رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون
فتح باب شقته فى تكاسل و همة خائرة و تمنى من صميم قلبه ان لا يجدها بالداخل و لكن تلك الحركة الحثيثة التى يسمعها كانت لها و هى تعد له طعام العشاء.. تعجب من حاله فقد نزل عنها لشقة ابيه بحال و صعد اليها بحال مغاير تماما و حمد الله انه لم يتهور و يطاوع قلبه و يخبرها بمكنوناته و الا كان فى تلك اللحظة فى موقف يحسد عليه و خاصة بعد ما قرأ رسالة اخيه الراحل و ما تضمنته..
تنهد فى ضيق و هو يدلف للداخل و لم يلق التحية كعادته بل اندفع لحجرته كالطلقة حتى انها توقفت مدهوشة و هى تحمل الأطباق فى سبيلها لوضعها على المائدة و هى تراه على هذه الحالة المذعورة.. تبعته فى هدوء و طرقت باب غرفته لكن لا مجيب فما كان له القدرة على الرد.. عاودت الطرق هاتفة فى بساطة:- العشا جاهز يا ناصر.. مش هتاكل و لا ايه !؟..
اخيرا وجد صوته و هتف فى اضطراب:- لا مش هاكل.. مش عايز.. تنهدت فى تعجب و ما ان همت بالابتعاد عن باب الغرفة حتى عاودت الرجوع اليه فى تهور مدفوعة برغبتها فى معرفة ما يجرى و بالفضول لكشف حقيقة تمنعه عن تناول العشاء معها فهى ليست عادته فقد استشعرت فى الأيام الماضية كيف كان ذلك يسعده و ان اجتماعهما معا بات شئ مستساغ بل محبب له اذا جاز لها التعبير و ان لم تكن مشاعرها تخونها.. فقد بات يأنس لها و يستطيب عشرتها طرقت الباب من جديد فى اصرار هاتفة:- انا مش هاكل الا لو انت طلعت تاكل..
هتف و هو يفتح الباب بعنف مزمجرا:- عنك ما كلتى.. ما ان فتح الباب و طالعه محياها المصدوم لقوله الجاف و تلك الدموع التى تترقرق فى تلك اللحظة على حافتى عينيها التى يعشق حتى صرخ بلا وعى منه:- فيه ايه!؟.. انتِ عايزة منى ايه!؟.. سبينى ف حالى بقى.. حلى عنى..
و اندفع خارج الغرفة متخطيا إياها فى قسوة جعلتها تهتز حتى كادت تسقط مترنحة و خرج صافقا الباب خلفه فى شدة لتنفجر باكية و هى لا تعلم ماذا جنت حتى يكون هذا هو رد فعله..
قفز هو درجات السلم لأعلى فى سرعة مدفوعا بتلك النيران المتأججة بصدره و التى اشعلتها نظراتها تجاهه ما ان فتح باب غرفته ليطالعها قبالته تلومه و تجلده.. تنهد فى ضيق و هو يجلس على تلك الأريكة بالسطح محاولا إلتقاط انفاسه فى تلاحق لعلها تطفئ بعض مما يعانيه و تخفف و لو قليلا من ذاك الوجع الذى يستشعره بروحه..
تمدد على الأريكة و هو يتحسس خطاب اخيه الذى أودعه جيب سترته التى ضمها حول جسده و هو يتمدد على الأريكة الخشبية و قد بدأت نسمة الخريف الليلية تشتد برودة.. انه لن يعاود الهبوط لشقته فلا قبل له لمواجهتها من جديد و تلك النظرات المتسائلة فى براءة ستظل تلاحقه بالسؤال عن جريرتها و لا اجابة لديه.. و بالمثل لن يستطع النزول للمبيت فى شقة ابيه و الا بدأت التساؤلات من هنا و هناك عن السبب الذى دفعه لترك شقته و النزول للمبيت بالأسفل..
سيضطر للمبيت ها هنا و ليكن ما يكون و لكنه ابدا لن يدخل الشقة الا و هى ليست فيها.. لن يخون ذكرى اخاه مهما حدث.. لن يطل اى شئ كان له او حتى تمناه يوما بالتدنيس ابدا.. عاود ضم سترته اليه و شبك ذراعيه امام صدره و راح فى نوم عميق بعد فترة لا بأس بها من التفكير و المعاناة التى لازمته طويلا و يبدو انها تأبى المغادرة و استطابت البقاء.
طاف زنزانته عشرات المرات لعله يهدأ و لو قليلا لكنه ظل على حاله يتأكله القلق و يعصف به الغضب من جراء ما يحدث له و الذى لا يعرف كيف حدث من الاساس!؟..
و الأدهى من هذا كله هو ما حدث من هدير ابنة عمه..و تساءل.. ماذا يجرى!؟.. انها المرة الاولى التى يراها على هذه الحالة.. انها المرة الاولى تماما التى يشعر فيها انه شخص غالى عند احدهم.. و انه موضع ثقة لا حد لها فقد هتفت بكل جرأة انه برئ من اى ذنب و لا يمكن ان يكون قد ارتكب اى جرم و هى حتى لا تعرف ما هى جريرته من الاساس.. برأته قبل ان تعرف جريمته او حتى تستمع الى الاتهامات الموجهة اليه..
شعر بوجيب غريب يطرق قلبه و هو يستعيد لحظة هتافها بأسمه بكل هذا الكم من الالم و اللوعة فأنفطر فؤاده.. ضرب الحائط بقبضة مضمومة كاد يدميها و هو لا يعرف ما عليه فعله.. و جذب نفسه من خواطره تجاه ابنة عمه العزيزة ليوجها عنوة تجاه تلك المصيبة التى تنتظره و التى لا يعلم متى حلت عليه !؟.. و ما الذى يتوجب عليه القيام به لينفيها عنه !؟.. انه لم يقترف ذنب.. و لم يفعل يوما ما يغضب ربه.. فكيف به يقوم بفعلة كتلك!؟..
جلس على احدى المصاطب الاسمنتية فى تلك الزنزانة الباردة و وضع رأسه ما بين كفيه هاتفا فى تضرع:- يا رب.. انا معمِلتش عمرى اللى يغضبك.. يا رب لچل امى الغلبانة اللى ممكن تموت بحسرتها على.. و عمى اللى حط أمله كله فيا.. نچينى يا رب.. ووجد نفسه دون ان يدرك همس على استحياء و نبضات قلبه طبول حرب تعلن عن شئ ما ينمو هاهنا و رغما عن ارادته:- وعشانها هى كمان يا رب.. عشان تعرف ان ظنها كان ف محله.. و ان حمزة عمره ما يعمل كِده ابدا..
دمعت عيناه رغما عنه و كانت المرة الاولى تماما التى يستشعر فيها حرارة الدمع بمقلتيه.. دمعت عيناه لحاله و لحال أحبته عندما يصلهم الخبر و اخيرا على حالها و عاود صراخها باسمه يهز جنبات روحه من جديد ليدرك انه ما عاد حمزة القديم الذى كان يُؤْمِن ان قلبه قُد من حجر.. و لكن اما آن للصخر ان يلين!؟..
كانت ثريا في غرفة الحاجة فضيلة كعادتها كل فترة و تحدثتا سويا عن سيد العشماوي و افعاله.. و انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة عندما قصت عليها ثريا ما حدث في الموقع و مظهره بعد سقوطهما دون ان تخوض في الحديث عن كثير من التفاصيل المحرجة.. و ما ان همت بالإستئذان حتى تذكرت امرا فأستدارت و قد استدركت راغبة فى سؤالها عن سيدة و قد شغلها سؤال سيد عنها يوم ان كان هنا اخر مرة فهتفت فى تساؤل:- ألا بالحج يا حاچة.. تعرفى ايه عن سيدة المچذوبة!؟..
تنبهت فضيلة للأسم و صمتت لبعض الوقت تقلب فى دفاتر ذاكرتها و اخيرا هتفت فى تساؤل:- تجصدى سيدة بت الحاوى!؟.. هتفت ثريا:-مش عارفة.. اللى اعرفه و بسمعه بيجولوه عنيها.. سيدة المچذوبة لكن ايه حكايتها و لا هى بچت كِده ليه!؟.. معرِفش.. تنهدت فضيلة فى حسرة هاتفة:- اللى انتِ وعيالها مچنونة دى كانت جمر اربعتاشر.. سبحان الله.. بس بجت كِده ليه و ازاى.. انى كمان معنديش علم.. بس تعرفى مين اللى يعرف حكايتها كلها !؟..
هتفت ثريا فى فضول:- مين!؟.. اكدت بخيتة:- نچاة.. امك.. هتفت ثريا فى تعجب:- امى تعرفها!؟..عچيبة..عمرى ما سمعتها بتتكلم عنيها من اساسه..
هتفت فضيلة مؤكدة:- لاااه.. امك تعرفها عز المعرفة و كانوا حبايب جوووى بس فچأة لجينا سيدة اختفت هى و ابوها و محدش عارف فين أراضيهم و امك اتچوزت ابوكِ وچات على هنا.. و بعدها بياچى كام سنة لجيناها رچعت و مبتتكلمش و لا كنها تعرف حد.. و شوية و بجت زى ما انتِ وعيالها كِده.. عجلها خف.. ايه السبب !؟..و ايه اللى خلاها تروح من هنا!..و ليه رچعت!؟..و ايه اللى حصل لها و حصل لأبوها!؟.. العلم عند الله يا بتى.. ربنا يتولاها.. همست ثريا بدورها:- ربنا يتولاها.. اسيبك يا حاچة تستريحى و اروح انى اشوف حالى..
تمددت فضيلة على فراشها بغية الحصول على قسط من الراحة و قد حان وقت قيلولتها المعتادة و همست ناعسة:- روحى يا بتى.. روحى.. خرجت ثريا من حجرة الحاجة فضيلة و قد زاد فضولها لمعرفة من تلك المجذوبة التى كانت فى يوم ما احدى جميلات النجع و صديقة مقربة لأمها..
تطلعت سكينة الى تلك التي هلك الحزن و البكاء عينيها و تنهدت في ضيق هاتفة:- انتِ لساتك على حالك يا بتى!؟.. هو انى مش جلت لك هلاجلها حل.. هتفت كسبانة في قلة حيلة:- يعنى حيلتى ايه يا خالتى !؟..انى عارفة ان يونس ميعملهاش بس مش يمكن تحلا ف عينه و البت صغار و حلوة.. و دى وصية برضك يا خالتى..
هتفت سكينة:- حيلتك كَتير.. و الحل تحت يدك و انت مشيفاهوش.. تطلعت كسبانة نحوها مستفسرة و هتفت عندما طال الصمت:- جصدك ايه يا خالتى!؟.. و الله ما فيا دماغ أفكر و لا أدور على حلول لا تحت يدى و لا تحت رچلى..
ابتسمت سكينة و هي تربت على كتفها تهدئ من روعها هاتفة:- ولدك حامد هو الحل.. هتفت كسبانة متعجبة:- حامد !؟.. و ايه دخل حامد ف اللى احنا فيه دِه !؟.. اكدت سكينة:- دِه هو الحل اللى بتدورى عليه يا حزينة.. ليه ما يتچوزش عيشة بدل ابوه !؟.. فغرت كسبانة فاها في دهشة متطلعة الى سكينة تحاول استيعاب ما تصرح به و هتفت أخيرا في تعجب:- بتجولى حامد يا خالتى !؟.. طب و هو يرضى برضك!؟..
هتفت سكينة متعجبة:- و ميرضاش ليه !.. البت صغار و حلوة زى ما لساتك جايلة و على كد يدنا.. همهمت كسبانة بعدم اقتناع ثم هتفت:- لكن يا خالتى الواد لسه طالع من حكاية زميلته اللى كان رايدها دى..احنا ما صدجنا انه اتعدل شوية و راج.. مظنيش انه يوافج..
هتفت سكينة ممتعضة:- يا چلعكم الماسخ..و ايه فيها واحد عشج و لا طالشى.. لا هو اول واحد و لا هايبجى الأخير.. چوزى ولدك و اضمنيه چارك مع واحدة بت حلال تصونه و تريحه.. صمتت كسبانة دون ان تنطق حرفا تحاول ان تدرس كلام سكينة من كل الجوانب و تحاول استنتاج رد فعل حامد اذا ما فاتحته في الامر..
نهضت سكينة متأهبة للرحيل عنها هاتفة:- انى جلت اللى عِندى و انتِ بشوجك يا مرت ولدى..اروح انام انى بجى.. تصبحى على خير.. هتفت كسبانة في لهفة تستوقفها:- بجولك ايه يا خالتى !؟.. مين اللى هيفاتح حامد ف الموضوع دِه طيب !؟ ابتسمت سكينة و قد شعرت ان زوجة ولدها قد اقتنعت بشكل كبير للفكرة و تبحث عن إمكانية التنفيذ فهتفت تريح قلبها:- و لا تحطى ف بالك.. انى أكلمه.. و مش هسيبه غير لما يجول امين.. و ايه رأيك.. هكلمه دلوجت..
هتفت كسبانة:- دلوجت يا خالتى.. الصباح رباح.. هتفت سكينة:- لاااه.. خير البر عاجله.. انى هكلمه.. خلونا نفضوه الموضوع الماسخ دِه.. و الله لولا ما حمزة خاطب بت عمته سهام لكنت جلت نجوزوها لحمزة و ما كان جال لااه مش ولدك المچلع.. و اندفعت سكينة لحجرة حامد تطرق بابها و دخلت و أغلقت بابها دون امه التي ظلت بالخارج تنتظر جواب ولدها الذى قد يريح قلبها..
جلست سكينة بجوار حفيدها على فراشه هاتفة في محاولة لدفع الحوار لنقطة تنطلق منها لتفاتحه في الامر:- بجولك ايه يا حامد..انت مفكرتش تتچوز !؟.. تنهد حامد متطلعا اليها بنظرة جانبية متعجبا من منحى الحوار و همس بصوت يحمل شجنا:- ما چربنا يا ستى و انت عارفة كان ايه اخرتها.. وچع جلب و جلة جيمة..
ربتت سكينة على كتفه مواسية و صمتت لحظة ثم ابتدرته هاتفة:- طب انت چربت من ناحيتك.. ايه جولك تچرب من ناحيتى!؟.. تطلع حامد اليها متعجبا ثم هتف مستفسرًا:- يعنى ايه !؟.. مش فاهم جصدك يا ستى.. و ما ان همت بالكلام حتى اعتدل بغتة و كأنه ادرك مقصدها فهتف متسائلا في دهشة مازحا:- كنك چيبالى عروسة يا سَكينة !؟.. صح..!؟
ابتسمت و قد ارتاحت انه ادرك مقصدها و استطرد هاتفا يحاول تحويل مجرى الحديث لمزيد من المزاح كعادته:- و مين اللى أمها داعية عليها دى و ترضى تاخدني !؟. هتفت سكينة مستنكرة:- بعد الشر عنك و عنيها.. جول أمها داعية لها و هو في ف حنيتك و لا طيبة جلبك يا واد ولدى.. ابتسم حامد و رفع كف جدته يلثمها في محبة هاتفا في لهجة مرحة:- الجرد ف عين امه غزال..
قهقهت سكينة و هتفت:- يخيبك.. جرد..و الله العروسة اللى بجولك عليها بت حلال.. و زى الجمر..و بتاعت معايش و على كد يدنا.. بس انت جول اه.. كان دور حامد ليقهقه هاتفا:- اجول اه عميانى يا ستى من غير حتى ما أشوفها و لا حتى اعرف هي مين.. هتفت سكينة مؤكدة:- انت تعرفها يا حامد.. تطلع اليها مستفسرًا لتستطرد عازمة على إنهاء الامر:- عيشة يا حامد يا ولدى.. ايه جولك!؟..
هتف فاغر الفاه:- عيشة بت عم ابوى!؟.. اومأت سكينة برأسها إيجابا ليكمل هتافه المتعجب:- عيشة اللى المفروض ان ابويا هو اللى يتجوزها عشان ينفذ وصية چدى حامد!؟.. اومأت سكينة رأسها إيجابا مرة أخرى في صبر على رد فعله المتعجب..
ساد الصمت للحظات و عندما وجدت سكينة انه ما عاد لديه ما يصرح به نهضت في تثاقل متوجهة نحو باب الغرفة و همست أخيرا:- خد وجتك و فكر.. و چدك لما وصى ان ابوك يتچوزها عشان بس خايف عليها و عايز يصونها لانها كانت غالية عليه زى عمتك هداية بالتمام.. فكر يا حامد ازاى هتريح جلب امك اللى انفطر من ساعة ما عرفت الوصية دى.. فكر زين يا ولدى.. چربت جلبك مرة.. چرب عجلك المرة دى..
و ما ان همت بفتح الباب مغادرة حتى هتف حامد يستوقفها في لهفة:- ستى!.. استدارت تتطلع اليه دون ان تنبس بحرف واحد.. ازدرد هو ريقه هاتفا في اندفاع:- انى موافج.. تهلل وجه سكينة بالبشر و امأت برأسها إيجابا و خرجت و أغلقت باب حجرته خلفها و تطلعت لكسبانة في سعادة و ما كانت كسبانة بحاجة لقول المزيد بعد ما قرأته على صفحة وجه خالتها المرسومة على قسماته الفرحة.. فأتسعت ابتسامتها أخيرا بعد ان غادرتها منذ زمن..
همت كل منهما بالخلود للراحة الا ان رنين الهاتف في تلك الساعة جذب انتباهمها و ما ان همت كسبانة بالرد حتى كان حامد الذى اندفع من حجرته تجاه الهاتف ليكون المجيب.. لحظات و انقلبت ملامح حامد للنقيض بعد ان كان يمازح محدثه على الطرف الاخر و هتف في ذعر:- كيف ده !؟.. امتى حصل و ليه !؟..
هرولت سكينة تجاه حفيدها و كذلك كسبانة متطلعة اليه ما ان أغلق الهاتف صارخة في قلق:- ايه في يا حامد.. انطج !؟.. اخوك حمزة فيه ايه!؟.. هتف حامد في حزن:- حمزة مجبوض عليه في چريمة تهريب كَبيرة.. هتفت كسبانة صارخة:- لااااه.. حمزة لااااه.. و سقطت فاقدة وعيها ليتلقفها حامد بين ذراعيه...
استقبله باسل على باب الحديقة الخلفى هاتفا فى مرح:- واااه طولت الغيبة يا واد خالى.. عامل زى هلال العيد.. ابتسم حازم مؤكدا:- معلش بقى يا باسل و الله الشغل مبيخلصش.. هتف باسل رابتا على كتفه فى مودة:-الله يكون ف العون يا واد خالى شغلكم صعب.. ربنا يحميك و يحفظك.. ابتسم حازم:- تسلم يا باسل ربنا يخليك..
تطلع حازم بعينه حوله فى حذّر.. يموت شوقا لرؤيتها او حتى التطلع اليها من بعيد.. يموت شوقا و ذنبا.. شوقا يتنازعه لمرأها و ذنبا يحيك بصدره لاندفاعه للمجئ لرؤيتها رغم علمه ان تلك ليست ابدا اخلاقه و لا طباعه لكن لا سيطرة له على ذاك الدافع البغيض الذى يجذبه كمغناطيس الى هنا فقط لمطالعة محياها..
تنبه ان باسل يكلمه فانتفض من شروده هاتفا:- هااا.. بتقول ايه يا باسل !؟.. ابتسم باسل مازحا:- وااه روحت فين بعجلك يا واد خالى !؟.. ايووه عارفها انى التوهة دى.. دى توهة عاشج.. انتفض حازم و زم ما بين حاجبيه فى اضطراب الا ان باسل استطرد فى أريحية:- تلاجي بجالك كَتير منزلتش اچازة و لا شفتش خطيبتك!؟.. حجك تنزل.. الحالة اللى انت فيها دى ما يتسكتش عليها ابدا..
و قهقه باسل ليبتسم حازم و ضربات قلبه قد علت حتى تجاوزت الحد المسموح به ما ان طلت هى على الدرج قادمة إليهما فى هوادة تحمل صينية الشاي.. رن هاتف حازم فى تلك اللحظة فأنتفض من جديد و تناوله يرد فى سرعة على ابيه يدارى ذاك الاضطراب الذى اعتراه من مجرد رؤيتها تتوجه صوبه:- ايوه يا بابا.. تمام..ايه.. بتقول ايه !؟.. حمزة.. لا مش ممكن..
كانت تسبيح قد وصلت لمجلسهما حتى ألتقطت مسامعها اسم حمزة فتوقفت فى قلق تتطلع لباسل.. ما ان انهى حازم مكالمته حتى هتف فى عجالة:-انا أسف يا جماعة لازم أمشى دلوقتى.. و انا أسف انى أبلغكم ان حمزة اتقبض عليه فى جريمة تهريب كبيرة و لازم انزل إسكندرية حالا.. هتف باسل مصدوما:- لا حول و لا قوة الا بالله..
اما تسبيح فلم تتمالك أعصابها و سقطت صينية الشاى من بين كفيها و اندفعت مبتعدة عن المجلس بمن فيه لا تقوى على النظر له و كأنما استشعرت ان الله يعاقبها بما يحدث نظرا لخواطر قلبها اللعين الذى لا يطاوعها و ينحى بمشاعره تجاه اخر..
اما حازم فقد اندفع مستقلا سيارته و قد شعر بمزيد من الضيق يعربد بصدره.. ضيق لما يحدث لحمزة و الذى يعلم علم اليقين انه لا يمكن ان يرتكب ذاك الجرم ابدا..و ضيق اخر مشمول بالذنب لردة فعلها التى طالعها بنفسه منذ لحظات عندما سمعت النبأ المشؤوم على لسانه شعر بالشفقة عليها و فى نفس اللحظة عربد شعور قاتل بالغيرة لمرأها حزينة على ما يحدث لحمزة.. انه يكاد يختنق و لا سبيل لديه للنجاة.. تنهد فى غضب ظاهر ليس من طبعه ابدا و ضرب على مقود السيارة فى عنف و هو يختنق بمشاعره المشوشة و ذنبه الذى يتسربل فيه..
طرق بابها متعللا بالاطمئنان عليها على الرغم من علمه بانه يريد ان يلقى أحماله على أعتابها كما كان يفعل دوما.. دلف لحجرتها و تنهد و هو يراها تتمدد على فراشها فى سكينة كان يظنها نائمة و ما ان هم بالخروج حتى هتفت أمره:- تعال يا عاصم.. انى مش نعسانة.. ابتسم فى محبة و ترك الباب مواربا و دخل اليها حتى جلس على طرف فراشها و انحنى يرفع كفها مقبلا اياه مما حملها لتستطرد فى لهجة العالم ببواطن الامور:- خير يا عاصم.. ايه فى يا ولدى!؟..وعيالك مش رايجين !؟..
تنهد عاصم مجددا هامسا بضيق:- الحمل زاد على كتافى يا حاچة.. حمل و هم تجيل جووى.. تنهدت بدورها و هى تربت على كفه هاتفة:- متجوليش كِده..انت شَديد جووى كيف الچبل.. و انى عرفاك لو كد الهم دِه عشر مرات هتشيل و ما تجوليش اااه..بس انت جول يا رب.. هتف عاصم متضرعا:- ياارب..
كان مهران فى سبيله للدخول لغرفة جدته و سمع بعض من همس والده معها.. كان قادما بدوره يلقى همومه على مسامعها لعلها تخفف عنه بعض مما يعانى فوجد ان أباه قد سبقه اليها.. فقرر التخفيف عنه فدخل باشاً يهتف فى مرح:- اااه.. لجيتك مع حبيبك يا ستى.. ماليش عازة انى بجى.. هتفت الحاجة فضيلة بمحبة:- برضك يا مهران.. هو انى أجدر استغنى عنيك.. دِه انت واد الغالى و على اسم الغالى يا حبة جلبى.. انحنى مهران يقبل جبينها فى محبة لتهتف الحاجة فضيلة مستطردة:- ودونى عند ماچد.. عايزة اشوفه يا عاصم..
تنبه كل من عاصم و مهران لطلبها العجيب و نظر كل منهما للأخر مستفسرًا لعل احد منهما قد قَص لها ما حدث لماجد و ما اعتراه بسبب فقده لقدمه لكن كل منهما اكد انه ما فعل و قد انتبهت لنظراتهما المتعجبة فهتفت باسمة:- ايه فى!؟...ايوه عرفت كل حاچة حصلت لماچد.. و مش هجولك غير رد الحاچ مهران لما كنت استعچب زييكم كِده لما ألاجيه عارف كل اللى بيچرى ف السرايا.. كان يجول لى.. هو اكمنى بجيب أسد عچوز مش هعرف اللى بيچرى ف دارى!؟.. ابتسم عاصم فى شجن رابتا على ظاهر كف امه الممدودة امامه هاتفا:- يديكى الصحة و طولة العمر يا حاچة.. بس ماچد عِملناله أوضة تحت عشان ظروفه اللى چدت..
و تحشرج صوت عاصم تأثرا و استكمل متسائلا:- كيف هتنزليله يا حاچة !؟.. هايبجى تعب عليكِ.. هنا تدخل مهران هاتفا:- ليه!؟.. و انى رحت فين !؟.. و الله يا ستى ما اخليكِ تمسى الارض و هشيلك لحد تحت.. انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة:- وااه يا مهران.. دِه انى متشلتش من ايّام چدك الله يرحمه ما كان شباب.. هتشال دلوجت !؟.. ابتسم عاصم فى سعادة هاتفا للحاجة فضيلة:- باينك موعودة يا حاچة فضيلة بشيلة مهران الكبير و بمهران الصغير كمان..
قهقهت الحاجة فضيلة هاتفة تحاول إثناءه عما ينتوى فعله:- يا ولدى عروستك تغير.. اندفع مهران تجاه جسد جدته المسجى بعد ان نهض عاصم من على طرف الفراش موسعا له الطريق ليحملها فى عزم هاتفا:- مين دى اللى تغير!؟.. طب خليها تتكلم..
قهقهت الحاجة فضيلة من جديد و هى محمولة بين ذراعى حفيدها هاتفة:- يعنى هاتعمل لها ايه لو اتكلمت.. و الله ما تجدر على زعلها يا واد الغالى.. ابتسم مهران ناظرا لجدته المتعلقة به و هو يهبط الدرج فى هوادة خوفا عليها:- ان چيتى للحج يا ستى.. عِندك حج.. علت القهقهات من جديد حتى وصل مهران اخيرا الى باب حجرة اخيه فطرق عاصم الباب و دفعه منفرجا ليدخل مهران حاملا جدته مواجها ماجد المنكس الرأس على كرسيه المدولب و فى جانب الحجرة تجلس زهرة باكية..
وضع مهران الحاجة فضيلة على طرف الفراش لتتبدل نبرتها المرحة بأخرى جادة أمرة الجميع بالخروج من الحجرة هاتفة:- هملونى لحالى مع واد ولدى.. كان أمرها الحازم كافيا لتخلو الحجرة فى ثوان من الجميع عاداها هى و حفيدها ماجد و الذى كان لايزل منكس الرأس لا يقو على رفع نظراته ليواجه اى من كان بعد خزلانه من تلك التى وهبها قلبه بسبب اصابته التى تعد شرف لا ينكره و التى لا يعلم بتلك الخسارة الا ايمان فقط.. او بالاصح استنتجتها بفطنتها عندما جاءت لتلملم بقايا تلك المعركة..
نظرت الحاجة فضيلة لحاله و لموضع قدمه المبتورة تحت غطاء ما موضع على حجره و رق قلبها الا انها استردت بأسها المعتاد هاتفة فى لهجة أمرة:- ارفع راسك يا واد.. چيب عينك ف عينى و جولى انك ندمان على اللى راح.. ندمان على اللى سبجك للچنة و خلالك مكان فيها.. انتفض ماجد يرفع نظراته لجدته هاتفا:- لاااه يا ستى.. مش ندمان و لا عمرى هندم.. أندم على شرف ربنا رزجنى بيه.. بس..
و صمت ماجد و لم يستطرد مما دفع الحاجة فضيلة لتهتف مستفسرة:- بس ايه يا ماچد !؟.. جلبك مكنش ف المكان الصح.. و ربنا رچعهولك عشان تصونه و تديه للى يستاهله و بدل ما تبجى مبسوط.. زعلان و معترض على حكمه!؟.. استحمده يا ولدى.. استحمده.. تطلع اليها ماجد فى تعجب مما تنطق به و كأن احدهم أبلغها بما يستشعر فهمس فى تيه:- الحمد لله.. الحمد لله على كل حال.. هتفت الحاجة فضيلة امره اياه فى مودة:- جرب..
تقدم ماجد اليها بكرسيه المدولب فأحنت الحاجة فضيلة رأسها و قبلت مكان بتر ساقه مما دفعه لينتفض هاتفا فى خجل محاولا الابتعاد:- بتعملى ايه بس يا ستى!؟.. و رفع رأسها عنه فى إكبار لفعلتها فهتفت هى مؤكدة:- ايه يا واد الغالى.. مش عايزنى أحب على شرف الهوارية كلهم و تاچ راسهم كمان.. ربنا مكنش رايد بالشهادة بس خلالنا نصيب منيها..نفرحوا بالنصيب دِه و لا نطاطى له روسنا و نداريه كنه عيبة..
اومأ ماجد برأسه تفهما لجدته و لم يعقب لتظهر ايمان على اعتاب باب الحجرة المطل على الحديقة و الذى كان مفتوح على مصراعيه و هتفت تستأذن فى الدخول فى حرج.. فأذن لها ماجد لتدخل فى هدوء وجهها تعلوه ابتسامة متوجهة حيث تجلس الحاجة فصيلة و التى تفرست فيها قليلا و اخيرا هتفت:- واااه.. كنى واعية لسمية بشحمها و لحمها.. سبحان الله..
ابتسمت ايمان و قد وصلت لموضع جلوس الحاجة فضيلة وانحنت مقبلة ظاهر كفها بأدب:- كنها هى يا ستى.. انى ايمان بتها.. ربتت الحاجة فضيلة على رأس ايمان المنحنى و المتوج بحجابها الحريرى و ابتسمت فى مودة هاتفة:- كنك هى.. و مش هى.. سبحانه.. ربنا يراضيكِ يا بتى.. و البقاء لله ف مؤمن.. شفيعكم يا حبيبتى بعد نبينا باذن الله..
تحشرج صوت ايمان عند ذكر مؤمن اخيها و همست:- باذن الله يا ستى..هو راح لمكانه اللى كان مستنيه.. طول عمره عايش وسطينا بجلب ملايكة.. مكانه هناك يا ستى مش هنا...
تنهدت الحاجة فضيلة مؤكدة و هى تربت على كف ايمان فى محبة:- صدجتى يا بتى.. صدجتى يا غالية.. ربنا يحفظك و يكملك بعجلك يا ست البنات.. و ربتت من جديد على كف ايمان التى لازالت محتفظة بها بين كفيها ثم جذبتها فى محبة و قبلت وجنتيها و اخيرا هتفت لمهران القابع خلف باب الحجرة بالخارج ينتظرامرها ليعيدها لحجرتها من حيث أتى بها..
دخل مهران هاتفا فى مرح:- خلاص يا ستى.. هاااا.. نرچعوا لأوضتك!؟ اكدت الحاجة فضيلة هاتفة:- ايوه يا مهران.. ياللاه تعال شيل.. ربنا يعينك على ما بلاك يا ولدى.. حملها مهران فى سهولة هاتفا فيها معاتبا و هو يهم بالخروج من باب حجرة ماجد:- برضك يا ستى تجولى ما بلانى !؟.. طب جولى اللى اكرمنى بيه.. هتفت الحاجة فضيلة رابتة على كتفه فى امتنان:- ربنا يسعدك و يهنيك و يريح بالك يا حبة جلبى..
فهمس هو مؤمنا فى تضرع و قبل ان يستدير خارجا هتفت به تتمهله قليلا متوجهة بحديثها لماجد و هى تنظر لإيمان التى كانت تستأذن بدورها فى اتجاه حجرة القراءة نظرة جانبية عله يعيها هاتفة:- اللى منيك منيك يا ماچد.. اللى منيك ليك يا واد الغالى..هو اللى يشيل و يبجى راضى و على جلبه كيف العسل..
تطلع اليها ماجد متعجبا فى بادئ الامر و اخيرا لاحظ مع تكرارها لكلماتها الاخيرة ما كانت ترمى اليه وقد خرجت ايمان بدورها من غرفته فأبتسم فى هدوء و ما ان ايقنت الحاجة فضيلة ان رسالتها وصلت على أكمل وجه حتى أمرت مهران بالسير ليخرج من باب الحجرة اخيرا و هو يهتف بها مازحا و قد اعتلى أولى درجات الدرج صاعدا لحجرتها:- شكلك استحليتى الحكاية يا ستى و كل شوية هاتجوليلى انى عايزة اشوف ماچد.. نزولنى عند الغالى..
انفجرت الحاجة فضيلة مقهقهة ثم هتفت اخيرا و هو يضعها على فراشها فى حنو بالغ:- لااااه.. مش هجول.. ماچد هو اللى هايچينى لحد هنا.. تطلع اليها مهران فى تساؤل لم يصرح بِه لكنها وعته فهتفت:- ايوه.. هيحصل و هتلاجيه داخل علينا و ابجى شوف ستك متجلش كلمة و تنزل الارض ابدااا.. اومأ مهران برأسه موافقا إياها على الرغم من عدم اقتناعه لعلمه بعدم رغبة ماجد فى الحصول على قدم تعويضية.. لكن يقينه كان ان لا شئ على الله بعزيز.
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس والعشرون
شعرت عندما اندفع و تركها انه ما غادر المنزل و ما سمعت الا صوت خطواته الصاعدة للسطح.. توقعت انه قضى به معظم الليل و هبط قبيل الفجر فالجو قد بدأ يميل للبرودة ليلا الا انها كانت مخطئة فها هو باب حجرته على حاله مفتوح منذ البارحة على مصرعيه و لزيادة التأكيد طلت منه فى سرعة ليتأكد حدسها.. لقد بات ليلته بالأعلى او ربما تسلل لشقة ابيه و بات فيها ليلته..
قررت تجاهل الامر و النزول لأمها نعمة ككل صباح حتى تعد لهم طعام الافطار ليتناوله هو و خالها قبل نزول كل منهما لعمله... اغلقت باب الشقة و ما ان همت بالنزول على اول درجات السلم حتى عاودها القلق بشكل لا ارادى و هى تتساءل كيف بات ليلته فى الطل هكذا دون حتى غطاء يقيه برودة الليل فأندفعت تغير وجهتها صاعدة للأعلى و ما ان طلت برأسها داخل السطح حتى وجدته بالفعل ممددا على تلك الأريكة بالقرب من السُوَر البعيد هناك ترددت ما بين النزول لإعداد الفطور و ما بين إيقاظها اياه حتى لا يشك كل من خالها و زوجه فيما بينهما و اخيرا قررت الاندفاع لإيقاظه و ابلاغه سبب ازعاجها له على غير رغبتها..
وقفت مترددة امام محياه الرجولى الذى يحتل الأريكة بكاملها.. انها المرة الاولى التى تراه فيها ممددا بهذا الشكل الحميمى و على قسمات وجهه كل تلك السكينة و الدعة و هو الذى لم تره يوما الا مقطب الجبين و عابس الوجه يثور لأتفه الأسباب و ينالها ما ينالها من سخرية لسانه اللاذع.. همهم فى وداعة و هو يجذب السترة حوله فى محاولة ليستمد منها مزيد من الدفء يفتقده..
اضطربت خوفا من استيقاظه فجأة فمدت كفها فى سرعة تحاول إيقاظه هاتفة بأسمه بصوت متحشرج لم يخرج بشكل سليم من بين شفتيها الا انه لم يستجيب بل زادت همهماته و بدأ فى التحدث بصوت متقطع ينذر بالسوء.. تطلعت اليه محاولة تفسير ما يقول لكنها لم تستنبط حرفا مما همس به و شعرت انه ليس على ما يرام فتجرأت و مدت كف مرتعشة لجبينه و ما ان لامسته حتى جذبته مصعوقة فى صدمة فقد كان يستعر حرارة و كأنه مرجل يغلى..
تطلعت حولها كالمشدوهة لا تعلم ما عليها فعله و كيف تبرر لخالها وجود ابنه نائما هنا و بهذا الشكل!؟.. لحظات قضتها فى حيرة و اخيرا اندفعت للأسفل هاتفة فى سرها مهما كان ما ستناله من تقريع على ما قد يعتقده خالها او أمها نعمة الا انها على استعداد لتلقيه بصدر رحب طالما ان ذلك سيكون فى مصلحته فهى تحاول و لو بقدر يسير ان ترد له بعض من جميله عليها و الذى يطوق جيدها و سيظل مدى العمر..
طرقت باب شقة خالها فى سرعة لتطالعها أمها نعمة متسائلة عن سبب تلك اللهفة فدخلت شيماء مندفعة حيث خالها هاتفة:- ألحقنى يا خالى.. ناصر قايد نار فوق و مش عارفة اعمل ايه!؟.. انتفض المعلم خميس هاتفا:- ناصر !؟.. ماله !؟.. هتفت شيماء ؛- مش عارفة يا خالى.. لازم دكتور حالا..
اندفعت نعمة تضرب على صدرها فى لوعة ما ان سمعت ما تقصه شيماء على خالها:- يا حبيبى يا بنى.. ماله ناصر كفا الله الشر!؟.. اندفع خميس يكمل ارتداء ملابسه على عجالة هاتفا:- طب اطلعى اقعدى جنبه يا شوشو لحد ما اجيب الدكتور و اجى.. هتفت شيماء مطأطئة الرأس:- بس هو مش فوق ف الشقة يا خالى.. هتفت نعمة فى تعجب:- امال فين !؟
هتفت شيماء دون ان ترفع رأسها المطرق:- كان نايم ع السطح طول الليل.. ضربت نعمة صدرها من جديد هاتفة:- السطح!.و ايه اللى ينيمه فوق و الليل بقى زى التلج اليومين دوول.. و تطلعت لشيماء بإتهام هاتفة:- كده برضه يا شوشو.. تلاقيكِ زعلتيه..
لم تجب شيماء فهى لا تعلم ماذا فعلت من الاساس حتى يكون رد الفعل العجيب من قبله بالامس هو الإجابة لذا التزمت الصمت و هنا تدخل خميس هاتفا:- احنا هنقعد نحكى و الواد فوق تعبان.. انا هنادى الواد فتلة من ع القهوة و معاه الواد شكمان من الورشة يسندوه لحد سريره لحد ما اجيب الدكتور و اجى.. سلام..
و اندفع المعلم خميس خارجا لتندفع كلتاهما للسطح لتظلا بجواره حتى يتم وضعه فى فراشه فى انتظار الطبيب و الذى لن يداوى الا جسده المحموم اما روحه الجريحة تلك فمن لها ليشفيها من أسقام علقت بها و ما من مداو..!
دخلت غرفة مكتبه التى تظل مغلقة لفترة طويلة حتى يعود اليها من جديد اذا ما جد ما يستدعى حضوره من مقره بالقاهرة.. كان دائم الحضور الى هنا لمتابعة المشروع لكنه قليل التواجد بمقر الشركة المشترك فهو يأتى بالطائرة متابعا ما يخصه بالجانب التنفيذي و يرحل بعدها بساعات قليلة دون حتى المرور الى المقر الذى يحوى ذلك المكتب الفخم الذى تقف فى منتصفه الان تحاول ان تتذكر اين يمكنه ان يضع تلك الاوراق الهامة التى نسيها و أرسل فى طلبها.
اندفعت ناحية المكتب و اخذت تعبث بتلك الملفات الموجودة على سطحه هنا و هناك لعلها تجد ضالتها المنشودة اتقاءً لنوبة غضبه التى تعلم الى اين يمكن ان يصل مداها..
انحنت تعبث بالادراج لعلها تصل لمبتغاها لكن لا فائدة و اخيرا وجدت الدرج الاخير مغلق.. حاولت جذبه لعله عالق فقط و غير مغلق.. و لم يفلح الامر و تأكد لها انه مغلق.. لكنها تعجبت.. ما الذى يدعوه لغلق احد الأدراج هنا فى مقره المؤقت الذى لا يحوى اى من الاوراق الهامة التى قد تدفعه للخوف عليها و إغلاق الأدراج دونها!؟..
تيقنت ان تلك الاوراق التى يريدها بهذه اللهفة و اكد على إحضارها بهذه السرعة هى فى هذا الدرج المقفول.. حاولت ان تعالج الدرج بأحد ألات فتح المظاريف الموجودة على سطح المكتب قبالتها.. و بالفعل نجحت فتنهدت فى ارتياح و فتحت الدرج و اخرجت الاوراق من باطنه و جلست على الكرسى تلتقط انفاسها..
فتحت الملف فى حذّر لترى مدى أهمية تلك الاوراق التى لا تخص الشراكة القائمة بين شركته و شركة زكريا الهوارى.. انها أوراق خاصة بعمله فى القاهرة و يبدو انه نسيها هنا قبل ان يغادر فى اخر مرة كان فيها.. اخذت تقلب فى الاوراق و لم ترى فيها ما يستدعى كل ذاك الاهتمام المبالغ بأهميتها و ما ان همت بغلق الملف حتى وقعت عيناها على سطر بنهاية احدى الاوراق لتشهق فى صدمة غير قادرة على الإتيان بأى رد فعل.. و قد جحظت عيناها فى ذعر حقيقى مما هو أَت..
تطلعت الى باب الغرفة المقفل و تنهدت في ضيق فيبدو انه لا نصيب لها لتلقاه قبل رحيلها.. على ايه حال هي ما كانت ترغب في ذلك فما عاد لها القدرة على المغادرة بعيدا عنه.. هتف ذاك الصوت الداخلى موبخا:- انك كاذبة.. فأنت تحترقين شوقا لملاقاته.. و تتوقين للأنس بمجلسه..
أعترفت ان ذاك الصوت الموبخ داخلها كان على حق تماما.. لكن ما باليد حيلة.. فيبدو انه قد سهر طويلا حتى انه لم يستيقظ كعادته مبكرا.. همت بالرحيل و قد اسقط في يدها و فقدت الأمل في وداعه قبل عودتها لبيت ابيها بعد عودة أمها و ماهر منذ ساعات قليلة من رحلة الحج الا ان باب الغرفة المطل على الحديقة الخلفية و غرفة القراءة و المطالعة قد فتح على حين غرة فأنتفضت بدورها و استدارت من جديد تتطلع لماجد و قد فوجئ بوجودها لكنه استدرك في سرعة:- انتِ هنا يا ايمان !..جاية تذكرت بدرى النهاردة عن ميعادك..
ابتسمت هاتفة:- لاااه مش هذاكر.. انا كنت چاية اجولك..اقصد ألم كتبى هتف مستفسرًا:- تلمى كتبك..! ليه خير رايحة فين !؟.. اتسعت ابتسامتها و التي تحاول ان تدارى خلفها الكثير من الوجع:- راچعة بيت ابويا يا چنرال.. هو انى هعيش العمر كله هنا و لا ايه!؟.. هتف مستفسرًا من جديد:- هو عمتى سمية و ماهر رجعوا من الحج و لا ايه !؟..
أكدت بإيماءة من رأسها دون ان تنطق حرفا و تطلعت لمحياه الذى ظهرت الصدمة لرحيلها المباغت جلية عليه بوضوح مما أسعدها كثيرا الا انها كعادتها فضلت ان لا تتعلق بأحبال مهترئة من امل قد يكون كاذبا... قطع الصمت بينهما هاتفا في محاولة للثبات:- حمد الله على سلامتهم.. و شدى حيلك بقى ف المذاكرة الامتحانات خلاص ع الأبواب.. ابتسمت مؤكدة:- اكيد.. ادعيلى يا واد خالى..
ابتسم مؤكدا بايماءة من رأسه و ما ان همت بالمغادرة حتى هتف يستوقفها:- ايمان.. استدارت بكليتها متطلعة اليه ليستطرد مازحا:- لو اى حاجة وقفت معاكِ تعالى انا اشرحهالك.. و خاصة ف العربى.. انا ف الخدمة..برغم انى عارف انك شاطرة بس الامر ما يسلمش برضه.. اتسعت ابتسامتها مؤكدة:- حااضر.. اوامرك يا چنرال.. عن اذنك عشان ماهر مستنينى.. سلام عليكم..
رد تحيتها:- و عليكم السلام.. رحلت في ثبات و غابت خلف أسوار السراىّ ليتنهد هو في ضيق حقيقى لا يعرف مصدره الفعلى و سار بكرسيه المدولب بإتجاه غرفة المطالعة التي دوما ما كانت موضع اجتماعهما.. جالت عيناه في أركانها و سقطت فجأة على احد الكتب الموضوعة على احدى الأرائك.. اقترب ممسكا بالكتاب ليدرك انه احد كتبها و الذى نسيته في غفلة و هي تحزم حقيبة الرحيل عنه..
فر الكتاب في رغبة حقيقة لمجالسة صاحبته كما اعتاد..رغبة وصلت حد لا يجرؤ على التفكير فيه او حتى تخيله.. وقعت عيناه على احد السطور المكتوبة عرضا على احد الأطراف ليكتشف انها قصيدة لنزار قبانى خطتها أناملها فهمس بكلماتها في وجل:- متى ستعرف كم أهواك يا رجلا أبيع من أجله الدنيـــا وما فيها يا من تحديت في حبي له مدنـا بحالهــا وسأمضي في تحديهـا لو تطلب البحر في عينيك أسكبه أو تطلب الشمس في كفيك أرميها...
أنـا أحبك فوق الغيم أكتبهــا وللعصافيـر والأشجـار أحكيهـا أنـا أحبك فوق الماء أنقشهــا وللعناقيـد والأقـداح أسقيهـــا أنـا أحبك يـا سيفـا أسال دمي يـا قصة لست أدري مـا أسميها أنـا أحبك حاول أن تسـاعدني فإن من بـدأ المأساة ينهيهـــا...
وإن من فتح الأبواب يغلقهــا وإن من أشعل النيـران يطفيهــا يا من يدخن في صمت ويتركني في البحر أرفع مرسـاتي وألقيهـا ألا تراني ببحر الحب غارقـة والموج يمضغ آمـالي ويرميهــا إنزل قليلا عن الأهداب يا رجلا مــا زال يقتل أحلامي ويحييهـا...
انهى قراءة الكلمات و تنهد في عمق يتطلع حوله في تيه و أخيرا تطلع للكتاب من جديد و اعترف انه بدأ يفتقد صاحبته منذ اللحظة التي رحلت فيها و ان الامر فاق حد التعود على وجودها كما كان يدعى لنفسه كثيرا..
انه.. انه.. لم يجرؤ على البوح بها و هو ادرى الناس انه لن يكون ابدا ذاك الرجل الذى تكتب من اجله تلك الكلمات لان مؤمن كان دوما يتمنى لها الأفضل و هو بحاله تلك لن يكون لها الأفضل ابدا.. أغلق الكتاب في تؤدة و وضعه على حجره و عاد لحجرته و قد قرر ان ذاك الكتاب و قصيدته تلك المخطوطة بأناملها هي سلواه في بعادها الاجبارى..
دخل سيد العشماوي المقر المشترك للشركة مندفعا فى غضب هاتفا:- ملف اسيبه هنا و أبعت اجيبه الكل يقولى مش موجود.. يعنى هيكون راح فين!؟.. دى مهزلة.. انتفض العاملين بالشركة على صراخ سيد و تأنيبه لكل من يعمل بمكتبه و تحت امرته حتى ثريا نفسها ما سلمت من تقريعه..
دخل مكتبه يبحث بنفسه لعله يجد ضالته.. دخلت ثريا خلفه فى هدوء و اغلقت خلفها الباب فى حزم و انتظرت فى صمت مكانها متغافلة عن ضيقه و ثورته.. و اخيرا هتفت بعد ان استشعرت ان هذا هو الوقت المناسب لتتكلم و هى تخرج ملف ما من حقيبتها:- حضرتك بتدور ع الملف ده يا باشمهندس سيد يا عشماوي.!؟.. و لا اقولك يا سيد...
و سكتت و لم تنطق بكامل جملتها التهديدية لتجحظ عيناه و هو يراها تحمل ملفه المنشود.. حاول السيطرة على أعصابه و التمسك بقليل من البرود و هو يقول:- انتِ قصدك ايه!؟.. هتفت فى ثقة:- جصدى اللى انت عارفه كويس.. جصدى اللى شفته ف الملف ده!؟..و اللى ممكن اروح أفضحك بيه چدامهم كلهم..
هتف و قد اعتقد انها تساومه و تحاول ابتزازه على الرغم من ثقته انها ليست من هذا النوع من البشر لكن ما كان بيده حيلة ليهتف:- طلباتك..!؟ هتفت فى حزم:- هو طلب واحد مفيش غيره.. تخرچ باشمهندس حمزة من الورطة اللى وجع فيها و اللى بجيت متأكدة دلوجتى انك سببها. هتف متعجبا:- بس كده !؟..
اكدت فى عزة:- امال انت فاكر انى هطلب فلوس او حاچة لنفسى !؟.. لاااه و لا يهمنى الكلام ده.. انا اللى يهمنى الناس اللى كلت ف بيتهم عيش و ملح محدش يتأذى فيهم من تحت راسك و خصوصى لو أجدر امنع الأذية دى.. و اهاا ربنا جدرنى.. هز سيد رأسه فى ضيق هاتفا:- ثريا.. انتِ مش فاهمة حاجة!؟.. انا..
هتفت فى غضب:- انت واحد چاى ينتجم من ناس محدش ضره فيهم و لا يعرف انت مين م الاساس و لا يعرف بوچودك اصلا.. انت ايه !؟.. ايه كمية الغل و الكره اللى چواك دى.. انا بجيت متأكدة ان كل اللى حصل للهوارية الفترة اللى فاتت دى انت اكيد ليك يد فيه.. ربنا يهديلك حالك.. و يجويك على روحك..
همت بالرحيل مغادرة الا انه هتف يستوقفها متسائلا فى قلق:- ثريا.. هتبلغى حد!؟.. هزت رأسها نافية:- لاااه.. بس طلع باشمهندس حمزة من مشكلته اللى ورطه فيها و ابعد عن الهوارية يا سيد بيه.. ابعد عنهم و اتجى الله و روح شوف حالك بعيد عنيهم..و لو سمعت بأى ازية ليهم تانى يبجى متلومش الا روحك..
صمت و لم يعقب و هو يتناول الملف من يدها قبل ان تغادر ليهمس خلفها فى غضب مكبوت و هو يلقى بالملف البغيض بطول ذراعه:- مش هسيبهم.. مش هسيبهم غير لما اخد حقى..و لو ده كان اخر حاجة اعملها ف حياتى..
اندفع الطبيب خارج الغرفة و المعلم خميس فى عقبه لتطالعهما شيماء و نعمة المنتظرتين فى قلق بالخارج.. كتب الطبيب وصفته الطبية و نزعها ليسلمها للمعلم خميس هاتفا فى لهجة عملية:- لازم الاهتمام بالأدوية فى مواعدها و الحقن اللى كتبتها دى لازم تتاخد كاملة.. و مش هوصيكم على الغذا و السوائل.. الدور اللى واخدة شديد..انا اديته حاجة تنزل الحرارة بس اذا ارتفعت تانى لازم كمادات ماية باردة مع الدوا.. و باذن الله خلال ثلاث ايّام هيكون احسن..
اكد الجميع على إلتزام التعليمات حرفيا و خرج الطبيب بصحبة المعلم خميس الذى عاد بعد دقائق هاتفا:- متهئ لى سمعتوا الدكتور.. اندفعت نعمة هاتفة:- انا نازلة اسلق له فرخة و اعمل له شربة يقوم بعدها زى الحصان.. متقلقش ياخويا و الله هايبقى زى الفل.. هتفت شيماء فى تضرع:- يا رب يا خالتى..
هتف خميس:- خليكِ جنبه يا شوشو متسيبهوش لحظة يمكن يصحى يحتاج حاجة تكونى جنبه.. هتفت دامعة:- حاضر يا خالى مش هتعتع من مكانى قصاد سريره.. هبط المعلم خميس لشقته تبعته نعمة و ما ان دخلا شقتهما حتى هتفت نعمة فى لهجة تقريرية:- يا معلم.. العيال دى بينها حاجة احنا منعرفهاش.. تطلع اليها خميس متعجبا:- حاجة ايه!؟.. مش فاهم قصدك ايه!؟..
هتفت تسرد له بعض الشواهد:- لما بعت الصبيان من الورشة و القهوة يشيلوا ناصر لأوضته قلت هيدخلوه اوضة نومهم اللى انا مجهزاها بأيدي لقيت البت شوشو بتشاور لهم على اوضة تانية لما دخلتها وراهم لقيت فيها كل حاجة ناصر.. و لما طلبت منها تجيب لى ترحة احطها على راسى لما الدكتور وصل دخلت أوضة تانى خاالص رحت وراها لقيت فيها حاجتها كلها برضة.. هو فى ايه بالظبط بين العيال دى !؟..
تنبه خميس لما سردته زوجه و هتف بعد لحظات من الصمت مفكرا:- انت قصدك ايه !؟.. ان هما مش.. قاطعته فى ضيق:- و هو فى تفسير غير كده يا معلم!.. و نومته العجيبة ف السطح دى هيكون تفسرها ايه غير كده !؟.. هتف خميس مستبعدا ذاك الخاطر:- طب بس ليه !؟.. هو حد غصبهم على حاجة.. ما هو اللى طلبها قصادك و هى مرفضتش..
صمتت نعمة و لم ترد على تساؤل زوجها و الذى كانت تعرف او اعتقدت انها تعرف إجابته و قررت مراجعة شيماء بما يعتمل داخلها من ظنون لعلها تهدى بعض من غضبها تجاه ما يحدث لولدها البكر الذى لن تحمل عليه كل هذا الظلم و تقف متفرجة..
دخل حمزة و زكريا للفيلا اخيرا بعد تلك الفترة من الغياب عنها و قد ظن انه لن يعاودها من جديد.. فقد كانت القضية شائكة و البراءة بعيدة المنال.. اندفعت زينة مرحبة فى سعادة هاتفة:- حمد لله على السلامة يا حمزة.. الف مبروك البراءة يا حبيبتى.. ربنا لا يعيدها ابدااا.. هتف حمزة بصوت مرهق:- الله يسلمك يا مرت عمى.. الحمد لله على كل حال..
ربت زكريا على كتف بن اخيه هاتفا:- انت دلوجت تروح تاخد دش و تستريح شوية و هنستناك على الغدا.. هتف حمزة:- لاااه يا عمى.. كلوا انتوا انا چعان نوم.. و لما اصحى هبجى اكل.. هتف زكريا:- على رحتك يا حمزة.. روح ارتاح انت فعلا محتاچ راحة كَبيرة بعد كل اللى حصل لك دِه.. همس حمزة:- الحمد لله..
و استدار مغادرا ليتوجه لجناحه و لكنه توقف ليسأل فى اندفاع مخالفا لطبيعته:- امال فين هدير !؟.. هتفت زينة فى حزن:- موجودة فوق نايمة تعبانة.. من ساعة اللى حصل و هى مخرجتش من اوضتها.. دى هتفرح قووى لما تعرف انهم افرجوا عنك.. اومأ برأسه فى تفهم و غادر فى صمت..
دخل جناحه و تطلع حوله فى شوق لكل ركن فيه فقد ظن انه لن يعود اليه من جديد.. تنهد فى راحة و توجه فى بطء الى الحمام لينال قسطا وافرا من النظافة و التى أفتقدها لفترة لابأس بها و اخد يمنى نفسه بمغطس الحمام الملئ بالماء الساخن و استرخاء لمدة طويلة حتى يلقى عن جسده ما عاناه فى الأيام الماضية.. و لكن ما ان وضع احدى قدميه على عتبة الحمام حتى بدأ الطرق على باب جناحه..
تنهد فى ضيق و اندفع يفتح فى سرعة ليقف مشدوها امام عينيها التى صوبت نظراتها نحوه و كأنها لا تصدق انه بالفعل هنا.. ظل متسمرا على موضعه و هى كذلك لا يطرف لها جفن و اخيرا استفاق من ذهوله على انفجارها فى البكاء بشكل هستيرى حتى انها ما عادت قادرة على الوقوف قبالته فجلست على ركبتيها على اعتاب بابه تغطى وجهها بكامل كفيها و تنتحب فى رقة مزقت نياط قلبه الذى ما كان يدرك انه يمتلك واحدا الا بوجودها..
هتف و هو ينحنى قبالتها محاولا طمأنتها رغم اضطرابه لمرأها:- هدير.. انا هنا.. انا كويس و الله.. اخرجت وجهها من جوف كفيها و همست فى لوعة:- لا.. انت مش كويس يا حمزة.. شكلك مبهدل.. و دقنك طويلة.. و شعرك منكوش.. كاد ينفجر ضاحكا لتعبيراتها الا انه أشفق على حالها فأبتسم هامسا:- ما هو انتِ لو اتأخرتى بس نص ساعة قبل ما تيجى تسلمى عليا كان زمانى خدت دش و بقيت حمزة النضيف اللى تعرفيه..انا كنت ف الحبس يا هدير مش ف رحلة..
رفعت نظراته الدامعة اليه ليسقط قلبه بين قدميه و يزدرد ريقه بصعوبة امام رقتها و هى تهمس:- انا قلت لهم ان حمزة عمره ما يعمل حاجة تغضب ربنا.. ده مش بيرضى يسلم عليا و انا بنت عمه.. مش معقول.. انا عارفة حمزة كويس.. تنحنح فى اضطراب و لم يعد قادرًا على الرد فنهض فى سرعة مبتعدا عنها لداخل جناحه هاتفا فى صوت تغلّفه الشدة:- اديكِ شفتينى يا ستى و اطمنتى عليا.. قومى ارتاحى بقى و انا كمان هرتاح..
نهضت بالفعل و همت بالمغادرة الا انها استدارت فى هدوء قائلة:- انا عارفة انك مكلتش.. و انا كمان مكلتش من ساعة ما اخدوك.. و دمعت عيناها من جديد و صمتت للحظات و اخيرا هتفت:- هستناك عشان ناكل سوا.. ماااشى.. اومأ برأسه ايجابا غير قادر على تصنع الشدة من جديد امام ذاك الفيض القاهر من رقتها و وداعتها التى دوما ما كانت مصدر لإضطرابه و الان اصبحت مصدرا لقلقه و توجسه فقد ادرك انه ينحى منحن لا يعلم الى اى طريق سيودى به..
رحلت مبتعدة و اندفع هو يغلق بابه دونها و قد شعر انه حتى و لو أغلق الف باب فهى اصبحت فعلا بالداخل حيث روحه و لا سبيل لإخراجها.. زفر فى ضيق عندما تذكر انه معلق بجانب اخر جانب لا يسطيع منه فكاكاً.. امرأة اخرى هو ألتزم امامها بوعد قد قطعه على نفسه.. و هو ابدا لم يخلف وعدا.. و عليه ان يسدد دينه القديم تجاهها مهما حدث.. نعم يا حمزة.. مهما حدث.. هكذا هتف لنفسه فى اصرار و حزم.
تطلعت عائشة من نافذة حجرتها تتنسم بعض من هواء الصباح العليل و تحاول التسرية عن نفسها قليلا فقد أغلقت الجامعة أبوابها و ما عاد في الإمكان الخروج من النجع لأى سبب الا للضرورة.. بقيت على حالها فترة ترقب الغادى و الايب من موضعها المستتر قليلا و ما ان همت بإغلاق النافذة و الدخول الا و قد لمحت شخص مألوف لديها قادم من مسافة قريبة هتفت تستدعى هداية على عجالة و التي ظهرت من الداخل ملبية نداء ابنة عمها و التي اشارت اليها لتسرع الخطى و تقف بجوارها خلف احد ضلف النافذة المواربة لتهتف عائشة محاولة استثارة فضول هداية لمعرفة كنه ذاك القادم و الذى يمر الان من تحت سُوَر دارهم:- عارفة مين ده !؟.. مش هتصدجى..
تطلعت هداية لذاك القادم محاولة استنتاج كنهه و أخيرا هتفت في عدم تصديق:- معچولة!؟.. دِه ماهر الهوارى!.. هتفت عائشة مصدقة على صحة استنتاجها:- چدعة.. هو ماهر الهوارى بشحمه و لحمه.. بس اللى اتغير انه ربى دِجنه و بجى ملوش غير الچامع رايح چاى عليه..استشيخ ع الاخر..
همست هداية:- سبحانه مغير الأحوال.. مين يجول ان ماهر دِه يهتدى.. بس كن موضوع استشهاد اخوه اثر عليه جووى!؟.. هتفت عائشة مؤكدة:- يوووه.. مجلكيش.. اثر كَتير.. دِه مبيفوتش فرض دلوجت..و خصوصى بعد ما رجع م الحچ.. عينه دايما ف الأرض و السبحة ف يده و رايح چاى ع الچامع.. سبحانه الهادى.. لم تعقب هداية بحرف بل تطلعت من جديد الى ماهر الجديد ذاك و الذى يتلاشى ظله المار امام دارهم متوجها لذاك المسجد القريب الذى لا يفصله عن عتبة الدار الا بضع خطوات..
شردت قليلا لا تعرف لما جال خاطرها حول ذاك المهتدى حديثا حتى قطع شرودها طرق على باب شقتهما فأندفعت عائشة تفتح الباب لتغلق هداية النافذة محاولة وأد خواطرها الجانحة نحو المسجد و أحد رواده.. هتفت سكينة بالسلام و في أعقابها دخلت كسبانة و جلسن في صمت للحظات ما ان تقدمت عائشة بأكواب الشاي الذى كان معد سلفا قبل حضورها بدقائق تضعها امامهن في ترحاب.. قاطعتها سكينة هاتفة في سعادة موجهة كلامها لعائشة:- عبجبال ما تشرب شربات فرحك عن جريب يا جمر..
اضطربت عائشة في مجلسها فهى اكثر من يدرك ان ذاك لن يحدث الا اذا كان الغرض من ديارتهن هو مفاتحتها في وضعها داخل الدار و كيفية تنفيذ وصية عمها و زواجها من يونس.. و لكن هل هذا يُعقل ان تصعد روجته لطلب يدها لزوجها !؟.. و الأدهى من ذلك انه يبدو عليها الانشراح و السرور !؟..
كانت تزوى في موضعها لولا ان هتفت كسبانة في سعادة:- بجولك ايه يا عيشة يا بتى..انى هدخل ف الموضوع على طوول.. ايه جولك ف حامد ولدى!؟.. تطلعت عائشة اليها في تيه و صمتت للحظات قبل ان تتساءل متعجبة:- جولى ف ايه بالظبط يا خالتى !؟.. هتفت سكينة تنهى الامر:- حامد طالب يدك يا بتى.. ايه جولك !؟.. انتفضت موضعها غير مصدقة ان أمنية قلبها منذ رأته قد تحققت و انه طلب يدها للزواج بالفعل..
نكست رأسها في خجل دون ان تجيب بحرف لتهتف هداية و التي كانت تدرك ما يخبئه قلب ابنة عمها الطاهر من مشاعر لحامد لم تبوح بها لمخلوق لكنها قرأتها كثيرا مفضوحة على صفحة وجهها عندما يصادف الامر و يجتمع الجميع و يظهر هو في الصورة لتصبح عائشة في عالم أخر من الأحلام الوردية:- و هو حامد يتعيب يا حاچة سكينة..!. ده زينة الشباب و الله.. و السكوت علامة الرضا زى ما بيجولوا..
ابتسمت سكينة و كسبانة متطلعات لبعضهن في نشوة حقيقة لانتصار مأربهما.. و أخيرا نهضتا مغادرات و قبل ان تغادر كسبانة تطلعت الى تلك الشابة الجميلة التي ستصبح قريبا زوجة ولدها و جذبتها في سعادة الى أحضانها في حنو بالغ و أخيرا أبعدتها قليلا لتقبلها هامسة و عيونها تدمع فرحا:- مبرووك يا مرت ولدى.. الف مبروووك..
تعلقت عائشة بأحضانها الدافئة التي تشع حنانا تفتقده منذ زمن و قد استشعرت مدى قوة هذه المرأة التي يدعمها لين قلبها و نقاءه و ايقنت انه قد حان أخيرا موعدها مع السعادة التي كانت تعتقد ان الله يخبئها لها يوما ما.. و ها قد صدق اعتقادها و جاءت السعادة تهرول اليها و هي التي كانت تظن انها لن تزورها يوما و قد خاب ظنها...
رحلت كل من كسبانة و سكينة لتبليغ خبر موافقتها لحامد و يونس و اعلان خطبتهما الغير رسمية لحين التحضير لعقد القران بعد تجهيز الشقة التي تقطنها مع هداية و التي استدارت تتطلع اليها الان غير مصدقة انها أصبحت خطيبة حامد بدلا من زواجها من ابيه ما بين طرفة عين و انتباهتها غير الله حالها من حال الى حال..
تلقفتها هداية بين ذراعيها في سعادة غامرة هاتفة:- الف مبروك يا حبيبتى.. ربنا يتمم لك على خير يا رب.. دمعت عينا عائشة في سعادة و ما عادت قادرة على التفوه بحرف و لكن قلبها اخذ يلهج بالدعاء شكرًا.. فأخيرا اصبح قاب قوسين او أدنى من الراحة التي كان ينشدها في محيا ذاك الحبيب الذى ظنت انه بعيد المنال..فهل سيصدق القدر في دعواه لقلبها بالسعادة.!؟..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السادس والعشرون
قررت ان تنزع عنه تلك الملابس المتسخة بالشحم كعادته و التى لم يخلعها من ليلتها و التى اصبحت تُعتصر اعتصارا من جراء الحمى التى انتابته.. بدأت فى خلع تلك السترة فى هوادة حتى لا يستيقظ متزمرا كعادته و ما ان تمت مهمتها بنجاح حتى زفرت فى راحة و هى تضع السترة على احد المقاعد لتسقط من احد جيبوها تلك الورقة المطوية..
اندفعت تحمل الورقة لتعيدها موضعها الا ان الفضول دفعها لتفضها و تبدأ فى قراءتها لتقف مشدوهة لا تحرك ساكنا.. انه خطاب نادر الاخير لأخيه و الذى يبثه فيه لواعج قلبه و أسراره المخفية و التى لا يعلمها احد و التى ما استطاع الانتظار حتى نزوله الإجازة لإخبار اخاه الأكبر بها فبعثها فى رسالة مع احد أصدقائه.. دمعت عيناها و بدأت تغشى الدموع الكلمات امام ناظريها و هى تقرأ ما خطه نادر تجاهها و كيف انه يحبها منذ كانوا أطفالا و تمنى ان ينهى فترة تجنيده حتى يطلب يدها من ابيه و يتزوجها.
شهقت فى لوعة و هى لا تدرى هل تبكيه ام تبكى حظها العسر.. و تساءلت هل هى نذير شؤم فقد رحل كل من كانت تحبهم او يحبونها فى هذه الحياة ليتركوها وحيدة تجتر المرارت واحدة تلو الاخرى اولا أبويها و ها هو نادر يعقبهما..
بكت كما لم تبك يوم وفاته فقد شعرت انه مات تلك اللحظة من جديد.. و استمرت فى البكاء لفترة لا تعلم زادت ام قصرت لكنها انتفضت تضع الرسالة بموضعها فى جيب السترة و تمسح الدموع عن صفحة وجهها عندما انتبهت لعلو همهمات ناصر و تنبهت كأنه يصارع شئ ما فى منامه المضطرب اندفعت اليه هاتفة بإسمه:- ناصر.. ناصر..
لكنه لم يجب إلا بتلك الهمهمات التى تعلن ان الحمى عاودته من جديد فأندفعت تحمل طبقا من الماء الفاتر و منشفة صغيرة نظيفة من المطبخ لتجلس على طرف الفراش تضع له تلك الكمدات الباردة على جبينه لعلها تهدئ و لو قليلا من حرارة جسده المرتفعة ليبدأ فى الارتعاش ما ان لامست جبينه المنشفة الباردة.. اشفقت عليه و قد ايقنت ان ذاك الخطاب الذى قرأته لتوها هو سبب ثورته و هروبه من محياها بالامس فهو يرى انه اصبح زوجا لتلك التى كان يعشقها اخيه و كان يود الارتباط بها..
انه يرى نفسه خائن لذكرى اخيه و متعدٍ على ممتلكاته الخاصة عندما اقترن بها و هو لم يفعل ذلك الا رغبة فى الستر عليها فقط لا غير.. انها تشفق عليه فعلا فلولا ما حدث لها و كانت هى برعونتها و عدم انصاتها لتحذيراته سببا بشكل او بأخر فى حدوثه ما كان ناصر الان فى الصورة بأى شكل من الأشكال وربما كان الان يبحث عن عروس تليق به بدلا من تورطه معها بهذا الشكل المجحف له.
عاودت وضع المنشفة الباردة على جبينه المستعر من جديد ليرتعش و هو لايزل يهزى ببضع كلمات اخيرا ألتقطت منها اسم نادر.. و ها هو يفصح عن مكنونات صدره التى كادت تهلكه البارحة هامسا:- نادر.. انا.. لا.. هى.. انا..
و صمت و لم يفصح اكثر.. بدأت الدموع تهطل من عينيها و قد قررت انها ستطلب منه الانفصال ما ان يسترد عافيته فلا قبل لها لتحمل ذنب ظلمها له اكثر من هذا.. من حقه البحث عن حياة سوية مع زوجة يحبها و يتمناها... زوجة لا تكون منغصًا و مهيجا لذكريات يتمنى الفرد لو يضعها طى الكتمان.. زوجة لا تحمله وزر افعالها و لا تنكئ جرح غياب اخيه عنه كلما تطلع اليها..
همت بالنهوض لتجلب المزيد من المياه الا انها سمعته يهمهم من جديد و لكن هذه المرة بإسمها.. كانت المرة الاولى التى تسمعه ينطقه بهذه الطريقة و التى كانت مغايرة تماما عن نداءاته المعتادة لها و التى تحمل سمة الشدة و الحنق..
كان اسمها فى تلك اللحظة يحمل رقة لم تعتدها يوما منه.. هتف بإسمها من جديد فظنت انه استفاق فأقتربت لعله يريد شئ ما تقوم به لأجله الا انها تيقنت انه لايزل غارق فى هلاوس الحمى و قد اضحى وجهه يغلب عليه الحمرة من شدتها.. عاود الهمس هذه المرة بإسمها و لكنه أعقبه بأخر كلمة كان يمكن ان تتخيل و لو فى اسوء كوابيسها ان ينطق بها بن خالها ذاك الذى ما ذاقت منه الا الشدة و الحزم فى معاملتها.. انه يهمس بكلمة.. "أحبك".. ينطق اسمها مقرونا بتلك الكلمة السحرية التى ما سمعتها يوما و ما كانت تتوقع ان تسمعها منه و منه هو بالذات و بهذا الشكل.. و تساءلت فى وجل.. هل حقا يحبها... ام انها تداعيات الحمى!؟..
يحبها!؟.. ناصر يحبها!؟.. لا.. انها مجرد هلاوس لا أساس لها من الصحة.. لكنها سمعت ذات يوم ان اصدق ما يحمله الانسان و ما يخفيه عن الآخرين يظهر جليا كشمس ساطعة فى هلاوس المرض او تحت تأثير مخدر ما.. فهل هذا ينطبق على حالته !؟.. عاود اعترافه من جديد بصوت ناعس و حروف متقطعة..
شهقت باكية رغما عنها فالليلة هى ليلة الصدمات بحق.. اولاد خالها و اللذان تربت فى كنفهما كأخوة كلاهما واقع فى غرامها.. كلاهما كان يتمناها زوجة.. احدهما رحل بغير رجعة فى ذمة الله و الاخر هاهنا يتناءى عنها غير قادر على البوح بما يكنه لها صدره من مشاعر لإحساسه بانه خائن لذكرى اخيه و خاصة بعد قراءة خطابه الموجع الذى قرأته منذ لحظات قليلة..
عاود ناصر الهمس بإسمها:- شيماء. فأقتربت منه فى وجل لا تعرف ما الذى يعتريها من مشاعر متضاربة جراء كل تلك المفاجأت التى تعرضت لها.. لكنها رفعت كفا مرتعشة و وضعتها على جبينه تمسد على رأسه فى حنان هامسة بدورها مجيبة ندائه:- انا هنا يا ناصر.. انا هنا و مش هسيبك ابدا..
نطقت تلك الكلمات بلا وعى منها و كأنما تؤكد على شعور ما اكتنفها تلك اللحظة.. شعور بالرغبة فى البقاء جواره مهما كانت معاملته لها و مهما كانت تلك الشدة تؤذيها لكنها بحق تريد التواجد دوما و ابدا بقربه.. فهل سيسمح لها هو بالبقاء!؟..
دخلت السراىّ فى وجل تتلفت حولها لعلها تراه و تروى ذاك الشوق لرؤياه رغم ان بعادها عن محياه لم يتعد ايّام قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة الا انها تشعر انها افتقدته حد اللامعقول و كم شكرت الله انها نسيت كتابها ذاك حتى تتعلل بالقدوم الى هنا حتى تحضره.. دخلت السراىّ تتطلع حولها لعلها تجد زوجة خالها او حتى تراه هو..
لكن لا احد ظهر فقررت ان تدور حول السراىّ متجهة لغرفة القراءة تبحث عن كتابها المنسى لعلها تجده و قد يحالفها الحظ و يكون هناك لتشبع ذاك الشوق المضن اليه و الذى يقتات على صبرها و صلابتها المعتادة.. توجهت بالفعل لغرفة القراءة و بحثت هنا و هناك عن كتابها و لم تجده.. تنهدت فى قلة حيلة و رأت باب غرفته المطلة على موضعها حيث تقف الان مغلق..
يبدو انها بكرت فى القدوم مدفوعة بذاك الشوق المعربد بين جنبات صدرها.. قررت الرحيل و هى تؤكد لنفسها انها تفضل الموت شوقا و لا ان تدق عليه بابه فى ذاك الوقت.. لكن رحمة الله كانت بها اعلم لينفرج الباب الداخلى لغرفته معلنا استيقاظه..
تسمرت فى موضعها للحظات غير قادرة على إلتقاط انفاسها بشكل منتظم من جراء انتفاضتها عندما سمعت صوت باب حجرته يُفتح... و تساءلت فى وجل.. و ماذا انا بفاعله لو ان ذاك الباب كان باب قلبه لا حجرته !؟..ارتجفت للخاطر و تشجعت و هى مدفوعة بقوة خفية لا تعرف من اين واتتها و تنحنحت فى حرج و هى تقف على اعتاب الغرفة منكسة الرأس فى حياء و همست حين استجمعت احرف أبجديتها التائهة لمرأه:- صباح الخير يا چنرال..
كان دوره لينتفض فى تعجب لسماع صوتها يأتيه من باب الغرفة المطل على الحديقة.. لكم اشتاقها و اشتاق صوتها و افتقد جلساتهما سويا.. استدار فى سرعة بكرسيه المدولب ليواجهها فى سعادة هاتفا:- ايمان..! ايه المفاجأة الحلوة دى.. اتفضلى..
لم تتحرك من موضعها قيد انملة فما عادت قدماها قادرة على حملها من الاساس لكنها همست:- شكرًا.. انا چاية أسألك على كتاب نسيته.. مشفتوش.. تنبه انها تقصد ذاك الكتاب الذى كان سلواه في الأيام الماضية التى غابت عنه فيها.. فهتف مؤكدا:- اه.. الكتاب.. و تساءل مستطردا:- هو مهم قووى يعنى!؟..
اكدت بإيماءة من رأسها ليتنهد متوجها الى حيث وضع الكتاب بأحد الأدراج فى قداسة و اخرجه مسلما اياه.. مادا كفه به اليها هاتفا:- هو ده.. صح !؟. ابتسمت مؤكدة:- اه..هو..كويس انك لقيته و خلتهولى عندك.. هز رأسه و لم يعقب لتقف هى بإضطراب تفر صفحات الكتاب بين يديها فى حرج حتى وقعت عيناها على احد حواشيه التى سطرت عليها احرف قصيدة نزار.. فأحمرت خجلا فيبدو انه رأها.. لا بل من المؤكد انه فعل..
فتلك الكلمات التى تتبع قصيدتها بخطه المنمق بالتأكيد له.. لاحظ هو انها تنبهت لسطوره التى خطها بلا وعى منه فى احدى المرات اللامعدودة التى فتح فيها الكتاب و توقف عند تلك الصفحة ليقرأ القصيدة ربما للمرة الالف و يتمنى ان تكون مكتوبة له و موجهة لشخصه.. هتف مسيطرا على خلجات صدره:- اقرى كده.. عايز اخد رأيك في اللى كتبته..
تطلعت للأحرف التائهة امام ناظريها هامسة فى نفسها.. تقرأ ماذا !؟.. لابد انه يمزح.. اضطربت فى وقفتها فأشار اليها لتتجه لغرفة القراءة.. تحركت بأعجوبة و توجهت اليها و هو فى أعقابها بكرسيه جلست فى هدوء تحاول جمع شتات نفسها.. ليطلب من جديد:- اقرى.. تطلعت للأحرف و تنحنحت تجلى صوتها و تسلحت بالشجاعة مؤكدة ان لا داعٍ من التوتر بهذا الشكل فبالتأكد هذه الكلمات ليست لها لتشعر بكل هذا الاضطراب..
تنفست فى عمق و تهربت فى ذكاء هاتفة:- أحب اسمعها بصوتك.. ابتسم و قد ادرك مراوغتها و تناول منها الكتاب و بدأ فى القراءة بذاك الصوت الرجولى الرخيم هامسا: جئت إليكِ.. لا اعلم متى و لا كيف رمتنى امواج الحياة على شاطئيكِ.. جئتك مهزوم من قِبل العالم باحثا عن وطن لذاك الجبين المنهك حد المعاناة. انتِ.. يا انا.. يا روح الروح.. و نواة القلب.. ووطن الجبين.. و راحة الفؤاد..
أتيتك ألقى بهموم عالمي التى ناءت بحملها اكتافى على أبوابك.. فهل تقبلتنى!..هل ضممتنى !... اريد ان اتخلص من اى ذكرى على اعتاب أحضانك الدافئة و لا اتذكر الا اللحظة الأنية حيث ولدت من جديد بين هاتين الذراعين.. يا انا.. ضمينى اكثر.. فاكثر.. اذرعينى هناك حيث ذاك القلب الذهبي.. اعبرى بى فى ذورق عشقك عبر أوردتك و شرايينك.. دعيني أتلمس عطر البراءة بين خلايا ذاك الجسد الطاهر..
يا انا.. منهك انا.. مكروب انا.. و بحاجتك انا.. وهاك نفسى على اعتاب مدنك الشافية.. فهلا أشرعتى الأبواب لعابر قلب يحق له بعض من ذكاة حنانك السرمدي!؟.. صمت.. بل صمت العالم و ما عادت تسمع الا هدير ضربات قلبها التى أضحت اعلى صوتا من طبول حربا بدائية.. هتف عندما طال الصمت و لم تعطه رأيها فيما سمعت:- ايه !؟.. معجبكيش!؟.. انتزعت نفسها انتزاعا من بين براثن تيها الممزوج بدهشتها و همست:- بالعكس..ده راااائع.. انتفض متحكمسا:- بجد عجبك !؟..
ابتسمت فى هدوء:- و الله حلو چدااا.. و استطردت:- و انا بقترح عليك تعمل صفحة ع الفيس بوك و تنزل عليها خواطرك و أشعارك.. انا متاكدة انها هتعچب ناس كَتير.. چرب.. هتف متعجبا:- انا مجتش الفكرة دى ف بالى قبل كِده.. كنت دايما بكتب لنفسى و بس.. و صمت للحظات ثم هتف:- نجرب.. يعنى هنخسر ايه..
ابتسمت فى سعادة لانها دلته على طريق قد تخرجه و لو قليلا من عزلته التى فرضها على نفسه.. شعرت ان وقت رحيلها قد حان فنهضت فى عجالة هاتفة:- انا اتاخرت.. لازما أمشى.. و اندفعت مهرولة بعيدا عن محياه فما عاد لها القدرة على البقاء اكثر و الا فقدت ثباتها كليا ليهتف هو يستوقفها:- ايمااان..
استدارت لتطالع تلك الابتسامة المهلكة على شفتيه و طلبت العون من الله عندما استطرد هو متسائلا:- مقولتيش.. ممكن أسمى الصفحة ايه !؟.. حارت للحظات تفكر فى سرعة حتى تهرب من امامه و اخيرا هتفت:- سميها.. الچنرال العاشق.. و اندفعت مهرولة لا قبل لها على البقاء للحظة اخرى قبالة عينيه.. اما هو فقد ابتسم فى سعادة و هو يتطلع اليها تفر امامه بهذا الشكل المذعور وقد ابدلته بصفحة كتابها صفحة متجددة يبثها عليها لواعج فؤاده و مكنونات صدره..
دخلت كعادتها للمسجد من بابه الخلفى و توجهت لمصلى السيدات و الذى كان عبارة عن ساتر بسيط فى احد أركان المسجد الخلفية.. كانت ترتاح فى هذا المكان جدا.. كان دوما ملاذها من العالم بالخارج عندما تضيق بها الدنيا و يصطبغ صدرها بسواد النفاق و الكذب..
توجهت الى المصلى و جلست تستند على الحائط الرخامى البارد و همست متضرعة:-يااارب.. تنهدت و مدت كفها لأحد المصاحف الشريفة المركونة بأحد الأرفف قربها و فتحته لتقرأ فى صوت عذب هامس وقلبها فى حالة ارتباك غير مسبوق و عقلها يصارعها بقسوة و لا قبل لها على تلك الحرب الداخلية التى تنتهك سلامها الداخلى و تقضى على راحتها النفسية المعتادة و على هدوئها الفطرى و لا تجد ملجأ كعادتها الا صفحات من الذكر الحكيم فى مكانها..
المفضل فكل تلك الاحداث التى مرت بها منذ وفاة عبدالله اخوها و من بعده مقتل ابيها و انتقالها الى منزل اخيها يونس و بين كل هذا جاسم و تطلعه لميراثها و الرغبة فى الفوز بها مهما كانت العواقب.. انها تشعر بانهيار داخلى رغم ادعائها عكس ذلك و إظهار القوة و الشدة.. لكنها تحتاج للراحة.. الراحة و الأمان..و لا شئ اخر غيرهما..
مر الوقت لا تدرى كم.. فهى فقط تدرك انها دخلت المسجد بعد صلاة الظهر بقليل او بالأدق بعد ان فرغ الرجال من صلاتهم فتلك الفترة ما بين صلاة الظهر والعصر يكون فيها المسجد فارغ تماما و كله ملكها تقريبالانه وقت الذروة و ما زال معظم الرجال فى اشغالهم..
دخل هو يتلمس موضع لا يدركه احد به.. موضع يتوارى فيه عن الاعين على الرغم ان تلك الفترة لا يرتاد المسجد الا من فاتته صلاة الجماعة ظهرا فجاء لصلاتها وعلى الرغم من ذلك انتبذ مكانا قصيا و كان الانسب فى حالته تلك ان يجلس بالقرب من ستار مصلى النساء حتى يصبح بالفعل فى منأى عن الاعين..
توجه الى هناك و قد عقد عزمه على الصلاة اولا ثم الجلوس هناك حتى اذان العصر فهو ما عاد يعرف لما أصبح لا يدرك راحته الا و هو في رحاب بيت الله.. منذ استشهاد اخيه مؤمن و هو لا يرى معنى للدنيا و لا رغبة فيها و هو الذى كانت الدنيا شغله الشاغل لا يتورع عن فعل اى شئ مهما كان حتى يحوز ملذاتها التي غرق فيها حد الثمالة.. لكن الان هو يدرك انها لا تساوى مثقال ذرة و ان نظرة واحدة الى أخيه الحاضر الغائب تساوى الكثير.. بل تعادل الدنيا و ما عليها.. جلس و بداخل صدره نار تستعر على فراق أخيه الأصغر الذى ما قدره يوما حق قدره و ما كان له الأخ الأكبرالذى تمنى..
دفع بكفه لجيب جلبابه و اخرج رسالة أخيه الاخيرة له و التى تركها مع زملائه لتكون أمانة تصل اليه اذا اذن الله و استشهد.. و ها هى الان بين كفيه يتنسم من خلال حروفها عبق روح أخيه و يتمنى لو تجسد روحا و جسدا حيّا أمامه و لو للحظات حتى يخبره بكل ما يعتمل بصدره من مشاعر ما اتيحت له الفرصة ليخبره إياها ابدا..
قرأ الرسالة ربما للمرة الالف و كعادة كل مرة لا يستطيع استكمالها قبل ان يذرف الدمع قهرا و ألما و شوقا لصاحب تلك الأسطر.. حتى ان شهقات بكائه ارتفعت عن عادتها ربما لانه يدرك انه وحيدا بالمسجد و فى ذاك المكان المتطرف منه و لا يوجد شاهد على تلك الدموع الا الله.. فهمس بشوق عاصف:- اتوحشتك يا مؤمن..اتوحشتك ياخوى.
انتفضت هى عندما شعرت بحركة ما بجوار ستار مصلى السيدات الذى تحتله وحيدة الان.. حبست انفاسها فى ترقب و قد قررت النهوض لترحلفى هدوء الا انها سمعت همهمات وشهقات بكاء جعلتها تتسمر فى مكانها و لا تحرك ساكنا.. و اخيرا استمعت لذاك النداء الذى أدمى قلبها و ذاك الشوق القاتل الذى يغلّفه.. انه هو.. ماهر يبكى اخاه الشهيد.. لم تكن تدرك ان استشهاد مؤمن سيؤثر على ماهر بهذه الطريقةالموجعة.. هو اخاه بالطبع و من الطبيعى ان يحزن على فقده لكن لم تكن تتوقع ان يكون حزنه بهذا العمق و يصل لذاك الحد من الوجع..
و تعجبت ان ماهر هذا يملك قلبا من الاساس يشعر و يحس كباقي البشر.. كانت دوما تظن انه خُلق بلا قلب مجرد كتلة من الرغبة يعمل فقط على ارضاء شهواته لا اكثر.. هى بالفعل سمعت من اهل النجع انه تبدل بشكل كبير بعد رحيل أخيه..
لكنها لم تكن تتخيل انه تغير بهذا الشكل.. لا تعلم ما الذى دفعها لتعود موضعها من جديد لتفتح مصحفها بعد ان اغلقته استعدادا لمغادرة المسجد و تبدأ بالقراءة فى صوت رخيم باكٍ:- وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُم الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ..
انتفض عندما استمع لذاك الصوت الرخيم الذى استطاع تمييزه بسهولة رغم نبراته الباكية تأثرا.. انه صوتها.. ابنة العمدة... كما كان يدعوها دوما سخريةً و استهزاءً و التى ما مر يوما الا و كان لها بالمرصاد في ذهابها و إيابها..يسمعها ما لا يرضيها من كلمات الغزل رغبة في استمالتها.. أيقظته من صدمته عندما همست معزية:- البقاء لله..
همس مجيبا بصوت متحشرج لازالت اثار الصدمة بادية على نبراته:- سبحان من له الدوام. و اندفع راحلا خارج المسجد كمن يسابق الريح عدوا.. لا يعرف مما يفر.. هل يفر منها ام من نفسه القديمة التى ذكرته هى بها و بما كان يفعله فى السابق من مضايقات و الذى قابلته هى اليوم بالإحسان اليه في رقى و رقة!؟..
وقف خلف احد الأشجار القريبة من مدخل المسجد الخلفى يلتقط انفاسه حتى وجدها تخرج فى هدوء و روية تسير فى هرولة معتدلة تنظر امام اقدامها لا ترفع ناظريها ابدا عن موضع خطواتها حياءً..
دق صدره فى قلبه بعنف جعله يجفل فى دهشة.. انه يحبها.. نعم يحبها.. و العجيب ان يكتشف هذا الان فى تلك اللحظة التى يعربد فى صدره حزنه و قهره على رحيل أخيه الوحيد.الان فقط يدرك ان شعورا اخر يزاحم ذاك الحزن بداخله ليظهر كالمارد من قمقمه ليهتف صارخا:انا هاهنا.. قابع منذ امد بعيد.. انا هنا لكنك الان فقط ترانى.. و لن اتوارى مرة اخرى ابدااا..
دخل حمزة الفيلا متنحنا في ادب كعادته و هو يقبل على مائدة الغذاء التي ينضم اليها يوميا منذ جاء لبيت عمه من النجع.. جلس في هدوء محاولا انتظار الوقت المناسب لقول ما يرغب في الإدلاء به... مر الوقت و هو يتحين الفرص ليلقى بما يود ان يعلمه الجميع وأولهم هي.. ابنة عمه الغالية التي اورثته السهد ليال طويلة منذ خرج من محبسه حتى الليلة الماضية التي عزم بشكل قاطع على تنفيذ ما اتخذ قراره النهائي بشأنه و تجمع الكل على مائدة الغذاء هو الوقت الأمثل بجدارة لذا هتف في صوت حاول تغليفه بالبرود قدر استطاعته:- بجولك ايه يا عمى.. انا عايز استأذنك انزل البلد أسبوعين كِده..
تطلع اليه الجميع مستفسرًا و كان زكريا من استفسر في هدوء:- و ماله يا حمزة.. طبعا تقدر دى مش عايزة استئذان.. بس ليه خير!؟.. تنحنح حمزة و هو يعلم ان هذا السؤال كان قادما لا محالة و هو كان متأهبا للإجابة فهتف:- ابدا يا عمى بس عايز اطمن ابويا و امى عليا بعد اللى حصل.. كمان انى اتفجت مع عمى حسام على ميعاد كتب الكتاب بإذن الله و هيكون بعد ما أوصل بكام يوم.. و اكيد مش هيتم الا بوجودك يا عمى.. هلل زكريا:- الف مبرووك.. قول كِده بجى.. اتوحشت العروسة جلت انزل أشوفها و أكتب الكتاب بالمرة..
ابتسم حمزة و نكس رأسه في حياء و لم ينبس بحرف و ما كان قادرًا على رفع نظراته لتلك التي تجلس قبالته كتمثال شمعى لا حياة فيه يذوب داخليا في قهر و لا احد يدرى بما يعتمل داخلها.. النار تتأكلها و لا قدرة لديها لتخبر اى احد ان ينجدها و يمد يد المساعدة ليطفئها.. و كيف لهم ذلك!؟ حتى و ان حاولوا لن يستطيعوا مد يد العون و من أشعل النيران نفسه لا يأبه ولا يدرى من الاساس انها تحترق بها في صمت مهيب..
نهضت في هدوء غير معتاد منها و خاصة بعد سماعها خبر سعيد كهذا و استأذنت لتصعد غرفتها و ما ان دخلت من بابها حتى أطلقت العنان لدموعها الحبيسة لتروى خديها في غزارة.. هي لا تدرى ما يعتريها.. لكن ما تدركه بحسها انه لا قبل لها لتعيش بدون ذاك الاحمق بالأسفل و الذى يفكر ان يتركها ليذهب ليتزوج بأخرى.. هل يعلم معنى هذا!؟.. هل يعلم انها قد تموت ان فعل!؟.. هل يدرك حقا ذاك الجرم الذى يرتكبه في حق قلبها و روحها معا!؟..
بالطبع لا.. هو دوما لا يدرك الا هدير الساذجة.. هدير التي تفعل كل شيء بشكل خاطئ.. هدير المدللة التي لا تليق لتكون زوجة رجل صعيدى يثور غيرة لأتفه الأسباب و هي بتحررها الذى لا يعيه عقله لا تناسبه بأى شكل من الأشكال.. بالطبع لا تناسبه.. فهو يميل لفتاة تعرف أصول التعامل و ما يجب و ما لا يجب.. فتاة تدرك دورها بالضبط في حياته و تكون داعم قوى له لا مجرد فتاة يكون مجرد شخص ينضم لقائمة مدلليها الكثر..
شهقت في لوعة غير قادرة على التفكير في شيء الا ذاك الوجع القاهر الذى يعتصر قلبها اعتصارا.. اما هو.. فقد شعر براحة كبيرة و هو يجمع اغراضه ليرحل في عجالة مبتعدا قدر الإمكان عن محيا تلك التي قلبت موازين تعقله و أورثته التيه في أمور القلب و شواغل الروح و هو الذى ما كان يوما من المؤمنين بها و لا من الطامحين اليها..
هتف سيد في ضيق:- انتِ مش هاتفردى وشك ده بقى لما تشوفينى.. زمت ثريا ما بين حاجبيها في غضب و هتفت:- و انت ايه عوزتك ف وشى سواء مجلوب و لا معدول.. اللى يهمك شغلك اللى بتخده.. اى حاچة تانية مليكش فيها يا باشمهندس.. و لو على وشى اللى مش عاچبك ده.. بسيطة جوى متشوفهوش تانى.. و لا تزعل حضرتك.. و همت بالنهوض مغادرة مكتبها الذى كان ملحقا بمكتبه.. الا انه هتف يستوقفها في ثورة:- هو في ايه!؟..
أقول كلمة ترديها عشرة.. يا ساااتر.. و تبدل في لحظة هامسا:- و بعدين هو مش انا عملت اللى طلبتيه و خرجنا سى حمزة من المصيبة اللى كان فيها دى.. و ربنا يعلم انا اتكلفت قد ايه عشان اخرجه.. ابتسمت في سخرية:- ذنبك و بتخلص تمنه.. مش انت اللى رمته الرمية دى.. من افسد شيء فعليه إصلاحه.. ربنا يهديك..
هتف في غيظ:- انتِ ليه بتعاملينى كأنى واحد مريض او مجنون... انا باخد حقى على فكرة.. هتفت في حزم:- لاااه ده مش حج يا باشمهندس.. الحج يتاخد ف النور و جدام الناس كلها.. عارف ليه لانك عارف انه حجك.. لكن اللى بتعمله ده ملوش الا اسم واحد بس.. بلاش اجولك عليه.. انتفض في غضب ممسكا بذراعها يهزها في عنف:- انا مش جبان.. لو ده قصدك.. انا عمرى ما كنت جبان.. انا كان لازم اعمل كده.. كان لازم ادوقهم من القهرة و الوجع زى ما دقتهم و ا..
قاطعته منتزعة ذراعها من بين أصابعه الفولاذية هاتفة:- واضح ان مفيش فايدة و الغل هايفضل ماليك.. انا معرفش ليه بتكره الهوارية جوى كِده و لا عايزة اعرف على فكرة.. لكن اللى أحب اجولهولك انك صعبان عليا جوووى..
و اندفعت باتجاه الباب و امسكت المقبض تديره راحلة و لكنها استدارت قبل ان تهم بالخروج هاتفة في لهجة صارمة:- اه و بالمناسبة.. انى مش چاية الشركة دى تانى.. انا مجدرش اتعامل مع واحد كل همه ف الدنيا انه يأذى ناس لحم كتافى من خيرهم.. و نصيحة يا باشمهندس.. ابعد و ارچع مطرح ما چيت لانك هتخسر حاچات كَتير جوووى لو فضلت هنا..و انا مش بهددك على فكرة بس انا بحاول اديك فرصة اخيرة تراچع فيها نفسك و بچد انا لو حسّيت للحظة انك ناوى على شر تانى انا اللى هفشى سرك للكل و ساعتها هم اللى هيتعاملوا معاك و انت متعرفهمش.. الهوارية لحمهم مر و انت اللى خسران صدجنى.. اشوف وشك بخير يا باشمهندس..
و خرجت مسرعة و صفقت الباب خلفها لتتركه في صراع مرير بين رغبته في استكمال انتقامه و بين نصيحتها الغالية التي اسدته إياها بكل صدق.. و الأهم من ذلك كله هو رحيلها هي.. هل سيستطيع دخول هذه الشركة من جديد و هي ليست بها و لا يطالع محياها الصبوح متى دخل مكتبه!.. او يستمتع بمشاكستها و اثارة نوبات غضبها الذى يشتعل سريعا في تلك الأحداق العسلية التي تغريه لمزيد من التحديات!؟.. فماذا يفعل.. و كيف ينهى ذاك الصراع!؟.. و أي كفة هي الراجحة في ميزان الأختيار.!؟..
هبطت تسنيم الدرج فى هوادة لتصبح فى صحن الدار عندما طلت زهرة من الداخل و بيدها صحون الافطار الذى تعده لعاصم و ماجد لتتفاجأ بظهور تسنيم و هى تتجهز للخروج فهتفت فى سعادة:- صباح الخير يا تسنيم.. شيفاكِ مستعدة و هاتخرجى بدرى كده!؟.. خير!؟..
ابتسمت تسنيم بدورها هاتفة:- خير باْذن الله.. امى بس بعتت لى جال تعبانة شوية و عيزانى اجيس لها الضغط.. هروح و اجضى النهار..معاهم انا جلت لمهران.. هو عارف من امبارح.. هتفت زهرة بلهفة:- ليه مالها سهام بعد الشر عنها!؟..روحى يا حبيبتى وابقى طمنينى عليها و انا كمان هكلمها اخر النهار.. ياللاه معطلكيش عنها بقى.. و ما ان همت تسنيم بالخروج حتى هتفت زهرة تستوقفها:- بقولك ايه يا تسنيم!..
تنبهت تسنيم هاتفة:- خير يا مرت خالى..!؟. هتفت زهرة:- و انت رايحة لبيت بابا فى طريقك عدى على مهران ف المناحل خليه يبعت لنا عسل لحسن خلص و انت عارفة خالك كل اما ميلاقيش عسل يقعد يقطمنا.. عندنا المناحل دى كلها و مفيش عسل ف السرايا.. خليه يبعت لنا حد بيه ضرروى لحسن انا رنيت عليه كذا مرة و مردش.. اكدت تسنيم:- من عنايا يا مرت خالى..
ابتسمت زهرة:- تسلم عيونك.. و متنسيش تسلميلى على ماما و تسبيح. اكدت تسنيم:- يوصل.. ركبت تسنيم السيارة لبيت ابيها و ما ان مرت على مناحل العسل حتى طلبت من سائقها التوقف قليلا و انتظارها حتى تعود..
ترجلت و دخلت تبحث بعينيها عن مهران و لم تجده.. سارت قليلا ما بين تلك الأحواض المزروعة بالزهور من مختلف الأشكال و الألوان و اخيرا وقعت عيناها عليه و هو داخل منطقة الخلايا المربعة المتراصة على هيئة صناديق بنية و تعجبت انه لا يرتدى البدلة المخصصة للتعامل مع الخلايا كما ترى فى الأفلام.. و ذاك اخر ما تعلمه عن النحل و تربيته..
رأت فجأة عمود دخان يخرج من داخل احد الخلايا فظنت انه يحترق فأندفعت فى ذعر باتجاه مهران هاتفة:- حاسب يا شيخ.. كانت صرختها كفيلة بإثارة حفيظة النحل ليتوجه اليها مترصدا الا ان مهران تنبه فى سرعة لتلك الكارثة التى اثارتها بصرخاتها فأندفع اليها ليجذبها فى سرعة و يدفع بها ليلتصق ظهرها بأقرب نخلة و يدفع جسده ليحتويها كليا و يكون ساترا لها و غطاء يقيها لدغات النحل الموجعة التى بدأت تنال منه هو..
شعرت بالذعر فأنكمشت بين احضانه و هى تنتفض كلما سمعته يتوجع فى ألم ويتصلب جسده من جراء تلك اللدغات التى طالته وما كان بمقدورها ان تقوم بأى فعل لإنقاذه فيكفيها انها السبب فى كل ما يحدث من الاساس. امسكت شهقات بكائها على تأوهاته لأجلها بأعجوبة لكنها لم تستطع ان تمنع تلك الدموع التى خانتها من ان تُذرف شفقة عليه.. انه يفديها و يتحمل لدغات موجعة بدلا عنها..
و اخيرا ابتعد فى تؤدة عندما شعر ان النحل قد هدأ و مات من مات منه فى سبيل الانتقام للإزعاج الذى سببته هى.. كان اقترابه منها بهذا الشكل الحميمى و احتمائها بأحضانه شعورا مهلكا..اكثر ألما و أشد وجعا من لدغات النحل التى طالته..
همس بصوت أجش محاولا معاتبتها بصوت خفيض حتى لا يثير حفيظة النحل من جديد و ما ان هم بالنطق حتى رفعت نظراتها الدامعة اليه فأخرسته كليا و جعلته يبتلع احرف عتابه جميعها و لا يبقى منها الا احرف كوّن بها جملة واحدة تشى بكل ما يعتمل بصدره من محبة:- انتِ بخير!؟.. طاف بناظريه على وجهها لعله قد اصابه ما اصاب وجهه الذى حاول مداراته قدر إمكانه لكنه طاله بعض اللدغات..
لم تستطع النطق بحرف و هى تتطلع الى وجهه الذى بدأت اثار حمراء تظهر على احد جانبيه.. و اخيرا ألقت بالاحرف هامسة و هى تشير لموضع الاحمرار فى ذعر:- انت محتاچ علاچ.. ضرورى.. همس يحاول طمأنتها:- متخافيش.. هبجى كويس.. لدعة النحل شفا..و انا متعود عليها... فداكِ.. همست لنفسها:- هل قال فداكِ!؟.. قالها!؟.. يا وجع روحى يا مهران.. متى تسامح !؟.. متى تغفر !؟..
هطلت الدموع من عينيها بغزارة فتنبه و تطلع اليها فى شفقة و ما ان هم بالحديث حتى كانت هى الأسبق لتندفع من امامه حتى لا يرى المزيد من ضعفها فى حضرته..
تنهد فى قلة حيلة و هى يتطلع الى رحيلها المهرول و صوت محرك العربة المسرعة بها بعيدا.. يفكر دوما فى أخبارها انه سامحها.. انه غفر ما كان منها.. انه ما عاد يهمه الا هى و لا يترقب الا اجتماعهما.. لكنه يرى ان من الأفضل ان تظل تعتقد انه لايزل على موقفه و لم يتزحزح حتى تظل بعيدة و تتركه بسلام ينهى ما بدأه بالفعل من كفارته حتى يستطيع الاقتراب منها وكذا تعليم نفسه درسا لاتنساه.. و تنهد من جديد رافعا كفيه للسماء فى ابتهال هاتفا بوجع هادر:- يااارب.. هون ثم هون.. ثم أزح الهم عن قلوب لا يعلم بحالها الا انت.. كررها مرات و مرات و اخيرا تحشرج صوته فأخفض كفيه و احنى رأسه و دمعت عيناه شوقا اليها و شفقة عليها..
اندفع باحثا عنها كعادته.. وجال ببصره الشقة بناظريه لعله يجدها و أخيرا رأها تجلس على اريكتها المفضلة في غرفة نومهما تتطلع لبعض الأوراق أمامها في اهتمام بالغ حتى انها لم تع بحضوره الا عندما اندفع ملقيا رأسه على قدميها المتشابكتين أسفلها لتنتفض و تتناثر الأوراق من يدها ارضا فهتفت و هى تتنفس بعمق و راحة:- كِده برضو.. خضتنى يا باثل..
ابتسم بدوره هامسا:- انا بجالى فترة بدور عليكِ و انتِ ولا حاسة..مشغولة بالورج و مش واخدة بالك.. و استدار حتى اصبح وجهه مواجها لأحضانها فدفن وجهه فيها مهمهما في شوق.. لتنحنى هامسة بالقرب من أذنيه:- باثل.. عايزة اخلص القضية اللى ف ايدى.. ممكن!؟..
همس بصوت مكتوم و هو لايزل متشبثا بأحضانها:- و انى جضيتى مين يخلصها!؟.. ابتسمت هامسة:- طبعا انا..مش هتلاقى محامى شاطر زيي هكسبهالك من اول جلسة.. بس القضايا بالدور.. اخلص اللى ف ايدى و أفضى لقضيتك.. انتفض متصنعا الامتعاض هاتفا:- و إن جلت لك هزود لك الأتعاب يا أستاذة!؟.. همهمت سندس مازحة:- لا اذا كان كده.. قضيتك تبقى اول قضية ف الرول يا باثل باشا..
انتفض مقهقها و هو يحملها بين ذراعيه مشاكسا:- مكنتش اعرف انك مادية جوى كِده يا بت خالى!؟.. انفجرت ضاحكة و هي تتعلق برقبته هاتفة:- انا أحب اخد حقى مقدم.. مبقاش في امان اليومين دول.. قهقه مجددا و هو يهتف في عبث مغيبا إياها بين ذراعيه:- و انى چاهز للدفع.. يا بت خالى..