رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثامن عشر
اندفع الجميع لداخل المشفى عاصم و زهرة و معهما سندس و مهران و تسنيم و كذلك سهام و حسام و تسبيح امتلأت قاعة الاستقبال بهم مهرولين لا يدركوا ما حدث لولدهم..
أخيرا استوقفوا احد الأطباء الذى دلهم على مكان باسل ليهرع الجميع حيث أشار الطبيب.. لحظات و كان باسل يخرج من الغرفة و تنفس الجميع الصعداء حيث كان الى حد كبير في أتم حال الا بعض الخدوش و الجروح البسيطة و ردود في ذراعه جعلت الأطباء يرفعوه لأعلى برابطة معلقة برقبته حتى لا يحركه.. بكت سهام في لوعة ما ان رأته معافى و كأن هما كبيرا قد انزاح من على كاهلها برؤية ولدها لا يشكو شيئاً..
توجهت به الممرضة على كرسى متحرك حيث غرفته التي تم تعينها له ليبيت فيها الليلة تحت الملاحظة.. توجه الجميع خلفه و اكتظت الغرفة هتف باسل محاولا تخيف اثر الرعب الذى عاشوه بسببه:- ايه يا چماعة.!! الحمد لله چت سليمة.. هتف عاصم:- سليمة ايه بس يا شيخ دِه انت نشفت دمنا..
نظر باسل لسندس التي كانت تقف في احد جوانب الغرفة يبدو عليها اثر البكاء و الصدمة و هتف متسائلا:- ايه!؟.. خفتوا علىّ.. متخافيش يا خالى.. عمر الشجى باجى.. ربتت سهام على كتف ولدها في سعادة بنجاته هاتفة:- ربنا ما يورينا فيك حاچة وحشة ابدا يا ضنايا.. قبل باسل كفها التي لا تزل موضوعة على كتفه هاتفا في مرح:- تسلميلى يا سوسو..
ابتسمت سهام في فرحة و عادت للربت على كتفه من جديد و هتفت مستفسرة:- على كِده يبجى نأچلوا الكتاب و الفرح لحد ما يجوم باسل بالسلامة.. هم عاصم بالرد الا ان باسل نفسه انتفض في حمية:- ايه هو اللى يتأچل دِه يا سهام!؟.. دِه انى لسه مدعلك و جايل لك يا سوسو تبجى دى اخرتها.. و الله ما حاچة تتأچل و لا دجيجة واحدة..
انفجر الجميع ضاحكين الا سندس التي تمنت لو ابتلعتها الأرض من شدة حرجها مما يفعله ذاك المجنون الذى تهيم فيه و به عشقا.. هتف حسام موبخا في مرح:- يا واد انت مكسور.. طب يومين لحد ما تجوم على رچلك.. هتچوز و انت مكسور كِده!؟.. اندفع باسل هاتفا:- فين المسكور دِه!؟.. . ياك جصدك ع البتاعة دى اللى معلجينها ف رجبتى.. يا عم دِه شغل دكاترة.. و اهى هشيلهالكم عشان تصدجوا انى تمام..
اندفع مهران مقهقها و هو يمنعه فك رباط ذراعه من حول رقبته:-خلاص يا باسل مصدجينك بس متشلهاش.. هنچوزوك متجلجش.. قهقه الجميع من جديد ليهتف عاصم مؤكدا:- خلاص يا واد بطل غلبة.. كل حاچة ف ميعادها بس شد حيلك انت.. هتف باسل مؤكدا:- انى شاده ع الاخر يا خالى بس چوزونى انتوا و ملكمش صالح.. قهقهت سهام هامسة بجوار عاصم:-هايطلع لمين!؟.. مچنون واد مچانين..
قهقه عاصم و همس بدوره:- يعنى ابوه متچوزكيش و لسه مطبش من العياراللى خده!؟.. خلينا ساكتين احسن.. قهقهت سهام بدورها لتهتف زهرة في مرح:- بتتأمروا على مين انتوا الاتنين!؟.. هتفت سهام:- عليكِ.. عاصم بيجول عايزنى أدور له على عروسة چديدة و يبجى الفرح فرحين.. قهقه عاصم و هو ينظر لزهرة التي زمت ما بين حاجبيها ممتعضة هاتفا:- انتِ تصدجى برضك!؟..
ابتسمت زهرة في دلال هاتفة:- الصراحة لااا.. هتفت سهام ضاحكة:- طيب اخرچ منيها انى بجى.. ليصرخ باسل جاذبا انتباههم جميعا:- جاعدين تهزورا و سايبينى كِده.. هتفت سهام ناهرة:- مالك يا واد.. !؟. ما انت زى الفل اهو الحمد لله.. هتف باسل في توسل:- عايز اتچوز يا خالى..
تعالت ضحكات الجميع من جديد و سندس تزداد انزواءً خلف كتفى زهرة و هتف عاصم ناهرا:- ماجلنا بعد يومين يا فجرى.. هتف باسل:- لااااه.. عايز اتچوز دلوجت.. هتفت سهام لعاصم تعقيبا على طلب ولدها:- مجلتش انى.. مچنون.. هتف باسل متضرعا:- نكتب الكتاب بس.. اخرچ من هنا و هي مرتى.. هتف حسام:- طب و ايه اللى فرج على يومين!؟.. . كنك مچنون زى ما جالت امك..
هتف باسل متضرعا من جديد:- و حياة أغلى حاچة عنديكِ ما ترفض يا خالى.. نكتبوا الكتاب و اهو الفرح ف ميعاده بعد يومين.. ابتسم عاصم لإبن اخته المجنون و كانت فرحته الداخلية لا توصف و هو يراه متلهفا على زواجه من ابنته بهذا الشكل و لكم تمنى رؤية هذه اللهفة و ان يستشعر معزة ابنته في عين طالبها و رغبته فيها .. و ان يتدلل كأى أب حتى يوافق على اقترانها به.. و أخيرا هتف بعد لحظات صمت و هو ينظر لسندس التي تزوى خجلا و حياءً:-انى موافج..
كانت المرة الأولى التي سُمع فيها صوتها منذ قدومهم لتهتف في إحراج متعجبة من موافقة ابيها:- بابا.. !!.. هتف عاصم مازحا:- ايه !!.. فرجت ايه دلوجت من يومين.. على بركة الله.. روح يا مهران هات لنا المأذون.. هلل باسل في سعادة:- ينصر دينك يا خالى.. و الله انت اچدع خال ف الدنيا دى كلها.. انفجر الجميع فى نوبة جديدة من الضحكات لرد فعل باسل المتهور بينما أطلقت سهام زغرودة قوية فى سعادة..
اندفع العمدة حامد الحناوى في سعادة بجانب يونس في الكارتة يجول به شرق نجع الحناوى و غربه حتى يعرف كل ما يخصه من أراضى و أملاك.. توقفا كثيرا لبعض الأشخاص ليعرفهم حامد على ولده البكر يونس متحمسا و متباهيًا.. شعورا رائع غمر يونس و هو يستشعر اهتمام ابيه و رغبته في الإفصاح عن وجوده و الافتخار بكونه ولده.. ذاك الشعور الذى دوما ما كان يحلم به و هو يعرف ان تحقيقه درب من مستحيل.. لكن ها هو المستحيل يتحقق أخيرا و يشعر بمدى روعة الشعور بالإنتماء لرجل ما يفخر انك تحمل اسمه مزيلا اسمك في عزة..
انه الان يونس الحناوى.. و سيظل يونس الحناوى.. لقد وجد هويته الضائعة أخيرا.. وجد ضالته المنشودة.. وجد اصله و جذوره و لن يبتعد عنها من جديد و سيظل يعمل جاهدا حتى يستحق الانتماء لهذا الأصل و سيتشبث ما حيا بهذه الجذور و لأخر رمق في أنفاسه.. انه هو أخيرا.. انه يونس الحناوى و لن يكون الا هو بعد الان.. يونس الذى سيستمد القوة من اسم ابيه الذى يحمله تلك اللحظة في فخر و سيكون ذاك اللقب هو قوته و سنده و داعمه الأول..
ربت حامد على كتف يونس الشارد هاتفا في حنو:- ايه رايك يا يونس!؟.. عچبتك الأرض.. عرفت اللى ليك يا ولدى!؟.. انحنى يونس مقبلا كف حامد في اعزاز هاتفا:- ربنا يخليك لينا يابا.. المال مالك يا حاچ و هايفضل مالك دايما.. انى لا عايز حاچة و لا بدور على مال.. انى كفاية عليا انى ولدك..
ربت حامد على كتف يونس من جديد هاتفا في تأثر:- محدش ضامن عمره يا يونس.. لازما تعرف كل حاچة.. دِه مش حجك لحالك.. دِه حج اختك و بت عمك.. يعنى أمانة ف رجبتك يا ولدى.. عارف ان الشيلة تجيلة.. بس انت كدها و هتجدر عليها.. صمت يونس و لم يعقب ليهتف فجأة صوت اخرجه من تأمله هاتفا:- اهلًا بواد عمى.. مش واد عمى برضك و لا غلطت ف العنوان!؟..
هتف جاسم بتلك الكلمات مما استرعى انتباه يونس ليتطلع اليه في قلق و قد ادرك النبرة العدائية التي يتحدث بها بينما هتف حامد غاضبا:- انى مش جلت متورنيش وشك تانى!؟.. ايه اللى چابك!؟.. هتف جاسم ساخرا في غل:- واااه يا عمى.. !!.. بجى واد عمى ياجى و منرحبوش بيه برضك!؟.. دِه حتى تبجى عيبة ف حجى يا عمدة.. و انت واعى لجاسم.. طول عمرى يفهم ف الأصول..
هتف حامد في غضب و هو يمسك لجام الكارتة:- طب غور من جدامى.. غور.. و اندفع حامد بالكارتة مبتعدا عن محيا جاسم و الذى تطلع يونس اليه في فضول و رأى تلك النظرات التي كان يرمقه بها في حقد و شعر ان جاسم هذا لن يكون الا باب لشر مستطير لن يُغلق بسهولة ابداااا..
اندفعت ثريا بإتجاه مكتب سيد العشماوي.. دخلته متعجلة و هي تلقى التحية بسرعة للعاملين أغلقت خلفها الباب و تركت حقيبة يدها و أدواتها الهندسية جانبا و توجهت حيث المكتب تبحث عن بعض التصميمات التي من المفترض مراجعتها.. بحثت هنا و هناك و لم تجدها.. تعجبت.. من دخل الى تلك الحجرة و حصل على تلك التصميمات.. اضناها البحث بين كل تلك التصميمات الموضوعة جانبا فتنهدت في ضيق و قد شعرت بجفاف حلقها و ان الإرهاق قد تمكن منها بالفعل.. فاليوم كان شاقا في الجامعة و ها قد اكتمل بعدم عثورها على تلك التصميمات الهامة.
تنهدت من جديد بنفاذ صبر و رفعت ذراعيها تتمطع كقطة رومية تحاول ان تطرد ألم عضلاتها التي تئن رغبة في الحصول على الراحة.. ابتسم هو في سعادة و هو يرى تلك المتنمرة المسترجلة أخيرا و قد بدر عنها اى بادرة تؤكد انها أنثى و لو لمرة واحدة.. فها هي تتمطع بتلك الطريقة المغرية جعلته يزدرد ريقه في تأثر و ما عاد له القدرة على التفوه بكلمة رغبة في عدم خدش مجال حريتها مستمتعا بجهلها لوجوده..
و رغم انه يجلس في ركن مظلم و ناءٍ بالغرفة.. الا انه يدرك انها ستكتشف وجوده عاجلا او اجلا.. و ساعتها لن يسلم من لسانها و اعتراضاتها.. فقرر الإعلان عن وجوده مضطرا.. فهتف في هدوء من موضعه:- واضح انك تعبانة و مش بتنامى كويس.. يا ترى ليه!؟.. انتفضت موضعها محاولة السيطرة على تلك الصرخة التي كادت تخرج من حلقها بوضع كفها على فمها مغتالة إياها.. هتف من جديد ساخرا:- ايه ده!؟.. هو الباشمهندس ثريا بيخاف و بيعرف يصرخ!؟..
استعادت رباطة جأشها في سرعة و تمالكت أعصابها قدر الإمكان حتى لا تتجه نحوه و تكيل له بعض السباب او تصفع وجهه الوسيم هذا عدة صفعات تشفى غليلها.. الاحمق.. كاد يصيبها بنوبة قلبية.. تنفست بعمق هاتفة في سخرية:- دِه ان مكنش عند حضرتك مانع يعنى اتعب زى البنى أدمين.. و أخاف زيهم برضك..
هتف في نزق مقتربا من موضعها و قد قرر الأخذ بثأره كاملا مما فعلته به امام الجامعة:- لا معنديش طبعا.. بس يا ترى الباشمهندس ثريا مبينمش ليه!؟.. قاعدة بتعدى النجوم ف بعدى و لا ايه!؟.. انفجرت ثريا ضاحكة في سخرية:- بعد النچوم!؟.. هو في راچل يحب ف راچل برضك و يجعد يعد النچوم كمان.. چديدة دى!؟..
كاد ينفجر غيظا من تهكمها و قد شعر انها من نال منه و ليس العكس فزاده ذلك امتعاضا و غيظا ليهتف حانقا:- حيث كده يا باشمهندس.. جهزى نفسك حالا عشان هتروحى معايا الموقع.. هتفت متعجبة:- بس دِه تخصص الباشمهندس حمزة.. انا..
هتف بضيق:- انتِ تسمعى اللى بقولك عليه من سكات.. جهزى نفسك و حصلينى بالتصميمات اللازمة و هستناكِ ف عربيتى.. هااا.. عربيتى.. و ابقى ارفضى تركبيها.. هتفت في تردد:- بس التصميمات..
اقترب منها في بطء و لا تعرف لما لم تتحرك مبتعدة حين اقترب من موضعها و مد كفه في تؤدة لموضع ما خلفها حتى ان رأسها الان اصبح مقابلا لموضع قلبه مباشرة و تناول مجموعة مطوية من الأوراق كانت بعيدة عن موضع يدها و يبدو انه من وضعها في ذاك الموضع متعمدا و ابتعد رويدا و قدم لها الأوراق هامسا:- اهى التصميمات يا باشمهندس.. يا ريت ننجز عشان اتأخرنا فعلا.. كان زمنا خلصنا الامور دى الزبارة اللى فاتت لو كنتِ ركبتى معايا من قدام الجامعة.. تركها و رحل مخلفا عبق عطره و قد علق بأنفاس ذاكرتها و يبدو انها ستظل عالقة للأبد..
تعالت الزغاريد بقلب المشفى فها قد تم عقد قران باسل و سندس وسط تعجب الجميع.. و ما ان انتهت التهانى و المباركات حتى بدأ الجمع في الرحيل في تتابع للبدء في تحضيرات الزفاف التي أزف موعده.. كانت سندس اخر من يخرج من الغرفة ليهتف باسل بأسمها في عشق:- سندس..
تخشبت اقدامها و لم تحرك ساكنا عندما سمعت بندائه الذى ساعد على ازدياد وجيب قلبها الذى لا يصدق حتى تلك اللحظة ان ذاك المحنون الذى تعشق منذ طفولتها اصبح زوجها الان.. هتف باسل من جديد عندما رأى اضطرابها و توترها:- انتِ رايحة فين!؟..
اشارت لباب الخروج مؤكدة انها راحلة مع الجمع الذى غادر قبلها.. ظلت على حالها لا تستطع التفوه بحرف واحد مما دفعه للإستطراد هاتفا في شوق:- طب خلى بالك على نفسك يا سندس.. اومأت برأسها إيجابا و همست أخيرا في حياء كان مستحدثا على طبعها في تعاملها معه:- حاضر.. همت بالخروج الا انه هتف يناديها من جديد:- سندس..
توقفت تتطلع اليه ملبية الا انه لم يتفوه بحرف واحد كل ما فعله هو التطلع اليها يحاول ان يملأ كل خلجة من خلجات روحه بمحياها غير قادر على التصديق انها أصبحت زوجه و ان ما بين وجودهما الان و جمعهما للأبد تحت سقف واحد مجرد ساعات قليلة لا تتعدى اليومين.. و برغم قصر الفترة الا انه ما عاد لديه القدرة على احتمال بعادها عنه و لو لحظة أخرى.. تنهد في قلة حيلة هاتفا:- مع السلامة.. ابتسمت في خجل و رحلت في هدوء وتركته يعد الساعات حتى يتحقق حلم الطفولة و الشباب..
ظلت تتحين الفرصة المناسبة حتى رأته مغادرا مقر الشركة فأندفعت لتقف امامه مباشرة تسد عليه طريق الخروج.. توقف هو بغتة بدوره حتى يتجنب الاصطدام بها و نظر اليها مستفسرًا في تعجب لتهتف هي في امتعاض برئ لطالما اثار اضطراب ما داخله:- مش كفاية بقى يا حمزة!؟ هاتفضل مخاصمنى لحد امتى!؟..
هتف هو محاولا التظاهر بالصلابة امامها:- انا مش مخصمك على فكرة.. انا بس بعدت عنك زى ما وعدتك عشان مبجاش بضايجك و لا بزعلك.. هتفت كأنها لم تسمع ما كان يقوله من الأساس:- عارف بقالك كام يوم مخاصمنى!؟..
و رفعت كفها تحسب في تؤدة تلك الأيام التي تجنبها فيها مما جعله يكتم ضحكة كادت تقفز مرتسمة على محياه من جراء مشاهدتها بهذا المظهر الطفولى الذى يثير دوما روح المرح داخله و أخيرا هتفت:- خمس ايّام يا حمزة مش بتكلمنى و لا بتوصلنى للشركة معاك مع ان بابا قالك جيب هدير معاك كل يوم.. و لا بتتعشى معانا و بتتعشى لوحدك.. كل ده و بتقول مش مخاصمنى.. امال لو مخاصمنى هتعمل فيا ايه!؟..
ابتسم حمزة على الرغم من محاولته التماسك و قال مشاغبا:- تجولى ايه!؟.. راس صَعيدى.. ابتسمت في سعادة هاتفة:- يعنى خلاص يا حمزة.. سامحتنى.. اتسعت ابتسامته رغما عنه هاتفا:- طب ياللاه عشان أوصلك ع البيت معايا.. صفقت في جزل هاتفة:- يبقى سامحتنى.. ياللاه بينا.. و متنساش هسافر معاك عشان احضر فرح سندس و باسل.. قهقه حمزة هاتفا:- يبجى عشان كِده جيتى تكلميني.. عشان اسفرك معاى..
قهقهت بدورها و هي تنظر اليه تلك النظرات الطفولية التي تفقده ثباته بشكل يثير اضطرابه و يدفعه للحذر و التحفظ في تعاملها لانها هي الوحيدة التي جعلته يدرك ان هناك أسباب عديدة للفرح غير المألوفة لديه.. أسباب كابتسامتها و ضحكاتها الطفولية و نظراتها البريئة.. ابعد ناظريه عن محياها و هي تهتف قائلة فى مرح :- مش بالظبط يعنى.. بس الصراحة كنت زعلانة أنك زعلان منى يا حمزة.. مش عارفة ليه!؟..
فسرت بصراحة فطرية ما كان يشعر به و يخاف ان يعترف به لنفسه فتلك الليالى التي كان يتجنبها فيها أشعرته بمعزتها و بتأثره بإبتعادها و انها وحدها التي تملك بوصلة دواخله دون ان يكون لها يد في ذلك او حتى راغبة فيه.. أخرجته من خواطره و هي تتجه للسيارة بمحازاته هاتفة في دلال فطرى لا تدعيه:- بليز يا حمزة متزعلش منى تانى.. قولى بس انا غلطت ف ايه و انا هسمع كلامك.. بليز..
ابتسم غير قادر حتى على اصطناع الشدة معها و اومأ برأسه موافقا و هو يجلس خلف مقود السيارة يحاول ان يتجنب اتجاه أفكاره لتلك التي تقفز اليها عنوة دون اى مجهود يذكر من قبلها...
اللعنة بل الف لعنة تُصب على رأسه لما يفعله بها.. أهكذا ينال ثأره من رفضها الصعود لسيارته لتأتى الى هذا الموقع!؟.. اللعنة عليه.. زفرت في ضيق و هي لا تستطيع التحرك بتلك التنورة التي ترتديها و التي لم تكن الزى المناسب لمثل ذلك الموقع الملئ بالأحجار و الرمال و التي تصعب عليها الحركة.. ألم يكن من الأفضل لها لو اخبرها انها ستذهب معه للموقع!؟.. كانت على الأقل اخذت في اعتبارها ما يجب عليها ارتدائه.. لكن بمثل تلك التنورة و هذا الحذاء.. انها لا تستطيع حتى التنفس بحرية..
هتف في جزل و هو يراها على مثل هذه الحالة من الضيق و استنتج بالطبع السبب عندما نظر لتنورتها و حذاءها و أيقن ان كلاهما غير مناسب للتواجد في موقع كهذا:- ايه رأيك يا باشمهندسة!؟.. بصى كده ع المعدات و الأساسات.. هتفت هي في غيظ:- يا باشمهندس المفروض انك مهندس وعارف ان دِه مش تخصصى و مجدرش أفيدك فيه.. ده تخصص الباشمهندس حمزة.. يبجى ايه لزمة وچودى هنا!؟..
هتف في هدوء تام بغية اثارة المزيد من حنقها:- انتِ المساعدة الخاصة بتاعتى و المكان اللى عايزك فيه هتكونى فيه يا باشمهندسة.. متهئ لى ده مفهوم.. و لا ايه!؟.. هتفت بحنق بالغ و تهور و هي تتجه ناحيته مباشرة:- باشمهندس سيد.. يكون ف معلومك دى اول و اخر مرة إجى فيها للمو..
لم تكمل جملتها و كيف لها ذلك و قد زُلت قدمها و بدأت تهوى بالفعل من ذاك المنحدر الذى كانت تقف على قمته بصحبته.. ستصاب إصابة بالغة لامحالة.. فالسقوط من مكان كهذا لن يخلف الا إصابة شديدة حتما..
سقطت بالفعل و صرخت في رعب و اندفعت اثناء سقوطها تتشبث به لعله ينقذها.. لكن الامر لم يستغرق ثوان لتجد نفسها متمددة على الأرض.. لكن مهلا ذاك السطح الذى يرقد عليه ظهرها الان لا يمكن ان يكون تلك الأرض الصلبة ذات الحصى و الأحجار.. بحثت عنه بعينيها في مجال رؤيتها حيث ترقد لترى في عينيه نظرات التشفى و السعادة فها قد نال ثأره بأفضل طريقة ممكنة..
لكنها لم تره و أخيرا انتبهت ان سقوطها جاء على صدره و ان ذراعه تحيط خصرها و ان جسده قد تلقى الصدمة عنها و تلقاها هي نفسها ليكون ظهرها متوسد صدره في تلك اللحظة.. تسمرت موضعها غير قادرة على الإتيان بأى رد فعل .. و رغم ذلك كانت هي المبادرة لتنهض في سرعة متجهة للسيارة مهرولة قدر استطاعتها لتبتعد عن محياه رغم انها لا تعرف كيف سيمكنها النظر الى وجهه من جديد و التطلع اليه و التعامل معه كأن شيء لم يكن!؟..
هي مرغمة على البقاء جوار السيارة في انتظاره فما من سبيل اخر لإخراجها بعيد عن هذا الموقع الا سيارته و التي عليها ركوبها و التواجد معه فيها حتى تصل لبيتها و تنأى عنه و عن نوباته الثأرية التي كلفتها الكثير هذا النهار.. لعنته مرة أخرى في سرها و هي تراه قادم الى حيث تقف في انتظاره و سيطرت على نفسها حتى لا تنفجر ضاحكة رغم كل ما حدث بسبب مظهره الدامى و حلته التي تغير لونها من جراء سقوطهما.. ووجهه الوسيم الذى لطخه الغبار في عدة مواقع مختلفة و أخيرا.. بنطاله الذى اكتسب هوة عميقة في موضع احدى ركبتيه..
ان مظهره في تلك اللحظة أشبه بأحد المتسولين حرفيا لولا نظارته الشمسية التي تحجب نظراته عنها و التي هي على يقين انها تكاد الان تمزقها غيظا. حاولت التحدث عندما رأت حاله اسوء من حالها بمراحل و لكن ما ان همت بالتحدث حتى أشار اليها لتصمت تماما..
حتى انه لم ينبس بحرف واحد بل ركب السيارة في صمت و صعدتها بدورها و هي تستشعر بقوة ان رغبته الحقيقة فعلا هي إلقاءها خارج السيارة و عدم رؤيتها من جديد فلزمت الصمت تماما احتراما لرغبته و الفضول يقتلها لترى ما يعتمل داخله من خلال نظراته المختبئة خلف العدسات القاتمة.. ظلا على حالهما من الصمت المطبق حتى وصلا امام السراىّ ففتحت الباب و خرجت و ما ان ترجلت من السيارة حتى انطلق بها مغادرا بأقصى سرعة بعيد عن محياها دون ان يلق التحية حتى.. انفجرت ضاحكة رغما عنها فبالرغم من كل ما حدث الا انها تشعر بسعادة بلهاء لا تعرف مصدرها.. لكنها تستشعرها و بقوة..
تهادت العروس بجوار عريسها على درج دار ابيه حسام التهامى ليصعدا للدور الثانى الذى خصص لهما كمنزل مستقل تتبعهما الزغاريد المتعاقبة التى تنطلق من هنا وهناك.
كانت سندس ترتجف بحق وهى تتأبط ذراع زوجها.. تنبهت لفعل الكلمة بقلبها الذى زاد من وجيب نبضاته الذى تعلق به منذ نعومة أظفارها لكنها لم تعترف بذلك ابدا.. لكن بعد ما حدث وكادت تفقده.. تأكدت بل ايقنت انها تعشقه حد الثمالة ولا قبل لها بحياة ليس فيها.. لا يملأ جنباتها بمزاحه الذى يثير تحفظها تجاهه و تفكهه على لدغة لسانها التى تطير صوابها.. وصل العروسان لباب حجرتهما فنظر اليها باسل فى وجد يكاد يطير فرحا فها هى حلم الطفولة امام ناظريه يتحقق..
و ها هو الان على بعد خطوة واحدة من باب الجنة التى انتظرها طويلا.. فتحت امه الباب.. نظر لسندس التى احمرت خجلاً من خلف خمارها التلى.. و اندفعت للشقة فى عجل.. ليندفع خلفها فى سعادة لا متناهية لتغلق امه الباب خلفه يختنق بحلقها مزيج من مشاعر حبور غامرة و دموع فرحة مع تلك الزغرودة الأخيرة التى اطلقتها وهى تغادر طابق العروسين وقد بدأت دموعها تغلبها فتتساقط وهى ترفع كفيها للسماء داعية بدوام الفرحة و الذرية الصالحة لهما.. وهمست و قد طغت روحها المرحة على دموعها لتهمس فى مرح:- ربنا معاكِ يا بت اخوى.. ولدى مچنون وانى عرفاه..
هتف فيها حسام مازحاً:- بتبرطمى تجولى ايه يا ام العريس!؟.. و واجفة ليه ع السلالم كِده.. !؟؟.. همست سهام و هى تهبط الدرج متأبطة ذراع زوجها:- كنت بجول الله يكون ف عون بت اخوى.. ولدى مچنون و بن مچنونة.. واشارت لصدرها فى فخر.. تربيتى..
انفجر حسام هاتفاً بمرح وقد وصل على مشارف حجرتهما:- هتجوليلى.. و اى مچنونة.. فاكرة ليلة دخلتنا!؟.. جرتينى الليل بطوله وراكِ. تعالت قهقهات سهام وهى تدفع باب الحجرة و تدلف للداخل مسرعة هاتفة فى شقاوة:- طب حصلنى بجى لو تجدر!؟.. اندفع حسام متحديا فى مرح و هو يدلف خلفها و يعلق الباب خلفه:- وااه.. طب ايه جولك لهجيب لولدك العريس اللى فوج دِه اخ.. سخرت سهام متحدية:- جد جولك يا ابو باسل!؟..
خلع حسام جلبابه قاذفا به بعيدا و ما ان رأته سهام حتى تحفزت هاتفة:- بتعمل ايه يا بوالعريس.. !؟؟ اقترب منها مشاكساً وهو يهمس:- هندخل باسل الچيش.. لتتعالى ضحكاتها من جديد... وقد كانت سهام على صواب.. فما انا أُغلقت امه الباب خلفه بعد دخوله حتى تقدم باسل فى تثاقل فهد الى عروسه التى رفعت خمارها و هى تتحفز فى رهبة هاتفة:- عارف لو قربت لى.. ليلتك مش معدية..
ووضعت ذراعيها فى موضع دفاعى كما يفعل لاعبى رياضة الكاراتيه عند بدء القتال.. انفجر ضاحكاً وهو يراها على هذه الحالة من التحفز و بدأ فى التقدم ببطء و قد خلع سترته فى طريقه اليها..
اندفعت تجرى لإحدى أركان الغرفة حتى وصلت للطاولة جوار الفراش و اخرجت من احد الأدراج منظارها الطبى و ثبتته على عينيها وعادت تتحفز من جديد لذاك الذى وقف حيث تركته بلا حراك وعلى شفتيه ابتسامة ماجنة تستفزها و قد استدارت ليواجهه بكليتها فى تلك اللحظة لتعاود قهقهاته الاندفاع صادحة من جديد و هو يرى منظارها يتوج عينيها ذات النظرات النارية و التى تكاد تقتله شوقا.. وضع كفيه فى جيبىّ بنطاله ينظر اليها فى عبثية واخيرا هتف فى صوت مرح:- انتِ يا بت يا استاذة انتِ.. يا اللى اسمك أوله زى اخره.. تعالى هنا..
و أشار لمكان وقوفه بإيماءة من رأسه.. اما هى فقد فغرت فاها ما انا سمعت أمره.. انه يتذكر.. لازال يتذكر ما كان بينهما منذ كانا صغارا.. لازال يتذكر ذاك الامر الذى كان يجعلها تندفع اليه تلبى طلبه بصوت مبتهج لانه ناداها.. خفت نارية نظراتها.. و بدأت تحرق مأقيها اثار دمع بدأ يترقرق بهما... بدأت ترتعش.. بل تنتفض عندما هتف بنفس نبرته المرحة:- طالما مش هاتيچى.. يبجى اجرب انى..
و بدأ فى التحرك ناحيتها وهو لايزل على وضعه السابق واضعا كفيه فى جيبى بنطاله الاسود.. وصل أمامها لا يفصلهما الا خطوة واحدة.. و بدأت هى تفقد كل رباطة جأشها مع كل خطوة يخطوها ناحيتها.. وها قد فقدتها تماما بالفعل مع همسه لإسمها بتلك الطريقة الحالمة.. :- سندس.. كان ارتجافها وصل لذروته وهى تطأطئ رأسها أرضا..
ولا تجرؤ على رفع نظراتها لمقابلته.. مما زاد من ضغطه عليها ليهمس بإسمها من جديد بنفس الطريقة التى دمرت دفاعاتها:- سندس.. همست فى وجل بحروف مترددة و عينيها لازالت تحتضن الارض عند قدميه:- باثل.. عشان خاطرى.. كان دوره لترتجف روحه وهو يسمع اسمه اخيرااا من بين شفتيها.. اسمه الذى قد حرمته سماع أياه من سنين مضت حتى لا يكون هدفا لتندره على لدغتها العزيزة على قلبه..
همس بصوت متهدج وقد دفع احدى كفيه تحت ذقنها ليرفع رأسها لتطالعه نظراتها المتوسلة من خلف منظارها الطبى فيزداد ارتجاف روحه و يهتز ثباته الظاهرى:- انتى جولتى ايه!؟ رددت بألية و هى تنظر لعمق عينيه:- عشان خاطرى.. هز رأسه نافيا:- لاه.. جبل كِده.. انطجيه يا سندس.. انطجى اسمى تانى..
هزت هى رأسها رفضا هذه المرة فمد كفه يجذب منظارها و يقذف به بعيدا وانحنى قليلا ليلتقط كفها فى وله حقيقى و يرفعه لفمه ليقبل باطنه نشوانا وهو يأمرها من جديد:- انطجيه.. وحياة أغلى حاچة عِندك.. هتفت فى سرعة قبل ان تتردد و ترفض من جديد:- باثل..
كان تقرير بانه الاغلى فى حياتها قبل ان يكون جواب لطلبه... انزل كفها لتصبح الان فوق قلبه مباشرة.. تتوسد صدره.. لتنتفض فى خجل و تتلاقى نظراتها بعينيه من جديد و هى تستشعر نبضات قلبه التى تنتفض مثلها تحت أضلع ذاك الصدر الذى لطالما تمنى احتواءها..
اقترب حتى اصبح جبينه يلامس جبينها و نظراتهما ملتحمة فى ثورة عشق انضرمت بقلبيهما منذ سنوات وها هى تعلن عن نفسها اخيرا.. همست بلاوعى باسمه من جديد.. وقد نسيت امر لدغتها و تندره بها:- باثل.. لتستشعر من جديد نبضات قلبه التى يزداد وجيبها ويتضاعف فى جنون.. مع نطقها لاسمه.. همس فى صوت متحشرج:- هايوجف جلبى.. يرضيكى يا بت خالى.. ردت فى لوعة:- بعد الشر عنك..
قبل جبينها فى سعادة قبلة طويلة أودعها النذر القليل من مشاعره التى تضرم بين جنبات روحه منذ امد بعيد.. كان يعلم.. بل كان على يقين.. ان اسمه من بين شفتيها بتلك اللدغة الرائعة التى تذهب بثباته قد يودى به لحافة التهور لذا كان يشاكسها دوما حتى لا تنطقه على لسانها ابدا.. فتذهب بالبقية الباقية من رزانته وتعقله..
جذبها اليه فى حنو بالغ لتصبح اسيرة احضانه فيطبق ذراعاه حولها و هو يتنهد بعمق زافرا انفاسه فى قوة محملة بشهيق من لظى صدره.. حتى هى سمع شهقات بكاءها يتردد بين أضلعه فتحامل حتى يبعدها عنه و احنى قامته ليقبل وجنتيها المبللتان بدموع من شوق و ترقب و رجفة ممزوجة بلهفة.. و فجأة رفعها بين ذراعيه ليدور بها حول نفسه فى فرحة طاغية لتصرخ ضاحكة وهى تتعلق بعنقه:- نزلنى... عشان خاطرى..
توقف وهو ينزلها لتستقر ثانية بين ذراعيه و قد أبدل دموعها.. بضحكات انارت وجهها الطفولى الذى يعشق كل تفاصيله تلك الموشومة على جدار روحه بتطوراتها العمرية منذ مولدها حتى تلك اللحظة.. هامساً بالقرب من اذنيها:- حاضر يا عيون باثل.. و ضغط على حرف الثاء لتضحك فى خجل ضاربة كتفه بكفها.. وفجأة يجذبها من كفها خلفه وهو يهتف فى تعجل:- تعالى عايز استشريك ف جضية مستعچلة.. كلمتين كِده ع السريع...
ثبتت قدميها بالأرض و هى تحاول جذب كفها من براثن كفه المتشبث بها هاتفة باسمه فى خجل:- باثل.. توقف ليدير رأسه اليها ما ان نطقت اسمه وقد أضاءت عيناه نظرات مشاكسة ماجنة ليندفع اليها حاملا أياها:- انطجى اسمى كِده تانى.. و الكلمتين هايبجوا چرنال..
انتفضت فى خجل بين ذراعيه و لتوترها و اضطرابها لم تع ما تقول غير ان تهتف باسمه من جديد:- باثل.. و هو يضعها على حافة الفراش.. ليطالعها من عليائه متطلعاً بعشق الى عمق عينيها و يهتف مازحاً فى وله:- انتى جصداها بجى.. لتنفجر ضحكاتهما وهو يغيب بها بين ذراعيه..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل التاسع عشر
دخلت زهرة من باب السراىّ بعد ان سلمت سندس لعريسها باسل و هى تشعر ان قطعة من روحها انتزعت منها.. كان فى انتظارها عاصم الذى جلس على احدى الارائك التى كانت مفضلة لأمه الحاجة فضيلة ايّام ما كان في إمكانها النزول لتجلس في صحن السراىّ .. رأى زهرة تندفع للداخل كاتمة دموعها متوجهة للدرج.. ناداها فى إشفاق:- زهرة!؟؟..
توقفت قدماها على الدرجة الاولى و نظرت حيث كان يقف عاصم.. اندفعت اليه ليتلقفها بين ذراعيه رابتاً على رأسها فى حنو فهو يعلم تماما ما تشعر به الام عند مفارقة ابنتها التى تنتقل لبيت اخر.. بيت زوجها.. بعيد عن أحضانها.. هتف فيها متمالكا نفسه ليبدو شديدا رغم تأثره لغياب سندس بالمثل:- خبر ايه يا زهرة.. !؟؟.. ليه كل البكا دِه.. !؟؟.. دى اتچوزت و راحت بيت چوزها.. نفرحولها و لا نبكوا!؟..
شهقت زهرة و هتفت من بين دموعها:- مكنتش فاكرة انى هتاثر قوى كده يا عاصم!؟.. و كنت دايما بستغرب على الامهات لما بيعيطوا يوم فرح بناتهم.. و رفعت نظراتها الدامعة اليه هامسة:- يمكن عشان ما شفتش ده بيحصل معايا.. !؟؟.. مزق تساؤلها قلبه.. اشارتها تلك ليتمها و فقدها لحنان الام حتى فى يوم كهذا جعله ينتفض لاأراديا ليدفع بها لصدره من جديد و يدثرها بذراعيه..
تنهد فى إشفاق و هو ينحنى ليقبل هامتها واخيرا هتف فى نبرة مرحة بغية اخراجها من حزنها:- تعرفى!؟. رفعت رأسها لتنظر اليه بفضول ليستطرد بنفس اللهجة التى يكسوها المزاح:- انى خايف على الواد باسل و الله... انفجرت زهرة ضاحكة رغم دموعها التى تغرق وجنتيها.. ثم هتفت مدافعة عن ابنتها الحبيبة:- ليه.. هى سندس هتاكله!؟..
هز عاصم رأسه مازحاً و هو يسحب زهرة باتجاه الدرج لأعلى:- لاه.. دى تلاجيها بتحضر من زمن ازاى تجتله و تاويه و تطلع منها كيف الشعرة من العچين.. مش محامية بجى.. !؟؟.. هتفت زهرة من بين قهقهاتها:- عشان كده هروح لهم من الفجر.. اطمن ان الأمن مستتب.. وصلا لأعلى الدرج و توجه كل منهما ليقطع الردهة الطويلة المؤدية لحجرتهما ليهتف عاصم:- لااه فچر ايه!؟..
و مال باتجاه زهرة هامساً بعبث:- انتِ ليلة صباحيتك كنتِ عايزة حد يصحيكِ من الفچر برضك.. !!؟.. تعلقت بذراعه هامسة فى عشق:- و لا كنت عايزة حد يصحينى من اساسه.. كفاية انى كنت فى حضنك يا عاصم.. انتفخت أوداج عاصم فرحا و همس دالفا للحجرة خلفها:- هى الليلة ليلة مفترچة بينها.. !!؟. لتتعالى قهقهات زهرة من جديد..
عاد يونس وحامد ابيه من جولتهما حول الأرض ربما للمرة العاشرة.. فقد كان دوما ما يصر حامد على اصطحاب يونس لأرضه حتى يحفظ عن ظهر قلب ما له و ما عليه.. و فى كل مرة يأتى يونس لزيارته يصر على تلك الرحلة ..
قضيا اليوم بطوله في صحبة اخته هداية و ابنة عمه عائشة حتى هم بالرحيل مودعا ليهتف حامد مصرا:-ما تبيت معاى يا يونس.. خلينى اشبع منيك يا ولدى.. هتف يونس:- معلش يا بوى هاجيك تانى و هجيب عيالى و مرتى معاى.. اهو يعرفوا هداية و عيشة و هم يعرفوهم.. كل اما اجول أجيبهم يحصل ظرف يأخر مجيتهم.. معلش اللجا نصيب.. و عشان أوصل امى كمان..
هتف حامد:- يعنى مصمم تروح و تسيبنى.. دِه انى ما صدجت لجيتك.. مس كلامه وتر حساس في نفس يونس لينحنى مقبلا كف ابيه في إجلال:- متجوليش كِده يابوى دِه انى اللى ما صدجت لجيتك.. و الود ودى مفارجكش ابدا.. بس لحد ما نشوف هنظبط حالنا ازاى و هتلاجينى وياك على طول.. معلش.. دِه عمر جضيته ف نچع الصالح و مش بالساهل كِده اجلع نفسى من هناك..
هتف حامد متفهما:- عِندك حج يا ولدى.. روح شوف حالك و تعال.. بيتك هنا مفتوح لك و مستنيك.. خلينى أعيش اللى باجيلى و انى مسنود و متحامى فيك.. هتف يونس:- متجوليش كِده يا بوى ربنا يديك الصحة و طولة العمر و نفضل كلنا متحاميين فيك و عايشين بحسك.. ربت حامد على كتف ولده البكر في سعادة و نهض كل من هداية و عائشة خلف حامد لوداع يونس و امه..
وقفوا امام باب الدار الخارجي يتبادلوا التحية مودعين.. هم يونس بالابتعاد لخطوة خارج الدار الا ان حامد صرخ في ذعر دافعا يونس ليسقط ارضا و ااذى ما ان تنبه لما يحدث منتفضا لينهض حتى تلقف جسد ابيه يسقط بين ذراعيه..
لحظات فارقة ما بين الموت و الحياة هي ما عاشها يونس و كاد ان يلقى حتفه لولا ان حامد كان الأسبق ليدرك ان هناك سلاح موجه في اتجاه ولده ليقف حائلا بينهما و يتلقى الرصاصة عنه.. صرخات هداية و عائشة و شهقات سكينة تبعها صراخ يونس ما ان وعى لما يحدث هاتفا في لوعة و هو يضم جسد ابيه المضرج بالدماء اليه:- ابوى.. يا حاچ حامد رد علىّ.. رد على يونس ولدك البكرى اللى لسه مشبعش منيك..
فتح حامد عينيه مزدردا ريقه بصعوبة متطلعا ليونس بابتسامة باهتة على شفتيه:- انى خلاص مبجتش عايز حاچة م الدنيا بعد شوفتك يا يونس.. انى رايح لعبدالله.. بس أمانة يا يونس خلى بالك على اختك هداية.. حطها ف عنيك.. و بت عمك عيشة.. دى الأمانة الكبيرة يا ولدى.. محدش هايعرف يصونها غيرك.. اتچوزها على سنة الله و رسوله.. و أوعى تفرط فيها.. اوعدنى يا يونس..
تخشب يونس لسيل الوصايا التي تخرج من فم ابيه في تلك اللحظة الفارقة و ما عاد قادراً على التفكير فى ما يجب عليه قوله ليهتف مطمئنا ابيه الذى أعاد كلمته الأخيرة عندما تأخر جواب يونس لصدمته من طلب ابيه الأخير بخصوص عائشة ابنة عمه.. هتف حامد شاهقا في ألم:-اوعدنى يا ولدى.. هتف يونس مجيبا:- أوعدك يابوى.. دول ف أمانتى.. مفيش تفريط فيهم و لو على رجبتى..
ألتقط حامد أنفاسه الأخيرة في تتابع و أخيرا شهق متشبثا بكف يونس وهو يردد الشهادة و فاضت روحه لبارئها و علت صرخات هداية و عائشة و سكينة حتى شقت عنان السماء منذرة بإنفراج أبواب الجحيم على مصرعيها بعد موت عائلهم الذى كان لأخر لحظة بحياته يلوز عنهن و يحفظهن من لهيب مستعر ستزداد نيرانه اشتعالا بعد موته.. و ما هذه الا البداية..
استيقظ يحاول التمطع على فراشه لكنه سمع همهمة عجيبة تصدر جواره فتيقظ بكامله متنبها لتلك الرائعة التى تتمدد بالقرب منه غافية فى استكانة تطلع اليها من اخمص قدميها حتى قمة رأسها التى يتوجها ذاك الشعر الكستنائى الذى كانت يتناثر فى فوضى محببة أسرت قلبه و اخيرا استقرت نظراته على قسمات وجهها الذى كان حلم عمره هو التطلع اليه بحرية و التشرب من كل تفصيلة به حتى يحفظها عن ظهر قلب.. الان هو يطالعه و يطالعه و لا يمل فأبتسم فى رضا و نهض فى تثاقل و حذّر رغبة فى عدم إيقاظها حتى يتم ما هو مقدم عليه..
توجه لخزانة الملابس و فتح احد ادراجها فى هدوء و اخرج منها علبة مخملية صغيرة و بعض الاوراق المطوية.. حملها و عاد بها للفراش من جديد و جلس على ذاك الطرف الذى تنام هى فيه.. بدأ فى مداعبة باطن قدمها فى مشاكسة فتملمت و هى تضم قدمها لصدرها فأعاد الكرة من جديد يحاول كتم ضحكاته على افعالها الطفولية.. لكنها استدارت مولية له ظهرها متمتمة بتأنيب:- بس يا ماما.. عايزة انام.
كتم باسل ضحكاته من جديد و حاول التماسك مقلدا صوت زوجة خاله زهرة هاتفا:- كفياكِ نوم يا استاذة.. ميعادك مع مشرف الرسالة هيفوت عليكِ.. انتفضت سندس متيقظة عند سماعها ذاك التحذير و اعتدلت فى فراشها تهم بالنهوض حتى اصطدمت بصدر باسل الذى انفجر ضاحكا ما ان طالع محياها المصدوم و لم يستطع كبح جماح قهقهاته على مظهرها و هى تتطلع حولها فى ذهول و اخيرا تقع نظراتها عليه و قد ايقنت انها وقعت فى فخ مزاحه فهتفت:- كده تخضنى برضو!؟.. بقى دى طريقة تصحى بيها عروسة ليلة صبحيتها!؟..
ابتسم مقتربا فى مجون:- لااه طبعا.. فى طرج كَتييير بس انى كنت موفرها لحد ما اديكِ هدية فرحنا.. ابتعدت فى خجل هامسة:- باثل.. عشان خاطرى.. هتف و قلبه يرقص طربا:- ما هو عشان خاطرك يا بت خالى.. كل حاچة و اى حاچة عشان خاطرك.. عشانك و بس.. هتفت فى تعجب:- انت قصدك ايه!؟
قرب باسل من سندس تلك العلبة الصغيرة الغالية على قلبه و قدمها لها نظرت اليه فى تعجب و مدت كفها و تناولتها لتفتحها و شهقت فى دهشة عندما طالعتها اساورها القديمة التى كانت تعشق و التى تركتها يوم ان كُسرت و ما ان عادت تبحث عنهن ما وجدتهم فكان حزنها مضاعفا..
همست فى تعجب:- انت جبتهم منين يا باثل!؟.. ده انا قلبت الدنيا عليهم.. همس بصوت متحشرج:- و هى الغوايش الچديد اللى لجيتيهم ف العربية الجديمة.. جم منين!؟.. شهقت من جديد هامسة:- انت اللى حطتهم!؟..
امد بايماءة من راْسه مبتسما:-اخذت الجدام عشان اچيب لك زيهم.. لفيت مصر كلها يوميها لحد ما لجيتهم و كنت طاير م الفرحة و حطتهملك ف العربية مطرح ما انى عارف انك بتحبى تجعدى دايما.. و خدت الجدام معاى اهو تبجى حاجة من ريحتك هو المنديل دِه.. و اخرج من نفس العلبة منديلا مضرج بالدماء مخبأ اسفل حاشية العلبة.. تطلعت سندس المنديل و تعرفت عليه فورا.. انه منديلها حيث تركته حول جرحه منذ عدة سنوات..
تطلعت للاساور المكسورة فى كف و منديلها المضرج بدمائه ف الكف الاخر و دمعت عيناها فى سعادة و همست بنبرة تحمل الكثير و الكثير من العشق و هى تتطلع اليه فى تلك اللحظة و هو يجلس قبالتها فى هدوء و محبة:- انا بحبك قووى يا باثل.. قوووى.. و اندفعت تلقى بنفسها بين احضانه فى شوق حقيقى لذاك الرجل الذى كانت ستندم عمرها كله اذا لم تقترن به..
ضمها باسل اليه فى قوة و دمعت عيناه لإعترافها الذى انتظره طويلا حد الوجع و القهر.. و اخيرا تمالك نفسه هامسا بالقرب من اذنها بمشاكسة:- بس على فكرة.. مش هى دى هدية چوازنا.. أبتعدت قليلا عن احضانه هامسة و لازالت الدموع تترقرق بعينيها ليرفع باسل تلك الاوراق المطوية و التى تركها جانبه و فردها أمام ناظريها هامسا:- دى هديتى ليكِ يا بت خالى.. هدية اخدت من عمرى و من صبرى عشان اعرف اجدمهالك النهاردة.. و النهاردة بالذات..
تطلعت سندس بذهول لتلك الورقة المنشورة امام ناظريها و شهقت و هى تقرأ بعيونها كل حرف خُط فيها.. و اخيرا تضع كفها على كفه الممدودة بالورقة تخفضها حتى يتسنى لها التطلع لعينيه بعيون دامعة غير مصدقة هاتفة بنبرة مهزوزة و صوت متأثر:- انت عملت ده كله عشان خاطرى!؟.. دخلت الجامعة المفتوحة و اخدت بكالوريوس تجارة عشان خاطرى!؟..
هز رأسه متأثرا و هتف:- اربع سنين طوال كنت هموت فيهم و اجولك.. بس جلت لاه.. اشوف هاتجبلينى من غيرها و لا هترفضى.. اربع سنين عذاب و انا كل سنة بزج نفسى زج عشان انچح و اخلص بسرعة.. اربع سنين ولو كنت أجدر لكنت خليتهم اربع شهور.. لااه اربع ساعات.. بس.. عشان اعرف اجرب منيكِ.. كنت هتچنن و انا بتخيل ان ممكن تضيعى من يدى.. لاااه دِه انى أچننت بچد يوم ما دخلت السرايا بالسلاح و فى وچود خالى و اللى ما يتسمى دِه اللى كان چاى..
و لم يكمل جملته الاخيرة التى نطقها بكل ذرة غيرة بمحياه.. و تنهد اخيرا و هو يتطلع اليها محتضنا وجهها المندى بالدموع هامسا:- انى ممكن كان يحصل لى حاچة لو مكنتيش من نصيبى.. واااه يا بت خالى.. شهقت سندس غير قادرة على التفوه بكلمة و اخيرا ألقت بنفسها فى احضان زوجها و حبيبها و بن عمتها الذى لطالما أحبته و تمنته زوجا و ها هو يؤكد لها انها كانت ستصبح اكثر امرأة نادمة على وجه الارض اذا لم توافق على الزواج به..
ضمها باسل لصدره فى قوة يكاد يعتصرها بين ذراعيه اعتصارا .. و اخيرا هتف مشاكسا:- اهااا.. شايف يا خالى.. والله ما عِملت حاچة.. دى بتك هى اللى.. تنبهت سندس لما يقول فأنتفضت مبتعدة عنه تتطلع حولها فى ذهول هاتفة:- بابا!؟.. انفجر باسل مقهقها و هو يجذبها من جديد لأحضانه هاتفا:- تعال يا خالى شوف بتك..
تطلعت اليه مؤنبة بنظرة طفولية ليستطرد هامسا و هو يعاود غرسها بأحضانه من جديد:- تعال شوف روحى متعلجة بيها كيف.. بتك يا خالى سرجت جلبى.. همست و هى مختبئة بحنايا صدره بعشق:- باثل.. و قد كان اسمه من بين شفتيها بهذه الطريقة التى تفقده صوابه قادرًا على جعله ينسى العالم ماعداها و يتذكر فقط انها اخيرا بين ذراعيه..
امتلأ صوان العزاء بالمعزين من كل صوب و حدب.. و العجيب ان معظمهم كان سلام يونس عليهم صباحا مع ابيه للمرة الأولى ليستقبلهم في تلك اللحظة و هم يؤدون واجب العزاء فيه.. وقف يونس يتلقى العزاء فى مقدمة الصوان بجواره ابنه حامد و كذلك حمزة الذى صادف وجوده في النجع تلك الأيام من اجل متابعة المشروع..
كانت فرصة ليعلم الجميع ان ذاك الرجل هو يونس الحناوى الابن البكر لحامد الحناوى و الذى عثر عليه بعد توهة كبيرة.. زحف الليل سريعا و ما زال المعزين على حالهم بل ان أعدادهم في ازدياد.. و فجأة ظهر جاسم من قلب المعزين يُظهر حزنه الزائف لوفاة عمه.. و اقترب في تؤدة من موضع وقوف يونس هاتفا في لهجة تحمل من التشفى اكثر مما تحمله من حزن:- البجية ف حياتك يا واد عمى.. ملحجش يتهنى برچعتك.. الله يرحمه..
جز يونس على اسنانه غيظا و تماسك و هو يرد في هدوء مصطنع:- حياتك البچية ياواد عمى.. منجيلكش ف حاچة وحشة ابدا.. اندفع احد الخدم من الداخل ليخبر يونس امر ما ترك جاسم على اثره و اندفع للداخل لتقابله هداية باكية و هتفت في غيظ مشيرة للخارج:- واد عمك جاسم يغور م العزا دلوجت يا يونس.. هتف يونس مهدئا إياها:- اهدى بس يا هداية.. ايه في!؟..
هتفت في حزن:- ابوك الله يرحمه يوم ما جالنا على وچودك اول واحد اعترض كان هو و جل أدبه على ابوك و يوميها ابوك حلف ما يمشى ف چنازته و لا ياخد عزاه.. هتمشيه يا يونس و لا اخرچ انى اطرده من صوان ابويا جدام الخلج كلها!؟.. هتف يونس في ضيق:- لما تعملى انتِ كِده يبجى لزمتى ايه انى ساعتها!؟.. هغوره متجلجيش..
و خرج يونس من الداخل عند الحريم ليعاود الوقوف في موضعه لتقبل العزاء في ابيه ليجد جاسم في انتظاره لم يتزحزح عن موضعه ليتقدم اليه هامسا بلهجة تحذيرية:- روح لحالك يا جاسم معيزينش مشاكل ف عزا عمك.. ميصحش.. ابتسم جاسم في سخرية هامسا:- مشاكل!؟.. و انت لسه شوفت مشاكل.. يا واد الغازية..
اندفع يونس في اتجاه جاسم يمسك بتلابيه في غيظ هاتفا و هو يجز على اسنانه:- لو مغورتش دلوجت من خلجتى مش هتعامل كنى يونس الحناوى واد عمك لااااه.. هتعامل معاك كنى سنچأ رد السچون و واد الغازية و ساعتها هتشوف كيفها تربية الغوازى.. يااا واد عمى... و دفع بجاسم بعيدا و الذى لوهلة صُدم من ذاك الهجوم المباغت الذى فاجأه به يونس ليرى وجها ما كان يعتقد قط ان يونس ذاك الصامت الساكن و المستكين قد يحمله..
اندفع حامد يلوز عن والده هاتفا :- في حاچة يابوى!؟.. هتف يونس في تأكيد و بلهجة تهديدية لم تكن معتادة على مسامع ولده:- لاااه مفيش.. واد عمى جاسم جام بالواچب و هيمشى حلاً.. اندفع جاسم مبتعدا عن صوان العزاء و هو يقسم و يتوعد و قد هدأ المعزون و عاد كل لموضعه بعد ان جذبت مشاحنة يونس و جاسم انتباههم..
اندفع ماجد داخل استراحته التي يتشاركها مع صديقه منير بعد انتهاء تدريبات اليوم.. ليطالعه منير ما ان مر من باب الاستراحة مهللا:- ايه الاخبار!؟.. خلصت التدريبات يا چنرال!؟.. اومأ ماجد هاتفا و هو يلقى بجسده المنهك على فراشه:- خلصت و هموت م الجوع.. و استطرد مؤكدا:- انا هبعت العسكرى يجيب لى شوية حاجات من الكانتين.. اجيب لك معايا!؟..
هتف منير متعجبا:- ليه!؟.. أوعى تقولى ان الأكل و الفايش اللى انت كنت جايبة ده كله م الصعيد خلص!؟. قهقه ماجد مؤكدا:- ده خلص و اتهضم من بدرى.. و أتصرف كمان.. هم بقية الشلة بتسيب حاجة على حالها.. دى امى بتقولى انت بتأكل الكتيبة كلها يا ماجد!؟..
قهقه منير هاتفا:- ما هي متعرفش احنا هنا ف مجاعة.. ده لولا المعونات بتاعت نجع الصالح لكنا ضعنا من زمن.. قهقه ماجد مؤكدا:- و حياتك خايف اعزمكم هناك تقضوا ع الأخضر و اليابس.. و الله ابويا يتبرى منى.. انفجر منير ضاحكا:- لاااا.. بلاش خلينا عايشين ع المعونات احسن..
سأل ماجد:- هااا.. مقلتش.. اجيب لك حاجة معايا م الكانتين!؟.. هتف منير:- لا يا سيدى انا نازل إجازة و هروح لأكل امى يا عم و لا الحوجة و كمان خطيبتى و حماتى هيتوصوا بيا تمام.. جايلك يا مصر.. تنبه ماجد اخيرا لحركات منير في شرق الغرفة و غربها ليهتف متسائلا:- اه صحيح.. ده ميعاد إجازتك.. انت لسه محددتش ميعاد فرحك امتى!؟..
هتف منير:- لا و الله يا ماجد.. اهو هشوف الإجازة دى لو الشقة تمام و مش ناقصها كتير ممكن نحدده بإذن الله.. دعواتك.. و عقبالك يا شقيق.. هتف ماجد:- ربنا يسهلهالك و عقبالى يااارب.. تململ ماجد في موضعه يتطلع لصاحبه يجمع اغراضه و على لسانه رغبة واحدة هي مفاتحته في امر الارتباط بأخته نرمين و تمهيد الطريق لطلبه مع والده حتى يتغاضى عن شرط إنهاء نرمين لدراستها قبل ارتباطهما..
اخذ يفكر و يفكر كيف يفاتحه و ما ان هم بالتحدث حتى فاجأه منير مودعا على باب الاستراحة و خرج في سرعة دون ان يتفوه ماجد بحرف.. تنهد في غيظ فقد أضاع على نفسه فرصة سانحة لمفاتحة منير في امر نرمين التي اشتاقها كثيرا و اشتاق لصوتها الشجى الذى مر وقت طويل دون ان يسمعه يداعب مسامعه..
طرقات على باب الاستراحة أخرجته من خضم خواطره.. دعى الطارق للدخول و الذى لم يكن سوى مؤمن بن عمته سمية.. هتف ماجد مرحبا:- اهلًا يا مؤمن.. اتفضل.. دخل مؤمن على استحياء هاتفا في محبة:- ازيك يا حضرة الظابط.. هتف ماجد:- احنا اتفقنا على ايه يا مؤمن.. طول ما احنا لوحدنا نادينى بأسمى عادى.. ابتسم مؤمن في تأدب و امتنان:-زى ما تحب يا واد خالى.. انى مش هعطلك عارف انك جاى تعبان..
بس جايب لك دول.. و مبروك للآنسة سندس ربنا يهنيها و باسل كمان يستاهل كل الخير.. هتف ماجد ممتنا:- الله يبارك فيك يا مؤمن.. عقبالك.. نظر ماجد مستطلعا ما كان يحمله مؤمن ليهتف في سعادة:-فايش!؟.. بن حلال و الله يا مؤمن.. ده انا كنت ميت م الجوع و لسه شوية ع العشا.. ده انت جيت ف وقتك تمام.. ابتسم مؤمن و هو يهم بالرحيل:- طب الحمد لله.. اروح انى بجى..
هتف ماجد متمسكا به:- لااا.. تروح فين!؟.. تعال بس اقعد معايا تشرب شوية شاى و ناكل الفايش ده لحد ما يجهز العشا.. ابتسم مؤمن قابلا الدعوة:- ماشى كلامك يا واد عمى.. ربت ماجد على كتف مؤمن الذى جلس في راحة يتطلع لماجد في معزة و اكبار...
تنحنح حازم و هو يطل من باب بيت عمته سهام هاتفا فى جرأة غير معتادة منه:- يا اهل الله يا اللى هنا.. تنبهت سهام من الداخل لتندفع فى سعادة مرحبة:- اهلًا.. اهلا بواد الغالى.. ادخل يا حازم.. انت محتاج عزومة ف بيت عمتك.. تنحنح حازم من جديد و هو يدخل هاتفا فى محاولة لتبرير قدومه الغير معتاد:- كنت مارر من هنا يا عمتى قلت أعدى اسلم عليكِ و على العريس بقالى مدة مشفتكوش و اعتذر له عشان مقدرتش احضر الفرح بسبب مأمورية جت فجأة..
هتفت سهام فى مودة:- يسلم لى ذوجك يا حازم يا ولدى.. انت تاجى ف اى وجت.. و احنا واعيين لظروف شغلك ربنا يكتب لك السلامة انت و اللى زيك يا غالى و بعدين ابوك و امك و هدير جاموا بالواچب و شرفونا.. فرحنا لجيتهم و تعبهم.. دايما متچمعين معانا ف الفرح يا رب.. اتفضل خش على چوه هتلاجى باسل جاعد ف الچنينة..
اندفع حازم فى سرعة يمر الردهة الطويلة المفضية للباب الاخر للدار المطل على الحديقة.. كان يمنى نفسه برؤيتها فهو بالفعل لم يرها منذ فترة طويلة.. كان يعلم ان ما يفعله لا يجوز من الاساس فهى خطيبة بن عمه الغائب.. لكنه لم يستطع ان يمنع نفسه من القدوم لرؤيتها و لو من بعيد.. شئ ما لا ارادى يدفعه دفعا ليفعل ذلك..
شئ ما يخالج دواخله و يجعله يكاد يجن ان لم يتبعه و ينفذ ما يأمره به.. و امره كان ان يأتى ليراها دون حيلة او سيطرة تذكر على ذاك الامر الناهى الذى يحتل وجدانه تماما و خاصة فيما يتعلق بها.. اقسم آلاف المرات انه لن يفعل و لم يبر بقسمه ابدا.. و كيف يفعل و ما ان يقسم ان لن يأتى حتى يستهزأ به ذاك الصوت داخله هاتفا فى سخرية.. ستذهب و انا اعلم انك ستفعل و انه لا قبل لك على الرفض..
و كان محقا فها هو الان فى قلب دارها و قد يراها ما بين لحظة و اخرى و.. تنبه فى اللحظة الاخيرة لتلك المندفعة من باب الحديقة تحمل المانجو فى سعادة كأنما تحمل هدية ثمينة يندر وجودها.. توقف و ازداد وجيب قلبه لمرأها و هى تحاول الهرب من اخيها بما تحمله من مانجات و ما يحمله محياها من شقاوة محببة و عفوية تفقده صوابه.. أصدمت به.. او بالأدق أصدمت به مانجاتها التى تحملها لتعلن احداها غضبها و تنفجر ساخطة دافعة بمحتوياتها على قميصه..
ساد الصمت للحظات ظل هو فيها لا يتنبه الا لمحياها و طلتها التى سحرته.. اما هى فشهقت لظهوره المباغت بطريقها و ازدادت شهقاتها عمقا بعد ما رأته تلك البقعة البرتقالية تظهر على قميصه جراء اندفاعها.. كان اول من قطع الصمت هو باسل هاتفا فى ترحيب:- اهلًا يا حضرة الظابط.. ايه دِه!؟.. واااه.. اجول ايه ع المخبلة دى!؟..
تنبه حازم و اندفع يلقى التحية على باسل فى مودة محاولا الاستفاقة من سحرها الذى سيطر عليه للحظات اما هى فوقفت على غير عادتها صامتة حتى هتف فيها باسل:- روحى هاتى فوطة نضيفة عشان حازم ينضف اللى على جميصه.. اچرى.. و اعملوا لنا شاى..
اومأت برأسها و اندفعت للداخل مهرولة وجيب قلبها يتخطى معدله الطبيعى بمراحل.. هى لا تعلم ماذا يحدث لها ما ان تراه او حتى يأتى ذكره مصادفة فى اى حديث عابر.. انها تموت من شعورها بالذنب تجاه حمزة ما ان يطل حازم فى الصورة.. كيف لها ان تشعر بتلك المشاعر تجاه غريب عنها و لا تشعر بالمثل تجاه من سيُصبِح زوجها عما قريب!؟.. انها تكاد تجن لما يحدث لها..
انها لا تريده ان يحدث من الاساس.. و لا تعرف كيف يمكنها إيقاف ذاك الشعور اللاارادى تجاه بن خالها زكريا.. ذاك الغريب الذى ما ظهر بعالمها الا منذ أشهر قليلة و لم تره الا عدد مرات تكاد تُعد على كف اليد الواحدة.. يا ألهى.. ماذا يحدث لى!؟.. هكذا هتفت و هى تحضر المنشفة المبللة التى طلبها اخيها و تحمل صينية عليها أكواب الشاي و طبقين من الحلوى..
و توجهت فى هدوء حيث يجلسا و وضعت الصينية امامهما و مدت كفها لحازم و همست فى نبرة اعتذار:- معلش.. مخدتش بالى من دخلتك.. اتفضل.. تناول حازم منها المنشفة هاتفا:- و لا يهمك.. محص.. و تنبه فجأة للأطباق الموضوعة امامه فتوقف عن متابعة كلامه و هتف فى سعادة و هو يلقى المنشفة جانبا و اصبح لا يعنيه ما علق بقميصه من اثار المانجو:- ايه ده.. !!.. بسبوسة.
و اندفع يتناول طبقا من على الصينية و اخذ يلتهمه فى سعادة غامرة و قد نسى تماما انها لازالت تقف امامه مشدوهة لما يفعل على غير عادته المتحفظة.. قهقه باسل فى سعادة لما رأى عليه بن خاله و الذى نادرا ما يبتسم او يعلن اعجابه بشئ ماً و هتف معلنا:- و الله و طلع لك فايدة يا تسليح.. و الباشا عچبته البسبوسة اللى بتعمليها..
زمجرت تسبيح فى ضيق لما نطق به باسل.. فتسليح هو الاسم الذى يطلقه عليها باسل رغبة فى اغاظتها فدوما ما كان يؤكد انها تتسلح بلسانها ضد هجمات الأعداء.. تمنت من صميم قلبها ان يكون حازم لم يسمعه.. لكن تلك القهقهات الغير معتادة على الإطلاق و التى شقت الطريق الى سمعها بكل سعادة لم تكن الا قهقهاته التى تسمعها للمرة الاولى.. و كم كان ذلك صعب على تحملها.. فألتقطت انفاسها فى صعوبة و هى تحاول الوقوف على قدميها متطلعة اليه لترى محياه الباسم الذى كان ظهوره مناسبة غير اعتيادية و غير مسبوقة الحدوث.
انتهى من قهقهاته المدمرة لثباتها ليهتف متسائلا:- انت بتسميها تسليح.. انت رهيب يا باسل.. ابتسم باسم و ازداد امعانا فى اغاظتها هاتفا:- هو حد بيجدر يهرب من لسانها.. تجول مدفع رشاش.. تسليح آلى يا واد خالى.. تنبهت تسبيح انها لاتزل مأخوذة بذاك المنشرح على غير العادة فهتفت محاولة مدارة اضطرابها متصنعة الحنق:- بجى كِده.. طيب.. و ادى البسبوسة.. محدش هيدوجها عشان تبجوا تتمسخروا عليا براحتكم..
همت بحمل صينية البسبوسة بما عليها من أطباق ليهتف حازم معتذراً:- خلاص.. سماح يا آنسة تسبيح.. الا البسبوسة.. فتركت الصينية موضعها و ابتسمت هاتفة:- ماااشى.. بس شوية احترام و الا هحرمكم م الميراث.. ابتسم باسل هاتفا:- خلاص يا استاذة محترمة فارجينا.. و ورينا عرض كتافك.. انسحبت تسبيح فى هدوء و هى تراه يستأذن باسل فى تأدب ليسطو على الطبق الاخر من بسبوستها فأبتسمت فى سعادة و اندفعت للمطبخ..
مر الوقت و هى تترقب رحيله.. و ما ان هم بالنهوض حتى هتفت تنادى أخاها الذى لبى فى سرعة مستفسرًا لتعطيه لفافة بها صينية بسبوسة كاملة قد جهزتها لتعطيها له عند رحيله.. تناول اخوها اللفافة و عاد لضيفه يودعه و يدفع بصينية البسبوسة بين كفيه ليهتف حازم فى تعجب:- ايه ده يا باسل!؟.. ابتسم باسل هاتفا:- البسبوسة اللى عچبتك يا سيدى.. اول ما عمتك سهام عرفت انك بتحبها حلفت ما حد ضايجها غيرك.. ابتسم حازم ممتنا و تناول اللفافة فى محبة هاتفا:- سلم لى عليها يا باسل و على عمى حسام.. هتف باسل:- يوصل يا حضرة الظابط.. شرفتنا.. و إبجى تعال مطولش الغيبة..
اومأ حازم برأسه موافقا و اتجه لعربته يفتحها و ما ان هم بإدارة محركها حتى أنجذب ناظره للأعلى بقوة لا إرادية ليراها تقف فى نافذتها المشرعة قليلا.. شعر ان البسبوسة هدية منها.. و ان عمته سهام بريئة من إدعاء إرسالها.. وكم شعر بالسعادة لهذا الخاطر و احس منذ اللحظة انه ما عاد يعشق البسبوسة فقط بل اصبح مغرما بها حد الولع حتى انه اندفع بالسيارة فى سرعة متهورة غير معتادة منه و قهقه فى فرحة جنونية و هو يتطلع الى لفافة البسبوسة هاتفا:- بسبوسة تسليح.. و عاود قهقهاته من جديد و هو يتحسس اللفافة فى محبة..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل العشرون
أغلقت هداية جميع منافذ دار ابيها و هي تتنهد في حزن على زمن ولى و زمن اخر أَت لا تعلم ما يخبئه لها.. فها هي في سبيلها لترك بيت ابيها هي و عائشة و الخضوع لرغبة يونس في اصطحابهما لداره بنجع الصالح بعيدا عن مضايقات جاسم و شره بعد انتهاء ايّام العزاء..
قبلت على مضض مطلبه و كذا عائشة التي ما كان لها ان ترفض او تطلب فها هي معلقة كعروس بخيوط بابن عمها الذى ظهر فجأة من العدم لتجد نفسها ما بين يوم و ليلة عروس له و في سبيله للزواج بها كوصية واجبة النفاذ لعمها والذى اكد عليها و هو يلتقط أنفاسه الأخيرة..
خرجت هداية و أغلقت خلفها باب الدار و نزلت الدرجات الأمامية للدرج حيث كانت عائشة بأنتظارها.. تحركتا سويا في اتجاه سيارتهما التي تحمل أغراضهما و التي كان يونس يجلس امام مقودها في انتظارهما.. هم يونس بالتحرك الا انه شاهد محروس خفير ابيه رحمه الله.. ترجل يونس و اتجه ناحيته هاتفا:- مش هوصيك يا محروس.. خد بالك م الدار و اى حاچة اتصل بيا طوالى..
هز محروس رأسه مؤكدا و سمات الحزن مرسومة على قسمات وجهه المتغضن ألما على فراق سيده العمدة حامد و إغلاق الدار بهذا الشكل.. و خاصة ان حادث إطلاق النار عليه لم يسفر عن متهم.. رغم علم الجميع من قد يكون الجانى لكن لم يكن احد يجرؤ على التفوه بكلمة.. حتى يونس نفسه لم يكن ليفعلها ليس رغبة في التستر على القاتل بل لأن هذا جزء من وصية ابيه قبل وفاته و عليه السمع و الطاعة و التى همس بها بعيدا عن مسامع الجميع ممن حصر الواقعة..
عاد يونس امام المقود مرة أخرى و انطلق بالعربة و هداية جواره و عائشة خلفه و التي تطلعت لدار عمها من جديد و هي تغيب عنها و سالت دموعها انهارا.. كيف يمكنها الذهاب لبيت بن عمها و زوجته هناك!؟.. تراها علمت بتلك الوصية التي ابتلاها بها عمها قبل موته بلحظات!؟.. و كيف سيكون الحال عندها!؟.. لقد جاءت للعزاء و رأتها و كانت تتعامل معها بتحفظ... حقها اكيد فهى تعامل غريمتها المزعومة و التي ظهرت من العدم لتشاركها زوجها و شريك عمرها..
انتحبت من جديد و هي لا تدرى كيف ستكون الحياة في مثل هذا الجحيم الحى، ليتها ماتت مع والديها في حادثتهما و ما تعرضت لمثل تلك المهانة و لا ذاك الذل.. تنقلت من دار لدار و من وصية لأخرى وهى لا حول لها و لا قوة.. لا يسعها الا الطاعة العمياء.. وصلوا أخيرا لدار يونس و اتجه يعلم كل من فيها بمقدم هداية و عائشة و التي وقفت تتطلع لدارها الجديد مستشعرة بقلب واجف ان ذاك الدار هو حلقة جديدة من مسلسل خضوعها و خنوعها.. لكن هل لديها البديل!؟..
لم يكن بمقدوره البقاء بالأسفل فقد استشعر ان بقاءه بعيدا عن محياها سيكون افضل و خاصة فى ظل تلك الظروف الجديدة التى طرأت والخاصة بمرض امه و ملازمة شيماء لها.. ما كان بامكانه البقاء مشاهدا لها ليل نهار و هى بعيدة عنه بهذا الشكل.. على الاقل بالأعلى كان قادرًا على التحدث معها اثناء تناولهما الطعام حتى و لو بضع كلمات.. لكن الان هى قابعة على الدوام فى غرفة ابيه ملاصقة لفراش امه لا تتركها قط الا للضرورة القصوى..
تنهد فى ضيق و هو يضع المفتاح بموضعه و يدفع الباب لينفرج عن الردهة و طالعه الان الطعام الذى أحضرته بالتأكيد موضوعا على الطاولة قبالته.. رفع الغطاء عن الطعام متطلعا اليه بلا رغبة و اخيرا اعاد الغطاء موضعه دون ان يمسه.. توجه لغرفته فى رتابة ملقيا نفسه على الفراش فى ضجر.. حاول النوم لكن كيف له النوم و هى ليست تحت سقف بيته.. انه لا يفصلها عنه الا بضع درجات من سلم البيت لكنه يستشعرها اميال و اميال.. انه يفتقد انفاسها حد الالم..
تقلب يمنة و يسرى على ذاك الفراش الذى اضحى موضع من اشواك و اخيرا انتفض فى ضيق و ما ادرك ما يفعل الا و هو يجد نفسه يدفع باب غرفتها و يلقى بنفسه فى احضان فراشها و كأنما يجد سلواه فى بعض من عبقها الذى تستره الوسائد او تحمله الاغطية.. و لحسن حظه وقعت كفه على احد ارديتها المنزلية التى خلعتها و تركتها على طرف فراشها.. تناول ذاك الرداء بيد مرتعشة و ضمه الى صدره فى شوق و كأنما يضم صاحبته تلك البعيدة النائية التى لا تعلم كم يدميه بعادها عنه حد الصراخ وجعا و طلبا لقربها.. لكنه صراخ مكتوم.. صراخ يأبى ان يغادر حلقه ابدا..
انكمش على نفسه يغمس رأسه بين طيات الوسادة و يتلخف بالغطاء و هو يضم الرداء المقدس لأحضانه ليزوره النوم اخيرا بعد ان تسلل بعض من عطرها الى انفاسه فهدد روحه..
اندفعت كسبانة لداخل غرفتها في ثورة تهدد و تتوعد و ما ان لحق بها يونس حتى أغلقت الباب خلفه في عنف و هتفت بكل ما يعتمل داخلها من قهر و كبت اختزنته طوال الأيام الماضية احتراما لوفاة ابيه:- بجولك ايه!؟..
انى مش هسكت ع اللى بيحصل دِه.. يعنى اعرف ان دى وصية ابوك و جالك تتچوزها و أكتم جهرتى طول العزا.. و عديناها .. لكن كمان تجبها لحد دارى و عايزها تعيش هنا.. لاااه.. دِه انت لو جاصد تجهرنى و تموتنى بحسرتى مش هاتعمل كِده.. هتف يونس في غضب:- كنك اتجننتى يا كسبانة على كبر!؟.. اتچوز مين يا مخبلة!؟.. اتچوز بت من دور عيالى.. لاااه دى اصغر كمان من عيالى.. دى اصغر من حامد ولدك.. تجولى اتچوزها!؟..
هتفت كسبانة في ثورة:- و هو انى اللى جولت.!؟.. مش دى وصية ابوك الله يرحمه برضك.. و لا انى مخبلة عن چد و عجلى خف!؟.. هتف يونس متنهدا في تعب و هو يجلس على احدى الأرائك:- لاااه.. صح وصية ابوى.. بس انى مش كدها.. اخرها تبجى عايشة معانا هنا نحموها هي و هداية اختى.. لكن چواز.. لااه.. ابجى بظلمها.. و مكنش ينفع يا كسبانة اسيبهم لحالهم هي و هداية جاسم يبيع و يشترى فيهم.. دِه مفترى و جتال جتلة..
ضربت كسبانة على صدرها بباطن كفها في لوعة:- يا حزنى.. و احنا ايه اللى رمانا ع الهم دِه بس.. ما كنّا عايشين كافيين غيرنا شرنا.. هتف يونس:- هو حد كان عالم باللى هايچرى لأبويا!؟.. دول بجوا ف رجبتى يا كسبانة.. عرضى.. هسيب عرضى برضك لكلب زى جاسم دِه ينهش فيه!؟.. صمتت كسبانة و لم تعقب و نهضت في هدوء دموعها تنساب على خديها و تركت الغرفة و هى لا تعلم هل ما قرره بخصوص وصية زواجه من ابنة عمه صحيح.. ام انه يهادنها حتى يحقق وصية ابيه تلك و التي جلبت على حياتها الغم و الكرب!؟..
هبطت الدرج فى عجالة رغم حذاءها ذى الكعب العالى و تنورتها الضيقة نوعا ما لكنها تعلم ان حمزة ينتظرها بالأسفل حتى يوصلها معه للشركة و ما من مجال لتتأخر عليه و لو لثانية واحدة حتى لا ينهرها كما فعل فى السابق.. ألتقطت انفاسها فى تتابع و هى تقف أمامه حيث ينتظرها على باب الفيلا الداخلى هاتفة:- جيت ف ميعادى اهو.. متأخرتش صح.. !؟.
كظم غيظه ما ان طالع ما ترتديه و هتف فى سخط متجاهلا الرد على سؤالها بخصوص تأخرها المعتاد على ميعاد الذهاب للشركة رغم علمها حرصه على دقة المواعيد.. :- ايه اللى انتِ لبساه دِه!؟.. هتفت و هى تستدير حول نفسها فى سعادة:- ايه عجبك !!؟..
و نطقت فى انجليزية متقنة باسم قميصها الحريرى المنعدم الأكمام و تنورتها التى قدت عليها لتفصل خصرها النحيل و تعطى المزيد من الحرية لحركة قدميها بتلك الفتحة الواسعة بأحد جوانبها و هى بالكاد تصل لما دون ركبتيها بقليل.. و هتفت من جديد فى ابتسامة طفولية متسائلة وهى تغمز بأحدى عينيها:- ايه.. عايز تجيب زيه لتسبيح!؟..
هتف منتفضا:- دِه انى اكسر راسها جبل ما تفكر تلبسه.. هتفت مذعورة فى صدمة:- ليه!؟.. هى تسبيح بتلبس ايه!؟.. هتف متعجبا السؤال:- يعنى ايه بتلبس ايه.. بتلبس العادى!؟.. هتفت بدهشة:- طب ما هو ده العادى يا حمزة..
هتف فى غضب:- عادى.. !! عادى ايه يا بت الحاچ زكريا.. و أشار لها فى حنق.. دراعاتك دى اللى ظاهرة كلها و رجليكى اللى باين نصها و رجبتك و شعرك.. و.. أشار الى محياها ككل هاتفا فى ضيق.. كل الهلومة اللى انت عملاها ف نفسك دِه.. و تجولى دِه العادى.. نظرت اليه فى براءة حقيقية هاتفة:- بليز يا حمزة ممكن تفهمني انت قصدك ايه!؟..
تنهد فى تعب بعد ان استعاد رباطة جأشه التى بدأ يفقدها ما ان تطلعت اليه بتلك النظرات البريئة التى تثير جنونه و التى تخرج منها تلقائية حد عدم التصديق.. و اخيرا هتف:- بصى يا بنت الناس.. ابتسمت تشاغبه:- انا فعلا بنت الناس اللى جوه دوول.. زفر حمزة فى ضيق:- بصى يا بت الراچل الطيب.. اكدت فى مرح:- ده بابى.. فعلا هو طيب و الله.. صرخ حمزة بنفاذ صبر:- هتسمعى و لا اجوم اشوف حالى..
صمتت فى خوف تضع كفها على فمها فى صدمة.. أورثه مظهرها المرتعب من صراخه بعض من إشفاق عليها و على الرغم ان مظهرها كان يدعوه لينفجر ضاحكا الا انه تماسك فى ثبات و بدأ فى الحديث هاتفا:- كل اللى بجوله انك تطولى كم البلوزة اللى انت لبساها دى شوية و تطولى كمان الجيبة اللى انت لبساها حبة.. فيها حاچة دى!؟..
هتف سؤاله الاخير فى هدوء مما جعلها تتشجع قائلة:- بس ده أستيل لبسى يا حمزة من زمان.. ومش شايفة انه مضايق حد و لا حتى غريب عن اللى حواليا.. كلهم كده.. هتف بتهور:- انتِ غيرهم..
و تنبه لتهوره لكنه حمد الله انها لم تنتبه لعثرته و استطردت فى تعجب:- انت بتقولى انتِ غيرهم و حازم بيقولى كده برضو.. و بصراحة انا لا فهماك و لا فهماه.. انا اللى شيفاه انى عادية جدا و مش بعمل حاجة غلط.. يبقى فى ايه!؟.. هز حمزة رأسه نافيا:- مفيش يا بت عمى.. مفيش.. هايجى يوم و تعرفى انك أغلى من كِده.. و اندفع باتجاه السيارة لتتبعه فى حيرة لكلماته الاخيرة التى ما استطاعت ان تجد لها تفسيرا..
صعدت عائشة و هداية للدور العلوى في بيت يونس حيث تم اختياره كموضع لإنتقالهما حتى تكونا على حريتهما بعيدا عن حركة الشباب حمزة او حامد بالأسفل و خاصة عائشة التي لها وضع خاص.. دخلت كلتاهما الشقة في ترقب.. و دارتا فيها و قد لاقت اعجابهما فهى كانت مجهزة بشكل جيد من جميع النواحي استعدادا لزواج حمزة..
خلعت عائشة خمارها الأسود الذى تغير لونه من حر الطريق و غباره و بدأت في غسله و ارتدت غيره في سرعة هاتفة لهداية انها ستصعد السطح لنشره و التطلع للنجع من الأعلى و رؤيته هل يشبه نجع الحناوى ام لا.. اشارت هداية لها بالذهاب و هي تستعد لتكبيرة الإحرام إيذانا لدخولها للصلاة.. فتحت عائشة باب شقتهما في وجل و أغلقته خلفها في هدوء و بدأت في صعود الدرجات لأعلى في ترقب..
وصلت لعتبة السطح و تطلعت حولها في فضول و أخيرا خطت للداخل تبحث عن احد الأحبال لنشر خمارها.. وجدته في الجهة الشرقية من السطح.. اندفعت الأفراخ الصغيرة التي كانت تملأ الدنيا صياحا و جلبة مبتعدة عن سبيلها في خوف.. فردت خمارها و ثبتته على احد الأحبال و دارت تنظر للنجع من عليائها تعب من النسيم القادم من بين النخيل المنتشر على مقربة من الدار..
كان المنظر خلابا و قد اخذها كليا حتى انها لم تنتبه لذاك الصفير القادم من الأسفل و الذى وصل لعتبة السطح فتحول لصوت شجى يردد بعض الكلمات في تناغم تام جعلها تتسمر موضعها.. كان هو يقف باحثا عن شيء ما لا يدركه و أخيرا ايقنت انه يبحث عن احدى الدجاجات السمينة حتى يمسكها لذبحها ربما.. اخذ يجرى حول المكان يحاول الإمساك بالدجاجة و لكن لا فائدة حتى انه في اثناء كفاحه ذاك سقط متعثرا في احد اوانى الطعام المخصصة للأفراخ و انغرست كفه بالكامل داخل طبق اخر فأخذ يطلق السباب في حنق و هو متكوم ارضا..
مما جعلها رغما عنها تنفجر ضاحكة على مظهره.. كان يفصل بينهما حبل بعرض السطح و الذى تمدد عليه احد أغطية الفراش كحاجز بينهما فلم تكن ترى الا بعض منه.. و شاهدت بعض من معركته مع الدجاج عندما كان يجرى هنا و هناك..
انتفض هو عندما تناهى لمسامعه ضحكاتها التي علا رنينها رغما عنها.. توقف مذهولا للحظات و أخيرا تنبه انه يقف بلا بنطال و لا قميص كعادته و قد خلعهما بالأسفل استعداداً للمعركة مع الدجاجات فجذب غطاء الفراش المنشور بينهما و تلحف به دون ان ينبس بحرف واحد و اندفع مغادرا السطح لتتلقفه امه مندفعة من الأسفل لتحذره ان اصبح لديه نسوة في الدار و عليه ان يحذر الصعود مرة أخرى بهذا المظهر الخليع..
نظر حامد لأمه في غيظ هاتفا:- توك ما افتكرتى يا كسبانة.. ابنك كِده برستيجه يضيع.. هتفت كسبانة في هم:- ايه اللى يضيع دِه يا خوى!؟.. و النبى هي ما نجصاك.. انزل و خلى بالك بعد كِده.. هتف حامد مازحا و هو يتلحف بالغطاء حتى رأسه جيدا كبُردة بشكل أورث كسبانة الضحكات:- ايه رأيك!؟.. السترة حلوة برضك..
جذبته كسبانة خلفها و هبطت الدرج و هي تنظر لباب الشقة العلوية و التي ظنت انها ستكون مصدر سعادة لها بزواج ابنها حمزة و تسبيح فيها لتصبح فجأة بين عشية و ضحاها موضع يتأكلها الشك في انه سيكون دارا لزوجة أخرى قد يجلبها زوجها بعد كل ذلك العمر من اجل تحقيق وصية والده المشؤومة...
دخل الغرفة متأخرا كعادته في الفترة الماضية.. كان يتعمد التأخر حتى يعود ليجد تسنيم نائمة فلا يضطر للبقاء متيقظا يموت شوقا ليتجاذب معها أطراف الحديث حتى.. مجرد حديث فقط.. انه يتعذب بحق لمرأها أمامه دون ان يكون له اى حق في الاقتراب منها فهو يذكر تماما انه حرمها على نفسه تحريما مغلظا في ليلة زفافهما و ها هو يدفع ثمن تسرعه و رعونته وقتها و هي منذ المرة الأخيرة التي سقطت فيها بين ذراعيه و انتفض مبتعدا مع اذان الفجر و هو يشعر انها تتعمد ان تقتص منه جراء ذاك البعد و.
تأخذ بثأرها من نفوره و صده لها بهذا الشكل الذى يورثه مرارًا لا يحتمله.. دار بناظريه في أنحاء الغرفة و توقع ان يجدها متمددة على فراشها في مثل هذه الساعة الا ان ظنه لم يكن بمحله.
فتعجب.. تراها اين ذهبت في مثل ذلك الوقت!؟.. انتفض عندما انفرج باب الحمام عن محياها.. و شهق بصوت مسموع و هي يرى ما لا يحتمله قلبه الذى ينوء بحمل عشقها الذى يديمه.. كانت كتلة متجسدة من الإثارة و هي تخرج بذاك الثوب الحريرى و شعرها الغجرى الأسمر يسافر حيث لا نهاية على كتفيها.. كانت رائحة عطرها الذى فاح عبقه في ارجاء الغرفة قد اسكره تماما..
أغلقت باب الحمام و تهادت لداخل الغرفة و كأنها لا تراه.. مرت جواره فخدرته تماما بجدائلها السرمدية التي كانت تعانق خصرها في دلال فطرى و اصبح أسيرا بالكامل لمحياها الفتان ذاك فما عاد قادرًا على ان يحيد بناظريه عنها..
رأت نظراته و شعرت بما يعتريه و ابتسمت داخلها في سعادة فها هي تأخد بثأرها منه.. فليبتعد ان استطاع و يتركها تتجرع مهانة الصد و الهجران انها لن تغفر له مطلقا انها كانت بين ذراعيه طائعة و هو الذى نأى عنها معرضا.. ستجعله يشتهيها و حين يقترب ستصبح سرابا حتى يتعلم جيدا كيف تُعامل النساء و خاصة.. لو كانت امرأة تهواه لهذه الدرجة.. و تعشقه بهذا الصدق حد الألم.. و تتمناه بذاك العمق حد المعاناة.. و تمقته لما يفعله بها حد الانتقام لكرامتها و كبريائها الجريحة..
.. انها تعلم انه لايزل على ظنه القديم فيها بسبب ذاك الرجل الاخرق الذى ذهبت لمقابلته بديلا عن اختها الصغرى تسبيح.. هى تعلم انها اخطأت.. لكنه ابدا لم يطبق فيها قول الآية الكريمة.. ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا.. وهو لم يتبين.. هو لم يأت مرة يسألها ماذا حدث.. يسألها سبب مقابلتها لهذا الرجل.. انه فقط اصدر حكمه بإعدام حبها في قلبه و انتهى.. و لهذا حساب اخر لم يأتي دوره بعد..
عادت بعد ان حصلت على ما كانت تتعلل بحاجتها اليه حتى تمر من أمامه و استلقت على فراشها و تركته لايزل على حاله المشدوه من مرأها الأسر. ابتسمت هي في جزل لمطالعته بهذا الشكل و قد ادركت انها حصلت على ثأرها بالكامل عندما اندفع هاربا من الغرفة كمن تتعقبه شياطين الأرض هامسة خلفه:- هاتبعد مهما تبعد هاترچع يا شيخ مهران..
هتفت هداية بعائشة المستلقية في كسل على فراشها:- هاا.. هاتيجى معاى و لا هتفضلى نايمة!؟.. هتفت عائشة في نعاس:- لاااه انى تعبانة.. روحى انت.. انا مش جادرة اجوم.. هتفت هداية و هي تعدل من خمارها الأسود امام المرأة:- طيب.. انى هروح اشوف الدنيا فيها ايه لحسن فاتنا كَتير.. و لو لجيت حد من زميلاتك هچيب لك محاضراتك معاى..
هتفت عائشة ممتنة:- تسلمى لى يا هداية.. ربنا يخليكى.. ألقت هداية السلام و اندفعت للأسفل متوقعة وجود يونس او حامد ليقلاها للجامعة بالسيارة الا ان كسبانة أخبرتها ان كلاهما في أطراف الأرض البعيدة.. هتفت هداية:- طب خلاص متنادميش على حد فيهم انى هاخد عربية من ع الطريج تنزلنى جدام الجامعة.. هشوف اللى فاتنى و فات عيشة و تنى راچعة على طول..
اندفعت هداية خارج دار يونس اخيها قبل ان تحاول كسبانة إثنائها عن الذهاب الا برفقة اخيها او حامد.. سارت في قلب النجع لا تعرف كيف الوصول للطريق لكنها اتبعت حدسها و باتت على وشك الوصول حتى ظهر احدهم من احد الزوايا..
كادت تصرخ منتفضة الا انه انفجر ضاحكا لمرأها بهذا الشكل و هتف في سخرية:- اللى يشوفك ماشية كيف عسكرى الدورية ميجولش دى بتخاف.. و لا ايه يا بت العمدة!؟..
نظرت هداية لذاك الأخرق الذى لم تكن تلك المرة الأولى الذى يتعقبها فيها.. فهو يتبعها كظلها ما ان تخرج من دار اخيها حتى تصل لوجهتها اى كانت.. كادت تصفعه متشفية نظرا لجرأته و صفاقته في التعامل معها الا انها اكتفت بنظرة نارية و اندفعت مبتعدة ليتعقبها بدوره هاتفا في حنق:- ايه يا بت العمدة.. !؟ محناش كد المجام و لا ايه !!.. ردى طيب.. طب اعملى اى حاچة.. لهو انت فاكرة نفسك مين يعنى!؟..
استشعرت ان عدم ردها عليه يثير غيظه فأستمرت على صمتها لا تعيره اهتماما ليهتف في غيظ:- شايفة نفسك على ايه!؟.. عشان بت عمدة.. لهو انت متعرفيش انى مين!؟.. انى.. انتقضت هاتفة في حنق مقاطعة اياه:- انا ميهمنيش انت مين.. و لا عايزة أعرفك م الأساس.. و دى اخر مرة هلاجيك ماشى ورايا.. كل مرة اجول دى صدفة لكن انى بجولهالك اهاا لو اتكررت يبجى متلومش الا روحك..
كانت قد وصلت لموضع سيارات الأجرة فأندفعت داخل احداها تاركة إياه يغلى غضبا من جراء تلك المتكبرة التي ترى حالها افضل من الجميع و كأن على رأسها احدى الريشات.. زفر في ثورة و سيارتها تغادر و هتف في غيظ:- ماااشى.. يا انى يا انت ِ و نبجوا نشوفوا هاتعملى ايه مع ماهر الهوارى.. يا بت العمدة..
تقدم ماجد هامسا بصوت خفيض و هو يقترب من موضع مؤمن مناولا له كوب من الشاى الساخن فى ظل ذاك البرد القارص ف تلك الثكنة العسكرية التى تضمهما ليتناولها مؤمن فى سعادة غامرة بين كفيه محتضنا سلاحه الى صدره هامسا بدوره:- تشكر يا واد عمى.. كنت محتاچها جووى كباية الشاى دى.. الواحد رصرص من البرد..
ابتسم ماجد رابتا على فخذه هامسا بابتسامة واسعة:- اى خدمة يابو عمو.. ثم استطرد متحسرا:- خلاص قربت تسبنا يا مؤمن و تخلص تجنيدك.!؟.. . هتقطع بيا.. اتعودت على وجودك ف المعسكر و الله.. ابتسم مؤمن و هو يرتشف بعض من كوبه مستمتعا ليهمس:- و الله و انت كمان يا ماچد.. اتعودت ابجى معاك دايما.. سبحان من خلى اول تعيينك ف نفس السرية اللى بخدم فيها..
ربت ماجد على كتفه هامسا:- ربنا يوفقك يا مؤمن انت بن حلال و تستاهل كل خير.. ثم تساءل فجأة:- هو انت اجازتك الجاية امتى بالظبط يا مؤمن!؟.. -كمان يومين ان شاء الله.. بس و الله ما عارف ليه حاسسهم بعيد كنهم مش هايچوا!؟..
تعجب ماجد:- ليه بتقول كده يابنى!؟ دوول يومين مش سنتين!؟.. فكرنى أديك جواب للحاج عاصم عشان وحشونى قووى و مش عارف أوصل لهم بشبكة الموبيل اللى مش موجودة هنا اصلا.. همس مؤمن:- عيونى.. هات اللى انت عاوز توصله و انا تحت امرك. ربت ماجد على كتفه شاكرا:- تسلم يا كبير.. شرد مؤمن قليلا ليوقظه ماجد هاتفا بمرح:- اييييه.. رحت فين يا واد عمى!؟..
ابتسم مؤمن فى شجن هامسا:- رحت لحد النچع و جيت.. اصلك امى و اخواتى وحشونى جووى مش عارف ليه هافف عليا شوفتهم!؟.. امى وحشتنى.. و ماهر.. و البت ايمان.. يا ترى عاملة ايه ف مذاكرتها!؟.. اكد ماجد:- اكيد زى الفل يا عم.. مالك النهاردة فيك ايه!؟..
استطرد مؤمن كأنه لم يسمع سؤال ماجد الاخير هامسا و نظره يمتد لبعيد عبر دروب الصحراء كأنه يرى غيبا لا يعيه صاحبه:- انت عارف يا ماچد.. امى دى غلبانة و الله.. صعبانة عليا جووى.. تعرف.. لما بفكر ف حياتها بلجيها عمرها ما نالت اللى تشتهيه.. لا اب يحن عليها و يكبر بيها.. و لما مات.. الأخ كان اسوء و أضل... حتى جوازها من ابويا.. انت عارف أوله من اخره.. معشتش يوم حلو.. حتى عيالها..
ماهر مطلع عينها و دايما تجولى انها خايفة تكون نهايته زى نهاية خالى سليم.. و ايمان.. رغم انها غلبانة و منكسرة.. لكن ليها شخصية خلاف عن امى و مش متفجين ف حاچات كتيير.. حتى انا.. على كد ما أجدر بحاول أطاوعها و اجول كفاية عليها اخواتى و اللى بتشوفه منيهم و الدنيا و اللى شافته فيها.. همس ماجد فى مودة:- ربنا يخليها ليكم..
استطرد مؤمن:- عارف يا ماجد.. ماهر طيب جووى و الله.. بس الدنيا وخداه ف تيارها وهو مسلم ليها و مطاوع .. لكن هو كويس و الله و الظروف چت عليه چامد خصوصى بعد ما مات ابويا و سيبانه دراسته عشان يصرف علينا.. اما البت ايمان.. و ابتسم فى محبة عندما تذكر اخته الصغرى الأقرب الى قلبه.. ايمان دى حتة من جلبى.. رباية يدى بصحيح.. طيبة و حنينة لكن دماغها واعرة.. يااابوى على نشفان دماغها.. حچر صوان.. بس تعرف.. دى احلى حاچة فيها.. لما اجعد اناكف فيها و اطلع زربينها..
و انفجر ضاحكا فى سعادة و كأنها أمامه بالفعل يشاكسها مستمتعا.. ليهتف ماجد فى شقاوة:- طب و النص الحلو فين من ده كله!؟.. هتف مؤمن:- لااه مفيش لا نص حلو و لا نص وحش.. انا جلبى ركنته على چنب لحد لما اطمن على ايمان و اچوزها.. بعدها يبجى ليها صرفتها لكن ايمان هى اللى ع البال دلوجت.. تنچح بس السنة دى ف الثانوية و تدخل الكلية اللى تعچبها و اطمن عليها.. عارف يا ماچد.. انا نفسى اچوزها واحد زيك..
انتفض ماجد محرجا:- زيي انا!؟.. ثم استطرد محاولا المزاح:- يا شيخ جوزها حد عدل.. ده كفاية رميتنا السودا دى.. هتشوفنى كام يوم كل شهر و يمكن اكتر.. ابتسم مؤمن:- و الله لولا الملامة لكنت خطبتك ليها.. كفاية اخلاجك و أدبك.. وواد عمنا.. ولولا ما انى كمان عارف الحساسيات اللى بين امى و ام مهران.. لكنت چوزتك ليها بالعافية..
انفجر ماجد مقهقها:- بالعافية يا مؤمن.. ده ايه الجواز اللى بالاكراه ده.. !؟ هتف مؤمن ممتعضا:- خلاص يا واد عمى.. كنت بهزر معاك هو انا اختى بايرة و لا وحشة.. انا كنت بفتح لك جلبى يا ماچد.. و انى عارف اننا مش كد مجامك يعنى.. انتفض ماجد هاتفا:- ليه كده يا مؤمن.. ليه بتقول كده و هتزعلنى منك.. ده انت بن عمتى.. و مقامنا واحد و اختك يتمناها الباشا.
و هتف مازحا:- و اذا كان ده اللى يرضيك يا عم.. طب ايه رايك هتجوزها.. هتف مؤمن مازحا:- خلاص يا عم تتچوز مين بس.. دِه كله كلام فضفضة.. انا اتمناك لإيمان صح لكن يكون انت اللى رايدها بجلبك.. لإن ايمان متستاهلش اجل من كِده.. ايمان تستاهل احسن حاچة ف الدنيا.. و اچدع راچل ف الدنيا..
و شرد مؤمن من جديد ليهمس بصوت قادم من اعماق بعيدة لماجد:- خلى بالك منيهم يا ماچد وخصوصى ايمان.. خلى بالك عليها.. هتف ماجد مازحا من جديد و هو يهتف فيه:- ما قلنا خلاص بقى فك التكشيرة دى و تبسم للنبى ثم همس هاتفا:- هتجوزهاااا.. ارتحت يا.. و لم يكمل هتافه المازح الا و بدأ إطلاق النار من عدة جهات ليحمل كل منهما سلاحه ليتبادلا الإطلاق وهنا صرخ ماجد فى مؤمن أمرا فى ذعر:- خد لك ساتر يا مؤمن.. خد لك ساتر..
بدأت الانفجارات تتوالى هنا و هناك.. و اصبح ليل الصحراء القاتم كنهارها.. و ساد الهرج و المرج.. لكن ماجد جال بناظريه بالقرب من موضعه باحثا عن مؤمن حتى يطمئن انه بخير.. لكنه لم يتبين فى ذاك الظلام الدامس الذى عاد يكتنف المكان بعد ان توقفت التفجيرات و هدأت حدتها منذ لحظات..
اندفع ماجد لذاك الموضع الذى ابصره يتجه اليه مستترا خلف ذاك الحاجز و جرى بإتجاهه و لكن إطلاق النار و التفجيرات عادت من جديد و التى كان احداها قريبا من موضعه الذى استتر خلفه قبل بلوغه موضع مؤمن ليقذفه ذاك الانفجار ليصبح بالفعل خلف ذاك الساتر يتطلع بنصف وعى حوله لا يدرك اين بن عمته الذى كان يبصره منذ قليل.. زحف قليلا فى وهن و ارتجف فجأة عندما وجد جثمان مؤمن أمامه مدرج بدمائه.. ليسقط ماجد فى غيبوبة و اخر ما طالعه كان تلك الابتسامة الطاهرة على شفتى مؤمن..