رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثالث
اندفعت سهام لداخل السراىّ تلقى بناظريها ذات اليمين و ذات اليسار لعلها تجد زهرة جالسة بأحد القاعات و بالفعل و جدتها في تلك القاعة التي تعتبر القاعة المفضلة لأمها الحاجة فضيلة و التي تعلم انها لا تغادر حجرتها مطلقا فقررت المرور عليها قبل رحيلها .. توجهت سهام هاتفة بالسلام في إتجاه جلوس زهرة التي انتقضت مرحبة بها في حبور هاتفة :- اهلًا يا سهام .. وحشتينى .. بقالك قد ايه معدتيش علينا .. !؟..
هتفت سهام :- معلش .. حجك علىّ أنى عارفة انى مجصرة ف حجك و حج امى .. بس اعمل ايه .. تسنيم و تسبيح كانوا ف امتحانات و رايحين جايين على كلياتهم و انى اللى شايلة الدار كلها لحالى .. اهاا هانت .. ابتسمت زهرة مؤكدة :- ياللاه خليهم يخلصوا على خير عشان نفسنا نفرح بتسنيم و مهران بقى .. دراسة الطب طويلة و هي أصرت انها تخلص الأول عشان دراستها صعبة .. و ادينا مستنيين .. مستعجلين الفرح بقى ..
اكدت سهام :- و مين سمعك ..بجالنا كَتير مفرحناش .. دخلت سندس في تلك اللحظة قادمة من الخارج و توجهت حيث سمعت أصوات حديث عمتها و أمها .. ألقت السلام في مودة و جلست لتستطرد سهام حديثها :- و على سيرة الفرح .. انى مجلتلكيش صح عن باسل .. !؟ هتفت زهرة :- قلتى ايه ..!؟..انت مقلتيش حاجة عن باسل .. خير !؟..
تنبهت سندس عند ذكر اسم باسل و اشرأبت كل حواسها على الرغم من محاولتها المستميتة إخفاء ذلك بكل براعة بينما تنبهت أمها لأنتقاضة ابنتها الغير ملحوظة عندما تناهى اسم بن عمتها الى مسامعها .. أخرجت سهام كل منهما من خواطرها هاتفة في سعادة :- مش احنا بنفكر نخطب له .. كفياه كِده .. دِه اللى اصغر منيه عِنديهم دلوجت عيل و اتنين .. ابتسمت زهرة في فرحة :- ألف مبروك .. و مين سعيدة الحظ ..!؟..
كانت سندس تجلس كتمثال شمعى لا حراك و لا روح فيه .. تستمع لحديث عمتها و أمها بقلب تعدت ضرباته الحد الطبيعى و عيونها شاخصة لشئ ما هناك في الأفق البعيد مجهول الهوية .. أجابت سهام مفتخرة :- العروسة اللى عليها العين و النية تبجى نوال بت سعد التهامى ..ناس محترمين و بتهم ادب و چمال .. هنعوز ايه اكتر من كِده ..!؟.. ابتسمت زهرة بدبلوماسية :- ربنا يتمم له على خير .. باسل يستاهل كل خير..
رفعت سهام كفيها في تضرع هاتفة بقلب ام :- يااارب .. و ألتفتت أخيرا لسندس اللاهية في شرودها هاتفة :- و عجبال الجمر بتاعنا عن جريب باذن الله و يبجى الفرح فرحين .. هتفت زهرة مازحة :- و نسيتى تسنيم و مهران ..!؟ قهقهت سهام :- يبجوا تلاتة .. ربنا يكتر أفراحنا يا رب ..
هتفت سندس خارجة أخيرا عن صمتها مؤكدة :- هايحصل يا عمتى ..انا فعلا جالى عريس النهاردة .. وكيل نيابة و من عيلة كويسة .. هتفت سهام في سعادة :- الله اكبر .. امال ايه لازما ياجيكى جاضى .. انت اجل منيها يا بت اخوى ..ربنا يتمم لك على خير يا عيون عمتك .. ابتسمت سندس بألية بينما نهضت سهام تستأذن هاتفة :- اجوم انى بجى اطلع أطل على امى لحسن اتوحشتها .. و ابجى انزل نجعد مع بعض شوية لحد ما ياجى عاصم و اسلم عليه .. بجالى بدرى ما شفتوش..
صعدت سهام الدرج في تؤدة و ما ان غابت في طريقها لحجرة أمها حتى نهضت زهرة لتجلس بجوار ابنتها وتوجهت أنظارها لملامح وجهها الشاحب و همست و هي تربت على كتفها في حنو :- اللى قلتيه لعمتك ده صح و لا ..!؟ اكدت سندس بإيماءة من رأسها :- ايوه يا ماما صح .. هي الحاجات دى فيها كدب برضة ..!!.. همست زهرة :- انا افتكرت انك ..
و قطعت استرسال حديثها و لم تكمله خوفا من غضب ابنتها لكرامتها كالعادة فهى تدرك تماما مدى اعتزاز ابنتها بكبريائها كما تعلم كأم مدى عشق ابنتها لباسل بن عمتها ذاك العشق المدفون بين طيات روحها لا يدركه الا ام تعلم تماما ما يجول بسريرة فلذة كبدها .. همست زهرة متسائلة :- انتِ تعرفيه يا سندس .!؟.
اكدت سندس في هدوء :- شفته مرتين و انا ف المحكمة ..يعرف الأستاذ موافى المحامى اللى بدرب عنده .. و النهاردة لقيت الأستاذ موافى بيستأذنى يديله نمرة تليفون بابا عشان عايز يجى يطلب ايدى .. ابتسمت زهرة في محبة و هي تعيد الربت على كتف ابنتها :- ألف مبروك يا سندس .. بس هو شاب كويس يعنى..!؟..
اومأت سندس بإبتسامة ألية :- اه يا ماما .. الأستاذ موافى بيشكر فيه و في عيلته جداا .. شوفى بابا هيقول لك ايه.. اديله التليفون و لا لأ .. !؟.. اكدت زهرة :- اكيد يا حبيبتى .. هقول لبابا و ربنا يقدم اللى فيه الخير..
رسمت سندس تلك الابتسامة المصطنعة على شفتيها من جديد و استأذنت في هدوء و صعدت الدرج لحجرتها و ما ان دلفت للداخل ووقفت امام مرآتها حتى أجهشت فى البكاء و هي تضم جسدها بذراعيها تشعر بخواء رهيب يكتنف روحها و يسرى داخل صدرها حيث ذاك القلب الذى ينبض في انتظام معلنا انها لاتزل على قيد الحياة رغم عدم شعورها بذلك .. تستشعر الأن أنين ذاك الفؤاد العصى الدمع و الذى أضناه عشقا ما عاد في متناول يده .. عشقا بعيد المنال ..
صدح صوت اذان الفجر عاليا بذاك الصوت الرخيم العذب و الذى ملأ جنبات المعسكر و تسلل الى اذان النيام في سلاسة و رقة جعلت البعض منهم ينتفض مجيبا ندائه .. الصلاة خير من النوم .. هتف منير في ماجد صارخا و هو يضع الوسادة على رأسه في غيظ محاولا النوم :- يا بنى روح قول لقريبك ده عايزين ننام حرام عليه احنا بنشقى طول النهار ..
انفجر ماجد ضاحكا :- ماله مؤمن !؟. عشان بيأذن الفجر كل يوم هتحطه ف دماغك .. نهض ماجد في تكاسل يلتقط المنشفة الخاصة به من على طرف فراشه هاتفا في منير زميل الغرفة :- قوم يا حضرة الظابط بلاش كسل .. وحد ربك و صلى الفجر هي أصلا كلها نص ساعة و هننزل للفطار و طابور اللياقة .. انتفض منير في غيظ :- طب ما تسبونى انام النص ساعة دى يا أوغاد.. منكم لله ..
قال كلمته الأخيرة و هو يرفع كفيه داعيا علي ماجد و مؤمن .. جذب ماجد وسادته و ألقى بها في اتجاه منير الذى ألتقطها محتضنا إياها في سعادة هاتفا :- تعالى يا غالية عايزين يفرقونا عن بعض .. و عاد للنوم من جديد مصحوبا بقهقهات ماجد الذى توجه ليتوضأ ليلحق بصلاة الفجر خلف مؤمن بن عمته سمية و الذى تفاجئ انه يخدم في نفس وحدته التي تم تعيينه بها ..
تعالت الزغاريد في بيت التهامية معلنة عن فرحة صادحة داخل جدرانه كانت القاعة الكبيرة تضم الجميع من العائلتين ..عاصم و زهرة و سهام و حسام و أبنائهما و العروسان مهران و تسنيم و هما يتوسطان القاعة متجاوران و امامها علبة مخملية بها خاتمين زواج ..
تناول مهران خاتمه الفضى في سعادة و ارتداه في بنصره الأيمن و كذلك فعلت تسنيم التي كانت تذوب خجلا و حياءً و قد رفضت بشكل قاطع ان يقوم هو بمساعدتها على ارتدائه و احترم هو رغبتها بل أسعده ذلك و هو يمنى نفسه انه يوم ما سيكون الرجل الأول الذى يلمس تلك الكف البضة و يحتويها بين كفيه في سعادة لأنها أصبحت حلاله هو..
تعالت الزغاريد مرة أخرى و هتف عاصم موجها حديثه لحسام :- الف مبروك يابو باسل .. عجبال تسبيح .. هتف حسام في سعادة :- في حياتك يا عاصم .. و نشوف ولاد ولادهم يا رب .. ابتسم عاصم هاتفا :- بجولك ايه .. احنا مش عايزين نطولوا ع العيال دى.. كفاياهم كِده .. استفسر حسام :- جصدك ايه يابو مهران ..!؟..
هتف عاصم و تنبه له الجميع :- انى كان نفسى ابنى لهم دور تانى ف السرايا يبجى ليهم لحالهم بس اساسات السرايا متستحملش دور چديد .. فجلت نفتح أوضة الحاچ مهران الله يرحمه ع الأوضة اللى جارها و يبجى چناح كبير للعرسان جلتوا ايه ..!؟.. اطرقت تسنيم رأسها في حياء بينما تهللت أسارير مهران و هتف في تهور غير معتاد منه :- مفيش احسن من كِده .. لسه هنستنوا دور كامل يتبنى و يخلص..
انفجر الجميع ضاحكين و هتف عاصم مشاكسا ولده :- مستعچل جووى يا شيخ مهران .. و ماله حجك .. ما انت صبرت كَتير على بال ما العروسة خلصت كليتها .. ربنا يجمعكم على خير .. أمن الجميع خلفه و قد قرروا العمل في تجهيز جناح العروسين فورا و تحديد ميعاد عقد القران و الزفاف ما ان يتم الإنتهاء من اعداده ..
هتفت نعمة و هى تضع الاطباق على المائدة منادية :- ياللاه يا ناصر الاكل انحط ع السفرة و ابوك قعد كمان اهو. خرج ناصر من حجرته بإتجاه الطاولة ليجلس فى تؤدة و ما ان رأى أطباق القلقاس موضوعة عليها حتى هتف فى سعادة كانت نادرا ما تظهر على ذاك المحيا العابس :- ايه ده !!.. قلقاس .. و الله و فاتتك الأكلة الجامدة دى يا نادر .. هتفت نعمة متحسرة :- اه و الله .. ربنا يردك يابنى بالسلامة ..
هتفت شيماء و هى تضع الأرغفة الطازجة على المائدة بدورها :- بإذن الله يا خالتى و نعمل له كل اللى يحبه مش القلقاس بس .. بدأ ناصر يتناول طبق القلقاس أمامه فى شراهة و استمتاع ليهتف جزلا :- تسلم ايدك يا ست الكل .. لتهتف نعمة بدورها مبتسمة :- دى عمايل شيماء .. لقتنى تعبانة قالت لى ارتاحى و انا هعمله بدالك .. تغيرت نبرة ناصر للنقيض هاتفا :- ما انا بقول برضة انه صايص شوية و ناقصه ملح و السلق بتاعه باهت كِده و ملوش لون ..
جلست كل من نعمة و شيماء للمائدة وقد انتهين من وضع كل الاطباق على الطاولة اخيرا لتهتف نعمة مؤنبة :- لا ملكش حق يا ناصر .. ده احلى من اللى بعمله .. طبيخ البنات سكر نبات .. هتفت بجملتها الاخيرة و هى تربت على كتف شيماء مشجعة بينما هتف خالها خميس مؤيدا :- و الله زى السكر بجد .. تسلم ايدك يا شوشو ..
هتف ناصر حانقا و هو ينهض مغادرا الطاولة :- خليكم كده دلعوا فيها لحد ما تأكلنا البرسيم على انه ملوخية و احنا نقولها ايه الجمال ده تسلم ايدك . هتفت نعمة متعجبة :- طب انت رايح فين !؟.. ده انت مكلتش .. هتف نزقا و هو يتوجه لغرفته :-هاكل ايه !؟.. مش لما يبقى فى حاجة عدلة تتاكل .. أغلق باب غرفته لتهتف نعمة بدورها و هى تتذوق القلقاس مؤكدة :- و النبى زى العسل اهو ..
و ربتت على كتف شيماء التى ظلت صامتة رغم ما بدى على ملامحها من كدر مستطردة :- ده بيغيظك يا بت .. كلى كلى .. و لا يهمك .. ادعت شيماء الأكل و لكنها بدورها لم تمسه و نهضت لغرفتها تحاول الحصول على قدر من النوم لكن رأسها ضج بالكثير من الافكار و اصابها الصداع لتنهض فى هدوء متوجهة للمطبخ لتصنع لها كوبا من الشاى لعله يساعد على تهدئه ذاك الالم الذى يضرب رأسها ..ما ان همت بدخول المطبخ حتى رأته يسبقها اليه و قد وقف فى منتصفه تماما يرفع أغطية الحلل و القدور باحثا عن شئ ما..
فتح المبرد و اخذ يعبث بداخله حتى اخرج احدى الحلل و رفع غطائها و تناول احدى الملاعق و بدأ فى إلتهام محتواها و الذى لم يكن الا القلقاس الذى كان قد كرهه منذ ساعات و نَفَر من تناوله .. ابتسمت رغما عنها و هى تراه يلتهمه بذاك الاستمتاع متلذذا بكل ملعقة ..
همت بالعودة حيث أتت لحجرتها و تركه لوليمته لكنها أطاعت ذاك الصوت الداخلى الذى ارتفع دافعا إياها لدخول المطبخ و رؤيته متلبسا بتذوق قلقاسها الذى لم يلق اعجابه .. لابد و ان تستعيد بعض من كبريائها المهدر و بالفعل اندفعت داخل المطبخ متصنعة الدهشة لرؤيته ..
توقف عن تناول احدى الملاعق التى كانت فى سبيلها لفمه و هى تنظر اليه فى تشفى ليهتف هو محاولا اختلاق الاعذار :- ايه ..!؟..جعان .. هتفت هى لتغيظه :- طب ما اعمل لك اكل تانى غير القلقاس اللى معجبكش. هتف بدوره :- لا خلاص .. انا شبعت اصلا ..
نظرت الى داخل القدر هاتفة بسخرية :- لازم طبعا تشبع .. الحلة خلصت . هتف بدوره مبررا :- الجوع كافر .. و انا مبعرفش اعمل اكل لنفسى .. و مش هصحى امى دلوقتى !! اكدت متفهمة بإيماءة من رأسها و على شفتيها ابتسامة تحاول وأدها :- اه .. مفهوم طبعا.. تحب اعمل لك شاى!؟.. انا اصلا مصدعة و كنت جاية اعمل لى كباية شاى ..
اكد بإيماءة من رأسه :- اه يا ريت .. اخذت جانبا من امام باب المطبخ ليغادره هو متوجها للردهة ينتظر منها كوب الشاى .. خرجت بعد لحظات و بيدها الصينية عليها الكوبين لتجده أَت من اتجاه حجرته يحمل بيده شئ ما لم تتبينه وضعت الصينية على الطاولة ليهتف بها قبل ان ترحل بكوبها :- هاتيلى كباية مية قبل ما تروحى ..
دخلت المطبخ من جديد و عادت حاملة كوب الماء .. شرب و عادت به للمطبخ لتجده قد تناول كوبه و غادر لحجرته مدت كفها تتناول كوبها لتجد حبة من مسكّن ما للصداع موضوعة على الصينية بجوار كوبها .. امسكت بالحبة فى تعجب و تساءلت :- هل هو من وضعها بجوار كوبها لأجلها!؟..
كانت بادرة تشبه الحنان .. او ربما احساس بالذنب قد اعتراه نتيجة سخريته من طبيخها .. ربما .. همست متشككة .. تناولت الحبة فى هدوء و اخذت كوب الشاى و دخلت حجرتها ليخرج هو بعدها بلحظات ناظرا على الصينية الفارغة .. ليتنهد فى راحة و قد تأكد انها تناولت حبة الدواء و عاد ادراجه الى حجرته من جديد ..
دخلت سهام الى غرفتها بعد استدعاء حسام لها لتنفض يدها مما كانت تقوم به لتهرع اليه متسائلة فى لهفة ما ان دخلت الغرفة :- خير يابو باسل .. ايه فى!؟..
همس حسام امرا إياها :- اجفلى الباب و تعالى عايزك ضرورى ف موضوع مهم .. اندفعت سهام تغلق الباب و تعود لتجلس جواره فى لهفة و فضول لسماع ما عنده من اخبار .. تنبه فجأة ليسألها :- هو باسل رچع من الارض الچبلية و لا لساته هناك ..!؟ اكدت بإيماءة من رأسها :- لساته هناك يا حسام ما انت عارف دِه ميعاد الرية ف ارض اخوك الله يرحمه و باسل هو اللى متوليها ..
تنهد حسام عندما تذكر نبيل رحمه الله و تلك الحادثة التى اودت بحياته منذ ما يقارب الثلاث سنوات فى الخارج .. كانت صدمة العمر بالنسبة له اولا ابيه الحاج قدرى ثم بعدها نبيل فى ذلك الحادث المشؤوم .. ان ارضه هى كل ما تبقى من رائحته .. فلم ينجب من ندى اخت زهرة لا ولدا و لا بنتا يرث تلك الارض التى عاد جزء منها طبقا للشرع لندى و التى ما عادت لمصر منذ غادرتها مع أخيه بعد زواجهما مباشرة ..
هتفت سهام تخرجه من شروده :- هى ندى مرت اخوك مش ناوية ترچع مصر تانى ..!؟.. تنهد بشجن :- و الله ما عارف .. بس مرة سمعت عاصم بيچول انها ناوية ترچع لانها زهجت من الغربة لحالها بعد نبيل الله يرحمه .. و كمان هنا ما بيچلهاش الا اختها .. أمها و ابوها الله يرحمهم..اهى تاچى تشوف مصالحها وورثها من نبيل اهو جاعد لها بحج ربنا ..
ثم استطرد متنهداً بضيق :- هو ايه اللى چاب السيرة دى دلوجت .. !؟.. لا حول و لا قوة الا بالله.. نسيت انى كنت عايزك ف ايه .. لا اله الا الله.. هتفت سهام تذكره :- جلت ان فى موضوع مهم عايز تجولى عليه .. هتف متذكرًا فى لهفة :- إيوه صح .. بصى يا ستى.. بتك جالها عريس .. هتفت سهام فى بلاهة :- بتى مين !؟.. تسنيم ..!؟
هتف حسام بدوره مستنكرا :- تسنيم ايه !؟.. ما مهران واد خالها خطبها و هى السنة دى تخلص كليتها و نكتبوا الكتاب .. و النچع كله عارف كِده .. بكلمك على تسبيح .. انتفضت سهام فى فرحة :- و النبى صحيح .. تسبيح چالها عريس ..!
هتف حسام فى ضيق :- اه چالها .. و ميجلهاش ليه !؟.. مش بت .. و ست البنات كمان .. هتفت سهام مستفسرة و كأنها لم تسمع حديثه السابق :- مين العريس يا حسام!؟.. نعرفه ..!؟ اكد حسام :- إيوه تعرفيه .. حمزة .. هتفت سهام مستفسرة :- حمزة واد سليم.. !؟..
هز حسام رأسه بالإيجاب :- ايوه هو .. هو انت تعرفى كام واحد اسميه حمزة .. هو بعينه .. چانى هو و ابوه و طلب يدها من ساعة و انى جلت له هرد عليه ف اجرب وجت .. هتفت سهام فى سعادة :- حمزة ما يتعيبش .. راچل چدع و اخلاجه يشهد لها الكل و باشمهندس كد الدنيا .. هتف حسام :- انى ميهمنيش كل دِه ..انى اللى يهمنى ان بتى تبجى ريداه .. و هترتاح معاه ..
هتفت سهام فى ضيق :- و هى ترفضه ليه ..!؟ دِه يعتبر واد عمها و تربية يدنا هنعوزوا ايه تانى .. دِه يبجى بطر عاد.. و خصوصى للى ف ظروفها .. انتفض حسام هاتفا فى غضب هادر :- بتى مهياش معيوبة عشان نجول اهو عريس و ما صدجنا چالها.. بتى تجعد هانم و تختار سيد الرچالة .. طأطأت سهام رأسها و بدأت فى البكاء فى صمت .. انتبه لبكائها عندما طال الصمت بينهما دون ان تقطعه هى بحديثها ليهتف فى ضيق :- بتبكى ليه دلوجت ..!؟..
هتفت بصوت متحشرج :- انت فاكر انه هين علىّ انى اجول اللى جلته .. بس دى الحجيجة يابوباسل بتك فرصتها ف چوازة زينة هتجل بسبب رچلها و انت عارف كِده وواعى له كيف ما انى وعياله.. و تنهدت فى حزن مستطردة :- انى كل اللى طلباه من ربنا انه يبعت لها بن الحلال اللى يصونها و يراعيها .. و حمزة بن حلال و على كد يدنا .. هتف حسام منهيا الحوار :- ربنا يجدم اللى فيه الخير .. انتِ بس فتحيها ف الموضوع .. و اللى يريحها هنعمله اى كان هو ايه ..
اومأت سهام برأسها توافقه الرأى .. و لم يكن يدرى كلاهما انه ليس هناك من داعٍ لمفاتحة صاحبة الشأن فى الموضوع لأنها سمعته و هى تهم بالطرق على باب حجرة أبويها منذ دقائق .. و...
الأدهى انها لم تسمع الا ذاك الجزء الاخير من الحوار الذى يصف عجزها و دوره فى تقليص فرص زواجها .. صرفت النظر عن تلك الطرقات التى كانت تهم بها على باب الحجرة و اندفعت للأعلى حيث حجرتها المشتركة مع تسنيم و التى كانت لحسن الحظ ليست فيها لتجلس على طرف فراشها تفكر فيما سمعت..
ان حمزة شاب طيب و على خلق .. جدى بعض الشئ و لا يتميز بالحلم فى بعض الأمور لكنه مهندس ناجح و اخلاقه لا غبار عليها .. انها لا تحبه .. هى تعلم ذلك جيدا .. لكن منذ متى الحب لأمثالها .. انها تلك الناقصة المعيوبة .. لن يكون الحب ابدا لها .. اذن فهو زواج العقل لا محالة .. و ان كان لابد منه .. فحمزة هو الاصلح بكل تأكيد .. فأمها تعامله كمن جاء بعد كل تلك السنين ليصلح غلطته .. حسنا .. لابأس فليصلحها .. و انا لن اعترض .. فرفاهية الرفض ليست متاحة على اى حال ..
أنهت حوارها الداخلى مع نفسها و على الرغم من اقتناعها بكل حرف فيه الا ان هناك جزء ما داخل روحها الجريحة التى كانت و لازالت تدارى جراحها بالإبتسامة و الضحكات الرنانة يئن موجوعا فى صمت و يأبى الإزعان لذاك المنطق العقلى البحت و يحاول ان يطفو فوق امواج التعقل و المنطق لكن لا فائدة فقد غمرته تلك الأمواج تماما لتخرس صوته و تنهض هى لتجفف دمعها و قد قررت ان توافق على تلك الخطبة لعل و عسى تجد فى حمزة ضالة قلبها المنشودة ..
اندفع حامد لداخل غرفته المشتركة مع أخيه مما جعل حمزة يجفل فى غيظ و يكاد يسكب كوب الشاى الذى كان يرتشف منه فى لحظتها و نظر بغيظ لحامد الذى هتف فى غيظ بدوره :- انت برضك رحت طلبت يد تسبيح بت عمتك ..!؟.. هتف حمزة بهدوء :- ايوه .. ايه فيها!؟.. يعنى ما انت عارف انى هطلب يدها من زمن .. ايه الچديد !؟. هتف حامد معاتبا :- متعرفش برضك!؟.. ما احنا اتكلمنا فيه كَتير الموال دِه..
رد حمزة فى نفس الهدوء :- طب لما اتكلمنا فيه يبجى عارف رأيي .. ليه متفاچئ كِده ..!؟.. هتف حامد :- لانى كنت فاكرك هتفكر تانى و تتأكد انك بتظلم نفسك و بتظلمها معاك يا حمزة.. هتف حمزة محتدا للمرة الاولى منذ بدء الحوار :- بظلم نفسى و بظلمها!!..ليه بتجول كِده يا حامد ..!؟. هتف حامد :- عشان عارف ان مش تسبيح هى اللى ترضى جلبك و عجلك يا حمزة ..
هتف حمزة معترضا الا ان حامد قاطعه هاتفا :- تسبيح عروسة زينة يا حمزة لكن مش ليك .. و كفاية تحمل نفسك ذنب مش بتاعك .. هتف حمزة صارخا و كأن أخيه بدأ فى الضغط على موضع ضعفه دون ان يدرى و يكشف عن سره الدفين دون ان يدرك انه يعبث بجرح مفتوح منذ زمن طويل و لم يندمل بعد :- انت جصدك ايه !؟. ذنب ايه اللى بتتكلم عنِه دِه ..!؟..
هتف حامد صارخا :- انت عارف و انى عارف بنتكلم عن ايه !؟.. موضوع حادثة رچلها .. انت مليكش ذنب فيه ليه عايز تشيل ذنبها لحد دلوجت ..!؟.. صرخ حمزة بثورة و كأن احدهم قد نزع عنه ما كان يستتر به طوال سنوات عمره الماضية من قناع ثبات و جمود :- حاااامد .. انت بتجول ايه!؟.دى حاچة عدى عليها زمن و ملهاش ..
قاطعه حامد هاتفا بإصرار :- لاااه ليها .. و هى السبب انك تطلب يدها .. انت بتظلمها يا حمزة .. بتظلمها و بتظلم نفسك .. ثار حمزة هاتفا :- انى مبظلمش حد .. و هى لو مش عوزانى مش ها تجبل بيا .. انى مغصبتش على حد اى حاچة .. تنهد حامد فى قلة حيلة و تمتم :- بشوجك ياخوى.. انت حر .. انى خلصت زمتى من ربنا و ربنا يصلح لك حالك .. ألقى حامد كلماته تلك و خرج من الغرفة بهدوء تاركا حمزة رأسه يغلى من شدة ارتباك الافكار و الخواطر بعقله ..
خرج عاصم من الحمام يكمل ارتدائه جلبابه و هو يتوجه للفراش و ما ان وضع جسده عليه حتى فتحت زهرة الغرفة في هدوء معتقدة انه ذهب في النوم لكنها تنهدت براحة عندما وجدته لايزل مستيقظا فهتفت :- الحمد لله انى لقيتك لسه صاحى .. اعتدل في قلق هاتفا :- ايه في ..!؟.. حصل حاچة ..
اكدت زهرة تطمئنه :- لا مفيش حاجة متقلقش كده .. بس سندس جالها عريس .. تنهد في راحة و هو يتمدد على الفراش هاتفا :- يا شيخة وجعتى جلبى.. طب و ماله ..ياجى و نشوفوه.. بس المهم هي اللى مترفضوش و تطرجه جبل مايجى زى كل مرة ..
جلست زهرة على الناحية المعاكسة على الجانب الاخر من الفراش متطلعة اليه في ضيق :- ما انت عارف يا عاصم هي بترفض ليه .. انتفض عاصم جالسا و هي يهتف في ضيق مماثل :- طب و هنعمل لها ايه بس ..!؟.. نچوزها بالعافية .. و لا نجيب واد عمتها يتجدم لها بالعافية .. ما هو لو كان عايزها .. ليه مچاش !؟
هتفت زهرة :- ما يمكن عشان فارق التعليم بينهم يا عاصم مخليه خايف يتقدم لها و ترفضه .. هتف عاصم بغيظ :- لو بيفكر كِده يبجى يستاهل الضرب بالنار .. انى اهم حاچة عندى انها تكون عيزاه و هترتاح معاه .. و باسل راچل بچد و هبجى مرتاح و هي معاه ..
ساد الصمت بينهما لحظات و أخيرا هتف عاصم متسائلا :- و هو مين العريس الچديد دِه !؟.. هتفت زهرة :- وكيل نيابة شافها مع الأستاذ موافى ف المحكمة و طالب تليفونك منه .. و هي بتسأل تديهوله و لا لأ .. اكد عاصم :- تديله تليفونى طبعا .. هتفت زهرة متعجبة :- تديهوله ..!؟..
اكد عاصم :- ايوه تديهوله ..ايه اللى فيها ..!؟. و استدار جاذبا الغطاء عليه هامسا :- ياجى و يشرفنا .. و هاتاجى يا واد حسام على ملا وشك تطلبها .. و انى اللى هجول لاااه .. هتفت زهرة :- بتقول حاجة يا عاصم!؟.. اكد عاصم مغمضا عينيه :- بجول تصبحى على خير .. هتفت بدورها :- و انت من أهله .. و تمددت بدورها لتنام و هي تشعر ان زوجها القابع بجوارها يدبر لشئ ما لكنها لم تدرك كنهه ..
اندفعت تسنيم لداخل حجرتها عائدة من اخر امتحاناتها بكليتها البعيدة باحثة عن اختها تسبيح في لهفة و ما ان طالعها محياها بجوار النافذة حتى أغلقت الباب و توجهت اليها هاتفة في حنق :- الخبر اللى سمعته من امك ف التليفون ده صح ..!؟ .. هتفت تسبيح في لامبالاة على الرغم من ادراكها لمقصد اختها :- حمد الله ع السلامة الأول .. و بعدين خبر ايه اللى امك قالت هولك ف التليفون !؟..
هتفت تسنيم بغيظ :- خبر موافجتك على حمزة ..الكلام ده صح ..!؟ .. اكدت تسبيح بإيماءة من رأسها :- ايوه صح .. ايه اللى فيها يعنى .. !؟.. هتفت تسنيم :- حمزة يا تسبيح .. حمزة ..!؟.. ده انتِ اكتر واحدة كنتِ بتجولى عليه شَديد و چامد و چد .. يبجى انت اللى تتچوزيه !؟ هتفت تسبيح بهدوء مقيت :- و ايه فيها يا تسنيم ..!؟.. حمزة ميتعيبش .. اكدت تسنيم :- اه ميتعيبش .. لكن مش ليكِ ..
هتفت تسبيح :- بالعكس .. حمزة اصلح واحد ليا .. انا هستحمل شدته و هو هايستحمل عچزى اللى هو شايف انه كان سبب فيه .. صرخت تسنيم :- يعنى انت عارفة انه چاى يتجدم لك عشان عجدة الذنب الجديمة و راضية ..!؟.. اكدت تسبيح :- ومرضاش ليه !؟.. حمزة هو فرصتى الوحيدة لچوازة كويسة مفيش واحدة ف ظروفى تطولها .. هتفت تسنيم متعجبة :- ظروفك ..!؟.. انت جصدك ايه ..!؟.. جصدك موضوع رجليكى .. انت اكيد بتهزرى ..
ابتسمت تسبيح بألية :- لا مبهزرش يا تسنيم .. ايوه موضوع رچلى .. و عچزى اللى الناس كلها واعياله حتى انتم .. بس بتحاولوا تضحكوا على نفسكم و تجولوا مش فارج .. بس هو فارج جووى .. و لما ألاجى العريس اللى يرضى بيا على عيبى أجول لاااه .. ده حتى يبجى اسمه بطر .. هتفت تسنيم و هي تحتضنها هامسة :- انت مجنونة على فكرة .. انت تستاهلى اللى يحبك و تحبيه .. متستاهليش الحياة بالشكل ده لمچرد حاچة ملكيش يد فيها .. اتسرعتى يا تسبيح .. اتسرعتى جووى ..
دفنت تسبيح رأسها بين ذراعى اختها هاتفة :- خلاص يا تسنيم معدش ليه عازة الكلام ده .. بابا بلغ حمزة موافجتى .. يعنى انا دلوجتى خطيبته رسمي .. و انا موافقة بچد و راضية .. حمزة كويس و راجل محترم و هيصونى و ده كفاية عليا .. ربتت تسنيم على ظهر اختها في محبة مواسية و لم تستطع ان تتفوه بكلمة أخرى حتى لا تضغط عليها اكثر فيكفيها ما تعانى و تمنت على الله ان تعود لرشدها و تفكر من جديد في امر تلك الزيجة التي لا يحكمها الا الشعور بالذنب ...
نهضت تتلمس طرف فراشها و قد استيقظت كعادتها مع سماعها لنداءات صلاة الفجر .. ابتسمت في إشراق و قد تذكرت تلك الرؤيا التي لازالت عالقة بأجفانها كأنها تراها رؤى العين .. هتفت في سعادة :- اللهم اچعله خير يا رب.. هتفت سكينة الممددة على الفراش المجاور مستفسرة :- ايه في ..!؟.. هتفت بخيتة بفرحة :- مش بعادة صاحية الساعة دى .. !؟..احسن برضك ..وفرتى عليّ المهاتية معاكِ .
لم تعقب سكينة على سخرية بخيتة و إنما عاودت استفسارها هاتفة :- شكلك شفتى منام زين و صاحية وشك منور...صح و لا لاااه ..!؟.. ابتسمت بخيتة مؤكدة :- صح يا حزينة.. بتلجطيها و هي طايرة ..زكريا راچع يا سكينة .. هتفت سكينة متزمرة :- يوووه .. ما بجالك زمن من ساعة ما چيتكم و عشت وسطيكم و انتِ بتجولى نفس الموال .. و هو كل عيد يجول چاى و ميچيش.. حتى العيد اللى هيهل دِه هو مجالش انه هياجى فيه .. يبجى عرفتى منين ..!؟..
هتفت بخيتة بنبرة لم تفقد حماسها او فرحتها :- هاياجى .. و ابجى جولى بخيتة جالت ..!؟.. انى ف كل مرة كان بيجول چاى كنت عارفة و حاسة انه مش هيعملها لكن المرة دى لاااه .. جلبى بيجولى انه هاياجى و يطل علىّ لانه اتوحشنى زي ما اتوحشته و اكتر .. وجلبى بيجولى كمان ان غيبته دى مش بخطره .. ربنا يچيبك بالسلامة يا جلب امك .. اتعطر بريحته مرة و بعدها يعمل ما بداله .. اتوحشتك يا زكريا .. ارچع بجى يا جلب امك..
دمعت عينا سكينة على حال بخيتة على الرغم من ندرة حدوث ذلك الا انها ام أيضا و عانت مثل ما عانته بخيتة عندما سُجن يونس لسبع سنوات كانت الأصعب على قلبها و من بعدها فارقت بينهما الدروب هي عند اختها لا تستطيع فراقها لمرضها و هو هنا حيث عمل و تزوج و استقرت احواله.. و تمنت من قلبها ان تصدق رؤيا بخيتة و ان يرسل الله زكريا لرؤية امه المسكينة التي ينفطر قلبها شوقا له ..
تنبهت سكينة من شرودها على صوت الإقامة لصلاة الفجر يصدح عاليا فنهضت متوجهة لبخيتة التي ما برحت مكانها على غير عادتها لتساعدها على النهوض هاتفة في مشاكسة :- ياللاه خلونا نكسبوا ثواب فيكِ النهاردة و هسندك للحمام تتوضى.. بس ع الله يتمر و تدعيلى ..
نهضت بخيتة متأبطة ذراع سكينة هاتفة في مرح تجاريها :- هدعيلك طبعا معلوم .. و اول حاچة هدعيلك بيها ان ربنا يجصر من طول لسانك دِه شوية .. قهقهت سكينة هاتفة :- برضك يا بخيتة .. دِه انى احلى حاچة فيا لسانى. هتفت بخيتة مازحة :- اعوذ بالله .. ربنا يچرنا منيه .. لتقهقه سكينة من جديد و كلتاهما تغيب ف الردهة الطويلة المفضية للحمام ..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الرابع
تمطعت الشمس في الأفق البعيد و امتدت أشعتها الدافئة كأذرع تزيح الأستار الرمادية عن الكون في هوادة جعلته يتنهد في راحة و هو يطالع تلك الأرض التي غادرها منذ زمن بعيد و قد بدأت خيوط الشمس الأولى تبرز له معالمها التي أفتقدها حد اللامعقول .. مد كفه و فتح نافذة السيارة رغم جهاز التكييف الذى يعمل داخلها فقط ليعب من هواء مدينته التي ما ظن ابدا ان هواءها يشبه حد التطابق رائحة أنفاسه التي يحيا بها ..
ابتسم في مودة لهدير التي كانت تنام ملء جفونها و هي تتخذ من احد أكتافه مسندا لرأسها الصغير و تتكوم جانبه بمظهرها الطفولى ذاك كطفلة لا تتعدى الثانية عشرة من عمرها لا آنسة مكتملة الأنوثة على وشك التخرج خلال أشهر قليلة .. اتسعت ابتسامته و هو يطالعها من جديد و هي تزوم متبرمة من وضعية نومها التي ارهقتها خلال تلك الساعات الطويلة من السفر .. شعر بالذنب قليلا لأنه لم يستمع لها حين نصحته بالسفر بالطائرة لكنه آبى ذلك و قرر السفر بالسيارة رغبة في الإستمتاع بكل لحظة من رحلة عودته الى بلاده التي نبذته يوما ما ..
رغب في ان يحفظ كل لحظة في رحلة العودة كما حفظ كل لحظة في رحلة التيه التي عاشها على مدى اكثر من ربع قرن خلا حتى انه لم يغمض له جفن منذ خروجه من الإسكندرية و حتى تلك اللحظة يمنى نفسه بقرب لقاء الأحبة .. تنهد من جديد هاتفا لسائقه الخاص فرغلى و الذى اصبح لا يفارقه بعد حادثة قدمه التي ما عاد قادرًا على استخدامها في القيادة :- اوجف عند اجرب زاوية و لا چامع يا فرغلى نصلوا العيد ..
ابتسم فرغلى لزكريا من خلال المرآة هاتفا في محبة :- حاضر يا زكريا بيه .. كل سنة و حضرتك طيب .. ابتسم زكريا بدوره رابتا على كتف سائقه في مودة :- و انت طيب يا فرغلى و بخير .. معلش خدتك ف العيد من مرتك و عيالك .. هتف فرغلى في سرعة :- متقولش كده يا بيه انا تحت امرك دايما و ف اى وقت ..
ربت زكريا من جديد على كتف سائقه في امتنان بينما تململت هدير من جديد هاتفة في نزق :- لسه كتير يا دادى .. هو احنا رايحين فين ..!؟.. مجاهل افريقيا .. قهقه زكريا هاتفا :- لاااه يا لمضة مبجيش كَتير .. هنصلوا العيد انى و عمك فرغلى و بعدها حاچة بسيطة ويبجوا وصلنا خلاص .. تمطعت هدير و هي تزوم ألما بسبب تيبس ظهرها هاتفة :- ما انا قلت لك يا بابا نسافر ..
قاطعها زكريا مشاكسا :- عارف .. مش عايز اسافر بالطيارة انى حر ..و بعدين انى جلت لك خليكى المرة دى مع امك و تعالى المرة الچاية مرضتيش و شبطتى فىّ يبجى تستحملى .. تدللت عليه كعادتها و هي تحتضن ذراعه و هي تهتف بلهجة صعيدية حاولت بها مجاراة لهجة ابيها:- مجدرش ابعد عنك يا زيكواعمل ايه!؟..و بعدين مين يسليك ف السكة الطويلة دى .. مش هيدو حبيبتك ..
انفجر زكريا مقهقها :- و الله انتِ بكاشة دِه انت طول السكة نايمة و مسمعتنيش الا صوت شخيرك .. وضعت هدير كفها على انفها في صدمة هاتفة :- شخير ..!؟.. انا بشخر يا زيكو ..!؟.. قولى انك بتضحك عليا.. استكمل زكريا قهقهاته نافيا :- ايوه طبعا بضحك عليكِ .. بجى الجمر دِه يشخر برضك ..دِه انتِ نسمة .. انتفخت أوداجها بمديح ابيها الذى استطرد مشاكسا لها :- و أنتِ نايمة بس ..
عقدت حاجبيها مدعية السخط مما عجل بالمزيد من ضحكاته حتى انتبه على صوت فرغلى يؤكد على الوصول لأقرب مسجد لأداء صلاة العيد .. فنزل زكريا متوكزا على عصاه التي لا تفارقه من السيارة مؤكدا على هدير ان تلزم مكانها داخلها فهزت رأسها إيجابا و هي تخرج جوالها تعبث به في لامبالاة و تتطلع حولها تستطلع بعين طفلة فضولية تلك البلاد البعيدة التي آتى منها ابوها ذات يوم ..
هتف مهران في نزق اسفل نافذة حجرة باسل :- ياللاه يا باسل هم عشان نلحج نصلوا و نروح ندبحوا .. هتف باسل :- حاضر يا داكتور متسربع على ايه .. هو الدنيا هطير ميبجاش خلجك ضيج كِده .. تطلعت تسنيم من خلف نافذتها لخطيبها الذى يقف بالأسفل في انتظار اخيها و قلبها يكاد ينفطر شوقا لمرأه فهى لم تصل من جامعتها بعد انتهاء امتحاناتها الا اول أمس و لم تسنح الفرصة ليتقابلا .. لكنها منت نفسها بقرب الوصل و قد اكدت لها أمها ان العمل بالجناح الخاص بهما يسير على قدم و ساق و سينتهى عما قريب .. فقط بضع أسابيع و تكون معه للأبد ..
تنهدت في شوق و محبة و هي تراه يرحل مع اخيها رافعا نظراته الى نافذتها لعله يلمح طيفها و رغم رغبتها التي لا تقل عن رغبته قوة الا انها استحت و فضلت الدخول و غلق النافذة في هدوء و هي تتنهد في لوعة لفراق محياه مما استدعى انتباه تسبيح التي بدأت في السخرية منها هاتفة مترنمة بكلمات أغنية قديمة :- ميكنش ده اللى اسمه الهوى .. اللى ملوش ف الكون دوا .. اندفعت تسنيم مغتاظة تلقى عليها بعض الوسائد و تسبيح تتلقاها بصرخات ضاحكة ..
انطلق فرغلى في طريقه و ما ان شارف مدخل نجع الصالح حتى تغيرت ملامح زكريا و ارتسم على محياه بعض من حزن و شجن و هتف في سائقه امرا و هو يمر على تلك الهضاب القريبة :- وجف هنا يا فرغلى .. توقف فرغلى على الفور ليتنهد زكريا و هو يتطلع للأفق و عيناه لا تحيد عن تلك التلة القريبة مما استرعى انتباه هدير و قلقها لتهتف :- في حاجة يا دادى ..!؟.. احنا وقفنا هنا ليه ..!؟..
دفع زكريا عباءته عن كتفيه و فتح باب سيارته و اندفع منها خارجا بمساعدة عصاه .. خرج فرغلى من السيارة مترجلا في سرعة يتبع زكريا الذى لم ينهره ليعود بل تركه يتبعه مساعدا إياه على صعود تلك التلة حتى وصل لمبتغاه فتنحى فرغلى جانبا في تأدب و ترك زكريا يقترب في وجل من ذاك القبر القريب الذى ما ان وصله حتى ترك عصاه تسقط أرضا و انحنى في بطء يجلس بجوار شاهد القبر و قد مد كفه يمسح ما علق به من اتربه طمست اسم صاحبه .. دمعت عيناه في رهبة..
و هو يقرأ الاسم .. غسان صادق الهوارى .. و تنحنح في تأدب هامسا :- فاكرنى يا حاچ غسان .. انى جيت أبر بوعدى ليك .. فاكره !؟.. من اكتر من خمسة و عشرين سنة چيتك هنا و جلت انى راچع و ادينى رچعت .. رچعت زكريا بيه الهوارى .. مش زرزور يا حاچ غسان .. رچعت عشان اجولك تشكر ..ايوه بتشكرك .. لولا اللى عملته فيا مكنتش بجيت كيف ما انت واعيلى .. اه اتبهدلت و اتمرمت كَتيييير بس ف الاخر بجيب اهااا زكريا بيه اللى يملك نص إسكندرية و معاه فلوس ملهاش عدد ..
تنهد زكريا و بعينه دمع يترقرق مهدداً بالهطول مستطردا بصوت متحشرج:- بس تعرف يا حاچ غسان .. كل دِه ميساويش مرة كنت اسمع فيها منيك كلمة ولدى ..شجيت و اتعذبت عشان ارچع اجولك انى اهااا زكريا اللى تتشرف بيه يمكن ساعتها ترضى و تجولها لى و لو مرة واحدة تبل ريجى .. تجولها و لو كدب و انى هعمل حالى سامعها.. جولها يابا .. جولها ..
و هطلت دموع زكريا الحبيسة رغما عنه حارة مفعمة بالوجع .. مرت لحظات صمت قاتمة قبل ان يمد كفه و ينبش بجوار شاهد القرب على عمق قريب ليبتسم في شجن و هو يتطلع لنايه القديم الملطخ بالوحل ضمه لحضن كفه في رفق و كأنما يضم قطعة من روحه القديمة قد تركها هنا قبل رحيله و مد كفه الأخرى يلتقط عصاه و ينهض متوكئا عليها لينتفض فرغلى مساعدا إياه و ما ان استقام حتى رفع كفيه و بدأ في قراءة الفاتحة على روح ابيه و بالمثل فعل فرغلى و ما ان انتهيا حتى عادا ادراجهما للسيارة يغلفهما الصمت المطبق حد الخرس حتى ان هدير نفسها استشعرت ما يغلف ابيها من شجن فأثرت الصمت بدورها ..
هتف ناصر بصوته الجهورى :- الكبدة يا اخونا .. هنموت م الجوع.. هتفت به نعمة ناهرة في مرح :- يا واد اهمد .. انت على طول كده طبعك حامى .. حاااضر .. شيماء اهى بتظبطها .. صرخ ناصر من جديد :- لاااا .. ف عرضك ياما .. روحى انتِ ظبطيها .. دى كبدة ضانى متكلفة .. عايزين لقمة عدلة مش يجلنا تسمم ع الصبح .. خرجت شيماء من المطبخ متزمرة :- طب و الله ما انا حاطة ايدى فيها و انت الخسران .. هتف ناصر مغيظاً إياها كالعادة :- اخسر نفسك ف الأكل و مخسرش صحتى ..الله الغنى ..
انفجر خميس مقهقها على مشاكساتهما التي لا تنتهى و ما ان هم ناصر بإلقاء المزيد من تعليقاته الساخرة حتى قاطعه طرق متعجل على الباب .. تعجب الجمع متطلعا لبعضه البعض و اندفع ناصر يفتح الباب ليطالعه أخيه نادر صارخا في مرح :- أوعى تكون أكلت الكبدة كلها لوحدك يا صاد !؟.. تلقاه ناصر بين ذراعيه صارخا في فرحة لقدومه ليجتمع الجميع حوله ليهتف نادر في سعادة :- انا مصدقت رضيوا انزل إجازة ع العيد واخدها من المعسكر لهنا جرى عشان ألحق الكبدة قبل ما الوحش ده يقضى عليها.. يا رب أكون جيت ف الوقت المناسب ..
انفجر الجميع ضاحكين و ربتت نعمة على كتفه في حنو و هو يتخذ موضعه على المائدة :- و الله حتى لو مكنتش جيت النهاردة .. برضه نصيبك محفوظ يا قلب امك .. قبل نادر كفها الموضوعة على كتفه هاتفا :- تعيشى يا ست الكل ..هو انا ليا بركة الا نعمة ..
قهقه الجميع ليهتف ناصر :- امك دى اللى اثبتت ان نظرية الغايب ملوش نايب دى نظرية فاشلة .. عندها الغايب ليه اكبر نايب ..ابسط يا عم دال .. كان الفرق بين اسميهما ناصر و نادر حرفا واحدا الصاد و النُّون و كان هذا هتاف احدهما للاخر منذ وعيا ذلك .. قهقهت نعمة :- ايوه امال ايه .. هو انا يجى لى قلب اكل و ابنى حبيبى ميكلش من اللى باكل منه ..
ربت خميس على كتفها في حنو و مودة بينما شيماء تضع الاطباق على المائدة قبالتهم ليهتف ناصر موجها حديثه لنادر :- استر يا رب ..امك اتلهت ف مجيتك و سابت الكبدة للبت شيماء .. تطلع نادر لشيماء الممتعضة من تلميحات أخيه ليهتف في ترضية لخاطرها :- هو في احلى من طبيخ شوشو ..طب دى هتطلع احلى كبدة دقتها ف حياتى ..
ابتسمت شيماء في سعادة فأخيرا جاء من ينصفها امام تجبر أخيه هاتفة:- تسلم يا نادر ربنا يسعدك دايما زى ما انت جابر بخاطرى .. هتف ناصر في غيظ تتأكله الغيرة التي حاول إخفاءها خلف امره لها :- طب قومى ياختى هاتى عيش زيادة .. ثم امسك سكين كانت موضوعة جانبا على الطاولة غرس نصلها في خشب الطاولة بعنف مستطردا :- بدل ما أقوم اجبر بخاطرك على طريقتى .. انتفضت مندفعة تحضر الخبز و هي تبرطم مغتاظة و الجميع يضحك على مشاكساتهما التي لا تنتهى ..
تقدم ذاك الظل القادم يسبق صاحبه حتى وصل لتلك التعريشة التي يجلس بها يونس مدخنا أرجيلته التي لا تفارقه ووقف حتى حجب عن الأخير أشعة الشمس .. رفع يونس هامته متطلعا لذاك الجسد الواقف و خلفه شمس الصباح تطمث معالم وجهه عن ناظريه كاد يهتف مستطلعا هوية الضيف الا ان الأخير هتف بنبرة متحشرجة تأثرا :- لساك بتعشج الدخان يا يونس .. و لا اجولك يا سنچأ ..!؟..
انتفض يونس عند سماعه ذاك الاسم البعيد عن مسامعه منذ سنوات و الذى لا يعلمه الا شخص واحد فقط .. انه هو .. و هتف يونس مندفعا الى أحضان الضيف صارخا :- زكريا .. واااه يا زكريا .. واااه يا واد عمى .. دمعت عين زكريا و هو يتلقى يونس بين ذراعيه متشبثا كل منهما بالأخر كأنما عادت السنون بعجلتها التي لا تدور للخلف ابدا الا انها عادت في تلك اللحظة ما بين عناق الذكرى و لهفة اللقاء ..
ربت زكريا على ظهر يونس في محبة ليخرج يونس جسده المتكور بين ذراعيه ناظرا الي محياه من جديد كأنما يريد ان يصدق ان ما يراه أمامه هو زكريا حقا بشحمه و لحمه و انه لا يتوهم .. ابتسم له زكريا ليهتف يونس في عجالة و كأنما ادرك فجأة ان زكريا وصل لتوه و خاصة بسبب تلك السيارة الفارهة التي تنتظر على ذاك الطرف القريب من موضعهما :- انت لساتك مدخلتش شوفت الحاچة بخيتة!؟..
هز زكريا رأسه نافيا و هتف منكس الرأس :- مش جادر يا يونس .. خچلان و خايف و مشتاج ..لكن مش چادراطلع لها .. حاسس انى هموت لو شافتنى على حالى دِه و انجهرت علىّ.. و حاسس انى هموت من شوجى ليها يا واد عمى .. تلجلج يونس محاولا مداراة عينيه عن زكريا الذى كعادته استطاع استشعار اضطراب يونس فهتف في لوعة :- امى جرالها حاچة يا يونس .. انطج!؟. هتف يونس في عجالة :- لاااه .. الحاچة بخيتة زينة .. بس اصلك هي يعنى .. اصلها ..
صرخ زكريا يتعجله بالحقيقة :- مالها .. انطج .. امى مالها ..!؟.. و هم بالاندفاع ناحية الدار الا ان يونس عاجله هاتفا :- امك نضرها راح و معدتش تشوف يا زكريا .. تسمر زكريا موضعه لم يأتي بحركة للحظات و ما استوعب ما قاله يونس حتى عاد لموضع وقوفه ماسكا بتلابيه هاتفا في ثورة :- و كيف محدش يجول لى ..!؟.. كيف يحصل لها كل دِه و انى مش دريان ..!؟.. هي دى الأمانة اللى أمنتهالك يا يونس انت و عاصم .. !؟..
ربت يونس على كتفه مهدئا و هو يقول :- سامحنى يا واد عمى الحاچة هي اللى حلفتنا على كتاب ربنا ما نچيب لك خبر .. جالت انه امر ربنا و انت كنت هتعمل ايه يعنى عشان تحوشه .. و الصراحة لله عاصم بيه مجصرش و جاب لها دكاترة من شرجها و غربها و كلهم جالوا نفس الكلام و كتبوا نفس العلاچ .. هدأ زكريا قليلا و سحب كفيه المتشبثة بتلابيب يونس و ربت على كتفه في بادرة اعتذار محاولا ان يستوعب الامر برمته ..
هتف يونس ينتشله من براثن الشرود:- ادخل شوفها يا زكريا ..دى بجالها زمن بتجول ان جلبها حاسس انك چاى .. و الله صدجت رؤيتها و احنا اللى ما كنّا مصدجينها .. اومأ زكريا برأسه إيجابا و سار في اتجاه سيارته متوجها لمدخل الدار ليرى تلك العزيزة الغالية التي ما عاد بقدرتها رؤيته بالمثل ..
انتهى كل من باسل و مهران من ذبح الذبائح كعادة كل عيد .. لكن هذه المرة لم تأتى سندس لإستعجالهما كالعادة لجلب كبد الذبيحة لطبخها للإفطار كعادة كل عيد .. مات شوقا كل لحظة و هو يرهف السمع لكل حركة تقترب من حظيرة المواشى حيث يتم الذبح بأحد أركانها معتقدا انها هي .. ذاب لهفة لسماع ترنيمة اساورها التي تعلن عن مقدمها دوما بكرنفال من الفرحة يعم صدره و ينتشى له فؤاده .. لكن لا فائدة .. ما ظهرت و لو للحظة يروى بها ظمأه لمحياها ..
كانت ملابسه قد تلطخت بالدماء و كفيه كذلك .. قرر الرحيل ليستحم و يعود من جديد بثياب نظيفة ليتناول طعام الإفطار مثل كل عيد مع خاله و زوجه و باقى أفراد الأسرة الا ان مهران آبى ذلك هاتفا في ضيق :- بجى معجول هسيبك تروح بالمنظر دِه..!؟.. ليه .. مفيش حمامات و لا هدوم عندينا و لا ايه .. تعال اطلع معاى اوضتى و استحمى و ألبس لك چلبية من بتوعى و اجعد معاى لحد الفَطور ما يچهز ..و بالمرة افرجك عملنا ايه لحد دلوجت ف الچناح اللى هتچوز فيه ..
و اندفع مهران داخل السراىّ و خلفه باسل الذى كان يغض الطرف في تأدب تتأكله الرغبة في البحث عنها بكل ركن في السراىّ لعله يجدها .. لعله يكتفى بنظرة وحيدة الى محياها.. هو يعلم ان مائدة الإفطار ستجمعهما عما قريب لكن لا قبل له على الانتظار و لو دقيقة واحدة أخرى .. مر بتلك الردهة الطويلة المفضية لحجرة مهران و مر بباب حجرتها..
اقترب منه في وجل يكاد يسمع دقات قلبها خلفه وضع كفه المدرجة بالدماء بلا وعى على احد ضلف الباب يتلمس صوتها لعله يصل مسامعه و بالفعل سمع همسها و هي تتغنى بكلمات رقيقة .. لم يتخيل مطلقا ان سندس تملك حسا رقيقا ناعما بهذا الشكل الذى كاد يودى به لهلاكه في موضعه فهو دائما لا يسمع الا صوت تزمرها و رفضها لوجوده ..
انتفض متراجعا رغما عنه عندما شعر بقدومها قرب الباب و تقهقر خطوتين للخلف متظاهرا انه وصل لتوه عند مدخل حجرتها ما ان فتحت الباب لتشهق في دهشة لمرأه .. تمالك نفسه محاولا نسيان تأثير صوتها الرهيف على مجامع حواسه هاتفا في سخرية:- ايه فيه يا بت خالى ..شوفتى عفريت!؟ هتفت مجيبة :- لا.. اصل يعنى ..
كانت المرة الأولى التي يراها فيها مضطربة بهذا الشكل فدوما هي مثال للثبات و الجدية .. لكنها تمالكت نفسها في سرعة هاتفة :- بقى بزمتك ده منظر حد يشوفه يوم العيد الصبح ..!؟ هتف في غضب :- جصدك ايه بالظبط ..!؟ اكدت في ثقة :- هيكون قصدى ايه..!؟.. واحد كله دم من ساسه لراسه كأنه قاتل قتيل .. والله لو قاتل قتيل ما هايبقى منظرك كده ..
و انفجرت ضاحكة و هي تحاول ان تتجنب المرور بالقرب منه خوفا من ان تتلوث ملابسها و اندفعت للأسفل ضحكاتها الشجية و اساورها الرنانة أطلقت العنان لدقات قلبه لتصنع سيمفونية من سعادة ألجمت لسانه عن الرد على سخريتها منه بما يليق .. لا يعرف كم غاب عن واقعه في غيابات عشقه لكنه عاد اليه سريعا مع نداءات مهران المتكررة تتعجله المجئ لأخر الردهة حيث حجرته ..
فُتح الباب ببطء مريب و لم تعره بخيتة انتباها ظنا منها انها سكينة ام يونس قد أتت لتخبرها بأن الغذاء قد تم اعداده .. تنبهت للحظة عندما تقدم القادم خطوة و أغلق الباب ورائه فى ذات البطء الذى فُتح به ..كما سمعت طرق لعصا على ارضية الغرفة الخشبية مما يؤكد ان القادم يستند على عصا ما ..
خطى القادم نحوها خطوة جعلتها تترك ما كانت تتشاغل به من تسبيح و استغفار على مسبحتها الألفية لتضعها جانبا و تُنزل قدميها المتربعتين على الفراش منتفضة فى وجل وقد وصل لروحها ريح ما افتقدتها منذ زمن بعيد قارب على الربع قرن او يزيد فهمست و هى تمد كفيها للهواء لعلها تصل لذاك القادم لتُسكن لوعة قلبها ..همست بأية قرآنية ذُكرت على لسان يعقوب عليه السلام عندما هلت عليه ريح ابنه يوسف :- إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ...
و اخذت تكررها عدة مرات و هى تتقدم متحسسة الهواء و ذاك الغريب يشهق باكيا فى قوة حتى اندفع اليها معانقا لا تهدأ شهقات بكائه الحاد المتزامنة مع صوت ارتطام عصاه التى تركها تهوى أرضا فضمته لصدرها هاتفة بلوعة :- زكريا .. ولدى زكريا ..
و هتف زكريا اخيرا من بين غصات الدموع بالقرب من اذنها و هو لايزل متعلقا بها مدفونا بين ذراعيها مزروعا بصدرها :- إيوه .. هو زكريا ياما .. هو يا غالية .. تنهدت بعمق و هى تعتصره بين طيات روحها وكأنها المرة الاولى منذ زمن يدخل أكسجين الحياة المحمل برائحة وليدها الى رئتيها فتشعر بأنها لاتزل حية ترزق ..
لم يعرف كلاهما كم ظلا على هذه الحالة لكن اخيرا ابتعدت بخيتة قليلا عنه ليرفع هو هامته متطلعا اليها متشربا ملامح وجهها التى غاب عنها و ما غاب .. و رأى كيف خط الزمان اثاره على تلك الملامح التى تركها يوما ما فتية نضرة.. فتلمس وجهها فى شوق طاغ .. لتبتسم هى فى هدوء هامسة بنبرة مازحة :- زى ما سبتنى يا واد غسان .. لساتنى بحطة يدك .. دِه يمكن احلويت كمان ..
و قهقهت فقبل زكريا جبينها و أسندها حتى جلست على طرف الفراش الذى كانت تحتله منذ قليل .. و ما ان جلست حتى استند هو متحاملا على ألام قدمه ليجلس تحت اقدامها ملقيا رأسه المكدود فى حجرها لتربت هى على تلك الهامة المنهكة فى حنو بالغ و تتلمس بأطراف أناملها تلك القسمات و الملامح التى افتقدتها حد اللانهاية ..
هتف زكريا بصوت مكتوم قادم من اعماق روحه و رأسه لاتزل باحضان حجرها :- ليه محدش جالى..!؟.. دى وصيتى ليك يا عاصم انت و يونس !؟ ليه .. !؟.. قاطعته امه هاتفة و هى تربت على جانب وجهه حيث تضع كفها :- متلومش يا ولدى و تعاتب .. هم ملهمش ذنب .. انى اللى حلفتهم و اخدت منيهم عهد ربنا ما حد فيهم يجولك .. كان هيفيد بأيه يا ولدى .. دِه امر ربنا و انى رضيت بيه ..
هتف مستنكرا :- كيف ياما .. على الأجل كنتى رحتى لأحسن دكاترة و لو حكمت كنت سفرتك بره مصر كمان .. اكدت من جديد :- انى جانى دكاترة بعدد شعر راسك يا واد بخيتة ... محدش جصر بس دِه امر الله .. هنعترضوا !؟.. الحمد لله على كل اللى يجيبه ربنا .. اكد زكريا فى حزم :- على العموم خلاص .. من هنا و رايح مش هسيبك و هاتاجى معاى و برضة هعرضك على اكبر دكاترة يشوفوا ايه اللى ممكن يتعمل لحالتك ..
هزت بخيتة رأسها رافضة فى هدوء :- انى مش هروح ف حتة .. انى مش منجولة من هنا .. انى لو خرجت بره البلد .. لااه بلد ايه .. بره الدار دى .. اموت يا زكريا .. دِه انى اول مرة يبجالى دار بمال ولدى و حجه .. اسيب دِه كله و اتجلع منيه و اغرس چدورى ف ارض تانية بعد العمر دِه كله .. انت شوف حالك و كفاية عليا شوفتك كل ما تتوحشك امك تعال..
تنهد زكريا فى ضيق غير راغب فى معارضتها فى تلك اللحظة و ألقى رأسه من جديد مستلقيا على احد فخذيها لتخلل هى أصابعها العجفاء بين خصلات شعره هامسة :- و الله و شيبت يا زكريا .. و الدنيا خدت و أدت معاك بالجووى يا ولدى .. تعجب زكريا رافعا رأسه متطلعا اليها لتهمس من جديد :- مستغرب ليه!؟ لهو انت فاكرنى مش بشوف ياك .. !؟
و انفجرت مقهقهة ثم هتفت مستطردة :- سكينة دايما تجولى .. عاملة نفسك عمية و انتِ بتشوفى احسن منينا كلنا .. و الله صدجت الحزينة .. و تنهدت فى راحة و هى تربت على كتفه الذى تحسست بأناملها جانب وجهه حتى وصلت اليه هاتفة :- انى شيفاك بنور جلبى يا زكريا ..ووعيالك يا غالى كنى شيفاك بعيونى .. و الله .. لو حصل ايه دلوجت ما عاد يفرج معاى بعد شوفتك و طلتك عليّ..
تنهد زكريا مقبلا باطن كفيها لتهمس هى فى لهفة :- مچبتش مرتك و عيالك معاك يا زكريا..!؟ هتف فى تأكيد :- جبت هدير مستنية بره .. اما زينة مجدرتش تاجى بس هتاجى المرة الچاية .. و حازم كمان هاياجى بس يخلص المأمورية اللى طلعها .. ما انتِ عارفة بجى ظابط كد الدنيا ..
هتفت فى سعادة :- الله اكبر .. ربنا يحفظهم و يخليهم .. هتف هو فى لهفة محاولا النهوض متحاملا على قدمه :- انا هنادي لك على هدير حلاً .. و توقف فجأة عندما هتفت بخيتة :- مال رچلك يا زكريا .. ايه فى !؟.. انتبه لملاحظتها القوية فهمس و هو يجلس بالقرب منها :- مفيش يا حاچة متجلجيش .. شوية تعب و هيروحوا لحالهم ..
تلمست طريقها حتى وضعت كفها على فخذه هاتفة :- لااه .. دِه تعب مش هين يا زكريا .. كنت داخل الأوضة على عصا .. ايه فى ..!؟. طمنى و ريح جلبى .. تنهد هامسا :- دِه اللى اخر رچوعى يا حاچة .. انا اتصبت ف حادثة اللوا مختار اللى كانت من كام سنة دى اللى دريتى بيها .. و جعدت أتعالج عشان بس أجدر اجف على رجليا تانى و اجيكِ .. مكنتش عايزك تشوفينى بعد السنين دى كلها چايلك عاچز على كرسى و تنجهرى علىّ ...
لم تنبس بخيتة بحرف الا الربت عدة مرات على قدم ولدها لينهض هو منحنيا مقبلا جبينها مناديا على هدير لتدخل لتقابل جدتها و التى كانت تجلس منتظرة خارج الغرفة فى نفاذ صبر عندما طالت غيبة ابيها بالداخل لتهتف متزمرة فى ضيق و الجميع يتطلع اليها فى نظرات متباينة :- هو دادى بيعمل ايه كل ده جوه ..!؟..
هتف حامد ساخرا :- معلش بجى بجالهم خمسة و عشرين سنة متجبلوش .. عيزاه يدخل يجول لأمه ايه بعد العمر دِه كله .. هاااى مامى اى ميس يو سو ماتش .. ما لازما يطول معاها .. هتف يونس و هو يتطلع لحامد ولده مؤنبا :- معلش يا بتى .. زمانه طالع دلوجت ..
و كأن زكريا قد استمع لما نطق به يونس فى تلك اللحظة لينفرج باب الغرفة لينادى زكريا على هدير ابنته التى انتفضت فى سعادة متوجهة لداخل الغرفة هاتفة بانجليزية متقنة:- اخيرا .. اعتقدت انى سأموت هنا من الملل ..
تطلع كل من كسبانة و يونس لبعضهما اولا ثم لولدهما مطالبين بترجمة ما قيل منذ لحظات على لسان ابنة زكريا العجيبة تلك ..الا ان حامد هتف مقهقها :- أوعى حد يجولى كانت بتجول ايه ..!؟.. و استطرد مازحا :- دى أعراض ناس و ميصحش نچيب ف سيرة حد .. هتفت كسبانة متحسرة على ولدها :- جال و مهندس زراعى جااال .. دِه انت اخرك تلم الدودة من غيط الجطن.
انفجر يونس مقهقها لتعليق زوجته مما دفع حامد ليهتف متصنعا الحنق :- بجى كِده يا حاچ .. ضحكتك جووى دى .. ماااشى .. فينك يا حمزة.. !؟.. محدش بينصفنى غيره .. هتف يونس متعجبا :- ألا هو فين حمزة صح!؟.. مشفتوش بعد الصلاة . هتف حامد :- هيكون فين يعنى .. اكيد ف إسطبلات الخيل .. هو حيلته غيرها ..
هنا ظهرت هدير خارج الغرفة هاتفة فى سعادة و قد ألتقطت اخر كلمات حامد :- انت بتقول خيل ..!؟.. طب ودينى هناك بليز .. تطلع حامد لهدير و لأبويه مستفسرًا ليهتف يونس بعدم اقتناع :- وديها تتفرچ يا حامد عااادى .. رفع حامد كتفيه فى لامبالاة هاتفا فى قلة حيلة:- طيييب .. اتفضلى معايا .. و أشار لهدير بأن تتبعه .. و التى سارت خلفه فى سعادة و قد شعرت ان رحلتها لتلك البلاد البعيدة التى أتى منها ابيها لم تكن بالسوء الذى كانت تظنه ..
هتف عاصم في لهفة و هو يجلس على مائدة الإفطار و الكل يجتمع حولها في سعادة :- فين باجى الأكل يا نچاة .. همى شوية .. اندفعت نجاة زوج سعيد خفير السراىّ هاتفة في عجالة :- اهو يا عاصم بيه.. چاية اهو ..!؟ .. ثم عادت ادراجها للمطبخ لتعود محملة بالمزيد من الاطباق لترى ابنتها الوحيدة ثريا قادمة من الباب المفضى على الحديقة الخلفية و الذى ينتهى بتلك الحجرة التي كانت يوما ما لزكريا قبل ان تسكنها و زوجها سعيد و تصبح داراً صغيرة من طابقين وهبها لهما عاصم عندما رزقهما الله بثريا ..
اندفعت ثريا تساعد أمها في حمل الاطباق لمائدة الإفطار العامرة بالخارج غير آبهة انها يوما ما ستصبح مهندسة لكن رغم ذلك هي لم تنس مطلقا انها ثريا ابنة سعيد خفير سراىّ الهوارية .. بل انها تفتخر بذلك و لا تعبء لأى سخرية او غمز و لمز في ذاك الشأن.. كانت و لا تزل ذات روح حرة و عزيمة لا تلين مما اثار إعجاب زهرة فدفعتها لتكمل دراستها رغما عن اعتراض أبويها .. بل انها دعمتها ماديا حتى لا يكون ذاك سببا في انقطاعها عن الدراسة و هي لاتزل تحفظ لزهرة جميلها و تعدها ام ثانية لها ..
هتفت ثريا في سعادة و هي تضع الاطباق :- كل سنة و إنتوا متچمعين دايما يا رب .. هتفت زهرة و من خلفها الجميع :- و انت طيبة .. لتستطرد زهرة مستفسرة:- فطرتى يا ثريا ..!؟ ابتسمت ثريا في محبة و امتنان لزهرة هاتفة :- هافطر مع ابويا و امى..
ابتسمت زهرة لها :- بالهنا و الشفا.. اقعدى انت و امك بقى كلوا و لو في حاجة تانى انا هقوم اجبها .. اتسعت ابتسامة ثريا الندية مؤكدة:- لا خلاص كِده .. كله تمام .. و استأذنت في أدب راحلة للداخل حيث أمها تعد طعام الإفطار لها و لأبيها ..
اختار باسل على المائدة ذاك المقعد المواجه لمقعد سندس حتى يكون قبالتها تماما لا يفوته شاردة و لا واردة في تلك الدقائق التي يتناولون فيها الإفطار.. كان يطيل النظر اليها في عشق من السهل ان يُفتضح لو ان الجميع كان متنبها له لكن كل كان ملتهيا فيما يخصه..
خاله عاصم يوزع اهتمامه ما بين طبق إفطاره و زوجه وإرغام الجميع على تناول المزيد من خيرات المائدة و مهران عيناه تحاول ان تحيد عن محيا تسنيم التي تذوب خجلا أمامه دون حتى ان يتطلع اليها و تسبيح التي تلتهى بإلتقاط الصور تارة و تناول طعامها تارة اما ابيه و امه فكان لهما شأن اخر ..
كان ابوه يتجاذب أطراف الحديث مع خاله و امه تتجاذب أطراف الحديث مع زهرة زوجة خاله لكنها رغما عن ذلك هي الوحيدة التي ادركت بفطرتها كأم اين تتوجه نظرات ولدها و اين تكون قِبلة فؤاده و تحسرت في مرارة و هي تدرك تماما انه لولا فارق التعليم بينه و بين ابنة خاله لكانا الان زوجان او حتى على الأقل مثلهما كمهران و تسنيم على وشك الزواج .. هي تعلم ان ابنها يعشق سندس لكن تعلم انه لن يبح بذلك و لو مات عشقا لأنه يخشى رفضها له اذا أبدى رغبته في الارتباط بها ..
تنهدت سهام في حسرة من جديد و لم يكن بإمكانها الا الدعاء في جوفها لعل و عسى يقرب الله ما بعد من أمل و يصبح ما كان مستحيلا في متناول اليد يوما ما...
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس
دخل الإسطبل حيث تقبع فرسته التى أهداها له عمه عاصم وأوكل له رعايتها منذ كان بن الخامسة عشرة .. تقدم منها رابتا على عنقها المحنى فصهلت في سعادة و هو يلقمها قطع السكر ..خلع جلبابه و ثنى اطراف بنطاله وبدأ فى احضار ما يلزم لينظف فرحانة .. فرسته الخاصة التى يعشقها والتى تعتبر اكثر من صديقة يبثها كل أحزانه وأفراحه .. شرع فى التربيت على جسد الفرسة وبدأ فى سكب الماء وتمسيدها بفرشاة النظافة.
رحل باله بعيدا .. لقد انتهى لتوه من رسالة الماجستير وناقشها اخيرا ليحصل عليها بإمتياز.. لكن ماذا بعد ..!؟.. كان حصوله على الماجستير رغبة عمه زكريا في الأساس .. و الذى وعده بأن يكون يوما ما ذراعه الأيمن في شركاته التي يديرها بديلا عن حازم ولده الذى سلك طريقا مختلفا تماما عن الهندسة و المقاولات ..
لكن .. ماذا بعد ..!؟.. انه لا يرغب فى استكمال الدراسات العليا اكثر من ذلك ..أقصى ما يتمناه الان هو العمل كما وعده عمه حتى يستطيع اكتساب خبرة عملية بجانب درجته العلمية .. انتفض فجأة .. فتناثرت كل تلك الخواطر وهربت مبتعدة عندما ربتت عصا ركوب الخيل تلك على كتفه فى غطرسة و داهم مسامعه صوت رقيق رغم تكبره يهمس أمراً:- أنت ..
جهزلى الحصان اللى فى ايدك ده عشان اركبه .. نظر اليها نظرة شاملة من اعلى رأسها حتى اخمص قدميها غير مدرك من هذه المجنونة التى تطلب منه ما ليس لها .. انتهى من تفحصها وأولاها ظهره ينشغل بفرسته من جديد ..
اشتعلت هى غضبا لتجاهله أمرها وهى التى لم تعتد ان تعيد أوامرها مرتين .. فهى تأمر فتُطاع .. ضربت على كتفه من جديد بعصاها بقوة اكبر وهى تهتف فى سخط :- انت ايه .. اطرش .. مسمعتنيش بقولك ايه ..!؟.. نظر اليها من جديد نظرة لامبالية .. وتجاهلها من جديد ..
فصرخت فيه :- انت ازاى تعاملنى بالوقاحة دى .. انا هبلغ عمى عاصم عشان يطردك .. رد عليا يا بنى ادم انت.. استدار الان مواجها لها بكليته وهو ينظر الى قصيرة القامة تلك و الأشبه بدمية من عليائه يضع كفيه بجانبى جزعه متخصرا :- لما تخلصى جلة أدبك الاول .. ابجى أرد عليكى ..
صرخت فى هياج :- انا قليلة الادب!؟.. ورفعت عصاها لتنزل على كتفه فلا يحرك ساكنا .. فتعيد الكرة من جديد وترفع عصاها وتهم بضربة من جديد صارخة .. انت بجد حيو.. هنا مد كفه يتلقى ضربة عصاها جاذباً أياها و مطوحا بها بعيدا .. وهو يتقدم اليها وقد بدأ الغضب يغلى بعروقه وهو يتكلم من بين اسنانه :- جلى أدبك تانى .. وهتبجى ربايتك على يدى ..
شعرت بالتهديد وهو يتقدم خطوة اليها لكنها أبت ان تعترف بخوفها وسيطرته الآسرة .. فهتفت بصوت مهزوز :- انت هتربينى انا .. وضحكت بتوتر .. ليه .. فاكر نفسك مين ..!؟. هتف صوت رجولى متزن دخل فى تلك اللحظة الفاصلة ليهتف فى فخر :- الباشمهندس حمزة سليم غسان الهوارى .
شهقت هى فى صدمة حقيقية .. بينما تطلع هو لذاك الرجل المهيب الذى يقف لا يتبين ملامحه حيث يغمره الضوء الخارجى عند الباب فيصنع له ظلا يصعب معه تحديد ماهية الرجل .. هو متأكد انه لم يلتقيه يوما فى حياته .. لكن يبدو انه يعرفه .. ويبدو ان له علاقة بتلك المتغطرسة قليلة التربية القابعة أمامه الان مشدوهة فى صدمة لا يعرف لها سببا ..
والتى تكلمت اخيرا هاتفة فى عدم تصديق :- مش معقول ده يكون حمزة يا دادى .. !!؟.. هتف حمزة حانقاً من لهجتها :- لاااه.. .. انا حمزة بشحمه ولحمه يا روح دادى. ثم استدار للرجل الغامض هاتفاً :- بس حضرتك مين ..!!؟..وتعرفنى منين!؟ تقدم اليه الرجل الغامض فى تؤدة حتى اصبح ما بينهما لا يتعدى مسافة ذراع وقال بصوت يحمل حنين وشوق طاغ:- ليك حج متعرفش عمك زكريا يا ود اخوى ..
سمرت الصدمة حمزة فى مكانه لثوان اندفع بعدها فى احضان عمه معانقا أياه فى لهفة حقيقية .. و اخيرا ابتعد محرجا بعد ما تذكر ان ملابسه مبتلة ويده متسخة من اثر المياه الخاصة بنظافة الفرس .. تكلم فى تلعثم :- اسف يا عمى .. معلش .. وهو يشير الى الفوضى التى خلفها سلامه على ملابسه ..
ابتسم زكريا فى حبور :- ولا يهمك يا باشمهندس .. فداك هنا هتفت هدير بلهجة غير مستحسنة :- بقى ده حمزة !؟.. ده انا افتكرته السايس بتاع الخيل .. هتف فيها زكريا موبخا :- هديررر..
امسك حمزة لسانه احتراما لعمه لكنه رد فى ادب :- معندناش حريم بيركبوا خيل فى جلب البلد ..وباللبس اللى انتِ لبساه ده .. هتفت مستنكرة :- حررريم .. وهمست بانجليزية تلعن تخلفه فهمها بالطبع وابتلعها ولم يعلق احتراما لعمه الذى ربت على كتفه متجاهلا ابنته المدللة وقال :- حصلنى يا حمزة على دارنا .. فى مواضيع كتير عايز أناجشها معاك..
أومأ حمزة موافقاً .. ورمقها بنظرة قاسية وهى تتبع ابيها متمايلة فى دلال تنظر اليه شذرا .. واخيرا تخرج له لسانها كما الاطفال وهى تنحرف يميناً قبل ان تختفى خلف باب الإسطبل مما دفع الابتسامة لتقفز الى شفتيه وهو يؤكد انها مجنونة لامحالة ..
لازالت العائلة مجتمعة حول مائدة الطعام يتجاذبون أطراف الحديث و فجأة هل عليهم صوت غريب هتف من على باب السراىّ الداخلى مشاكسا:- ليا مكان ف اللمة دى و لا نسيتونى خلاص ..
انتفض عاصم لسماعه ذاك الصوت المألوف على أذنيه مما دفع كرسيه ليسقط أرضا و هو يستدير متوجها بكليته لصاحب الصوت الذى ما ان طالع عاصم محياه حتى صرخ في شوق :- زكريا .. وااه يا واد عمى اندفع اليه عاصم محتضنا إياه وسط دهشة و تعجب الجميع الذين نهضوا في ترقب يشاهدون ذاك الاستقبال الحار ..
ربت عاصم على ظهر بن عمه في معزة حقيقية هاتفا :- و الله و لك واحشة كَبيرة يا زكريا .. من ميتا بتجول جاى و نستناك و لا تجيش.. طولت الغيبة جوووى يا واد عمى.. ربت زكريا على كتف عاصم متأثرا لحفاوة الاستقبال و هتف بصوت متحشرج :- معلش يا عاصم .. كل شيء بأوان .. و اللجا نصيب .. هتفت زهرة محيية في سعادة :- الف حمدالله ع السلامة يا زكريا ..
هتف زكريا لها في تأدب :- الله يسلمك يا مرت الغالى .. كلك خير يا داكتورة.. ثم استدرك مستديرا الى هدير التي كانت تقف في صمت تتطلع الى السراىّ حولها في شيء من الفضول و جالت عيناها على الوجوه المتطلعة الى ابيها و عمها عاصم ثم اليها الان في رهبة الا ان زكريا هتف و هو يربت على كتفها مقربا إياها لموضع وقوفه :- دى هدير بنتى الصغيرة ..هتتخرج كمان كام شهر من إدارة اعمال ..
تقدمت هدير تلقى التحية على عاصم الذى هتف في محبة :- الله اكبر .. ربنا يخلى يا زكريا .. دى عروسة ما شاء الله .. دى تجريبا كد تسبيح بت سهام.. و أشار إلى موضع تسبيح حيث تقف الان في اخر الطاولة و التي تنبهت لذكر اسمها فأبتسمت في مودة الى هدير و اشارت محيية فأبتسمت هدير لها بدورها .. هتف زكريا في مودة ضاحكا :- سبحان الله كنى شايف سهام و هي كدها ..
ظهرت سهام من بين الجمع هاتفة في مرحها المعتاد :- و لساتها زى ما هي يا واد عمى مكبرتش يوم .. قهقه زكريا :- و الله صدجتى .. متغيرتيش يا سهام .. ربنا يحرسهالك تنحنح حسام ناظرا لسهام شذرا وهو يهتف في ترحيب :- حمدالله بالسلامة يا زكريا .. و الله العيد كنه عيدين النهاردة برچعتك ..
هتف زكريا ممتنا :- تسلم يا حسام ربنا يعزك .. و الله دِه انى اللى كنى اول مرة ادوج طعم العيد .. هتفت سهام من جديد قاطعة سيل الترحيب و هي تشير لأولادها :- و دِه يا زكريا ولدى باسل .. البكرى .. و دى الداكتورة تسنيم خطيبة الداكتور مهران واد عاصم .. اتسعت ابتسامة زكريا هاتفا لعاصم :-وااه يا عاصم .. دِه انى طولت الغيبة صح .. دِه انت هتبجى چد عن جريب...
انفجرعاصم مقهقها ثم هتف :- اهااا مجلتش حاچة انى .. مش بجلك طولت الغيبة .. بس المهم انك چيت بألف خير .. ثم هتف عاصم في استدراك :- خبر ايه ..!؟..احنا ايه اللى موجفنا كِده!؟. ادخل يا زكريا هو انت غريب .. ادخلى يا هدير يا بتى و اجعدى وسط البنات و اتعرفى على ولاد عمامك ..
ألقى زكريا السلام على الجمع الذى بدأ يتخذ موضعه على مقاعده من جديد وبدأ عاصم بتعريف زكريا بالجيل الجديد الذى لا يعرفه بالطبع فأشار لأولاده في فخر هاتفا :- دِه بجى الداكتور مهران .. داكتور بيطرى .. و البركة ف امه يا سيدى حببته ف الشغلانة ..قهقه الجمع ليستطرد و هو يشير الى سندس :- و دى بجى سندس .. الأستاذة سندس محامية و بتحضر للماچستير ف القانون .. كبر زكريا في سعادة بينما امتعض احدهم و الذى لم يكن سوى باسل الذى كان يرمقها بقدر كبير من المحبة مختلطا بقدر لا يستهان به من الغيظ ..
و استكمل عاصم هاتفا :- اما اخر العنجود فده سيادة الملازم ماچد دِه ظابط ف الچيش يا سيدى بس للأسف مجدرش ينزل اچازة العيد دِه .. كبر زكريا من جديد و هتف بدوره :- حازم كمان مقدرش ينزل اجازة عنده مأمورية .. ما هو كمان ظابط .. بس شرطة .. هتفت سهام :- بِسْم الله ما شاء الله .. ربنا يبارك لك فيه و يحفظه هو و اللى زيه يا رب ..
أمن الجميع و هتف عاصم في مرح:- خبر ايه .. احنا مش هناكل و لا ايه يا چماعة .. هنجضيها حكاوى .. مد يدك يا زكريا .. اتوحشناك يا واد عمى .. ابتسم زكريا في سعادة و كأنها المرة الأولى التي يستشعر فيها فعلا معنى العيد .. بينما استطرد عاصم هاتفا لأبنته و ابنتى سهام :- يا بنات .. خلوا هدير تاكل .. أعزموا عليها لتكون مكسوفة و لا حاچة ..
هتفت تسبيح في مرح موجهة كلامها لهدير :- لا .. مكسوفة ايه .. احنا هنا اللى مبياكلش بنحطه ف أوضة الفيران .. ضحكت هدير :- لا الا الفيران .. بخاف منهم .. خلاص هاكل يا ميس.. ابتسمت سندس و تسنيم في أريحية لبراءة هدير و عفويتها بينما تطلعت اليهم هدير هاتفة :- معلش بس عشان ملحقتش احفظ .. ممكن تقولولى مين بن مين و مخطوب لمين ..!؟..
هتفت سندس مقهقهة :- بصى يا ستى انا سندس بنت عمك عاصم انا مش مخطوبة و خلصت دراسة و بحضر ف الماجستير .. هتفت هدير بأنجليزية :- برافو .. لتستطرد تسنيم :- وانا بقى تسنيم بنت عمتك سهام لسه مخلصة دراسة الطب و يا دوب مخطوبة من فترة بسيطة لمهران توأم سندس .. ابتسمت هدير في استحسان بينما هتفت تسبيح أخيرا :- انا أعرفك بنفسى بلا فخر ..
انفجرن ضاحكات لتستطرد :- انا تسبيح بنت عمتك سهام و بدرس طب أسنان و ف اخر سنة واتخطبت من قريب لحمزة بن عمك .. صرخت هدير عند ذكر اسم حمزة هاتفة بأنجليزية :- يا آلهى .. و استطردت بالعربية في سخط :- انتِ خطيبة الكائن ده ..اعوذ بالله .. قهقهت الفتيات بينما امتعضت تسبيح هاتفة :- و ماله حمزة ..!؟..
اشارت هدير بكفها متأسفة بانجليزية:- انا متأسفة جدا .. و استطردت :- انا بس مش متخيلة انك تكونى خطيبته ..هو مش المفروض بن عمى وكده بس انت لذيذة عنه كتير الصراحة..هو شخص مش متحضر بالمرة.. هتفت تسبيح مصدومة :- مش متحضر !؟.. تنبهت هدير لخطأها فهتفت تعتذر :- اووه .. متأسفة .. بصى .. أنسى كل اللى قلته .. قهقهت الفتيات من جديد على عفوية هدير و تلقائيتها ..
أصطحبت الفتيات هدير في جولة حول السراىّ بينما اصطحب عاصم زكريا لأستراحة الإصطبلات ليرحب به جميع الهوارية على اختلاف أعمارهم .. دخل عليهم فلم يعرفوه الا بعد ان عرفه عاصم في فخر .. اندفع الجميع اليه في ترحاب و معزة حقيقية جعلت قلبه يرفرف فرحا .. فها هو بين الهوارية و ينال بين رجالها حظوة و تشريف و الكل يخطب وده و يتمنى رضاه و يتقرب منه ..بل ان بعضهم طلب منه قضاء بعض مصالحهم لما له من مكانة و مقدرة و هو وعدهم انه لن يتأخر لحظة عن تنفيذ ما طلبوه ..
كانت زيارته للاسطبلات واجبة حقا فقد اثلجت صدره و أشعرته ان رحلة تيهه و وجعه التي سرقت عمره ما كانت هباءً .. و ان زرزور الذى كان حبيس تلك الاسطبلات التي يجول في جوانبها بناظريه الان قد اضحى زكريا بيه الهوارى بعرق جبينه و بساعد يده لا استناداً على عز موروث او لقب يزيل اسمه في بطاقة هويته الشخصية...
هتف زكريا لعاصم بعد ان انفض الجمع من الاسطبلات :- بجولك ايه يا عاصم .. !؟.. تنبه عاصم و هو يضع كوب شايه الفارغ بالقرب منه على احدى الطاولات :- خير يا ابوحازم .. هتف زكريا :- انى عايز أزور سمية.. ينفع ..!؟.. انتفض عاصم :- وااه .. و دِه اسميه سؤال برضك !؟ .. دى اختك .. طبعا ينفع جووى ..
اضطرب زكريا :- بس اصلك انت عارف يعنى الموال الجديم ..لتكون لساتها شايلة ف جلبها منى .. هتف عاصم مشاكسا :- سمية اختك فيها ما فيها بس و الله غلبانة .. تعال شوف حالها بعد ما أمها و جوزها راحوا .. ولدها الكبير ماهر ملودها تجول فولة و انجسمت نصين من سليم اخوك الله يرحمه .. اما مؤمن ولدها التانى سبحان الله ايه من الآيات .. أدب و تدين مفيش بعد كِده .. اما ايمان اخر العنجود ف بت حلال نسمة.. تربية مؤمن اخوها ..
تنهد زكريا :- يعنى ينفع نجوم نزورها دلوجت ..!؟.. اكد عاصم منفذا و هو ينهض :- معلوم .. جوم بينا .. توجها لبيت سمية و طرقا الباب طال انتظارهما و أخيرا فُتح الباب لتطل منه سمية هاتفة في تساؤل :- مين ..!؟ هتف عاصم مجيبا :- انى عاصم واد عمك يا سمية و معاى ليكِ مفاچأة ..
انفرج الباب و طلت منه سمية بكاملها هاتفة في سعادة :- عاصم .. تعال يا واد عمى ادخل .. و مرحب بضيوفك.. هتف عاصم :- دِه مش ضيف يا سمية.. دِه صاحب بيت بس بجاله زمن غايب .. تنبهت سمية و استدارت بكليتها لمواجهة ذاك الظل الذى بدأ يظهر من خلف عاصم لتهتف في صدمة :- زكريا .. !!.. وتقدمت من اخيها هاتفة من جديد تستوضح معالم وجهه :- بچد .. هو زكريا ..
لم تمهل زكريا لينطق حرفا واحدا بل اندفعت الى احضانه تتشبث به كمن وجد طوق لنجاته تهتف باكية :- وااه يا زكريا .. توك ما افتكرت ترچع .. دعيت ربنا كَتير لجل ما ترچع و تشيل عنى الشيلة .. انى تعبت ياخوى.. تعبت .. ترك زكريا عصاه تسقط أرضا و ضمها بين ذراعيه مهدئا متأثرا لإستقبالها الذى لم يكن يتوقعه هامسا:- و الله لو اعرف انك محتچانى لكنت سبت الدنيا كلها و چيت لك .. انى كنت فاكر انك مش جابلانى و لا جابلة شوفتى ..
هتفت سمية في نحيب :- مبجيش غيرك يا زكريا .. مبجاليش حد .. امى راحت و سليم أخوى و عدلى چوزى.. معدش ليا حد يا خوى .. هتف عاصم محاولا تخفيف الشجن المحيط بهما :- بجى كِده يا سمية !؟.. و انى رحت فين ..!؟.. تنبهت لوجود عاصم فرفعت رأسها من بين ذراعى اخيها هاتفة :- و الله يا عاصم لولا وجفتك چارى لكنت شحت انى و ولادى و ما لجينا العيش الحاف..
هتف عاصم مؤنبا :- وااه .. متجوليش كِده ..أدى الكلام اللى يزعل دِه انت و سهام ف غلاوة واحدة و ربك العالم .. هتف زكريا متعجبا :- و ليه كل دِه .. فين ورثك من ابوكِ و لا حتى من چوزك ..!؟..
تنهدت في حسرة و هو تشير لهم بالجلوس على الأرائك القريبة هاتفة و هي تكفكف دمعها بظاهر كفها :- ورث ..!؟.. ورث ايه بس ياخوى !؟.. ورثى من ابويا جبرنى عدلى الله يرحمه أتنازل له عنيه عشان كان عايز يعمل بيه جال ايه مشروع و إلا يطلجنى و يرمينى بعيالى التلاتة .. جلت و ماله .. أتنازل .. ما هو كله للعيال .. و مفيش بعدها بكام شهر راح ف حادثة و أدور على اللى لعياله منيه ملجيش و لا مليم .. كان كاتب كل حاچة بأسم امه .. و لا طلنا لا أبيض و لا اسود .. لولا عاصم اهو بيساعد باللى يجدره عليه ربنا و ماهر ساب علامه و بجى بيشتغل عشان اهو يسند حاله ع الأجل ..
هتف زكريا :- هو ماهر كان بيدرس ايه ..!؟.. هتفت سمية :- ملحجش .. يا دوب دخل اول سنة كلية تچارة و سابها عشان يشتغل .. اما مؤمن فكمل و خدها و هو بيخلص التچنيد و ايمان لساتها ثانوية عامة السنة دى ..
هز زكريا رأسه متفهما و هتف :-متجلجيش يا سمية .. انى وراكِ و مش هسيبك ..و باذن الله يخلص مؤمن چيشه هشغله بمعرفتى اما ماهر فهنشوف له مشروع صغير يشتغل فيه و لو عايز يكمل تعليمه و ماله .. يكمل و ميشلش هم .. و كل ما يلزمك و يلزم عيالك انى متكفل بيه مهما كان.. انفجرت سمية باكية من فرط سعادتها هاتفة :- صح يا زكريا .. يعنى مش هتسبنى لحالى تانى ..
اقترب منها رابتا على كتفها في محبة هامسا بشجن :- اسيبك ايه بس يا مخبلة دِه انى ما صدجت لجيتك .. تعلقت بذراعه كطفل صغير يبغى الحماية و بدأت في البكاء من جديد..
تجمعت أسرة يونس مع زكريا و ابنته حول مائدة العشاء وضعت كسبانة الاطباق التي تحمل ما لذ و طاب على الطاولة مهللة بفرحة لقدوم زكريا أخيرا لتهتف سكينة :- و الله يا زكريا يا بنى امك شافت رؤية انك چاى و انى اجول لها دِه انت بس عشان نفسك ياجى بتحلمى بشوفته .. و استدارت لبخيتة رابتة على كفها في مزاح :- بس كنها شيخة مرفوع عنيها الحچاب .. بركاتك يا حاچة .. انفجر الجمع ضاحين ليربت على كتف امه في حنو هاتفا :- امى طول عمرها جريبة من ربنا ..
ثم استطرد مقهقها :- فاكرة يا ياما لما كنتِ تچرى ورايّ بچريدة النخلة عشان محفظتش الربع اللى چال عليه شيخ الكُتاب.. انفجرت بخيتة مقهقهة للذكرى مؤكدة:- إيوه .. و ابوى كان ينچدك من يدى و يرفعك على السجرة عشان معرِفش اطولك .. قهقه زكريا بدوره و كذلك هدير التي هتفت مازحة :- طول عمرك شقى يا زيكو .. بس ايه جريدة النخلة دى !؟..
انفجر الجميع ضاحكين على تساؤلها البرئ و هتف حمزة :- دى السعفة بتاعت النخلة اللى نازلة من راسها هبجى أشاور لك عليها .. هزت رأسها متفهمة :- اهااا.. شوور.. عرفتها .. هتف زكريا لحامد :- و انت بتدرس ايه يا حامد ..!؟.. اكد حامد في تأدب :- بدرس ذراعة ف اخر سنة السنة دى ان شاء الله ..
هتف زكريا :- ما شاء الله .. ابوك كان نسخة منيك و هو ف سنك .. ابتسم يونس في محبة للذكرى بينما هتف حامد مستفسرًا :- دايما كنت اسمع ابويا بيشكر فيك و يجول انك اچدع راچل جابله ف حياته بس عمرى ما عرفت إنتوا اتجابلتوا فين!؟..
عم الصمت المطبق للحظات فلا احد يعلم بماض يونس الا كسبانة زوجته و بخيتة و عاصم و لم يُفتح هذا الموضوع مطلقا منذ قدم يونس الى النجع للإشراف على ارض زكريا بتوصية من زكريا نفسه الذى أراد ليونس حياة جديدة و نظيفة بعيدا عن المولد و السجن و ذكرياته .. قطع زكريا الصمت هاتفا :- اتجابلنا ف المحاچر .. كنّا بنشتغل ف المحچر انى و هو .. و اتعرفنا هناك .. عرفت يا باشمهندس حامد .. !!..
ابتسم حامد هاتفا في مرح :- شايفين كلمة باشمهندس حامد عاملة ازاى .. و الله يا عمى زكريا انت اول واحد يحترمنى ف الدار دى... انفجر الجميع مقهقهين ليتوجه زكريا بكلامه لحمزة هذه المرة مؤكدا :- بجولك ايه يا حمزة .. انا هسافر و عايزك تحصلنى .. چهز اوراجك كلها و مكانك محچوز ف الشركة عشان احنا داخلين ف الچد و الشغل التجيل جاى و عايزك معاى ..
هم حمزة بالتحدث الا ان هدير قاطعته هاتفة :- هو حمزة هيشتغل معانا ف الشركة يا دادى ..!؟.. هتف حمزة متعجبا :- معاكوا ..!؟.. اكد زكريا :- ايوه يا هدير .. شتمت بصوت خافت و رغم ذلك ادرك حمزة سخطها و جز على أسنانه غيظا من تلك المدللة عديمة اللياقة فهتف بدوره لعمه :- بتجول معاكم يا عمى .. كيف يعنى .. هي الانسة هدير بتعمل ايه ف الشركة لامؤاخذة..!؟.. هي مش شركة هندسية و مجاولات برضك .. !؟..
اكد زكريا :- ايوه يا حمزة ما انى جايل لك كِده من زمان .. هدير بتدرب ف الشركة ..السنة دى هتتخرج من إدارة اعمال جامعة أمريكية .. هتف حمزة بصدمة و هو يشير اليها:-دى ..!؟.. دِه انى كنت فاكرها ف الإعدادية ..!؟.. انفجر زكريا مقهقها و تبعه الجميع الا هدير التي زمت ما بين حاجبيها في ضيق و ادركت انه ينتقم منها بسبب سبابها الذى ايقنت انه وصل اسماعه منذ قليل ..حسنا هو لا يترك ثأره و هي أيضا بها عرق صعيدى و لن تفعل لكن لكل شيء أوان .. و همست في سرها :- كان الله بعونك يا تسبيح..
هتف ناصر و هو يدخل غرفتهما المشتركة موجها حديثه لأخيه نادر مستنكرا :- هو ايه .. اليومين بتوع الإجازة بيطيروا كِده ليه ..!؟ ملحقناش نقعد مع بعض .. و لا حتى قلت لى ع الموضوع المهم اللى كنت عاوزنى فيه .. هتف نادر و هو يضع ملابسه بداخل حقيبته الصغيرة هاتفا :- خلاص هانت .. كام شهر و اسلم المخلة و اخلص من الجيش و اقعدلك لحد ما تزهق منى .. ابتسم ناصر والفضول يتآكله :- طب و ايه الموضوع المهم اللى كل ما تيجى تقوله يحصل حاجة او حد يقطع كلامنا ..
هم نادر بالتحدث الا ان طرقا على باب الغرفة أوقفه لينظر كل منهما للأخر و ينفجر ضاحكا .. نهض نادر يفتح الباب ليجد شيماء تقف به و هى تحمل بين كفيها علبة ملفوفة بإحكام سلمتها له هامسة بوهن اثر وعكة ألمت بها:- امى بتقولك خد العلبة دى فيها الأكل اللى طلبته و شوية قراقيش للفطار ليك ولزمايلك..
ابتسم لها نادر ببشاشته المعتادة هاتفا :- تسلمى يا شوشو يا قمر .. الأجازة الجاية عايز صحتك بمب و ترجعى شوشو القمر اللى اعرفها و الا هايبقى خسارة فيكى العريس اللى جايبهولك ..
ابتسمت شيماء فى وهن و غادرت متمنية له السلامة .. ليدخل الى الغرفة حاملا العلبة الكرتونية ليضعها جانبا و يعاود تحضير حقيبته و هو ينظر لأخيه الأكبر الصامت فى انتظار اطلاعه على موضوعه الهام .. صمت للحظات بدوره و اخيرا هتف فى مرح متطلعا لناصر :- الظاهر كده انى هاخد الشقة اللى فوق منك .. مش المعلم خميس قال اللى يتشطر و يتجوز الاول هو اللى ياخدها ..
حملق ناصر فى أخيه غير مصدق و اخيرا اندفع اليه محتضنا اياه فى سعادة رابتا على ظهره فى فخر هاتفا :- الف مليون مبروك يا بطل.. و انفجر مقهقها مستطردا :- و حلال عليك الشقة الفوقانية يا سيدى .. بس مقلتش مين اللى أمها داعية لها دى ..!؟.. اندفع نادر خارج الغرفة حاملا حقيبته و علبته الكرتونية مقهقها :- لااا .. هو انت عايز تعرف كل حاجة مرة واحدة .. و ببلاش كده ..دى بقى الأجازة الجاية بإذن الله ..
ودع نادر الجميع راحلا و هبط الدرج مع ناصر يوصيه هامسا :- خلى بالك من شوشو شكلها الأجازة دى مش عاجبنى خااالص .. شكلها تعبان بجد .. خلى بالك منها يا ناصر دى ملهاش غيرنا .. اكد عليه ناصر فى ود و هو يحتضنه قبل ان يرحل مع احد أصدقائه الذى ينتظره بسيارة على اول الطريق :- متقلقش الإجازة الجاية هتلاقيها زى الفل .. و يمكن أكون عاملك مفاجأة انا كمان ..
هتف نادر بمشاكسة :- حلاوتك يا ابوالنصر يا جميل .. امتى بقى الإجازة الجاية دى تيجى ..!؟.. و رفع رأسه للسماء متضرعا :- يااارب هون و صبرنى .. قهقه ناصر لمزاح أخيه على الرغم من تلك الغصة التى كانت بقلبه جراء فراقه .. و تضرع لله بالمثل ان يرجعه الله سالما ليكمل فرحته و هو يرى ظل أخيه يختفى فى الزحام حتى غاب ..
أصر يونس على زكريا و هدير البقاء بالطابق الثانى للدار و التي أقامها يونس من اجل زواج حمزة من تسبيح و أسسها بما يلزم مؤقتا حتى تختار العروسة ما تحب قبل عقد القران مباشرة .. لم يرغب زكريا في مخالفة رغبة يونس و خاصة انها مماثلة لرغبة امه التي قالت له انها تريده ان ينام معها بنفس الدار حتى تملأ أنفاسه ما حولها لتعطيها القليل من التجلد حتى رؤياه مرة أخرى و تمنحها الصبر و بعض من وهم انه لازال هنا و لم يغادر ..
قرر البقاء و اتخذ مع هدير الطابق العلوى مكانا لبياتهما .. ساد الصمت الدار في تلك الساعة المتأخرة و لم يبق فيها أحدا الا و هجع لفراشه .. تملمت هدير في فراشها غير قادرة على الإغفاء و لو لدقائق معدودة بسبب ذاك الناموس المتوحش الذى اتخذ منها وليمة شهية يتلذذ بها ..
زفرت في حنق و دفعت نفسها خارج الفراش ترتدى مئزرها الحريرى تطرق الباب على ابيها الذى كالعادة يتميز بنوم ثقيل و لم ينهض مستجيبا لطرقاتها .. اندفعت تنزل الدرج للطابق السفلى لعلها تجد من يساعدها فى القضاء على مشكلة الناموس تلك بأى طريقة .. فتحت الباب الفاصل بين الطابقين و ما ان همت بالدخول حتى انتفضت من جراء شهقة أتية من مسافة ليست بالبعيدة ..
استدارت لترى من هناك فإذا به حمزة كاد يغص في رشفة الماء التي كان يتناولها من زجاجة اخرجها من المبرد المفتوح قبالته .. سعل للحظة و قذف الزجاجة بباطن المبرد و أغلقه بعنف هاتفا :- ايه اللى انت عملاه دِه ..!؟ .. هتفت بتعجب :- عملت ايه..!؟ انا معملتش حاجة و الله .. هتف و هو ينظر في كل الاتجاهات الا نحوها هاتفا :- ايه اللى انت لابساه دِه ..!؟.. حد ينزل كِده .. حتى ألبسى الروب فوج اللى انتِ لبساه دِه ..
انفجرت ضاحكة و هتفت متعجبة:- طب ما ده الروب يا حمزة .. انتفض في غيظ و هو لا يرى الا غلالة حريرية رقيقة بدون أكمام و لا تصل لركبتيها حتى .. تنهد في نفاذ صبر :- انتِ ايه اللى منزلك من فوج دلوجت ..!؟.. هتفت في تضرع :- هموت من الناموس .. بليز شوف حل .. انا معرفش ان في هنا ناموس متوحش بالشكل ده كنت جبت ال off بتاعى معايا .. سخر منها هاتفا :- ال off.. !!.. اوف منك يا شيخة .. معنديش حاچة للناموس .. اصله خلاص متعود علينا.. تصبحى على خير ..
هتفت في ضيق :- حمزة .. هتسبنى كده مع الناموس .. هتف مشوحا بكفه مبتعدا عنها :- دِه بيرحب بيكِ متجلجيش .. شوية و هيزهج منك .. اطلعى على فوج .. اطلعى .. بلا دلع ماسخ .. ضربت الأرض بقدمها في غيظ و فتحت الباب الفاصل بين الطابقين من جديد مندفعة للأعلى لاعنة إياه و اليوم الذى رأته فيه..