحني نحو ناصر هامسة بجوار مسامعه: ناصر. الفطار زمانه برد تحت.

يا بوالنصر. قوم بقى.
همهم ناصر متعلقا بكفها التي كانت تداعب خده في شقاوة، هامسا بصوته الأجش مازحا: أنتِ أد الحركة دي!؟
اتسعت ابتسامتها وهمست متحدية بنبرة مشاكسة: أه قدها ونص كمان.
هتف ناصر مؤكدا في مزاح: أنا بقى مش قدها والنعمة. عشان كده لازم أقوم حالااااا.
قهقهت شوشو هاتفة: أيوه كده. هو لازم تخافوا يعني. رجالة متجيش إلا بالعين الحمرا.

تطلع ناصر إليها واتسعت ابتسامته لكن ما أن سمع شدو قادم من الحمام حتى انقلبت سحنته هاتفا: هو المحروس ابنك لسه جوه فالحمام. والله لأص.
هتفت به شيماء: أهدى أهو خارج. عليه أول محاضرة ومش هيتأخر.
ما أن نطقت كلماتها حتى انفرج باب الحمام محدثا صريره المعتاد، منبئا أن نادر قد غادره، ما جعل شوشو تتنفس الصعداء لأن المعركة اليومية بين زوجها وولدها البكر قد وضعت أوزارها قبل أن تبدأ من الأساس.

اندفع ناصر في اتجاه الحمام يسعل بصوته المعتاد في تلك الساعة من الصباح، ما ذكرها أيام أن كانت تلك الحمقاء التي تكره سماع صوت سعاله من خارج باب حجرتها، قبل أن تدرك ذاك الحب الكبير الذي يكنه لها والذي ما زال متأججا بينهما حتى هذه اللحظة. ابتسمت للذكرى من جديد وهي تندفع للأسفل في انتظارهم من أجل إفطار جماعي لم ينقطع يوما.

أخذ يقلب بين محتويات خزانة الملابس لعله يجد بغيته، لكنه لم يفلح في ذلك ولم يهتد إليها، ما دفعه ليصرخ هاتفا بأخيه الذي يغط في نومه: أنت يا بني آدم. فين الچلابية الرمادي!؟ غورتها فين!؟
همهم يونس من بين سباته: تلاجيها في الغسيل. أني كنت لابسها إمبارح.
هتف راضي محتدا: اه. حلو جوي. وأني أتنيل ألبس إيه دلوجت!؟ الدولاب فاضي. ومفيش ولا چلبية مكوية.

فتح يونس إحدى عينيه هاتفا في مزاح: روح اتسحب على دولاب أبوك، واسحب لك واحدة ولا من شاف ولا من دري.
هتف راضي حانقا: إيووه. ولما يعرف. أنت أول واحد هتجوله راضي. ما حاكم أني عارفك. تموت فالأذية.
قهقه يونس مؤكدا: أكدب يعني وأخش النار عشان خاطرك!؟
هتف راضي حانقا: لاه يا مؤمن. أولع أني بچاز.

ودفع راضي بجسده داخل إحدى الجلاليب الموضوعة جانبا هاتفا في عجالة: آها أي حاچة وخلاص. هروح ألحج لي لجمتين من الفطور، جبل ما الچيش اللي بره يخلص عليه.
قهقه يونس مؤكدا: إبجى جابلني.
خرج راضي مندفعا نحو مائدة الطعام، وما أن هم بوضع كفه محاولا الحصول على أي كسرة خبز يتناولها، إلا ووجد إخوته الصغار قد قضوا على الأخضر واليابس، ليهتف في حنق: إيه ده! فين الأكل!؟

هتفت عائشة أمه في لامبالاة: بجالي ساعة بنادم عليكم وأجول الفطور. أخواتك كلوا عشان يلحجوا مدارسهم. أنت وأخوك عايزيني أدخل أحط لكم الأكل على سرايركم.
وتركته ومضت ترى ما عليها فعله. ليهمهم راضي في غيظ مندفعا في اتجاه غرفته من جديد ودخل على يونس ممتعضا لترتفع قهقهات الأخير مؤكدا: أني مش جلت لك. تعالى أجعد چار أخوك لحد ما نشوفوا لنا حد يعطف علينا ويعملنا لجمة فالبيت ده.

هتف راضي حانقا: ما البركة فيك. كان زماني لحجت لي لجمتين فول ولا بيضة حتى. منه له.
قهقه يونس من جديد هاتفا: خلاص. متزعلش كده. جوم نغلس ع البت دعاء. دي أكيد زمانها واجفة فالمطبخ تعمل لها طابونة عيش عشان تاخدها معاها الچامعة تشج بيها ريجها.
قهقه راضي مؤكدا: على جولك صح. تعالى. بس تفتكر هنطلعوا منها بأي مصلحة البت دي!؟ ما أنت عارفها، تعز الأكل زي عينيها.

نهض يونس مندفعا لخارج الغرفة وراضي يتبعه هاتفا: أهو نچرب.
تسلل كلاهما للمطبخ وتطلعا نحو أختهما دعاء وهي تتمايل بجسدها الممتلئ وكومة من الساندوتشات المعدة قبالتها وهي في سبيلها لصنع المزيد. تترنم بأغنية طفولية كانت قد حفظتها عن ظهر قلب من كثرة ما كانت ترافق إخوتها الصغار أمام قنواتهم على التلفاز.

سار نحوها راضي في تؤدة لتنفيذ الخطة التي اتفق عليها مع يونس هاتفا: صباح الخير يا دعاء. أنتِ نازلة الچامعة النهاردة!؟
أكدت متوجسة: إيوه. إيه الچديد يعني!؟ ما أني بنزل كل يوم.
كان راضي يحاول جذب انتباهها عن يونس الذي تسلل من خلفها وبدأ في سحب الأرغفة واحدا تلو الآخر.
ليهتف راضي الذي ما وجد ما يقوله فهتف في حماقة منهيا الحوار: طب ربنا معاكِ.

تنبهت في تلك اللحظة ويونس يجذب أخر الأرغفة لتصرخ هاتفة مستغيثة: يا مامااااا
انتفض يونس يخرس فمها قبل أن تظهر أمه موبخة. فقد كانت دعاء عندها فرخة بكشك كما يقول المثل الشعبي. وما كان لأحد أن يغضبها أو يدوس لها على طرف.
هاتفا في رجاء: خلاص يا دعاء. إلا أمك.
استكانت، فأزاح يونس كفه عن فمها. وربت راضي على صدره مستعطفا لتنفجر ضاحكة مؤكدة: خلاص صعبتوا عليا.

وتطلعت نحوهما مستطردة: وعلى فكرة أنا عاملة حسابكم معايا فالأكل.
هتف راضي في امتنان: والنعمة أنت أچدع دعاء فالدنيا.
وبدأ في التهام أحد الأرغفة في جوع، ليقلده يونس مؤكدا وهو يبتلع قضمة بدوره: تسلم إيدك يا بت يا دعاء. الساندويتشات تجولي حاطة فيهم سكر.
انتفخت أوداج دعاء في فخر مؤكدة: أوماااال. لا هو أنا هاكل أي حاچة وخلاص. عمايل أيديا وحياة عنايا.

كانت تصنع الشطائر في احترافية كبيرة فعلا. كانت تحب الطعام وطرق إعداده. وذاك ما أورثها هذا الجسد الممتلئ الذي كان مأساتها منذ صغرها. لكنها ما كانت تقيم للأمر وزنا.

انساب ذاك اللحن الفرنسي الشجي عبر الغرفة في عذوبة وأخذت سجود تكرر مع مغنيته كلماتها التي تصف لوعة العشق وناره. كانت تتطلع عبر النافذة لذاك الصباح الوليد وهي تجول بناظرها للأفق الذي تحتل صفحته أحلام يقظتها التي لا تفارق مخيلتها، تراها متمثلة في ذاك الفارس الذي يختطفها على صهوة جواده، ليرحل بها لعالم أبدي غارق في العشق.

تنهدت وهي تتخيل هذا الفارس القادم من هذا الأفق البعيد. متمثلا في صورة سمير بن سهام عمتها. فارس وسيم، فارع الطول، خفيف الظل كما حلمت دوما.
رفعت عقيرتها بالغناء من جديد، لتصرخ نوارة أختها ورفيقتها بالغرفة في غيظ، وهي تضع إحدى الوسائد على رأسها في حنق: حرام عليكِ يا بعيدة. إجفلي المخروب ده، وإخرسي اللي جاعدة تنوح دي، عايزة أنااام.

هتفت سجود في اعتراض: مين دي اللي بتنوح!؟ دي من أچمل الأغاني الفرنسية في التاريخ يا چاهلة.
رفعت نوارة الوسادة عن رأسها، ملقية إياها في اتجاه سجود، هاتفة في حنق: سبنالك أنتِ العلم يا أستاذة. روحي بجى وسبيني أنام.
هتفت سجود متسائلة: كلهم تحت. مش هاتنزلي تفطري معانا.
أكدت نوارة وهي تجذب الغطاء على جسدها في عزم: لاااا. لو حد سألك عليا جوليلهم نايمة. أنا سهرانة طول الليل بذاكر.

هتفت سجود تشاكسها: حاااضر. من عنايا. بتذاكر جال. جولي جاعدة تشرحي فالخلج. يا چزارة.
اندفعت سجود هاربة من الغرفة قبل أن تطالها إحدى وسائد أختها الطائرة. والتي دفنت نفسها بين الأغطية من جديد فقد كان عليها الإجتهاد بالأشهرالأخيرة حتى تنهي فترة الإمتياز لتخرج لحياتها العملية أخيرا. فها قد أوشكت رحلة الدراسة على الانتهاء. وهي لها.

علق سترة بدلته الميري على ظهر كرسي المائدة الذي دفعه ليجلس على رأسها قبل أن تضع تسبيح أحد الأطباق أمامه لتجلس جواره هاتفة وهي تبدأ في صب كوب من الشاي لأجله: ها يا حازم. على فين العزم المرة دي!؟
ابتسم وهو يلقي إحدى اللقيمات بجوفه هاتفا في لامبالاة: والله ما عارف يا تسبيح. أهو على حزب الريح ما تودي. بس يا رب مكان ميبقاش بعيد. لحسن العضمة كبرت.

ابتسمت بديلوماسية وهتفت بقلق: يا حازم بدور في نهائي هندسة. السنة دي محتاجة تركيز. مكنتش عايزة اشحططها. خليها تخلص على خير.
هتف متعجبا: طب وهو ده بأيدي يا تسبيح!؟ اللي ربنا رايده يكون. واهو الحمد لله السنة لسه فأولها. يعني لو ربنا أراد ورحت مكان كويس، هتنقل كلية كويسة. أهو قعدت سنوات الكلية كلها في جامعة المنصورة. خليها تتخرج بقى من جامعة تانية. وأهي خبرة.

تنهدت تسبيح هاتفة: أنا مش عارفة هجبهالها إزاي!؟ بص. أنت اللي هتقول لها.
قهقه حازم هاتفا وهو يمد كفه ليتناول كوب الشاي مرتشفا بعضه: بقى تسليح بجلالة قدرها بتخاف م البت بدور دي!؟ ياعيني ع الشديد لما تبهدله الأيام.
ابتسمت تسبيح مؤكدة: دي چباااارة. والله ما عارفة دي طالعة لمين!؟
تطلع إليها حازم في نظرة يملؤها الشك والتعجب، لتنفجر ضاحكة على تعبيرات وجهه هاتفة في مرح: خلاص. عرفت. يا ساتر.

هتف حازم مازحا: أحب التصالح مع النفس.
همت تسبيح بالرد عليه، إلا أن هاتفه ارتفع رنينه، ما دفعه لينتفض مجيبا، مترقبا أخبار التنقلات. كانت تسبيح بدورها تكتم أنفاسها توترا وهو يرد على محدثه بالطرف الآخر، وما أن أنهى مكالمته وهو يرد على مباركات الطرف الأخر، حتى انتفضت هاتفة في لهفة: هااا. على فين!؟
تنهد حازم في راحة هاتفا في سعادة: مديرية أمن القاهرة بإذن الله.

هللت تسبيح في راحة: الحمد لله. ربنا يجعلها خير عليك وعلينا يا رب.
ربت حازم على كتفها ممتنا، وانحنى يقبل جبينها قبل أن يتناول سترته لارتدائها، مندفعا للخارج حتى يجهز نفسه لتنفيذ النقل، تاركا تسبيح تعد العدة للانتقال إلى القاهرة.
وقفت أمام مرآتها تعدل من هندامها وتضع أخر اللمسات على غطاء رأسها قبل أن تجيب نداء أمها للإفطار.

تطلعت بنظرة أخيرة لتلك البدلة العملية التي ترتدي ساترة ذاك الجسد الممشوق المفعم بالثقة وانعكست نظراتها على زجاج المرآة لترى تلك المرأة التي حلمت أن تكون يوما. امرأة قادرة. واثقة. لا تهزها الخطوب. امرأة عملية. تقيم الأمور بمقياس المكسب والخسارة كما تعلمت في تخصص إدارة الأعمال الذي بدأت في تحضير أوراق دراستها العليا به.

تلك النظرة الجوفاء الباردة التي تحير من يتلقاها، والقادرة تماما على إخفاء كل ما تحمله من مشاعر داخلية، تعلمت في السنوات الماضية كيفية اخفاءها بمهارة كبيرة واحترافية عالية.

ابتسمت لصورتها في المرأة ابتسامة رضا، واندفعت لخارج الغرفة في اتجاه الدرج الذي ما أن همت بنزوله حتى تذكرت أنها لم تمر على حجرة جدها لتلق التحية كما اعتادت. فعادت أدراجها لتقف أمام باب الحجرة طارقة الباب برفق، دافعة إياه تطل منه برأسها لتتأكد أنه مستيقظا في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح.
وجدته جالسا على كرسيه الذي لا يبرحه بالشرفة. يتطلع للبحر من موضعه مركزا على نقطة بعيدة غارقا في تيهه.

انحنت تقبل جبينه هاتفة في رقة: صباح الخير يا جدو.
تنبه زكريا متطلعا إليها في شرود للحظة، قبل أن يبتسم مجيبا: صباح الفل يا فريدة يا حبيبتي. أنتِ رايحة الكلية!؟
ابتسمت نافية: لا يا جدو. أنا رايحة مع بابا الشركة. أنا اتخرجت السنة اللي فاتت يا زكريا بيه. وبدرب مع بابا من ٣ سنين.
ابتسم زكريا، رابتا على كفها المضمومة بحجرها في وداعة: ربنا يبارك فيكِ يا بتي.

نهضت فريدة مقبلة جبين جدها من جديد، تاركة الغرفة لتلتحق بأمها وأبيها على مائدة الإفطار.
ألقت التحية في هدوء، وجلست تعلم هدير أمها: جدي زكريا صحي يا ماما.
هتفت هدير مؤكدة: صحي بدري عن معاده، هاخد له الفطار.
هتف حمزة وهو يرتشف الجرعة الأخيرة من قهوته الصباحية: أنا طالع معاكِ أصبح عليه.

ووجه كلامه لفريدة مؤكدا: شدي حيلك يا فريدة. أنزل من عند چدك تكوني فطرتي. عندنا اچتماع مهم النهاردة مش عايزين نتأخر عليه.

هزت فريدة رأسها إيجابا دون أن تنبس بحرف واحد. كانت تأكل بلا شهية من الأساس. فكل ما كان يشغلها اللحظة هو ذاك اللقاء المرتقب. والذي لم تعد له العدة كما يجب. تطلعت أمامها في تيه. وشردت في الماضي البعيد الذي يحمل لها ذكري غيرتها كليا. جعلت منها امرأة أخرى غير تلك الساذجة التي كانت عليها يوما ما. ذكري ستظل كالندبة على جدار القلب لا تمح. وحمدت الله أنها ستظل دوما هناك. لتذكرها أن شؤون القلب ضعف. وأن الحب وتباريح الغرام ترهات مُختلقة لا تليق بذي عقل.

تنبهت منتزعة من خيالاتها عندما هتف بها حمزة أمرا: ياللاه بينا.
نهضت تحمل حقيبتها تتبعه في خطوات رسمية ثابتة لامرأة تعرف أين يكون موضع خطوة قدمها القادمة.
أطلق ماهر وولده مؤمن التحية عند دخولهما الدار ليتنبه أهله. ابتسمت هداية وهي قادمة من المطبخ تحمل بعض أطباق الإفطار هاتفة في ترحاب: وعليكم السلام يا مشايخ. إيه اتأخرتوا النهاردة!؟ مش بعادة.

هتف ماهر متنهدا وهو يجلس لأحد مقاعد الدار: أبدا يا ستي. الشيخ مؤمن صمم نجعد نجروا قرآن لحد الشروج. هجول لاه. رحت جاعد.
ابتسمت هداية في فخر لولدها هاتفة: يا رب دايما من حملة كتاب الله. عجبال اللي فبالي.
لم تنه كلماتها حتى هل عبدالله من داخل إحدى الحجرات متثائبا، وتوجه مباشرة نحو المائدة وبدأ في تناول الطعام بشهية كبيرة.

لتستطرد هداية في حنق: أهاااا. چبنا فسيرة الجط چه ينط. وشوف جايم ع الأكل طوالي، تجولوا كان صايم بجاله عشر سنين.
قهقه مؤمن على مظهر عبدالله أخيه الأصغر هاتفا: يا عم حتى قول سلام عليكم.
هتف عبدالله وفمه يملأه الطعام: وعليكم السلام يا شيخ. تعالى كل لك لجمة.
هتف ماهر ساخرا: ده بيعزم علينا ما شاء الله. ده أنت تتحسد والله.
هتفت هداية ساخرة بدورها: على جولك يا حاچ. ده إلا الأكل. عشجه ومذهبه.

تطلع إليهم عبدالله في لامبالاة، فقد اعتاد هذا الحديث كل صباح، معاودا التهام الطعام وكأن هذا الحديث لا يعنيه من أساسه، بل أنه أشار لمؤمن هاتفا في
رجاء: وحياة أبوك يا شبح مؤمن ناولني طبج الفول اللي جدامك ده.
اتسعت ابتسامة مؤمن وهو يناوله الطبق وهتف متعجبا: أنا بس عندي سؤال واحد محيرني. أنت بتودي الأكل ده كله فين!؟

هتف ماهر وهو يأخذ موضعه على المائدة: أه والله. ده يحمد ربنا إنه بالاكل ده كله وشكله زي اللي جاي من مچاعة على هنا عدل.
ارتفعت ضحكات هداية مؤكدة: الواد ده فبطنه دود بياكل أكله.
أكد ماهر ضاحكا: جولي كام حنش كده. جال دود جال.
قهقه عبدالله نفسه على كلمات أبيه، بينما هتفت هداية تستدعي ابنتها التي غابت بالداخل ولم تحضر باقي الأطباق: يا بت يا سمية! فين بقية الفطار. هي نامت چوه ولا إيه!؟

همت بالنهوض لترى ما الذي أخر ابنتها هاتفة في حنق: واحد مش ملاحجين عليه أكل. والتانية مش ملاحجين عليها سرحان وتوهه. الرحمة من عندك يا رب.
لكن سمية طلت تحمل الصحون الناقصة تمشي على مهل في رقة هاتفة: أنا چاية أهو. الفول برد جلت أسخنه.

وضعت الأطباق على المائدة وجلست بجوار أمها تتطلع لمؤمن تود لو أنها سألته عما يدور بخلدها اللحظة. تظاهرت بتناول الطعام وهي تحاول صياغة سؤالها والذي اخيرا هتفت به في تردد: مسمعتش صوتك فالآذان ليه يا مؤمن!؟
هتف مؤمن في نفس اللحظة التي طالبها فيها أبوها بكوب الماء المجاور لطبقها. مدت كفها به لكنه اضطرب قليلا حتى كادت تسقطه ما أن فسر: أبدا. سبجني عاصم للثواب. هو اللي أدن الفچر النهاردة.

كان ذكر عاصم يثير فيها مشاعر شتى جعلتها تتقوقع على نفسها دون أن تنبس بحرف. مجرد ذكر اسمه يجعل الاضطراب يشملها كليا.
هتفت هداية مؤكدة في انشراح: عاصم واد مهران الهواري. والله شاب زي الفل. ميتخيرش عنك يا مؤمن. ربنا يحميه.
غاصت سمية في كرسيها أكثر وأكثر عند ذكر عاصم من جديد. مستشعرة أن سيرته العطرة تلك تدثر قلبها بدثار من طمأنينة و راحة. حتى أنها ما عادت لها الرغبة في شيء أخر إلا ذكره الذي يطرب قلبها.

نهض عبدالله في تثاقل متنهدا في راحة، رابتا على معدته في سعادة، وقد أتم مهمة تعبئتها بنجاح، هاتفا في أريحية: سلام عليكم. أروح أنام لي شوية.
هتفت هداية في غيظ: يا واد ما أنت لساتك جايم م النوم. هتنام تاني!؟
أكد عبدالله وهو يتثاءب وعلى شفتيه ابتسامة ساذجة: أه. لسه مشبعتش نوم. أنا جمت أشبع أكل. وراچع أكمل نومي. تصبحوا على خير.

هتف هداية في حنق شاكية لماهر: شايف عمايل ولدك. والله ده ما مكانه هنا. ده ينحط بچنينة الحيوانات. فجفص الدب. أخره ينام ويجوم ياكل. ويرچع ينام.
قهقهه مؤمن مؤكدا: مضايجيش نفسك. ربنا يهديه.

كان عبدالله قد وصل لعتبة باب حجرته، فاستدار نحوهم وبدأ في تقليد الدب ضاربا على صدره بكلتا يديه. قبل أن يدخل الحجرة من أجل استكمال بياته الشتوي، تاركا الجميع غارقا في الضحك على أفعاله الصبيانية، رغم أنه تخطى الرابعة والعشرين من عمره.
هتفت صارخة باسمه كأن هناك مصيبة قد وقعت، ما دفعه ليهرول نحوها في سرعة متسائلا: إيه في يا ستي!؟ أنتِ بخير!؟
هتفت سهام جدته مؤكدة: أحسن منك.

تنهد سمير في راحة معاتبا: طب وليه الصريخ ده يا ستي!؟ جطعت الخلف. يرضيكِ متشوفيش واد واد ولدك.
هتفت به سهام في لامبالاة: يعني هشوف ليلة الجدر ياخوي. معلوم عيل مخبل كيف أبوه.

قهقهت سهام الصغرى التي كانت تجلس على مقربة مستمتعة بجدال سمير المعتاد مع جدتها. ما دفع سمير ليلق عليها بإحدى الوسائد في غيظ. لترتفع قهقهاتها وجدتها تهتف به أمرة وهي تسلمه جهاز التحكم عن بعد الخاص بالتلفاز: خد. چيبلي المسلسل التركي اللي أني متبعاه.
ضرب سمير على جبهته في نفاذ صبر هاتفا في لهجة حاول أن يضبط نبرتها: يا ستي أنتِ متابعة لحد دلوجت ياچي ٣٧٠ مسلسل تركي. أعرف منين أنا جصدك على مين فيهم!؟

هتفت سهام في ضيق: يا واد يا بوعجل تخين. المسلسل بتاع البت اللي كانت بتمثل ع الواد إنها بتحبه.
أكد سمير متنهدا: ده خلص من ياچي شهرين يا ستي. بالأمارة يوم ما أترفع عليكِ الضغط لما جعدتي تعيطي ففرحهم.
انفجرت سهام الصغيرة مقهقهة من جديد مؤكدة: حصل يا ستي وأنا شاهدة.
أكدت سهام وهي تنظر إلى حفيدتها المفضلة مؤكدة وهي تعاود النظر لسمير: ما دام سهام جالت يبجى صادجة. شكله خلص بچد.

هتف سمير مغتاظا: يعني أني اللي بكدب عليكِ يا ستي. طب والنعمة ما أنا چايب حاچة. أهاااا.
وترك جهاز التحكم من يده ما دفع سهام لتصرخ هاتفة: تعالي يا سندس. تعالي يا بت أخوي شوفي ولدك جليل الرباية بيعمل إيه في سته أم أبوه. والله لما ياچي باسل لأخليه يعلجك من ودانك فالسجرة يا جليل الرباية. أدبك عليٌ.

قهقهت سهام الصغيرة من جديد على ذاك الفصل المسرحي المتكرر مؤكدة من بين قهقهاتها: مفيش شجرة هتاچي على مجاسه يا ستي. هو أطول من شجر الجنينة كله.
هتفت سهام وقد نسيت غضبها في لحظة تفتح كفها كاملا في وجه حفيدتها: جولي ما شاء الله. ربنا يحميه ويبارك فيه واد ولدي. تعالى يا واد الغالي أجعد چاري. اتوحشتك.

تطلع سمير في شك لأخته التي كانت تكتم ضحكاتها، ليذهب للجلوس جوار جدته متوجسا، والتي ما أن استقر جوارها حتى تنبهت لما كان منه منذ لحظات، فرفعت كفها ضاربة مؤخرة رأسه في غيظ هاتفة: ياللاه هات المسلسل اللي أني متبعاه. انچز. عايزة ألحج الحلجة من أولها. تلاجي الواد عرف أن الولية اللي ربته مش أمه يا عين أمه.
هتف سمير محتجا: يعني الواد صعبان عليك يا ستي، وانا مش صعبان عليكِ من اللي بيحصل فيا ده!؟

هتفت سهام الصغرى من بين قهقهاتها متسائلة: أنا نفسي أفهم إيه اللي بيعچبك ف المسلسلات التركي دي يا ستي!؟
أكدت سهام متنهدة: بيفكروني بچدك حسام الله يرحمه.
هتف سمير ساخطا: چدي حسام كان شبه الأتراك! أوماااال إيه الخلجة العفشة اللي ورثتها دي!؟
ارتفعت ضحكات سهام بينما ضربته جدتهما على مؤخرة رأسه من جديد هاتفة: دي مش وراثة يا واد. العفاشة دي اچتهاد شخصي.
قهقهت سهام الصغرى مؤكدة: قصف چبهة محصلش يا ستي.

استطردت سهام مؤكدة في حنين: چدك الله يرحمه كان حنين وحبيب كده كيفهم.
وتنهدت مستطردة في حسرة: واااه لو يرچع الشباب والعمر من تاني!
هتف سمير متسائلا في نبرة ماجنة: يرچع ليه بجى يا ستي. هااا. ليه!؟
هتفت سهام في حنق: عشان أعلمك الأدب من أول وچديد. جوم من چاري.
هتف سمير ساخرا: طب والأتراك اللي مستنظرينك يا ستي.
أكدت سهام: لاااه. خلاص. سديت نفسي يا بَعيد. أني جايمة أسمع الست.

هتف سمير مازحا: إيوه بجى يا سوسو. وتفتكري الذي مضى.
تطلعت إليه سهام مؤكدة: مش بجولك ناجص رباية.
لتنفجر سهام الصغرى في الضحك من جديد، وجدتها سهام تلقى بجهاز التحكم عن بعد في اتجاه سمير، الذي ولى هاربا من أمامها.
كان متوجها صوب باب الشقة مغادرا للجامعة إلا أن نعمة استوقفته راجية في نبرة مستعطفة: استناني عشان خاطري يا نادر، خدني في طريقك.

هتف نادر متعجبا: هو انتِ مش بتروحي كل مرة مع حُسن! عايزاني ليه أروح معاك النهاردة بالذات!؟

كانت نعمة تتعرض لمضايقات من بعض شباب الحارة العاطلين والمتسكعين على الأرصفة بلا شاغل إلا مضايقة الفتيات وإزعاج خلق الله. لكنها لم تشأ أن تخبره الحقيقة خوفا عليه منهم، وحتى لا يتهور كعادته ويتوعدهم. لذا أثرت الصمت والخروج معه حتى يكون وجوده رادعا لهم عن ايذائها وخاصة أنها لا تعلم إن كانت حُسن ستصحبها اليوم أم لا. والتي كانت كعادتها لا تدخر وسعا في تلقينهم ما يستحقون. لكن الأفضل وجود نادر، حماية لها ولحُسن نفسها.

هتفت نعمة متعللة: لا مفيش. بس أهو ونس معاك. وبعدين أنا لسه هشوف إذا كانت خُسن هتروح ولا لأ.
هز نادر رأسه موافقا ليهبطا الدرج سويا. سارا حتى وصلا لنافذة بيت حُسن. دقت عليها نعمة هاتفة: حُسن. يا خسن. هتروحي الجامعة النهاردة!؟
وضعت حُسن غطاء رأسها ودفعت بخصاص النافذة مطلة منها نافية: لا يا نعمة. مش هروح النهاردة. أبويا تعبان.

أرتفع سعال أبيها من الداخل مؤكدة: منمش طول الليل. هقعد جنبه والبركة فيكِ. أبقى أنقل المحاضرات منك لما ترجعي.
هتفت نعمة في عجالة: طيب تمام. هسيبك عشان نادر بيستعجلني.

هزت حُسن رأسها متفهمة، وهي مدركة أنه كان هناك بالفعل. على بعد خطوات بسيطة من موضع وقوف نعمة. وكيف لا تعي أين يمكنه أن يكون. وهو قِبلة القلب التي يتوجه إليها كل صباح. هل يتوه قلبها عن قِبلته التي أهتدى إليها نبضه منذ أدركت أن لها خافقا يترنم باسمه!؟
تنهدت وهي تلقي بناظرها نحوه وهو يسير جوار نعمة. ولم يفتها سماع عبارته الساخرة التي ألقاها لتوه تعقيبا على غيابها، غير مدرك أنها وصلت اسماعها.

الحمد لله. هيتعتق الرجالة من تحت ايدين خسن النهاردة .
ابتسمت في وجع مغلقة خصاص النافذة بعد أن ابتعدا عن مجال رؤيتها. ليعاجلها أبوها سالم هاتفا من بين نوبات سعاله ما أن دخلت حجرته تطمئن عليه: مروحتيش الجامعة ليه مع نعمة يا بنتي!
هتفت حُسن وهي تندفع إليه لتساعده على الاعتدال في جلسته، تضبط الوسادة خلف ظهره مؤكدة: مكنش فيه حاجة مهمة تستاهل أروح وأسيبك يا بو حُسن. أرتاح أنت وكله ها يبقى تمام.

تنهد في راحة، بعد أن انقطع السعال لبرهة وهو يتطلع لابنته الوحيدة، التي تمتلك جمالا مغمورا خلف ذاك المظهر الرجولي الذي تتخذه، والذي كان يدرك تماما، أنه من عزز ذاك الشعور بكرهها لأنوثتها داخلها منذ نعومة أظافرها.
تركته لخواطره لتحضر له الافطار. والذي لا يعلم من أين أتت بمال لشرائه، فقد أضحى جيبه خاليا بعد أن أغلق ورشته لفترة بسبب مرضه. ما دفع نوبة السعال لتعاوده من جديد.


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 05:54 صباحاً   [83]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني

انتفض يونس موضعه يخبئ شيء ما بسرعة ما أن انفرج الباب فجأة. لكنه تنفس الصعداء ما أن أدرك أن القادم لم يكن إلا راضي. هتف به في حنق: داخل زي الجطر كده. مش بالراحة.
هتف به راضي متطلعا لما يحمل يونس بين يديه في قدسية شديدة متسائلا: هو أنت لسه يا يونس الموضوع ده فدماغك!؟
أكد يونس بهزة من رأسه هاتفا: وهو من ميتا خرج من دماغي يا راضي!؟ ده أني بحلم باليوم اللي هروح اتجدم لها فيه.

هتف راضي متوجسا: بس. يعني. أنت مالي يدك م الموضوع ده!؟ أصلك مفيش حاچة تخليك متأكد أنها ممكن تجبل بِك لو اتجدمت لها. واللي فيدك ده كان شغل عيال.
ضم يونس تلك الطاقية الصوفية المتعددة الألوان. والتي لم تكن محاكة بحرفية من الأساس مؤكدا: جلبي حاسس انها هتكون عايزاني زي ما أنا عايزها يا راضي.

تنهد راضي في محاولة لبث روح التعقل خوفا على غرق يونس في وهم بلا طائل: يونس. أنا بجول تفكر فالموضوع ده من تاني. اللي فيدك دي طاجية كانت شغلاها وهي عيلة صغيرة. كانت لسه بتتعلم فيها و هديتهالك. تلاجيها هي نفسها مش فكراها.
هتف يونس في عزم: حتى لو هي مش فكراها. أنا هفكرها. هعرفها إني كنت بعد الأيام والليالي عشان تبجى من نصيبي. سهام هاتبجى من نصيبي يا راضي ومش هتنازل عنها أبدا.

اضطرب راضي قليلا للهجة يونس القاطعة رابتا على كتفه متعاطفا وهتف في محاولة لمساندة أخيه: وماله يا يونس. هي هتلجى أحسن منِك فين يعني!؟ ربنا يچعل لك فيها نصيب.
أمّن يونس بقلب وجل خلف دعاء راضي الأخير وهو ما يزال محتضنا تذكارها الذي احتفظ به جوار قلبه لسنوات طوال.

كانت تندفع في عجالة على غير عادتها لتلحق بمحاضرتها التي كانت على وشك البدء. فهي لم تكن تحب أن يعتقد أحد أنها لا تنضبط في الحضور استنادا على مركزيً أمها وأبيها كأساتذة بالجامعة التي تدرس بها. كانت تغادر لتوها حجرة مكتب أبيها الدكتور ماجد الهواري لتصطدم به وهو قادم من الإتجاه المعاكس قاصدا مكتب أبيها. شهقت في صدمة وتراجع هو في إحراج.

تنحنح معتذرا هاتفا في نبرة هادئة وهو يعدل ذاك المنظار الطبي الأنيق دافعا به لأعلى أنفه في اضطراب: أنا آسف. أصل أنا مستعجل وأتأخرت على محاضرتي.
وجدت صوتها الغائب أخيرا لتقول في نبرة خجلة مرتعشة: حصل خير. أنا كمان كنت مستعجلة. عن إذنك.

استأذنته وتوجهت للمدرج على أمل أن يكون المحاضر قد تأخر بدوره. إنها المرة الأولي التي ستراه فيها. فقد جاء بديلا عن أستاذها المفضل. وصديق ماجد. الذي جاءته فرصه للعمل بإحدى الدول. فأعتذر عن تدريس المادة لهذا العام.
تنفست الصعداء عندما وصلت للمدرج ولم يكن من أحد هناك إلا الطلبة في انتظار أستاذهم الجديد.

جلست جوار صديقاتها المقربات. لحظات بعد دخولها حتى هل لداخل القاعة ليصمت ذاك الصخب الدائر ويحل الصمت بديلا.
وقف موضع أستاذ المادة هاتفا في ثبات وهو يعبث بمنظاره الطبي من جديد: السلام عليكم. أعرفكم بنفسي. أنا الدكتور محمد عزام. اللي هدرس لكم مادة الشعر الحديث السنة دي بإذن الله. واتمنى انها تكون سنة موفقة.

هم بالاستدارة ليكتب بعض الجمل فوقعت عيناه على موضعها حيث تجلس. برهة مرت حتى أدرك أنها نفس الفتاة التي اصطدم بها منذ قليل أمام مكتب الدكتور ماجد الهواري. اشاح بناظره مسقطا جل اهتمامه على ما يقوم به. بينما غاصت هي في مقعدها تستشعر اضطرابا عجيبا شملها كليا. تحاول التركيز على ما يقوم به صاحب النظرة الخاطفة. التي أربكت دواخلها بغتة.

كانت تقف بشرفة حجرتها عندما أبصرته قادما نحو البوابة الرئيسية للسراي. فأسرعت تضع إسدال الصلاة مندفعة لأسفل الدرج في هرولة مدعية أنها في طريقها للقراءة بالحديقة. التقطت أنفاسها تحاول أن توقف تسارع نبضات قلبها وهي تدرك أنها ستراه اللحظة.
خرجت من باب السراي الداخلي في اتجاه الحديقة الخلفية لتجده يقف مع ياسين ابن عمها ماجد يشاكسه كالعادة.

سارت مدعية انشغالها بكتابها مارة بهما ليهتف سمير باسمها في أريحية: سچود.
تنبهت ورفعت رأسها من بين طيات كتابها بينما سار سمير صوب موضعها هاتفا في مرح ملقيا تحية الصباح بالفرنسية: بنچور عليكِ يا بت خالي.
اتسعت ابتسامة سجود مجيبة: صباح الخير يا سمير. أخبارك.
أكد في فرنسية متعثرة: أنا بخير شكرًا.
واستطرد مازحا: ومتسألنيش أي حاچة أكتر من كده. لأن دول أخر كلمتين فرِنساوي أني حافظهم.

قهقت ولم تعقب ليستفسر مشيرا للداخل: بجولك. هو عاصم چوه. أصلك رنيت عليه موبايله مش متاح.
أكدت في هدوء: أه چوه. بس نايم. يمكن عشان كده جافل موبيله. أروح أصحيهولك!؟
أكد سمير: لاااه. ملوش لازمة. أنا رايح أسلم على چدي عاصم. لحسن يعرف إني چيت ومعدتش عليه. والله يسلط عليا ستي سهام. وهي أصلا مش محتاچة وصاية.

ورفع كفه يتحسس موضع ضربات جدته سهام بمؤخرة رأسه والتي تكيلها له ما أن يصبح جوارها ويبدأ في مشاكستها. فانفجرت سجود مقهقهة من جديد.
اندفع سمير لداخل السراي حيث يعلم أين يجد جده عاصم ولكن قبل أن يتركها هتف متسائلا في جدية غير معتادة: بجولك يا سچود. هو إزاي تجولي بالفرنساوي. چيت ولجيتك نايم. افتح موبايلك يا بارد.

أمسكت ضحكاتها واجابته في فرنسية جيدة لحد كبير. انطلق بها لسانها ووجه سمير يمتعض بشكل مرح على ما تقول ليهتف بها ما أن انتهت: يا ريتني ما سألت.
علت ضحكاتها ليستطرد مؤكدا: الرسالة شديدة اللهچة دي. واللي مفهمتش منها ولا كلمة، توصل لأخوك النعسان فوج ده. حرف حرف. ياللاه. أجولك العواف. جصدي. أوريفوار.

ما أن دخل إلى السراي حتى انفجرت ضاحكة على كلماته وأفعاله، وما عاد من حاجة لبقائها بالحديقة، فقد نفذت غرضها بمقابلته، وعليها الصعود لحجرتها قبل أن يمسك بها أحدهم متلبسة بضحكاتها، التي تركها مرسومة على شفتيها كما هي عادته دوما.
هتفت تسنيم في نفاذ صبر: يا بنتي متتعبيش جلبي. ايه لزمتها دوشة الدماغ دي!؟
هتفت نوارة بالمقابل: لزمتها مستجبلي يا ماما.

هتفت تسنيم بضيق: - هو مستجبلك ميبجاش إلا بالتنطيط يمين وشمال.
هتفت نوارة مؤكدة: فين التنطيط ده بس!؟ چواب التكليف چه على بلد چنبنا. يعني خطوتين. إيه فيها دي!؟
هتفت تسنيم معترضة: فيها روحة وچاية كل يوم ع الطريج. ما تجعدي هنا معايا تساعديني وخلاص. ولا هو لازما أي حتة بعيدة والسلام. ما هو الشيخ البعيد سره باتع زي ما بيجولوا.

همت نوارة بالرد إلا ا أن مهران أبيها دخل متعجبا: إيه في!؟ صوتكم چايب أخر السرايا.
هتفت نوارة تتعلق بذراع مهران هاتفة بلهجة مرحة محاولة استمالته كالعادة: يرضيك يا شيخ مهران بنتك تتقاعس عن أداء الواجب!؟
أكد مهران مبتسما: لاه طبعا ما يرضنيش. وعچبتني تتقاعس دي.
هتفت تسنيم متجاهلة مزاحهما: وهو الواچب لازما يكون بره نچع الصالح!؟ ماله الواچب اللي چوه!؟

تنهدت نوارة هاتفة: يا بابا چالي چواب التكليف على نچع جريب. إيه فيها دي!؟ ما أنا بقالي سبع سنين رايحة چاية ع الطريج أيّام الكلية. إيه الچديد!؟
أكدت تسنيم بحنق: أيّام الكلية مكنش ليها بديل. لكن دي إيه عازتها. وليه التعيين من أساسه أنتِ محتاچاه ف ايه!؟، ما كفاية عليكى تشتغلي هنا او حتى تفتحي عيادة ف سوهاچ ولا جِنا.
تطلعت نوارة إلى أبيها تستعطفه ليهتف مهران متسائلا: هو فين النچع ده!؟

هتفت نوارة تشجعه: ده جريب يا بابا. هروح بالعربية الصبح وأرچع بالعربية أخر النهار. أنا اتخصصت أمراض نسا وماما أصلا تخصصها جلدية يعنى لو قعدت هنا مش هستفاد. لكن هناك معمول وحدة كاملة لأمراض النسا والدكتورة هناك ممتازة وهتعلم على أيديها وبعد ما فترة التكليف تنتهي هرچع هنا وأمارس.
تنهد مهران رابتا على كتف ابنته: طب خلاص. على بركة الله. تروحي وترجعي بالعربية مع عبدالباسط السواج. وربنا يحميكِ.

هتفت تسنيم في غيظ: يعني أطلع منيها أنا زي كل مرة. خليك دلعهم كده.
واندفعت تهم بالرحيل إلا أن مهران أمسك بكفها يستوقفها هامسا في محبة: يعني مدلعتيش جبل سابج!؟ شكل الدلع وحشك ولا إيه!؟
همست تسنيم تحاول مداراة الابتسامة التي تكاد تقفز على شفتيها، هامسة مدعية الحنق: سيب يدي البت مركزة معانا.

هتف مهران بابنته التي كانت توليهما جل اهتمامها وتركيزها محاولة استنباط فحوى حديثهما: أنتِ لسه واجفة بتعملي إيه!؟ مش جلنا خلاص هتروحي. ياللاه چهزي حالك.
قهقهت نوارة مشاكسة: ما هنا حالي يا شيخ مهران. انتوا ف أوضتي على فكرة. اللي واخد عجلك.
وتطلعت لأمها مستطردة في شقاوة: هنياله.

تطلع مهران حوله ليتأكد أنه بغرفة ابنته بالفعل، ليتطلع لتسنيم التي قهقهت رغما عنها، ليخرج من الغرفة جاذبا إياها خلفه، هامسا في حرج: ضحكتي البت علينا.
لتستمر في قهقهاتها حتى خرجا وأغلقا الباب خلفهما، تاركين إياها تستعد لبدء حياتها العملية في ذاك النجع البعيد بأحضان الجبل.

طرقت على باب حجرته لعله يسمح لها بالدخول، إلا أنه كان بعالم أخر. عالم صنعه لنفسه بعد ذاك الحادث الذي غير مجرى حياته كليا. لقد اختلف كل ما كان. ليصبح سجين ذاك الحيز الذي صنعه لنفسه، غير متقبل من أحدهم الولوج إليه.

دفعت ثريا الباب قليلا تتطلع نحو الداخل لترى ما يفعل. لم يكن بالأمر الصعب أن تدرك أنه يرسم. وهل كان هناك أنيس له سوى فرشاته وألوانه طوال السنوات الماضية!؟ كانت تلك الألوان هي كل ما يملك من حطام عالم رحل بلا رجعة. كان يحاول استعادته بضربات الفرشاة على لوحته الناصعة البياض. ليصنع كون من وهم. كان ماهرا بحق. وبالأخص في رسم الخيول بأشكالها وحركاتها وعنفوانها وثورتها ووداعتها. وجموحها. وياله من جموح بري متوحش! استطاع التعبير عنه ببراعة منقطعة النظير، كأنه يظهر ذاك الوجه الآخر الذي ما كان يعرفه عن الخيل قبل حادثته القديمة.

تنهدت ثريا وهي تدلف للحجرة هاتفة في ثبات: مش كفاية كده رسم يا مروان. أحط لك الغدا!؟
لم يلتفت إلى موضع وقوف أمه المعتاد بباب الحجرة بل ظل يضرب بفرشاته في مهارة هاتفا: وكفاية ليه!؟ إيه ورايا تاني يا باشمهندسة أقوم أعمله.
وانفجر ضاحكا مستطردا دون أن يلتفت كذلك: شوفتي كلمة أقوم دي!؟ المفروض أحذفها من قاموسي بعد اللي انا فيه ده. بس الظاهر بقى حكم العادة.

غصت أمه بدموع قهر حاولت ابتلاعها وهتفت بصوت متحشرج تأثرا دون أن تعقب على كل ما قال بحرف واحد: طب مش هتاكل!؟ ده أنت على لحم بطنك من صباحية ربنا. مبتشربش إلا النسكافيه وبس. والدكتور جال كده مش صح.
هتف مروان متجاهلا ما جاءت به على سيرة الأطباء مؤكدا: لا يا ماما. مش جعان. مش بابا رجع من السفر! كلي معاه. ولما أجوع هبقى أطلب الأكل.

هتفت ثريا متحسرة: طب حتى أخرج من أوضتك دي شوية. أطلع اجعد معانا. أو حتى روح لسمير أو مؤمن أو حتى أبعت لهم لو مش حابب تخرچ بس متجعدش لوحدك كده.
تنهد مروان مؤكدا: أخلص بس اللوحة اللي فأيدي دي. وبعدين أبقى أشوف.

لم يكن يرغب في مصاحبة أحد. كان الجميع يسعى بالفعل لصحبته خاصة بعد انتقالهم إلى هنا. فقد كان استقرارهم منذ فترة ليست بالبعيدة بالعاصمة. وخاصة بعد وفاة كل من جدتيه نجاة وسيدة ومن قبلهم سعيد جده. لكن بعد حادثته. عادوا جميعا لنجع الصالح. اعتقادا من أبويه أن جو النجع هو الأصلح لتحسن نفسيته. سنوات منذ انتقلوا وهو في معزل عن الجميع. وما زالت تلك العزلة هي ملجأه. بعيدا عن صخب شباب العائلة وقصصهم التي لا تنتهي.

تنهدت ثريا وقد شعرت بالعجز وفشلها في تغيير حال ولدها مرة بعد أخرى. فاندفعت لخارج الغرفة تاركة إياه منغمسا في لوحته التي تركها متطلعا نحو موضع رحيل أمه التي يعلم قدر وجعها على حاله. رفع كفيه وأخذ يضرب بهما يدي كرسيه المدولب في عنف. شاعرا بالعجز التام على إتيان أي رد فعل إلا صب غضبه على مقعده. دلالة عجزه الملتصق بها كالغراء، والتي لا يفارقها إلا لحظات النوم.

دفع الفرشاة جانبا في عنف. تطلع للفرس الصهباء المتطلعة إليه في عنفوان من قلب لوحته كأنما تتحداه، ما جعله يدفع باللوحة هي الأخرى، بعيدا في حنق.

اندفعت مسرعة تتلفت حولها لا تعلم اين يمكنها الذهاب وقد تاهت في تحديد وجهتها حيث ستكون محاضرتها القادمة والتي هي على وشك البدء. ما جعلها مضطربة لا ترغب في الدخول متأخرة عن موعدها في أولى محاضراتها هنا بجامعة القاهرة. على الرغم من عدم حماستها للانتقال للقاهرة وهي بالسنة الأخيرة في كلية الهندسة جامعة المنصورة إلا أنه ما كان باليد حيلة في أن تلحق بأبيها كعادته دوما مع كل انتقال. ما كان يتركها وأمها خلفه أبدا.

اخيرا وصلت للمدرج وما أن همت بالدخول إلا واصطدمت بعنف بأحدهم. تأسف في محاولة منه للاعتذار عن هرولته في الاتجاه المعاكس. لكنها نظرت إليه نظرة سريعة ولم تعقب أو حتى قبلت اعتذاره بكلمات بسيطة لم تكن لتكلفها شيئا. تطلع نحوها ذاك الشاب في حنق لقلة تهذيبها على حد زعمه وهتف في ضيق: حصل خير. ده الرد الطبيعي على حد أعتذر لكِ. إيه التناكة دي! ما كلنا مهندسين بالمناسبة.

تطلعت إليه بدور في لامبالاة ولم ترد من جديد. هم بالرد عليها لكن دكتور المادة ظهر فالصورة متجها نحو المنصة ما دفع الجميع لإلتزام الصمت. جلست بدور بين الفتيات اللاتي ألقت عليهن التحية سريعا. بينما هو. لم يبارح محياها ناظريه. لا يعلم لما تعلق ناظره بها مستشعرا أنه يعرفها منذ زمن بعيد. لم يكن من النوع الذي تجذب بسهولة انتباهه أي امرأة. لكن ذاك الشعور ظل هو المسيطر عليه. حتى أنه بعد انتهاء المحاضرة حاول السؤال عن اسمها لكن ما من أحد كان يعرف أي معلومة تخص هذه الفتاة الجديدة ولا حتى اسمها. تلك المغرورة التي هبطت عليهم فجأة لتقلب يومه رأسا على عقب. دون أن تدري.

صدح صوت المؤذن لصلاة العصر ما دفعه لينهض في عجالة يضع عليه جلبابه النظيف. استرعت هرولته راضي ليهتف متسائلا في سخرية: على فين العزم متسربع كده!؟
هتف يونس وهو يتعطر: رايح الچامع.
هتف راضي مازحا: من ميتا التجوى دي يا واد أبوي!؟ ده أنت مبتعتبوش إلا يوم الچمعة.
هتف يونس مؤكدا في جدية: سمير أخوها دائما بلمحه بيروح الچامع على صلاة العصر. لازما أكلمه ضروري.

انتفض راضي متعجبا: أنت اتچننت!؟ هتكلمه منك لروحك كده من غير ما تشور أبوك!؟
هتف يونس مهادنا: يا بني أفهم. أني بس هجس النبض وأشوف إيه الجول. ولما أخد الإشارة الخضرا هبلغ أبويا وأجوله. أوماااال يعني هروح أخطبها لحالي برضك!؟

تنهد راضي وهو يدرك تماما أن أي محاولة منه لإثناء يونس عن عزمه. ستبوء بالفشل الزريع. ما دفعه لإلتزام الصمت معاودا الجلوس على طرف فراشه تاركا أخاه يغادر نحو الجامع كأنما يسابق الريح.
لعن راضي العشق ألف مرة. وهو يرى كيف يبدل حال أخيه، من حال لحال في لحظة.
وصل يونس للمسجد متفرسا في صفوف المصلين. تنفس الصعداء ما أن لمح سمير بقامته المديدة فاندفع يجاوره في الصف.

حتى اذا ما انتهت الصلاة وهم سمير بالمغادرة إلا واستوقفه يونس هاتفا: سمير يا تهامي. استنى أني عايزك ضروري.
تنبه سمير فعاد لموضعه ليشير يونس لأحد الأعمدة المتطرفة قليلا ليجلسا بالقرب منها.
هتف يونس متسائلا: كيفك يا سمير. إيه معدناش بنشوفك كيف الأول!؟
رد سمير ببشاشته المعتادة: مشاغل بجى. والحمد لله على كل حال. خير يا واد عمي!؟

اضطرب يونس قليلا قبل أن يهمس محاولا تجميع الأحرف: يعني. أصلك عايزك فموضوع كده. ومفيش غيرك اللي هيفيدني فيه.
هتف سميرا في نبرة صادقة: يا سلام. تحت أمرك. أطلب وأني سداد بعون الله.
أكد يونس في امتنان: تعيش. الموضوع مش موضوع فلوس. ده موضوع نسب. أني طالب الجرب. طالب يد أختك سهام.
هتف سمير مترددا: البت سهام أختى!
واستطرد مؤكدا: بس المواضيع دي متاچيش كده يا يونس وأنت أدري بالأصول.

هتف يونس متعجلا: ايوه طبعا. معلوم. بس إحنا شباب زي بعضينا. ويعني لو تچس النبض. وإن فيه استعداد. يبجى أحسن. ساعتها هچيب العيلة كلها وناچي نخطبوها.
صمت سمير لبرهة مفكرا ما دفع يونس لتعجله هاتفا: هااا. أجول موافج. أني مش عايز إلا كلمة. وبعدها كله هايبجى تمام.
هز سمير رأسه موافقا تحت ضغط وإلحاح يونس ما دفع الأخير ليربت على كتفه في امتنان مستأذنا.

دخل لحجرته ليتعجله راضي الذي كان يجلس بانتظاره على أحر من الجمر، مستمعا لكل ما دار في اللقاء. يستشعر أن الأمر لن يكون أبدا كما يتمناه قلب أخيه، منتظرا سماع الرد الذي حلم به لسنوات. لكن من منا يستطيع التكهن بالمقادير التي كتبت علينا!؟

توقف في نافذته متطلعا للأسفل وشرد بناظريه في اتجاه تلك الحجرة. يتذكرها دوما حيث كانت بحجرة القراءة التي لم تكن تبرحها تقريبا. دائما ما كانت تشغلها ولا يخلو كفها من كتاب ما.
ابتسم عاصم رغما عنه وهو يتذكر كيف كان وما زال يتسلل ليلا إلى تلك الغرفة باحثا عن الرواية التي كانت تقرأها صباحا يفتحها مفتشا بين أسطرها باحثا على أثر لها بين زحام الأحرف ولم يكن يخيب ظنه أبدا.

كانت من عاداتها أن تضع خطا خفيفا بقلمها الوردي المميز أسفل بعض السطور التي أعجبتها أو أحدثت أثر ما بنفسها. وكان من عاداته أن تلتهم عيناه تلك الأسطر بشراهة كأنما يبحث عن محياها مجسدا في كلمات تكون سلوى له عن تباعدها.

كان ينقل هذه الكلمات الوردية حرفا حرفا إلى مفكرته حتى يعاود قراءتها مرارا وتكرارا مع نوبات الشوق التي ما تفتأ تهاجمه واحدة تلو الأخرى وما كان له القدرة على صدها أو حتى الرغبة في ذلك. بل إنه كان متيما بالاستسلام لها. كالملقى في جوف بحر لا يرى شاطئيه. فلا رغبة لديه في النجاة من الأساس.

الآن هو يمارس عادته المفضلة، يجلس في هدوء متطلعا إلى روايتها الصباحية التي التهمت سطورها في نهم. فتح الصفحات باحثا عن الخطوط الوردية في لهفة. وتوقفت كفه فجأة على إحدى الصفحات قبل أن يقلبها، متطلعا للسطر الأخير بها، والذي زيلته بقلمها مشرفة إياه وهمس قارئا: في بعض الأحيان نعتقد أن الحلم صعب المنال، ولا ندرك أنه أقرب إلينا من واقعنا الذي نحياه.

أعاد الجملة عدة مرات، وأخيرا نقلها بمفكرته، واندفع لحجرته ليخرج المفكرة من جيبه متطلعا للكلمات، وهو يتمدد على فراشه، يعيد قراءتها وكأنما يحفظها حرفاً حرفاً. وأخيرا ابتسم في سعادة، فقد خيل إليه وهمه أنها قد تقصده. فمثلها يلمح دوما ولا يصرح أبدا. أيمكن أن يكون هو ذاك الحلم الصعب المنال!؟ وهو الأقرب إليها من الواقع.!؟ لم لا.!؟
هكذا أخذ يمني نفسه في سعادة.

مر ما يقارب الأربعون دقيقة وما زالت السيارة تنهب الطريق نهبا دون أن تصل لوجهتها. لم تكن تدرك أن المسافة بين نجع الصالح وذاك النجع حيث ستقضي فترة تكليفها يبعد كل هذه المسافة. يبدو أن أمها كانت على حق حين حاولت إقناعها بالعمل معها بنجع الصالح ورفض أمر التكليف ذاك، والذي يبدو أنه لن ينالها من ورائه إلا المشقة بلا طائل.

زمجرت السيارة فجأة مما دفعها لتهتف في عبدالباسط السائق متسائلة في قلق: إيه في يا عبدالباسط!؟ العربية عملتها تاني ولا إيه!؟
توقفت العربة تماما، فاندفع عبدالباسط مترجلا يستطلع الأمر مؤكدا: باينها كِده يا داكتورة!؟
همست نوارة في حنق: هي أمي أول ما تكون مش راضية عن حاچة لازما تتعجرب. طب هوصل إزاي فميعادي!؟ من أول يوم متأخرة!؟ هيجولوا إيه!؟
هتف عبدالباسط متسائلا: بتجولي حاچة يا داكتورة!؟

هتفت بحنق: - لااااه مبجولش. هجول ايه! ما أنا أصلا منبهة عليك تچبني بالعربية الچديدة.
هتف عبدالباسط ينفي عن نفسه الذنب: والله يا داكتورة الباشمهندس عاصم كان خرچ بيها. أعمل إيه طيب!؟
هتفت وهي تخرج من العربة صافقة بابها في عنف: العمل عمل ربنا. خلينا جاعدين.
ونظرت في شاشة جوالها مستطردة في غيظ: حتى مفيش شبكة نعرف نتصل بحد يلحجنا. ياللاه عشان تكمل.

مر الوقت دون جدوى وما مرت سيارة واحدة بذاك الطريق المقفر، ما دفعها يائسة لترك السيارة مبتعدة باتجاه صف من الأشجار تحتمي به من حرارة الجو، حتى يأذن الله بالفرج.
جلست معتلية صخرة ضخمة، وبدأت في العبث ببعض الأغصان، وقطف بعض الزهور المتناثرة بالقرب منها.
لاحت سيارة بالأفق تسير في اتجاههما
ما دفعها لتهرول مشيرة للسائق في تهور والذي توقف مستطلعا الأمر.

اخفض زجاج النافذة المواجهة لها وهتف متعجبا: خير يا آنسة!؟ عربيتكم فيها حاچة!؟
هتفت في ضيق لسؤاله: لا. عاملين فيك مجلب الكاميرا الخفية!؟
ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يحاول فتح الباب قبالتها: طب اتفضلي أوصلك مطرح ما أنتِ عايزة. ونبعت حد يساعد السواج.
ابتعدت خطوة للوراء ما أن انفرج باب السيارة، وتطلعت في تعجب لصاحبها هاتفة في حنق: ومين جال إني هركب معاك من الأساس!؟ أنا معرفكش.

هم بالرحيل هاتفا في حنق: خيرا تعمل شرا تلجى.
هتفت تستوقفه: استني بس يا حضرت. أنا فعلا معرفكش. أركب معاك إزاي!؟
أدخل كفه في جيب سترته، وأخرج منها بطاقته الشخصية ودفع بها إليها. ترددت لحظة وهي تمد كفها لتناولها. تطلعت إليها في قلق وأخيرا هتفت: هخليها مع السواج عشان أهلي يعرفوا أنا فين.
هتف ساخرا: واچب برضك. مش يمكن أخطفك!؟
هتفت تؤيد الفكرة رغم نبرة السخرية التي كانت تغلف صوته: أه. احتمال. ليه لأ؟!

اتسعت ابتسامته لخيالها الواسع، وهتف في أريحية: مفيش مشكلة، خليها معاه. بس ممكن تركبي بقى. أنا أتأخرت. ولا أمشي!؟
هتفت تستوقفه وهي تمد كفها لعبد الباسط ببطاقة الرجل الشخصية: لا. هركب أهو.
انتظر صعودها جواره، لكنها دفعت الباب تغلقه بقوة، واتجهت لباب المقعد الخلفي تفتحه، وتدفع نفسها داخل السيارة لتستقر داخلها.
تطلع ذاك الغريب إليها في تعجب، وهمس ساخرا: أي خدمة تانية يا هانم!؟ أنتِ تأمري.

هتفت بأريحية شديدة لا تعي أنها وضعته في موضع سائقها الخاص وهو صاحب معروف لا أكثر: لا. شكرًا.
تحرك بالسيارة في ثقة من يحفظ الطريق عن ظهر قلب، وتطلعت هي إليه تحاول حفظ ملامح ذاك الطريق الجبلي، تجذبها خواطرها لذاك الغريب الذي تتطلع إلى كتفيه وكفيه الواثقين المتحكمين بمقود السيارة في حزم.

ورغم أنها لم تكن يوما ممن يلقون للخواطر الرومانسية بال إلا أنها وجدت عقلها يجذبها لذكري ما فعل جدها عاصم مع جدتها زهرة ذات ليلة، لتبدأ بعدها قصة حبهما التي لم يسدل عليها الستار حتى يومنا هذا. شردت مع الخاطر وابتسمت كالبلهاء رغما عنها. أمسك ضحكاته وهو يتابع رد فعلها العجيب عبر زجاج السيارة الداخلي.

توقفت السيارة لتنتفض مطرودة خارج نعيم خواطرها متطلعة حولها في تيه لذاك الجبل الذي يطل شامخا من بعيد، وتلك الأرض الخضراء التي يحتضنها في عزة. وأخيرا ذاك البيت الكبير الذي يطل من فوق تلك التلة المرتفعة كأنما يناطح الجبل الموازي شموخا.
استدار قليلا هاتفا في جدية: نجول حمدا لله بالسلامة.
همست مترددة: - هو إحنا وصلنا!؟

ترجل من السيارة يستدير حولها ليفتح لها بابها، لتترجل منها بدورها تشعر بوجل عجيب، ليهتف مشعرا إياها بالطمأنينة: أه وصلنا. أهلا بكِ فالسليمانية يا دكتورة.
ومد كفه السمراء الرجولية معرفا: باشمهندس سامر شحاتة.
مدت كفها في تردد هاتفة: تشرفنا. خدت بالي من البطاقة. وأنا دكتورة نوارة مهران. التكليف بت.
هتف سامر مشيرا للدار: أه عندي فكرة. هو حضرتك! اتفضلي يا دكتورة. الدكتورة سميحة منتظراك چوة.

هتفت نوارة بنبرة معتذرة: أنا آسفة. أكيد أتأخرت عليها. بس.
قاطعهما هذا الصوت العميق ذو النبرة الرخيمة الذي ظهر صاحبه ببهو الدار ما أن ولجتها أقدامهما: مفيش بس يا دكتورة. المفروض ده أول ميعاد عمل لكِ. يعني الانضباط في المواعيد واحدة من أهم الأمور اللي المفروض تراعيها.

تطلعت نوارة نحوه في عدائية واضحة. من هذا الذي يعطيها درسا في الأخلاق ويحكم على مدى انضباطها من عدمه!؟ اندفعت تجيب عليه في محاولة لوقفه عند حده، لكن ظهور هذه المرأة الباشة الوجه ذو القسمات المريحة، والتي ارتسمت على شفتيها ابتسامة ودودة، جعلها تبتلع لسانها والمرأة تهتف في أريحية: أهلا يا دكتورة. نورتي السليمانية.

توقعت نوارة ترحيب رسمي، مجرد مصافحة باليد لا أكثر، لكن المرأة طوقتها في حنو، هاتفة في ترحاب: أنا الدكتورة سميحة العيسوي. مبسوطة قوي إنك جيتي. وأكيد هنعمل مع بعض شغل هايل.
كانت سميحة تحاول امتصاص الشحنة المتوترة، التي ملأت الأجواء جراء ظهور هذا الصارم، الذي كان ما يزل يقف موضعه لم يحرك ساكنا، وكأنه تمثال من صلب قُد بملامح من صرامة لم يسبق أن رأتها مرتسمة على محيا مخلوق.

ألقت نوارة عليه نظرة أخيرة قبل أن تجذبها سميحة لداخل إحدى الحجرات الجانبية، وقد أيقنت، أن أيامها هنا لن تكون سهلة بوجود كائن الصرامة ذاك، والذي تركته لتوها منتصبا في حنق كأنما يقف على حد سيف.


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 05:55 صباحاً   [84]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث

هللت شيماء في سعادة وهي تحمل صينية العصير والشاي إلى داخل حجرة الضيوف حيث كان حازم وتسبيح وابنتهما بدور في زيارة للعائلة. فما أن استقر الأمر لحازم بالقاهرة حتى قرر زيارة تلك العائلة التي لم ينس فضل كبيرها المعلم خميس على والديه زكريا وبدور وما كان منه وصنعه لأجلهما وكذا لأجله هو. فقد قضى اول ثلاث سنوات من عمره بين جدران هذا البيت كابن لهما. وكانت نعمة نعم الأم البديلة له حتى خرج أبوه زكريا من محبسه.

هتفت نعمة وهي تربت على كتف حازم في سعادة: والله اصيل وابن أصول يا حازم. جيت تسأل عن أمك نعمة!
هتف حازم مؤكدا وهو يربت على كفها في امتنان: طبعا. ربنا يخليكي لينا يا ست الكل.
وضعت شيماء الصينية على الطاولة قبالة الجمع المحتشد هاتفة في ترحاب: خطوة عزيزة يا سيادة العميد. والأمورة بقى في سنة كام!؟
أكدت تسبيح بابتسامة عريضة: بدور خلاص في نهائي هندسة.

هتف ناصر في فخر: الله اكبر. ربنا يبارك لكم فيها. إحنا كمان عندنا نادر في نهائي هندسة. ونعمة الصغيرة في تانية كلية آداب قسم اجتماع.
سمع الجميع صوت باب الشقة يفتح بالخارج. همت شيماء بالخروج لاستطلاع الأمر إلا أن نادر توجه إلى حيث موضع الجميع ملقيا التحية: السلام عليكم.
هتف ناصر بعد أن رد الجميع: أهو الباشمهندس نادر وصل. يمكن.
قاطع نادر أباه هاتفا في حنق: إيه ده هو أنتِ!؟

تلعثمت بدور عندما طالعها محياه وقد تذكرت أنه الشاب الذي أعتذر عندما اصطدم بها دون قصد وهي حتى لم ترد عليه اعتذاره.
هتف حازم متعجبا: هو انتوا تعرفوا بعض ولا إيه!؟
هم نادربالحديث مفسرا إلا أن بدور قاطعته مؤكدة: أه يا بابا. الصراحة الباشمهندس نادر كتر خيره. كنت تايهة النهاردة في الكلية وهو وصلني للمدرج اللي كنا هناخد فيه المحاضرة.

تطلع إليها نادر صامتا معتبرا كلماتها لأبيها اللحظة هي اعتذار متأخر عما بدر منها بحقه. فلزم السكوت ولم يعقب بينما
هتفت شيماء في سعادة: يعني طلعتوا زمايل في نفس الكلية.
وتطلعت شيماء هاتفة لبدور في فخر: أي حاجة عايزاها بقى نادر تحت أمرك. ده بيطلع من الأوائل الله أكبر.
هتفت تسبيح في إعجاب: ربنا يحفظه. كده بقى ضمنتي يا بدور. بقى ليكي ضهر فالكلية أهو.

واستطردت تسبيح وهي توجه كلامها لشيماء: أصل بدور كانت زعلانة إنها هتسيب كليتها فأخر سنة فالمنصورة وهتسيب صاحبها كلهم هناك وهي متعرفش حد هنا.
اكدت شيماء في محبة أم: بعد الشر عليها من الزعل. أهو ربنا بيعوض. ونادر معاها واللي هي محتاجاه كله. هيقولها عليه. مش كده يا نادر!؟

كان نادر غارقا في تذكر لقاءاته ببدور وهما صغارا فوق سطح تلك البناية. وكم استغرقهما الرسم واستخدام الألوان. وكيف كان حزنه وشقاءه عندما كانت تهم بالرحيل تاركة إياه.
تنبه لسؤال أمه فهتف مسرعا مخرجا نفسه من بين طيات ذكرياته: اه طبعا يا ماما. أكيد.
هتفت نعمة في أريحية مشيرة للشباب: ما تخدي بدور يا نعمة وفرجيها ع السطح. زمانه وحشها. ما هي ياما لعبت عليه وهي صغيرة.

وكأنما قرأت جدته نعمة خواطره فعرضت مثل هذا العرض مستطردة: قومي يا بدور متتكسفيش. ده بيت أبوكِ. ولا إيه يا حازم!؟
أكد حازم في ثقة موجها حديثه لابنته: أه يا بدور. قومي يا حبيبتي مع نعمة. ونادر كمان يقدر يديكِ فكرة عن دكاترة الكلية. عشان تقدري تخلصي السنة دي على خير بإذن الله.

نهضت بدور خلف نعمة وكذا نادر الذي لحق بهما صعودا للسطح. جلسا على الأرائك التي كانت موضوعة بشكل مرتب لتستأذن نعمة لتحضر بعض المشروبات من الأسفل تاركة نادر وبدور يشملهما الصمت. والذي كان نادر أول من قطعه هاتفا في مشاكسة: أنا هعتبر الكلام اللي قلتيه لوالدك تحت اعتذار على أسلوبك اللي عاملتيني بيه في الكلية.

هتفت بدور في لامبالاة: على فكرة أنا مغلطش معاك فالكلية. أنت اللي غلطت واعتذرت وانتهينا. مش لازم أبدا أخد وأدي معاك وكأنك عملت فيا جميل إنك اعتذرت لي.
هتف نادر مغتاظا: إنتِ مغرورة قوي على فكرة.
قهقهت بدور في لامبالاة: وأنت شايف نفسك أوي على فكرة.
هتف نادر محتدا: أنا عمري ما.

توقف عن الكلام عند حضور نعمة بالمشروبات والحلوى، وتناول قطعة من الكيك دافعا بها لفمه في حنق، لتحذو بدور حذوه ممسكة بتلك القطعة التي ناولتها إياها نعمة في محبة تقضم منها في تلذذ أورثه المزيد من الحنق دافعا إياه ليهبط الدرج مبتعدا عن محياها. تاركا تلك المغرورة بصحبة نعمة.

دفع مروان الباب ذو المفصلات المرنة التي تساعده على فتحه لأي إتجاه، ما يساعده على مرور كرسيه المدولب في بساطة لخارج حجرته، والملحق لها شرفة واسعة تطل على حديقة يتم الاعتناء بها على الدوام. اعتقادا أنها قد تساعده على الخروج من عزلته التي فرضها على نفسه.

قرر سيد وثريا أن لا يحيطا الدار بأي سياج أو سور مرتفع كما هي العادة. وخاصة من ذاك الجانب الذي يا يحيط بغرفته ليعطيا له شعورا بالبراح والراحة دون حدود أو حواجز.
خرج للشرفة يتطلع لمفردات ذاك النهار الشتوي الدافئ مستمعا لنصيحة أمه التي تحاول جاهدة أن تدفع به للخروج من شرنقته التي أحاط بها روحه.

تنهد في راحة متطلعا حوله وقد شعر بحركة وحفيف لبعض الأغصان المتكسرة هنا وهناك. أرهف السمع محاولا استطلاع مصدر ذاك الصوت. حتى ظهر هو دون مقدمات. كان يسير في عظمة غير مكترث بما أو بمن حوله.
ارتفعت ضربات قلب مروان عند مطالعته هذا الجمال الذي افتقده لسنوات طويلة.
كان متمثلا روحا وجسدا وعنفوانا لا صور يرسمها يحاول بها تذكر فرسه التي رحلت حزنا عليه بعد حادثته.

ظل متسمرا موضعه لا يقو على الحركة حتى لا يفزع ذاك الفرس الأشهب فيولي هاربا. إلا أنه تذكر أن طبق الخضراوات التي يصر على وضعه جواره وهو يرسم هاهنا بالقرب منه. كان قد جلبه معه من الداخل لحسن الحظ بلا رغبة حقيقية في تناوله. مد كفه في هدوء يتناول جزرة من الطبق وبدأ في إصدار صوت ترحيب يستدعي به الفرس إليه مظهرا الجزرة النضرة ملوحا بها.

نفر الفرس واشرأبت عنقه عن الأرض التي كان يبحث بها عن أثر لطعام وتطلع نحو مروان في توجس.
طال الوقت ومروان يحاول استمالته حتى يقترب مغريا إياه بالمزيد من الجزر. ما دفع الفرس ليتخلى عن حذره متقدما بخطى وئيدة نحو مروان. حتى توقف قبالته ينتظر مكافئته.

قدم مروان له الجزرة والتي بدأ يتناولها الفرس في شهية واستحسان ليمد مروان كفه لعنقه رابتا عليها في ترحيب وسعادة لا توصف، متسائلا وهو يمد له كفه بجزرة أخرى: اسمك إيه بقى!؟ ومين صاحبك اللي ساب الجمال ده كله جعان كده!؟
صهل الفرس في سعادة وكأنما استشعر مجاملة مروان. ما دفع مروان للضحك في سعادة مماثلة.

وما أن هم بإعطائه المزيد من الجزر حتى ظهر رجل ما هاتفا في حنق: أنت هنا يا سي عنتر وملففني النچع وراك. أموت وأعرف أنت بتهرب من الإسطبل كيف!
وجذب الخفير رسن الفرس في شدة هاتفا بلا مقدمات لمروان: متشكرين يا بيه.
صهل الفرس اعتراضا على المغادرة، إلا أن الخفير جذبه بعنف ليسير خلفه مهادنا بلا حول ولا قوة، ونظرات مروان تتبعه في حسرة.

جلست نوارة على أحد المقاعد وجاورتها الدكتورة سميحة هاتفة بنبرة ودودة: أنت ايه اللي خلاكي تقبلي التكليف هنا يا دكتورة!؟ وإحنا نجع بحضن الجبل والطريق أكيد شوفتيها بنفسك صعبة. والمهمة هنا كمان هتكون صعبة!؟
ابتسمت نوارة مجيبة في دبلوماسية: عشان أتعلم على إيدك يا دكتورة. الصراحة أنا سمعت عنك كتير. ويشرفني أكون تلميذة حضرتك.
ابتسمت سميحة في مودة: بإذن الله. ها نقوم بقى أوريكِ الاستراحة.

نهضت سميحة لتتبعها نوارة هاتفة في نبرة متنحنحة حرجا: بس أنا حابة أبلغك يا دكتورة إني مش هبات هنا. انا هخلص شغلي مع حضرتك وبعدين أرچع على بلدنا. ده كان شرطهم عشان أشتغل هنا.
ساد الصمت للحظات واخيرا هتفت سميحة مؤيدة: مفيش مشكلة. كان نفسي تبقى إقامتك كاملة لأن أكيد أنتِ عارفة إن تخصصنا بيخلينا نشتغل بالليل أكتر لأن معظم الولادات ليلية. بس نحاول نتغاضى عن الشرط ده عشان خاطرك.

ابتسمت نوارة في راحة لتستطرد سميحة مؤكدة ومشيرة لها لتتبعها: لكن ده ميمنعش إنك تشوفي الاستراحة. عشان لو أحتاجتي تستريحي فيها خلال النهار. وكمان تشوفي الوحدة وتتعرفي على المكان.
ابتسمت نوارة مؤكدة: كلام حضرتك مظبوط. ياللاه بينا.

اندفعت سميحة خارج الغرفة ونوارة بأثرها. تركتها مستئذنة للحظة لتحضر مفاتيح الاستراحة. هزت نوارة رأسها موافقة في تيه فقد كان ناظرها يتأكد أن ذاك المتغطرس الذي طالعها محياه أول ما أن خطت قدماها تلك الدار قد غاب عن المشهد وترك موضعه الذي كان يحتله كملك متوج ما أن وقعت عليه عيناها.
لكنها انتفضت عندما سمعت الدكتورة سميحة تهتف به متسائلة: يا رائف! فين مفاتيح الاستراحة!؟

إذن فاسم ذاك المتغطرس هو رائف. أي اسم ذاك!؟ لا يمت بصلة لهذا العابس الذي كان ماثلا بمخيلتها اللحظة محياه الكشر.
انتفضت مستفيقة من خواطرها وعيونها تتبع ذاك الشبح الذي مر على مقربة منها، دافعا كرسيه المدولب في اتجاه رواق ما كأنه لا يراها من الأساس.
خرج من إحدى الغرف الجانبية على الجانب البعيد من الردهة مارا بمحازاتها كأنها ليست هنا. لم يعرها انتباها وأكمل طريقه نحو الخارج في لامبالاة عجيبة.

كان رجل طاعن بالسن. ربما أكبر قليلا من جدها عاصم. لكنه لا يشبه أبدا. فذاك الذي مر بها لتوه، كان متجهما، تملأ التجاعيد قسمات وجهه المتغضن، يبدو أن العبوس هو سمت هذه العائلة العجيبة. وتذكرت وجه ذاك العابس الأصغر. لكن ما أن هلت سميحة حتى تعجبت، كيف لهذه المرأة ذات الوجه البشوش أن تكون فردا من عائلة ذوي الوجوه الكشرة.

اشارت لها سميحة لتتبعها. فأطاعت في حماسة، سارتا سويا حتى دارتا خلف تلك الدار الحجرية الضخمة التي يبدو أنها بنيت منذ عهد بعيد. وصلت لنقطة ما لتنتبه إلى ذاك الجسر الخشبي الصغير المصنوع من ساق شجرة ضخمة تم صقلها لتنقلها للجانب الآخر لذاك المجري المائي الضيق الاتساع والأشبه بترعة صغيرة لا يزيد اتساعها عن المتر ونصف المتر. عبرته خلف سميحة دون مهابة. فقد اعتادت على مثله في نجع الصالح وكان موضع لمرحها ولهوها وهي صغيرة. خطوات ووصلت سميحة لباب الاستراحة لتضع به المفتاح وتدفعه بعد معالجته في سرعة.

هتفت في أريحية: اتفضلي يا دكتورة.
مرت للداخل وتبعتها نوارة لتستطرد سميحة مشيرة بكفها للاستراحة: هترتاحي هنا لأني دايما بهتم بها بنفسي. ودايما محافظة على نضافتها.
وتنهدت وابتسامة رقيقة تحمل عبق حنين مخبأ بين طيات الأحرف هاتفة: الاستراحة دي لها ذكريات جميلة قوي معايا. عشان كده اهتمامي بها كبير.

ابتسمت نوارة بدورها في دبلوماسية، محترمة نوبة الحنين الذي دفع بالمرأة إلى التطلع نحوها في وله، تجول بناظريها أركان المكان كأنها تحتضنه بعيونها في محبة طاغية.

لم تكن نوارة بفتاة حالمة تقيم للمشاعر وزنا. بل كانت فتاة عملية تقيس الأمور دوما بمقياس العقل وتزنها بميزان المنطق. دوما ما تنعتها أختها سجود بالباردة المشاعر. قاسية القلب. كانت تتهمها أن دراستها للطب حولتها ل جزارة لا موضع لشعور أخر يزاحم التعقل داخلها.

تنبهت سميحة أنها شردت فابتسمت من جديد في حرج هاتفة لنوارة: ياللاه بينا على الوحدة. هي على بعد خطوتين من هنا. مش بعيدة. هيعجبك جدا بعض الإضافات اللي اقترحها رائف وأشرف على اضافتها بنفسه.
اضطربت عند ذكر هذا الرائف لكنها اومأت في طاعة لتتبع سميحة التي هتفت مؤكدة وهي تمد لها كفا بالمفاتيح: اتفضلي ده مفتاح الاستراحة. لازم يكون معاكِ نسخة منه. عشان لما تكوني عايزة ترتاحي فأي وقت، متتكسفيش تطلبيها.

هتفت نوارة وهي تتناوله منها في امتنان: كلك ذوق يا دكتورة. متشكرة.

عادتا من جديد عبر الجسر الخشبي للجانب الأخر لتسيرا بمحازاة سور الدار على طول الطريق حتى وقع ناظرها على ذاك المبني الأبيض ذي الطابقين الماثل لها بالأفق هناك. ظلت عيناها متعلقة بالمبنى حتى مر أمامه ذاك الطيف قاطعا الصورة. كان أشبه بهؤلاء الفرسان في أحد الأفلام القديمة مارا على فرسه الأدهم الذي أطلق ساقيه للريح. لولا أنه لا يرتدي عمامة ولا يشهر سيفه. لاعتقدت أنه بالفعل فارس يندفع في بسالة لخوض غمار معركة حامية.

كان يسابق الريح عدوا، ترفرف خلفه عباءته في حرية والتي كان يرتديها على ملابس حديثة من قميص وبنطال.

غاب سريعا عن المشهد كما ظهر بشكل خاطف. مخلفا خلفه عاصفة من غبار والتي اختفت في التو ليظهر مبني الوحدة الصحية الأبيض من جديد لكنه اكثر وضوحا وقد أصبحتا قاب قوسين أو أدنى من عتباته، لتنسى نوارة كل ما مر بها منذ وطأت قدماها هذا النجع، إلا مهمتها التي جاءت من أجلها عندما تخطت عتبات الوحدة وشعور الحماسة يغمرها.

كان يقف متطلعا الى الحديقة الخلفية من موضعه كعادته وابتسم رغما عنه عندما سقطت عيناه على تلك الأرجوحة القديمة التي ما عاد أحد يستخدمها.

كان قد صنعها عمه ماجد من أجل زوجته إيمان بناء على رغبتها. وأصبح الجميع يتنافس في الجلوس عليها والاستمتاع بها. يذكر يوم أن جاءت تحاول الصعود إليها ولم تستطع، فهتفت به تستوقفه وهو يحمل الكرة التي سقطت أسفل الأرجوحة ليعود بها لرفاق لعبه: تعالى يا عاصم. ساعدني عايزة أركب.
تذكر يومها كيف نهرها في حنق: وهو ده وجته. اصبري أخلص الفورة وأجيكي.

صمتت ساعتها ولم تعقب، بل إنها وقفت بلا حول ولا قوة جوار الأرجوحة، تتطلع إليها في حزن، ليتنهد هو في قلة حيلة، لا قبل له على تحمل حزنها الذي كان يتسرب من نظراتها، فيوقظ الرحمة بداخله من سباتها ويشعل قناديل المودة بجنبات روحه، فدفع بالكرة بعيدا حيث كان ينتظر أصدقاءه، وتوجه إليها يحملها في حرص حتى وضعها فوق الأرجوحة وبدأ في دفعها بخفة، لتتعالى ضحكاتها مع كل دفعة ويعلو بالتبعية إحساس عجيب من السعادة لديه، فسره كطفل لحظتها أنه سعيد لإرضائها. لم يكن يدرك أن قلبه الغر سقط صريع تلك النغمات الملائكية التي كانت تجود بها في فرحة ليترنح قلبه منتشيا.

اليوم، بل في تلك اللحظة ود لو يعود الزمان إلى تلك اللحظات التي ما عرفا فيها قيدا، ولا عرف قربهما حدا. تمنى أن يعودا طفلين فما نفع عمرا اضافت سنونه إليهما وجعا وباعدت بينهما قسرا.
انتفض موضعه عندما هتفت أمه توقظه من أحلام يقظته هاتفة: إيه يا عاصم!؟ اللي واخد عجلك.
ابتسم متطلعا إليها هاتفا: هيكون إيه يعني!؟ الشغل ومشاكله.

ابتسمت تهتف متخابثة: الشغل ومشاكله هيخلوا الضحكة على وشك كِده!؟ ده باينها مشاكل حلوة جوي.
قهقه عاصم مؤكدا: أه من اللف والدوران بتاع الأمهات ده. عايزة إيه يا حاچة تتسنيم! حاكم أنا عارف مبتشرفنيش فأوضتي إلا لو وراكِ إن. اعترفي.
قهقهت تسنيم مؤكدة: وحياتك أبدا. أنا بس عايزة أفرح بيك. ده أنت أول فرحتي يا عاصم. معجول يعني مفيش بت ناس حاطط عينك عليها!؟

اضطرب عاصم للحظة، وأخيرا هتف مؤكدا: ما أنا جلت لك. مش هتچوز إلا لما أطمن على نوارة وسچود. البنات تتچوز وبعدين أفكر ف حالي.
هتفت تسنيم معترضة: بنات مين اللى هتستناهم دول!؟ نوارة وچاها التكليف وفاكرة نفسها هتعدل ميزان الصحة ف مصر.
قهقه عاصم لتستطرد في حسرة: - وسچود. دخلت لنا آداب فرنساوي. وجاعدة تبرطم ف الرايحة والچاية، زي اللي راكبها عفريت.

قهقه عاصم من جديد: طب ما البنات زي الفل أهو يا دكتورة. اللى يشوفك وأنتِ بتتكلمي كِده، هيقول إنك ضد تعليم المرأة.
تنهدت مؤكدة: لا ضد ولا حاچة. أنا نفسي رفضت اتچوز أبوك إلا لما اخلص كليتي، بس أنا بتكلم كأم نفسها تطمن على بناتها مع رچالة تستاهلهم.
يا رب يبعت لهم رچالة ميتخيروش عنك يا حبيبي.
ابتسم عاصم وأقترب منحنيا يقبل هامة أمه هامسا: ربنا يعزك يا أمي. هايبعت لهم الأحسن بإذن الله.

هتفت تسنيم معترضة: وهو أنت فيه زيك! طب ده يا سعدها وهناها اللي ربنا هايكرمها بيك.
قهقه عاصم مشاكسا امه: الجرد ف عين أمه غزال.
هتفت تسنيم في دفاع مستميت: فشر. جرد إيه!؟ ده أنت الباشمهندس عاصم الهواري. ست البنات تتمناك. يا رب يرزجك يا حبيبي باللي تريح بالك.

تضرع قلبه في خشوع مؤمنا. واستقرت عيناه خارج النافذة من جديد بعد أن غادرته أمه. ليجد زهرة تسير باتجاه الأرجوحة القديمة، تتطلع إليها في سعادة وتدفع بها في أريحية. وتساءل في نفسه. أتراها تذكر كم من المرات أخرجته من معترك مباراة ما حتى يدفع بها لتجلس على الأرجوحة، وينتهي به الأمر لترك المباراة والدنيا بأسرها في سبيل اسعادها وسماع رفرفات ضحكاتها الندية كالفراشات تحط فوق بتلات قلبه الغض!؟

تركت زهرة الأرجوحة تترنح كقلبه في حضرة طيف ذكرياتهما. وسارت حتى حجرة القراءة لتجلس بعد أن تناولت أحد الكتب، تغرق بين صفحاته كعادتها، بينما يغرق هو في محياها كعادته.
طرق سمير على باب غرفة سهام طرقات متتابعة أشبه بالطبول ما دفعها لتبتسم هاتفة له: ادخل يا سمير.
دلف للحجرة هاتفا بدوره: أخبار عروستنا اللي هنخلص منها جريب إيه!؟

تطلعت سهام نحوه متعجبة وهتفت مستفسرة: عروسة إيه!؟ وتخلص من مين!؟ أنت جصدك إيه!؟
هتف سمير متخابثا: چالك عريس يا مفعوصة. چه وطلبك مني.
هتفت سهام بلا اهتمام: ومين ده بجى!؟ وليه مچاش يطلبني من أبويا على طول!؟
أكد سمير: لا ما هو چه يچس النبض ويشوف فيه جبول وبعدها يچيب العيلة كلها.
أكدت سهام في حزم: بس أني مش عايزة اتچوز.
هتف سمير متعجبا: طب مش لما تعرفي هو مين الأول وبعدين أبجي جولي مش عايزة!؟

هتفت سهام: هيكون مين يعني!؟
هتف سمير مجيبا: يونس بن الحاچ حامد الحناوي.
هتفت سهام مؤكدة: مخلفش كتير. هو نفس الرد. أنا مش عايزة اتچوز جبل ما أخلص دراستي. وأنا لسه بجيلي سنتين.
هتف سمير: يعني أرد ع الراچل ولا اسيبك تفكري شوية!
هتفت سهام: أصبر يومين وبعدين جوله. وكويس إنك مبلغتش أبوك وأمك. وكمان ستي سهام. كانت مسكت فيه وجالت لك خليه ياچي هو وأهله وكانت هاتبجى حكاية وكنت هرفض برضك. يبجى ليه من أساسه!

هتف سمير محتجا: بس أنا شايف يونس ميتعيبش يا سهام. باشمهندس زراعي
وأخلاجه كويسة. أنا بجول أجول لأبوكِ وهو يتصرف.
انتفضت سهام ترجوه: لاااه. بلاش يا سمير. انا مش عاوزة دوشة دماغ ع الفاضي. أنا مش عوزاه.
همس سمير متطلعا لأخته في ريبة: بت يا سهام. هو فيه حد تاني!؟

هتفت سهام في عجالة: والله ما في لا حد ولا سبت. الموضوع بس إني مش عايزة الناس تاچي ويترفض وممكن تبجى زعلة. خليها كده فالمداري يا سمير. هو بنفسه شاكك إني أجبل. عشان كده جالك أنت مش لأبويا على طول. يبجى ليه!؟

تنهد سمير في قلة حيلة مؤكدا: أنتِ عندك حج. واضح إنه مش عايز الموضوع يوسع. وهو جالها. يچس النبض. يبجى تمام على كده. يومين على جولك وأجوله مفيش نصيب. مع أن الواد كويس. طب فكري تاني لحد ما أرد عليه. يمكن.
أكدت سهام تحاول مهادنة أخيها الأكبر: طيب تمام وماله. مش هيچرا حاچة. هفكر.
هز سمير رأسه موافقا وتركها مغادرا يتمنى لو غيرت رأيها خلال اليومين القادمين. فهل ستفعل!؟

طرق باب حجرة المكتب في هدوء ليسمح له ماجد بالدخول وهو ينهي حديثه مع زهرة ابنته التي كانت تحتل المقعد المقابل له.
دخل الدكتور محمد هاتفا: السلام عليكم يا دكتور ماجد. ليا طلب بس عند.
توقف محمد ما أن وقعت عيناه على زهرة التي تغير لون وجهها خجلا واخفضت نظراتها حياء.
استطرد محمد هاتفا في إحراج: أنا آسف. معرفش أن حضرتك عندك حد.

هتف ماجد مبتسما: حد مين!؟ تعالى يا دكتور محمد أدخل. دي زهرة بنتي. عندك كمان. يعني المفروض هي اللي تقوم تعمل تعظيم سلام دلوقتي لأستاذها.
قهقه محمد في أريحية وزهرة تتطلع لأبيها بنظرات لأئمة على إحراجها بهذا الشكل.
هتف محمد مؤكدا: إحنا اتقابلنا مرة فعلا. وكانت خارجة من عند حضرتك برضو.

هتف ماجد مبتسما: أه يا سيدي. دي من المرات النادرة اللي الأستاذة بتتكرم عليا فيها بالزيارة. قال إيه. عايزة تحس إنها طالبة عادية. مش بنت الدكتورة إيمان و الدكتور ماجد الهواري.
تطلع محمد في إكبار إلى زهرة التي كانت تجلس يتأكلها الخجل مؤكدا في نبرة ودودة والإبتسامة لا تفارق شفتيه: عندها حق. عايزة تكون جديرة بترتيبها الممتاز على الدفعة. من غير ما يكون لكم يد في ده. تلميذة نجيبة.

هتف ماجد مازحا: ماشي يا دكتور. ع العموم ربنا يسهل وتفضل نجيبة السنة دي كمان، عشان تستحق التعيين في الكلية.
ابتسم محمد متطلعا إلى زهرة التي رفعت رأسها تهم بالرد على كلام أبيها، لكنها ابتلعت كلماتها ومحمد يهتف مؤكدا: أنا متأكد إنها هتكون زميلة بعد كام شهر. وهتستحق التعيين بجدارة.

تنبهت زهرة لنظراته التي كانت لا تحمل إلا التقدير والاحترام لكنها رغم ذلك أربكتها كليا لتصمت دون أن تنبس بحرف واحد ولا حتى شكرًا على مجاملته وتمنياته الطيبة لها. بل على العكس نهضت في عجالة مؤكدة بكلمات متعجلة مضطربة أن عليها المغادرة لتلحق بالمحاضرة القادمة والتي هي على وشك البدء. خرجت من غرفة مكتب أبيها. مستشعرة ضربات قلبها تصم أذنيها عن كل ما حولها عدا صوته. الذي كانت نبرته الرخيمة تطرب روحها.

لا تعلم كيف جاءها ذاك الملف دون أن يمر على أبيها للاطلاع وإجازته. كان ذاك إهمال لا يمكن السكوت عنه. نهضت مندفعة نحو مكتب أبيها باحثة عن سكرتيرته الحسناء التي لا تحسن شيئا إلا التزين والوقوف أمام المرآة. هكذا كانت تصفها فريدة دوما متحاملة. رغم أنها تقوم بعملها على أفضل وجه. فلولا تمكنها لما كانت سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة ذاته. وما حظيت بهذا المنصب الهام.

وصلت فريدة إلى المكتب واندفعت للداخل هاتفة في حنق: أنتِ أمتى هتشوفي شغلك صح!؟
ودفعت بالملف ليسقط أمام السكرتيرة التي اضطربت في توتر لعلمها بشدة فريدة وعدم تهاونها في ارتكاب أية أخطاء مهما كانت هينة. أمسكت السكرتيرة بالملف بين يديها هاتفة في تساؤل وبنبرة مضطربة: إيه بس اللي حصل يا أستاذة فريدة!؟

هتفت فريدة في ضيق: سؤالك من أساسه بيأكد إنك مش عارفة تشوفي شغلك مظبوط. من أمتى بيتعرض عليا ملفات مخدتش تأشيرة من البلشمهندس حمزة بنفسه!؟ بصي كده ع الملف. فين تأشيرة خروج الملف ده من مكتبه. ده اسمه استهتار. لأن لو ده ملف صفقة مهمة وكبيرة. كان هايبقى فيها كلام تاني يا أستاذة.

وقفت السكرتيرة ترتجف لأن فريدة كان لها كل الحق في تأنيبها وهتفت تدافع عن نفسها بنبرة معتذرة: أنتِ عندك حق يا استاذة فريدة. بس الظاهر عم منعم الساعي اللي بعته بالملفات لحضرتك. خد الملف ده معاهم بالغلط.
هنا ارتفع صوت فريدة مؤنبة: عذر أقبح من ذنب يا.

هنا انفرج باب مكتب أبيها ليظهر حمزة مستفسرا عن تلك الضوضاء الآتية له حتى الداخل: إيه في!؟ إيه اللي چرى يا فريدة عشان صوتك يعلى للدرچة دي!؟ تعالي چوه نتفاهم.
كتمت فريدة حنقها، وتطلعت للسكرتيرة في لوم مندفعة خلف أبيها لداخل غرفة المكتب مؤكدة في نبرة عملية: إهمال وتسيب. دي مش طريقة شغل محت.

قطعت كلماتها التي غصت بحروفها وهي تتطلع لذاك الذي كان يجلس على أحد مقاعد طاولة الاجتماعات الضخمة ملتهيا ببعض الأوراق المبعثرة أمامه. والذي ما أن رفع رأسه متطلعا إليها، حتى شعرت بأن الأرض تميد بها. لكنها قاومت في بسالة واستجمعت قواها وشحذت همتها التي استنفذت كل طاقتها تقريبا وهي تسير نحوه برفقة أبيها لينهض في تأدب مادا كفه إليها وحمزة يعرفه لها وكأنها لا تعرفه: الباشمهندس نزار الغمري يا فريدة. طبعا أكيد سمعتي باسمه. أشهر من نار على علم.

مدت كفها الباردة ليتلقفها نزار محييا إياها في رسمية ظاهرية متطلعا نحو حمزة هاتفا: العفو يا حمزة بيه.
وحاد بناظريه تجاهها: تشرفنا يا آنسة فريدة.
سحبت كفها منه في ثبات تحسد عليه، وهتفت في نبرة باردة: أستاذة فريدة.
تطلع نحوها في تعجب، قبل أن يهتف في نبرة حاول أن يكسوها الثبات: تشرفنا يا أستاذة فريدة.

ما أن أنهى كلماته، حتى تجاهلته فريدة موجهة ناظريها تجاه أبيها مؤكدة: أنا فمكتبي يا باشمهندس حمزة. عن إذنك.
وتحركت في اتجاه باب المكتب مغادرة، تاركة إياه غارقا في حيرته. حتى أنها غادرت دون أن تلق التحية المعتادة، كأنه ليس هنا من الأساس.

نزلت الدرج في هوادة كعادتها. كانت مثالا للرقة والوداعة على حق. طالعتها جدتها الحاجة وجيدة. رأس عائلة أبو منصور. والتي كانت لها جذور عريقة في نجع الصالح هاتفة في محبة: اللهم بارك. ربنا يحفظك من العين يا حبيبة ستك. الله أكبر.
ابتسمت لجدتها لأمها هاتفة في نبرة هادئة: مش للدرجة دي يا ستي.
هتفت الحاجة وجيدة معترضة: للدرچة دي ونص كمان. أنتِ معرفاش جدرك. ولا عارفة أنتِ بت مين ولا إيه!؟

هزت رأسها مؤكدة أنها تحفظ سلسال العائلة الكريمة حتى الجد السابع قبل أن تفكر جدتها في سرد حكاياتهم عليها كما كانت تفعل عندما كانت فتاة صغيرة.
وهتفت مستأذنة: أنا خارچة اتمشى شوية يا ستي. النچع وحشني.
هتفت الحاجة وجيدة مؤكدة: وماله يا بتي. بس خدي مرعي الغفير معاكِ.
هتفت معترضة: هاخد الغفير معايا وأنا بتمشي يا ستي!؟ ليه يعني!؟
هتفت وجيدة في صرامة: إيوه. يا كده يا بلاها. يعني.

هتفت الفتاة في ضيق تحاول كبح جماحه: خلاص يا ستي. هروح الإسطبلات. بلاها خروچ.
هتفت جدتها بلامبالاة: يبجى أحسن.

سارت الفتاة لخارج دار أبو منصور في اتجاه الإسطبلات التي كانت تقبع في الجهة الخلفية من الدار. دخلتها باحثة عنه. صهل كأنما أستشعر وجودها. وصلت لموضع وقوفه شامخا وربتت على عنقه في ترحاب ليهز رأسه في سعادة بالغة لمرأها. فتحت الحاجز ودخلت إلى محبسه الذي كان الخفير يحكمه حتى لا يخرج كعادته على حين غفلة منه.

افتقدت اعتلاء صهوته فوضعت قدمها على المهماز. موضع القدم المدلى من السرج الذي للعجب وجدته موضوعا على ظهره وكأنه كان معدا من فترة للركوب. لكن لمن يا ترى!؟ لم تشغل بالها. فهي تعلم أن الخفير لم يكن بالكفاءة الكافية للتعامل مع الأحصنة. كان الإسطبل يلزمه خبير منذ زمن. لكن رغبة جدتها في عدم تكليف أحدهم بمسؤولية الإسطبل. جعل الخفير يهمل قليلا فيما يخص الفرس.

شعرت بالسعادة وهي على صهوة الفرس بهذا الشكل الذي لم تستشعره منذ زمن. فقد كانت تركبه دوما في غفلة من جدتها حتى لا تنل منها وصلة تقريع لا داعي لها. أمسكت برسنه متخيلة أنها تقوده على الطرقات في خيلاء. لكن للعجب وجدت الفرس قد تحرك كأنما أحس رغبتها دافعا الحاجز الذي نسيت إغلاقه عند دخولها.
كادت أن تصرخ مستنجدة وهو يبتعد بها وهي لا قدرة لها على إيقافه فهي لم تكن خبيرة في امتطاء الخيل.

بدأ الفرس يسرع الخطى مغادرا حدود الدار من منفذ بالسور الخلفي كان يحفظه عن ظهر قلب.
حاولت من جديد إيقافه بلا جدوى ولا تملك الشجاعة الكافية والجرأة للقفز من على صهوته قبل أن يسير بها متبخترا بطرقات النجع، لتصبح مثار حديث ولغو هي في غنى عنه. وإذا ما وصل الأمر لجدتها فلن تكن العواقب سليمة أبدا. فالحاجة وجيدة لا تتهاون في مثل هذه الأمور.

تنفست الصعداء عندما أتخذ الفرس مسارا مغايرا للطريق الترابي للنجع متسللا لحديقة خلفية لدار ما. كانت مهجورة لفترة ثم عاد لها ساكنيها. لم تكن تهتم بمثل هذه الأخبار. من عاد ومن رحل. لم يكن هذه الأخبار تعنيها. فقد وضعتها جدتها بمعزل عن النجع وناسه وكل ما يدور به.

توقف الفرس عند شرفة الدار ولم يتزحزح ولو خطوة. كان جل اهتمامها ينصب على محاولة إقناعه بالابتعاد عن الدار فلربما يخرج أحد قاطنيها موبخا إياها. لكن الفرس لم يستجب بل إنه صهل في ثقة كأنه ينادي أحدهم نكاية فيها.
كادت أن تسقط عن ظهر الفرس هلعا عندما دُفع الباب ليخرج منه شخص يجلس على كرسي مدولب حاملا صحن ضخم مملوء بالفواكه وبعض الخضروات.

هتف الشاب في أريحية من خلف الباب قبل أن يصبح على الشرفة بالفعل: في ميعادك بالظبط يا أستاذ عنتر.
تنبه مروان لوجود إحدهم يعتلي صهوة الفرس فتوقف بكرسيه للحظة متطلعا إليها في اضطراب عندما أدرك أنها فتاة لم تكن بأقل من اضطرابا وهي تقف هكذا أمام غريب لا تعرفه. غير قادرة على التحكم في الفرس لترحل أو حتى عندها الشجاعة لتترجل عن صهوته دون مساعدة من أحدهم.

كان مروان المتحدث أولا قاطعا الصمت السائد بينهما هاتفا: ده فرسك!؟
هزت رأسها إيجابا ثم في نفس اللحظة هزت رأسها نفيا. ابتسم لهذه الإجابة المتضاربة.
تحرك عنتر عندما استشعر أن مروان لم يعد يوليه الاهتمام المعتاد وتأخر في تقديم هداياه من الجزر، لينم عنها شهقة فزع ما أن بدأ عنتر بالتحرك. استشعر مروان خوفها ما دفعه ليهتف بعنتر ليعاود ثباته ما أن قدم مروان له الجزر الذي تلقاه في لهفة وسعادة.

هتفت الفتاة في خجل: متشكرة.
هتف مروان في ثبات رغم اضطرابه الداخلي: لو حابة تنزلي استغلي إن عنتر ملهي في الجزر. وياللاه.
اضطربت هي غير قادرة على الإجابة لكن عندما تذكرت العواقب التي يمكن أن تواجها اذا ما خرج عنتر للطريق قبل أن تترجل عن صهوته جعلها ذلك تهمس في خجل: مبعرفش أنزل لوحدي.
تطلع مروان إليها للحظة قبل أن يشير لكرسيه المدولب في خيبة: وأنا زي ما أنتِ شايفة. عاجز.

تطلعت نحوه عندما نطق كلمته الأخيرة بهذه النبرة التي تحمل وجع الكون بمكنوناتها.
تلاقت نظراتهما لبرهة، قبل أن يستطرد في نبرة مغايرة، بعد تنهيدة حسرة: بس خليني أحاول.
تحرك بكرسيه في اتجاه ذاك الممر الخشبي الذي صنعه والداه عبر الحديقة ليستطيع التجول بها دون أن تعلق عجلات كرسيه ببعض الحصى أو الأوحال.

توقف بكرسيه بالقرب من موضع المهماز الذي يحمل قدمها على سرج الفرس. ومد كفه ممسكا بالسرج مثبتا الفرس على قدر استطاعته. هاتفا بعنتر أمرا إياه ألا يتحرك. وقد اطاعه الفرس منصاعا. وما أن تأكد له أن الفرس تحت السيطرة حتى رفع ناظريه إليها أمرا إياها: شيلي رجلك من على المهماز وحطيها هنا.

كان قد ضم كفيه معا، مشبكا أصابعه ليصنع لقدمها موضع تستند عليه لتستطيع النزول. لكنها تطلعت لكفاه المتشابكتين في اعتراض هاتفة برفض: لااا. مش هاينفع. لااا خلاص.
هتف بها مروان مطمئنا: متخافيش. مش هفلتك ومش هتوقعي. ربنا عوضني عن قوة رجلي فأيدي.
هتفت به الفتاة في اضطراب: أنا مش خايفة عليا. أنا خايفة عليك. يمكن أاذيك في نزولي. أنا هحاول أنزل لوحدي وخلاص.

هتف بها مروان محاولا إقناعها: اسمعي كلامي بس. دي أأمن طريقة ل.
لم تكن تستمع من الأساس. بل إنها جابهت خوفها وتشجعت لتترجل عن الفرس بالفعل. لكن قدمها هي من خانتها وتعلق حذائها بالمهماز. لتسقط بالفعل. لكن وجوده في موضعه كان كافيا ليحميها من إصابة محققة. وهي تسقط بين ذراعيه. تقريبا جالسة بأحضانه.

ساد الصمت المشوب بالصدمة وكل منهما يتطلع للأخر مأخوذا. لكن مروان همس أخيرا بصوت متحشرج حاول أن يكسوه بنبرة مرحة لتلطيف الأجواء المضطربة: أنا قلت هاتي رجلك بس على فكرة.
واتسعت ابتسامته المضطربة ما جعل الفتاة تنتفض مبتعدة عن ذراعيه. تهرول راحلة من حيث جاءت. وقد نسيت عنتر الذي انتهى من تناول الجزر الطازج بالفعل وبدأ في تذوق التفاح في استمتاع لا يبال بما يحدث على بعد خطوات منه.

ظل مروان مأخوذا يتبع بناظريه تلك الهاربة التي لم يعرف حتى اسمها أو من تكون. شاردا النظرات لموضع اختفائها. لكنه استفاق على هتافات الخفير المعتادة، كلما جاء باحثا عن عنتر الهارب، والذي أصبح يعلم جيدا اين يجده دون جهد يذكر. جذب الخفير عنتر في سرعة. ولم يكن مروان بعد قد استعاد رشده. فلم يفطن لسؤال الخفير عن من يكون صاحب عنتر. ساعتها كان سيعرف من تكون تلك التي سقطت بأحضانه وهربت كأرنب مذعور تاركة إياه مستشعرا افتقاد شيء ما بدواخله لا يعرف كنهه. سلبته ورحلت هكذا بكل بساطة. تاركة خلفها قلب يتألق بكفه الآن. يحمل حرف اسمها الأول. ظل يتطلع إليه مروان أمام ناظريه تخالط جنباته مشاعر شتى. وأخيرا. ضم على القلب الفضي كفه في وجل.

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 11 من 36 < 1 25 26 27 28 29 30 31 36 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
رواية ، ميراث ، العشق ، والدموع ، موال ، التوهة ، والوجع ، رباب ، النوح ، والبوح ، العمر ، وزواده ،











الساعة الآن 11:20 PM