رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثلاثون
انتفضت نهلة و هى تستمع لتلك الاخبار عن حازم امامها على شاشة التلفاز و صرخت هاتفة و هى تنظر الى امها:- الكلام ده صحيح يا ماما!؟.. معقول حازم رهينة عند ارهابيين كانوا مستخبيين ف الجبل ف الصعيد !؟..
تنهدت سهير فى أسى:- الظاهر كده يا بنتى.. ربنا يكون ف عون باباه ومامته.. زمانهم مش عارفين يعملوا ايه !؟.. و اذا كانوا هيشوفوا ابنهم تانى و لا لأ.. جلست نهلة فى انهيار منتحبة تخفى وجهها بين كفيها لتربت امها على كتفها مهدئة:- انتِ لسه يا نهلة دماغك بتودى و تجيب ف موضوعكم!؟.. مش انتِ قولتيلى إنكم ف اخر مرة كان هنا الإجازة اللى فاتت.. اتفقتوا على كل حاجة.. و هو عرف قرارك النهائى..
اومأت نهلة و هى تمسح دموعها المنسابة عن خديها:- ايوه يا ماما.. اتفقنا خلاص.. انا مش هتنازل عن البعثة.. و هو قالى انه بيحترم قرارى و اتمنالى التوفيق.. حتى طلب منى انى مبلغش حد من أهله بالخبر ده و اسيبه هو يبلغهم بنفسه..حتى كان غريب قووى يا ماما.. فيه حاجة متغيرة.. مش حازم اللى اعرفه.. زى ما يكون شايل هم كبير على كتافه و مش قادر عليه..
تصورى.. اول مرة يضحك.. بس ضحك مليان وجع بيحاول يداريه و قالى بالحرف الواحد.."على الرغم انى مش هنفذ وصية عمى مختار بس كفاية ان ده اختيارك.. انت جدعة قووى انك قدرتى تختارى.. و انا هفضل حازم اخوك اللى ممكن تلجأى له ف اى وقت.. ربنا يوفقك يا نهلة".. و سلم عليا و مشى.. بس عيونه كانت فيها نظرة غريبة اول مرة أشوفها.. نظرة واحد بيحب يا ماما.. انا متأكدة ان مش انا سبب النظرة دى.. بس على قد ما استغربت.. على قد ما صعب قووى عليا..
همهمت سهير مبتهلة:- ربنا يرده بالسلامة.. دول أهله زمانهم هايتجننوا عليه.. ربنا يعينهم.. همست نهلة متضرعة بالمثل:- يا رب..
ساد الهرج و المرج بعد ما أُعلن عن اسر حازم و اندفع الجميع لإجراء الإتصالات بكل الأطراف للوقوف على صحة الإدعاء و خاصة عاصم و زكريا الذى انهار تماما بعد تأكده من الخبر و ان حازم كان ضمن تشكيل أمنى خرج للقبض على بعض الخارجين عن القانون و المتحامين بالجبل و اذ تفاجأ رجال الأمن بكمين منصوب لهم من قبل بعض الإرهابيين الذين كانوا يتخدوا من الجبل مأوى و من الخارجين عن القانون القاطنين به حراس لهم و ما ان اشتبكت معهم قوات الأمن حتى وقع حازم فى اسرهم و لا يعلم احد اى تطورات فى الموقف..
تناسى الجميع إغماء العروس التى حملها اخوها لأقرب حجرة و ترك النساء معها لإفاقتها و عاد مسرعا لمجلس الرجال لعل احدهم يصل لأى خبر جديد يخص حازم.. لكن لا جديد حتى الأن..
رنين الهواتف لم ينقطع مطلقا وكان من بينها هاتف حمزة الذى رن بشكل متواصل دون ان يدرك هوية المتصل.. خرج حيث يستطيع سماع ذاك الصوت الذى لا يصله الا متقطعا و اخيرا استطاع تبين صاحبة الصوت.. انها زينة زوجة عمه زكريا..لابد و انها علمت بما حدث لحازم من وسائل الإعلام لكنها كانت تصرخ باسم هدير..انتفض ما ان أتاه الاسم جليا و بدأ يستوضح منها الامر هاتفا:- مالها هدير يا مرت عمى..!؟
جاءه الرد على الطرف الاخر من صوتها المتحشرج بكاءً:- مش عارفة.. اغمى عليها و مش بترد عليا.. انا فى طريقى للمستشفى و اتصلت بزكريا كتير تليفونه يا مش بيرد يا اما مشغول.. ألحقنى يا حمزة و بلغ عمك.. انا هنا لوحدى.. هتف حمزة بحنق:- لوحدك كيف !؟ و فين خطيب هدير!؟.. و لا هو ما يعرفش يبجا راچل مرة ف حياته !؟.
هتفت زينة باكية:- يا حمزة احنا اصلا مش ف إسكندرية.. احنا ف القاهرة من كام يوم.. و هدير فسخت خطوبتها من عشرين يوم.. بس انت تلاقيك متعرفش عشان نزلت البلد تجهز لكتب كتابك.. ثم تداركت هاتفة فى ذعر:- هو مش المفروض النهاردة يا حمزة و لا ايه!؟
هتف كاذبا فيكفيها ما هى فيه حتى يخبرها ما حدث لحازم و أجّل عقد القران لأجل غير مسمى:- لاااه يا مرت عمى.. اتأچل كام يوم.. متجلجيش هبلغ عمى و هنكون عندكم مسافة السكة.. أغلق الهاتف و تلفت حوله يتأكد ان مكالمته لم يسمعها احد و اندفع يتوجه لداره ليحمل حقيبته حيث هدير مريضة و بحاجته و لكنه تنبه بعد ان اندفع عدة خطوات للخارج ان عروسه هى الاخرى مريضة وانه حتى لم يطمئن عليها بعد اغمائها..
عاد ادراجه فى سرعة و قد قرر السؤال على حالها و الاطمئنان انها بخير ليعود ادراجه ليسافر و لن يخبر عمه بالطبع فيكفيه مصيبة واحدة.. مصيبة حازم و الذى يجهل الجميع حتى تلك اللحظة مصيره..
استأذن فى الاطمئنان على عروسه و أشاروا لتلك الغرفة الجانبية التى تقبع بها مع بعض النساء توجه اليها و ما ان اصبح قبالتها وهم بالطرق على الباب حتى وجد بابها بالفعل مواربا.. كانت هى من تتكلم فى هدوء متسائلة فى نبرة متوترة:- هو ايه اللى حصل يا تسنيم !؟..
ردت تسنيم بنبرة حانية:- ابدا يا حبيبتى كنتِ نازلة تمضى على العجد و كنا وراك ِ واجفين نستنوا الإمضاء و چه خبر اللى حصل لحازم و وجعتى من طولك..شالك باسل و چابك على هنا و اهم الرچالة بره لسه معرفوش يتوصلوا لحاچة.. هتفت تسبيح بصوت متحشرج:- يعنى انا بس وجعت.. اكدت تسنيم:- اه صرختى و اغمى عليك.. ليه !؟..
همست تتأكد:- يعنى مصرختش بأسمه يا تسنيم.. جولى لاه و ريحينى.. هتفت تسنيم بصدق :- هكدب عليكى و اجولك لااه !؟... الصراحة حصل بس استحمديه.. محدش خد باله وسط الدربكة و الهوچة الكبيرة اللى حصلت من الرچالة اول ما چه الخبر المشؤوم ده..
تنبه حمزة يحاول تذكر لحظة سقوطها.. بالفعل صرخت بقوة لكن هو نفسه لم يع ما حدث ساعتها و حمد الله ان الجميع بالتأكيد ألتهى فى أمر حازم و لم يدرك صرختها تلك.. استطردت تسنيم تسألها فى لهجة من يعلم الإجابة مسبقا لكنه فقط يريد ان يسمعها جلية من صاحب الشأن:- بتحبيه يا تسبيح!؟..
شهقت تسبيح فى لوعة و لم تجب لكن كان ذاك النحيب المقهور الصادر منها اصدق اجابة يمكن الحصول عليها.. تسمر حمزة فى مكانه و قد كان فى سبيله للمغادرة الا ان جوابها على سؤال اختها جاءه معبرا وممزوجا بشهقات بكائها:- انا مش عارفة ده حصل امتى و ازاى!؟.. و لا عارفة ازاى معرفتش أتمالك اعصابى لما سمعت باللى حصله..!؟. و لا عارفة ازاى هواچه حمزة و يا ترى خد باله من اساسه و لا لااه.. و لو خد دلوجتى هجوله ايه.!؟ و لا عارفة حازم اصلا حصل له ايه و دى اكتر حاچة هتچننى.. هو بخير يا تسنيم مش كِده..!؟ جوليلى انه بخير..
و بدأت فى النشيج من جديد.. مما كاد ان يدفع حمزة للتراجع عن الدخول لها بعد تصريحها الصادم ذاك لكن قدوم باسل فى تلك اللحظة مستنتجا سبب قدومه ليدفع باب الحجرة مطلا برأسه هاتفا:- حمزة هنا و چاى يطمن عليكِ يا تسبيح.. مسحت وجهها الباكى بسرعة و تصنعت ابتسامة باهتة مضطربة و هو يدخل عليها منكس الرأس غاضا البصر هاتفا فى صوت حاول ان يبدو طبيعيا:- انتِ بخير دلوجت يا تسبيح!؟..
اكدت هاتفة فى سرعة:- اااه.. اه الحمد لله.. احسن.. يسلم سؤالك يا حمزة.. هز رأسه راضيا ثم هتف و هو يستأذن راحلا:- طب الحمد لله.. عجبال ما ربنا يطمنا على حازم بإذن الله.. هتفت تسنيم عندما ألتزمت تسبيح الصمت تحاول وأد شهقة البكاء التى كانت تتصاعد من جوف روحها ما ان ذكر اسمه:- باذن الله يا رب.. لاحظ هو كل ذلك لكنه احتفظ بهدوء أعصابه ملقيا السلام ليرحل على عجالة لاحقا بتلك التى لا يعلم ما دهاها و لا مما تشكو..
اتخذ قراره و انتهى الامر و ها هو يستقل سيارته متوجها للسراىّ ومنها الى دارها حتى يثنيها عن قرارها الذى اتخذته بالابتعاد عنه رسميا و التوقف عن العمل معه فى مقر الشركة.. لن يقبل اى عذر و لن يتوانى عن إرجاعها و لو بالقوة فقد دخل الشركة صباحا و ما استطاع البقاء فيها لأكثر من ساعة دون الشعور بوجودها يغمر ارجاء مكتبه.. و دون ان يملأ ذاك الفراغ القاتل بحياته بعنادها و مشاكسته لها ورودها الجافة و نظراتها النارية التى تحفزه و تستفز فيه روح التمرد و الرغبة فى اغاظتها بأى شكل من الأشكال حتى تعاود من جديد هجومها و استئسادها.
دخل النجع اخيرا و ها قد شارف على الوصول لحدود سراىّ الهوارية و فجأة ضغط مكابح السيارة فى قوة و اندفع مترجلا منها يرى تلك الكتلة السوداء التى مرت أمامه بسرعة جعلته يتوقف بهذا الشكل المفاجئ مذعورا..
نظر امام العربة ليجدها هى تلك المرأة المجذوبة و التى يبدو انه موعود بلقائها دوما متى يقرر و يأتى إلى هنا لأى سبب.. لا يعرف ما هذه الصدف العجيبة التى تلقيها بطريقه!؟.. لكنه يراها فى كل مرة و لا يذكر انه أتى الى السراىّ و لم يرها..
انحنى يتفحصها فى خوف و لا يدرى ما عليه فعله.. لا يدرك هل ماتت !؟ ام انها لاتزل على قيد الحياة !؟.. اخرج جواله فى سرعة و اول ما صادفه هو رقمها.. كان يحاول الاتصال بها مرارا و تكرارا طوال الطريق الى هنا لكن لا فائدة و لا إجابة منها.. عاود الاتصال من جديد متمنيا من الله ان ترد هذه المرة.. لكنها لم تفعل.. أرسل رسالة من عدة احرف.. "ألحقيني"...
رأت هى اسمه ينير شاشة جوالها و لم ترد كعادتها منذ تركت العمل.. فقد قررت صرفه بعيدا عن حياتها التى اصبح عبئا عليهم خاصة فى الفترة الاخيرة.. فقد كان منذ بداية تعارفهما ضغطا كبيرا على مشاعرها التى كانت تحاول ان تئدها فى مهدها و لم تستطع لكن بعد ما اكتشفته عنه فقد اضحى الوضع لا يُحتمل.. فمن اين لها بقوة تستطيع بها تحمل كل هذا !؟.
انه اختبار فوق احتمالها و الأدهى و الامر من ذلك كله هو إحساسها بالخزى و العار من نفسها فكيف تبتلع لسانها و لا تخبر عاصم الهوارى بما تعرفه عن ذلك الحاقد.!؟. فهى تشعر ان مشاعرها تجاهه تكبلها و مشاعر ولائها لأولياء نعمتها تحاصرها. انها فى ورطة كبيرة و لا تدرك ما السبيل للخروج منها.. انتفضت من خواطرها تلك على صورة اشعار برسالة فتحتها لتنتفض و قد قرأت استغاثته.. ترى ماذا دهاه ليرسل لها تلك الرسالة !؟..
ضغطت زر الاتصال على رقمه ليجيب فى ثوان هاتفا فى لهفة:- ألحقيني يا ثريا... شكلى قتلت الست المجنونة دى اللى بتظهر لى كل ما اجى البلد هنا.. هتفت فى ذعر:- قتلتها!؟.. همهمات صدرت من المرأة المجذوبة الواقعة امام العربة ليهتف هو فى فرحة:- الحمد لله شكلها ممتتش.. بس اعمل معاها ايه دى !؟.. هتفت فى سرعة و هى تضع حجابها على رأسها مندفعة للخارج:- استنى انا جاية لك.. بس انت فين!؟..
هتف مؤكدا و هو يتلفت حوله:- انا قبل السراىّ بحاجة بسيطة.. عند عشة كده معمولة م الخوص.. اكدت ثريا و هى تسرع الخطى فى سبيلها اليه:- اه.. يبجى خبطتها جدام عشتها.. انا خلاص تجريبا وصلت.. اجفل.. سلام.. و فعلا ما هى الا ثوان و ظهرت ثريا متجهة اليه ليهتف فى لهفة:- أخيرا.. تعالى شوفى اعمل معاها ايه !؟.. انا مش فاهم لها حاجة..
اقتربت ثريا تنحنى فى شفقة باتجاه المرأة المغبرة التى اعتدلت قليلا فى جلستها لكنها لم تقو على النهوض بعد و هتفت:- انتِ كويسة يا خالة سيدة!؟..و مدت كفها تساعدها على النهوض ليحذو سيد حذوها و يجذبها بلطف لتنهض و تستند على كفيهما فى اتجاه عشتها الخوص على الجانب الاخر من الطريق.. هتف سيد مبررا ما حدث:- و الله ما كان قصدى.. هى ظهرت قدامى فجأة.. الظاهر كانت خارجة من عشتها دى و مخدتش بالها و هى بتعدى الطريق.. هتفت ثريا دون ان تعيره انتباها و قد وصلا بسيدة لعتبة عِشتها:- حصل خير.. الحمد لله..
كان باب العشة لا يمررهما معا بصحبتها لذا ترك كفها و اسلم قيادتها لثريا حتى دخلت و اراحتها على فراشها المهترئ و دثرتها بغطائها البال بعد ان سقتها جرعة ماء طلبتها سيدة فى وهن و رقدت بعدها فى هدوء.. خرجت ثريا متأسفة على حال المرأة المسكينة هامسة فى شفقة:- مسكينة و الله يا خالتى سيدة.. الست دى اتعذبت كَتير و محدش دارى بالنار اللى جواها.. الله يجازى و لا يرحم بجى اللى كان السبب..
هتف سيد فى فضول:- انتِ تعرفى حاجة عنها!؟.. مش لما سألتك مرة قولتى انك متعرفيش عنها حاجة و انك من يوم ما وعيتى ع الدنيا و هى تقريبا كده!؟.. تلجلجت ثريا قليلا و اضطربت هاتفة:- اه.. يعنى.. ما هو انا سألت و عرفت شوية حاچات كِده مظنش يهموك ف حاچة.. هتف مؤكدا:- بس انا عايز اعرف بجد حكايتها.. عندى فضول اعرف.. قولى اللى تعرفيه.. الست دى حقيقى صعبانة عليا و حاسس ان وراها حكاية كبيرة.. قولى يمكن اقدر أساعدها..
ضحكت بسخرية هاتفة:- سيد بيه رجل البر و الاحسان.. هتف فى ضيق:- اللى انتِ شوفتيه منى ده حاجة و انا ف الاصل حاجة تانية.. هتفت ثريا بحنق:- الانسان شخصيته مبتتچزأش يا سيد بيه.. و لو حصل يبقى مريض فصام.. هتف سيد فى غيظ:- هو انتِ سيبتى الهندسة و بقيتى دكتورة نفسية امتى!؟.. يا ريت تقوليلى اللى تعرفيه عنها.. و انت اصلا عرفتى عنها اللى عرفتيه ده من مين !؟..
هتفت ثريا و هى تجلس على جذع جاف لإحدى النخلات يتمدد بالقرب من العشة:- عرفته من اهل النچع.. اهو الناس بتجول و تعيد.. ظل صامتا و لم يعقب فى انتظار ما فى جعبتها فأستطردت:- للأسف.. راچل هنا ف النچع معندوش ضمير ضحك عليها و عشمها بالچواز و هى كانت حلوة جووى ف شبابها.. كانت بت الحاوى اللى كان بيشتغل ف المولد الجريب م النچع.. خلاها هى و ابوها يسيبوا البلد عشان يرضى يتچوزها و سافروا مصر..
اتچوزها هناك و أظن خلف منيها و بعدها بكام سنة كِده رچعت بحال غير الحال.. فضلت جافلة عليها دارها و فچأة جريبها طردوها م الدار و خدوها و مبجلهاش حد فبجيت زى ما انت واعى كِده كل همها تلم الجرش ع الجرش من اللى بيچود بيه الناس عليها عشان ترچع مصر تانى.. ليه محدش يعرف !؟.. أنهت كلامها متنهدة فى حسرة على حال المرأة المسكينة و صمتت و لم ترفع نظراتها لترى ذاك الذى كان يستمع للقصة و ملامح وجهه تنم عن صراع داخلى رهيب لا يعلم بمداه الا الله..
ساد الصمت بينهما فترة لابأس بها و اخيرا هتف فى صوت أجش جعلها ترتجف فجأة من تأثيره على مسامعها التى ما عاهدته:- مين الراجل اللى اتجوزها ده !؟.. اسمه ايه يعنى !؟.. نهضت ثريا و قد شعرت انها باحت بأكثر من المفترض و هتفت و هى تهم بالمغادرة:- يهمك ف ايه يا باشمهندس!؟.. اهى كلها حكاوى و العلم بيها عند ربنا.. سلام عليكم..
انتفض يعترض طريقها و قد شعر انها تدارى شيئا ما عنه:- استنى.. مش هاتمشى الا لما تقوليلى الراجل ده يطلع مين!؟.. هتفت ثريا فى حزم:- دِه تهديد و لا ايه يا باشمهندس !؟.. هتف محاولا السيطرة على أعصابه و ضبطها:- لا طبعا مش تهديد.. انتِ ليه فهمتيه كده !.. انا بس عايز اعرف مين الراجل ده مش اكتر.. هتفت ثريا بحنق:- معرفش.. دِه كل اللى جدرت اعرفه عنها من حكاوى الناس..
.. ترك ثريا تغيب عن ناظريه و عاد ادراجه لعشة سيدة فتح بابها فى هوادة و دخل يتطلع لمحتواياتها فى ضيق حقيقى و اخذ يعبث بها لعله يجد ما يشفى غليله او يريح ذاك الخاطر الذى يلح على رأسه يكاد يصيبه بالجنون.. لكنه لم يجد ما يشفى فوران افكاره.. فخرج مندفعا من العشة فى حنق بالغ..
كانت تعقد ما بين حاجبيها فى ضيق طوال الطريق من المدرج و حتى العربة و ما ان وصلا اليها حتى هتف متعجبا:- فى ايه يا ايمان مالك !؟.. لم تكن ممن يدورون كثيرا للدخول فى الموضوع بل انها صرحت فورا هاتفة فى ضيق رغم هدوء صوتها و ثباته و تساءلت:- هو انت ليه مجلتليش ع العريس اللى اتجدم لى و چه يخطبنى منيك !؟..
اضطرب قليلا لكنه استطاع السيطرة على اضطرابه بسرعة هاتفا فى لامبالاة:- و اقولك ليه !؟.. انا شفته مش مناسب من الاساس فرفضته بالنيابة عنك.. ايه المشكلة ف كده!؟.. شبكت ذراعيها امام صدرها فى تحدى هاتفة:- المشكلة يا واد خالى ان المفروض اعرف و ان انا اللى احدد اجبل و لا ارفض.. مش هو ده الصح و دى الأصول !؟.. و لا انا غلطانة!؟..
هتف جازا على اسنانه:- لا مش غلطانة.. بس لما أكون متأكد ان الشخص ده يناسبك و هو الانسان اللى ممكن استأمنه عليكى و هيصونك بجد يبقى ساعتها هقولك و انت تقررى قبل كده...لا.. هتفت بغيظ تجز على أسنانها:- و ده ف شرع مين ان شاء الله !؟.. و مين عينك وصى علىّ و على قراراتى !؟. هتف بأسم واحد ألجمها للحظات:- مؤمن..
انتفضت و ساد الصمت لبرهة استعادت فيها روحها المقاتلة و هتفت فى ثبات رغم دمعات عينيها التى تكابر للسقوط:- مؤمن لو كان عايش كان ادانى حرية الاختيار مكنش عاملنى كعيلة صغيرة متعرفش الصح م الغلط و محتاچة اللى يوچها.. هتف ماجد فى غيظ:- مكنتش اعرف انك مسروعة قووى كده ع الجواز.. خلاص يا ستى.. اول عريس هيتقدم لك تانى هبعته ع البيت فورا.. و مبروك مقدما.. همست بخيبة:- هو ده اللى فهمته من كل اللى جلتهولك!؟..
اكد بغيظ و هو يومئ برأسه:- اه.. هو ده اللى فهمته.. و هنفذ عن قريب بإذن الله.. و.. لم تنتظر ليكمل حديثه بل فتحت باب السيارة و دلفت لداخلها و أغلقته خلفها فى عنف فحذى حذوها و دخل لمكانه المعتاد بجوار السائق يغلى غيرة على تلك الحمقاء التى لن تفهم ابدا انه ما تحمل ان يأتيه احدهم خاطبا إياها معتبرا انه ولى امرها.. لقد تحمل فوق طاقته و هو يحاول كبح جماح رغبته فى ان يكيل لذاك الاحمق عدة لكمات يغير بها ملامح وجهه السمج و هو يتحدث عنها و عن كمالها و أخلاقها طالبا ميعاد لمقابلة ذويها..
الحمقاااااء.. صرخ فى قرارة نفسه غيظا و قهرا و هو يتطلع لإنعكاس صورتها فى المرأة الجانبية للسيارة و هى لاتزل تحمل تلك العقدة بجبينها حزنا على العريس الضائع.. اللعنة عليه..
اما هى تلك القابعة بالاريكة الخلفية و التى عاتبته على امر رفضه عريسها المزعوم ربما تستشعر من قبله بعض الغيرة او حتى الاهتمام.. ربما يخبرها انه رفضه رغبة لها فى الأفضل كتلميح عن شخصه.. ودت لو رأت بعض من مشاعر لها تكلل محياه الذى تعشق.. بعض من مشاعر لها هى.. كتلك التى رأتها مجسدة على محياه عندما كان ينطق اسم نرمين حبيبته السابقة.. ألا تستحق هى بعض منها!؟..
الاحمق.. المغفل.. الغافل.. عديم الاحساس.. صرخت بكل هذا و كانت تود لو صرختهم بصوت عال يخفف من وطأة تلك المشاعر المكبوتة داخلها تكاد تقتلها قهرا و غيظا من ذاك الثلجى الذى يجلس امامها و لا يع شيئا عن أحاسيسها تجاهه.. و لن يع ابدا.. لا امل لى معه مطلقا.. هكذا هتفت لنفسها و انحدرت دمعة خانتها لتوأدها فورا و هى تحيد بناظريها عن رأسه الشامخ ذاك الذى تود لو اقتلعته الان من فوق كتفيه بمنجل القهر المغروز بقلبها العاشق له حد الثمالة..
تنبهت لوصوله فنهضت فى هدوء و مرت من امامه و هى تتلحف بردائها الطويل و حجابها هاتفة فى نبرة موجوعة:- هحضر لك العشا.. نظر حامد اليها فى اضطراب و تطلع الى محياها الغائم فى قلق هامسا: انتِ تعبانة!؟.. هتفت بلهجة تقريرية:- شوية صداع.. هروح احضر العشا.. هتف متسائلا:- انتِ اتعشيتى طيب!؟..
هزت رأسها نفيا و همت بالاندفاع للمطبخ و هى لا تصدق مدى صفاقته.. هل كان يتوقع ان تتناول عشائها معه على طاولة واحدة.. واهم.. استوقفها هاتفا:- لااه متعمليش حاچة.. مفيش داعى.. انى مش چعان متتعبيش حالك.. استدارت تعود لحجرتها التى اتخذتها ملجأ لنفسها بعيدا عنه..و اغلقت بابها فى هدوء ينافى تلك النيران التى تستعر بين جنباتها حزنا و قهرا و ما ان أغلقته حتى انفجرت باكية على حالها..
اما هو فوقف للحظات فى منتصف الردهة يتطلع لبابها الموصود امامه و اخيرا تنهد فى حزن و أسف و توجه للمطبخ متطلعا الى محتوياته فى تيه للحظات و اخيرا بدأ فى العمل من هنا و هناك حتى انتهى.. حمل صينية العشاء بهدوء و ما ان وصل لعتبة بابها حتى وضع الصينية ارضا و طرق الباب فى هدوء و ما ان شعر بحركتها قادمة لتفتح حتى اندفع مبتعدا بإتجاه غرفته..
فتحت الباب فى عنف متوقعة انه سيكون منتظرا قبالته ما ان تفتح لكن خاب ظنها و تطلعت للفراغ للحظات حتى تنبهت لصينية الطعام الموضوعة امام عتبتها.. انحنت متطلعة للأطباق التى تحمل أصناف متعددة و كوب من الشاي الساخن و اخيرا حبة من دواء مسكّن لألم الرأس.. خفق قلبها فى قوة..
كانت بادرة تشع حنانا و رقة.. دمعت عيناها و رق قلبها لكن كرامتها المهدرة استصرختها زاجرة لتنهض حاملة الصينية فى غضب مصطنع لتضعها على الطاولة بالردهة فى عنف حتى يتناهى لمسامعه الصوت و يعلم الى اى مصير ألت صينية عشائه الميمونة..
اندفعت تختفى من جديد داخل غرفتها اما هو فما ان ادرك دخولها لحجرتها من جديد حتى خرج يتطلع للصينية فى هدوء و الى بابها الموصود فى حسرة و تنهد متوجها لغرفته يلقى بجسده المنهك على فراشه و قد شعر ان ما تفعله لا احد يستطيع ان يلومها حياله.. لقد جرح كرامتها كأنثى و كسر قلبها كأمرأة و استحل حقا ليس له حينما تخيلها امرأة اخرى و هى بين ذراعيه..
لا شئ سيداوى وجع جرحها.. هو يعلم ذلك.. لكن ماذا يمكن له ان يفعل حتى تغفر له فعلته !؟..
دخل شقته فى اندفاع كالعادة باحثا عنها ليجدها تقف ساهمة امام الموقد لا تع ما تفعل بالضبط.. همس بالقرب من اذنيها:- الچميل سرحان ف ايه !؟..
ابتسمت فى مجاملة ما ان طالعها محياه هامسة:- سرحانة ف اللى بيحصل..تسبيح و حمزة و فرحتهم اللى مكملتش.. دى تسبيح من ساعة اللى حصل و هى حابسة نفسها فى اوضتها و مداقتش الزاد و عمى زكريا اللى هيتجنن على ابنه اللى مصيره مش عارفين هيكون ايه لحد دلوقتى.. ربنا يعينهم كلهم.. همس مؤكدا على صحة كلامها:- ايوه و الله صدجتى.. الدنيا اتجلبت فچأة.. ربنا يسترها و حازم يرچع بالسلامة لخالى زكريا يروح فيها..
قال كلماته و صمت كلاهما تطلع اليها من جديد.. و على الرغم من ان كل تلك الاحداث تدعو للحزن بحق الا ان ذاك الحزن الكامن بعمق عينيها كان سببه امرا اخر.. امر هو يدركه و يعلم انه الامر الوحيد الذى يمكن ان يجعلها بهذا الشكل الموجوع لكنها تدارى.. و لكن هل يمكن ان تخبئ دواخلها عنه هو.. باسل.. حبيب عمرها و توأم روحها.. كان يحفظها ككف يده و يعلم ان حزنها الكامن ذاك دليلا على انها تأكدت ان الله لم يأذن بالحمل هذا الشهر كما كانت تتمنى و ترغب من الشهر الاول لزواجهما.. كانت دوما تنتظر و لا يكون لها نصيب..شهرا بعد شهر و لا جديد..
اقترب منها و هى لاتزل تشغل نفسها بتقليب قدر على النار و ضم ظهرها لصدره هامسا بالقرب من اذنيها فى نبرة حانية:- كله مكتوب يابت خالى.. كله بمعاده.. كان دلوجت و لا بعد سنة و لا حتى مچاش خالص.. انى مش عايز الا انتِ.. انتِ و بس.. دمعت عيناها و قد ادركت انه رغم مهارتها فى مدارة حزنها الا انه باسل حبيبها.. باسل الذى يستطيع ان يدرك كل خلجة من خلجات روحها.. انه باسل و كفى..
اخرجها من شرودها عندما مد كفه ممسكا بالملعقة التى كانت تقلب بها ذاك القدر على النار ليضعها جانبا و يديرها لتواجهه متطلعا لعمق عينيها هامسا:- انى بحبك يا سندس.. بحبك.. و متفتكريش انى مش عايز اخلف منكِ.. بالعكس دِه انى الود ودى اخلف منك جورطة عيال.. بس كله بأوانه يا غالية.. و ربك كريم..
و ضمها اليه يعتصرها بين ذراعيه هامسا من جديد فى مشاكسة:- بس يا رب بعد ما ربنا يرزجنا بيهم انتِ اللى مدخليش العيال الإصلاحية عشان جطعوا لك ورج الجضايا بتاعتك.. قهقهت ليتناول هو الملعقة من جديد محاولا جذب انتباهها بعيدا عن ذاك الموضوع الذى يثير شجونها و اخذ يتذوق ما يغلى ع القدر و تعجب متسائلا:- هو ايه ده يا اثتاذة !؟..
اكدت:- ده صنف حلو جديد.. كنت بجربه.. رفع احد حاجبيه فى صدمة متسائلا فى مشاكسة:- دِه صنف حلو.. اومال الوحش يبجى ازاى !؟.. قهقهت ليستطرد مقررا:- انا بجول تفضلى مع ورج الجضايا و بلاها مطبخ يا اثتاذة.. قهقهت من جديد و هو يغلق الموقد على القدر العجيب بما يحويه و يجذبها من كفها خلفه لخارج المطبخ.
وقفت فى نافذة شقتها ترسل الحبل للأسفل حيث يقف شكمان يضع المشتروات التى طلبتها فى تلك السلة البلاستيكية الموصولة بالحبل.. كانت لقصر قامتها تخرج معظم جسدها من النافذة حتى تستطيع جذب السلة المحملة بالأغراض و انسدل شعرها الكستنائى من على احد كتفيها خارج النافذة.. و لسوء الحظ كان هو يتطلع الى المنزل فى تلك اللحظة من موضعه ليرى هل اتم شكمان مهمته فرأى شعرها متدل بهذا الشكل مما اثار براكين غيرته فأندفع فى اتجاه شقته متوعدا إياها..
وصل للشقة فى ثوان مدفوعا بقوة نارية من غضب و ثورة.. دفع الباب هاتفا باسمها:- شيماااااء.. طلت من داخل المطبخ متعجبة و هتفت:- نعم يا ناصر فى ايه !؟.. وقف متسمرا بموضعه يضع كفيه على جانبى خصره هاتفا بصوت مكتوم يخرج من بين اسنانه التى يجز عليها فى نفاذ صبر:- تعالى هنا..
اضطربت فهى تعلم كيف يكون عندما تنطلق شياطينه.. اذردت ريقها فى صعوبة و شعرت ان فعلتها زادت عن الحد المسموح به و ان تعليمات امها نعمة ستوردها مورد التهلكة لا محالة. تحركت فى محاولة لتبدو على ثباتها و ما ان وصلت لموضع وقفته المتحفزة تلك حتى جذبها اليه مرتطمة بصدره فى غضب عاصف هاتفا بالقرب من وجهها:- انا مش قلت مليون مرة شعرك ده تلميه ومشفهوش مفرود !؟. قلت و لا مقلتش!؟..
رفعت نظراتها اليه و على الرغم من ثورته العاصفة تلك الا أنها همست فى دلال:- قلت يا ناصر..قلت.. حاااضر.. سماح المرة دى.. تطلع الى عيونها المتألقة المطالبة بالعفو و المغفرة فهدأ غضبه فجأة كمن صب الماء المثلج على حمم بركان.. شعر بتأثره بها و هى بهذا القرب فدفع بها فى رفق مبعدا إياها هامسا بصوت متحشرج:- خلاص.. حصل خير.. روحى اعملى..
اكملت جملتها فى مشاكسة:- شاااي.. من عنايا.. و اندفعت باتجاه المطبخ ليتطاير شعرها خلفها فى اغراء جعله يشهق بصوت مسموع أورثها سعادة لا توصف.. ازدرد ريقه فى اضطراب و أيقن انه ما عاد قادرًا على تحمل ما يحدث له من تلك الصغيرة هناك..
وضعت كوب الشاي بين كفيه و هو شارد فى خواطره ليستفيق على شلال من جدائل شعرها تداعب وجنته فى وداعة.. تاه للحظات فى وله و اخيرا استفاق ليضع الكوب جانبا فى حنق حتى انسكب جزء منه على الطاولة و هتف فيها امرا ما ان رأها تهم بالعودة للمطبخ:- تعالى هنا.. عادت ادراجها ليأمرها من جديد:- ادينى ضهرك..
تعجبت من الطلب ووقفت لا تع ما يجب عليها فعله.. فهتف فى حنق امرا من جديد:- سمعتينى !؟.. تعالى اقعدى هنا.. و اشار لموضع قرب قدميه و استطرد امرا:- و ادينى ضهرك.. نفذت ما امرها به و جلست مولية ظهرها له.. لحظة وانتفضت بموضعها شاهقة ما ان شعرت بكفيه يلملما شعرها المتحرر من على كتفيها و يبدأ فى صنع ضفيرة من جدائله الثائرة..دمعت عيناها عندما تذكرت انه كان يفعل ذلك عندما كانت تتأخر عن المدرسة..
لحظات من صمت صاخب مرت بينهما حتى انتهى تاركا الضفيرة الكستنائية تقع رابتة على ظهرها فى حنو.. انتفض واقفا فأندفعت بدورها للأمام و استدارت تتطلع اليه من موضعها عند قدميه ليندفع هو مبتعدا هاتفا بصوت تحذيرى و نبرة حازمة:- عارفة لو لقيتك فاكة شعرك تانى هعمل فيكِ ايه!؟.. هقتلك.. سامعة يا شيماء !؟.. هقتلك..
صرخ بكلمته الاخيرة و هو بالفعل على اعتاب باب الشقة و لتؤكد انها سمعت هزت رأسها ايجابا.. و ما ان خرج صافقا الباب خلفه فى غضب حتى جذبت الضفيرة تتطلع اليها فى سعادة مقبلة إياها و اخيرا قهقهت فى نشوة انتصار تحاول وأد تلك القهقهات حتى لا تتناهى لمسامعه قبل ان يكون قد رحل بالفعل فيعود ليصب عليها جام غضبه من جديد فيكفيه اليوم هذه الجرعة من.. "دواء نعمة القاسى لترويض الزوج العاصى."
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والثلاثون
اندفع بطرقات المشفى يحاول ان يبدو طبيعيا لكنه بدا متوترا رغما عنه و هو يسأل هنا و هناك عن حجرتها.. لا يعرف ما بها و لا ما دهاها.. كل ما يعرفه هو نحيب امها الملتاع على ابنتها و هى تتحدث بكلمات غير مفهومة لا تجعله يدرك وضعها و لا ماهية حالتها.. و اخيرا ها هو يرى زوجة عمه على مقربة امام احد الأبواب تقف فى اضطراب و قلق.. أشفق عليها و اندفع يحاول ان يطمئنها رغم انه بالفعل من يحتاج لمن يطمئنه و يهدئ من روعه فقد قضى طوال طريق القدوم اليهما فى توتر تزداد وتيرته مع كل لحظة تأخير عنهما..
هتف فى لهفة و هو يطالع محيا زينة الشاحب ذعرا:- خير !؟.. ايه فى يا مرت عمى!؟.. هدير مالها !؟.. هتفت زينة و هى تتشبث به فى نحيب مضطرب و هى تترنح إرهاقًا:- مش عارفة يا حمزة.. مش عارفة!؟.. اهو الدكاترة عندها م الصبح و محدش خرج يطمنى.. دى وقعت من طولها من غير مقدمات..بس هو فين زكريا!؟.. مجاش معاك و لا ايه !؟..
هتف حمزة مهدئا لها و هو يرى حالتها المذعورة قلقا على حال ابنتها الوحيدة و تأكد بعد سؤالها عن عمه انها لم تدرك بعد خبر اسر حازم و ما يعانيه عمه من جراء تلك المصيبة التى ما كانت لا على بال و لا خاطر:- اهدى يا مرت عمى و هاتبجى تمام باذن الله.. متجلجيش..و انا مجلتش لعمى.. محبتش اخضه على هدير.. جلت اچى انا و ابجى اطمنه لما نعرف ايه فى..
هتفت زينة من جديد و كأنها لم تسمعه:- انا اللى غلطانة.. انا ازاى مخدتش بالى انها بتدبل قدامى !؟.. الفترة الاخيرة و بالظبط من ساعة ما انت قررت ترجع النجع عشان تكتب كتابك و هى مش طبيعية.. ازدرد ريقه بصعوبة و ازدادت ضربات قلبه اضطرابا للحقائق التى تصبها زوجة عمه على مسامعه.. استطردت فى ذهول و هو يتابع فى هدوء ظاهرى:- تخيل.. دى فسخت خطوبتها و مقلتش لحد و عرفت بالصدفة لما خطيبها كلمنى عشان ادخل اصلح بينهم..
لقد علم خبر إنهاء خطبتها فى المكالمة الهاتفية لكنه لم يستوعبه لتلك اللحظة و تساءل لما فعلت ذلك !؟.. و زاغت نظراته و كأنها أشارة ما بعد ما حدث فى اثناء عقد قرانه..تعالت شهقات زوجة عمه فأخرجته من شروده و هى تهتف من بينها مؤنبة نفسها:- انا ازاى مخدتش بالى!؟.. ازاى!؟..
ربت حمزة على كتفها محاولا مواساتها و جذبها فى حنو لتجلس على احد المقاعد المتراصة امام الغرفة و فى مقابلة بابها و الذى فُتح فجأة لينتفض كلاهما متأهبين لمعرفة أسباب ما يحدث لهدير.. كانت زينة هى الأسبق والتى اندفعت تسأل فى لهفة عن حال ابنتها:- خير يا دكتور.. فى ايه!؟..
هتف احد الأطباء و الذى يبدو انه كبيرهم:- ان شاء الله خير متقلقيش.. بنت حضرتك عندها صدمة عصبية شديدة نتيجة ضغط عصبى اتعرضت له ف الفترة اللى فاتت.. هى هاتفضل شوية معانا تحت الملاحظة و باذن الله تتحسن.. بس نبعد عنها اى اشخاص غير مرغوب فى رؤيتهم بالنسبة لها و اى اخبار ممكن تحزنها او تضايقها.
نكس حمزة رأسه مشفقا على حال زينة و هدير عندما تعلم كلتاهما ما حدث لحازم و قرر عدم أبلاغهما و ابلاغ عمه عاصم بما يحدث حتى يكون على علم بسبب سفره المفاجئ و خاصة فى ظل ظروف حادث حازم و الذى لا يعرف كيف انتهى به الحال و تضرع بقلب واجف ان تكون النجاة من نصيب بن عمه الوحيد..
هتف الطبيب من جديد لزينة:- حضرتك يا ريت تيجى معانا محتاجين منك شوية معلومات هتساعدنا اكيد فى علاج الحالة.. اندفعت زينة خلف الطبيب و تركت حمزة يجلس وحيدا امام غرفة هدير و التى تطلع لبابها فى وجل لا يعلم ماذا دهاه.. انه يشعر فى قراراة نفسه انه سبب ما حدث للمسكينة التى ترقد بالداخل.. انه يشعر بكل خلجة من خلجات نفسه بذلك.. لكنه ابدا لم يقصد.. هو فقط حاول ان يبتعد حتى ينفذ وعده و يقطع اى سبيل لأمور ليست فى الحسبان..
انه بالتأكيد لا يستطيع ان ينكر انها وحدها هى من استطاعت تحريك ذاك الحجر الصوان النابض بين أضلعه و المسمى مجازا قلب.. هى وحدها من جعلته يدرك ان حمزة يمتلك فؤاداً قادر على المحبة و بسخاء و هو الذى اعتقد انه سيعيش عمره كله و ربما يموت دون ان يدرك ما معنى كلمة عشق و لن يتعرف على مدلول لها بحياته لكن تلك البريئة بنظراتها التى تقطر سذاجة و بأسئلتها التى تعج بفضول محبب دفعته دفعا لحافة الهاوية و طلبت منه ان يقفز و عندما فعل دون تردد تلقفته هى غير قادرة على إطلاقه بعيدا من جديد و ما عاد هو نفسه قادرًا على الابتعاد..
مرر أصابعه متخللة شعره فى حركة تنذر عن التوتر و اضطراب الفكر و هو يتطلع شاردا فيما يحدث مدركا تماما رغم ذلك التيه على محياه انه ترك عقد قرانه معلقا و رحل فى لمح البصر ما ان علم بمرضها و هذا يعنى الكثير يا حمزة..اكد لنفسه فى إيماءة رأس و تنهد فى راحة عندما تذكر ما سمعه من تسبيح و اعترافها بحب حازم.. و اخيرا حمد الله فى سره فمن يدرى اين خيره من شره !؟.
و أيقن ان هناك حكمة ما فيما حدث.. و تأكد ان تسبيح لا تصلح زوجة له و انه بالفعل كاد يظلمها اذا ما مضى فى اتمام هذا الزواج.. لابد ان يحلها من هذا الرابط الذى يخنقها و يكبل قلبها تجاه من تعشق.. و تضرع من جديد ليعود حازم سالما من اجل عمه المفطور قلبه على ولده و من اجل تسبيح التى يتمنى لها ان تجد من يسعدها حقا و يعوضها بعض من ألمها جراء حادثتها القديمة و التى كان دوما ما يستشعر مسؤليته عنها و كان يفكر ان ارتباطه بها هو افضل تكفير عن ذاك الذنب لكنه أيقن متأخرا ان تعويض تسبيح الحقيقى هو فى الزواج ممن تحب لانها بالفعل تستحق رجل يعشقها بحق و يسعدها و هو لن يتوان عن تنفيذ ذلك..
انتفض من مكانه كالإعصار عندما رأى ذاك الاحمق خطيب هدير السابق و المدعو عمر يقترب فى رعونة باتجاه غرفة هدير و دون اى حياء يُذكر يندفع لفتح الباب.. جذبه حمزة من قميصه فى قوة ليترك عمر مقبض الباب قبل فتحه و يستدير متطلعا لحمزة الذى ابتدره متسائلا فى غيظ:- واخد ف وشك و رايح على فين سعادتك !؟..
هتف عمر فى تأفف:- داخل ل ديرو.. عندك مانع !؟.. امسك حمزة بتلابيب عمر فى حنق بالغ هاتفا بالقرب من احد أذنيه بصوت كالفحيح يشعر برغبة فى قتله و هو يسمعه يدللها بهذا الشكل القمئ فى جرأة:- ايوه عندى مليون مانع.. و اسمها الانسة هدير.. لان على حد علمى هى فسخت خطوبتها بيك و مبجاش ليك حاچة عنديها و لو حتى عايز حاچة كلامك من هنا و رايح معاى انا.. سامعنى!؟..
هتف حمزة بتحذيره الاخير لعمر صارخا و هو يدفع به بعيدا حتى ان الاخير اختل توازنه و سقط فى اضطراب.. لكنه نهض مسرعا من جديد يهتف فى رعونة:- انا مش هاخد اذن منك و لا من حد.. انا لما أحب اشوف هدير هدخل و أشوفها غصب عن عينك انت و اللى يتشدد لك.. و بدأ هذا الأحمق عمر فى الصراخ و الهتاف بأسم هدير رغبة فى السماح له برؤيتها مما دفع حمزة ليندفع نحوه صارخا فى غضب اعمى:- هو البعيد مبيفهمش.. متنطجش اسمها على لسانك.. و غور من هنا..
و كال حمزة لعمر ضربة بقبضة حديدية جعلت الاخير يترنح و سقط يعوى متألما و هنا تجمعت بعض الممرضات و ظهر الأمن اخيرا ليُدفع بعمر خارج المشفى بعد سماع شهادة الشهود التى اكدت ان عمر من كان يحاول التهجم و الدخول عنوة لغرفة هدير الممنوع عنها الزيارة بالفعل الا بأمر الطبيب.. رفرفت هدير بعينيها فى وهن متطلعة حولها لاتدرك اين تكون.. تناهى لمسامعها صوت يناديها.. و رفرف قبلها بين جنباتها لانها استمعت لصوته بالمثل.. هل حمزة هنا !؟.. لابد و انها تهزى فكيف يكون و هو بالتأكيد الان بين الأهل المهنئين له و لعروسه على عقد قرانهما!؟.. شعرت بغصة ما بحلقها و نغرة بقلبها..
لقد انتهى الامر و ما عاد لها.. اصبح ملكا لامرأة سواها.. سال الدموع السخين على وجنتيها فى صمت موجع الا ان صوت الهتاف ما زال يتناهى لمسامعها و مازال صوت حمزة يصلها بقوته و جبروته و حنانه و دفئه.. مازال رغم البعد يدثرها بالامان حتى ولو كان طيفا تتوهمه.. لكن رغبة مُلحة دفعتها لتنهض فى تثاقل تتحرك بوهن بإتجاه الباب تستكشف ما يحدث..
انفض الجمع و جلس حمزة من جديد امام الحجرة و ما ان عاود التطلع لبابها الا و شهق فى صدمة عندما رأى باب الغرفة يُشرع ببطء لتقف هدير على أعتابه شاحبة فى وهن أورث قلبه الوجع حزنا على حالها.
كانت تتطلع اليه فى سعادة غير مصدقة انه هنا.. تقدمت خطوة مترنحة لا تحيد بنظراتها عنه و قد نهض هو من فرط ذهوله لمرأها غير قادر على الإتيان برد فعل سوى التطلع لمحياها الذى ما كان يعلم انه يفتقده بهذا الشوق حد اللانهاية حتى رأها تلك اللحظة و أقر انه ما عاد قادرًا على المكابرة و معاندة قلبه و انه لن يستطع الابتعاد من جديد حتى و لو حاول ذلك..انه يعشقها بحق..
تطلع اليها ولهًا و هى تمد كفها المرتعش تحاول الوصول لتلامس ملامح وجهه لتدرك انها لا تهزى الا انه كان بعيدا عن موضعها عدة خطوات بالفعل حاولت التحرك تجاهه من جديد الا ان قدميها خانتاها و شعرت بالدوار يكتنف رأسها بشدة واخيرا سقطت غائبة عن الوعى ليتلقفها بين ذراعيه و ابتسامة على شفتيها هامسة بحروف اسمه الذى تعشق.. حمزة
نهض من فراشه مترنحا كعادته صباحا حتى يشرب كوب شايه ليبدأ مزاجه فى الانضباط.. فتح باب حجرته و هتف:- شيماء..اعمليلى كباية شااااى.. يبدو انها لم تسمعه.. و كيف تفعل و هى تفتح المذياع بذاك الصوت المرتفع.. اندفع للمطبخ فى غيظ موبخا إياها حتى تخفض الصوت و تحضر له الشاى فرأسه يكاد يتحطم ألما من جراء الصداع الذى يسكنه.. فقلة النوم تفعل به الافاعيل و كيف لا و هو يغفو عند الفجر يوما مسهدا يفكر فى تلك التى تحتل حياته و تقلبها رأسا على عقب.. لقد عدم الراحة منذ ادرك وجودها بهذه الحياة و كانت سببا دائم لصداع أبدى لم ينتهى و ها هو يعانى بعض منه جراء السهر مفكرا فى محياها الذى يعشق و لا حيلة له فى ذلك..
وصل عند عتبة المطبخ ليقف مبهوتا يفتح عينيه فى صدمة و فيه فى بلاهة و هو يتطلع لتلك التى تتمايل بكل اغراء على أنغام تلك الاغنية المبهجة الصادحة من قلب المذياع و تردد كلماتها فى سعادة بالغة و بصوت شقى مس شغاف قلبه حتى كاد يظن ان تلك الكلمات قد كُتبت خصيصا لأجله..
تاه فى محياها للحظات و هى نفسها لم تدرك انه هاهنا يقف يتطلع اليها فى وله الا عندما جذب نفسه عنوة من أتون المشهد النارى ذاك هاتفا فيها مدعيا الغضب و هو يندفع مغلقا المذياع فى عنف:- بقالى ساعة بنادى.. بس هاتسمعى ازاى و انت فاتحة الاغانى بالصوت الحيانى من غير خشا و لا دم و ناسية ان عندنا وفاة ف البيت.. خلاص.. اتنسى..!؟
انتفضت شيماء مذعورة و لم تنبس بحرف للحظة.. و اخيرا همست معتذرة:- انا مقصدش.. معلش.. اصل.. هتف صارخا يخرج كل ما يعتمل بصدره من مشاعر مكبوتة يسقطها على ثورته:- معلش ايه و زفت ايه.. انت معندكيش دم و لا احساس.. و اندفع كالمجنون ممسكا بذراعيها يهزها فى شدة:- نسيتى نادر.. نادر اللى كان مبيحملش الهوا عليكِ.. نادر اللى راح قبل ما..
وعند هذه النقطة صمت و لم يُكمل و دفعها بعيدا و هو يتنفس فى تتابع رهيب يدل على اشتعال جحيمه الداخلى و الذى يحرقه و لا يستطيع البوح.. اندفع خارجا من المطبخ كالاعصار وألقى بجسده على اقرب مقعد و وضع رأسه الموجوع الذى يكاد ينفجر بين كفيه و ساد الصمت للحظات بينهما قطعتها هى بصوت إغلاق باب حجرتها و سماعه لصوت نحيبها من الداخل رغم محاولتها وأده.. تنهد فى ندم لما فعله و زفر فى قوة و نهض فى تثاقل متوجها لحجرته ليغلق بابها خلفه بعنف كالمعتاد..
كانت تجلس على مصلاها تتضرع الى الله فى خشوع لعله يستجيب لدعاء قلبها المسكون ألما و النابض وجعا.. هى لا تعلم ما يحدث له تلك اللحظة و لا تدرى من الاساس ان كان على قيد الحياة ام.. و لم تستطع استكمال الخاطر فبكت بدموع تعبر عن مدى قهرها و حيرتها.. متى أحبته بهذا الشكل !؟.. متى توغل عشقه بقلبها بهذا العمق !؟..
ان روحها تستشعره رغم البعد بشكل أورثها رغبة فى العزلة العجيبة حتى تظل هائمة حيث تستشعر قربه الذى تشتاقه حد الوجع.. هى تشعر فى قرارة نفسها انه حى يُرزق.. انه عائد بعون الله.. لكن لم لا يوجد خبر يطمئن قلبها الملهوف على سلامته و ليكن ما يكون بعدها..
رفعت أكفها للسماء فى تضرع هامسة:- ياااارب.. ساد الصمت للحظات و اخيرا انتفضت على انفراج باب غرفتها بهذا الشكل العنيف و دخول تسنيم الصاروخي ذاك و الغير معتاد من اختها العاقلة الرزينة و التى دفعت نفسها لتجلس ارضا مشاكسة:- هاتى البشارة..
تطلعت تسبيح اليها بعيون زائغة و قد ادركت انها تحمل خبرا عن حازم فلم تنطق حرفا بل شهقت باكية تتطلع لتسنيم التى رق قلبها لأختها فأومأت برأسها ايجابا تؤكد ظنها و جذبتها بين ذراعيها رابتة على ظهرها فى حنو هامسة لها من بين شهقات تسبيح:- الحمد لله يا حبيبتى.. هو بخير.. و الله بخير.. كلهم سافروا على مصر يحصلوه لانه أتنقل المستشفى.. ربنا يتم شفاه على خير..
رفعت تسبيح رأسها من احضان اختها هامسة و دموعها تغرق وجهها:- يعنى هو كويس.. طب ليه مستشفى!؟.. اوعى تكونى بتضحكى عليا!؟.. ربتت تسنيم على كتفها مهدئة:- ابدا و الله.. اللى سمعته من مهران اول ما چاه الخبر انه طبعا تعبان.. دوول كام يوم ف الچبل بين المچرمين دوول.. الله اعلم كانوا بيعملوا معاه ايه... و استحمل ايه !؟..لكن الحمد لله انه رچع بالسلامة..وهيبجى تمام بإذن الله.. همست تسبيح و هى تمسح الدموع عن وجهها:- يااارب.. لتبتهل تسنيم بدورها:- ياارب..
لا يعلم منذ لقائه الاخير بها و من بعد ما سمعه من ثريا و ذاك الخاطر لا ينفك يغادر فكره حتى اطار النوم من عينيه لينهض مندفعا حيث مكتبه القديم فى ذاك البيت الذى كان يسكنه و ابيه منذ سنين خلت.. ثلاث ساعات مرت و هو ينقب بين الاوراق هنا و هناك حتى عثر اخيرا على ملف قديم باهت اللون مهترئ الاوراق وضعه امامه يتفحصه.. يتذكر ان كل الاوراق فى مكتبه القديم ذاك قد فحصها جيدا من قبل و ما وجد ذاك الملف يومها..
فتح الملف فى حرص خوفا على الاوراق القابلة للتلف و تحتاج للتعامل معها بحذر شَديد.. تطلع لتلك الوثائق الصفراء اللون الباهتة.. كانت شهادة ميلاد والده و بعض العقود لبعض الأراضى و العقارات القديمة و التى ما عاد يملكها من الاساس و اخيرا عقد زواج.. اعتقد انه لأبيه و امه او بالأدق زوجة ابيه والتى ربته كأبنها..رحمهما الله..و الموضوع اسمها بشهادة ميلاده بديلا عن اسم امه الأصلية.. لكن ما ان تطلع لأسم المرأة حتى شهق فى صدمة..
ظل ينظر الى الورقة فى ذهول..الى خانة اسم الزوجة.. سيدة حسنين الحاوى.. و الى تاريخ عقد القران انه تقريبا قبل مولده بتسعة اشهر كاملة.. انها هى لا محالة.. كان يستشعر ذلك و كأن هناك رابط خفى بينهما..
دمعت عيناه و هو يضع على سطح المكتب قبالته عقد زواج ابيه بسيدة تلك المجذوبة التى دوما ما يصطدم بها ما ان تطأ أقدامه النجع و كأن القدر يأبى ان يجعله ينتقم من الهوارية لأمر واحد فقط بل الان اصبح الدين مضاعفا.. فهذه المرأة ليست الا امه و التى يحلم بها كل ليلة منذ انتزعوه من بين ذراعيها و التى يسمع صوتها يناديه فى صرخة وجع تجعله ينتفض مستيقظا كل صباح.. و التى سيرد لها حقها كما سيرد حق ابيه.. و سيفعل..
تطلع الجميع لجسده المسجى من خلف زجاج غرفة العناية الفائقة.. كانوا جميعهم فى ترقب للأطباء و حركتهم الدؤبة بالداخل و فى انتظار خروجهم..كاد زكريا يفقد وعيه هلعا عندما جاءه الخبر اليقين اخيرا و اتصل به احد قيادات وزارة الداخلية و المختص بمتابعة حادث حازم ليخبره انهم بفضل الله و جهود الوزارة قد عثروا على حازم بداخل احد الكهوف الجبلية بعد ان تم تضييق الحصار على الجماعة الإرهابية التى كانت تتخذه رهينة و استطاعوا انقاذه حيّا.. و تم نقله لمستشفى الشرطة بالقاهرة لتلقى العلاج المناسب و الإشراف على حالته الصحية..
هرع الجميع من النجع الى القاهرة و وصلوا لغرفة العناية الفائقة حيث يرونه الان و لكن لم يقف احد بعد على مدى حالته الصحية.. بكى زكريا بصمت و ربت عاصم على كتفه مؤازرا فقد شعر بوجعه كأب و قد تذكر ما كانت عليه حاله فى مشهد مماثل يوم ان جاءه خبر إصابة ماجد.. يا له مش شعور لا يوصف بالعجز و التيه و انت ترى فلذة كبدك أمامك تكاد تفقده و لا تستطيع ان تحرك ساكنا لإنقاذه و لا تملك الا الدعاء و التضرع راجيا من الله نجاته..
خرج بعض الأطباء اخيرا ليندفع الجميع محاوطا اياهم فبادرهم زكريا متسائلا فى لهفة:- ايه الأخبار يا داكتور !؟.. طمنا.. ربت الطبيب على كتفه مطمئنا:- الحمد لله.. سيادة النقيب بنيته قوية و هايقدر يعدى الأزمة دى على خير..متقلقش.. الأيام اللى قضاها هناك كانت صعبة و المجرمين عذبوه جامد بس الحمد لله احنا قمنا بالازم و باذن الله هيكون بخير.. اطمن.. هتف عاصم بدوره:- يعنى هو تمام يا داكتور!؟..
اكد الطبيب:- اه و الله بخير.. بس عايز فترة راحة و جراحه تلتأم و هايبقى زى الفل.. هلل عاصم:- طب الحمد لله.. الف حمد و شكر ليك يا رب.. هتف زكريا مؤكدا و هو يتطلع لجسد ولده المسجى و تلك الضمادات التى تحيط بصدره و رأسه و الأسلاك الممتدة منه للأجهزة الطبية:- الحمد لله..وربنا يتمم شفاه على خير.. هتف الجميع عاصم و باسل و مهران و حمزة الذى لحق بهم ما ان علم بالخبر مؤمنين على دعاء زكريا فى تضرع..
ثلاثة ايّام قاهرة.. ثلاث ليال ما لمح محياها حتى و هذا كثير على قدرة احتماله.. هو يعلم انه اخطأ فى حقها و انه يستحق ذاك الاعتكاف الذى تتخذه وسيلة لتأديبه و يالها من وسيلة !.. لقد أيقن انه ما عاد قادرًا على الاستغناء عنها فى حياته حتى و لو كانت سبب كل العذابات التى يعانى..انه يريدها بكل طريقة و اى طريقة ممكنة و بأى وسيلة و كل وسيلة يمكن ان تجعله يصل اليها.. الى قلبها.. انه لا يريدها لترد جميل.. انه يريدها لانها تحبه..
دخل للشقة و كالعادة منذ تلك الحادثة يرى طعام عشائه معد مسبقا على المائدة و هى بداخل غرفتها تغلق بابها.. حتى افطارهما المشترك مع ابيه و امه ما عادت تنزل لتحضيره معها و تركت لأمه هذه المهمة..
حاول الجلوس على المائدة يدعى اللامبالاة و عدم الاكتراث و مد كفه يتناول احد الأرغفة ليشرع فى تناول طعامه.. بالفعل وضع اول لقيمة فى فمه ليغض بها.. ما استطاع حتى تذوق الطعام دونها.. كاد يهتف صارخا يناديها.. ايتها الحمقاء بالداخل اخرجى و تعالى فهاهنا يقبع رجلا ما عاد قادرًا على تذوق الحياة دونك.. لكن هيهات ان يفعل.. لذا لزم الصمت و ابتلع كبريائه بجرعة ماء هى كل ما تناوله من على تلك المائدة العامرة.. و نهض فى تباطؤ لعلها تفتح الباب او حتى تخرج لحمل الاطباق.. لكنها لم تفعل..
دخل غرفته و هوى على الفراش يقظا غير قادر على الخلود للنوم دون ان يراها و لو كلفه ذلك سهر الليل بطوله أرهف السمع لعلها تخرج لقضاء اى امر فمن غير المعقول ان تحبس نفسها فى غرفتها كل هذا الوقت..
مر الوقت حادًّا كسكين و بطئ كليل المظلوم.. حتى اخيرا ألتقطت أذناه حركة ما بالخارج.. فأنتفض من موضعه مندفعا تجاه الباب و ما ان فتحه حتى تصنع الهدوء و هو يخرج من الغرفة بشكل اعتيادى فى سبيله للحمام الذى ما ان وصله حتى كانت هى تخرج لتوها منه..
مرت جواره كأنها لا تراه و ما حتى رفعت ناظريها تجاهه كأنما هو هواء تطلع اليها يشبع ناظره الجائع الى محياها و الصائم عنه لثلاث ليال عجاف.. و ما ان ادرك انها فى سبيلها للأختفاء من جديد خلف باب حجرتها حتى هتف مناديا:- شيماء.. وقفت دون ان تستدير لتواجهه منتظرة اوامره دون ان تنبس بحرف واحد ليستطرد هو متعللا كالعادة:- عندى صداع شديد و عايز كباية شاى..
عادت القهقرى للمطبخ تنفذ فى آلية ما طلبه منها ليدخل المطبخ خلفها فى هدوء و يمد كفه للمذياع مشغلا اياه هامسا:- مش هاتفتحيه تسمعى زى عادتك!؟.. صدح المذياع بأغانيه المعتادة لتمد هى كفها تغلقه ليسود الصمت للحظات قبل ان تمد كفها بكوب الشاى تسلمه اياه و هى لاتزل متمسكة بصمتها فى بسالة كادت تخرجه عن طوره..
رفع كفه فى ضيق يستلم كوبه الذى ما كان يشتهيه من الاساس و إنما كان مجرد حجة ليجعلها تظل بقربه اكثر وقت ممكن فأصطدمت كفه بالكوب ليسقط بعض من محتواه على كفها فتترك الكوب ليسقط ارضا محطما بينهما.. انتفض هو جاذبا إياها فى سرعة بإتجاه صنبور المياه لعله يهدئ من آلام الحريق التى لحقت بكفها و هى تبكى فى صمت أورثه الشعور بالذنب ألف ضعف عن السابق..
جذبها خلفه من جديد و هى مستسلمة لقيادته و اجلسها على احد المقاعد و ذهب يبحث عن احد الدهانات التى يعالج بها حريق بشرتها.. و ما ان وجد حتى عاد لينحنى مقابلا لها و بدأ فى فرد الدهان على وجه كفها المصاب.. تطلع اليها من جديد و الى وجهها الباكى كأوجه الاطفال فلان قلبه لها و أشفق عليها من شدته التى تتحملها و ما اشتكت..
همس فى نبرات معتذرة:- انتِ لسه زعلانة !؟.. جذبت كفها من بين كفيه فى هوادة و لم تنبس بحرف ليستطرد بنفس النبرة المعتذرة:- طب حقك عليا.. متزعليش.. كنت تعبان و مصدع ساعتها..
همست باكية:- انا مش زعلانة و لا عمرى هزعل منك بعد كل اللى عملته معايا و عشانى..شعر بالضيق من كلماتها فما زالت على اعتقادها انه يفعل ما يفعله شهامة.. استطردت هى و هو على صمته الثائر ذاك:- انا بس صعبت عليا نفسى عشان انت بتحاسبنى على حاجة مليش يد فيها..
اومأ برأسه متفهما و قد ظن انها تقصد وفاة نادر فهو لا يعلم انها قرأت خطاب اخيه و تدرك تماما لما يعاملها بهذا الشكل..و لما يعافها كزوجة و ينأى بنفسه عنها لشعوره بالذنب انه نالها دون اخيه الشهيد الذى رحل و هو يحبها بالمثل..
و الأدهى من ذلك كله انه لا يدرك انها تهواه و ترغبه كزوج لها.. و يعتقد ان مشاعرها تجاهه و صفحها و غفرانها شدته و قسوته فى معاملتها ناتج عن شعورها بالامتنان تجاه ما قدمه لها بعد حادثة الاعتداء عليها.. و اخيرا الزواج منها رغبة فى سترها..
نهض مبتعدا عن مجال تأثيرها هاتفا محاولا إنهاء الحديث:- يعنى خلاص صافى يا لبن!؟.. لم يكن بمقدورها ان تقول كل ما يعتمل بداخلها لذا اثرت الصمت لبرهة ثم هتفت بدورها مبتسمة:- حليب يا قشطة.. عاد مقتربا اليها..كان يتطلع اليها كالمسحور بعد تلك الابتسامة التى اذابته حرفيا و بلا وعى منه مد كفه يتلمس خدها فى حنو.. جذبها فجأة نحو صدره لتشهق و هى تجد نفسها مغروسة و معتصرة بين ذراعيه..
كان هو فى تيه تام مأخوذ بها و هى قابعة هاهنا بأحضانه حيث تمنى دوما و بدون وعى منها همست هى بإسمه فى عشق.. ليستعيد فجأة تعقله و يبتعد عنها كالملسوع..
ساد الصمت بينهما للحظات صمت قاهرو كل منهما يتطلع لمحيا الاخر فى صدمة و ذهول يتمنى لو يبوح لصاحبه بما يعتمل بصدره لذاك الذى يقف على اعتاب قلبه ينتظر الاذن بالدخول و هو لا يعلم انه قابع بالداخل بالفعل منذ امد بعيد و قد غلّقت أبواب القلب بعد دخوله دون غيره من البشر.. انتفض ناصر مندفعا لخارج الشقة..
تطلعت هى لمكان خروجه للحظات و نهضت بدورها و اغلقت باب حجرتها خلفها و قد انتابتها حالة غريبة من اختلاط المشاعر.. تبكى لا ألم حرق كفها بل ألم حريق اخر شب فى جوفها رغبة فى وصال قلب اعتقدت ان لا امل فيه ابدااا..تبكى فرحة ان ذاك الطود الأعظم بدأ فى الاهتزاز و انه قريبا سيعلن الاستسلام و لن يكون بمقدوره الا الاعتراف بان لا قوة له على البعاد ثانية..و هى لن تجعله يفكر حتى فى البعاد ما حيت..
طرق باب دارهم عدة مرات حتى طلت سمية من خلف الباب مرحبة فى سعادة:- كيفك يا ماچد يا ولدى!؟.. تعال اتفضل.. هتف ماجد بابتسامة دبلوماسية على شفتيه:- تسلمى يا عمتى.. بس استعجلى ايمان عشان اتاخرنا.. انا برن عليها ع التليفون مبتردش.. هتفت سمية:- ايمان تعبانة شوية.. يمكن متروحيش النهاردة.. انا داخلة اسألها تانى..
وقف فى نفاذ صبر و تمنى لو يندفع الى حجرة تلك الصلبة الرأس ليلقنها درسا فى الطاعة فمنذ البارحة و هى لا تعيره اهتماما و لا ترد على سؤالا له حزنا على العريس المفقود.. ظهرت اخيرا خلف امها التى تنحت مبتعدة لتقف هى قبالته فى كبرياء هاتفة:- خير يا واد خالى!؟.. هتف جازا على اسنانه:- ايه !؟.. لسه فترة الحداد ع العريس الضائع مخلصتش !؟..
نظرت اليه شذرا فى غيظ و هتفت:- انا مش رايحة الچامعة النهاردة.. مش انت چاى عشان كِده !؟... اشتغل غيظا بدوره و هتف:- روحى ألبسى انا مستنيكِ.. ياللاه بلاش دلع..عندنا محاضرات مهمة.. هتفت بعناد:- ما چلنا مش هروح.. هتف بعناد مماثل و لهجة متوعدة:- عارفة لو مرحتيش تلبسى دلوقتى عشان تروحى معايا هعمل ايه !؟.. هتفت متحفزة:- هتعمل ايه !؟..
ابتسم مجيبا و هو يراها بهذا التحفزالممتع:- مش هروح انا كمان.. قهقهت رغما عنها و هتفت تستفزه:- طب و العرسان اللى مضايجينك!؟.. هتف يغيظها بدوره:- هو عريس واحد على فكرة.. حالا خليتهم عرسان!؟..
قهقهت من جديد ليرقص قلبه بين ضلوعه فى سعادة و هتفت مؤكدة:- ادينى خمس دقايق بالعدد هلبس و احصلك.. استدار متوجها للعربة ينتظرها بها هاتفا مدعيا الشدة:- ستات متجيش الا بالعين الحمرا.. تعالت ضحكاتها و هى تغلق خلفه الباب مندفعة ترتدى ملابسها لتلحق بذاك الذى ما عادت تتخيل حياتها دون وجوده بها..
دخل مهران للسراىّ عائدا من القاهرة بعد الاطمئنان على حازم ليجد زهرة و تسنيم تتسامرتان.. توجه الى مجلسهما ملقيا التحية:- السلام عليكم. هتفت كلتاهما فى حبور لعودته سالما:- و عليكم السلام و رحمة الله.. و استطردت زهرة:- حازم كويس يا مهران!؟.. شوفتوه يعنى !؟.. هو تمام..
اكد مهران:- اه الحمد لله.. هو لسه ف العناية.. بس الدكاترة جالوا انه هيتحسن عن جريب.. ادعوله بتمام الشفا.. هتفت كلتاهما:- اللهم امين.. هم بالنهوض صاعدا حجرته للراحة الا ان تسنيم نهضت مسرعة بدورها متسائلة:- أحضر لك حاچة تاكلها.. تطلع اليها فى سعادة هامسا:- يا ريت..
سألت بابتسامة و هى تمربه فى اتجاه المطبخ:- تحب اعمل لك ايه!؟.. همس بالقرب منها:- اى حاچة من يدك هاتبجى شهد.. تخضب وجهها بحمرة قانية كعادتها و تطلع هو الى ذاك الوجه الصبوح الذى يعشق للحظات حتى غابت عنه مندفعة باتجاه المطبخ..
كانت زهرة تتابع المشهد من مسافة ليست بالبعيدة تحاول ان تدعى انها منشغلة ببعض الامور على جوالها و ابتسمت فى حبور عندما استشعرت ان الامور بدأت تأخذ مجراها الطبيعى بين ولدها البكر و زوجه و التى اعتقدت لفترة ليست بالبعيدة انها ليست على ما يرام و لا كما يفترض ان تكون بين زوجين فى بداية زواجهما.. انشرح صدرها و ابتهل قلبها ليديم الله عليهما السعادة..و يرزقهما راحة البال...
كان يسير باتجاه دارها يقدم رجل و يؤخر الاخرى.. و رأسه يضج بالأسئلة.. هل ستقبله !؟.. هل سترضاه زوجا لها !؟.. و ها قد وصل لعشة الخوص التى أعادوا بنائها من جديد بعد الحريق الاخير.. توقف فجأة عندما وجد يونس اخوها يجلس بداخل العشة يدخن الارجيلة فألقى السلام و جلس قبالته عندما دعاه يونس بترحاب و مودة.. ساد الصمت بينهما لبرهة و اخيرا استجمع ماهر شجاعته و هتف:- يا حاچ يونس.. أنى طالب منك طلب !؟..
هتف يونس مرحبا:- يا سلام.. انت مش تطلب.. انت تأمر يا واد الغاليين.. كفاية وجفتك معانا ليلة الحريج.. ابتسم ماهر:- انى معملتش حاچة.. ربنا اللى ستر بفضله.. و استطرد متنحنحا فى حرج:- انى بس طالب.. يعنى.. لو مفيش مانع.. يد اختك.. تطلع يونس اليه متعجبا:- هداية !؟.. هتف ماهر:- دِه لو مكنش عنديك و لا عنديها مانع..
ابتسم يونس:- و نمانعوا ليه!؟.. انت سيد الرچالة.. بس هى توافج و الف مبروك.. انتفض ماهر فرحا:- يعنى افهم من كِده انك موافج!؟.. قهقه يونس مؤكدا:- ايوه موافج.. بس بشرط موافجتها هى.. هى الاساس..
همدت فرحة ماهر و جلس مستكينا و لم ينبس بحرف فتطلع اليه يونس و قد ادرك ما بقلبه تجاه اخته فتبسم فى فرحة و ربت على كتفه مطمئنا و همس:- لو فى نصيب و ربك رايد هتكون ليك بإذن الله.. انى هسألها و هيوصلك الرد ف اجرب وجت.. جول يا رب.. ابتسم ماهر و هتف:- يااارب..
و نهض مستأذنا و هو يتطلع الى خصاص نافذتها العزيزة التى يتمنى ان يقبع تحتها النهار بطوله لعله ينل منها نظرة رضا تسعد قلبه الذى يئن وجعا فى بعادها و يرنو الطرف للحظة الى محياها الذى افتقده منذ اخر مرة إلتقاها عند باب المسجد بالصدفة فأسقطت خافقه بين قدميه شوقا و رغبة فى الوصال.. و بدأ يسأل نفسه من جديد و هو يرنو بطرف لحظه لنافذتها.. هل ستقبل !؟.
دخل شقته فى هدوء ليدرك انها بالمطبخ كعادتها فى وقت كهذا تحضر طعام الغذاء.. اقترب فى هدوء و قد جذبه ذاك الشدو الهامس الذى ما ان تجلت نبراته الحانية حتى اهتز فؤاده طربا له.. كانت تهمس بأغنية لشادية بذاك الصوت الرخيم ذو الشجن.. وقف كالمشدوه مأخوذا كليا بها..
اخيرا تنبهت عائشة لوجوده فأنتفضت متطلعة اليه فى غيظ هاتفة بنبرة مؤنبة:- الناس تدخل تسلم مش تتسحب زى الحرامية كِده.. لم يرد بل دخل للمطبخ ووقف جوارها و همس بصوت متحشرج لازال متأثرا بشدوها الذى ملأ اركان روحه:- انى هساعدك.. هتفت تقر بدورها:- مش محتاچة مساعدة من حد.. لما اخلص غداك هياجيك لحد عيندك.. همس مؤنبا:- اه.. عشان أكله لوحدى زى كل يوم..
تطلعت اليه فى غضب مكبوت و تجاهلته تماما ليندفع ممسكا بسكين و يبدأ فى تقطيع بعض الخضروات لتجهيز طبق من السلطة.. ساد الصمت بينهما و كل منهما يحاول تجاهل رفيقه.. لكن للقلوب رأى اخر يخالف رأى أصحابها.. فلقد انتفض قلبها ذعرا مندفعا اليه عندما صرخ متوجعا عندما جرح إصبعه بذاك السكين الحاد و هو شارد يتطلع اليها.. هتفت و هو تمسك بكفه النازف:- سويت ايه بحالك !؟.. ما جلت لك بلاش..
وضع كفه اسفل الماء الجارى لتندفع هى بدورها تحضر بعض القطن الطبى و مطهر.. طهرت جرحه و هو يتطلع اليها بمشاعر مختلطة مزيج من محبة وليدة و سعادة غامرة و ندم جارف و حسرة موجعة.. سحب كفه من بين كفيها الشافيتين هامسا و هو يتطلع لعمق عينيها:- ربنا بياخد لك حجك منى ف كل دجيجة.. شهقت متطلعة اليه وهو يعترف بتلك النبرة الموجوعة ليستطرد بنفس النبرة و شعور الذنب يطفو جليا على محياه الأسمر الذى تعشق:- سامحينى.. نهض فى هدوء و اتجه لغرفته و اغلق بابها خلفه تاركا إياها مصدومة من اعترافه تتنازعها مشاعر عاشقة و كرامة مهدرة.. و هى بينهما تتمزق فى وجع..
بحثت ثريا عن امها نجاة داخل السراىّ و لم تجدها كعادتها فقررت البحث عنها بالحديقة الخلفية حيث ذاك الباب الاخر للسراىّ و الذى لا يُفتح الا نادرا.. تطلعت من موضعها حيث وصلت لتجد امها بالفعل تقف من خلف البوابة الحديدية التى اعتلتها النباتات المتسلقة فأخفت جزء كبير من معالمها تتحدث الى شخص ما لا تره من موضعها كادت ان تناديها الا ان ان امها جلست القرفصاء بجوار البوابة مما استرعى انتباه ثريا لتقترب بغية التعرف على ماهية الشخص الذى تكلمه امها..
و اخيرا اتضحت لها الصورة كاملة لتظهر سيدة تلك المرأة المجذوبة التى تمر دوما بالسراىّ حيث ان عشتها الخوص التى تعيش بها من بعد ما عادت من رحلتها المجهولة التى لا يدرى احد بالنجع عن تفاصيلها الا النذر القليل.. تذكرت ثريا حديثها مع الحاجة فضيلة و ان امها نجاة كانت صديقة مقربة منها يوما قبل كل ما حدث لها و ربما تعلم ما لا يعلمه احد..فقررت معرفة الحقيقة و معرفة سر اهتمام سيد العجيب بتلك المرأة..
اقتربت فى بطء و هدوء تستمع لأمها و هى تحادث سيدة بصوت ملئ بالحسرة هامسة:- ليه بس كِده يا سيدة!؟.. ليه سمعتى كلامه المعسول و خلاكِ تچرى وراه.. ما لنا احنا و مال الناس دوول.. مكنوش من توبنا يا خية.. شوفتى وصلوكِ لفين يا غالية!؟.. كانت نجاة امها تقريبا تحادث نفسها و سيدة فى واد اخر تغيب فى صحن الطعام الذى جلبته لها امها كما هى العادة و الذى تناولته سيدة فى نهم شَديد ينم عن جوع وصل لذروته يدل على انها لم تتناول طعاما منذ ايّام..
همست سيدة و فمها مملوء بالطعام:- عايزة فلوس.. هاتى فلوس.. عايزة يكون معايا فلوس كَتييير عشان محدش يخده منى.. هتفت نجاة مستفسرة:- هو ايه دِه اللى يخدوه !؟.. و مين دوول اللى خدوه من اساسه !؟..
لم تجبها سيدة كالعادة فتنهدت نجاة تهمس لنفسها و هى تتطلع فى شفقة لصديقة عمرها التى كانت زهرة ندية فى يوم ما و أحرقتها نار الهوارية لانها اقتربت اكثر من اللازم.. اقتربت فوق الحد المسموح لأمثالها.. لم تحظ واحدة بحظ كحظ كسبانة صديقتهما الثالثة التى خدمتها الظروف بظهور زكريا و تركه إياها مع امه لتربى ولدها..
اما انتِ يا مسكينة فلا يعلم بحالك احد منهم.. لا يعلم بسرك الا انا.. حتى كسبانة نفسها لا تدرى فدوما كنتُ انا المقربة لكلتاكما.. كان سر كل واحدة منكما معى.. انا وحدى تحمل اعباء حفظها و عدم البوح بها لمخلوق.. انا وحدى أتعذب لأجلك لأنى اعلم اين يكون حقك و من اى فرد فى الهوارية يجب القصاص لما لحق بكِ..
نهضت نجاة وتركت سيدة تنهى طعامها و ما ان همت بدخول دارها حتى ظهرت ثريا هامسة:- مش هتجوليلى برضك ايه سر الست دى معاكِ !؟.. انتفضت نجاة فى ذعر و عندما ادركت وجود ابنتها هتفت فى عتاب:- وااه يا ثريا.. كِده يا بتى.. ضرعتينى.. كنت هروح فيها..
احتضنت ثريا امها فى محبة هاتفة:- بعد الشر عنك يا چميل.. بس برضك مش هسيبك الا لما تجوليلى.. ايه حكايتك مع سيدة بالظبط!؟.. دى مش اول مرة اشوفك معاها.. و كمان بتجعدى و تتحدتى معاها كنها فهماكِ وواعية للى بتجوليه.. هتفت نجاة محاولة التهرب من ابنتها التى تعلم انها وضعت الامر فى رأسها و انتهى و لن تتركها الا و قد علمت كل ما تريد:- كنك فايجة و رايجة و انى مش فاضية لك.. روحى شوفيلك حاچة عدلة اعمليها.. روحى.
ابتسمت ثريا و هى تعلم ان امها تعلم علم اليقين انها لن ترحل حتى تنال ما ترغب فى معرفته فتطلعت اليها بنظرة واثقة كأنها تقول لها انت تعلمى انى لن افعل.. فالافضل اعترفى حتى أريحك.. و كانت نجاة من نوع الأشخاص الذين يرضخون بسرعة و يعترفون تحت اقل ضغط ممكن فتنهدت فى قلة حيلة و هى تجلس على طرف الأريكة هاتفة فى نفاذ صبر:- عايزة تعرفى ايه بس !؟...غلبانة و بندوها اللى فيه النصيب.. أيه فيها دى !؟..
هتفت ثريا فى فضول:- سيدة دى ليها جصة و لازما اعرفها.. انا سمعاكى بتجوليلها مكنش المفروض تسمع له و تروح وياه.. مين دِه !؟.. انتفضت نجاة هاتفة فى اضطراب:- مبلاش السيرة دى يا بتى !؟.. ليه بس نجلب المواچع!؟.. كل حاچة راحت لحالها.. هتفت ثريا من جديد و الفضول يتأكلها حتى تعلم ما حدث بالماضى:- عشان خاطرى يا نچاة.. ياللاه حكى.. و مش هجول لحد..
جلست نجاة من جديد و تطلعت امامها فى سكون مقلق و اخيرا همست:- سيدة طول عمرها جمر.. كانت حلوة جووى و عارفة انها حلوة و الرچالة كلهم وراها بالمشوار.. عيونهم مكنتش بتفوتها لا ف روحة و لا ف چاية و هى كانت بت عم حسنين الحاوى اللى شغال ف المولد اللى بره النچع..طول عمرها تجول انى مش هجع الا واجفة و هتچوز بن باشا.. چمالى ده خسارة ف راچل اجل من بيه.. كنّا انى و كسبانة نتريج عليها و نجول لها هاياجى منين البيه يا فجرية!؟.. بصى على كدك..
و فچأة راحت من النچع.. و ما بين يوم و ليلة محدش وعيلها لا هى و لا ابوها الحاوى.. محدش خد ف باله.. الا انى.. انى الوحيدة اللى كنت اعرف هى راحت فين.. هتفت ثريا تستحث امها فى لهفة:- راحت فين !؟..
هتفت نجاة بحسرة:- راحت وياه هى و ابوها.. راحت مصر.. اتچوزها هناك..هى جتنى ليلتها و سلمت عليّ و جالت لى انها رايحة مصر مع ابوها و معاه.. جلت لها بلاها الروحة دى.. حاسة ان مش هاياجى من وراها خير ابدا.. بس هى مسمعتنيش.. هتفت ثريا من جديد فى ضيق و نفاذ صبر:- برضك معرفتش مين دِه اللى راحت معاه !؟.. حد نعرفه!؟.. هتفت نجاة:- و مين ميعرفهوش..!؟.
الله يرحمه.. ميچوزش عليه الا الرحمة بجى.. بس انتِ متوعيش عليه.. مات جبل ما ربنا يرزجنى بيكِ.. هتفت ثريا بغيظ:- ايوه.. يعنى هو مين دِه برضك!؟.. همست نجاة و كأنها لا ترغب فى نطق الاسم من الاساس:- سليم الهوارى.. انتفضت ثريا فى ذعر هاتفة فى صدمة:- بتجولى مين !؟...
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون
هتفت نعمة خلف المعلم خميس مؤكدة بحزم:- بقولك ايه يا معلم.. أتكلم معاه ياخويا.. كِده مينفعش.. و الله ده ما يرضى ربنا..ده بقاله يومين بايت ف الورشة و سايب بيته ينفع كده !؟.. اومأ خميس مؤكدا:- عندك حق.. انا هسحبه من الورشة و اقعد أتكلم معاه و ربنا يهديه.. أكدت نعمة:- صح كده.. و ربنا يهديه..
نزل المعلم خميس من بيته متوجها لمقهاه و ما ان طالعه محيا ناصر داخل ورشته و هو شارد الذهن مشغول الخاطر حتى علم ان نعمة لم تكن تهول الامر بل ان ابنه الوحيد فى صراع حقيقى و لابد له من التدخل حتى يساعده على حسم ذاك الصراع مهما كانت النتائج.. هتف مناديا اياه و ما ان جاء مهرولا اليه ملبيا حتى هتف به المعلم خميس امرا:- حصلنى ع القهوة.. على أوضة الخزين.. تساءل ناصر فى قلق:- هو فى حاجة يا معلم !؟..
اكد خميس بوجه صارم:- حصلنى و هاتعرف كل حاجة هناك.. ألقى ناصر كل ما كان يشغله و اندفع فى أعقاب ابيه مسرعا الى حجرة الخزين و ما ان جلس قبالة ابيه حتى ابتدره الاخير متسائلا:- هو انت لما اتنفضت تطلب شيماء لنفسك حد كان غصبك عليها يابنى !؟..
انتفض ناصر واقفا و الاضطراب يكسو محياه.. لم ينتظر خميس جواب ولده بل استطرد مستفسرًا:- طب ف الاول و قلنا حزنك على اخوك الله يرحمه مخليك زاهد ف الدنيا كلها.. لكن دلوقتى عشان كلمتين ف جواب بقيت ذاهد فيها هى.. ده يرضى ربنا!؟.. اندفع ناصر هاتفا باضطراب واضح لم يخف على ابيه:- جواب ايه.. و بتاع ايه!؟.. انت بتتكلم عن ايه يا معلم !؟..
اخرج خميس من جيب سترته جواب ولده الشهيد نادر ملوحا به:- بتكلم عن ده.. عن جواب اخوك اللى بعته و اللى وصلهولك صاحبه لما جه يعزينا فيه.. صح!؟..
اختفى اللون من محيا ناصر و ما عاد قادرًا على التفوه بكلمة.. تنهد خميس فى حزن و هو ينهض فى تثاقل متوجها ليقف فى مواجهة ولده هامسا بنبرة أب تقطر حنانا و تفهما:- انا عارف ان الموضوع صعب.. و انك بتلوم نفسك و فاكر ان ربنا بعده عنك عشان شيماء تبقى من نصيبك.. ده تفكير يودى ف داهية يا بنى.. و مش هيوصلك لحاجة الا خراب حياتك.. و اخوك لو كان عايش مكنش هايرضى لك بكده..
تطلع خميس لعينى ولده مباشرة و رأى فيهما صراع يحتدم فقرر الهجوم مباشرة لقلب الهدف هاتفا بحزم:- بقولك ايه يا ناصر.. انت حر ف نفسك يا بنى بس حرام عليك بت خالتك.. دى طول عمرها أمانة ف رقبتنا.. يعنى ايه تفضل جنبك لا هى متجوزة و لا هى حرة يجيلها نصيبها.. لو زاهد بجد..فارق.. و سيبها تشوف حالها متظلمهاش معاك.. انتفض ناصر صارخا:- لااا.. مش هسيبها..
كان ناصر يتنفس بشكل متتابع فى توتر واضح.. هو يعلم ان أباه لا يدرك السبب الأساسى الذى دفعه لطلب شيماء بهذا الشكل و لا يدرك صراعه مع مشاعره تجاهها و لا يعلم انه يريدها زوجة لكنه يخشى ان يفرض مشاعره و تقبل هى فقط لمجرد انها ترد له جميل ستره لها..
ابتسم خميس مؤكدا و قد عرف انه وصل لهدفه:- يبقى تعاملها بما يرضى الله.. و اللى ف دماغك ده ترميه ورا ضهرك و اخوك ف الجنة و نعيمها دلوقتى.. يعنى ف مكان احسن منى و منك و متفتكرلوش الا الرحمة و ان ربنا يلحقنا بيه على خير.. اما حياتك يا بنى ف مضيعهاش على أفكار ملهاش لازمة..
و صمت خميس لبرهة و اخيرا همس و هو يتطلع من جديد لعينى ولده بنظرات تقطر شجنًا:- انا نفسى افرح يا ناصر.. بعد اخوك ما راح قلبى اتكسر و مفيش غيرك هيفرحنى.. فرحنى بعوضك يا حبيبى.. عايز نادر صغير يقول لى يا جدى و يعوضنى غيبة اخوك.. تحشرج صوت خميس بغصة باكية فأحنى ناصر هامته مقبلا جبين ابيه فى تقدير و همس مؤكدا:-عنايا ليك يا معلم.. و الله ما ليا عوزة ف الدنيا دى لو مكنتش انا اللى أسعدك و أريح قلبك..
ربت خميس على كتف ولده هامسا:- ربنا يراضيك يا بنى و يسعدك.. ربت ناصر على كتف ابيه و انحنى مقبلا اياه من جديد و اندفع خارج غرفة الخزين و منها الى ورشته يتفكر و يتدبر كلمات ابيه التى حملته واجبا لن يتوانى لحظة عن تحقيقه.. عليه إسعاد ابيه مهما كان الثمن.. فأبيه يستحق ذلك بحق.. و عليه ان يلقى بكل ما عدا هذا الهدف خلف ظهره و لا يظلم نفسه و لا يظلمها بالمثل.. فهو لن يكون قادرًا على بعادها و سيعمل جاهدا ليجعلها تحبه مثلما هو يعشقها منذ امد بعيد..
سيجعلها تدرك انه ما طلب الزواج منها الا لانه يحبها فقط.. يحبها و يعشقها و لن يستطع الابتعاد عنها من جديد فليلتين غياب عنها يبيت ليله ف الورشة جعلته يدرك أنها اصبحت الهواء الذى يتنفس و ادرك اخيرا انه أعلن الاستسلام قلبا و روحا لها.. حتى و لو لم يحادثه ابيه بما يعتمل بقلبه لكان ذهب اليها و حاول ان يجعلها تهواه و لن يتوان عن استخدام اى طريقة ليخبرها انه عاشقها..
كان يجلس بالخارج امام غرفتها بعد ان سقطت بين ذراعيه غائبة عن الوعى.. و نقلها لفراشها و اجتمع الأطباء حولها من جديد.. تطلع الى كفيه فى قداسة.. ثم ضمهما حتى ابيضت مفاصل أصابعه.. تلك الأكف قد لمستها و حملتها و ضمتها اليه..هاتين الكفين تسبثتا بها و ما كانت لهما الرغبة فى اطلاقها بعيد عن احضانه..
زفر فى تيه هامسا:- ايه اللى بيچرى لك يا حمزة !؟.. و كأنه تبدل كليا و ما عاد ذاك الذى يحمل قلب من صوان.. حمزة الذى يجلس الان امام غرفتها لا يستطيع البوح لها ان قلبه سقط بين قدميه عندما رأها تسقط قبالته بين ذراعيه و انه على الرغم ان بينهما حاجز لا يتعدى ذاك الباب قبالته و المسافة الى فراشها لا تتعدى خطوات الا انها استشعرها كبعد الارض عن السماء..
بعد ان كانت بين ذراعيه اقرب لقلبه من نبضه ما عاد قادرًا على البعاد كل هذه المسافة.. كل هذا الفراق.. كل هذا الشوق.. انتفض عندما همست زينة جواره:- حمزة!؟.. نهض فى تحفز لعل هناك جديد يتطلب حركته سريعا هاتفا:- نعم يا مرت عمى.. ابتسمت تطمئنه:- هدير بتسأل عنك و مش مصدقة انك هنا.. ادخل لها وريها نفسك.. خليها تهدى و تنام..
شعر بحرج رهيب و تلفت حوله و ما عاد قادرًا على التطلع لوجه زوجة عمه التى همست من جديد:- ادخلها يا بنى.. و همت زينة بالانصراف فهتف بها مذعورا:- انتِ رايحة فين يا مرت عمى !؟.. هو انت مش هتخشى معايا ليها!؟.. ابتسمت زينة هاتفة:- باخد شوية راحة يا حمزة امشى رجلى فيهم شوية و اجيب فنجان قهوة و اشوف الدكتور يجى يشوفها.. اومأ برأسه متفهما و تطلع اليها حتى غابت فى ذاك الممر الضيق و زفر فى توتر و هو يضع كفه على مقبض الباب و فتحه مدعيا شجاعة لا يملكها و ثباتا فى حضرتها غادره منذ امد بعيد..
دخل مواربا بابها خلفه ووقف متطلعا اليها متمددة على فراشها فى سكينة غير معتادة على ابنة عمه تلك التى كانت تملأ الارض صخبا و صياحا.. تنبهت هى لحضرته فأدارت وجهها الى موضعه و هتفت فى سعادة:- حمزة !؟.. انت بجد هنا !؟.. ماما لما قالت لى مصدقتش !؟.. طب ازاى !؟. مش المفروض كنت ف كتب كتابك!؟..
رد بنبرة صوت متحشرجة:- لاااه.. ما هو اتأچل.. متخديش ف بالك انتِ.. المهم نطمن على صحتك و تبجى عال.. ابتسمت فى براءة أذابت أعصابه:- انا عال طول ما انت عال.. ابتسم رغما عنه و هو يتشبث بأحد المقاعد المجاورة لموضع وقوفه و اخيرا هتف محاولا الهرب من ذاك الجحيم المستعر الذى يستشعر نفسه فى عمق أتونه:- طب اسيبك انا بجى.. و انا جاعد بره لو عوزتى حاچة..
هتفت تستعطفه فى رقة:- عشان خاطرى خليك هنا.. انا مش هتكلم و هنام زى الدكتور ما قالى.. بس انت خليك جنبى متروحش بعيد.. و كأنه قادر على الابتعاد من جديد.. لقد انتهى امرك يا حمزة.. هكذا همس لنفسه و هو يجلس على احد المقاعد فى احد أطراف الغرفة ينتظر مجئ امها بفارغ الصبر حتى يعود لعزلته بالخارج بعيدا عن محياها الذى ما عاد قادرًا على غض الطرف عنه و فقد السيطرة تماما على ذاك الخافق الذى دبت فيه الحياة فجأة لمرأها..
جال ببصره بالغرفة محاولا ان لا يسقط نظره عليها و لكن هيهات فما ان تلاقت نظراتهما و ابتسمت هى من جديد حتى أشاح بوجهه فى ذعر و قد أيقن ان قلبه رحل بلا رجعة فى طريق عشقها..
كانت تقف فى انتظاره امام باب دارهم فقد تأخر ماجد اليوم عن موعد وصوله المعتاد.. كان منضبط المواعيد كالساعة.. لابد ان امر ما قد حدث حتى يتأخر.. ستفوتهما المحاضرة الاولى بهذا الشكل..
تنهدت اخيرا فى ارتياح عندما لاحت السيارة من البعد و ما ان وصلت حتى اندفعت اليها و توقفت عندما رأت مقعده الامامى المعتاد فارغ منه.. صعدت العربة حيث مقعدها الخلفى و هتفت فى سائقها:- خبر ايه يا عم مصيلحى.. ماچد بيه فين !؟.. هتف الرجل:- معرفش يا ست ايمان..الست زهرة جالت لى روح وصل الانسة ايمان و خلاص.. صمتت ايمان للحظة و توجست ان يكون مريض او به ما يسوء فهتفت بالسائق دون تفكير:- طب ارچع ع السرايا يا عم مصيلحى.. هتف السائق:- من عنايا يا ست ايمان حاضر..
لحظات و كانت تشق بوابة السراىّ العتيقة بالعربة و ترجلت منها امام بابها الداخلى.. تنحنحت فى احراج هاتفة:- صباح الخير.. ظهرت زهرة من باب المطبخ هاتفة فى سعادة:- ايمان!؟.. اهلًا يا حبيبتى.. اتفضلى.. ابتسمت ايمان و هى تلقى التحية و تتلقى القبلات من زوجة خالها و هتفت فى حرج:- معلش يا مرت خالى انا بس چيت اطمن على ماچد.. مش بعادة غيابه.. يا رب يكون بخير!؟..
هتفت زهرة محاولة مداراة امرا استشعرته ايمان لكنها لم تعرف كنهه:- اه يا حبيبتى الحمد لله.. هو بس تعبان شوية و حب يريح النهاردة.. و.. هدر صوت ماجد مجلجلا و هو يندفع من حجرته متكئ على عصاه:- لااا بقى.. مش هروح خااالص.. مش النهاردة بس يا ماما.. فضيناه موال الكلية ده.. هتفت زهرة محاولة تهدئة ولدها:- اهدى بس يا ماجد هى البنت ذنبها ايه يعنى !؟..
كانت ايمان تقف فى تيه بلا حول لها و لا قوة لا تدرى ما يدور حولها و لا تدرك سبب ثورته و لا تمنعه عن الذهاب لكليتهما.. هتف ماجد بالمقابل مجيبا على سؤال امه:- انا مش رايح الكلية عشان احرس الهانم و ابقى بحوش الخُطاب اللى ع الشمال و اللى ع اليمين.. انا امبارح كنت هقتل لها واحد فيهم.. انا لو فضلت ف الكلية دى هرتكب جريمة بسببها..
فغرت ايمان فاها غير مصدقة ما تسمعه.. هل يغار !؟.. هل حقا يغار عليها !؟.. لا.. لا تتعشمى.. مجرد نخوة رجولية من رأس صعيدى لا اكثر.. رأس كل ما بها هو كيف يحميها تنفيذا لوصية اخيها الشهيد الذى اسلم الروح بين ذراعيه.. فهتفت ايمان رغبة فى تلطيف الأجواء:- انا آسفة ان ده بيضايجك.. بس هم بيعملوا كِده عشان عارفين انك اخويا الكبير.. يعنى هاياجوا لمين !؟
صرخ ماجد فى ثورة و امه تقف فى طريقه تمنعه عندما اندفع مطالبا برأسها بعد تلك الكلمات التى للأسف لم تلطف الإجواء كما رغبت بل زادت الطين بلة:- اقول ايه !؟.. جبلة.. مبتحسش.. بقولك ايه !؟.. انا مش اخو حد.. انا ايه..مش اخو حد.. خلاص يا بنت الناس فضيناها الليلة دى.. كده كفاية قووى و الله..اعصابى يا عالم.
هتفت ايمان و قد سال الدمع من عينيها رغما عنها لصراخه فيها بهذا الشكل و هى لم ترتكب ذنبا:- خلاص يا واد خالى.. انى آسفة.. مضايجش روحك.. سلام.. و همت بالرحيل لتستوقفها زهرة هاتفة فى ترضية:- استنى بس يا ايمان.. و الله ما انت ماشية زعلانة من بيت خالك.. و نظرت بعتاب لولدها الذى بدأ يخرج أدخنة من أذنيه من شدة ثورته و استطردت:- يعنى هى ذنبها ايه انها زى القمر و خطابها كتير !؟.. ناس بتفهم و بتقدر الجمال.. مش زى ناس..
انتحبت ايمان و لم تنبس بحرف ليرق لها قلبه فهتف محاولا تهدئتها:- خلاص يا ايمان حصل خير.. هتفت ايمان هاتفة بحدة و قد استعادت صلابة شخصيتها من جديد:- ايه هو اللى خلاص ده !؟.. انت بتعمل كل ده ليه !؟.. هتف صارخا من جديد:- عشان مينفعش يجى كل شوية واحد نطع يطلب ايدك منى.. محدش يخطب واحدة من خطيبها..
اتسعت ابتسامة زهرة فأخيرا نطق الحجر بينما اتسعت احداق ايمان بصدمة و فغرت فاها بعدم تصديق لما سمعت.. و بعد فترة صمت لا بأس بها انفجرت ايمان باكية من جديد فى احضان زهرة.. ليهتف ماجد مقهقها يشاكسها:- اهى رجعت لأصلها.. من يوم ما كانت تشوفنى و هى صغيرة و هى ع الحال ده.. اعمل فيها ايه دى يا ربى!..
هتفت ايمان من بين دموعها ردا على مشاكساته:- تاجى تخطبنى من ماهر و ساعتها تضمن ان محدش ف الكلية هياچى يخطبنى منك.. قهقهت زهرة و اتسعت ابتسامة ماجد و الذى هتف مستمرا فى المشاكسة:- طب ده بالنسبة للكلية سعادتك..طب و البكا ده حله ايه !؟.. لم تجبه و هى لاتزل على نحيبها بينما قهقهت زهرة من جديد و هى تضمها لصدرها فى حنان فأخيرا استطاعت تلك الفتاة الرائعة ان تعيد لها روح ماجد التى أفتقدها الجميع منذ زمن.. و عادت اخيرا..
كانت تريد ان تشغل حالها بالقيام بأى عمل بدنى حتى تلهى عقلها عن التفكير الذى يوردها مورد التهلكة.. لم يعد لها القدرة على التحمل و هى تراه كل يوم.. تضع له إفطاره نهارا و تحضر له عشائه ليلا و هو يجلس يتناولهما فى صمت ليس من عاداته يتطلع اليها فى ذهابها و ايابها مما يورثها الخجل و الرغبة فى الهرب بعيدا عن اسر نظراته التى تحاوطها.
ما عاد لها القدرة على المجادلة مع قلبها و الدفاع عنه او الهجوم عليه.. و ما عاد لديها القدرة ايضا على الثأر لكرامتها.. فوجوده بالقرب ابطل كل اسلحتها الدفاعية...
ارتدت احدى عباءتها المنزلية و بدأت فى رفع اثاث المنزل و مقاعده و بدأت فى مسح الشقة و ترتيبها من جديد.. لم يكن بالعمل الشاق بالنسبة لها لكنها شعرت كمن يرفع الجبال رفعا و ينتزعها من أوتادها و مع ذلك استمرت فى عملها فهى تريد ان تنهك ذاك الجسد حتى لا تدع له الفرصة لينفرد بها ليلا و يسهدها و يعذبها ما بين التفكير فيه و الرغبة فى الثأر لكرامتها المهدرة و قلبها المجروح..
دخل خلسة ووقف ينظر اليها متطلعا فى هدوء.. كانت تعمل بشكل حثيث و بهمة عالية رغم تلك الملامح البادية على وجهها و التى تنم عن حزن و تفكير عميق.. يبدو على قسمات وجهها اثر السهد و شحوب ليس من عادتها.. فهى فى المعتاد تمتلك بشرة نضرة مشربة بحمرة محببة تضفى عليها حسا طفوليا.. تعجب من ادراكه لتلك التفاصيل.. و تنحنح فى تأدب مخرجا نفسه قبل إدراكها لوجوده من بين طيات تلك الافكار التى راودته بشأنها.
انتبهت هى فى انتفاضة لمرأة و عدلت من وضع عباءتها التى كانت ترفعها قليلا مبتعدة بأطرافها عن بلل الأرض جذبت غطاء رأسها و وقفت فى صمت متضطربة لمرأه و اخيرا هتفت:- هحضر لك الغدا.. اندفع هو ناحيتها محاولا إثنائها عن تحضير الطعام هاتفا:- لااه.. متتعبيش نفسك.. انى..
فجأة و دون مقدمات وجد نفسه ممددا ارضا بعد ان تعثر قدمه فى الماء و الصابون و قد شمله البلل تماما.. لم تستطع تمالك نفسها و هى تراه على هذا الشكل فأنفجرت ضاحكة رغما عنها.. تطلع هو اليها فى سعادة.. لم تكن المرة الاولى التى يستمع فيها لضحاتها الرنانة بهذا الشكل.. و التى كانت بمثابة سيمفونية من موسيقى مبهجة تعزف نشيدا مجسدا للفرحة..
توقفت تلك الضحكات فجأة عندما لاحظت تطلعه بها بهذا الشكل.. شعرت بالخجل و الندم.. فما كان لها ان تضحك بهذا الشكل فى حضرته.. و ما كان لائقا من الاساس الضحك على سقوطه.. همست بنبرة آسفة:- انت كويس !؟.. اكد بايماءة من رأسه و هو لايزل تحت تأثير ضحكاتها التى ترن حتى اللحظة موسيقاها فى أذنيه..
هم بالنهوض و هى تندفع بدورها مصرة على تحضير الطعام لتسقط بدورها هى الاخرى لينفجر هو مقهقها اندفع يحبو لموضع سقوطها هاتفا مشاكسا إياها :- ربك بيخلص.. عشان تبجى تضحكى علىّ.. نهض فى حذّر و مد كفه لها امرا بمرح:- هاتى يدك.. جومى.. خلاص انى مسامح.. كان وجهها يزداد شحوبا و لم تعر امره اهتماما.. فأنحنى تجاهها هاتفا فى قلق:- مالك يا عيشة!؟.. هاتى يدك أجومك..
همست بصوت واهن:- مش قادرة اجوم.. مش قادرة يا حامد.. اندفع اليها مذعورا و حملها فى حرص و سار بها حتى أوصلها فراشها فى حذّر جراء الماء المنتشر هنا و هناك و خوفا من السقوط من جديد و هتف مؤكدا:- انى هروح اجيب داكتور و راچع هوا.. هبعت لك امى من تحت.. هتفت مؤكدة و هى تكاد تصرخ من شدة الالم:- ملوش لزوم.. هبجى كويسة دلوجت..
هتف و هو يندفع لحجرته ليبدل ملابسه:- كويسة ايه !؟.. انتِ مش شايفة وشك اصفر ازاى!؟.. انى مش هتأخر.. هچيب الداكتورة تسنيم بسرعة و اچى.. على قدر ألمها الذى يعتريها.. على قدر سعادتها بذاك القلق الباد على محياه و هذا الاهتمام الذى يمنحه إياها و خوفه عليها بهذا الشكل.. كل ذلك منحها سعادة خفية لا توصف..
تاهت فى خيالاتها حتى قاطعتها حماتها كسبانة و هى تندفع مهرولة اليها فى ذعر حقيقى:- مالك يا عيشة كف الله الشر !؟.. انتِ كويسة!؟.. اكدت عائشة رغبة فى طمأنتها:- الحمد لله يا خالتى.. متقلقيش.. اكدت كسبانة:- الواد حامد طلع يچرى زى المخبل يچيب الداكتورة.. ان شاء الله تطمنا عليكى.. يا رب اللى ف بالى يطلع صح.. ياارب..
تطلعت اليها عائشة بتيه و اخيرا غلبها فضولها فسألت كسبانة:- ايه اللى ف بالك دِه يا خالتى !؟.. ابتسمت كسبانة فى خبث محبب:- هيكون ايه يعنى !؟.. الظاهر يونس الصغير ف الطريج.. انتفضت كل خلية من خلايا جسد عائشة عندما صدمت مسامعها تلك الكلمات.. يونس الصغير.. ايعنى هذا انها حامل !؟.. هى تحمل طفله !؟
طفل من اهانها و جرحها فى تلك الليلة التى تمنت فيها ان تصبح حبيبته قلبا و روحا و جسدا فإذا به يحطم قلبها و يجرح روحها و يستبيح جسدها.. كيف ذلك!؟.. دمعت عيناها رغما عنها و كادت تهتف فى حماتها مكذبة ذاك الادعاء لكن كسبانة كانت قد تركتها بالفعل محاولة تجفيف الارض المبتلة قبل وصول الطبيبة.. و التى وصلت بالفعل و ما هى الا لحظات حتى دوت زغاريد كسبانة فى الحجرة معلنة صدق حدسها و تأكيد نبؤتها..
تطلعت عائشة مشدوهة للفراغ.. هى حامل اذن.. و المطلوب منها عدم مغادرة الفراش و الراحة التامة حفاظا على الجنين.. فُتح باب الغرفة لتلمح محياه للحظة.. كان يقف مبتسما مع امه و الطبيبة تبدو عليه الفرحة..
و ما ان رحلن حتى غاب لفترة قصيرة وعاد يقف على اعتاب حجرتها من جديد حاملا شئ ما بين كفيه.. اقترب من موضع فراشها ووضع الاكياس التى كان يحملها و لم تكن الا الدواء الموصوف من الطبيبة و همس بصوت متحشرج:- مبرووك هتفت فى صوت نبراته ثلجية باردة مكررة كلمته بتعجب:- مبرووك !؟..
اضطرب فى موضعه و ما عاد قادرًا على التطلع اليها و هتف فى سرعة مؤكدا:- الداكتورة بتجول لازم تاخدى الأدوية دى.. وتنتظمى عليها. و هم بالاندفاع هاربا من الغرفة ليس لديه الشجاعة للتطلع لعينيها اللائمة و توقف فجأة قبل اختفائه خارجها:- لازمًا ترتاحى.. و اى حاچة انتِ عوزاها انى ملزم بيها..
وًتردد للحظة ثم هتف بصوت تحمل نبراته ندمًا خالصًا.. سامحينى.. انى مش عارف انتِ هتسامحى على ايه و لا ايه !؟.. بس.. لم يكمل عبارته واندفع خارجًا من الغرفة.. بل من الشقة بأسرها حيث شعر بالاختناق و ما عاد لديه المقدرة على البقاء معها و شعور الذنب تجاهها يوجعه حد العذاب..
تسلل حمزة لداخل حجرة العناية الفائقة ليطمئن على حازم بن عمه لم يكمن مسموح بالزيارة بعد لكنه استطاع التحايل على الامر و الدخول فى حذّر.. وقف امام سرير حازم الذى كان لايزل غائبا عن الوعى و تلك الخراطيم و الأنابيب الطبية تتصل بجسده المسجى فى سكينة..
تطلع الى بن عمه فى إشفاق و وجع حقيقى على حاله..فبالرغم من فترة تقاربهما البسيطة نسبيا الا انه شعر ان حازم لا يقل محبة و معزة عن حامد فى قلبه.. تمتم بالدعاء له فى تضرع حتى دمعت عيناه و ما ان هم بالخروج قبل ان يكتشف احد الأطباء امره الا و وقف مبهوتا يرهف السمع حتى يتأكد مما تناهى اليه.. كان حازم يردد فى حروف متقطعة اسمها:- تسبيح..
كان يعدها بأمر ما.. أرهف السمع من جديد ليجمع الأحرف التى استطاع ترجمتها اخيرا.. "انا.. راجع.. لك".. دمعت عيناه من جديد و هو يدرك ان تسبيح ليست وحدها التى كانت ستشقى بزواجه منها بل بن عمه ذاك الذى يعشقها.. و لا حيلة لكليهما فى امر الهوى.. كان يمكن له ان يثور و يغضب لو كان لايزل حمزة القديم الذى ما كان يقيم لأمور القلب وزنا اما الان و هو عاشق حد النخاع و ذائب فى الهوى حد الثمالة فما هناك احد غيره سيشعر بما يختلج بقلبيهما و ما من احد يستطيع ان يحل تلك المعضلة الا هو سيفعل باذن الله و لن يقف مكتوف الايدى ابدااا..
ذاك القلب العاصى تاب عن اعلان العصيان لأمر الهوى و استسلم بلا قيد او شرط رافعا رايات بيضاء بلون الطهر الذى تسربل به لسنوات طوال نائيا بنفسه عن دنس المتع الا فى حلال الله.. أعلنت هى موافقتها على رغبة ماهر الزواج بها.. اعلنتها وقد ادركت انها عاشقة و راغبة فى الارتباط به للأبد.. اعلنتها بعد استخارة الله عدة مرات و فى كل مرة تزداد يقينا انه هو الذى كتبه الله لها لتكون زوجه و خير متاع له فى الدنيا و يكون لها ذاك السند و الأمان الذى كانت تتمنى بعد موت ابيها..
لا تعلم لما هو بالذات.. رغم كل ما كان منه و رغم علمها عن ماضيه لكن كل هذا وقف متخاذلا امام توبته التى استشعرتها و نيته الصادقة التى أظهرها فى كل افعاله.. ضمت نفسها و ابتسمت و هى تتذكر كم الأمان الذى شعرت به بين ذراعيه حاميا لها وهما يخوضا النار معا يوم حريق الدار..
وقفت خلف احد أعمدة السطح تتطلع للطريق الذى اعتاد القدوم منه فمنذ تزوجت عائشة و حامد بالشقة و هى انتقلت لحجرة بالدور السفلى و تركت غرفتها التى كانت تنظر من خلال نافذتها صوب ذاك الطريق الذى تعلم انه يمر عبره اذا ما قرر المجئ الى دارهم او الذهاب للمسجد فقررت الصعود الى هنا حتى تراه..
انتفضت عندما طالعته يهرول مقتربا كأنما يريد ان يطير حتى بابهم ليعرف الخبر اليقين ابتسمت رغما عنها و لم تقو على النزول لأسفل و الاستماع لمشاكسات النساء..
على الرغم من انها تشعر برغبة قوية فى رؤيته و شوق هائل فى الاستماع لصوته الرجولى بنبراته التى تبعث فيها الأمان و تغذى قلبها بكم لا يستهان به من مشاعر مستحدثة عليها لا تعرف لها كنه و لا تدرك لها مدلول الا الشعور الجارف بالاطمئنان فى صحبته..
اندفع ماهر لدارهم ما ان أتاه اتصال يونس يخبره برغبته فى رؤيته لسماع قرار اخته حتى هرول الى هنا حتى قبل الموعد المتفق عليه.. ما عاد لديه القدرة على الانتظار لدقيقة اخرى.. استقبله يونس فى ترحاب و جلس و هو ينتفض رغبة فى معرفة اجابة طلبه..
ابتسم يونس هاتفا فى سعادة:- انى سألت هداية و جالت لى انها مشفتش و متعرفش عنك غير كل خير.. و انها بعد استخارة ربنا طبعا موافجة على طلبك يا نسيبى.. هلل ماهر مكبرا دون وعى منه:- الله اكبر.. يعنى وافجت !؟.. انفجر يونس مقهقها:- امال انى جلت ايه !؟.. و انت بتهلل على ايه م الاساس..!؟.
و عاد يونس يقهقه من جديد عندما استشعر حرج ماهر و ابتسامته الخجلى التى كللت شفتيه.. لحظات و نطق فى لهفة:- بس بجول لك ايه يا حاچ يونس !؟.. مفيش عندينا خطوبة و الكلام دِه.. احنا نعملوا كتب كتاب و دخلة سوا و ف اجرب وجت.. اتسعت ابتسامة يونس من جديد:- مستعچل جووى انت !؟..
اكد ماهر دون خجل:- الصراحة اه مستعچل..ايه اللى هيأخرنا !؟.. دارنا بدل الدور اتنين و احنا هناخد الدور الثانى لحالنا و هجهزه جوام جوام.. و فرح !؟.. مظنيش هنعملوا فرح.. يعنى مع كتب الكتاب فرحة كِده ع الضيج ما انت سيد العارفين الظروف اللى عندينا.. اكد يونس بإيماءة من رأسه هاتفا:- اه طبعا معلوم دِه حاچة مفيهاش كلام..
ع العموم انى هشور العروسة و ربنا يجدم اللى فيه الخير و نحددوا ميعاد عن جريب و نبلغوك..و انت چهز الدار و احنا هنچهز اللى علينا.. ساد الصمت للحظة فتجرأ ماهر هاتفا فى احراج:- طب يعنى.. مش العروسة هاتاجى.. يعنى و كِده.. ابتسم يونس و خرج من باب الغرفة هاتفا:- هشوفها لو تجدر تاچى تسلم..
جلس فى انتظار قدومها كمن يجلس على جمر مشتعل.. لا يعرف ماذا دهاه و كأنه المرة الاولى التى يخبر فيها النساء او يطالع إحداهن.. انتفض بمكانه عندما شعر بحفيف عباءتها على الارض و تطلع فجأة لمحياها النقى بلا رتوش و لا أصباغ و شعر بالطهر يشمله كليا.. كان يجلس متسمرا موضعه حتى انه لم ينهض لأستقبالها و لا حتى دعاها للجلوس..كان مأخوذاً كليا بمرأها عن ادراك اى من الأصول المتبعة فى مثل تلك المواقف و اخيرا هتف منتفضا عندما ادرك فداحة فعله:- اتفضلى..
جلست على استحياء ليستطرد هو فى سعادة يشوبها الاضطراب:-مبرووك.. لم ترد الا بابتسامة خجلى و إيماءة من رأسها فاستطرد هو فى عجالة:- انى جلت للحاچ يونس نكتبوا الكتاب و الفرح مع بعض.. ف اجرب فرصة.. موافجة يا هداية !؟..
كانت المرة الاولى التى ينطق اسمها مجردا و المرة الاولى كذلك التى تسمعه يرن فى اذنيها بوقع جديد لم تجربه من قبل فأضطربت بدورها هامسة:- اللى يشوفه اخويا يونس انى موافجة عليه.. بس ليا طلب صغير.. هتف متعجلا:- انتِ تأمرى..
ابتسمت رغما عنها ابتسامة خجلى و تطلعت اليه فى حياء هامسة:- عايزاك توعدنى.. اوعدنى انى مندمش ابدا انى اخترتك سند و ضهر ليا.. اوعدنى انك تجربنى من ربنا و تساعدنى ع الطاعة.. تحشرج صوته و هو يتطلع اليها مستمعا لمطالبها الغالية و همس بتأثر:- أوعدك.. و عمرى ماهندمك انك بجيتى مرتى ف يوم من الأيام و اما صلتك بربنا.. دى اكتر حاچة علجتنى بيكِ.. و علجتنى بطريج ربنا اكتر.. فربنا يرزجنا طاعته و يجدرنا عليها..
ثم استطرد فى عشق جلى و بنبرات رخيمة اربكتها:- و دِه انى متأكد منه كويس جووى.. كيف أتوه و انى هيكون معايا.. هداية.. انتفضت عندما سمعت اسمها منه بهذا الشكل الذى جعل كل خلجة من خلجاتها تضطرب و نهضت على عجل تستأذن راحلة و اندفعت من امامه فى اضطراب نهض بدوره متطلعا اليها حيث غابت مبتسما فى تفهم و ما حاول استوقافها و عاد ليجلس من جديد عند دخول يونس و الذى اخذ يتحدث معه فى أمور شتى ما تذكر منها شئ مطلقا بعد مغادرته دارهم.. و كيف له ان يفعل و قد طغى لقياها على ما عاداه و احتلت صورتها مخيلته حتى ما عاد قادرًا على استيعاب غيرها ليزاحمها فى ممتلكاتها.
دخل عشتها فى تردد و تقدم اليها فى رهبة واخيرا توقف مبهوتا امام محياها الممدد فى استكانة على فراشها و انتفض بكل ذرة بكيانه فدوما كان لا يرى لوجهها ملامح فى المرات السابقة التى صادف و قابلها فقد كان دوما متربا و موحلا..و كانت تتشح بالسواد من رأسها حتى اخمص قدميها المغطاة بالوحل..لكن الان ظهرت معالمه جلية و هى تنام ملأ جفنيها فى استكانة بوجه نظيف واضح القسمات و ثياب نظيفة.. لم يقف ليتساءل من قام بهذا من اجلها !؟..
هو فقط ادرك انها هى تلك المرأة التى يراها دائما بأحلامه و التى رافقه محياها طوال ليال عمره الذى ناهز الثلاثين.. و التى تحتضنه بين ذراعيها اثر انفجار ما و قد كانت صرخاتها تدوى عاليا و هم ينتزعوه من بين ذراعيها.. صرخات دامية تردد اسمه فينهض مذعورا يتصبب عرقا كل صباح.. الان ها هو ينتفض من جديد و هو يسمع اسمه من بين شفتيها و هى تتململ فى رقادها تنعم بنوم عميق..
ارتجف و دمعت عيناه و هو يقترب منها يسمعها تكرر اسمه فى محبة و شوق و هى تحتضن بين ذراعيها شئ ما تضمه لصدرها.. مد كفا مرتعشة يجذب برفق ذاك الشئ الذى تطبق عليه كفيها بذاك التشبث و تدنيه من قلبها بهذا اليقين.. و ما ان طالع تلك الورقة اخيرا والتى ما كانت الا صورة فوتغرافية مهترئة الأطراف باهتة الملامح لطفل ف الخامسة على ثغره ابتسامة و هو يتعلق برقبة امه..
ما عاد قادر على الثبات على قدميه اكثر من هذا فسقط على ركبتيه منهارا يبكى فى حرقة و غامت معالم الصورة الباهتة اكثر امام نظراته الدامعة و هو يتطلع من جديد الى طفل لم يكن الا هو فى الخامسة و تلك المرأة التى انتزعوه من أحضانها صغيرا و التى هى.. امه..
سارت هى خارج السراىّ متجهة الى عشة سيدة كما فعلت البارحة منذ علمت بما لحق بها من ظلم على يد سليم الهوارى و هى تحمل لها النظيف من الثياب و ما لذ و طاب من اطعمة حتى لا تدعها تخرج من العشة و تلقى ما تلقاه من الاطفال الذين يأذونها قولا و فعلا.. تطلعت الى العشة لتجد بابها مواربا اقتربت فى حذّر لتجده يجلس ارضا يبكى فى صدمة..
تركت ما كانت تحمل فى عجالة و اندفعت ارضا قبالته هاتفة فى صدمة:- سيد.. سيد.. كانت المرة الاولى التى تنطق فيها اسمه مجردا رفع رأسه اليها ليقفز قلبها لوعة و اشفاقا على حاله..لابد انه علم بحقيقة ما فعله ابوه بهذه السيدة المسكينة..
همس فى حنق:- كنتِ تعرفى يا ثريا ان هى امى!؟.. هتفت فى صدمة:- امك !؟.. كيف يعنى !؟.. انت مش جلت لى مرة ان امك ميتة !؟.. اكد بايماءة من رأسه هامسا:- ده اللى كنت فاكرة لحد امبارح.. لحد ما شفت دى.. اخرج لها عقد زواج ابيه بسيدة لتتطلع اليه فى هدوء و همست:- بس ده ميثبتش انها امك !؟.. فين شهادة ميلادك انت..
همس مؤكدا:- اسم مرات ابويا هو اللى ف شهادة ميلادى..مرات ابويا مكنتش بتخلف و ابويا كتبنى باسمها بعد موت امى اللى كنت فاكر انها ماتت.. بس انا مش محتاج شهادة ميلاد عشان اعرف انها امى.. امى اللى بشوفها كل ليلة ف منامى و هم بيشدونى من بين دراعاتها و بصحى على صراخها باسمى..أمى اللى مش هسيب بتارها و لا بتار ابويا من اللى ظلمونا و حرمونا منها.. هتفت ثريا:- قصدك مين !؟.. الهوارية !؟.. انت لسه مطلعتش الغل ده من دماغك!؟..
هتف فى غضب هادر:- و مش هطلعه الا لما اخد حقى منهم واحد واحد.. ارتعشت ثريا هامسة بعتب:- حرام عليك روحك.. اللى ف دماغك كله غلط.. الهوارية اصلا ميعرفوش بوچودك و لا بچواز ابوك و امك.. صدجنى.. روح لهم و اسمع منيهم و اكيد وجتها هتغير رأيك.. هتف بنفس النبرة الغاضبة:- انا معرفش غير اللى قاله ابويا و اللى اتاكدت دلوقتى بس انه صح..
هتفت ثريا بحنق:- ابوك ملأ عقلك بحكاوى كذب..و.. انتفض سيد جاذبا إياها فى غضب هادر حتى انها اصطدمت بصدره و هو يهمس فى ثورة جازا على اسنانه محاولا السيطرة على ذاك البركان الذى يلقى بحممه:- اياكِ يا ثريا.. الا ابويا..
تطلع كل منهما لعمق عينى الاخر و ساد الصمت للحظات و اخيرا همست ثريا فى حسرة :- يا خسارة يا باشمهندس.. يا الف خسارة.. الغل اللى ف جلبك عاميك حتى عن شوفة حاچات كَتير كانت ممكن تفرج.. بس خلاص مبجاش فى حاچة فارجة.. استشعر حزنها و كلماتها المبطنة التى تحمل معان تمنى ان تكون حقيقة لكن ما هو بصدده الان يجعله يحيد اى امر اخر عن مجال تفكيره فهمس متسائلا:- ثريا..مش هاتبقى معايا..انا محتاجك..
همست بصوت متحشرج:- اعذرنى يا باشمهندس.. مجدرش اساعدك على باطل.. و اندفعت باكية خارج العشة نحو السراىّ..بينما جلس هو من جديد ارضا وامسك بكف امه المتغضنة الممددة جوارها على فراشها المتداع و قبلها فى شوق و أيقن ان كل ما اخبره به ابوه صدق.. و انه لن يترك ثأره من الهوارية الذين كره انتسابه اليهم و لن يصبح واحد منهم ابدا.. و اقسم انه لن يترك ثأره ما حيّا و الا لن يستحق ان يكون.. ابن سليم الهوارى.. او يحمل اسمه ليوم واحد..
دخل الى الشقة ليجدها على غير العادة ليست فى استقباله بألوان الطعام المختلفة على المائدة حتى انه لا يسمع لها حسا تنهد فى راحة و اندفع بدوره يحتمى بجدران غرفته فهو لايزل مشوشا من جراء ما اخبره به أبوه منذ ساعات قليلة.. هم بخلع قميصه ليرتاح قليلا الا ان صوت ضجيج قادم من الحمام مع صرخة مكتومة دفعته ليهرول اليها.. طرق باب الحمام فى لهفة هاتفا باسمها فى قلق:- شيماء.. شيماء.. انت كويسة!؟.. ردى.. انت تمام..
لم يصله الا صوت تأوهاتها بالداخل فوقف فى اضطراب لا يدرى ما عليه فعله و اخيرا قرر الدخول و ليكن ما يكون.. دفع الباب ليطالعه وجهها الباكى و هى ممددة على ارض الحمام تتألم فى صمت.. اندفع اليها هاتفا فى ذعر:- ايه اللى حصل !؟.. انتِ وقعتى و لا ايه!؟.. اكدت بايماءة من رأسها دون ان تتفوه بحرف واحد ليحملها بين ذراعيه و يخرج بها حيث غرفته و يمددها على فراشه و هى تتوجع من الم قدمها.. اشارت الى الخارج هامسة من بين أنأت وجعها:- دور ف الأدراج اللى بره يا ناصر على مرهم..
اندفع ينفذ فى سرعة.. غاب وقت لابأس به و ما وجد ما يطيبها فقرر النزول لشقة ابيه لعله يجد.. اندفع الى الشقة يبحث بلا هوادة لتتفاجأ به نعمة لتهتف متسائلة:- بتدور على حاجة يا ناصر!؟.. اكد هاتفا و هو لا يرفع عينيه عن الأدراج:- اه.. بدور على مرهم عشان شوشو وقعت ف الحمام.. شهقت نعمة:- بعد الشر عنها.. اهو هتلاقيه ف الدرج التانى ده خده و ابقى طمنى عليها..
اندفع بالدهان فى عجالة و ما ان غاب خلف الباب حتى أطلقت نعمة ضحكة مدوية و هتفت فى فخر:- عفارم عليكِ يا شوشو.. تربية نعمة بصحيح.. وصل هو لداخل غرفته حيث ارقدها و ما ان هم بأخبارها انه وجد الدهان المطلوب و المناسب لعلاج اصابتها حتى وجدها راحت فى سبات عميق.. تنهد فى قلة حيلة و هو يضع الدهان جانبا على الطاولة الملاصقة للفراش و تطلع اليها و هى بهذا الرداء الحريرى الذى يجعلها كتلة مجسمة من الفتنة و لونه الذى يتناسب و بشرتها العاجية و شعرها الكستنائى المنسدل على وسادته الناصعة البياض و ملامح وجهها التى يعشق..
اقترب يتشرب ملامحها المحببة لروحه و قد أضناه الشوق حد التهلكة و بلا وعى منه رفع كفا و مدها ليزيح بضع خصلات من شعرها تمردت و انسدلت على جبينها.. و همس فى عشق بصوت لم يكن يدرك انه مسموع:- اه لو تعرفى بحبك قد ايه.. انتفض كالمصعوق مبعدا كفه و صوتها الهامس يخبره مؤكدا:- عارفة..
فتحت عيونها فى بطء مثير و هى تتطلع لمحياه المصدوم.. لحظات مرت يتطلع اليها مشدوها و اخيرا قرر الهرب لتمسك هى بكفه قبل ان يرحل مبتعدا ليستدير متطلعا اليها و الى كفها المتشبثة بكفه هامسة بدلال أفقده ما تبقى من ثباته:- هو فى حد يسيب حد موجوع كده و يمشى!؟.. عاد القهقرى متوجها اليها بكليته هامسا و هو يشير للدهان الموضوع جانبا:- انا جبت لك الدوا اهو.. انا.. قاطعته هامسة و هى لا تزل تحتضن كفه و بدأت عيناها تدمع فرحا:- انا كمان بحبك يا ناصر..
جلس على طرف الفراش غير مصدق ما يسمع لتهمس من جديد و قد بدأت دموعها فى الانهمار بحرارة:- ايوه بحبك يا ناصر.. بحبك قووى.. مد كف مرتعشة فى عدم تصديق يمسح دموع اعترافها الغالى و اخيرا جذبها بين ذراعيه متنهدا فى لوعة و عشق و متأوها فى وجع و شوق يعتصرها اعتصارا حتى يكاد يخيفها بين أضلعه هياما و ولعا.. اخذ يردد اسمها كالمحموم و ما عاد قادرًا الا على البوح اخيرا بما اعتمل بصدره منذ سنوات طويلة..
سنوات بطول عمريهما.. سنوات من كتمان و وجع آن الاوان لنسيانه و لا يتذكرا الا ان زمان النوح قد ولى و حانت لحظات البوح بعشق ولد معهما و ربط بين قلبيهما و سيظل يحيا بين اضلعهما نابضا للأبد...
غابا معا.. فى دنيا اخرى و عالم اخر.. عالم غابت فيه الدموع و الآهات و اختفت فيه الأوجاع و تورات فيه الآلام و ما عاد هناك الا السعادة و الفرحة.. نعم تلك الفرحة الغامرة التى طلت على وجهه ما ان رفع رأسه من بين أحضانها و نظر اليها فى عدم تصديق لتتطلع اليه و هى تشهق باكية فى سعادة:- انا صاغ سليم يا ناصر.. انا بتاعتك انت بس.
اندفع اليها يرتمى فى أحضانها من جديد فقد كانت كلماتها تلك اروع كلمات عشق يمكن ان يستمع اليها.. تمرغ فى أحضانها بوله محاولا ان يدارى دمعاته السخينة التى سالت على وجنتيه غير قادر على كتمانها.. انه الاول.. و سيكون دوما مالك قلبها وعقلها الأوحد كما كان الأوحد بجسدها.. اعتصرها من جديد بين ذراعيه و قد ادرك انه ما عاد له حياة الا بين هاتين الذراعين.. و ان تلك الأحضان الدافئة التى يتمتع بحنانها الان هى ملجأه الأمن من الحياة و عبثها..