رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون
انتفضت زهرة فى ذعر من نومها هاتفة:- اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. تململ عاصم بجوارها فى تساءل:- ايه فى يا زهرة!؟.. واستدار متطلعا اليها بعد ان أضاء المصباح المجاور لفراشه ليهتف متطلعا لوجهها الشاحب:- خبر ايه !؟. كنه كابوس چامد.. اشربيلك بج مية طيب.. هتفت كأنها لم تسمعه:- ماجد يا عاصم.. ماجد..
انتفض عاصم بدوره قلقا و استدار اليها بكليته متسائلا:- ماله ماچد..!؟. و تنهد مستطردا يحاول طمأنتها:- تلاجى بس يمكن عشان بجالك فترة مكلمتيهوش يا زهرة و مطمنتيش عليه.. تلاجيه وحشك حبتين.. هو طول الغيبة المرة دى ووحشنا كلنا الصراحة.. لم تعقب زهرة ليربت عاصم على كتفها ناصحا:-جومى صلى ركعتين لله جبل الفچر يمكن تهدى شوية و لا استنى.. و تطلع لساعة جواله مستطردا.. كنه الفچر أدن من ياجى نص ساعة.. جومى نصلوا و اهدى.. وسوسة شيطان..
بكت زهرة فى صمت ليتطلع اليها عاصم عائدا اليها بعد ان قطع نصف المسافة للحمام رغبة فى الوضوء و الصلاة هاتفا:- واااه.. دِه باينه الموضوع كَبير.. بجى حتة حلم يعمل فيكِ كِده يا ام مهران.. و انى اللى بجول عليكِ شَديدة.. و امسك بكفها جاذبا إياها لتسير خلفه هاتفا:- انى هتصل بماچد من صبحية ربنا و اجوله يحاول ياجى ف اجرب فرصة عشان تشوفيه و تطمنى عليه بنفسك يا ستى.. ارتاحتى بجى!؟.. و استدار اليها مقتربا فى مشاكسة هامسا:- و لا اجرب و اجرالك آيتين قرآن من بتوع زمان!؟..
ابتسمت من بين دموعها لذكرى ما كانت بينهما عندما كانت تمرض يقترب منها و يقول لها هجرالك قران و هتبجى عال.. لينتهى بهما الحال كالمعتاد فى احضان احدهما الاخر.. جذبها من جديد خلفه حتى الحمام ليتوضأ كل منهما و يصلى الفجر و كلاهما فى قلبه رجفة قلق يحاول ان يداريها عن رفيقه..
دخلت سكينة المطبخ تسعى لصنع كوب من الشاي لتجد كسبانة تقف امام الاطباق المتسخة بحوض الغسيل دون ان تمسها و لكنها تبكى في صمت دون ان يدرك بحالها احد.. اندفعت سكينة لكنتها هاتفة في لوعة:- واااه.. ايه في يا بتى !؟.. ليه البكا دِه!؟.. مسحت كسبانة دموعها بظاهر كفها هاتفة بصوت مبحوح و انكسار:- لااه مفيش يا خالتى.. مفيش..
صمتت سكينة للحظات تتطلع لها و أخيرا اقتربت منها تربت على كتفها في تعاطف هامسة:- متجلجيش يا بتى.. كل ضيجة بعدها فرچ.. ربك هيعدلها.. هتفت كسبانة في ضيق:- كيف يا خالتى.. كيف !؟.. و دى وصية حمايا الله يرحمه.. انتِ عارفة انى حاسة بأيه دلوجت.. عارفة كل اما اطلع لها و انى شايفة شبابها و جمالها اجول ف نفسى ايه!؟.. انى بموت من چوه و محدش دارى بحالى..انى مبكهرهاش هي ملهاش ذنب..تلاجيها مغصوبة برضك و مش بيدها..بس أعمل ايه ف حالى !؟.. ده انى سألت ولدك هتتچوزها.. يجولى لاااه دى اصغر من حامد ولدى.. طب كيف.. ووصية ابوك!؟..
ابتسمت سكينة و هي تربت على كتفها تهدئ من انفعالاتها التي ظهرت على شكل شهقات بكاء عَلا نحيبها..و أخيرا هتفت:- ليه و انى روحت فين!؟.. تطلعت اليها كسبانة مستفسرة في تعجب:- كيف يعنى !؟.. اتسعت ابتسامة سكينة هاتفة:- هو انتِ مش بتى!.. كيف اشوفك كِده و اجف ساكتة!؟..
تطلعت كسبانة اليها من جديد في تعجب و لم تعقب لتستطرد سكينة في تأكيد:- من ساعة ما چيت البيت دِه و انت مستحملانى و بتعملينى كيف امك و عمرك ما زعلتينى و شيلانى على كفوف الراحة..و انى حبيتك كنك بتى و ربنا العالم و محملش فيكِ اى حاچة عفشة.. حتى و لو كانت من ولدى.. تطلعت كسبانة اليها في امتنان و أرتمت في أحضانها لتهمس سكينة و هي تضمها اليها في محبة حقيقية:- مش انى غازية!؟.. اطلعى بجى على تصاريف الغوازى..
خرجت هداية كعادتها من كليتها تحاول البحث عن عربتهم لتقلها لدار اخيها و تبعتها عائشة تلحق بها بعد انتهاء محاضراتها.. تلفتت كل منهما تبحث عن السيارة لكن بلا جدوى.. لتنتفض هداية في مكانها عند ظهور احدهم هاتفا من خلفها في صفاقة منقطعة النظير:- مش لاجية عربيتكم!؟.. طب و ماله عربيتى موچودة و تحت امركم..
هتفت هداية لماهر في ضيق:- بجولك ايه يا اخ انت..هو ايه.. كل مكان طالع لى فيه كِده زى عفريت العلبة.. و الله لو ما لميت روحك ما هايحصل لك طيب.. هتف ماهر في سماجة:- كل اللى ياجى منيكِ انى جابل بيه.. همت هداية بالصراخ فيه الا ان عائشة كانت الأسرع لتهتف في هدوء:- فارجنا يا اخ الله لا يسيئك احنا مش ناجصين.. روح لحالك و سبنا ف حالنا..
هتف ماهر متعجبا:- واااه.. و انى عِملت ايه يعنى!؟.. هوصلكم ف طريجى للنچع.. هتفت عائشة في ضيق:- هو انت جالب عربيتك الخصوصي توصيل بالنفر !؟.. لو كِده يبجى نركب.. غير كِده يبجى تحل عنا.. احنا منجصينش جورس و فضايح.. روح..
جذبتها هداية عندما أنهت نطق اخر كلمة لذاك الاحمق الذى يلاحقها كظلها في إصرار عجيب و قفزت لأحدى عربات الأجرة التي كانت تتابعها هداية بناظريها متحينة الفرص للهروب من ذاك الماهر الذى بات أشبه بظل لها..و الذى رن هاتفه مرارا و تكرارا فهو لم يعد من البارحة لدار ابيه و ها هى امه لا تتركه لحاله منذ الصباح برنينها الذى لا ينقطع.. جلس خلف مقود سيارته و اندفع بها للنجع و قد عاود هاتفه الرنين من جديد ليتجاهله كالعادة..
اندفع كل من زهرة و عاصم من باب المشفى الذى اُحتجز فيه ماجد و بقية من رفاقه اثر ذاك الحادث الارهابى.. كان المشفى على قدم و ساق و لم يكن من السهل الوصول لمعرفة اين ولدهما الذى حتى هذه اللحظة لا يعلمان ما هى اصابته بالضبط.. اخيرا ظهر احد الأطباء خارجا من احدى غرف العمليات متعجلا ليستوقفه عاصم فى اندفاع:- معلش يا داكتور.. الملازم ماچد عاصم الهوارى.. موچود فين !؟..و اصابته ايه..!؟
اكد الطبيب:- متهئ لى ده اللى ف غرفة العمليات دلوقتى.. انا لسه خارج من عنده عشان استدعونى ف الطوارئ.. إصابته شديدة ادعوله.. تمسكت زهرة بذراع عاصم فى وهن تشعر ان قدماها هلاميتان.. أسندها عاصم و هى مصدومة لا تنطق حرفا و قد شحب لونه بدوره غير قادر حتى على مواساتها..
لا يعلم اى منهما كم ظلا على حالهما حتى انفرج باب غرفة العمليات عن احد الأطباء لتدب العافية فيهما فيندفعان بإتجاه الطبيب الذى بادرهما بالسؤال:- انتوا اهل سيادة الملازم ماجد الهوارى!؟.. هتف عاصم مؤكدا:- ايوه يا داكتور.. خير.. طمنا.. زم الطبيب شفتيه أسفا منكسا رأسه ارضا و اخيرا هتف فى حزن:- انا أسف حاولنا نعمل اللى نقدر عليه عشان ننقذ رجله لكن حالتها كانت سيئة جدا و كان لابد من البتر..
شهقت زهرة فى صدمة متعلقة بعاصم بينما لم يأتِ الاخير اى ردة فعل و اخيرا هتف بعد لحظات من الصمت:- بتجول بتر يا داكتور!..يعنى رجله راحت!؟.. ولدى بجى عاچز!؟.. ربت الطبيب على كتف عاصم و قد عَلا نحيب زهرة فى وجع و ساد الصمت القاتم للحظات قطعها الطبيب موضحا:- البتر أنقذ حياته و خاصة بعد إصابة الرجل التانية بس الحمد لله قدرنا نتعامل مع الإصابة و بقت بخير.. ادعوله..
استأذن الطبيب و غادر و هما على حالهما امام غرفة العمليات تشملهما الصدمة و لا يستطع اى منهما مواساة الاخر فى مصابه.. حتى ظهرت سهام و معها مهران و حسام لتندفع زهرة بأحضانها صارخة:- ماجد خلاص يا سهام.. ماجد بقى عاجز.. رجله راحت..
شهقت سهام فى صدمة منتحبة على حال بن اخيها بينما اندفع مهران بأحضان ابيه مواسيا لا يعلم ما عليه فعله هل يبكى اخيه ام يواسى ابيه على مصابهم ليهمس عاصم مكررا فى انكسار:- اخوك رچله راحت يا مهران.. اخوك بجى عاچز.. ربت مهران على ظهر ابيه مواسيا يدارى دمعا يهتز على جفونه فى لوعة هاتفا:- نستحمدوه يا حاچ عاصم.. نستحمدوه.. انت متعرفش ان مؤمن استشهد.. زاد نحيب زهرة و سهام وجعا بينما هتف عاصم فى صدمة:- مؤمن واد سمية !؟
اكد مهران فى حزن:- ايوه.. و البلد مجلوبة على رچل.. چالى الخبر بعد ما طلعنا ع المطار چرى وراكم على هنا.. هتف عاصم دامع العينين:- انا لله و انا اليه راچعون.. انفرج باب غرفة العمليات فجأة لتخرج احدى الممرضات دافعة الباب و جاذبة سرير مدولب يتمدد عليه ماجد تدفعه ممرضة اخرى على الجانب الاخر فى سبيلهما لغرفته..
انتفضت زهرة تحاول التطلع لولدها فى لهفة و ما ان طالعها محياه و هو يرقد بهذا الشكل ملئ بالإصابات المتعددة فى أنحاء جسده حتى غامت الدنيا امام ناظريها و ما عادت تراها الا بلون الحزن...
طرقات خفيفة على باب حجرتها جعلتها تدرك على الفور انها أمها تستأذن للدخول فسمحت دمعاتها المنسابة على خدها في سرعة قبل ان تأذن لها معتقدة انها بذلك قد أخفت حزنها عنها.. تطلعت سهير لأبنتها التي لم تغادر حجرتها منذ ذاك الصدام بينها و بين حازم خطيبها.. كانت تعتزل الناس و الدنيا تبكى في الخفاء معتقدة انها لا تشعر بها و هي لا تراها..
خطوات قليلة تقدمتها داخل الغرفة حتى أصبحت بجوار نهلة التي حاولت الابتسام هامسة:- خير يا ماما في حاجة !؟.. همست سهير رابتة على كتف ابنتها في حنو:- اه.. اكيد في.. فيه اللى انتِ عملاه ف نفسك ده.. هتفت نهلة مدعية الدهشة:- عاملة ايه بس يا ماما !؟.. ما انا زى الفل اهو.. ابتسمت سهير متهكمة:- ايوه فعلا.. انت زى الفل قدامى انا و بس.. لكن لوحدك بتقضيها عياط و دموع.. ليه كده يا نونا..احنا مش أصحاب!؟..
ليه تفكرى لوحدك و تزعلى لوحدك.. و انا معاكى.. همست نهلة متعللة:- اصل يا ماما.. انا.. قاطعتها سهير معاتبة:- انتِ ايه يا نهلة بس !؟.. فضلت كتير مستنية انك تيجى تتكلمى براحتك من غير ضغط منى.. لكن للأسف مجتيش.. قلت لا.. مش هفضل سيباكِ كده.. لازم ادخل بقى و اشوف ايه اللى ف دماغك بالظبط.. و استقريتى على ايه!؟..
هزت نهلة كتفيها في تيه هامسة:- مفيش.. و لا اى حاجة يا ماما.. و استطردت بصوت مهزوز ينبئ بعاصفة بكاء تلوح في الأفق:- انا تايهة.. مش عارفة اعمل ايه و لا اختار ازاى.. حاسة انى مسجونة جوه افكارى و مشاعرى و مش عارفة اخد اى قرار.. مش عارفة.. و انفجرت نهلة في بكاء عاصف أدمى قلب أمها اشفاقا عليها لتحتضنها في حنو و لم تتفوه بكلمة احتراما لحزن ابنتها و رغبة في تركها تفرغ كل ما يعتمل بداخلها من اضطراب و توتر.
هدأت نهلة أخيرا و لم يبق من اثر بكائها سوى بعض شهقات متقطعة بين الحين و الاخر.. أبعدت سهير ابنتها عن أحضانها في رفق تزيل اثر دمعاتها من على خديها بأكف حانية و همست في هدوء:- انا عارفة اللى انتِ فيه مش سهل.. ده صراع صعب قووى بين قلبك و عقلك.. بين حلمك و طموحك.. بس كل واحد ف الحياة مر بالاختيار ده و الشاطر هو اللى عرف يختار أولوياته صح عشان ما يندمش بعد كده و يقول يا ريت..
هتفت نهلة مستفسرة:- يعنى ايه يا ماما.. قصدك اسيب الماجستير و الدكتوراه ف السوربون و اتجوز حازم!؟.. و لا اضحى بحازم و حبى ليه و وصية بابا انى اتجوزه عشان طموحى و مستقبلى العلمى..!؟
هتفت سهير:- انا عمرى ما هوجهك لأى اختيار فيهم.. هسيبك انت تختارى اللى يناسبك و يريحك يا نهلة.. بس هكون جنبك و معاكِ مهما كان اختيارك.. بس انت اوعدينى انك عمرك ما هاتيجى على نفسك عشان تحققى حلم حد.. حققى حلمك انتِ يا نهلة لأن دى حياتك انتِ يا حبيبتى.. و اذا كان على وصية بابا.. فكرى بقلبك لو بابا كان لسه عايش كان هيتمنى لك ايه !؟.. بابا عمره ما كان هايتمنى غير سعادتك و بس يا نونا.. و لما فكر ف الوصية دى.. برضه عشان سعادتك.. خليكِ فاكرة ده كويس قوى..
نهضت سهير بعد ان ألقت كلماتها و غادرت الغرفة و هي تغمر ابنتها بنظرات داعمة و ابتسامة هادئة.. لتبادلها نهلة الابتسامة و قد تبدل حالها تماما..
اندفع زكريا لداخل بيت ابيه على قدر ما اتاحت له إصابة قدميه متطلعا في هلع و لوعة لجموع النساء المرتديات السواد و قد تجمعن داخل الدار بهذا الشكل المقبض يولولن و ينوحن في حزن يدمى القلب..
بحث عن اخته سمية بينهن لكنه لم يجدها بل وجد ايمان التى كانت فى حالة يرثى لها و التى يبدو انها استفاقت منذ لحظات من اغماءتها عندما علمت بالخبر و قد ظهرت من بينهمن مندفعة اليه ترتمى على صدره في عدم تصديق:- خالى.. شوفت اللى حصلنا يا خالى!؟.. مؤمن راح.. مؤمن راح يا خالى راح.. شهقت في وجع بين احضانه و هو بدوره لم يستطع كبح جماح دمعه على فقيدهما الغالى ذاك الشاب دمث الخلق الذى أسعده الحظ و ألتقاه مرة واحدة في احد زيارته للنجع و التي وافقت إجازته..
ربت على ظهر ابنة اخته هامسا في تساؤل:- فين امك يا بتى !؟.. اشارت ايمان لأحد الأبواب بالدور العلوى هامسة:- جافلة على نفسها من ساعة ما عرفت الخبر.. و شهقت من جديد.. جاعدة ف اوضته مش راضية تخرچ و لا تجابل حد..
استند زكريا على سُوَر الدرج صاعدا لحجرة الشهيد مؤمن حيث اشارت ايمان.. و ما ان وصلها حتى طرق بابها في رفق طالبا الإذن بالدخول لكن لا مجيب.. فتح الباب في رفق متطلعا برأسه داخل الغرفة و جال ببصره في جميع أنحائها و أخيرا وقعت عيناه على اخته.. ابتلع دمعة كاد يغص بها و سار اليها في خطوات وئيدة و أخيرا ترك عصاه و انحنى يجلس جوارها حيث خزانة ملابس مؤمن التي أفرغتها سمية في عشوائية و جلست بين ملابسه تتلمس ريحه الطيب لعله يخبرها ان صاحبه لازال على قيد الحياة..
جذبها زكريا لأحضانه في لوعة باكيا حالها و هي تحتضن ملابس ولدها بهذا الشكل..كانت جسد متخشب بين ذراعيه.. جسد غادرته روحه.. عيناها شاخصة لإطار ذهبى يحمل صورة ولدها الغائب الحاضر و كفيها تتشبث بملابسه في استماتة تضمها لأحضانها في قوة ترفعها بين فينة و أخرى تغمر فيها وجهها و تملأ صدرها برائحة ولدها التي خلفها..
هتف فيها زكريا و هو يراها على هذه الحالة من الجمود:- ابكى يا سمية.. ابكى عشان ترتاحى.. تطلعت اليه أخيرا و كأنها المرة الأولى التي تراه فيها منذ دخل الغرفة رغم كونها بين ذراعيه هاتفة في تعجب:- ابكى ليه !..و النسوان اللى تحت دوول بينحوا على مين !؟.. دى سنوية عدلى لسه بدرى عليها.. انزل يا زكريا خليهم يكتموا صواتهم مش ناجصين فجر..
تطلع اليها زكريا لا يدرى ما يقول او يفعل وهو يراها على هذه الحالة من الإنكار لإستشهاد ولدها.. صمت و لم يعقب و ربت على كتفها في إشفاق و هو يحاول النهوض متوكزا على عصاه.. وما ان هم بالخروج من الغرفة حتى هتفت سمية متسائلة في تعجب:- بس مجلتش يا زكريا انك چاى !؟.. خير.. ايه في !؟.. تطلع زكريا لها و خفض بصره في أسى و صارع جريان دموعه قدر استطاعته حتى هتف أخيرا:- مفيش يا سمية.. كل خير.. اتوحشتك جلت اچى اشوفك.. ابتسمت في هدوء و جمعت اكبر قدر من الملابس بين ذراعيها ترفعه لتتلمس عبق وليدها من جديد..
مازال النوم يجافيه و هى لا تنام تحت نفس السقف و ما يزوره النعاس الا على فراشها فى احضان ردائها.. فدخل حجرتها من جديد بعد ان ظل يعاند نفسه و لا يطاوعها ليأتى ليتمدد على فراشها ككل ليلة منذ اصبحت تقضى أيامها و لياليها بالأسفل تحت قدمى امه المريضة..
تنهد فى شوق و هو يبحث عن ردائها الذى يضمه لأحضانه حتى ينام لكنه لم يجده موضوعا بمكانه حيث تركه صباحا.. يبدو أنها صعدت و أخذته.. زفر فى ضيق و اتجه لخزانة ملابسها باحثا عن اى رداء لها لعله يستعيض به عن ذاك الذى اختفى.. مد كفه يلتقط احد الاردية من داخل الخزانة لينتفض فجأة على صوتها هاتفا فى تعجب:- ناااصر.. فى حاجة !؟.. بتعمل ايه ف اوضتى !؟..
تمالك أعصابه بأعجوبة و استدار متطلعا اليها و هتف فى غضب متحججا:- هيكون بعمل ايه يعنى !؟.. بدور على ملايات لسريرى.. الملايات بقت زى الزفت و عايزة تتغير من زمن.. تعجبت شيماء هاتفة:- بس انا مغيراهم من يومين!؟.. اضطرب هاتفا فى حنق يخفى اضطرابه:- يعنى ايه !؟.. بكذب مثلا!؟.. بقولك الملاية مش نضيفة و عايزة تتغير..
هزت رأسها بسرعة هامسة فى طاعة:- حاضر حاضر.. هغيرها.. ليستطرد مؤنبا فى غضب:- و بعدين ايه اللى طلعك من جنب امى دلوقتى!؟.. ازاى تسيبيها لوحدها !؟.. هتفت شيماء:- لا.. ما هو.. اندفع يخرج من غرفتها بعد ان شعر بالاختناق داخلها و هى تملأها بمحياها الذى يُذهب بثباته..مستدركا فى غيظ:- ما هو ايه بس !؟.. انت دايما كده مفيش فايدة فيكِ.. اخرك شوية الزواق و الدلع اللى جابوا لك الكافية..
استدارت تتطلع اليه فى وجع و عيونها الدامعة تلومه الف مرة و تجلده بسياط من عتاب على ما تفوه به لتوه مذكرها بحادثتها المشؤومة.. انتبه لما انزلق اليه لسانه دون ان يدرى و دون ان يكون مدرك لما يقذف به كعادته..انه بصدق لم يقصد ان يكون ذاك هو المعنى الذى يصل اليها.. هو نفسه لا يحب ذكر تلك الحادثة و يتجاهل حدوثها من الاساس فكيف فعل ذلك !؟..
تطلع الى نظراتها الموجوعة ووجهها الذى أغرقته الدموع و ما ان هم بالنطق يحاول ان يتدارك فعلته الجارحة حتى اندفعت هى من امامه للأسفل وهى تمسح دموعها مجيبة نداء ابيه:- ايوه يا خالى انا نازلة اهو..
ها قد ظلمها من جديد حينما اتهمها بترك امه وحيدة و قد كان ابيه يتخذ موضعها جوارها حينما صعدت هى الى هنا.. تطلع حوله فى غضب جامح و اخيرا دفع بأحد المقاعد القريبة منه بعيدا فى ثورة لم يعد هناك من سبيل الى إخمادها سوى قربها الذى ما عاد حتى قادرًا عليه او متاح له..
مسحت زهرة دمعاتها المتساقطة على خديها في تتابع و هي تهمس بالقرب من عاصم بوجع:- هتقوله ازاى يا عاصم !؟.. هنبلغه موضوع رجله ازاى !؟.. و خبر استشهاد مؤمن كمان.. يا وجع القلب يا ربى..
تنهد عاصم في حزن:- و الله ما انى عارف.. من ساعة اللى حصل و انى كن عجلى وجف و ما عارف اسوى كيف و لا اجول ايه.. ربنا يلهمنا الصبر و الحكمة.. حمولة تجيلة.. و يا رب يعينك يا سمية على اللى حصل... شهقت زهرة باكية من جديد و هي تهتف من بين دموعها:- على قولك يا عاصم.. ربنا يعينها يا رب على وجعها و حرقة قلبها على ابنها.. صعبة قوووى يا عاصم.. قوووى..
هتف عاصم:- الحمد لله ان زكريا وياها دلوجتى.. ربنا يصبرها.. الحمل واعر.. و الحمد لله على كل حال.. همت زهرة بالحديث الا انها انتفضت و كذا عاصم على صوت همهمة قادمة من ماجد الراقد متمددا على فراش المشفى.. يبدو انه في سبيله للإفاقة.. هم عاصم بالاندفاع من الغرفة للبحث عن طبيب لكن زهرة استوقفته هاتفة في ذعر:- انت هتروح فين و تسبنى لوحدى!؟.. لا.. خليك معايا يا عاصم انا مش هقدر اواجهه لوحدى باللى حصل..
تسمر عاصم موضعه و لم يجرؤ على الخروج من الغرفة ما ان طالعهما ماجد و هو يفتح عينيه في تثاقل مشوش الرؤية.. لحظات كالدهر مرت عليهما حتى بدأ في استيعاب ما يحدث و شاهد أبواه امام ناظريه بشكل واضح و ما ان هم بسؤالهما عن سبب تواجدهما في ثكنته العسكرية حتى تنبه عقله و بدأ في استرجاع ما حدث قبل فقدانه الوعى فصرخ بصوت كالرعد ليجلس منتفضا هاتفا بأسم مؤمن..
توجه اليه عاصم رابتا على كتفه في إشفاق ليعيده ليستلقى من جديد على وسادته ليهتف ماجد في تيه:- مؤمن كان معايا يا بابا.. انا قلت له خد ساتر.. و لما الانفجارات بدأت كل واحد فينا كان معاه سلاحه.. بس هو كان مرمى غرقان ف دمه و بيضحك.. و الله كان بيضحك.. انا شفت وشه.. و قعدت اندايله بس مردش عليا.. انا مقدرتش اروح له.. حسّيت برجلى تقيلة قووى.. مؤمن كويس.. صح يا بابا !؟.. قول انه كويس..
انفجرت زهرة في البكاء بشكل هستيرى و لم تستطع تمالك نفسها لتسقط على اقرب كرسى غير قادرة على استيعاب ما يحدث بينما تماسك عاصم في أعجوبة محاولا وأد غصات الألم التي ترتع بصدره و دموع الوجع التي تتأرجح بمآقيه.. و هتف في نبرة متحشرجة و حروف مترددة:- الشهيد مؤمن راح للمكان اللى يستحجه.. هتف ماجد صارخا في لوعة:- بتقول شهيد يا بابا!؟.. شهيد..
اكد عاصم بإيماءة من رأسه و ألتقط أنفاسه في تتابع مضطرب مستطردا في ألم يمزقه:- ايوه يا ماچد.. و سبجك للچنة يا ولدى.. هو.. و صمت قليلا ليكمل في وجع:- هو و رچلك.. صمت ماجد في صدمة و كأنه لم يستوعب ما تلفظ به ابوه منذ لحظات و شهقات امه الموجوعة هناك بأحد أطراف الغرفة تنبئه ان ما يخبره به هو الحقيقة التي يحاول نكرانها..
لحظات من الصمت خلت دون ان يتلفظ احدهما بكلمة لم يقطعها الا صوت نهنهات زهرة المتعاقبة عن قرب.. و أخيرا همس ماجد في هدوء عجيب لا يتناسب مع ما سمعه لتوه من اخبار:- ممكن تسيبونى لوحدى لو سمحتوا!؟.. هتف عاصم:- يا ماچد يا ولدى.. انى..
هتف ماجد بنبرة هادئة مقلقة من جديد:- لو سمحتوا.. تنهد عاصم في حيرة لطلب ولده و أخيرا توجه تجاه زهرة و جذبها من كفها في رفق و خرجا سويا من الغرفة و كلاهما غير قادر على المعارضة و رفض طلب ولدهما..
ما ان أُغلق باب الحجرة حتى تطلع ماجد لموضع قدميه.. هو لا يشعر ان قدمه ليست في موضعها.. ربما هو تأثير المخدر الذى قد يكون مايزل يسرى بجسده..هو فقط يشعر بخدر عجيب موضع قدمه المبتور و التي يجد حيث موضعها الطبيعى فراغ..
انحنى بجسده قليلا و تحسس موضع قدمه المبتور لعله يصدق انها ليست هنا.. تأكد ان فقدها حقيقة ماثلة صوب عينيه و انه لن يعود قادرًا على السير على قدمين كباقي البشر مرة أخرى.. و انه فقد مستقبله العسكرى مع فقده لها.. صمت لبرهة فى صدمة و اخيرا انفجر صارخا في وجع هز أركان المشفى.. فقد ادرك أخيرا الحقيقة التي ستغير مجرى حياته بالكامل..
كان مطأطئ الرأس يضع كفيه على قبر أخيه في صدمة و كأنه ما زال لا يصدق انه رحل بلا عودة و لا سبيل لإعادته من جديد.. كان يشعر بالخزى و العار فدوما كان ذاك الأخ الأكبر الذى لا جدوى من إصلاحه و لا فائدة من وجوده من الأساس.. كان يلقى مسؤوليات البيت و امه و اخته على عاتقيه و لا يبحث هو الا عن المتعة بين أحضان الغوازى و ليالي الانس في الموالد..
لكم يشعر بالعار يكلله وهو يرقد امام قبر أخيه الشهيد و الذى كانت إجازته تمر دون ان يلقاه حتى لمرة واحدة معللا ذلك بإنشغال وهمى و اعذار واهية و كان أخيه العفو دائما و المتسامح ابدا يبتسم متقبلا كل ذلك بصدر رحب غير ساخط على افعاله المشينة التي كان يحثه الابتعاد عنها في اُسلوب مهذب يحمل اللين و الرفق في طياته.. لكن هل استمع !؟.. هل شعر بالاسف و لو مرة على ما يضيع من حقوق.. أولهم حق الله وحق نفسه عليه.. هل استشعر مدى فداحة افعاله التي لم تجلب لأمه و اخته الصغرى سوى الخزى و المذلة!؟..
بكى.. و بكى و هو لا يجرؤ على رفع هامته امام شاهد قبر أخيه الذى يحمل اسمه.. و أخيرا همس في نبرة تحمل أسف الدنيا و حزنها:- سامحنى يا مؤمن.. سامحنى يا خوى.. طب ارچع و انى هبطل كل اللى كان بيضايجك منى.. مش انى الكبير بس و الله هسمع كلامك.. بس ارچع.. انتحب من جديد و هو يلقى بجسده فوق قبر أخيه لعله يستشعر احضانه الدافئة التي ما عاد باستطاعته الحصول عليها..
غابت الشمس فنهض في تثاقل كعادته و هو يهمس لأخيه مودعا:- هرچع لك يا مؤمن مش هسيبك.. من الفچرهتلاجينى عنديك.. مش هسيبك تانى يا غالى.. و ربت على شاهد القبر و غادر يجر أقدامه جرا مبتعدا عن قبر أخيه.. دخل بيت جده مترنحا يشعر بالتيه متوجها لغرفته..
كان زكريا يجلس في احد الأركان في بهو الدار فشاهد ماهر يدخل على هذه الحالة التي تغيرت منذ علم بخبر استشهاد أخيه.. حوقل زكريا في حزن و هو يربت على كتف ايمان التي شهقت باكية ما ان رأت حالة اخيها الأكبر المتردية بملابسه المهلهلة و ذقنه الغبراء التي استطالت و وجهه المترب يسير أشبه بشحاذ مجذوب..
كانت أكثرهم تماسكا على الرغم من انها كانت أكثرهم تعلقا و حبا لمؤمن.. همست ايمان لخالها في وجع:- ماهر حاله اتبدل يا خالى.. بجى ف دنيا تانية من ساعة اللى حصل.. مش كفاية امى و اللى چرى لها و الجفلة اللى جفلاها على حالها لا بتاكل و لا بتشرب من يوميها!؟.. هلت سمية اعلى الدرج هابطة إياه حتى وصلت لموضع جلوسهما و كلاهما زكريا و ايمان مشدوهان مما تراه أعينهما..
جلست سمية و هي ترتدى جلباب ابيض ناصع من جلابيب مؤمن و هتفت بسعادة حقيقة:- مالكم.. بتطلعوا ليه كِده !؟.. هتفت ايمان متعجبة:- ايه اللى انتِ لبساه دِه ياما!؟.. هتفت سمية متعجبة:- هيكون ايه يعنى !؟.. چلبية اخوكى.. بيسلم عليكِ كَتير.. انفجرت ايمان باكية بينما هتف زكريا متعجبا بدوره:- بيسلم على مين..!؟. هتفت سمية مؤكدة:- بيسلم على ايمان.. دِه كان روحه فيها.. جالى سلميلى عليها وخليها تذاكر عشان عايز مچموع كَبير..
هتفت ايمان من بين دموعها:- بكفياكِ بجى ياما حرام عليكِ.. هتفت سمية متعجبة:- و انى عِملت ايه بس!؟.. و الله شفت اخوكى و جالى كِده.. الحج علىّ انى بجول.. لما ياجينى تانى مش هجولك.. هتف زكريا مستفسرًا:- ياجيكِ فين يا سمية!؟..
هتفت سمية في طمأنينة عجيبة:- ف المنام يا زكريا.. چانى و خدنى ف حضنه زى عوايده و جالى مزعلش و مبكيش تانى.. و انه ف احسن مكان.. و انه هياجينى كَتير يطمنى عليه و جالى اسلم له على أخواته.. و خلانى اجلع العباية السودا اللى كنت لبساها دى من ايّام ابوه ما راح و جالى ألبس الأبيض.. هتف زكريا في سكينة:- سبحان الله.. شكلها وچبت يا بت ابوى..
تطلعت سمية اليه في حيرة لا تدرى ماذا يقصد ليستطرد هاتفا:- الحچ.. هبعتك انتِ و ماهر تحچوا السنة دى.. لو أجدر كنت رحت انى معاكِ.. لكن ماهر محتاچ يروح هو كمان.. هتفت سمية دامعة في امتنان:- هحچ يا زكريا!؟..طب و ايمان..!؟
ربت زكريا على كتفها في محبة:- ايوه يا سمية.. هتروحى.. ربنا يصبر جلبك يا غالية.. و ايمان هاخدها معاى إسكندرية.. هتفت ايمان:- طب و دروسى يا خالى!؟.. هتف زكريا:- خلاص تبجى عند خالك عاصم لحد ما امك و ماهر يرچعوا بالسلامة.. دمعت عينا سمية في سعادة لكنها اغتالت دمعاتها بسرعة فقد تذكرت وصية ولدها الغالى.. ألا تبكى مطلقا..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون
كانت المرة الثالثة على أقصى تقدير التى تراه فيها من هذا القرب فدوما ما كانت تطالعه من البعيد و لا قبل لها لتقترب منه او حتى تلقى التحية فى اعتيادية فوجيب قلبها لمرأه ما كان سامحا لها بذلك.. لكن فى تلك اللحظة هى تراه و بينهما مسافة لا تتجاوز المتر الواحد و لكنه منكس الرأس على غير عادته و كأنه مهزوم فى معركته مع الحياة و هو الذى كان يسير دوما فى شموخ ملكى يجعل قلبها يترنح تيها و عشقا..
اندفعت تفتح ضلفتى باب حجرته التى ساعدت فى تجهيزها مع امه زهرة بعد مجيئها للسراىّ بعد سفر أمها و اخيها ماهر للحج منذ يومين حتى تسمح بمرور كرسيه المدولب لداخلها تدفعه امه فى سعادة مغموسة بشجن تحاول مداراته فى طيات نبرات صوتها الذى تحاول تغليفه بالمرح هاتفة و هم بقلب الغرفة:- أيه رأيك يا ماجد!؟.. جهزنا لك الاوضة دى و فتحنا ليها باب ع الجنينة الورانية عشان لو حابب تخرج تشم هوا شوية او حتى تقعد فى أوضة القراية.. ده لو حبيت يعنى..
هز رأسه فى لامبالاة و كأن الامر لا يعنيه..لمحت ايمان نظرات زهرة المتحسرة و دموعها التى تترقرق بمقلتيها فهتفت فى محاولة لجذب انتباهه و التخفيف عنها فى نفس ذات الوقت:- بص كمان يا حضرة الملازم.. عملنا لك ركن فيه شوية أدوات رياضية تسليك.. و اشارت لركن ما بعيد داخل الغرفة ما كان لاحظه بالفعل و خاصة مع عصابة عينه اليمنى التى تحصر عنه رؤية هذا الجزء من الغرفة لكنه تطلع اليه بنفس اللامبالاة و هتف فى حنق:- انا مش حضرة الملازم.. و لو ضرورى ألقاب يبقى كفاية استاذ.
انحدرت الدموع على وجنتى زهرة فى صمت بينما نظرت اليه ايمان فى ثبات عجيب على الرغم من دقات قلبها المضطربة و هتفت فى ثقة:- اى كان اللقب اللى عايزنى أناديك بيه.. انت لسه ماچد.. و هاتفضل ماچد.. انت اللى بتدى للقب جيمة مش هو اللى بيديك الجيمة يا واد عمى.. و همت بالاندفاع لخارج حجرته الا انه هتف يستوقفها متعجبا و هو لا يراها بشكل جيد نتيجة لتلك العصابة المحكمة على عينه اليمنى و التي اخبره الطبيب انه سيزيلها قريبا:- مش ايمان اللى بتتكلم برضو !؟..
توقفت و استدارت نصف استدارة تتطلع اليه هاتفة فى عزم:- ايوه هى يا واد خالى. انتفض ماجد و كأنه يراها للمرة الاولى و تطلع اليها فى اضطراب و قد تذكر انها اخر من نطق مؤمن بأسمه موصيا اياه عليها.. و تذكر الان فقط ما دار بينهما من حوار كان يشملها.. قال مؤمن انها عنيدة و رأسها يابس كالحجر الصوان و عزيمتها لا تلين.. كان يعتقد انه يغال فى وصف اخته لمحبته المفرطة لها لكنه يراها الان و نظرة التحدى التى تطل من عينيها يزاحمها حزنها على فراق اخيها تؤكد ان كل كلمة قالها مؤمن كانت فى محلها و ربما اكثر.. و تذكر وعده الاخير لمؤمن قبل ان يبدأ صوت الانفجارات بثوان.. بانه سيتزوجها..
كان وعدا مازحا لا يعد وعدا من الاساس الا انه شعر بشكل ما انه مسؤول عنها تجاه روح مؤمن.. لقد رأها مرتين فقط كانت فيهما أشبه بحمل وديع مذعور لا ينطق حتى ظن ان طبعها الطفولى ذاك و بكائها عند رؤيته لم يتغير لكنه كان مخطئ تماما في ظنه و ما يراه الان منها يؤكد ذلك.. و يؤكد كل ما وصفه بها مؤمن من صفات مما دفعه ليهتف فى ثبات:- كنتِ اخر حد نطق مؤمن بأسمه.. بيقولك ذاكرى كويس عايز مجموع كبير و..
لم تمهله ليكمل بل اندفعت الدموع من عينيها حيث غلب فيهما حزنها على اخيها عند ذكره تحديها و اندفعت خارج الغرفة ما ان سمعت بوصية اخيها الغالى على قلبها.. تمالكت زهرة نفسها و لم تشأ ذرف المزيد من دموعها بمجهود جبار هامسة بصوت متحشرج:- تحب أساعدك تتمدد ع السرير شوية يا حبيبى لحد ما نحضر الغدا!؟.. و لا تخرج للجنينة شوية!؟..
هتف ماجد بصوت ثلجى:- سيبينى يا ماما انا هتصرف زى ما أحب متشغليش نفسك بيا.. تنهدت زهرة فى ألم هامسة:- حاضر.. انا هروح ااكد ع الغدا يجهز و انت خد راحتك زى ما تحب.. وربتت على كتفه و اندفعت خارج الغرفة مهرولة تدارى دموع كبتتها فى صعوبة و اخيرا انحدرت فما عاد لها القدرة على حبسها و الا اختنقت بها.
اما هو.. فقد تحرك بكرسيه المدولب فى اتجاه الباب الذى يفضى للحديقة الخلفية و فتحه دافعا اياه للخارج يتنسم فى شهيق عميق ذاك الهواء الذى اندفع منه كأنما يريد ان يتأكد انه لايزل حيّا رغم كل ما كان و لكن هل هناك اختبار ما يستطيع القيام به ليدرك ان روحه مازالت حية هى الاخرى و ليس جسده فقط!؟..
هتف سيد العشماوي في سعادة عندما طالعه محيا حمزة في غرفة الاجتماعات الخاصة بشركته و جلسا يتبادلا الأحاديث عن مشروعهما المشترك و بعض المشروعات الأخرى و في ظل النقاش هتف حمزة مؤكدا:- طب خلاص يا باشمهندس.. الشحنة دى علينا.. هچيبها بأسمى و عمى زكريا ليه حبايب كَتير ف الميناء تخلصها لنا جوام..
مد سيد كفه محييا:- برافو.. كده تمام قوى.. انا كنت قلقان ان الشحنة دى تتأخر بسبب ركنها ف الميناء.. ربنا يسهل و تيجى عشان نخلص شغلنا بقى.. هتف حمزة في حماس:- متجلجش.. الشحنة بأسمى و هروح بنفسى اخلصها م الچمارك.. و هتكون موچودة ف اجرب فرصة عشان ميبجاش في تأخير ف المشروع..
و نهض حمزة هاتفا و هو يمد كفه بالسلام يلقى التحية قبل مغادرته:-اشوفك على خير بجى يا باشمهندس.. انى مش هنزل النچع جبل ما استلم الشحنة دى.. لو حبيت انت تروح..اسبجنى و شوف الأحوال ايه.. اشوفك على خير..
ابتسم سيد في دبلوماسية هاتفا و هو يصافح حمزة:- بإذن الله يا باشمهندس.. هنزل البلد قريب.. اهو اشوف اخر الاخبار.. اومأ حمزة برأسه إيجابا و غادر و سيد يودعه بإبتسامة عجيبة تحمل بين طياتها الكثير..
هتف بها من الاعلى صارخا باسمها و هو يعلم انها قادرة بعض الشئ على مغادرة امه و لو قليلا بعد ان بدأت صحتها ف التحسن:- يا شيماء.. اندفعت تجيبه فى هدوء مطأطئة الرأس:- نعم.. امرها مشيرا اليها:- اطلعى اعمليلى كباية شاى.. الصداع هيفجر دماغى.. همست من موضعها بالأسفل:- طب انزل اعملهولك هنا.. زمجر فى غضب:- بقولك اطلعى اعمليه.. هو انا هتحايل عليكِ..
صعدت الدرجات فى تؤدة بروح منكسرة و عزيمة خائرة فمنذ كلماته التى أوجعتها و جرحت قلبها و هى لا تقو على التطلع اليه.. انها تشعر بالوجع يتجدد كلما تطلعت لمحياه العابس و تشعر بالذنب تجاهه يكبلها بسلاسل من قهر دامٍ لا تستطيع منه فكاكاً.. افسح لها الطريق عندما وصلت لعتبة الشقة و تطلع اليها فى حنو بالغ يعاكس تماما تكشيرته المعتادة.. كان يعلم انها تعانى من كلماته الجارحة التى ألقاها بلا وعى منه..
توجهت للمطبخ و هتف هو:- بسرعة عشان مستعجل.. فى زبون جايلى الورشة كمان شوية.. اومأت فى طاعة و لم تنبس بحرف ودلفت للمطبخ تمد كفها تلتقط إبريق الشاى لتملأه بالماء الا انها سمعت صوت شئ ما يرن بالداخل.. تطلعت بداخله فى تعجب و مدت أصابعها الصغيرة تلتقط ذاك الشئ المعدنى من قاع الإبريق و تخرجه متطلعة اليه فى انبهار من جمال صنعه.. كانت تعشق الخواتم لحد كبير و ما تراه الان هو أروعها على الإطلاق..
انتفضت عندما جاءها صوت إغلاق الباب لتتأكد انه خرج مندفعا ليلحق بميعاده المزعوم بالورشة و قد ادركت انه ما دعاها الى هنا الا ليعطيها هذا الخاتم.. فهل كان يصالحها !؟.. هل كان يعتذر بطريقته عما بدر منه فى حقها !؟.. ابتسمت للخاطر فى سعادة و هى تشعر انها غفرت له ما تقدم من ذنبه.. و على استعداد لغفران المزيد غير قادرة على ادراك السبب الذى يجعلها تتحمل مزاجه العكر دوما.. و عزت ذلك الي جميله الذى يطوق رقبتها.. فهل تراها صادقة فى ادعائها!؟..
هتف سيد في حنق و هو يضغط اذرار هاتفه محاولا الاتصال بذلك الرقم عدة مرات لكن لا فائدة.. فألقى بجواله جانبا على مكتبه في ضيق هاتفا:- راح فين البنى آدم ده!؟.. بتصل ليه بيه و مش بيرد!؟.. ده كان هو اللى على طول قارفنى اتصالات.. تنهد في حنق ليستطرد محادثا نفسه في غيظ:- يغور.. نشوف غيره.. ده مفيش حاجة م اللى طلبتها منه نفذها صح من أساسه..
لكنه أعاد التفكير لثوان ثم هتف من جديد:- مضطر ألجأ له للأسف.. أعاد الاتصال بذاك الشخص لكن لا مجيب.. ألقى سيد هاتفه في سخط من جديد لتقاطعه طرقات على الباب و تدخل ثريا بردائها الأسود حاملة بعض الأوراق و التصميمات لتعرضها عليه ليهتف في نفاذ صبر:- باشمهندسة ثريا.. مش وقته خالص عرض اى حاجة عليا..
شعرت بالضيق بدورها لمحادثته إياها بهذا الشكل و هتفت ساخرة:- طب يا باشمهندس يا ريت تبجى تعلج يافطة على باب مكتبك تجول فيها.. "المود لا يسمح ".. عشان بس نوفرعلى نفسينا و على حضرتك التعب.. و جمعت اوراقها و تصميماتها التي كانت بالفعل وضعتها امامه على سطح مكتبه..
استفزته كلماتها الساخرة فهتف بدوره متهكما:- هو فيه ايه يا باشمهندس.. هو انتِ معندكيش مود ممكن يتعكر لسمح الله!؟.. انتِ لسانك ده ايه.. يا ساتر.. هتفت ثريا في غيظ:- ماله لسانى..!؟ مش عاچبك عشان دغرى!؟.. هتف بغيظ:- لا حضرتك ده مش دغرى.. ده عايز يقصر حبتين تلاتة بس.. وضعت ثريا كفها على فمها في صدمة هاتفة:- يجصر!؟.. لاااه.. ده تچاوز انى مسمحش بيه يا باشمهندس.. عن اذنك..
همت بالانصراف ليندفع يسد عليها باب الخروج هاتفا في تلطف:- يعنى عمال اقولك المود وحش بدل ما تقوليلى سلامتك يا باشمهندس.. قاعدة تتريقى.. هتفت بحنق بالغ ممعنة في التهكم:- سلامتك دى و شوية الدلع دول تلاجيهم عند الست الوالدة او مراتك هناك ف البيت.. لكن هنا مكان اكل عيش مش مكان للدلع و المسخرة..
هتف بصدمة:- دلع و مسخرة!؟.. و أخيرا تمالك أعصابه حتى لا يقوم بوأدها حية في موضعها و هتف من جديد فى مسكنة:- أولا امى الله يرحمها.. ثانيا مش متجوز.. يعنى انا واحد فاقد الحنان و معدوم الدلع.. قال كلماته الأخيرة بنبرة تقطر حزنا و هو يتطلع اليها.. كادت تصدقه و هو يبدو بهذه البراءة و قلبها بدأ يلين و يأخذ صفه.. الا ان عقلها ايقظها في الوقت المناسب لتهتف في صرامة:-برضك دِه مكان اكل عيش...و انا ميخصنيش امورك الشخصية دى.. عن اذنك..
و همت بفتح باب المكتب بالفعل بعد ان تنحى جانبا الا انه استوقفها متسائلا و قد ادرك متأخرا ردائها الأسود:- انتِ ليه لابسة اسود النهاردة !؟.. تركت مقبض الباب و تطلعت اليه متعجبة ان الامر لم يصله بعد:- عشان الشهيد مؤمن..هو فى حد ف النچع مش لابس اسود عليه من يوم ما راح.. ربنا يصبر أهله على فراجه..
هتف من جديد و قد ضيق عينيه متسائلا من جديد:- الشهيد مؤمن مين؟!.. ده قريب عاصم بيه صح!؟.. اكدت بإيماءة من رأسها:- ايوه و يبجى بن عمة الباشمهندس حمزة.. همهم بتعجب:- انا قابلت حمزة قبل ما اجى على هنا مجبليش خبر..
ردت تسوق الحجج:- الباشمهندس حمزة مش بيحب يتكلم على حاچات شخصية چوه الشغل.. زفر فى ضيق و قد اعتراه شعور عجيب لا يعرف كنهه جعله يهتف بها:- واضح انك كنت بتعزى الأخ مؤمن ده و الا مكنتيش تلبسى عليه اسود الفترة دى كلها!؟.. هتفت مؤكدة:- و مين مكنش بيعزه!؟.. بنى آدم كان كله ذوج و اخلاج.. الله يرحمه..
جز على اسنانه فى غيظ محاولا وأد ذاك الشعور المتنامى داخله تجاه مدحها لأخلاق رجل رحل عن دنيانا و هتف متخطيا الموضوع :- انا جاى أتغدى عندكم ف السرايا.. عاصم بيه عازمنى.. مش هسيبك تروحى لوحدك.. هتفت في حزم:- و انى مش هدخل معاك النچع ف عربية واحدة.. سأل مستفسرًا:- طب هشوفك هناك مش كده!؟..
هزت كتفيها مؤكدة:- على حسب الظروف يا باشمهندس.. شكلك نسيت انى مش من اهل السرايا..دِه انى يا دوب بت غفيرها.. ابتسم لأعتدادها الشديد بنفسها و هتف مؤكدا:- انا متأكد انى هشوفك هناك.. لم ترد بأى حرف بل غادرت في صمت مغلقة الباب خلفها و قد شعر اخيرا ان مزاجه السئ قد تغير للنقيض..
و تبدل تلقائيا منذ اللحظة التي هلت فيها داخل مكتبه و بدأ في مشاكستها كالعادة.. لا يعلم لما هي بالذات يحلو له استفزازها و جدالها و يستطيب شدتها و ردودها الجافة و يتطلع بلهفة للمسات الحنان التي تظهر خلسة على استحياء خلف تلك النظرات النارية الصارمة.. ابتسم من جديد هامسا لنفسه... باشمهندس ثريا.
تطلع جاسم لذاك البيت المكون من طابقين و الذى لا يقارن مطلقا بدار عمه الراحل حامد الحناوى و هو يصعد درجاته الأمامية ليطرق بابه في تأدب مصطنع.. لحظات و فتح حامد يتطلع اليه في دهشة ممزوجة بقليل من التوجس.. و أخيرا أشار اليه بالدخول ليستقر به المقام في غرفة الصالون في انتظار مجئ يونس لمقابلته..
كادت كسبانة تهتف صارخة و ضربت صدرها بباطن كفها في ذعر حينما عرفت ان جاسم بدارهم فهى تدرك جيدا ان ذاك الشخص لا يأتي من قبله الخير ابدا و لابد انه قادم من اجل مصيبة أخرى من مصائبه.. أشار يونس عليها بألتزام الصمت و نهض مسرعا لمقابلته..
دخل يونس الصالون لينهض جاسم في أدب مستحدث على طبعه.. ألقى يونس التحية و قدمت له تحية الضيافة المعتادة و أخيرا هتف جاسم:- انى عارف ان الوجت لسه مش مناسب لكلام زى اللى انى چاى اجوله.. بس خير البر عاچله.. صمت يونس و لم يعقب مستحثا إياه على الإتيان بكل ما في جعبته ليستطرد جاسم بدوره:- انى كنت طلبت هداية من عمى الله يرحمه جبل سابج و استنيت الرد.. و انى بطلبها منيك تانى... جلت ايه !؟..
سأل يونس في هدوء:- لما انت طلبتها من ابوها.. مردش عليك ليه!؟.. مدكش كلمة ليه و انت واد عمها و أولى بيها!؟.. تنحنح جاسم مؤكدا:- هو كان هيرد بس اللى حصل حصل.. و مظنيش ان عمى كان هيرفض.. و بعدين مين يستاهلها و لا يليج بيها الا چاسم واد عمها!؟.. اندفع حامد يصعد للطابق الثانى من الدار ليخبرعمته هداية بمجئ جاسم و التى وضعت خمارها الأسود فى عزم و اندفعت للأسفل تحاول عائشة أثنائها عن النزول و ترك يونس يتصرف بدلا عنها.. الا انها أبت الجلوس فى هدوء و ضربت بتوسلات عائشة عرض الحائط و جرت مسرعة للأسفل و تركت حامد يقف فى تيه امام عائشة التى لم تكن اقل تيها منه.
هتف بصوت متحشرج متسائلا:-هو چاسم ده راجل سو جوى كِده !؟.. انى شايف عمتى مش طيجاه.. اكدت عائشة بإيماءة من رأسها هامسة باضطراب:- ربنا يصرف عنينا أذاه.. دِه محراج شر.. هم حامد بالاستئذان الا ان احدى الدجاجات قفزت من سُوَر الدرج فى اتجاهه صارخة فى ذعر لمهاجمة اخرى لها لتسقط مباشرة على كتفى حامد لينتفض مندفعا بإتجاه عائشة يكاد يسقط و إياها ارضا..
الا انها شهقت بالفعل و تقهقرت فى صدمة ليسقط وحيدا على عتبة الشقة يسب الدجاج وتربيته و اليوم الذى فكر فيه فى تربية تلك السلالة المجنونة.. انفجرت عائشة مقهقهة و هى تراه بهذا الشكل.. ليتطلع اليها من موضعه مشدوها بتلك الضحكات الرنانة التى تشبه شدو الف كمان تعزف فى تناغم خلاب يسحر الأسماع..
تنبه انه تخطى الحد فى شروده فيها و خاصة انه يعلم انها ستصبح يوما ما زوجا لأبيه.. انتفض مستقيما و استأذن بسرعة مندفعا لأسفل و ما ان غاب عنها حتى اعتدل مزاجه فجأة و اخذ يترنم فى سعادة غير مدرك ان صوت شدوه قد وصل لأسماعها قبل ان تغلق باب شقتها و تعلقت تسترق السمع للكلمات و صوته الساحر بأغنيته التى كانت تنطبق على من خلفها تقهقه بالأعلى:- صوتك ارق م النايات صوتك غنا مالى السكّات.
اما هداية فقد وصلت لمجلس الرجال و اقتحمته في جرأة.. و هتفت و قد ألتقطت أذناها اخر أطراف الحديث الدائر لتهتف في حزم:- بجولك ايه يا چاسم يا واد عمى.. احنا سبنالك نچع الحناوى تبرطع فيه و چينا هنا نتجى شرك.. متحل عنينا بجى و بكفياك اللى خدته و نهبته و لسه عايز تنهبه بچوازك منى..
و نظرت ليونس هاتفة تخبره رأيها:-ايوه يا يونس ياخوى.. هو چاى يتچوزنى عشان ورثى من ابويا.. هو دِه اللى يهمه و اللى عايزه.. غير كِده متصدجش.. نهض يونس في هدوء و ربت على كتفها مهدئا:- متجلجيش يا هداية.. محدش هايجدر يجرب لك و لا يمس حجك طول ما انى عايش.. انتِ و عيشة بت عمنا أمانة فاتها ابوى ف رجبتى.. و مش هفرط فيكم ابدا..
و تطلع لجاسم هاتفا:- شرفت يا واد عمى... چاك الرد من صاحبة الشأن بنفسها.. مفيش بعد جولها جول تانى. تطلع جاسم لكلاهما و عيناه تبرق بشرارات غضب و حقد كادت تردى كلاهما قتيلا و أخيرا نهض في انتفاضة راحلا كالإعصار من دار يونس و هو يهدد و يتوعد..
ما عاد قادرًا على تحمل كل هذه الهموم.. لو كانت هى بالقرب كانت هى الوحيدة التى كان باستطاعتها التخفيف عنه وإزاحه ذاك الهم الجاثم على صدره.. لكنها للأسف احد تلك الهموم التى ناء بحملها فؤاده..
تحرك فى تثاقل يبحث عن ابعد زاوية داخل مجسد سيدى عبدالرحيم القنائى ينكمش محتضنا مسبحته التى كانت يوما لجدها قدرى و اخد يسبح و يستغفر و قد لاحت الدموع بمآقيه تهدد بالهطول كسيل عرم.. لكنه امسكها فى قدرة يحسد عليها و استكان موضعه متمددا و قد شعر برغبة فى الهرب من دنياه ليسعده النوم بزيارة سريعة لأجفانه التي هجرها ليال طويلة خاصة و هى بالقرب يتعذب بها و منها..
أخذته سِنة من نوم لا يعلم كم استغرقت لينتفض منها فجأة متطلعا حوله فى ذهول.. ليتيقن ان ما رأه لم تكن الا رؤية.. اندفع ناهضا يبحث عن شيخه الذى يكن له معزة خاصة ليقص عليه رؤياه.. همهم الشيخ و هما بأحد الأركان وحيدين و صمت يتفكر للحظات و اخيرا تطلع لمهران فى عتب:- استغفر يا مهران يا ولدى.. استغفر كَتير جووى.. انت عليك ذنب كَبير.. و عليه كفارة اكبر..
ازدرد مهران ريقه بصعوبة و همس بصوت متحشرج اضطرابا:- ذنب و كفارة !؟.. بس انى.. همس الشيخ بتؤدة:- يا ولدى متجولش حاچة.. كل بنى آدم ادرى بحاله.. جوم يا مهران يا ولدى.. جوم و أعمل اللى عليك.. اومأ مهران برأسه فى طاعة و نهض بالفعل دون ان ينبس بحرف مشدوها غير قادر على التركيز الا على تلك الرؤية التى افزعته.. ليتوقف فجأة عندما ناداه الشيخ مؤكدا:- الظلم ظلمات يوم الجيامة.. الظلم ظلمات يا ولدى..
و ربت على كتفه قبل ان يلق السلام راحلا و هو يهمس بالقرب منه ناصحا:- اغفر و استغفر يا ولدى.. اغفر و استغفر.. رد السلام على الشيخ و تطلع نحو باب المسجد فى تيه مغادرا و قد قلبت تلك الرؤية موازينه..و لم يكن يحتاج اكثر من هذا ليعلم انه ظلمها.. ظلم من هى اقرب من نفسه الى نفسه.. ظلم ساكنة الفؤاد و توأم الروح.. ظلم تسنيم..نوارة قلبه و منبت وجعه..
شعر بالاختناق رغم ان مكيف الهواء يعمل داخل حجرته.. ان ذاك الهواء الاصطناعي يشعره انه جسد محفوظ ليتجمد..مثله كمثل زجاجة مياة غازية معدة للشرب او دجاجة مجهزة للإعداد..
أغلق المكيف و اتجه يفتح باب حجرته المطل على الحديقة يبغى القليل من الهواء النقى حتى و لو كان محملا ببعض سخونة الجو فى مثل ذاك الوقت من العام.. انه يشتاق لجو الصحراء و لياليها السامرة و سماءها المرصعة بالنجوم.. ليل الصحراء لا يضاهى جماله اى ليل اخر.. تنهد فى حزن و تطلع للساعة المعلقة بالحائط و التى أعلنت منتصف الليل بالضبط.. تطلع للنجوم و زفر فى غضب مكبوت و هو يتذكرها.. و تذكر وعدهما سويا عند الغياب.. هل لازالت تذكره و تذكر وعوده!؟..
منذ ما حدث و لم تهاتفه الا مرة واحدة على استحياء و بعدها لم يسمع صوتها.. ترى هل تحاول نسيانه و الابتعاد عنه بعد ما حدث خاصة و ان حياته الان ستأخذ منحى مختلف تماما عما كان يخطط له!؟.. تنهد من جديد هامسا بأسمها فى شوق.. نرمين.. انت فين!؟.. انا محتاجك قووى..
و رفع ناظريه للسماء يتطلع للنجوم من جديد و ما ان اخفضهما حتى رأها تمشى الهوينى فى هدوء متجهة لغرفة القراءة و هى تضم كتبها لصدرها فى محبة.. لم تدرك بعد وجوده بالقرب لان انوار حجرته كانت مطفأة.. جلست فى احد الأركان و فتحت احد كتبها و بدأت فى المطالعة.. يراها تكرر فى ثقة و تردد ما تحفظ.. يصله همس صوتها و لا يدرك بالضبط ما تهمس به..
كانت كأنها توشوش الليل ببعض ابيات من شعر غزلى و هى فى موضعها ذاك الذى يعطى لها هيئة ساحرة.. كانت جميلة الملامح بلا شك.. انها تشبه عمته سمية كثيرا و فى نفس الوقت لا تشبها اطلاقا.. تشبها فى ملامح وجهها المتناسقة الجميلة الطلّة لكنها تختلف عنها فى ملامح روحها و التى تشع تحدى و اصرار قلما يتواجد فى فتاة مثلها.. صدق مؤمن حين وصفها..
كان قد قرر ان يتركها لحالها و يعود ادراجه داخل الغرفة و جوها الخانق رغم مكيف الهواء الا انه عدل عن رأيه و اتجه بكرسيه المدولب فى هدوء على طول الممشى الذى تم تمهيده خصيصا لأجله.. وصل حيث موضعها و بدأ يسمعها بوضوح الان تردد بعض ابيات من شعر أبى فراس الحمدانى:- أراك عصى الدمع شيمتك الصبر اما للهوى نهى عليك و لا امر.
توقف يستمع للأبيات فى إعجاب و اخيرا أكمل هو فى نبرة حالمة:- بلا انا مشتاق و عندى لوعة.. و لكن مثلى لا يُذاع له سر.. اذا الليل اضوانى بسطت يد الهوى.. و أطلقت دمعا من خلائقه الكبر..
انتفضت هى لمرأه و تطلعت اليه مشدوهة و هو يترنم بتلك الأبيات بتلك النبرة التى جعلتها تتيه فيه غير قادرة على رفع ناظريها بعيدا عن محياه الهائم فى تلك اللحظة و ادركت انه عاشق.. عاشق و غارق فى عشقه حد النخاع و ان عشقه ذاك يضنيه.. و بالتأكيد هى ليست تلك المحظوظة لانه بكل بساطة لم يعلم بوجودها الا منذ ايّام قليلة.. ايمان بالنسبة له كانت مجرد اسم كان يذكره مؤمن له فى اثناء حكاياته عنهم..
مجرد اسم اقترن الان بصورة رأها منذ فترة بسيطة لكن عشقه ذاك كان عميقا يقدر بسنوات لا يمكن ان يغفله قلب عاشق كقلبها.. شعرت بغصة قوية تكبلها عن النطق بحرف الا انه ابتسم ما ان انهى إلقاءه هاتفا بإبتسامة:- العربى كان المادة المفضلة ليا ف ثانوية عامة.. و الصحرا ف الجيش تخليك تتحول شاعر من غير ما تدرى..
واتسعت ابتسامته فأذردت هى ريقها و لم تنطق بحرف ليكمل هو حديثه هاتفا :- انا أسف انى اقتحمت عليكى مكان مذاكرتك كده و عطلتك.. اسيبك تذاكرى بقى.. ما ان هم بالإستدارة راحلا عنها حتى هتفت هى فى تهور:- هى مين..!؟. جذبه سؤالها ليترك اليد الأتوماتيكية المحركة للكرسى المدولب هاتفا بتعجب:- هى مين ايه !؟. سألت بثقة اكبر تبتسم فى وجع:- اللى استولت على چلب الچنرال و بتخليه يجول شعر و يحفظه كمان!؟..
اضطرب هو و تعجب من قدرتها على ثبر أغواره و الغوص لأعماقه ببراعة حتى انها اكتشفت سره الدفين و الذى لا يعلمه احد غيره و صاحبته مالكة قلبه.. هتف فى سخرية يدارى تعجبه:- هو انا باين عليا قوى كده.. و لا انت اللى خبيرة بأمور القلوب..!؟
كان الاضطراب من نصيبها هى هذه المرة لتتلعثم و توجه ناظريها بكل الاتجاهات الا صوب عينيه و نظراته التى تنفذ الى روحها فى تلك اللحظة تجعلها تنتفض ذعرا فربما يكشف سرها بدوره و يقرأ ما هو مسطور على صفحات القلب تجاهه منذ سنوات خلت.. تناولت كتبها فى اضطراب متزايد ظهر جليا فى ارتعاشة كفيها و هى تجمعهم من هنا و هناك ما أشعره بالذنب فهتف بنبرة معتذرة:- نرمين.
انتفضت و توقفت كفها عن جمع كتبها و تسمرت كتمثال حجرى لا حياة فيه.. هى ادركت انه عاشق لكن لما اعترافه الان له طعم اخر.. طعم المرارة و العلقم بحلقها.. شعرت بالاختناق و هو يهتف بأسم حبيبته من جديد:- اسمها نرمين.. و هى اخت مدحت صاحبى اللى كان اجازة وقت اللى حصل.. متفقين على الارتباط بس بعد ما تخلص اخر سنة ليها السنة دى فى الكلية..
جلست فى هدوء و هى تستمع لأعترافه و هزت رأسها فى تفهم ما ان انهى اخر كلماته.. و اجبرت نفسها على الهمس قائلة بنبرة جوفاء:- ربنا يتمم لكم على خير يا واد خالى.. سأل و هو غير مدرك بتلك التى يقتله حديثه عن حبيبته بهذا الشكل الملهوف:- تفتكرى ان اللى حصل ممكن يغير شئ بينا!؟..
ازدردت ريقها هاتفة فى ثبات حاولت ان تغلف به نبرة صوتها:- لو اللى حصل غير اللى ما بينكم و مخلهوش اجوى.. يبجى اللى كان بينكم ميستاهلش تتعب نفسك عشانه يا واد خالى.. تطلع اليها فى حيرة متعجبا من تلك الفتاة التى تفوق حكمتها سنها بمراحل و تعجب اكثر من قدرتها على جعله يحكى لها ادق أسراره خصوصية و الذى لا يعلم به مخلوق غيرها..
انتبه عندما هتفت هى فى عجالة:- عن إذنك يا ماچد.. الوجت أتأخر.. و ضمت كتبها لصدرها و اندفعت هاربة من امامه تضم الكتب اكثر بين ذراعيها لعلها تخفف قليلا من ذاك الالم الذى انتشر بداخلها و ما عاد لها القدرة على مداراته امامه اكثر من هذا و خاصة و هو ينكأ بكلماته عن حبيبته و قلقه عليها وجعا بروحها لا يعلم عمقه الا الله.. اما هو فتنهد فى ضيق و هو يتطلع اليها مغادرة و استدار بكرسيه مغادرا بدوره..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثالث والعشرون
اندفع بواب فيلا مندور للداخل مهرولا فى ذعر هاتفا:- يا زكريا بيه.. يا زكريا بيه.. الا ان حمزة كان الأسبق للوصول اليه فقد كان بالفعل فى الحديقة الخلفية الملحق بها جناحه و هتف فى تعجب للبواب:- خير يا عم متولى.. ايه فى !؟.. بتنادم ليه على عمى كِده و انت عارف انه مش موچود من اساسه !؟..
توجه اليه البواب العجوز هاتفا فى اضطراب:- ألحج يا حمزة بيه.. البوليس بره عايزك.. هتف حمزة متعجبا:- عايزنى انا!؟..طب دخلهم نشوف فى ايه.. اكيد فى سوء تفاهم.. اندفع البواب ينفذ ما امره به حمزة الذى سار خلفه و لم يكن يدرك ان هتافات البواب العجوز قد وصلت لقاطنى الفيلا لتظهر هدير و زينة على أعتابها فى ترقب..
اندفع الضابط و خلفه بعض العساكر و ما ان طالعهم مرأى حمزة حتى هتف الضابط فى خشونة:- انت الباشمهندس حمزة سليم الهوارى!؟.. اكد حمزة فى ثقة:- ايوه انا.. خير يا حضرة الظابط!؟.. هتف الضابط:- للاسف مش خير يا باشمهندس.. انت مطلوب القبض عليك فى قضية تهريب مخدرات ضمن الشحنة اللى جاية بأسمك ف المينا..
هتف حمزة فى صدمة:- مخدرات!؟.. مخدرات ايه !؟.. اكيد فى لبس حضرتك.. دى شحنة أدوات و معدات انشاء.. اكيد فى حاچة غلط. اشار الضابط لعساكره ليتجمعوا حول حمزة و هتف زاجرا:- الكلام ده تقوله ف النيابة.. اتفضل معانا.. ما ان هم العساكر بجذب حمزة خلفهم حتى اندفعت هدير صارخة فيهم:- انتم واخدينه على فين !؟.. حمزة مش ممكن يعمل كده !؟.. ده كدب.. اكيد فى حاجة غلط.. سيبوه..
زمجر حمزة هاتفا فيها:- هدييير.. اطلعى على فوج.. و اكيد فى سوء تفاهم ف الموضوع.. كلمى عمى و شوفى ممكن يعمل ايه.. هتفت هدير صارخة:- مش هسيبهم يخدوك.. انت معملتش حاجة.. انا متاكدة.. انت مش ممكن تعمل اللى بيقولوا عليه ده.. و صرخت من جديد فى العساكر:- بقولكم سيبوه.. و الله ده برئ.. حمزة مش ممكن يعمل كده ابدا..
هتف حمزة صارخا و لكن هذه المرة فى زينة زوجة عمه التى كانت تقف فى اضطراب لا تعلم ما عليها فعله:- يا مرت عمى.. خدى هدير على فوج.. و كلمى عمى ضرورى ياچى مع المحامى يشوف فى ايه.. اومأت زينة برأسها ايجابا فى سرعة و اندفعت تجذب ابنتها عنوة بعيدا عن طريق العساكر.. لكن الاخيرة تشبثت بذراع بن عمها صارخة فى لوعة و هم يجذبوه بعيدا..
لم تستطع المقاومة اكثر و يدها تنسل رغما عنها من تشبثها المستميت بذراعه و سقطت صارخة مرة اخيرة باسمه و هو يبتعد عن ناظريها لتغيم الدنيا امام عينيها و تتحول للون قاتم بطعم الوجع و هى تسقط منتحبة بين ذراعى أمها..
اندفع باسل كالعادة فى لهفة صاعدا شقته ليتلق وصلة السخرية المعتادة من امه و اخته على سرعته فى الصعود للشقة بهذه اللهفة حتى انهم ما عادوا يرونه او يجالسونه كالسابق..
تجاهل سخريتهما التى اعتادها و تناهى لمسامعه صوت قهقهاتهما التى خبت الان و هو يدلف لشقته يبحث عنها بعينيه مشتاقا لمطالعة محياها الا انه لم يجدها تجلس فى موضعها المحبب الذى تحتله دوما حينما تستغرق فى مطالعة احد كتب القانون او فحص أوراق احدى قضاياها..
اندفع باحثا عنها فى همة حتى وجدها تقف بالشرفة فى تيه و لم تدرك حضوره بعد.. اقترب منها فى خفة و اطبق على خصرها مقربا إياها من صدره جاذبا جسدها للداخل بعيدا عن الشرفة لتنتفض هى شاهقة فى صدمة و استدارت لتطالع محياه الباسم فى سعادة..
الا انه قطب جبينه فى تساؤل و هو يرى وجهها تغرقه الدموع و هتف و هو يقربها اليه من جديد هامسا:- ايه فى يا سندس !؟.. مش بكفياكِ يا بنت الناس!؟.. شهقت من جديد باكية:- مش بأيدى يا باثل.. ضمها الى صدره هامسا:- انتِ رحتى السرايا النهاردة.. صح !؟..
اومأت برأسها الملقاة على كتفه ايجابا... كان يعرف انها تأتى بهذا الحال السئ ما ان تعود من زيارة اخيها ماجد بعد حادثة بتر قدمه.. تنهد فى إشفاق هامسا:- خبر ايه يا سندس !؟.. ده انتِ مؤمنة بقضاء ربنا.. و الحمد لله انه حى يرزق و كلها ابتلاءات و ماچد راچل و هيجوم منيها اجوى م الاول و ابجى شوفى.. كلام چوزك ما ينزلش الارض ابداااا..
و رفع رأسها من على كتفه و احتضن وجهها بين كفيه هامسا:- مش عايز اشوفك زعلانة تانى.. و انحنى يقبل وجنتيها موضع خيط الدموع و رفع رأسه ناظرا اليها فى تعجب و هو يتحسس شفتيه بلسانه هاتفا فى مزاح:- انا جولت التعليم دِه ممنوش فايدة محدش صدجنى.. عقدت ما بين حاجبيها و هتفت متعجبة بدورها:- ليه بقى ملوش فايدة..هاا !
هتف فى غيظ:- هم مش جالوا لنا ف المدرسة ان الدموع دى طعمها زى المِلح.. اكدت بإيماءة من رأسها ليهمس و هو يقربها اليه مصرحا بعبث:- أمال دموعك ليه طعمها سكر.. و هم بالتجربة من جديد و هى تقهقه على افعاله ليؤكد و هو يتحسس شفتيه بلسانه مؤكدا:- و النعمة يا جدعااان سكررر.. لتعاود قهقهاتها من جديد على مزاحه الذى نجح فى اخراجها من حزنها على حال اخيها..
دفع ناصر بضلفتى نافذته على مصرعيها يتنسم بعض من هواء الخريف البارد نسبيا و تلك الأنغام تتهادى الى مسامعه من مقهى ابيه. كان الوقت قبيل المغرب و الحركة بقلب الحارة خفت وطأتها قليلا مما ساعده على سماع صوت ام كلثوم يسرى شجيا:- بعيد عنك.. حياتى عذاب.. متبعدنيش بعيد عنك..
تنهد في نفاذ صبر فما عاد قادرًا على البقاء بعيدا عنها اكثر من هذا.. ان ما يعيشه الان لهو العذاب بحد ذاته.. انه يشقى بهذا الحب منذ شب عن الطوق و ادرك انه يهوى تلك الصغيرة ربيبته و ابنة عمته.. و حتى هذه اللحظة و هو زوجها شرعا و قانونا لازال يعانى جراء إخفائه ذاك الهوى بين جنبات صدره و لم يبح به لمخلوق ابدا..
لكن هذا يكفيه.. بل اكثر من كافِ.. سيناديها من الأسفل حيث تجالس امه كما هي العادة و يخبرها انه يريدها و يتمناها كما لم يتمن امرأة بحياته.. سيعترف أخيرا بحبه لها الذى ادماه ليال طويلة و أورثه السهد و الوجع..
هم بالاندفاع خارج حجرته الا انه سمع صوت مفتاح يفتح باب الشقة و يجدها تدخل و هي تحمل بعض الأغراض.. خرج من غرفته متقدما نحوها يحملهم عنها و يضعهم جانبا على احدى الطاولات.. و يعود ليستدير لمواجهتها و تلك الكلمات على لسانه تجعله مشوش غير قادر على التركيز و لا يعلم كيف يبدأ..
اقترب منها من جديد محاولا ان ينطق بحرف مما عزم على أخبارها إياه لكن تلك النظرات التي رمقته بها مستفسرة جعلته يقف أشبه بصنم و كانت هي المبادرة بالحديث مشيرة لباب الخروج:- خالى طالبك.. بيقولك انزل ضرورى عشان واحد من زمايل الشهيد نادر تحت و عايزك.. هتف ناصر متعجبا:- عايزنى انا..!؟
أكدت بإيماءة من رأسها ليتنهد في ضيق و قد شعر ان كل ما حوله يتأمر ليبعده عنها قسرا.. اندفع خارج الشقة هابطا الدرج لشقة ابيه و الذى وجد بابها مشرع.. ألقى التحية على امه التي كانت تجلس بأحد الأركان المعتادة لها و طرق باب غرفة الصالون و دلف للغرفة ملقيا التحية على ابيه و ذاك الضيف الذى لم يكن سوى عامر رفيق نادر الذى كان يغادر معه للكتيبة في نفس العربة و الذى يقطن بالقرب من هنا..
تبادلا العزاء في فقيدهما الغالى و أخيرا أشار رفيق نادر لناصر بطرف خفى حتى يفهم انه يريده على انفراد.. تلقى ناصر الرسالة فهتف و هو ينهض مشيرا للضيف:- طب بص يا معلم.. انا نازل ع القهوة مع عامر و ابقى حصلنا..
اكد خميس:- و ماله يا بنى.. و تسلم مجيتك يا عامر يا بنى.. صاحب واجب.. و الف سلامة عليك.. انا عارف انك اتصبت و ده اللى كان سبب تأخيرك عننا.. هتف عامر:- الله يسلمك يا معلم و الشهيد نادر كان اكتر من اخ..
اندفع كلاهما ناصر و عامر ليغادرا بيت المعلم خميس و ما هي الا لحظات حتى كانا يحتلان طاولة منعزلة قليلا على مقهى الشمندورة.. جلسا للحظات فى صمت حتى هتف عامر:- كويس انك خدت بالك انى عايزك لوحدك.. انت ليك عندى أمانة هتف ناصر متعجبا:- أمانة ايه.!؟..
اخرج عامر ظرفا مغلقا مطويا و سلمه لناصر هاتفا بصوت متحشرج تأثرا:- ده جواب كان نادر مسلمهولى عشان أوصله ليك.. بس للأسف ملحقتش.. أتلغت اجازتى و هو نسيه معايا و حصل اللى حصل بعدها.. هو كان مأكد عليا انى مسلمهوش لحد غيرك.. عشان كده كنت عايز اقابلك لوحدنا و اديهولك..
تطلع ناصر لذاك الظرف المجعد الذى يطويه بأحضان كفه و هو يتلمس به رائحة أخيه الراحل.. دمعت عيناه و لم ينطق حرفا و كذلك عامر و الذى هب مستأذنا ليهتف به ناصر:- على فين لسه مقعدناش سوا.. هتف عامر:- معلش عشان راجع وحدتى.. هتف ناصر متعجبا:- راجع و انت لسه بتتعالج!؟.. هتف عامر فى عزم:- اه راجع و يا احصل نادر يا اجيب حقه..
احتضنه ناصر فى فخر رابتا على كتفه فى عزة و همس بصوت متحشرج تأثرا:- ربنا معاك و ترجع بالسلامة لأهلك.. و ابقى طمنى عليك دايما.. هز عامر رأسه طائعا و استأذن راحلا ومخلفا ناصر يتطلع للخطاب في شوق و جلس ليفضه في سرعة يلتهم الأسطر التي خطها اخوه الحبيب يخبره فيها بمكنونات قلبه..
تطلع ناصر للأسطر من جديد و كأنه لم يقرأها و لم يع منها حرفا ليعاود قرأتها مرة أخرى لعله يتأكد من خطأ ظنه.. و أخيرا ضم الخطاب لصدره و تحرك في اتجاه بيت ابيه بقدم ثقيلة و قلب مكلل بهم اصبح ينازع عشقا بات منذ تلك اللحظة دائه لا دوائه..
خرجت من الحمام ترتدى اسدالها كالمعتاد فى الأيام الماضية فقد كفت عن ألاعيبها معه منذ ما حدث لماجد و الذى اثر على حال الجميع و هو لم يكن استثناءً بل كان داخليا موجوعا على عكس ما يحاول ان يُظهر من ثبات.. فمن الاقدر على معرفة دواخل مهران حبيبها و أمل أيامها ان لم تكن هى..
تفاجأت بوجوده بالغرفة جالسا على الأريكة المقابلة لباب الحمام فتوقفت على أعتابه لثوان قبل ان تستأنف خطواتها لداخل الغرفة فى سبيلها لفراشها.. جلست على طرف الفراش متعجبة من مظهره.. اخذت تلقى اليه بنظرات جانبية قلقة على حاله و قد استطالت لحيته و لم يشذبها كالمعتاد و نظراته فى تلك اللحظة نظرات تائهة و موجوعة بحجم الكون..
لم تستطع الجلوس مكتوفة اليدين وهو امامها على هذه الحال العجيب.. أقتربت منه فى وجل حتى اذا وصلت قبالة مجلسه حتى انحنت تستند على ركبتيها متطلعة اليه هامسة:- انت كويس يا شيخ !؟..
لم يجبها بل تطلع الى وجهها الصبوح و عيونها الآسرة و بدأت عيونه تحكى قصة عشق ما عاد باستطاعتها مداراتها.. بادلته النظرات الولهى و بلا وعى منها مدت كفها تتلمس ذقنه الغير مشذبة فى حنان جم جعله يحنى رأسه ليأسر كفها البض بين صدغه و كتفه متمسحا فيه فى شوق مجنون اليها ظهر جليا جراء محاولته السيطرة على كفيه المتشابكتين فى حجره يأسر كل منهما للأخر فى شدة أظهرت مفاصلهما حتى لا يمتد اليها أيهما فى غفلة منه..
ارتجفت هى من حركته التى ما توقعتها فجذبت كفها فى هوادة و لم يعترض هو بل تطلع اليها من جديد بنفس النظرات الولهى الهائمة و همس فى نفسه:- سامحتك يا تسنيم ..سامحتك مهما كنتِ عملتى..سامحتك لأنى بحبك جووى و مجدرش اتخيل حياتى من غيرك..سامحتك و لو حطوا لى الدنيا كلها ف كفة و انتِ ف كفة هختارك انتِ..واااه يا شج الروح .. هموت و انتِ بَعيدة عنى..
و تضرع صارخا بجوفه.. يا مجرب البَعيد يا رب.. طفقت دموعها رغما عنها و هى تتطلع اليه يناجيها بروحه بهذا الشكل الذى يورثها الوجع.. الا انها شهقت فى وجل و قد غافله احد كفيه المتشابكتين فى قهر فارا من أسره و اندفع يلتقط كفها فى حنان و يقبل باطنها فى عشق فاضح..
و اخيرا يترك تلك الكف العزيزة فى بطء يشى بمدى رغبته فى ألا يطلقها ابدا لتستعيدها هى و تضمها محملة بقُبلته الغالية الى صدرها فى شوق و كأنها تضم شئ مقدس لأحضانها.. واخيرا نهض هو فى تثاقل و رحل خارج الغرفة و هو يعلم انه لو ظل لن يستطع البقاء بعيدا عن أحضانها التى يحتاجها حد المجاعة و يشتاقها حد الوجيعة..
سار تلك الطريق الي السراىّ وحيدا فقد اصبح يعشق السير فى هذا الطريق كلما اتيحت له الفرصة.. يأتى من القاهرة جوا ثم يبدأ فى التنقل بين عربات الأجرة حتى يصل الى مدخل النجع و يسير حتى بوابة السراىّ الضخمة التى يحرسها ابيها فى يقظة.. لا يعلم لما اصبح يعشق ذلك على غير عادته التى كانت تأنف الحرارة و إلتصاق الاجساد.. و تذكر المرة الاولى التى ألتقاها فيها فى احدى العربات المتهالكة التى كانت تقلهما للنجع فأبتسم فى حبور..
اصدر هاتفه رنين مشيرا لإشعار احدى الرسائل فأخرجه من جيب سترته و تطلع اليه و هو لايزل سائرا بطريقه لا ينتبه لموضع خطواته.. ابتسم سعيدا بفحوى الرسالة التى تؤكد القبض على حمزة و شعر بزهوة انتصار تداعب دواخله لكن تلك النشوة تبخرت سريعا عندما اصطدم بتلك المرأة المجذوبة سيدة التى اندفعت من احد المنعطفات تستنجد به ليحميها من مجموعة من الصبيان يهرولون خلفها بغية مضايقتها..
كاد يسقط ارضا من جراء اصطدامها به لكنه تمالك نفسه و استطاع السيطرة على ثبات أقدامه و المرأة لاتزل مختبئة خلف ظهره تطلب العون منه ليهتف هو فى جدية:- روح يا واد انت و هو من هنا.. رحل بعض الاولاد بالفعل يزمجرون فى غضب لانه منعهم التسلية بمشاكسة تلك المجذوبة الا ان احدهم قرر الانتقام ليلقى بحجر طينى بإتجاه سيد ليستقر مباشرة فوق احد حاجبيه..
انتفض سيد متوجعا ليهرب جميع الاولاد و يختفوا فجأة كأنهم فص ملح و ذاب.. تطلعت اليه المرأة المجذوبة فى حيرة لا تعلم ما عليها فعله.. و اخيرا جذبته من يده ليسير خلفها كطفل يتبع امه فى طاعة و اجلسته على احد الأحجارالملقاة على الرصيف المقابل و اخرجت من بين طيات ثيابها خرقة من قماش مهترئ عصبتها على جبينه حيث إصابته..
لا يعلم لما لم يمنعها و لم يعترض عليها و هى تضع على جرحه تلك الخرقة البالية التى لابد و انها تحمل جراثم العالم.. تطلع اليها فى إشفاق و هو يراها تربت على كتفه و تهم بالرحيل الا انه استوقفها هاتفا:- مش عايزة فلوس!؟..
و ادخل كفه لجيبه بغية إلتقاط بعض الجنيهات يهبها إياها فقد اصبح لا يسير دونها متى ما عزم على المجئ للنجع الا انها هزت رأسها نفيا و ربتت على كفه التى لاتزل بداخل جيب سترته و رحلت فى خطى متثاقلة متجهة لعشتها بالقرب من سُوَر السراىّ و هو يتابعها بأنظاره متعجبا من اهتمامه بتلك المرأة التى كادت تودى بحياته اثر أزمة قلبية فى المرة الاولى التى رأها فيها..
توقفت هى على باب السراىّ و قد وصلت لتوها من الجامعة و رأت ذاك المشهد العجيب يحدث امامها.. .. ذاك السيد المتعجرف الذى لا يحتمل الحرارة و الأتربة و الذى يعيش فى جو من المكيفات و معطرات الجو يجلس الان على قارعة الطريق مع مجذوبة كانت دوما محط احتقاره و قرفه..
ابتسمت رغما عنها لمظهره ذاك و اندفعت تجاهه و ما ان وصلت اليه حتى اختفت سيدة عن ناظريهما لتهتف ثريا فى سخرية و هى ترى تلك العصابة التى تحيط بجبينه:- لله يا محسنين لله.. حسنة جليلة تمنع بلاوى كَتيرة و هنيالك يا فاعل الخير و الثواب..
انتفض متطلعا اليها و قد تنبه اخيرا لوجودها ناهضا فى تثاقل متجاهلا سخريتها يحاول نفض الغبار العالق بسترته و بنطاله.. ما ان انتهى حتى استأنف سيره فى اتجاه بوابة السراىّ القريبة لتتجاهله بدورها و تسير فى تثاقل حتى لا تجاري خطواته ليتوقف هو فجأة حتى كادت تصطدم به لولا انها تقهقرت فجأة..استدار متطلعا اليها متسائلا:- انتِ تعرفى ايه عن سيدة دى !؟..
تطلعت اليه فى تعجب مجيبة:- معرفش عنها حاچة..من يوم ما وعيت ع الدنيا و انا بشوفها ع الحال ده.. اه كانت صغيرة ف السن عن كِده طبعا.. بس ليه !؟.. هز رأسه متفهما و لم يعقب على سؤالها ليستأنفا سيرهما و تصل لبوابة السراىّ فى عقبة و قبل ان يختفى عنها متوجها لمقابلة عاصم هتفت به:- يا باشمهندس!؟..
تطلع اليها فى استفسارلتشير الى عصابة رأسه التى نسى ازالتها لتمتد يده تتحسسها مبعدا إياها عن جبينه و ما ان هم بإلقائها حتى عدل عن ذلك ليضعها فى جيب سترته.. لتنفجر هى ضاحكة و هى تغيب عن ناظريه بإتجاه دارها..
ايّام تلو ايّام و هو يطلبها و لا مجيب و كأن هذا الرقم الذى كان يحفظ عن ظهر قلب ما عاد يخصها لدرجة انه اعاد التأكد من أرقامه واحدا تلو الاخر لعله يكون مخطئا و طلب رقما اخر.. لكنه للأسف رقمها الحبيب و العزيز على قلبه كصاحبته و الموشوم بذاكرته كيوم ميلاد حبهما..
أعاد الاتصال من جديد و لا مجيب كالعادة فتنهد فى ضيق و كاد ان يلقى الهاتف جانبا الا ان صوت إشعار بوصول رسالة ما جعله يتمهل ليتطلع لشاشته التى أضاءت لثوان.. فض الرسالة فى لهفة و قد أيقن انها منها.. من نرمين.. جرت نظراته على الأسطر القليلة لا يع ما هو مرصوص بها من كلمات.. هدأ قليلا و بدأ يقرأ من جديد فى تمهل.. كانت رسالة قصيرة تحوى بضع كلمات لكن فحواها كان اكثر وجعا من خجر غُمد بصدره..
كانت تعتذر له بكل أدب عن وعدها له بالارتباط متعللة بأهلها كالعادة و ان الظروف الان أصبحت اكثر تعقيدا من زى قبل.. اى ظروف تقصد !؟.. بالتأكيد تقصد فقده لقدمه و وظيفته المرموقة و بدلته الميرى التى كانت تحب دوما ان تطالعه بها.. لم يبقى من كل هذا الا ماجد فقط.. ماجد دون اى بهرجة او رتوش دنيوية.. ماجد الانسان العاجز الذى اصبح بلا حول و لا قوة.. و الذى اضحى ما بين طرفة عين و انتباهتها إنسان يقف على مفترق طرق لا يعرف له هدفا و يسعى اليه أو حلما يعمل من اجل تحقيقه..
قرأ الرسالة من جديد.. ثم قرأها مرات و مرات و مرات و كأنما يقوم بطقس لتعذيب الذات فى وحشية و اخيرا صرخ بكل الوجع المختزن بداخله و كل القلق المتراكم بحشاه عليها و كل الأمل فى العودة اليه تخبره ان ما حدث لم يكن ليفرقهما و بكل الشوق لسماع صوتها يدعمه و يسانده..
صرخ هاتفا يلعنها و هو يقذف بالهاتف بطول ذراعه.. و لم يكتف بل دار حول نفسه فى غضب هادر و اطاح بكل ما وصلت له ذراعه فى ثورة و هو يشعر حتى بالعجز عن التعبير عن ثورته تلك بالشكل الذى يرضيه و يهدئ و لو قليلا من تلك النار التى تستعر بصدره.. ألم قاتل و وجع مضن احتله بالكامل جعله كالمجنون لا يع ما يفعل و هو يحطم كل ما تطاله يده..
دقت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل بالضبط و هو لايزل على جنونه بل انه تمادى فيه و هو يطيح بتلك الساعة الأنيقة التى تزين جدار غرفته فوق فراشه مباشرة قاذفا تجاهها احد أدواته الرياضية لتسقط مهشّمة متناثرة الأجزاء حتى تصمت دقاتها و لا تذكره بموعدهما اليومى المعتاد.. كانت ايمان تمر كعادتها كل ليلة بالقرب من حجرته و هى فى سبيلها لحجرة القراءة لتستذكر دروسها فسمعت تلك الجلبة و أصوات تهشم شئ ما.. اعتراها القلق.. و ظلت مترددة لفترة هل تذهب لرؤية ما يحدث ام تدعه لحاله!؟..
تغلب قلقها على محاولتها ادعاء اللامبالاة و توجهت بحذر تطرق باب الحجرة الخارجى و لم يأتها الرد مباشرة مما زاد من وتيرة قلقها و همت بفتح الباب لولا ان الباب نفسه انفرج بعنف من الداخل ليطالعها محياه الغاضب هاتفا بضيق:- فى ايه !؟.. حد يخبط ف الوقت ده!.. شعرت بالحرج يعتريها من رأسها حتى اخمص قدميها و همست و هى منكسة الرأس:- انا آسفة.. اصل..
و صمتت غير راغبة فى التبرير و ما ان همت لتستدير راحلة حتى وقعت عيناها على كفه المخضبة بالدماء فاندفعت هاتفة فى ذعر:- ايه الچرح اللى ف يدك ده !؟.. انت بتنزف چامد...
نظر بأستهانة لجرح كفه فالجرح بروحه هو الأعمق و بكرامته و كبريائه هو الأكثر نزفا.. دخل الحجرة متقهقهرا بكرسيه المدولب و لم يعرها اهتماما حين رحلت.. لكن ما هى الا دقائق و عادت ادراجها بمطهر و بِعض القطن و جلست مستندة على ركبتيها بالقرب من قدميه هامسة و هى تمد كفها اليه ببعض القطن المغموس بالمطهر:- هات كفك مينفعش تتساب كده..
مد كفه اليها دون اعتراض وهو نفسه لا يعلم لما أطاعها و هو فى تلك الحالة من الغضب و النقمة على جنسها بالكامل.. وضعت القطن المغموس بالمطهرعلى الجرح فى تردد فلم تر اى رد فعل منه يدل على تأثره بحرق المطهر على الجرح المفتوح.. بدأت فى تطهير الجرح دون ان تمس كفه حتى.. كانت تلك جراءة لا تقو على اتيانها يكفيها انها تذوب خجلا و هى فى ذاك الوضع منه يشملها بنظراته من عليائه كملك يمن على احدى رعاياه بالمثول امامه و هى تقدم فروض الولاء و الطاعة..
انتهت من مهمتها و انتبهت و هى تننهض مستندة على الارض ان شئ ما قد اصابها بوخزة فى كفها فأنتفضت متأوهة لينتفض بدوره هاتفا فى قلق:- فى ايه!؟.. همست و هى تتطلع لجرح كفها من جراء احد شظايا الزجاج التى تناثرت هنا و هناك:- مفيش حاچة.. دى حتة جزاز صغيرة چرحتنى.. و تطلعت لأثار الحطام المنتشرة حولهما والتى تعيها للمرة الاولى منذ دخولها الغرفة فقد كانت مأخوذة تماما بجرح كفه و تطييبه و اخيرا همست:- انا هشوف حاچة انضف بيها اللى اتكسر ده كله..
هتف شاعرا بالذنب:- مفيش داعى تتعبى نفسك.. الصبح ماما و نجاة هينضفوها.. ابتسمت فى هدوء هاتفة:- و لحد ما يجى الصبح و حد ينضف ممكن تقولى هتنام فين و السرير كله جزاز كده!؟.. هتف مجادلا إياها:- يعنى لو انتِ مكنتيش جيتى كنت هنام ازاى!؟.. كنت اكيد هنام ف مكانى ع الكرسى اللى انا قاعد عليه.. هتفت تجادله بدورها و ابتسامة على شفتيها:- بس انا چيت.
لا يعرف لما استرعت تلك الكلمة البسيطة انتباهه لتجعله ينظر اليها نظرة مختلفة عن نظرته لإيمان التى رغم صغر الفارق الزمنى بينهما الا انه كان يعتبرها طفلة.. لم ينبس بحرف واحد و هى ترحل لفترة و تعود حاملة بعض أدوات النظافة لتبدأ حملة ازالة مخلفات ثورته الطاحنة و التى تركت الحجرة رأسا على عقب..
كان يتابعها فى هدوء و هى تحمل اثر ساعة الحائط المحطمة على فراشه و اخيرا تنزع فى حرص غطاء الفراش بما عليه من شظايا زجاجية و خشبية و تتركه جانبا و تقوم بتنظيف الفراش كى تتأكد من خلوه من بقايا الزجاج و اخيرا تضع غطاء جديد جلبته من موضعه المعتاد بأحد الأدراج بخزانة الملابس..
أعدت الفراش كما يجب ان يكون و توجهت لباقى الغرفة تزيل عنها اثار المعركة بأدواتها فى مهارة و اقتدار و كأنها ساحرة تلمس كل ركن بالحجرة بعصاها السحرية ليعود افضل مما كان..
جمعت كل الشظايا على احد جوانب الغرفة حتى تحملها لاحقا و سألته فى هدوء يوتره لا يعرف لماذا..ربما لأن هدوئها الواثق ذاك يشعره انها ناضجة اكثر مما يبدو عليها و اكثر مما يجب فيشعر بالاضطراب فى صحبتها و لا يعلم كيف يمكنه التعامل معها.. على أساس انها طفلة كما كان يشعر دوما ام كأمراة راشدة شديدة التعقل كاملة النضج:- كان ايه سبب المعركة دى كلها يا چنرال !؟.. ممكن اعرف.. و لا دِه سر !؟.. تنهد فى ضيق:- لا مش ممكن..
ابتسمت رغم رده الجاف مما وتره اكثر و هتفت:- واضح انك خسرت المعركة.. بس عارف.. مش دايما اللى بيبان خسران هو اللى فعلا بيكون خسران.. ألقت بكلماتها الفلسفية و تركته يقلب معناها فى رأسه المنهك و توجهت لباب الغرفة لتخرج للحديقة و توجه هو لطرف الفراش يحاول الخروج من أسر كرسيه المدولب الذى لم يعتد الخروج منه بعدو قد نسى ضبطه على وضع ثبات العجلات مما جعل الكرسى يهتز و ترنح هو جراء ذلك غير قادر على الوصول للفراش بسلام و انزلقت ذراعه على طرف الفراش ليسقط ارضا رغم محاولته التشبث مما استرعى انتباهها قبل ان تكمل خروجها من الباب و كذا فى نفس اللحظة دخلت زهرة الحجرة من بابها الرئيسى لتشهق كل منهما و هى تسمع صوت ارتطامه و انحسار جسده بين الفراش و كرسيه..
اندفعت كلتاهما نحوه فى ذعر تحاول المساعدة فى حمله الا ان ايمان هتفت:- ما تنادى عمى عاصم و مهران يشيلوه يا مرت عمى.. هتفت زهرة فى ذعر:- مش موجودين.. عاصم بايت ف الاسطبلات و مهران مسافر.. تعالى بس ساعدينى.. كان هو كلوح خشبى لا حراك فيه و كل واحدة منهما تجاهد لترفعه من جانب حتى وصل بشق الانفس لطرف الفراش فأستخدم هو يديه ليعدل من وضع جسده على الفراش و خاصة ان قدمه الاخرى لم تبرأ تماما بعد حتى يستطيع الاعتماد عليها.. وضعت زهرة وسادة خلف ظهره و هى تلهث إرهاقًا..
كان هو لا ينظر لأيهما يشعر بالعجز يسيطر على روحه و يخنقها فى بطء مذل..شعرت بِه ايمان فهمت بالإنصراف فى هدوء لكن زهرة هتفت متسائلة فى تعجب:- هو ايه اللى حصل ف الأوضة بالظبط.. !؟. كانت تسأل و عيونها تجول على الزجاج المجموع على احد الجوانب و غطاء السرير الملقى بأحد الأركان و بعض المزهريات الزجاجية المفقودة هنا و هناك و التى لم تكن بموضعها. هتفت ايمان تحمل عنه مشقة الإجابة:- و لا حاچة يا مرت عمى.. الظاهر سيادة الچنرال وحشته الجومة و الحركة فحب يچرب و دى كانت النتيچة..
و هتفت مستطردة تبرر وجودها عنده فى هذه الساعة المتأخرة من الليل:- و انا كنت بذاكر بره ف أوضة الجراية و سمعت صوت الكسر فدخلت ألم الجزاز.. عند اذنكم انا بجى.. همت ايمان بالخروج من باب الحجرة الا ان زهرة ابتدرتها هاتفة:- ايمان.. تسلمى يا حبيبتى تعبناكِ معانا.. ابتسمت ايمان فى حياء:- مفيش تعب و لا حاچة يا مرت عمى.. ده من ريحة الغاليين.. ربنا يتم شفاه على خير..
قالت كلماتها و رحلت مخلفة عيونه مصوبة ناحية بابها حيث ولت.. و قد أيقن انها علمت سبب معركته الخاسرة لكنها لم تشأ ان تشى بسره الذى آتمنها عليه ذات ليلة و لم يبح به لمخلوق غيرها اما هى فخرجت تضم كتبها لتعود لحجرتها و هى تضم موضع جسده حيث احتضنته و هى ترفعه عن الارض تتلمس رائحة عطره التى ألتصقت بثيابها و تشعر انها هائمة فى دنيا اخرى من عبيره الرجولى الذى اصبح يخالط روحها العاشقة..