logo




أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في Forum Mixixn، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .




اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 9 من 36 < 1 20 21 22 23 24 25 26 36 > الأخيرة



look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 04:42 صباحاً   [67]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السابع والعشرون

كانت قد اتفقت مع عائشة على النزول لشراء متطلبات جهازها فقد بقى على زواجها اسبوع تقريبا و لم يتبق الا القليل عليها شرائه حتى تتم جهازها كاملا غير منقوص.. شاركت عائشة فرحتها و كأنها تشترى كل صغيرة و كبيرة لنفسها و لم تدخر وسعا لإسعادها و كذلك اخيها يونس..

لم يدخر الغالى او النفيس حتى تجلب كل ما يُفرح قلبها فهى ستصبح زوجة ولده الوحيد و اسعادها اسعادا له.. خرجن منذ بداية النهار كعادتهما حتى لا يتأخرن فى الرجوع و خاصة ان العربة هذه الأيام دوما مع حامد لجلب ما تحتاجه شقته من أثاث او أدوات.. كان الوقت ضيق و الإعدادات كثيرة و تحتاج لمزيد من الزمن لإنجازها فأصبح الجميع يعمل تحت ضغط..

خرجت هداية و عائشة حتى وصلتا لموقف سيارات الأجرة و كعادة كل يوم كان هناك ينتظر فى هدوء بنظرات مطرقة و هو يغض بصره عنهما.. تعجبت هداية عندما لاحظت وجوده للمرة الاولى و حاولت ان تتناساه تماما.. لكن عائشة لاحظته ايضا و بدأت فى تلميحاتها المتعجبة لتواجده و هى تنظر الى هداية فى شقاوة هامسة:- واضح ان الحاچ ماهر.. عين نفسه حرس..

هتفت هداية فى غيظ:- بتجولى ليه كِده !؟..واحد واجف لا چه چنبنا و لا ضايجنا.. و لا حتى واعى لوچودنا م الاساس.. يبجى حرس!؟..
هتفت عائشة تغيظها:- يعنى انت موعياش انه كل يوم هنا ف الموجف من ساعة ما بجينا ناجى نركب لان العربية مش معانا !؟.. و مش بس كِده.. دِه بيتحرك بعربيته ورانا م النچع لحد ما نوصلوا و اول ما ننزل يفضّل متابعنا لحد ما نرچع و برضك يجوم سايج عربيته ورانا و احنا راچعين.. كل دِه و مبجيش حرس!؟..

اندفعت هداية تركب اول سيارة اجرة ظهرت على الطريق حتى تتهرب من تلميحات عائشة و التى تدرك تماما صحتها لكنها تحاول الا تعيرها اهتماما يذكر على الرغم انها تعلم تماما فى قرارة نفسها انها تفكر فيها كثيرا و انه هو شخصيا و ليس فقط افعاله يشغل تفكيرها منذ فترة لابأس بها و ان هذا بدأ يقلقها و يضج مضجعها بل انه اصبح يوترها و يثير أعصابها.. فهى ابدا لم تكن من الفتيات اللاتى يأسر قلوبهن معسول الكلام و لا ينجذبن لأى من كان و كأنما وضعت على قلبها اقفال من صلب.. لكن هو بالذات لا تعلم لما اضحى شغلها الشاغل فى فترة وجيزة فمنذ لقائهما العجيب بالمسجد و هى تشعر ان بها شئ قد تبدل تجاهه..

لحقت عائشة بهداية و ما ان همت بالصعود جوارها حتى فُتح باب السيارة من ناحية هداية و وجدت نفسها تُجذب خارجها بيد فولاذية تقبض على معصمها.. تنبهت رافعة ناظريها لذاك الشخص الاحمق الذى يحاول جذبها بهذه الطريقة الوحشية و اذ به جاسر يحاول إنزالها عنوة من العربة.. قاومت قدر استطاعتها لتسحب يدها من كفه القابضة عليها و حاولت عائشة جذبها و مساعدتها على عدم النزول هاتفة فى ذعر:- انت عايز مننا ايه !؟.. روح لحالك و سبنا ف حالنا بجى..

لكن مقاومة هداية خارت و وجدت نفسها خارج السيارة يجذبها لتدخل سيارة اخرى و عائشة خلفها مولولة فى لوعة.. الا ان كف قوية أوقفت جذب جاسر لها ممسكة بكفه القالضة على ذراعها فى صلابة و مشهرا سلاحه هاتفا فى حزم:- سيب يدها دلوجت و الا و الله لتلاجى الطبنچة دى متفرغة ف دماغك و لا ليك عِندى دية..

هتف جاسر الذى تفاجئ بوجود ماهر و الذى كان قد اختفى قبل قليل من ركوبهما العربة حين أُذِن لإقامة صلاة الظهر فدخل يصل و لم يدرك انه سيغيب دقائق قد تحدث فيها كارثة كتلك لكن الله سلم بظهوره اخيرا:- ابعد سلاحك دِه و روح من هنا.. دى بت عمى و مرتى و انى حر فيها..
هتف ماهر بصوت كالرعد عندما سمع جاسر يذكرها بصفتها زوجة له فأشتعلت نيران غيرته:- بجولك سيب يدها..
و امسك بتلابيب جاسر مستطردا فى غضب:- و الا.. اقسم بالله العظيم ما هيعرفوا يلموا جتتك من ع الطريج..

ترك جاسر ذراع هداية لتنساب من بين كفه لتندفع مبتعدة فى اتجاه عائشة لا تصدق انها نجت من بين براثن جاسم و الذى اندفع فى غيظ مكيلا لكمة لماهر استطاع الاخير تفاديها فى مهارة و اندفع بدوره يمسك اكثر بتلابيب جاسر مكيلا اللكمات و الضربات حتى أسقطه ارضا و بدأ فى ركله بقدمه حتى افرغ شحنة غضبه الهارد من جراء رؤيته لجاسر يسحبها خلفه بهذه الطريقة المهينة و اخيرا انحنى وأمسك بتلابيب جلبابه من جديد يهزه فى عنف هاتفا بصوت قاهر:- اقسم بالله لو شفتك معدى ف نفس الشارع اللى هى معدية فيه و لا فكرت حتى تجرب منيها لأى سبب لهجتلك بيدى يا نچس.. جال واد عمها جال..

و جذب ماهر جاسم لينهض فى غضب ممسكا بصدر جلبابه بكف واحدة جاذبا اياه خلفه حتى وصلا موضع سيارة جاسم و فتحها و قذف به للداخل هاتفا بقرف:- غور.. و افتكر اللى جولتهولك.. و ابجى اعمل خلافه و هتشوف هتلاجينى واجف لك كيف..

رحل جاسر بعربته فى غضب هادر ليستدير ماهر معدلا من جلبابه و نافضا عنه ما علق به من الغبار و مندفعا فى اتجاه عائشة و هداية التى كانت تقف تبكى بشكل مرير من جراء الصدمة التى تعرضت لها.. توقف لا يعرف ما يقول و هو يرى دموعها بهذا الشكل تكاد تطيح بصوابه مما قد يدفعه ليعود لذلك الاحمق و يفرغ فى جسده زخيرة سلاحه لكنه تمالك أعصابه و هتف فى صوت أجش:- انتِ بخير يا آنسة هداية !؟..

اومأت برأسها دون ان تنطق حرفا فهمست عائشة بالنيابة عنها:- احنا متشكرين.. مكناش عارفين ايه اللى كان ممكن يحصل لو انت مش موچود..
اومأ برأسه فى تأدب و هو يغض بصره عنهما هاتفا بلهجة أمرة:- تعالوا اركبوا ارچعكم النچع..مضمنش لو رجعتوا لحالكم يتعرضلكم النچس دِه تانى..

اكدت عائشة على صحة فرضه بينما ظلت هداية صامتة لا تنطق.. كانت دوما امرأة قوية لا تبكيها الشدائد لكن هذا الموقف جعلها تشعر انها امرأة و بحاجة لرجل يكون سند لها.. رجل يحتوى ضعفها و يقدر قوتها.. رجل يستشعر أنوثتها و يحترم عقلها.. رجل يكون لها ذاك السند الذى تحتاج و الدعم الذى تتمنى و القلب الذى ترغب فى سكناه للأبد..

تطلعت لماهر المنكس الرأس فى حياء و هو يسبقهما الى سيارة الأجرة التى امر سائقها بالانطلاق للنجع فى سرعة على الرغم من وجود سيارته فى الجوار لكنه كان يعلم علم اليقين انهما سترفضان استقلالها لذا فضل احدى عربات الأجرة.. لم يتجاذب مع إحداهن أطراف الحديث لكن كل ما قام بفعله فى ادب جم و هو يترجل وينزلهما امام دارهن هو هتافه:- حمد لله ع السلامة..

أكدت عائشة:- الله يسلمك.. تعبناك.
اومأ برأسه و هو يعود ليركب السيارة من جديد و جاهد جهاد الأبطال حتى لا يرفع ناظريه اليها ليلقى نظرة.. فقط نظرة.. الي هدايته.. و هديته.

جلست على طرف الفراش من الجانب الاخر لامتداد جسده و هى تسند رأسها على حافة الفراش و امتدت كفها تمسك بكفه القريبة منها تحتضنها.. لا تعلم لما اقدمت على ذلك لكنها شعرت بأمان شَديد عندما فعلت.. و رغم عنها راحت فى نوم عميق و هى لاتزل تضم تلك الكف الرجولية الضخمة بين كفيها الصغيرتين و بالطبع لم تدرك و هى فى سباتها العميق ان ذاك الغافى جوارها و الذى كان جسده يئن وجعا و الحمى تتأكله قد فتح عينيه الناعسة قليلا فى وهن و تطلع حوله و كاد ان ينتقض و هو يراها منه بهذا القرب الذى لم يعتده..

و الأدهى من ذلك هو كفه تلك التى تأسرها بين كفيها فى وداعة جعلته يشعر ان الحمى عاودته من جديد و ان جسده بدأ يغلى من مجرد لمساتها الحانية لكفه.. و التى بدأ فى سحبها من بين كفيها الناعستين كحال صاحبتهما.. و اخيرا اصبح حر نفسه و استطاع السيطرة على مشاعره و هو يبتعد عنها بشكل آمن..

تذكر خطاب اخيه فأندفع مترنحا باتجاه سترته و تأكد انه لايزل على حاله حيث تركه فتنفس الصعداء و جذبه من جيب السترة و فتح احدى ضلف خزينة الملابس ليدس الخطاب بين طيات أحدى السترات القديمة و الغير مستعملة الى حد كبير..

انتفضت هى بدورها متيقظة ما ان حاولت تحريك جسدها حتى تذكرت اين تكون و تنبهت لوقوفه امام الخزينة باحثا كما اعتقدت عن بعض الملابس التى يرتديها بالتأكيد بديلا عن تلك التى تحمل اثار الشحم و عرق الحمى.. فنهضت فى هدوء و مدت كفها من خلف ظهره تتناول احدى المنامات هاتفة:- اتفضل.. اكيد بتدور على لبس نضيف تلبسه..

انتفض بدوره و استدار بكليته فى مواجهتها.. كانت الاستدارة من السرعة ما دفعها لتترنح فى سبيلها للسقوط فأندفع بدوره محاولا الحيلولة دون ذلك و هتف فى غيظ ما ان وجدها بهذا القرب منه للمرة الثانية فى اقل من لحظات:- فى ايه !؟.. الناس تقول احم مش تظهر زى العفاريت كده..
ابتسمت فى هدوء و لم تعبس او تضيق بثورته كعادتها و هتفت:- حاضر المرة الجاية هبقى اتنحنح بالجامد عشان فى واحد هنا بيركب الهوا..

تطلع اليها مشدوها و هتف متعجبا لجرأتها فى مخاطبته على غير العادة:- بركب الهوا!؟.. و الله عااال.. كويس قووى يا ست شوشو.. بقينا بنعرف نرد اهو!..
ابتسمت و تجاهلت كل تلك الكلمات اللاذعة و همست فى سعادة:- اول مرة تقولى يا شوشو زى ما الكل بيقولها لى..
تنبه انه فعل فتنحنح محاولا مداراة اضطرابه و هتف فيها و هو يستند على جانب الفراش مترنحا فى وهن:- روحى اعمليلى شاى..

هتفت رافضة:- شاى ايه !؟.. انت بقالك ليلتين مكلتش.. هجيب لك شوربة و نص فرخة..
هتف مزمجرا:- انا قلت شاااى.. اجرى اعمليه من سكات.. ياللاه..
اومأت برأسها ايجابا و اندفعت خارج الغرفة تنفذ فى صمت.. اما هو فقد تبعها حتى رحلت و تنهد فى قلة حيلة فما عاد له القدرة على تحمل المزيد من وجودها بالقرب منه.. ضم كفه التى كانت تحتضنها بين كفيها و قربها لقلبه للحظات و اخيرا فتح تلك الكف و قربها ملصقا إياها بأنفه يتشممها و يتنسم منها عبيرها الذى فاض به و ألتصق بأطرافه لعله يسكن من وجع روحه العطشى لقربها..

تمدد فى تعب على طرف الفراش و قد عاود ضم تلك الكف لصدره من جديد و شرد فى خواطره حتى انه لم يتنبه لتلك التى دخلت الغرفة و هى تحمل كوب الشاى و فى الكف الاخرى طبق و منشفة.. وضعت الجميع على الطاولة بجوار فراشه بالقرب من رأسه و قد اعتقدت انه راح فى النوم من جديد ربما من تأثير الدواء.. الا انه فتح عينيه و اعتدل على طرف الفراش و قد مد كفه ليتناول كوب الشاي الا انها كانت الأسبق ومدت كفها للمنشفة و بللتها بالقليل من الماء الدافئ و الصابون فى ذاك الطبق و مدت يدها تحمل كفه التى كان يهم بحمل كوب الشاي بها و بدأت فى مسح ذاك الشحم عنها..

انتفض ما ان لامست المنشفة كفه و نهض فى ذعر لتتقهقر للخلف خطوة و هتف غاضبا:- انتِ بتعملى ايه !؟.. الحرارة نزلت خلاص مفيش داعى للكمادات..
هتفت فى ثبات رغم ارتجافاتها الداخلية لثورته و اكدت:- عملت لك الشاي.. اشربه لحد ما اشوف شغلى هتف متسائلا:- شغلك !؟.. ده اللى هو ايه لامؤاخذة!؟..

اقتربت منه و رفعت هامتها متطلعة اليه و قد مدت كفها تمسح بعض الشحم عن جانب وجهه بمنشفتها الدافئة هاتفة و هى تتطلع اليه فى
ثبات:- ده شغلى..

تطلع اليها كالمسحور لا يدرك ما عليه فعله امام ذاك السيل من الاهتمام الغير معتاد منها و الغير قابل للاحتمال منه.. تاه للحظات فى محياها و هى تزيل تلك البقع التى تركها الشحم هنا و هناك على احد جوانب وجهه و رقبته و ما ان مدت كفها تلتقط كفه الساكنة على احد جانبى جسده حتى انتفض يجذبها منها و قد استفاق تماما و ما عاد قادرًا على تحمل المزيد فأمرها بصوت متحشرج لا يعلم كيف استطاع إخراجه:- اطلعى بره يا شيماء و خدى الباب وراكِ و مترجعيش الا لما أناديكِ..

همست و هى تتناول الطبق و المنشفة المبللة و المصبوغة بأثار الشحم بين كفيها منفذة ما امرها به:- حاضر.. هخرج..
و ما ان همت بإغلاق الباب خلفها حتى عاودت فتحه من جديد لتضبطه متلبسا بالزفر فى قوة مؤكدا على شعوره بالراحة عندما ظن انه تخلص منها فهتفت مازحة:- مش هاتخلص منى بسهولة.. هرجع تانى ف مواعيد الدوا...

و اغلقت الباب و ضحكتها ترن خلفها كأجراس تعلن الفرحة مما دفعه رغما عنه للابتسام و ترك جسده ليسقط على الفراش متنهدا فى قلة حيلة من افعالها التى ما عهدها منها ابدااا.. ماذا دهاها يا ترى !؟.. و اقسم انها لو ظلت على هذه الحالة فسيترك لها الشقة و يبيت بالورشة بين الشحم و الزيوت مع صبيه شكمان و لا ان يبقى لحظة واحدة بصحبتها الخطرة..

المشهد يتكرر من جديد صرخات هنا و هناك بعد ذاك الانفجار المدوى الذى حدث ببدروم احد البيوت القديمة فى حارة ما عتيقة لا يذكر لها ملامح تميزها و ذاك الهتاف الذى بات مألوفا لديه منذ كان فى الخامسة من عمره و الذى لا يسمعه يناديه الا فى احلامه او بالأدق كوابيسه اليومية ها قدعاد من جديد هاتفا مرة اخرى بأسمه.. نفس الصوت.. صوت تلك المرأة الواهن و التى كانت تحتضنه خوفا عليه من اثار ذاك الانفجار على الرغم من اصابتها..

كانت تضمه اليها فى ذعر كأنما خلقت من جسدها ساتر يحصنه من اى اثر قد يطاله.. لكن العجيب انه الليلة يرى وجه أخر يظهر من خلف غبار الانفجار.. وجه مألوف.. بل هو وجه محبب..كان وجه عابس و جدى كعادتها.. انها ثريا.. الباشمهندس ثريا كما يحلو له مناداتها مشاكسا.. و لكن مهلا ماذا تفعل هنا!؟..
اقتربت فى هدوء و انحنت تربت على كتف تلك المرأة الباكية و تسير جوارها فى روية ولا تلتفت اليه.. الى ذلك الطفل الذى ظل يبكى بقهر وحيدا و اخيرا صرخ حتى تسمعه احداهما..

انتفض على فراشه كعادته و تنهد فى ضيق و هو يتطلع لساعة جواله و التى يعلم انه استيقظ قبل ان يحين الموعد المحدد لذلك على شاشته.. و تعجب لما يصر دوما على ضبط ساعة استيقاظه على جواله على الرغم انه يعلم تماما ان كابوسه المعتاد خير منبه لإيقاظه!؟.. لكن يبدو انها العادة..

تطلع لسقف الغرفة فى شرود و قد استعاد مشاهد حلمه كاملة على صفحته و كأنه شاشة عرض حية.. انه لا يتعجب من الحلم فقد اعتاده لكن ما اثار دهشته هو ظهورها بالحلم.. هل اصبحت الباشمهندس ثريا بهذه الأهمية القصوى حتى تحل بشخصها فى حلم قديم بهذا الشكل و تلعب دورا أساسيا فيه !؟.. انه لا ينكر انه ينجذب اليها بشكل خاص لم يعتده مع اى فتاة من قبل..

مجرد انجذاب لشخصية جديدة لم يقابلها او يتعامل مع مثيلتها سابقا على الرغم من تعدد علاقاته..هذا ما كان يعتقده لكن هتف صوت داخلى ينفى ذلك تماما مؤكدا انه يدعى ذلك.. حاول ان يُكذب ذاك الصوت الصارم الحازم داخله و الذى يؤكد ان مشاعره تجاهها اكثر من مجرد انجذاب هاتفا به:- رجاءً لا تتحامق.. انت تدرك جيدا انها تحتل داخلك اكثر بكثير مما تحاول الادعاء.. لكن لا بأس.. ما من دليل اقوى على صحة فرضيتى الا رحيلها.. اخبرنى ماذا ستفعل دونها !؟..

هتف لنفسه:- و ماذا هناك لو رحلت او رحل الف غيرها!.. منذ متى يعنينى بقاء او رحيل إحداهن!؟.. فلتذهب...
ضحك ذاك الصوت داخله ساخرا:- حسنا.. لا تفكر اذن فى استعادتها..
هتف لنفسه من جديد:- و من قال أننى سأفعل !؟ او ربما افعل.. لا لشئ الا لأضمن صمتها و ولاءها لى و عدم وشايتها بى و فضح سرى..

انفجر ذاك الصوت الداخلى مقهقها:- ها انت تعود لتختلق أعذارا كاذبة لتستعيدها من جديد.. ولاءها و عدم وشايتها !؟.. و قهقه الصوت
مستطردا:- انت اول من يعلم انها أنقى و اوفى و اصدق من قابلت.. و انها لن تش بك طالما لم تجد منك ضررا يمس أفراد تلك العائلة الحقيرة التى تكره.. و التى ولاءها الحقيقى يكون لهم.. ربما تحتفظ ببعض الوفاء لذكرى عملها معك و تلك الفرصة التى اتحتها لها لكن ابدا لن تخسر وفاءها للهوارية من اجلك و انت تعلم ذلك جيدا و تكابر..

هتف لنفسه من جديد:- سأستعيدها لأضمن ولاءها لى مثلهم تماما..
ابتسم صوته الداخلى ساخرا:- ها هو يعود لحماقاته من جديد.. افعل ما يحلو لك..لكن احذر فتلك الفتاة.. نور و نار..
تردد صدى تلك الكلمات الاخيرة بين جنبات نفسه و اختفى ذاك الصوت مخلفا الصمت..
لينهض هو من فراشه و قد عزم ان يستعيدها مهما كلفه الامر.. لكن يستعيد أيهما !؟.. يستعيد النور.. ام يستعيد النار !؟..

كانت مقابلة لم يخطط لها حتى.. فمنذ اخر مرة كان فيها هناك و جاءه خبر القبض على حمزة و رأى ردة فعلها تلك و شعر بإحساس من الذنب كاد يقتله حتى قرر ان يبتعد قدر الإمكان.. انه ينحى بمشاعره منحى خطر ينذر بالسوء على كافة الاصعدة و برر هذا بإبتعاد نهلة عنه الفترة الماضية نظرا للخلاف الذى دب بينهما بسبب رغبتها فى السفر لاستكمال دراستها بالخارج.. هو يعلم تماما ان هذا عذر واهٍ لا يكترث له لكن ما بيده حيلة اخرى يبرر بها ما يفعل الا ذلك..
الان ها هو باسل اخوها قد اصر على اصطحابه الى دار ابيه رغما عنه.. حاول الفكاك و لكن لا محالة..

سار خلفه مجبرا.. مسير لا مخير.. و تمنى من كل قلبه ان لا يراها.. تضرع سرا ان لا يلمح محياها حتى.
دخلا الدار و زفر فى راحة عندما دخلاها من بابها الخلفى و ما عادا فى حاجة ليمرا على تلك الردهة الطويلة داخل الدار للوصول للحديقة.. جلسا فى استرخاء على الرغم من توتره الداخلى الذى كان قادرًا تماما على الاحتفاظ به لنفسه كما يفعل دوما و كما تُظهر صفحة وجهه الصارمة ذلك
هتف متبادلا الحديث مع باسل:- انا نازل اجازة قريب.. مش محتاج حاجة من إسكندرية!؟..

هتف باسل شاكرا:- تسلم و تعيش يا واد عمى.. السلام أمانة لخالى زكريا و العيلة..
هتف حازم:- يوصل بإذن الله.. اهو الواحد يقضى له يومين مع الحاج زكريا لحسن وحشنى بقالى فترة منزلتش.. و بالمرة اشوف دكتور لأسنانى..
هتف باسل معتدلا:- ليه مالها سنانك بعد الشر!؟..
اكد حازم:- فى ضرس تاعبنى جامد.. شكله عايز يتخلع.. هخلعه و اخلص بقى من تعبه كل شوية..

هتف باسل:- و انت ليه تستنى لما تنزل إسكندرية يعنى!؟.. مفيش دكاترة عندينا و لا ايه!؟.
هتف حازم مؤكدا:- لا مش القصد و الله.. انا اللى مش فاضى أدور على دكتور كويس و اروح..
هتف باسل:- و لا تدور و لا تروح.. الداكتور ياچيك لحد عيندك.

تطلع اليه حازم متسائلا فى حيرة لكن تلك الحيرة تبخرت و حل محلها الصدمة عندما هتف باسل بقوة باسمها ليضطرب محياه و يتعجب لوهلة لكنه يتذكر فجأة انها طالبة بالسنة النهائية بكلية طب الاسنان.. كاد ان يهرول هاربا.. فقد اعتقد ان الجلسة كادت تنتهى على خير دون مرأها.. ليته ما تطرق لوجع ضروسه فها هو وجع من نوع اخر فى الطريق اليه..

ظهرت تسبيح اعلى الدرج المفضى للحديقة متسائلة:- خير يا باسل !؟.. فى حاچة!..
هتف امرا:- روحى هاتى عدة الچزارين بتاعتك و تعالى..
اومأت برأسها ايجابا و هى لا تعلم لما فهى لم ترى حازم المنزوى بركن خلف احد الأشجار و الذى تعمد الجلوس به عند دخوله..

دقائق و ظهرت من جديد و بيدها حقيبة طبية و ما ان رفعت نظراتها تجاهه حتى توقفت فى اضطراب فقد تفاجأت برؤيته مثلما ذاب هو اضطرابا حاول ان يداريه هاتفا بصوت متحشرج ما كان ليخرج بهذا الشكل الا بسبب وجودها امامه:- ازيك يا آنسة تسبيح..
اومأت برأسها و لم ترد بحرف فما استعادت بعد رباطة جأشها لمرأه..

هتف باسل فى ظل ذاك الجو المحموم اضطرابا بلهجة مازحة:- اتفضلى يا ستى.. مش كنتِ بتجولى اه لو يوجع مريض تحت يدى.. چبنالك مريض اهااا.. ياللاه خربى ف سنان الباشا..
انفجر حازم ضاحكا رغما عنه على دعابة باسل و على ردة فعلها الطفولية تلك و المتمثّلة فى تقطيبة قوية لحاجبيها اعتراضا على ما يتفوه به اخوها فى حق مستقبلها المهنى... و اخيرا قررت تجاهله و هى تفتح حقيبتها تخرج منها بعض الأدوات و اشارت فى احراج لأحد المقاعد التى تصلح ليتكئ عليها رأسه للخلف قليلا و همست بخجل:- حضرتك تجدر تاجى هنا ع الكرسى ده.. عشان هايبقى احسن ف الكشف..

هتف باسل ساخرا:- يووووه.. دى هاتعمل لنا فيها داكتورة بچد..
نهض حازم منفذا ما امرت به و جلس ع المقعد المشار اليه لتهتف هى غير قادرة على كبت روحها المرحة كالمعتاد:- هم دايما كِده العظماء محدش مجدرهم..
ابتسم حازم و لم يعلق بينما لم يفوت باسل الفرصة ليهتف:- طب انچزى يا استاذة عظيمة.. و استطرد هاتفا بمزاح:- اچى امسكهولك!؟..
هتفت بحنق:- ليه هو انا هدبحه !؟..

ما عاد حازم قادرًا على فتح فمه ليريها موضع الالم و هو يحاول وأد تلك القهقهات لينفجر بها رغما عنه.. ظل يضحك حتى دمعت عيناه.. و اخيرا احنى رأسه للخلف قليلا و فتح فمه لتتطلع هى بأدواتها للداخل تلقى عليه بعض الأسئلة التى تؤكد مهارتها بالفعل.. كانت تتطلع لداخل فمه تبحث عن موضع الالم و هو يتطلع بها راغبا فى الإشارة لموضع اخر خافق بصدره.. موضعا ينوح بالالم و يتعذب وجعا لقربها بهذا الشكل..

تنبه انها انتهت فرفع رأسه و أغلق فمه و لم ينبس بحرف ليهتف باسل كعادته ساخرا:- هااا.. هيعيش يا داكتورة!؟..
ابتسم حازم و هتفت هى:- اااه.. هيعيش لانه مفيش حاچة ف الضرس الحمد لله.. دى شوية التهابات و چيوب بسيطة..
و تطلعت لحازم مؤكدة:- انا هكتب لك شوية مضادات إلتهاب و مضمضة تعالج الموضوع بس لازم تنضيف الاسنان من الچير..
و ابتسمت و هى تعطيه الورقة المدون بها اسماء الأدوية المطلوبة هاتفة بمزاح:- و نجلل شوية من اكل البسبوسة..

ابتسم رغما عنه و هو يتناول منها تلك الورقة المكتوب بها علاجه و شعر انه قد حان وقت الرحيل و فورا..
فنهض فى عزم هاتفا:- انا همشى يا باسل بقى يا دوب اروح الاستراحة..
و تطلع اليها غاضا الطرف مجبرا.. و هتف شاكرا:- و تسلم ايدك يا دكتورة..

اومأت برأسها للتحية و لم تنبس بحرف واحد و هى تراه يرحل و باسل فى أعقابه مودعا و ظلت ساهمة على حالها حتى سمعت صوت محرك سيارته يبتعد.. فتنهدت و اتجهت صاعدة الدرج لداخل الدار.. اما هو فتطلع لورقة علاجه التى خطتها أناملها و اكد من جديد ان ذاك ليس علاجه الحقيقى.. فهو يعلم اين يكمن دواؤه.. لكنه دواء صعب المنال.. بل يكاد يكون مستحيلا..

وقفت امام المرآة فى غرفتهما تتطلع الى تلك الاثواب و المنامات الحريرية فى سعادة فجميعها قد ابتاعتها من اجله و تمنت لو انها استشارته فى ألوانها و ما يفضّل منها لكنها لا تجرؤ حتى على النظر اليه فما ان تراه صدفة بالأسفل حتى تضطرب و تندفع من أمامه كالمجنونة و هو لا يفعل شيئا سوى السخرية و التندر عليها..

فمنذ خطبتهما القصيرة تلك و هى لا تتذكر انها جلست معه لمرة بمفردهما و لا حتى تبادلت معه أطراف الحديث كأى خطيبين.. فما ان يهم بالنطق حتى تتبدل تماما و تذوب خجلا و تندفع مبتعدة فى اضطراب ليبدأ هو وصلة المزاح مع امه و جدته..

قلبت بين الأغراض باحثة عن ذاك القميص الفيروزي الذى اصرت على شرائه رغم غلاء ثمنه و لكنها لم تجده و تذكرت انها نسيته بالأسفل فى احد الغرف حيث كانت تعرض ما اشترته امام نساء الدار و ساعتها لم تسلم من تلميحاتهن الماجنة فغلبها حيائها و اندفعت تاركة كل ما ابتاعته ورائها.. قررت النزول لجلب الأغراض فى هدوء فيبدو ان الجميع قد خلد للراحة.

تسللت حتى وصلت للغرفة التى تركت بها الاكياس المحملة بمشترياتها و مرت فى هدوء امام باب غرفة حامد ليستوقفها صوته متحدثا مع حمزة الذى وصل اليوم و أخبرهما بنبأ اتفاقه مع والد تسبيح عروسه على عقد القران بعد زواجها و حامد ببضعة ايّام فهلل الجميع ليصبح الفرح فرحين..
تناهى الى مسامعها هتاف حمزة موبخا:- بجولك ايه يا حامد اللى بتعمله دِه غلط !؟.. انت بتظلمها و بتظلم روحك..

انفجر حامد مقهقها و اخيرا هتف بعد ان هدأت حدة قهقهاته التى كانت تحمل وجعا لا يليق بها و لا يجوز ان يصبح جزء منها:- شوف الأيام يا اخوى.. كن الحال اتجلب.. و بجيت انا ف مطرحك و انت ف مطرحى.. فاااكر..
انتفض حمزة غاضبا:- مليكش صالح بحالى يا حامد.. خلينا فيك دلوجت.. انا خايف عليك.. خايف انك تكون بتورط حالك ف ليلة انت مش كدها.. انت لساك مچروح م اللى حصلك من ابو زميلتك اللى اتجدمت لها و رفضوك.. عيشة متستاهلش تعاملها كنها واحدة بتنسى بيها واحدة..

كان دور حامد لينتفض فى غضب:- بجولك ايه يا حمزة.. الدنيا خلصت خلاص و فرحنا كام يوم و انت چاى تكمل و تعمل نفس الغلطة و تكتب كتابك و شغال توعينى.. ياخى روح وعى روحك..
كان حامد يتوقع من حمزة ثورة و انفعال الا انه لم يلاحظ على ملامح اخيه الا الشجن و الحيرة و همس:- مش يمكن خايف عليك تندم يا حامد!؟...مش يمكن عايزك تلحج اللى انى ملحجتوش!؟..

تطلع حامد الى حمزة فى تعجب لتلك الألغاز التى ينطق بها بذاك الصوت الذى يقطر ألما فهمس:-انت فيك حاچة متغيرة يا حمزة!؟.. حاچة مكنتش موچودة جبل سابج..
ابتسم حمزة فى وجع:- حاچة واحدة بس يا واد ابوى !؟.. جول حاچااات.

ساد الصمت بينهما لتندفع عائشة لتصعد لشقتها مخافة ان يراها احدهم و قد ايقنت الان لما كان حامد.. و لما تقدم للزواج منها بهذه السرعة.. هو لا يحبها و لم يحبها من الاساس هى مجرد اداة نسيان لحب مضى و و لكن لايزل حيّا فى قلب حامد..

وتطلعت لمحياها الحزين بالمرآة وقد نزلت تحضر أغراض العرس من اسفل على حال و صعدت الان على حال اخر.. تنهدت فى ضيق و اكدت لنفسها لو ان الامر بيدها لقتلت حبه الوليد بقلبها و ابتعدت عن هنا ما استطاعت حفظا لكرامتها.. لكن الى اين تذهب و قد رأت بأم عينها ما كان من جاسم و حدث منه فى حق هداية لولا عناية الله التى أنقذتهن و كان ماهر هناك ليخلصهما منه..

لا سبيل لديها سوى الإزعان لذاك الزواج و ربما تستطيع يوما ما احتلال قلبه و ان تصبح هى مالكته الوحيدة.. اراحها ذاك الخاطر هامسة بداخلها.. ليس فى الإمكان افضل مما كان يا عائشة.. أحمدى الله فبالدائل رهيبة.. تنهدت وجمعت الأغراض و نحتها جانبا و تمددت لتنام و هى تدعم فى نفسها قدرتها على جعله يحبها و اخذت تغذيها بأحلام وردية عن حياتهما التى ستبدأ بعد ايّام..كزوجين فهل ستنجح فى ذلك!؟..
كم تمنت هذا من صميم قلبها و النعاس يتسلل لأجفانها..

مسحت خديها فى عزم و قررت الا تبكى ربما للمرة الالف و رغم ذلك تخلف وعدها و تذرف انهار من الدموع رغما عنها..
لا تصدق انها سلمت له قلبها بهذه السهولة.. لماذا فعلت !؟.. و ابتسمت فى وجع و كأن الامر كان بيدها من الاساس.. و رغم ذلك اخذت تلوم نفسها مرارا و تكرارا..

ان ذاك الوجع الذى تستشعره بين جنبات صدرها لهو من جراء ابتعادها عنه ذاك البعاد الاختيارى الذى اصرت هى عليه رغما عن قلبها فما عاد لديها القدرة على البقاء بقربه و هى تعلم انه يضمر الشر للجميع..
و تساءلت.. هل يمكن لقلب محمل بكل هذا القدر من الكراهية و الرغبة فى الثأر و الانتقام ان يحب !؟..
هذه المشاعر لا يمكن ان تجتمع بقلب واحد ابدا.. انه لم يحبها و لن يفعل..

و زادها الخاطر وجعا على وجع لتبكى من جديد حظها العثر الذى أوقعها فى طريق هذا المنتقم الراغب فى الثأر من أولياء نعمتها..
لم تعد قادرة على البقاء بمفردها متعللة بالمذاكرة حتى تهرب عن الجميع.. انها بحاجة للبقاء مع احدهم حتى تنساه ولو قليلا و تخرجه بعيدا عن مخيلتها و لو بعض الوقت و تعطى لقلبها و عقلها هدنة دون التفكير به او بكل اقواله و افعاله و نظراته التى تشتاقها بحق..

توجهت خارج غرفتها باحثة عن امها لتسامرها قليلا.. بحثت عنها و لم تجدها بالدار فأندفعت لداخل مطبخ السراىّ منقبة عنها..
لكن نجاة كانت عند باب السراىّ الخلفى واقفة تحمل بين كفيها بعض من طعام و ما ان رأت سيدة المجذوبة و هي تهلل كعادتها عند السير بمحازاة سُوَر السراىّ و الأطفال خلفها يتعقبوها مهللين بدورهم حاملين الحصى الصغير ليلقوه عليها في قسوة لا يردعهم احد...

حتى هتفت نجاة فيهم موبخة و نهرتهم ليبتعدوا في سخط و قد فقدوا متعتهم بالسخرية من تلك المجذوبة التي ما ان ابتعد الأطفال عنها حتى استندت على سُوَر السراىّ بإرهاق و جلست تستظل بظله غير عابئة بوجود نجاة التي تطلعت اليها في إشفاق و حسرة و انحنت تربت على كتفها امره إياها و هي تضع صحن الطعام امامها:- كلى يا سيدة.. كلى يا حبيبتى..

هتفت سيدة و هي تتطلع اليها دامعة:- مش عاوزة.. هاااتى..
و مدت يدها لنجاة تطلب بعض النقود كعادتها فتنهدت نجاة و هي تضع كفها بالقرب من قلبها حيث تحمل نقودها و تخرج بعض الجنيهات ملوحة بها في وجه سيدة التي برقت عيناها في سعادة:- بصى هديكِ الفلوس دى بس تاكلى الأول... ياللاه كلى..

تناولت سيدة صحن الطعام و عيناها على النقود التي تحملها نجاة و اخذت تلتهمه في سرعة حتى تحصل على مبتغاها في النهاية مختطفة النقود من كف نجاة و مندفعة مبتعدة لتتحسر نجاة عليها في حزن لتستوقفها ابنتها ثريا و التى قادتها قدماها فى رحلة البحث عنها الى هنا ووقفت تراقب المشهد عن كثب دون ان تشعر أمها بوجودها لتهتف اخيرا في فضول:- انتِ تعرفى سيدة المچذوبة ياما!؟..

انتفضت نجاة في ذعر هاتفة:- منك لله يا بعيدة رچفتينى..
و استطردت في اضطراب:- سيدة مين اللى اعرِفها !؟.. دى غلبانة و انى بديها اللى فيه النصيب..
هتفت ثريا فى تخابث:- يعنى انتِ متعرفيهاش جبل سابج!؟.. ملكيش اى علاقة بيها يعنى !؟..

هتفت نجاة في ضيق:- خبر ايه !؟.. شكلك فاضية و مش لاجية لك شغلانة غير التحجيج معايا.. انى رايحة اشوف ايه اللى ورايا و مش فاضية لك.. بت مخبلة..
و اندفعت نجاة مبتعدة في هرولة و قد استشعرت ثريا ان أمها تخفى سرا لا تريد البوح به مطلقا..


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 04:43 صباحاً   [68]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثامن والعشرون

اندفع يعتلى الدرج فى سرعة حتى لا يرى احد اثار لدغات النحل التى تنتشر على جانبى وجهه و التى تركت اثرها سريعا على محياه الأسمر..
وصل غرفته و فتح بابها و هو يتنهد فى راحة ان ما من احد كان بالأسفل ليلحظ ما لحق به.. و ما ان دلف للغرفة حتى وجدها فى انتظاره جالسة على طرف الفراش الذى ما مس جسده الا ليلة واحدة و وحيدة قبل ان يبتاع مرتبته الإسفنجية و التى يفترشها كل مساء..

تنهد من جديد فهو كان يعتقد انها لاتزل عند امها كما أخبرته لكن يبدو انها عادت مسرعة..
أغلق باب الغرفة و اندفع الى الحمام دون ان ينبس بحرف واحد..
خرج بعد فترة ليست بالقصيرة تعمد اطالتها ليجدها لاتزل على حالها..
هم بإخراج صديقته من مخبئها داخل خزينة الملابس و النوم.. الا انه فوجئ بها تهمس بالقرب منه فى
هدوء:- انا آسفة يا شيخ..

تحشرج صوته من جراء قربها المُهلك و تذكر كيف كانت تستكين فى ذعر بين ذراعيه صباحا و همس محاولا إنهاء الحديث:- محصلش حاچة..كله خير...
همست من جديد:- لازما تحط حاچة على مكان اللسعات دى..
اكد و هو يفتح ضلفة خزينة الملابس يهم بإخراج مرتبته الإسفنجية:- حطيت عليهم شوية عسل.. دول جرصتين مهماش حاچة كَبيرة يعنى..

ابتعدت فظن انها اقتنعت بكلامه فجذب المرتبة من داخل الخزانة و مددها ارضا و بدأ فى تعديل فرشها حتى يتمدد عليها و ما ان هم بالاستلقاء فى تعب حتى كانت هى تعاود الاقتراب من جديد و هى تحمل بين كفيها بعض المراهم.. جلست على أطراف المرتبة لتضيق الدنيا الرحبة فجأة و يصبح غير قادر على احتمال سيطرة محياها و طغيانه على كل ما عداها.. انتفض جالسا يحاول السيطرة على ماتبقى من ثباته هاتفا:- ما جلنا مفيش لزوم للكلام دِه..

و كأنه لا يخاطبها من الاساس لم تع حرفا مما قال ومدت كفها ببعض من دهان و بدأت فى وضعه على ذاك الاحمرار الذى اعتلى جبينه.. و عاودت الكرة من جديد و هى تضعه على موضع اعلى حاجبه الأيسر لتتوقف كفها فجأة عند ذاك الموضع و تمتد لتتلمس جرحا قديما غاليا عليها.. جرح بعدد سنوات عمريهما و عمر حبهما..

دمعت عيناها فى شجن و ارتجف هو من ملامستها لجرحه العزيز.. اول جرح ناله من جراء غيرته الحمقاء عليها.. و تطلع الى محياها متأثرا فى وجع هامسا لنفسه:- و لم يكن للأسف اخر جرح.. فذاك الجرح الاخير اصاب الروح فى مقتل..لكنى سامحت يا تسنيم.. سامحت و الله العظيم و أتمنى ان تسامحيني..لكن ابتعدى الان بالله عليكِ.. ابتعدى حتى أستطيع تسديد دينى لله و لكِ و بعدها انا من لن يترككِ تغيبين عنه لحظة و ستدركين ساعتها كم يعشقكِ مهران..
و كأنما استرقت السمع لهمس نفسه فتطلعت اليه و دمعها يسيل و اخيرا نهضت مبتعدة ليتنهد هو فى ضيق و حسرة.. و أُطفأت انوار الغرفة ليغرق كل منهما فى خيبته و وجعه..

كانت تتساءل دوما اين تراه ذهب من قبل ان تبدأ امتحاناتها و ها هو ظهور نتيجتها على الأبواب.. هى لم تذهب للسراىّ منذ عودة امها و اخيها ماهر من الحج الا تلك المرة التى ذهبت متعللة بنسيان احد كتبها و الحجة الكبرى لذلك بالطبع هو انشغالها بالدراسة و تعويض الفترة الماضية و خاصة بعد استشهاد مؤمن.

كانت تتوقع ان يسأل عليها او حتى يتلمس أخبارها.. لكنه لم يفعل..
شعرت بالحزن لذلك فقد اعتقدت انها فى اثناء تلك الفترة التى قضتها بالسراىّ قد استطاعت ان تشغل و لو بسيط من تفكيره.. فقط تفكيره.. فهى لم تذكر قلبه ضمن ظنها مطلقا فهى تعلم تمام المعرفة دون غيرها ان قلبه مشغول و انه حتى مع ما حدث من حبيبته فهو لم يزل يعانى اثر جراح فؤاده و غدرها به.. تنهدت فى ضيق و همست لنفسها بانه لا امل لها معه مطلقا..

ابتسمت لنفسها فى المرآة ابتسامة يملؤها الشجن.. هى تعلم انها جميلة و تتسابق النظرات لتلحق بمحياها لكنها ابدا لم تعر ذاك اهتماما..
كانت تسعد كثيرا عندما تجلس معه و تتبادل أطراف الحديث و تجده يحترم عقلها و يقدره.. لم تَر منه ما يشى باعجاب بشكل او جسد بقدر ما أعجبه منها ما كانت تبديه من سعة اطلاع و تفتح فكرى كان يستكثره على فتاة فى مثل سنها.. ابتسمت و هى تتذكر انه دوما ما كان يظنها لاتزل طفلة..نعم طفلة.. تلك الطفلة التى كانت تبكى ما ان يطالعها محياه و كأنها كانت تعلم ان نصيبها منه لن يكون سوى دموع عينيها لوعة على حب لا امل فيه..

انتفضت فى ذعر عندما اندفع ماهر داخل حجرتها بعد عدة طرقات متسرعة صارخا فى سعادة و هو يكاد يحملها على عنقه فرحة:- ألف مبروك يا ايمان.. النتيچة ظهرت.. ماچد واد خالك عاصم لسه جايبها من ع النت حلاً..
لم تهتم بسؤاله عن نتيجتها بقدر ما هتفت دون وعى منها:- ماچد !؟..هو چه!؟..
اكد ماهر دون ان يع اضطرابها فى خضم فرحته:- اه چه.. و لسه جافل معاى دلوچت.. الف مبروك يا جمر.. ٩٠٪ بحالهم.. تاريكِ شديدة يا بت ابوى!..

ابتسمت فى سعادة فأخيرا تكلل جهدها و حصلت ذاك المجموع العال الذى كان يتمناه مؤمن.. دمعت عيناها لذكراه و همست و هى تتطلع لصورته التى لم تغادر موضعها على مكتبها:- راضٍ دلوجت يا غالى !..
دمعت عينا ماهر عندما تناهى لمسامعه همساتها و جذبها اليه فى حنو يقبل جبينها فى ود هامسا:- النهاردة مفيش الا دموع الفرح يا استاذة.. ياللاه شوفى عايزة تدخلى اى كلية و انتِ حاطة رچل على رچل..

اومأت برأسها فى سعادة و اكدت
لماهر:- ان شاء الله.. اداب.. انى مش عايزة ابعد و اتغرب..أشد حيلى و ابجى داكتورة ف الچامعة..
هتف ماهر مهللا:- الله اكبر.. هو دِه الكلام.. و الله و هاتبجى اخو الداكتورة يا ماهر..
ابتسمت ايمان فى سعادة فمنذ عودة ماهر من الحج و هو تبدل تماما اصبح نسخة اخرى من مؤمن.. اصبح ماهر الأخ الأكبر الذى تمنته دوما و الذى حاول فى الفترة الماضية تعويضها عن غياب أخيهما الأقرب لقلبيهما..

دخل حازم حجرة ابيه يلقى عليه التحية بعد عودته من زيارة نهلة خطيبته كما كان يوهمهم فهى احتفظت بعهدها معه و لم تخبر احدا من اسرته بفسخ خطبتهما لانه أراد إبلاغهم بنفسه و فى الوقت المناسب..
تلقاه زكريا بين ذراعيه مقبلا قبل ان يجلس حازم أمامه فى هدوئه المعتاد ليبادره زكريا متسائلا فى مرح:- ايه اخبار نهلة !؟.. تمام..!
هز حازم رأسه بالإيجاب ليبتسم زكريا ابتسامة واسعة هاتفا:- الحمد لله ان ربنا چمعكم على خير..و عقبال ما ربنا يتمم فرحتكم يا رب..

ابتسم حازم و لم يعقب ليستطرد زكريا هاتفا فى محبة:- عارف يا حازم !؟..
تنبه حازم و شخص بصره تجاه ابيه الذى أردف قائلا:- انى كنت خايف جووى و جلجان من خطوبتك لنهلة بت اللوا مختار الله يرحمه..
كانت المرة الاولى منذ قدومه التى ينطق فيها حازم متعجبا:- ليه يا
بابا !؟..مع ان كان باين انك متحمس ليها قووى..

اكد زكريا بإيماءة من رأسه:- ايوه.. ده صح البت متتعيبش و نسب يشرف.. لكن انى خوفى كان على حاچة تانية..
تساءل حازم و قد زاد فضوله:- ايه الحاجة دى !؟.
ابتسم زكريا مؤكدا و هو يشير لصدر ولده:- جلبك يا ولدى.. جلبك يا حازم هو اللى كان مخوفنى..

هتف حازم فى مزيد من الدهشة:- قلبى..قلبى ماله يا بابا.. و ابتسم و لازال على نفس تعجبه مستطردا.. مش فاهم الصراحة حضرتك تقصد ايه بالظبط!؟..
ابتسم زكريا رابتا على كتف ولده فى حنو:- اجولك الحج.. كنت خايف أكون بظلم جلبك و أكون انى السبب فى چوازتك من نهلة و انت مش رايدها.. اهوو.. رد چميل لأبوها و أفضاله.. لكن اللى انى شايفة ف عيونك بيلمع دِه مطمنى ان جلبك متظلمش ف موال الوصية و انه خد حجه ف انه يحب و يتحب..

صمت حازم لبرهة ثم هتف فى صوت أتى من اعماق سحيقة:- ايوه فعلا يا بابا انا بحب.. مكنتش متوقع اقولها و لا احسها ف يوم من الأيام لكن حصل.. ازاى و امتى معرفش.. بس لقيته حصل..
انفجر زكريا مقهقها فى فرحة لمشاعر ولده البكر هاتفا فى سعادة:- ربنا يبارك لك يا ولدى.. اخيرا طبيت و محدش سمى عليك.. نهلة تستاهل كل خير.. و
قاطعه حازم هاتفا فى هدوء عجيب:- بس مش نهلة يا بابا..

غابت ابتسامة زكريا و تاه من جراء الصدمة التى اعترته نتيجة اعتراف ابنه و تحشرج صوته فى توتر
هامسا:- امال مين يا واد زكريا اللى خطفت جلبك ان مكنتش خطيبتك..!؟
همس حازم و هو ينظر لعينى ابيه فى ثبات معترفا لأول مرة لمخلوق بإسم تلك التى جعلته يُؤْمِن بشعور كان يظنه من الخيالات:- تسبيح..

انتفض زكريا فى ذعر حتى انه لم يلقى بالا لألم قدمه الذى زاد من جراء انتفاضته واقفا يتطلع لولده من عليائه هاتفا فى صدمة:- تسبيح!؟.. تسبيح مين!؟.. تسبيح بت سهام و خطيبة واد عمك حمزة!؟..

هز حازم رأسه مؤكدا فى صمت دون ان ينطق بحرف واحد.. ليدور زكريا حول نفسه فى تيه ضاربا كفا بكف و ما ان تمالك أعصابه حتى هتف من جديد فى ولده محذرا:- انت تنسى الموضوع دِه نهاااائى.. سامع يا حازم.. و من بكرة تطلب نجلك لهنا او لأى مكان تانى بعيد عن النچع..حد غيرى يعرف المصيبة دى!؟..
هتف حازم مؤكدا فى هدوء و قد شعر بالقلق على ابيه من جراء ما يراه عليه من اضطراب:- مفيش مخلوق غيرك يعرف الموضوع ده يا بابا.. حتى هى..

تنهد زكريا فى راحة اخيرا ليردف حازم قائلا:- انا عارف يا بابا حساسية المواضيع دى و مش ممكن أكون سبب فى تعاسة حمزة.. الا حمزة يا بابا..
هتف زكريا فى راحة:- الله يريح جلبك يا ولدى زى ما ريحت جلبى.. الا دِه يا حازم..
او مأ حازم متفهما و لم ينطق بحرف ليستطرد زكريا بعد ان هدأت نفسه قليلا متسائلا فى إشفاق:- و انت يا حازم!؟.. و..

قاطعه حازم ليقف رابتا على كتفه و همس:- انا و نهلة سبنا بعض يا بابا.. جت لها بعثة و شايفة انها فرصة متتعوضش لمستقبلها.. كل واحد راح لحاله..
و اخيرا انحنى مقبلا جبين ابيه و رحل فى صمت خارج الغرفة
ليترك زكريا يحمل هما على كتفيه لا ينزاح و كأنه الجبال..

تردد صوت مهران مؤذنا لصلاة الفجر:- الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم..
تسلل ماهر من فراشه و استعد لصلاة الفجر كعادته و خرج من داره يتخذ الطريق المفضى الى المسجد و الذى يمر على بيت يونس الحناوى.. او بالأدق.. بيتها.. بيت هداية الروح و القلب..

كانت عيناه متعلقة بأسوار الدار من بعيد حتى قبل ان يصل اليها مترجلا كأنما الروح تهفو دون إرادة منه لموضعها و تتطلع دون سيطرة منه الى حيث تكون..

اجبر نفسه على التمتمة بصوت اعلى قليلا بأستغفاره على مسبحته لعله يصرف فكره عنها لو قليلا محاولا التركيز على اللحاق بصلاة الفجر.. استطاع بالفعل ان يصرف ناظريه عن أسوار دارها لكن كيف له ان يصرف ذاك الخافق الذى علت وتيرة ضرباته ما ان اقترب من أسوار البيت..حتى نظراته التى كان يعتقد انه سيطر عليها خانته و طلت حيث نافذة حجرتها لعله يلمح منها ظلا او حتى يرى شعاع من ضوء يخرج من بين خصاصها فيضئ له جنبات روحه المعتمة فى غيابها..

انتفض واقفا و اتخذ ساتر و هو يرى حركة غير عادية بالقرب من حجرة الخوص التى يتخذها يونس مجلسا صيفيّا يجتمع فيه الرجال..
انتظر فى قلق ليدرك ما يحدث بالضبط و على ضوء الحدث يتحرك.. رأى عدد من الرجال يسكبون مادة ما حول الأسوار.. لم يكن الامر يحتاج الا قليل من ذكاء ليدرك انهم ينون شرا بأهل الدار فأخرج سلاحه و اطلق منه بعض الأعيرة النارية رغبة فى اصابتهم بالذعر و ابعادهم عن الدار قبل إلحاق الاذى بقاطنيه لكن للأسف كان احد المجهولين أسرع ليلقى احد أعواد الثقاب المشتعلة من يده قبل ان يفر هاربا لتبدأ النيران فى الظهور و الانتشار بشكل مخيف جعله يصرخ فى هلع و هو يندفع لأيقاظ اهل الدار طارقا على بابهم فى اصرار لعل احدهم يستيقظ لنجدة الجميع..

الوحيدة التى كانت مستيقظة بالفعل كعادتها هى بخيبة و التى سمعت الطرق المزعور على باب دارهم فأنتفضت توقظ سكينة فهى غير قادرة على فتح الباب او الإسراع فى ذلك نظرا لحال نظرها
و شباب الدار فى سفر ليس بينهم الا يونس..

و الذى بفضل الله انتفض لصوت الطرق و اندفع يفتح و ما ان علم بما يجرى حتى صرخ فى نساء الدار ليهرولن للخارج..
خرجت كسبانة و بيدها سكينة و دخل يونس يحمل بخيتة و خرج بها و قد بدأت النيران تتسلل لغرفة الخبيز و تطال الجزء الخلفى من الدار حتى ارتفعت ألسنتها تطاول نافذة غرفة عائشة و هداية..

حاول يونس الدخول مرة اخرى الا الدار بعد إخراجه بخيتة لإخراج اخته و خطيبة ولده.. الا انه توقف لاهثا عند صعوده اولى الدرجات فالدخان بدأ يتسلل لرئتيه المتعبتين اثر التدخين المُهلك لهما فبدأ فى السعال بشدة..

كان ماهر يقف بالخارج يتأكله الخوف عليها و الذعر باد على ملامحه و ما ان رأى حال يونس حتى اندفع لداخل الدار بلا تفكير و صعد السلم الداخلى المفضى لشقتهما و بدأ فى دفع بابها و هو يضع كفه على انفه محاولا عدم استنشاق الدخان و اخيرا استطاع الوصول للغرف وسط ضبابية الرؤية صارخا فى عائشة التى كانت تقف صارخة بالردهة:- انزلى بسرعة..تعالى..

و اشار الي طريق الخروج الأمن بعيدا عن مسار ألسنة النيران و صرخ فيها متسائلا قبل ان تغادره فى خوف تتلمس خطواتها:- فين هداية !؟..
اشارت لأحدى الغرف فأنتفض مندفعا اليها يطرقها فى اصرار و لهفة و عندما لم يتلق ردا دفع الباب و دخل ليجدها منزوية بأحد الأركان.. عيونها ذائعة و تشهق محاولة إلتقاط انفاسها و لا تدرى ما يدور حولها و يبدو انها استنشقت الكثير من الدخان حتى انها ما كانت ترد على هتافه بأسمها..

جذب احد الاغطية و ألقاه على رأسها ليسترها بالكامل و اندفع بها فى سرعة محاولا الابتعاد يضمها بين ذراعيه مبعدا إياها قدر الإمكان عن مسار النيران و ألسنة الدخان الكثيف الذى بدأ يزداد حدة مع محاولات الجمع الذى تجمهر عند مشاهدة النيران للمساعدة فى أخمادها قبل ان تطال الدار نفسها.. و يبدو انها نجحوا فى ذلك و مما يسر الامر هو وجود العديد من شباب و شيوخ النجع فى المسجد للصلاة فتنبهوا سريعا لنشوب الحريق و اندفعوا لإطفائه..

وصل ماهر بجسد هداية المغطى كليا لدرجات الدار و وضعها على احدى الأرائك المنزوية حتى لا تصبح رؤيتها عرضة لكل غادٍ او أيب..و هتف صارخا:- لازم داكتور بسرعة.. واضح انها شمت دخان كَتير..
اندفع طبيب الوحدة الصحية و الذى لحسن الحظ كان فى المسجد لمعاينتها و القيام بالواجب..

تجمعت النسوة حولها فشعر بالإحراج لوقوفه بينهن فتنحى جانبا و هو يكاد يموت قلقا عليها و يريد ان يسمع اى كلمة يطمئن بها على حالها..
لكن ما باليد حيلة.. اضطر للذهاب للوقوف بين الرجال يقف بينهم بجسده لكن عقله و قلبه و مسامعه و ادراكه كله مع تلك الحلقة هناك والتى تستدير حولها و لا يع ما يحدث بداخلها..

ربت يونس على كتفه فى امتنان
هاتفا:- و الله لولاك يا ماهر ما كنّا عارفين اللى كان هيحصل..!؟
تسلم و تعيش يا غالى..
تطلع اليه ماهر بنظرات خاوية هاتفا:- انى معملتش حاچة.. ده ستر ربنا ليكم چعلنى سبب مش اكتر.. بس يا رب الانسة هداية تبجى بخير.

اندفع يونس على ذكر هداية باتجاه الحلقة المتجمهرة نحوها و غاب للحظات و عاد من جديد هاتفا:- الحمد لله.. جدر و لطف.. شوية خنجة بسيطة بسبب الدخان بس ربك سلم و البركة فيك..
ابتسم ماهر فى سعادة لمعرفته انها بخير و هتف مؤكدا:- انى معملتش حاچة.. حمد لله على سلامتكم..
ربت يونس على كتفه:- الله يسلمك..

هتف ماهر متسائلا فى تعجب:- بس تفتكر مين اللى ممكن يعمل فيكم العملة السودة دى !؟.. دى مجصودة انى شفت الرچالة اللى ولعوا ف اوضة الخوص..
تنهد يونس و هو يعلم يقينا من راء ذاك الحادث الذى كاد يودى بحياة من بالدار:- الله اعلم.. الناس السو كَتير.. ربنا يصرف عنا أذاهم..
هتف ماهر:- امين يا رب..

انفض الجمع اخيرا بعد ما اطمأن ان الامور سارت على خير و انتهت بسلامة اهل الدار جميعا و لم يتبق الا ماهر يقف على مقربة ينظر للجانب الاخر موليا ظهره لموضع تجمع النساء.. كان يتطلع الى الصبح الذى بدأ يشق الغيم معلنا عن نفسه متنهدا بالأفق و استغفر فى نفسه فقد فاتته صلاة الفجر جماعة و هى الاولى التى يفوتها منذ عودته من الحج.. توجه فى هدوء لأقرب ارض طاهرة و استقبل القبلة و كبر للصلاة حتى يلحق بصلاة الفجر قبل ان يدركه الشروق.

بدأ الجميع فى الدخول للدار واحدا تلو الاخر بعد ان تطوع الجميع بفتح نوافذه و ابوابه حتى ينقشع الدخان الراكد بالداخل و لا يستوطن المكان برائحته القاتمة..
همست عائشة لهداية:- مش ياللاه بينا ندخل احنا كمان!؟..
همست هداية:- روحى انت يا عيشة نامى.. انا بجيت كويسة دلوجت.. بس حاسة انى محتاچة شوية هوا.. شوية و هحصلك متجلجيش..
همست عائشة مؤكدة:- طب متتأخريش عشان مش هنام غير لما اطمن عليكى..

اومأت هداية برأسها ايجابا و دخلت عائشة بدورها لتنهض هداية فى تثاقل و هى تتلمس موضع اقدامها الثقيلة نوعا ما حتى وقفت تنظر للأفق البعيد فى راحة و اخيرا وقعت عيناها على محياه الخاشع ركوعا و سجودا.. خفق قلبها فى قوة و ما عادت قدماها قادرة على حملها و ارتعش جسدها فظنت انه هواء الفجر البارد فضمت جسدها بذراعيها و هى تعلم انها كاذبة فقد تذكرت كيف كانت بين ذراعيه و هى يحاول حمايتها من ألسنة النيران عند هبوطهما السلم الداخلى للدار و المطل على غرفة الخبيز حيث كانت النار على أشدها..

تحاملت على نفسها و اندفعت تختفى خلف باب الدار و أغلقته معتقدة بذلك انها ابعدت محياه عن مخيلتها لكن هيهات فما ان صعدت غرفتها حتى ضبطت نفسها متلبسة بالنظر عبر خصاص نافذتها لتراه يمر بجوار سُور دارهم و يقف للحظة يتطلع للأعلى حيث نافذتها كأنما يدرك انها تقف خلفها و اخيرا يدنى الطرف و يرحل لتتبعه هى بنظراتها حتى يغيب مخلفا فى نفسها حيرة و اضطراب لا حدود لهما و الأدهى من ذلك هو ذاك الأمان الذى شعرت به و هى بين ذراعيه و الذى تغلغل الى اعماق روحها و سكنها و لا حيلة لها.

علت دقات الطبول و العروسان يتهاديان صعودا درج الدار كان كلاهما صامتا و الصخب حولهما يدفع كل منهما ليتيه رغما عنه فى شأنه الخاص حتى وصلا اخيرا امام باب شقتهما بالدور العلوى ليدفعه حامد فى هدوء و يقف فى هدوء منتظر ان تدلف العروس للداخل.. و ما ان وطئت قدماها الشقة حتى علت الزغاريد من هنا وهناك فى فرحة ليدلف حامد خلفها بدوره و تجذب كسبانة الباب خلفه و هى تندفع هابطة الدرج فى قمة سعادتها فاليوم اصبح اصغر ابنائها عريسا..

تطلع حامد حوله و لم يجد العروس و التى توقع انها لازت بالفرار متحصنة بأى غرفة مبتعدة عنه..
تنفس الصعداء فى سعادة و اندفع بدوره لغرفة النوم التى كانت مجهزة لهما و ما ان فتح بابها فى ثقة حتى وجدها تجلس على طرف الفراش يشعر بانتفاضاتها الخجلى من موضعه.. اسقط فى يده و ما عاد قادرًا على التراجع فقرر الدخول فى هدوء حيث تجلس..

اقترب منها مستشعرا اضطرابها البادى على كل خلجة من خلجات جسدها و هتف فى اعتيادية:- مبرووك..
همست بصوت متحشرج مهزوز النبرات و هى تحاول الابتسام فى سعادة:- الله يبارك فيك..
صمت للحظات مما أربكها فرفعت ناظريها تجاهه فى تساؤل لتجده يتطلع اليها مشدوها لا ينطق حرفا.. نهضت من موضعها فى تردد لتصبح الان فى مواجهته تماما و لازالت تتطلع اليه فى تعجب و هو يحملق فيها بهذا الشكل المريب..

قررت ان تخفض عينيها حتى لا تقابل تلك النظرات المشدوهة التى ارعبتها لثوان الا انه مد كفه باتجاه وجهها ليضعه اسفل ذقنها و يرفع ناظريها باتجاه أنظاره.. كانت تشعر انه غير طبيعى و كأنه بدنيا اخرى لا تمت لتلك الدنيا التى تشملهما الان.. كأنه منفصل عنها بكيانه كليا و همس بصوت متحشرج ببضعة احرف لم تستوعبها لتوها.. انتفضت فى ذعر عندما جذبها الى احضانه فى لهفة و اعتصرها بين ذراعيه كأنما وجد اخيرا ضالته المنشودة منذ عصور..

استكانت رغما عنها و هى تتلقى منه ذاك الفيض الغامر من عاطفة ما كانت تتوقع انه قادر على بثها بهذا الشكل الرائع و هو الذى ما ينفك يشاكس هذا و يمازح ذاك.. فقط ظنت انه غير قادر الا على المزاح و السخرية.. اما الان و فى تلك اللحظة و هى بين ذراعيه ادركت انه شخص اخر تماما قادر على منح العاطفة و الحب و الحنان بشكل ما كانت تتوقعه فى اروع أحلامها..

عاد من جديد يهمهم و هى مأخوذة كليا بكل ما يقوم به فى خضم عاصفة المشاعر تلك.. لكنها تخشبت فجأة و هى تستمع اخيرا لما كان يهمهم به فى ولة و بصوت أشد عذوبة من ناى يصدح.. انه يتمتم بأسم امرأة.. سلوى.. هكذا ترنم بكل حرف من احرف اسمها و هى بين ذراعيه.. لكنها عائشة... هى ليست تلك السلوى التى لا ينفك يذكر اسمها بذاك الشكل الذى يقتلها و يبدو انه لم يلحظ حتى تخشب جسدها بين ذراعيه بل انه استمر فى تيهه بها بجانب تمتاته التى لم تتوقف للحظة..

حاولت ابعاده عنها قدر استطاعتها لكنه كان متشبث بها كأنها تلك القشة التى ستنجيه من غرق محقق و ما عاد لها القدرة الا على البكاء الصامت بدموع من نار لم تحرق الا إياها و اخيرا نال مبتغاه منها و ابتعد فى تنهيدة طويلة ليتنبه اخيرا لها و ينظر اليها نظرة صدمة كأنه لا يصدق ما فعله لتوه..و ان تلك التى كانت بين ذراعيه لم تكن الا المسكينة عائشة التى كانت نظرات عينيها الباكية تلك كافية تماما ليموت كمدا و هو يدرك تماما اى مصيبة اقدم عليها و اى صدمة هى تحياها الان..

انتفض مبتعدا عنها فى ذعر و ما عاد قادرًا على النظر اليها يتطلع حوله فى ذهول و لم يستفق من ذهوله الا على صوت إغلاقها باب الحجرة خلفها بعد ان غادرتها دون ان يع ذلك..
اندفعت هى خارج الغرفة و هى تدرك انها كانت حمقاء واهمة حين اعتقدت انها قادرة على انتزاع تلك الاخرى و الفوز بمكانتها فى قلبه..

بكت بقهر و هى التى ظنت فى البداية كأى حمقاء انه احبها او حتى اعجب بها و رأى فيها زوجة صالحة يمكن ان تكون اما لأولاده.. لكنها لم تعدو سوى وسيلة كما سمعت اخوه يخبره منذ ايّام.. مجرد اداة رخيصة للنسيان على سبيل.. و داوينى بالتى كانت هى الداء.. بكت و بكت من جديد لكنها توقفت للحظة لتحكم عقلها الذى هتف فيها.. نعم انت كذلك..

مجرد وسيلة نسيان.. انها الحقيقة المرة و عليك تقبلها شأتِ ام ابيتِ.. ثم..انك عرفتى بذلك من حديثه مع اخيه من قبل زواجكما فهل هذه الحقيقة التى تأكدتِ منها لتوك غيرت من الامر شيئا!؟.. ما كانت لتفعل و انت تعلمين ما هو وضعك بالضبط فى هذه الدار و ما كان لك الرفض و كان القبول هو السبيل الوحيد لك.. فكفكى دعمك فتلك ليست اولى الصدمات.. فقد اعتاد قلبك عليها منذ زمن بعيد كما انها لن تكون الاخيرة.. أليس كذلك !؟..

اومأت عائشة برأسها ايجابا على حديث عقلها الداخلى.. و كفكفت دمعها بالفعل و قد قررت ان تعيش.. فقط تعيش.. و لكن على الاقل ستحفظ كرامتها فيكفيها ما عانته.. يكفيها بحق..

فُتح باب الغرفة فى بطء و خرج منه ماجد يتعكز على عصا و هو يسير على قدميه فى توءدة.. تطلعت اليه زهرة فى سعادة بينما هتف عاصم مرحبا فى تهليل:- اهلًا بالباشا الكَبير جووى..

ابتسم ماجد و هو يتطلع لوالديه فى فرحة فقد استطاع اخيرا السير بإستخدام جهازا تعويضا لساقه المبتورة.. هو لايزل يستخدم عصا تساعده قليلا على السير بها لكن هذا افضل بكثير من جلوسه على كرسٍ مدولب ينتظر ان تمر حياته دون اى إنجاز يذكر.. و الفضل فى هذا يعود لها.. هو وحده يعلم هذا..تلك الفتاة الصغيرة ذات الروح المقاتلة و الأنف الشامخ و الرأس الصلبة المعتدة بنفسها حد الهوس.. هى التى وهبته الإيمان بنفسه من جديد..

علمته ان الدنيا لا تنتهى عند حادث او تتوقف من اجل رحيل شخص.. و اننا لابد و ان نجاهد لنصنع لأنفسنا مكانا تحت شمس تلك الحياة طالما اننا لازلنا نرزق و لازال فى العمر بقية..

تلك المدونة التى دفعته لإنشائها و عرض أشعاره بها لاقت رواجا و نجاحا بين مرتادى مواقع التواصل الاجتماعي و فى فترة قصيرة اصبح عدد متابعيه يتخطى الآلاف.. حتى اسم المدونة كانت هى ملهمته.. اسماها الچنرال العاشق.. كما كانت تفضل دوما ان تناديه..
انضم لمائدة الافطار و هتف فى سعادة بعد جلوسه:- ايمان بنت عمتى سمية نجحت بمجموع عالى.. جابت ٩٠٪؜..

هتفت زهرة فى فرحة:- الله اكبر.. برافو عليها.. بنت ممتازة بجد.. ربنا يسعدها..
هتف عاصم بدوره:- اخيرا حاچة تفرح سمية شوية بعد موضوع ولدها الله يرحمه..
هتف ماجد:- صدقت يا بابا.. الله يرحمه..
اكدت زهرة:- احنا لازم نروح نبارك لها يا عاصم..
هتف مؤكدا بدوره:- وااه.. معلوم طبعا..

هتف ماجد مؤكدا:- اما انا بقى ف رايح ابارك لها دلوقتى.. و جايب لها هدية معايا من مصر كمان..
هتفت زهرة و هى تبتسم فى خبث:- هدية يا ماجد !؟.. بس ده مينفعش يا حبيبى.. انت نسيت الأصول و لا ايه!؟..
تطلعت بنظرة ذات مغزى لعاصم الذى ادرك ما ترمى اليه زهرته فأبتسم بدوره هاتفا:- امك عندها حج.. هَدية ايه يا چنرال!؟.. انت لا اخوها و لا خطيبها و لا ابوها.. يبجى تجيب لها هَدية بتاع ايه!؟..

تنهد ماجد و قد أيقن إنهما على حق و هتف فى ضيق:- هديهالها برضو و اللى يحصل يحصل..
هتفت زهرة فى جرأة:- طب ما تقدمها بصفة من دول يا ماجد.. خطيبها مثلا !؟..
انتفض ماجد متطلعا لأمه للحظات و اخيرا نهض فى تثاقل رغما عنه هاتفا فى ثورة :- لااا.. خطوبة لااا.. و اذا كان ع الهدية.. و اخرج من جيب سرواله علبة من القطيفة الحمراء وضعها على المائدة بعنف مستطردا:- اهى.. أبقوا ادوهالها انتم لما تروحوا و ابقى قولى انها منك انتِ يا ماما.. عن اذنكم..

و اندفع بأقصى سرعة أتاحتها له قدماه ليدلف اخيرا لغرفته و يغلق بابها خلفه فى عنف اجفل زهرة التى تنهدت فى حسرة ليتطلع اليها عاصم موقنا بما يعتريها من حزن على حال ولدها..
ساد الصمت قليلا لتهمس زهرة لعاصم مؤكدة:- ده بيحبها يا عاصم.. انا متأكدة..
اكد عاصم بإيماءة من رأسه ايجابا:- ايوه.. بيحبها و عايزها بس فى حاچة ف دماغه محدش فاهمها..
هتفت زهرة بعزم:- انا مش هسيبه كده.. لازم اعرف ايه اللى ف دماغه ده..

ابتسم عاصم هامسا فى مشاكسة و هو يرى زهرة عازمة على الدخول لغرفة ولدها:- امك حطتك ف دماغها!.. الله يكون ف عونك يا حازم يا ولدى..
تطلعت زهرة اليه فى عتاب لينفجر ضاحكا و هى تطرق باب غرفة ماجد و تندفع للداخل و تغلق بابها و نظراتها لا تحيد عن ولدها الذى تمدد على فراشه فى سأم..

جلست جواره فى هدوء و اخيرا همست:- ليه كده يا ماجد !؟.. انت رافض ليه ايمان.. ال..
قاطعها ماجد معتدلا و هو يهتف فى لهجة تحمل نبرة شجن:- انا مش معترض على ايمان يا ماما.. ايمان متتعيبش.. بس زى ما قال لى مؤمن.. ايمان تستاهل سيد الرجالة.. و كان عنده حق.. ايمان تستاهل واحد كامل يا ماما.. مش عاجز بيوهم نفسه انه تمام عشان يقدر يكمل حياته..

دمعت عينا زهرة فى إشفاق هاتفة:- انت ليه شايف نفسك كده !؟.. انت راجل و سيد الرجالة كمان.. و لو خيرتها انا متأكدة ان ايمان هتختارك انت..
هتف ماجد:- ايمان لسه صغيرة و جميلة يا ماما.. و قدمها اكيد بعد دخول الجامعة فرص ارتباط كتيييير من رجالة افضل منى.. انا هكون معاها و أوصلها للراجل اللى تختاره و هعمل بوصية مؤمن.. لكن انى أكون انا الراجل ده.. مش هسمح انها تضيع حياتها مع واحد زيي..

ربتت زهرة على كتفه فى حنو هامسة:- اعمل اللى يريحك يا ماجد.. بس انت بتيجى على نفسك جامد قووى.. و صدقنى.. ده مش هايبقى ساهل عليك و خاصة بعد ما قررت تدخل معاها الجامعة و هتبقى معاها طول الوقت تقريبا..
هتف ماجد مؤكدا بإبتسامة :- لا هقدر.. متقلقيش انت بس يا ست الكل.. ادعيلى و كله هايبقى تمام
هتفت زهرة و هى تنهض مغادرة غرفته:- ربنا يريح بالك يا حبيبى.. بس انت بلغتها بقرار الجامعة ده..!؟.
نفى ماجد فى صمت.. فتنهدت زهرة و هى تخرج من الغرفة و ليس لها الا الدعاء حتى ترتاح تلك القلوب المنهكة التى اضناها النوح..

تطلعت نعمة فى شيماء بنفاذ صبر ما ان رأتها عندما نزلت اليها صباحا كالمعتاد لتحضر طعام الافطار للرجال قبل رحيلهما لعملهما.. وضعت الفطار و تناوله الجميع فى جو صامت لم يكسره احدهم.. و اخيرا غادر الرجال لتندفع نعمة التى قاومت كتم ما يعتمل بداخلها حتى رحلا لتهتف فى نفاذ صبر حقيقى:- بت يا شوشو.. انت ايه اللى بينك و بين ناصر بالظبط!؟..

انتفضت شيماء فى اضطراب و اخيرا أجابت فى محاولة لتصنع اللامبالاة:- مفيش ياما هيكون فيه ايه يعنى.!؟..
اندفعت نعمة اليها ممسكة عضدها تهزها فى حنق بالغ:- بقولك ايه.. ما تخبيش عليا عشان انا تقريبا عارفة كل حاجة..
هتفت شيماء فى ذعر:- عارفة ايه!؟..

اكدت نعمة:- عارفة انك بتنامى ف أوضة و هو ف أوضة من اول جوازكم.. ايه بقى السبب !؟.. هو انتوا مغصوبين على بعض لاسمح الله.. ده هو اللى اتنفض و قال محدش هينجوزها غيرى.. و هو اللى اصر انه يسرع بالفرح حتى من قبل ما اخوه الله يرحمه ياخد خبر بالموضوع..و مشفتهوش يوم الفرح نفسه.. كان ماسك السما بأيده عشان تيجى اللحظة اللى هيشوفك فيها جنبه ع الكوشة..

هتفت شيماء بفرحة غير متوقعة فى لحظة كهذه متسائلة:- صحيح ياما!؟..
تعجبت نعمة مستفسرة:- ايه هو اللى صحيح !؟.
هتفت شيماء:- صحيح انه كان ملهوف قوى عليا كده !؟..

هتفت نعمة بغيظ:- شوفى البت اقولها ايه تسأل ف ايه !؟.. ايوه و الله العظيم.. ده حتى لما عرف انك رايحة الكوافير زعل و قال انا بحبها زى ما هى كده.. و قالى خليها تفضل فوق بعد ما ترجع من عنده متقعدش ف الكوشة قبل كتب الكتاب و الناس كلها تبحلق فيها..

دمعت عينا شيماء فى سعادة.. اذن فهو يحبها بحق.. يغار عليها بجنون.. لم تكن رغبته تلك فى الزواج منها شفقة على حالها كما كانت تتصور او كما صورها لها.. و ذاك الاعتراف المحموم بحبها و الذى أكده مرارا فى هزيان مرضه لم يكن مجرد كلمات محموم بل كانت عين الحقيقة.. تلك الحقيقة التى ظل يداريها لسنوات طوال حتى عنها هى.. و ذاك الجفاف و تلك القسوة التى كانت تضج منها لم تكن الا ستارًا يدارى خلفه كل تلك المشاعر التى كان يدخرها لأجلها..

وضحت الصورة كاملة امامها بكل تفاصيلها منذ كانوا أطفالا تتعلق بكفه فى ذهابها و ايابها و يكون هو سندها و ملاذها اذا ما تجرأ احدهم و ضايقها او حتى حاول.. كل ما تشتهيه كان يحضره لها من ماله الخاص و مصروفه الشخصى.. اجمل ما لديها من ثياب او ألعاب كان هو مصدرها.. كان يعلم ما تحب و ما تكره.. كان دوما هناك.. و كانت هى تلك الغافلة الحمقاء التى لم تدرك ذلك الا بعد فوات الاْوان.. فبعد قراءته لخطاب اخيه ما عاد قادرًا على النظر اليها حتى.. اضاعته..

و اضاعت حبا بهذا العمق و تلك الروعة..
شهقت فجأة فى وجع حقيقى لتنتفض نعمة فى جزع هاتفة:- شوشو.. مالك يا بت!؟..
احتضنتها نعمة فى حنو و همست تربت على كتفها و هى تجذبها لتجلس على احدى الأرائك هامسة فى رفق:- فى ايه يا بت.. هتخبى على امك برضه !؟.. قوليلى فى ايه !؟..و باذن الله الحل عندى..

اندفعت شيماء تقص عليها كل ما حدث من بعد صعودهما للشقة حتى أتت على ذكر الخطاب و ما فيه لتشهق نعمة ضاربة صدوها بباطن كفها فى لوعة و أخيرا طفرت الدموع من عينيها على ذكر الشهيد نادر و هتفت فى لوعة:- يا ضنايا يا بنى..
الله يرحمه.. و يا وجع قلبى عليك يا ناصر.. دايما كده حظك قليل يا حبيبى..
هتفت شيماء و هى تذرف دمعها:- مش قلت لك الدنيا ملخبطة..

ساد الصمت قليلا و اخيرا مسحت نعمة دمعها فى عزم و نظرت لشيماء فى صرامة هاتفة:- قوليلى.. انت بتحبيه!؟..
صمتت شيماء و نكست رأسها و لم تجب لتهتف نعمة فى اصرار:- ارفعى راسك كده و قوليها ف وشى.. بتحبى ناصر!؟..
هتفت شيماء و هى تشهق باكية فى لوعة:- ايوه بحبه و كنت بحبه طول عمرى و انا مش دريانة.. بس خلاص معدش ينفع..

هتفت نعمة مؤكدة:- مفيش الكلام ده.. كل حاجة تنفع و هاترجع احسن من الاول كمان.. سيبيلى انت الموضوع ده و اعملى اللى هقولك عليه بالحرف.. سمعانى!؟..و ابقى اطلعى جبيلى الجواب من مطرح ما هو مخبيه..
اكدت شيماء هاتفة:- سمعاكى و هعمل اللى هتقوليلى عليه و مش هخالفه..

جذبتها نعمة اليها و اخذت تعدد على مسامعها بعض من نصائحها التى يبدو ان لا هدف لها الا ان يقع ناصر المسكين فى الفخ.. و أى فخ !؟..


look/images/icons/i1.gif رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
  09-01-2022 04:44 صباحاً   [69]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل التاسع والعشرون

دخل ماهر المسجد كعادته بعد عودته من الحج اثر استشهاد اخيه مؤمن.. و ما ان هم بالمسير لداخله متوجها لذاك الركن الذى بات مفضلا لديه لانه بعيد عن الاعين حتى اصطدم ناظراه بمهران جالس قبالته.. حاول تفاديه و كأنه لم يره و اندفع مبتعدا الا ان مهران كان الأسبق ليستوقفه فى لهفة متعجبا:- على فين يا ماهر يا واد عمى..!؟ الضهر وچب.. تعال صليه معاي..

اسقط فى يد ماهر و ما عاد قادر على المراوغة او الابتعاد.. يشعر بذنب رهيب لأقترابه من مهران خاصة و اى فرد من بيت الهوارية بوجه عام..
انقضت صلاة الظهر و جلس كلاهما ينهيا صلاتهما بالتسبيح و الاستغفار..

لم يعد ماهر يطيق ذاك الذنب الجاسم على صدره كحجر.. فقرر الاعتراف بكل ما فى جعبته لابن خاله لعل ذلك يخفف من وطأة الإحساس القاتل الذى يعانيه و يضج مضجعه.. فهتف فى صوت مهزوز بنبرات مترددة:- مهران.. عايز اجولك حاچة بس تسامحيني يا واد خالى.. بس مش هنا.. مش ف بيت ربنا تعال بره..
انتبه مهران و توقفت أصابعه عن تحريك حبات مسبحته متطلعا لماهر فى تعجب:- أسامحك..!؟ على ايه يا ماهر!؟.. دِه انت ما شاء الله عليك من ساعة ما رچعت م الحچ و انت الله اكبر عليك.. ربنا يديم عليك هدايته و ع العموم تعال بره..

خرجا سويا و انتبذا مكانا قصيا عن اعين الخلق و هنا هتف ماهر بصوت متحشرج و بنفاذ صبر :- انى چبان و نچس.. انى مش عارف كنت بعمل اللى كنت بعمله دِه كيف..
انتبه مهران لماهر فى انتفاضة رابتا على كتفه فى إشفاق ظنا منه انه يعنى ماضيه المشين قبل استشهاد اخيه:- اهدى يا ماهر.. كلنا خطائين.. المهم انك توبت و..

هتف ماهر فى ضيق:- اسمعنى يا مهران الله يخليك.. اسمعنى انى هموت لو مجلتش اللى چوايا و خلصت زمتى من ربنا..
ربت مهران على فخذه مشجعا:- جول يا واد عمتى.. جول انى سامعك
تنهد ماهر و اخيرا هتف:- انى السبب ف كل المصايب اللى كانت بتحصل لكم الفترة اللى فاتت دى..

صمت مهران متطلعا اليه فى صدمة و لم يعقب ليستطرد ماهر و هو منكس الرأس حياءً لا يستطع التطلع لابن خاله و هو يستطرد فى ندم:- ايوه يا مهران.. حادثة باسل كنت انى السبب فيها و كمان..
صمت و لم يستطع الاستطراد الا انه اكمل و هو يشيح بوجهه هاتفا:- موضوعك مع الراچل اللى ضربت عليه نار دِه انى كان ليا يد فيه..

انتفض لحظتها مهران ممسكا بتلابيه هاتفا فى ثورة:- انت بتجول ايه..!؟.
لم يقاومه ماهر بل على العكس ظل متسمرا فى مكانه ليدفعه مهران فى غضب ليهتف ماهر مدافعا عن نفسه:- مكنش انت المجصود يا واد خالى.. بس چات فيك..
تطلع اليه مهران مستفسرًا:- جصدك ايه مكنتش انى المجصود.. امال مين!؟..

هتف ماهر منكسا هامته:- كانت تسبيح بت عمتك سهام..
صرخ مهران غير مصدق:- بتجول تسبيح!.. ليه !؟.. ايه عملته عشان تستجصدوها..
هتف ماهر مؤكدا:- انى معرفش.. انى كنت عبد المأمور.. مكنش ينفع اظهر انى ف الصورة لانى جريبها فجبت الراچل اللى ضربته انت بالنار دِه عشان يحل مكانى.. كان الجصد الفضيحة.. مكنش الجصد اننا نورطك..

هب مهران فى غضب:- حتى الحريم يا نچس.. من ميتا الحريم ليها ف الليالى دى.. و مين اللى امرك اصلا تعمل كِده!؟.. و فضيحة ايه اللى تعملوها لتسبيح طول عمرها متربية و ملهاش ف اى حاچة مش مظبوطة !؟

كان مهران يلقى هذه الأسئلة و عقله يغلى فى اضطراب و كأنه جمع قطع الاحجية و بدأ فى استنتاج الآتى و الذى تأكد انه صحيح عندما هتف ماهر:- الراچل دِه كان بيهدد تسبيح لانه خد صور ليها و حطهم ف مواقع استغفر الله العظيم.. كان بيبتزها عشان ياخد منها فلوس على كد ما يجدر بتهديداته.. و كله بسببى و الراچل اللى كان بيكلمنى و بيجولى اعمل ايه بالظبط.. مكنتش تسبيح بعينها المجصودة المجصود كان فضيحة التهامية بأى طريجة و تسبيح لما كانت هتروح للراچل بالفلوس كان هيفضحها..

تسمر مهران بموضعه و قد اتضحت الصورة كاملة امام ناظريه و اصبح على يقين فى تلك اللحظة انه ظلم تسنيم ظلم بين و صدق ادعاء الرجل الحقير و لم يعطى لها حق الدفاع عن نفسها حتى و ان تسنيم هى من ذهبت للقاء الرجل بدلا من اختها الصغرى و كانت الصدفة العجيبة و التى يعتبرها سترا و كرما من الله فى هذه اللحظة عكس ما كان يعتقد فى وقتها انها الصدفة الاسوء على الإطلاق و التى قادته ليرى تسنيم فى هذا الوضع.. فلولا وجوده ساعتها الله يعلم ما كان من الممكن ان يحدث لتسنيم من هذا الحقير..

أيقن الان ان احيانا كثيرة يكمن الضر ف الخير او ما كنّا نظنه خيرا و يكمن الخير فيما كانت تظنه أنفسنا شرا..
نفض مهران عنه أفكاره و هتف فى ماهر:- مين الراچل دِه اللى كان بيديك الأوامر تعمل كِده !؟..
اكد ماهر:- معرفهوش.. و لا عمرى شوفته.. اللى بينا تليفونات و بس.. و لا حتى اعرف له اسم.. انى لجيته بيكلمنى مخصوص و بيجول لى ان ليه تار جديم مع الهوارية و التهامية و انه عايزنى أساعده اخد التار دِه.. و بجى يجول لى اعمل ايه و انى أنفذ جصاد الفلوس اللى كان بيبتعهالى..

بس انى معايا نمرته.. ممكن تعرف هو مين..
هتف مهران فى لهفة:- طب هات النمرة جوام..
فتح ماهر جواله و اعطى الرقم لمهران الذى هم بالاندفاع من المسجد خارجا الا ان ماهر استوقفه فى لهفة هاتفا:- مهران.. سامحنى الله يخليك.. انى كنت معمى و الدنيا وخدانى..

صمت مهران فى محاولة للسيطرة على غضبه المكبوت تجاه ماهر وكظم غيظه اكراما لماهر الجديد و لأخيه الشهيد:- خلاص يا ماهر مسامحك.. و ربنا يسامحنا كلنا..
تنهد مهران فى ألم و هو يلقى كلماته الاخيرة متذكرًا حبيبته و ما فعل بها فأندفع خارج المسجد و قد قرر ان يفضح ذاك الذى يحاول النيل من عائلته و عائلة زوجته بحجة ثأر قديم لا علم لأحد به...

دفع باب شقته دون ان يفكر فى الطرق عليه منتظرا فتحها اياه فما كان له قبل على مواجهة محياها فقرر الاندفاع من باب الشقة لباب الغرفة دفعة واحدة و ان يلوز خلف باب حجرته دون ان يتعامل معها بأى طريقة كانت..

دفع باب الشقة بالفعل و نفذ ما عزم عليه و فى لحظة كان داخل الغرفة يغلق بابه دونها.. كانت هى تنتظره و تعد ما لذ و طاب على المائدة كعادة كل مساء منذ زواجهما و تنبهت لدخوله و هى تخرج بالفعل من المطبخ محملة بالأطباق.. تنهدت فى تفهم و وضعت الاطباق من يدها على المائدة و جلست أمامها فى قلة حيلة تشتاق ايّام زواجهما الاولى حيث كان يأتيها كل مساء لتجمعهما تلك المائدة ليؤنسها و تؤنسه.. هى لا تريد الا العودة لتلك الأيام التى يبدو انها بعد قراءته لخطاب اخيه الراحل ولت بلا رجعة..

لكنها قررت انها لن تترك له الامر وحده عليها التدخل و ليكن ما يكون.
كان يقف بجوار خزانة الملابس و قد استكان بعد ان اعتقد انها لن تأتى تسأل كعادتها لما لم يخرج للعشاء.. بدأ فى فك أزرار قميصه الملطخ قليلا ببعض بقع الشحم كعادته و الذى حاول المحافظة عليه قدر استطاعته نظيفا حتى لا يرهقها فى غسيله.. و انتفض عندما فُتح باب الغرفة ووجدها امامه فى لحظة..
هتف فى غيظ:- حد يدخل الأوضة كده !؟..

اقتربت منه و قد سقطت كفه عن صدر قميصه الذى كان يفك أزراره لتبدأ هى فى استكمال المهمة و تفكها واحدا تلو الاخر هامسة:- هو انا هستأذن و انا داخلة على جوزى !؟..

كان يقف الان فى خضم أتون من مشاعر لا قبل له لتحملها يصارع رغبتين كلتاهما قاتلة احداهما تحييه من جديد و الاخرى تقتله متعمدة مع سبق الإصرار و الترصد.. تتعارك داخله رغبة فى ادنائها منه حد تغييبها بين أضلعه شوقا و ما بين دفعها عنه حتى يخرج سالما من بين نيران ذاك الجحيم الذى يحياه اللحظة و هى قريبة منه بهذا الشكل الخطر متطلعا الى شعرها المعطر الذى يسكره عبيره و جبينها الوضاء و انفها الشامخ و شفتيها الشهيتين...

و ما ان وصل لتلك المرحلة حتى قرر اتخاذ قراره و الذى ما ان هم بتنفيذه حتى كانت هى الأسبق و قد ابتعدت ليسقط هو على اقرب مقعد منه فتعتقد هى انه يشرع فى تبديل حذائه فتندفع تحضر له خفه المنزلى من اسفل الفراش و تنحنى قبالة مجلسه تخلعه عنه و تضع الخف بدلا منه و تنهض فى تنهيدة حارة و قد أتمت مهمتها بنجاح و التى لم تكن على حد علمه الا الإتيان على كل ما بقى من دفاعات له امام سحرها و عفويتها و تحطيم كل ذرة مقاومة يحاول التمسك بها قبل فرارها امام جحافل نظراتها التى تحمل قدر لا يستهان به من خليط عجيب مزيج من براءة صافية و شقاوة محببة تورثه الرغبة فيها حد التهلكة..

ابتسمت اخيرا و هى تهتف:- اى خدمة تانية يا باشا!؟.. لم تنتظر جوابه و إنما استطردت هاتفة و هى تخرج من الغرفة.. انا مستنياكِ ع العشا بره متتأخرش..
تنفس الصعداء ما ان رحلت و زفر بقوة و هو يلقى برأسه المكدود للخلف يستند به على احد جدران الغرفة و هو يلعن نفسه و قراراته المهترئة.. فكم من مرة اقسم ان يبيت فى الورشة مع صبيه شكمان حتى يبتعد عن لقياها لكنه فى اللحظة الاخيرة يعدل عن قراره و يندفع الى هنا و كأنه يهوى تلك الوصلة من تعذيب الذات و التى يبدو انه استطابها بحق و ما عاد قادرًا على العيش دونها على الرغم انها تزداد ضراوة كل يوم عن سابقه و كأنما قد أوصاها احدهم عليه لتفعل به ما بدا لها و تخلص منه ثأرا وهميا من عدو مجهول لا يعلمه.. زفر من جديد و قد أيقن انه خاسر امامها لا محالة.. لكنها مسألة وقت لا اكثر حتى يرفع راياته البيضاء...

دخل السراىّ لا يعلم ما عليه فعله.. صعد الدرج فى تثاقل اشبه بالعجزة.. تمنى من صميم قلبه ان لا يقابلها.. ان لا يراها قابعة امامه ما ان يفتح باب حجرتهما و يتذكر كيف حرمها على نفسه ظالما إياها قبل ظلم حاله.. يتذكر بكائها و نظرات عينيها اللائمة..و كيف كان يندفع مبتعدا عنها مستغفرا ما ان يهزه شوقه اليها.. و الأدهى من ذلك كله يتذكر تلك الكلمات المسمومة التى اطلقها لسانه واصفا إياها ليلة زواجهما التى كان يحلم بها عمره كله..
توقفت كفه على مقبض الباب بإرتعاشة و ما عاد قادرًا على الرحيل مبتعدا.. و الى اين يمكنه الابتعاد.. و اين سيهرب من ذاته التى تجلد ذاته بسوط من ذنب يدميه..

كيف أنساه شيطانه انها تسنيم!؟.. انها تلك الطاهرة البتول التى ما مس كفها رجل.. انها تلك الصوامة القوامة التى كسر قلبها و اهدر كرامتها و كان مصدر لأكبر أوجاعها بدلا من ان يكون هو ذاك السند و الأمان الذى تنتظره كل امرأة من شريك عمرها..
فتح الباب فى هوادة منكس الرأس يحاول تأجيل ملاقاة عينيها.. يشعر بخزى لا يمكن احتماله و ندم لا يمكن مداراته..
تطلع باتجاه الفراش ليجدها نائمة تنهد فى راحة و لكن رغم ذلك وجد قدميه بلا إرادة منه تتجهان الى موضع رقادها.

انحنى متكئا على ركبتيه جوار الفراش متطلعا الى محياها الذى يعشق و الذى تمنى لو كان قادرًا على الاقتراب منه فى حرية ليشهدها انه ذاك العاشق الذى لا قبل له على الابتعاد عنها لكن ما بيده حيلة.. كفارته على وشك الانتهاء و ساعتها فقط سيتمكن من البوح.. و لكن هل يومها هى من ستغفر !؟.. انتفض للخاطر الموجع و تنبه لمدى الوجع الذى عاشته هى لأشهر طوال فى سبيل غفرانه..

تنهد من جديد و لكن هذه المرة فى شوق و هو يكاد يموت فى سبيل إلقاء رأسه بين ذراعيها و الاحتماء بإحضانها و الاعتراف بانه يفنى بكل ما تحمله الكلمة من معنى و هو بعيد عن وطن جبينه بين هاتين الذراعين.
دمعت عيناه و همس فى وجع عاشق:- بحبك يا تسنيم.. بحبك جووى.. و يا رب تسامحيني يوم ما ياجى وجت السماح..
نهض فى خفة حتى لا يوقظها و توجه لمرتبته و التى وجدها قد جهزتها لإجله.. تمدد عليها و عيناه شاخصة لسقف الغرفة التى شعر من ضيقه انه يكاد يطبق على صدره..

اما هى فقد سالت دموعها فرحا و قهرا على ما سمعته منذ لحظات و هو يبثها عشقه و لا يدرك انها ليست غافية.. و كيف تعفو قبل ان تستشعر انفاسه تحت سقف حجرتها و تطمئن انه هاهنا حتى و لو متباعدا عنها.. !؟
و همست لنفسها:- و انا كمان بحبك يا مهران.. بحبك جووى.. بس امتى ياجى وجت السماح و انا أسامح يا غالى !؟..

كانت سعادتها لا توصف عندما ظهر امام باب دارها و هو يقف على قدميه من جديد.. صرخت بفرحة و ما استطاعت مداراة ذاك السرور الذى طل من ناظريها مشعا كقناديل من بهجة و هو يقول لها بابتسامة خلبت لبها:- الانسة ايمان جاهزة عشان اول يوم ليها ف الجامعة..!؟.
هتفت بابتسامة:- اكيد چاهزة.. و نظرت خلفه لتجد سيارتهم قابعة بالخلف عند مدخل الدار فهتفت بشك:-هو انت اللى هتوصلنى !؟..
اكد بإيماءة من رأسه و لازالت تلك الابتسامة التى تربك معدتها مرسومة على شفتيه:- ايوون.. هوصلك.. عند حضرتك مانع !؟..

هتفت فى نبرة مترددة:- ايوه.. بس.. يعنى..
قهقه هاتفا:- على فكرة انا خدت اذن ماهر.. ما هو مش معقول أكون رايح معاكِ نفس الكلية و اسيبك تروحى بمواصلات و عربية خالك و بن خالك موجودة.. ده ينفع !؟..
هتفت كالبلهاء:- رايح نفس الكلية !؟. كيف يعنى !؟..

قهقه من جديد:- و انا اللى بقول عليكى ذكية و جايبة مجموع طول النخلة.. ايوه يا ستى.. قدمت لنفس كليتك و هانبقى زمايل.. ارتاحتى بقى!؟..
رددت ببلاهة من جديد غير قادرة على استيعاب المفاجأة:- زمايل !؟.. انت بتتكلم چد !؟..

اتسعت ابتسامته لتخبطها الذى يظهر جليا على ملامحها الرائعة.. تطلع اليها و كأنه يراها للمرة الاولى و تاه للحظات.. و تنبه عندما استوعبت اخيرا المفاجأة هاتفة بابتسامة أربكته و هى تتطلع خلفه مازحة:- طب فى مفاچأت تانية و لا خلاص كِده !؟.. لحسن تكون هتودينى الچامعة بطيارة و لا دبابة !؟..
قهقه هاتفا:- لا.. دى بقى خاب ظنك العربية مستنيانا اهى.. انجزى ياللاه عشان منتأخرش..

هتفت مؤكدة:- انا چاهزة اهو يا چنرال.. ياللاه بينا..
سارت ببطء لتجارى خطواته المتهادية و هى لا تصدق انه اخيرا يسير على قدميه من جديد كما ان منظاره الطبى الذى يرتديه بعد إصابة عينه اليمنى زاده وسامة محببة..

ركب بجوار السائق و ركبت فى الأريكة الخلفية و هى تستشعر سعادة لا يمكن وصفها فالأمور تسير بشكل يجعل منهما اقرب فأقرب.. فهل سيكون لها نصيبا فيما تتمنى و تطمح!؟...و هل ستنال ما يشتهيه قلبها منذ زمن بعيد.. هل.. و هل.. ظلت تتساءل وعينيها تتطلع اليه خفية من موضعها و خيالات وردية تداعب مخيلتها المنتشية بمرأه و صحبته التى اشتاقتها كثيرا.. و لا زالت هل.. بطلة المشهد حتى وصولهما للجامعة اخيرااا..

طرقات على باب مكتبه و بعدها دخل مهران هاتفا بالتحية لينهض حازم فى سعادة هاتفا فى ترحاب:- اهلًا..اهلًا.. ازيك يا مهران و ازى عمى عاصم.. كله تمام..!؟
هتفت مهران معاتبا:- ما انت لو بتاجى كنت هاتعرف بنفسك.. لكن انت تجلان علينا يا باشا..
هتفت حازم مؤكدا:- ابدا و الله.. الشغل بس مبيخلصش و اديك جيت و شوفت بنفسك..

هتف مهران:- الله يكون ف العون.. ربنا يحفظك يا واد عمى..
ابتسم حازم مؤمنا:- اللهم امين..
هتف مهران متنحنا:- بجولك ايه يا حازم.. انا جايلك ف خدمة كِده..
اعتدل حازم فى اهتمام هاتفا:- يا سلام.. انت تأمر يا مهران.. خير ان شاء الله..

هتف مهران و هو يخرج جواله بغية الوصول لرقم هاتف محدد:- بص يا حازم.. انا عايز اعرف مين صاحب النمرة دى ضرورى..
هتف حازم و هو يتناول احد الاقلام و ورقة من على مكتبه:- يا سلام.. بس كده !.. اديهالى و هعمل اتصالاتى و بإذن الله هيكون عندك اسم صاحب النمرة..
أملاه مهران الرقم ليؤكد حازم و هو يضع الورقة التى كتبه بها فى احد جيبوبه:- متقلقش خلال يومين هيكون الاسم عندك.. معلش هتأخر شوية لأننا مشغولين جدا فى موضوع مهم شوية.. أفضى و لو نزلت اجازة هجيب لك كل المعلومات عنه كمان..

هتف مهران بلهفة:- يا ريت..
تنحنح حازم هاتفا:- طب معلش لو فيها تدخل يعنى.. هو صاحب النمرة دى عمل ايه عشان أكون معاك ف الصورة بس !؟..
هتف مهران بضيق:- الصراحة عمل مصايب.. مسبش واحد م الهوارية او التهامية الا لما أذاه.. كن فى تار جديم بينا و بينه..
زم حازم ما بين حاجبيه فى تعجب و ساد صمت للحظات و اخيرا هتف فى استفسار:- طب و انت عرفت المعلومات دى منين يا مهران !؟.. ما يمكن اللى قالها لك بيحاول انه يوقع بينكم و بين شخص ما!؟..

هتف مهران مؤكدا:- مش ممكن.. اللى ادانى النمرة حد منينا.. كان راچله هنا ف النچع و بينفذ كل اوامره بس ربنا هداه..
ابتسم حازم ساخرا:- ربنا هداه !؟.. انت بتصدق يا مهران!؟.. شكلها حركة زى ما بقولك كده..
اكد مهران هاتفا:- لاااه يا حازم.. مش حركة و لا لعبة.. اللى بجولك عليه دِه يبجى ماهر الهوارى..
هتف حازم فى عدم تصديق:- ماهر بن عمتى سمية!؟.. ماهر اخو الشهيد مؤمن!؟..

اكد مهران بإيماءة من رأسه فهتف حازم مؤكدا:- لا.. الموضوع كده شكله كبير فعلا.. خلاص سبنى يا مهران اظبط الحكاية و اجيب لك قرار النمرة دى و صاحبها..
نهض مهران هاما بالرحيل هاتفا:- يا ريت يا حازم.. كل ما كان أسرع كان احسن..
اكد حازم:- طبعا.. ربنا يسهل.. بس انت قمت كده و رايح على فين.. انا طلبت الغدا..

هتف مهران معترضا:- لااه.. غدا ايه دِه انا يا دوب ارچع ع النچع و لو ع الغدا حجك انت اللى تاجى معاى و تتغدى معانا.. دِه عمك عاصم هايفرح جوى بشوفتك..
هتف حازم مبتسما:- يا سلام.. انت جيت ف جمل.. ده انا ما هصدق.. حد يقول لأكل ام سعيد لا برضو..
قهقه مهران:- ما انا بجول برضك.. ياللاه بينا لحسن عمك عاصم يعلجنا ع الشچر لو اتأخرنا على ميعاد غداه..

اندفعا سويا لخارج مكتبه فى سبيلهما للسراىّ و فى الطريق هتف مهران:- بجولك ايه يا حازم.. اللى جولتهولك دِه محدش يدرى بيه.. و لا حد عنديه خبر عنه غيرى.. تمام يا واد عمى..
ربت حازم على كتفه هاتفا:- تمام.. متقلقش.. كله هايبقى تمام ان شاء الله
اكد مهران هاتفا:- ان شاء الله..

وقفت امام مرآتها تتطلع لصورتها المنعكسة عليها فى شرود.. كانت هادئة على عكس عادتها لكن داخلها بركان يمور بحمم من مشاعر و اوجاع تختبرها للمرة الاولى على الإطلاق.. ايّام فاصلة.. بضعة ايّام هى الفاصلة حتى يُذبح الأمل فى ان يكون لها و يضحى ملك لامرأة سواها.. تطلعت من جديد لملامح وجهها الندى فى المرآة و تساءلت... لما كان يتعمد تجاهلى !؟.. لما لم أحظى يوما بإهتمامه!؟.. لما لم يأخذنى على محمل الجد !؟.. لما لم يع مشاعرى !؟.. لما لم يحبنى !؟..

كاد التساؤل يصيبها بالجنون.. ضمت جسدها بذراعيها رغبة فى الاحساس بالأمان و الاحتواء..
انها تحب.. بل تعشق.. تلك الحقيقة الحلوة المرة التى وعتها متأخرة جدااا.. متأخر لدرجة انه ما عاد بإمكانها البوح بها لمخلوق.. متأخر لانها ساعات فاصلة فقط و سيكون لامرأة سواها..امرأة ستحصل على محبته و تنال اهتمامه و تشعر بالأمان و الاحتواء بين ذراعيه.. امرأة سيكون لها كل تلك الحقوق التى تمنت الحصول عليها و عليها تجاهه كل الواجبات التى كانت تتمنى لو هى من تؤديها له بكل رغبة و محبة..

شهقت باكية فى وجع جارف اجتاح روحها عند ذاك الخاطر.. و ما عادت قادرة على الوقوف تتطلع لصورتها الباكية تلك فأنسحبت مبتعدة فى استكانة بإتجاه صوان ملابسها فتحته فى عنف و لاتزل شهقات بكائها تتعالى و تطلعت لملابسها فى استياء هامسة لنفسها:- كان يكره تلك الملابس.. كان يعترض دوما علىّ عندما ارتديها..

اندفعت تجذب تلك الملابس فى غضب هادر من على مشاجبها و تلقى بها ارضا و تدوس عليها بأقدامها رغبة فى سحقها..
اندفعت زينة لداخل غرفة ابنتها رغبة من اخراجها من جو الاكتئاب الذى تعيشه منذ ايّام.. لكن ما ان دلفت للغرفة حتى وجدت هدير امامها بهذا الشكل فشهقت فى صدمة و اندفعت تأخذها بين ذراعيها فى حنو رغبة فى التخفيف عنها.. كانت تعتقد ان هدير تعانى ذاك الاكتئاب و الرغبة فى العزلة جراء إنهاء خطبتها على عمر و لم تكن تدرى ابدا ان الامر اعقد بكثير من مجرد إنهاء خطبة بل الامر يتعلق بوجع فى روحها و ذاك الطبيب الوحيد الذى يحمل دوائها لن يعود قادرًا على مداواته ابدااا..

اندفع حازم مغادرا السراىّ على عجل حتى يلحق بعمله الذى تركه مخلفا اياه ممنيا نفسه بطعام ام سعيد الذى لا يقاوم و الذى نال منه كفايته اليوم..
و ما ان هم بمغادرة النجع حتى توقف فجأة عندما هتف به حمزة و هو يعبر جواره بعربته.. ترجل حازم مبتسما فى سعادة ما ان ترجل حمزة بدوره هاتفا به فى عتاب:- بجى تاجى النچع و متعديش علىّ.. خيانة كَبيرررة..

تلقاه حازم بين ذراعيه رابتا على ظهره فى مودة و مؤكدا:- عندك حق و الله بس كنت عند عمى عاصم.. عزومة بالإكراه زى ما انت عارف..
قهقه حمزة ليستطرد حازم مبتسما بدوره:- و ادينى كنت راجع الشغل جرى.. و كمان عارف انك مش فاضى..
كان حازم يشير لموعد عقد قرانه الذى اقترب موعده على استحياء و شعور بالذنب يكبله..
هتف حمزة موبخا:- يعنى مش للدرچة دى.. بجولك ايه اوعى تكون نازل اچازة جريب..

ابتسم حازم مداريا ذلك الوجع الذى يرتع بصدره مؤكدا:- لا عندى شغل كتير قووى يمكن اخد فترة على بال ما انزل اجازة.. بس ليه !؟..
اكد حمزة فى غيظ:- هيكون ليه يعنى!؟..عشان انت هتكون م الشهود على عجد الچواز.. و مفيش اعذار.. هاتبجى و هاتاجى..
غام وجه حازم و ما عاد قادرًا على المدارة الا انه استجمع رباطة جأشه ببسالة و هتف و هو يربت على كتف حمزة فى محبة حقيقة:- اكيد يا حمزة.. ده انت اخويا..

ابتسم حمزة فى أريحية:- معلوم طبعا.. هستناك انت و عمى.. و استطرد مازحا:- بجولك ايه.. تعال نعشوك.. اكل ام سعيد مايجيش حاچة چنب اكل امى..
أنتفض حازم مدعيا الذعر:- لا.. الرحمة.. اكلة زى بتاعت ام سعيد كفاية عليا ف الاسبوع..اكلتين زى دى ف يوم واحد !؟.. انت عايز تقضى عليا!؟..
قهقه حمزة:- انت لسه متعودتش و لا ايه !؟..
اكد حازم:- هو اكل العساكر ده اكل!؟.. و لا الاكل من بره بيبقى له طعم اصلا!؟..

اكد حمزة:- طب ما تشد حيلك و تحصلنى يا واد عمى.. و لا طفشت العروسة باينك !؟..
ابتسم حازم و لم يعقب فلم يكن قد اشاع نبأ انفصاله عن نهلة حتى اللحظة و لم يشأ ان يعكر صفو اجواء الفرحة التى تدق على الأبواب بخبر كهذا..
هتف حازم مخرجا نفسه من خضم خواطره و هتف مستعدا للرحيل:- اشوفك على خير بقى..
اكد حمزة:- على خير يا واد عمى.. هستناك يوم كتب الكتاب.. و اهو بالمرة تشوف عمى مادام هتجعد فترة جبل ما تنزل اچازة..

اكد حازم بايماءة من رأسه و استقل سيارته مودعا و مشاعر شتى تتنازعه.. يتصارع بساحة صدره العديد من الاحاسيس التى لم يعد قادرًا على كتمانها و لا حتى لديه الشجاعة للبوح بها..
و ما بين نوح تلك المشاعر لسجنها بهذا الشكل و ما بين رغبتها فى نيل حرية البوح يقف هو مذبوحا فى منتصف طريق اللاعودة..

تعالت الزغاريد صادحة من الأسفل فأنتفضت تتطلع حولها فى تيه و اخيرا ادركت انها بحجرتها التى اتخذتها ملجأ منه بعدما حدث بينهما بالامس.. دمعت عيناها لكنها قررت ألا دموع اخرى على الاقل امامه.. ستصبح تلك القوية القادرة و لن تدع الفرصة لاى من كان ان يكسرها و يهدر كرامتها ما حيت..

تنبهت انها لاتزل بثوب زفافها و بالتأكيد تلك الزغاريد الناعقة بالأسفل دلالة على قرب صعودهم للمباركة بالصباحية الميمونة.. ابتسمت فى سخرية و قررت ان تنهض لتبديل ثوبها الذى اختارته بعناية و حب معتقدة انه بداية السعادة فإذا به بداية لدرب الشقاء..
و كانت على حق فما هى الا دقائق حتى علت وتيرة الزغاريد و بدأ الطرق على باب شقتهما..

اندفع حامد من الغرفة متطلعا حوله فى اضطراب لا يعلم ما عليه فعله.. هل يفتح لهم ام ينتظر قليلا حتى يتأكد انها وعت بمقدمهم و انها على استعداد لمقابلتهم!؟.. ظل للحظات على تيهه حتى اندفع عازما على فتح الباب لتطل منه امه فى مقدمة المسيرة ترفع عقيرتها بأصداء متتالية من الزغاريد المبتهجة فى فرحة غامرة تبعتها هداية و سكينة..

وضعت كل واحدة منهن حملها على الطاولة متطلعات لحامد فى حبور تبارك كل واحدة بعبارات السعادة و الدعاء بالذرية الصالحة حتى علت فجأة الزغاريد من جديد جعلته ينتفض و النساء تتطلعن الى العروس التى جاءت تمشى على استحياء من ناحية الحمام فتنبه لها و دق قلبه فى عنف..
كان كأنه يراها للمرة الاولى تماما.. كانت رائعة بحق بذاك القميص الحريرى الابيض و مئزره المطرز برقة و شعرها الحريرى الذى انسدل على كتفيها و عانق خصرها فى اغراء يفقد الذاهد عقله..

شعر بالذنب يكاد يقتله اختناقا فقد تذكر انه ما رأها بالامس من الاساس و ما سمح لها بان تكشف له عن عائشة التى لا يعرفها و لم يرها الا اللحظة فقط..
كانت هادئة وادعة ترسم على شفتيها ابتسامة خجلى يعرف تماما دون غيره انها تدارى خلفها وجعا بحجم الدنيا و عمق البحار.. وجعا يئن فى صمت لا يسمعه الا هو.. انين يكاد يورثه الجنون و الرغبة فى عمل المستحيل حتى يرجع عقارب الساعة للوراء بضع ساعات ليجنبها و يجنب نفسه هذا الالم القاتل الذى يشملها و ذاك الذنب الميت الذى يعتريه..

انتفض من جديد عندما هتفت امه فى سعادة:-الف مبروووك.. يا رب بالذرية الصالحة النافعة يااارب..
و نهضت من موضعها بإتجاه عائشة و اخرجت من جيب جلبابها علبة مخملية فتحتها و اخرجت منها قلادة رائعة و انحنت تضعها حول جيد عائشة فى سعادة هاتفة:- دى نجوطى انا ويونس حماكِ يا مرت ولدى..تعيشى و تلبسى يا مرت الغالى..

ابتسمت عائشة فى سعادة ممتنة و همست:- الله يبارك فيكم و تعيشوا و تهادوا يا رب..
و كذا فعلت سكينة و هداية التى رغم محاولة عائشة مدارة حزنها خلف ابتسامات الحياء المصطنعة تلك الا انها كانت قادرة على رؤية ما ورائها و قررت ان تعرف فيما بعد سبب ذاك الحزن الكامن فى نظرات اختها و ابنة عمها..

نهضت النسوة و تعالت الزغاريد مرة اخرى ليرحلن فى سعادة داعيات بدوام الفرحة..
ما ان غبن خلف الباب حتى اندفعت هى لتعود لحجرتها التى اختارتها منذ الامس بعيدا عن حجرتهما المشتركة التى تذكرها بخيبة املها..
كان هو الأسبق اليها ليوقفها قبل ان تغيب خلف بابها ممسكا بذراعها هاتفا:- عيشة.. استنى.. انا..

استدارت برأسها قليلا متطلعة اليه فى غضب و همست بهدوء متناقض مع ما يعتمل بداخلها من مشاعر قهر و وجع:- انت ايه يا باشمهندس!؟.. انت مليكش عندى من النهاردة الا أكلتك و هدمتك غير كِده مدورش على عيشة.. و أنسى انك تعرفها م الاساس.. و مظنيش ان ده هيكون صعب عليك لانك عمرك ما كنت شايفها من اصله..

و جذبت ذراعها محررة اياه من اسر كفه و اندفعت لحجرتها تغلق بابها خلفها فى هدوء لتبدأ فى نوبة من بكاء مكتوم يحمل وجع الدنيا
تحاول مداراة شهقاتها فى صدرها حتى لا تتعالى فتتناهى لمسامعه.. فيكفيها..فهى ليست بحاجة لشفقته و لا اى مشاعر اخرى تأتى من قبله.. يكفيها و زيادة..

تجمعت العائلتان فى دار التهامية التى تزينت و علت فيها الموسيقى الصادحة.. فالليلة هى الليلة الموعودة و التى سيعقد فيها قران حمزة و تسبيح.. وصل المأذون فتعالت الزغاريد من كل صوب و حدب على طول و عرض المنزل و خاصة فى طابقه الثانى حيث يتجمع معظم نساء العائلتين حيث تجلس العروس بعد إتمام زينتها فى انتظار أخبارها بإتمام مراسم عقد القران..

علا الغناء و الطبل و جلست العروس وسط حشد النساء اللاتى تجمعن فى سعادة فى تيه تعلو وجهها ابتسامة باهتة و نظراتها زائغة و كأنها تبحث عن شئ ما لا تعرف كنهه.. روحها هائمة فى مكان اخر تحوم كغيمة وردية فى سمائه البعيدة..

هى لا تعرف كيف وافقت على إتمام عقد القران و لكن ما كان بامكانها الا ان تفعل.. هى لحمزة منذ أعلنت موافقتها على الاقتران به و اصبحت مكتوبة باسمه و أصبح الجميع يعلم انها زوجته قبل ان يتم ذلك رسميا فتلك الامور فى النچع لها طابعا مميزا عنها فى المدن.. هنا ما ان يطلب احدهم يد فتاة و توافق يصبح الجميع على علم بأنها أضحت زوجته قبل ان تتم مراسم زواجهما رسميا.. كتبت على اسمه و ما عاد احد بقادر على ان يفكر فيها كزوجة مجرد تفكير..

تعالت الزغاريد مرة اخرى عندما تم إنهاء الإجراءات الورقية و صعد باسل اخيها اول درجات السلم للطابق الثانى ينادى على امه او اخته تسنيم كى تستدعى احداهما العروس لتأتى و تزيل بامضاءها و بصمة إصبعها وثيقة الزواج قبل إتمام صيغة عقد القران..

استفاقت تسبيح من شرودها و تسنيم تهز كتفيها تخبرها انهم بحاجتها بالأسفل من اجل إتمام الإجراءات.. هزت رأسها فى تفهم و نهضت تلحق بأخيها باسل على الدرج.. دخلت مجلس الرجال لتتعالى الزغاريد من جديد لترتجف هى من رأسها لأخمص قدميها فكل خطوة تخطوها تتقدم الى تلك الطاولة هناك و التى ترى عليها الان أوراق و دفتر كبير تقربها اكثر من تلك الحقيقة التى اصبحت ماثلة امام عينيها أوضح من شمس الظهيرة..

و خاصة عندما لاح امام عينيها حمزة جالسا فى صدر المجلس بجوار ابيها و أخيه حامد و ها هو باسل اخيها و بجواره خالها عاصم و هناك عمها زكريا.. لكن اين حازم.. تراه لم يأتى.. و لما!؟.. كانت تعلم ان حمزة اصر ان يكون حازم احد شهود عقد القران..
و بالفعل ما ان وصلت الطاولة و همت بإمساك القلم للإمضاء حتى هتف حمزة موجها تساؤله القلق لزكريا - امال حازم فين يا عمى !؟.. مش جال هيأچل كل حاچة عنده النهاردة و ياجى يشهد ع العجد!؟..

ابتسم زكريا فى اضطراب هاتفا:- ايوه جال.. ربنا يرد غيبته و يچعلها على خير..
اهتز القلم بين أصابعها و هى تحاول التماسك لتزيل باسمها الأوراق لكن لا فائدة فما ان جاء ذكر اسمه على مسامعها حتى بدأت ترتجف كالمحمومة لا تستطيع السيطرة على انفعالاتها..

مارست جهد جبار حتى تستجمع ما تبقى من ثباتها و انحنت تمضى الأوراق الا ان احدهم دخل القاعة كالإعصار هاتفا فى ذعر:- ألحج يا زكريا بيه.. حازم بيه خطفوه المطاريد ف الچبل..
كان هذا ما ينقصها فى تلك اللحظة لتفقد كل ما تملك من ثبات و قوة حاولت ان تدعيها طوال الأيام الماضية لتفقدها كلها دفعة واحدة لتسقط فاقدة الوعى صارخة بإسمه فى قلب مجلس الرجال...

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 9 من 36 < 1 20 21 22 23 24 25 26 36 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
رواية ، ميراث ، العشق ، والدموع ، موال ، التوهة ، والوجع ، رباب ، النوح ، والبوح ، العمر ، وزواده ،











الساعة الآن 05:02 AM